تفسير سورة يونس

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة يونس من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
سورة يونس. هذه السورة هي مكية قال مقاتل إلا آيتين وهي١ قوله تعالى' ﴿ فإن كنت في شك ﴾ ' نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله ' ﴿ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ﴾ '٢ نزلت في اليهود بالمدينة. وقالت فرقة نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
١ - هكذا بلفظ (هي)، والمتأمل في أسلوب ابن عطية يجده يكثر من ذلك فهو يستعمل الضمير (هي) قاصدا به مذكورا سيأتي وهو "الآيات"، ومن العجيب أن القرطبي ينقل هنا عن مقاتل رأيه فيقول: "وقال مقاتل: إلا آيتين وهي قوله: ﴿فإن كنت في شك﴾،" وهو نفس تعبير ابن عطية، فهل أخذه عن مقاتل؟ على أن الذي ذكره أكثر المفسرين كالشوكاني، والقرطبي هو: "إلا ثلاث آيات هي". فهل قال ذلك ابن عطية وأخطأ النساخ؟ والخلاف بين ابن عباس ومقاتل في أن المكي ثلاث آيات أو آيتان مبني على اختلافهما في تحديد آخر الآية الثانية، فمقاتل يرى أنها تمتد إلى قوله تعالى: ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾، وابن عباس رضي الله عنهما يرى أنها تنتهي عند قوله تعالى: ﴿فتكون من الخاسرين﴾، والآيات المقصودة هي رقم (٩٤) من السورة وما بعدها..
٢ - الآية رقم (٤٠) من السورة..

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
سورة يونس
هذه السورة هي مكيّة، قال مقاتل: إلا آيتين وهي قوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس: ٩٤] نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ [يونس: ٤٠] نزلت في اليهود بالمدينة. وقالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور. وتلك الأقوال كلها تترتب هنا، وفي هذا الموضع قول يختص به، قال ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي: الر و «حم؟؟» [غافر:
١، فصلت: ١، الشورى: ١، الزخرف: ١، الدخان: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١] ون [القلم: ١] هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر»، وقوله تعالى: تِلْكَ قيل هو بمعنى هذه وقد يشبه أن يتصل المعنى ب تِلْكَ دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره. والْكِتابِ قال مجاهد وقتادة: المراد به التوراة والإنجيل، وقال مجاهد أيضا وغيره: المراد به القرآن وهو الأظهر، والْحَكِيمِ فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] أي معتد معد، ويمكن أن يكون «حكيم» بمعنى ذو حكمة فهو على النسب، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال: هو الذي أحكمه وبيّنه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: فساق قولين على أنهما واحد، وقوله:
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية، قال ابن عباس وابن جريح وغيرهما نسبت هذه الآية أن قريشا استبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر، وقال الزجاج: إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم: أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية، وقوله: أَكانَ تقرير والمراد ب «الناس» قائلو هذه المقالة، وعَجَباً خبر كان واسمها أَنْ أَوْحَيْنا، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب» وجعل
الخبر في قوله أَنْ أَوْحَيْنا والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذا ومنه قول حسان: [الوافر] يكون مزاجها عسل وماء ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أوصل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب؟
وقرأت فرقة «إلى رجل» بسكون الجيم، ثم فسر الوحي وقسمه على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين، و «القدم» هنا ما قدم، واختلف في المراد بها هاهنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد: هي الأعمال الصالحة من العبادات، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال زيد بن أسلم وغيره: هي المصيبة بمحمد ﷺ في موته، وقال ابن عباس أيضا وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ، وهذا أليق الأقوال بالآية، ومن هذه اللفظة قول حسان: [الطويل]
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأوّلنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة: [الطويل]
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
ومن هذه اللفظة قول النبي ﷺ في صفة جهنم: «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط»، أي ما قدم لها من خلقه، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم، ف «القدم» على هذا التأويل الجارحة والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول رجل صدق ورجل سوء، وقوله قالَ الْكافِرُونَ يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله أكان وحينا إلى بشر عجبا قال الكافرون عنه كذا وكذا، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفا يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين»، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إن هذا لساحر»، والمعنى متقارب، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين»، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
103
هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وإعلام بصفاته، والخطاب بها لجميع الناس، وخَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ هو على ما تقرر أن الله عز وجل خلق الأرض ثُمَّ اسْتَوى إلى السماء وهي دخان فخلقها، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قيل هي من أيام الآخرة، وقال الجمهور، وهو الصواب:
بل من أيام الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي ﷺ في خلق الله المخلوقات إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مما لا يوصل تعليله وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدرا وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك وقوله ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد تقدم القول فيه في المص [الأعراف: ١] وقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يصح أن يريد ب الْأَمْرَ اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد الْأَمْرَ الذي هو مصدر أمر يأمر، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علما. وقال مجاهد يُدَبِّرُ الْأَمْرَ معناه يقضيه وحده، وقوله ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها، وقوله ذلِكُمُ إشارة إلى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فيكون التذكر سببا للاهتداء، واختصار القول في قوله ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [إما] أن يكون اسْتَوى بقهره وغلبته وإما أن يكون اسْتَوى بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان، فقد قيل في قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
إنه بيت مصنوع. وإما أن يكون فعل فعلا في العرش سماه اسْتَوى، واستيعاب القول قد تقدم، وقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الآية، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع، وقوله جَمِيعاً حال من الضمير في مَرْجِعُكُمْ، وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر، وكذلك قوله حَقًّا وقال أبو الفتح حَقًّا نعت، وقرأ الجمهور «إنه» بكسر الألف على القطع والاستئناف، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه» بفتح الألف، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه، وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير يحق أنه.
قال القاضي أبو محمد: يجوز عندي أن يكون إِنَّهُ بدلا من قوله وَعْدَ اللَّهِ، قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد. وإن شئت قدرته «وعد الله حقا أنه» ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وَعْدَ اللَّهِ لأنه قد وصف فإذن
104
ذلك بتمامه وقطع عمله، وقرأ ابن أبي عبلة «حقّ» بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه» وقوله يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يريد النشأة الأولى، والإعادة هي البعث من القبور، وقرأ طلحة «يبدىء الخلق» بضم الياء وكسر الدال، وقوله لِيَجْزِيَ هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال، وقوله بِالْقِسْطِ أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم، وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء و «الحميم» الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش:
في كل يوم لها مقطرة... وكباء معدة وحميم
وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله ﷺ إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه، وهو كما وصفه تعالى يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: ٢٩].
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٦]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
هذا استمرار على وصف آيات الله والتنبيه عل صنعته الدالة على الصانع، وهذه الآية تقتضي أن «الضياء» أعظم من «النور» وأبهى بحسب الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، ويلحق هاهنا اعتراض وهو أنّا وجدنا الله تعالى شبه هداه ولطفه بخلقه بالنور فقال اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥]، وهذا يقتضي أن النور أعظم هذه الأشياء وأبلغها في الشروق وإلا فلم ترك التشبيه إلا على الذي هو «الضياء» وعدل إلى الأقل الذي هو «النور»، فالجواب عن هذا والانفصال: أن تقول إن لفظة النور أحكم وأبلغ في قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥]، وذلك أنه تعالى شبه هداه ولطفه الذي نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام، ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد إذ كان الهدى يكون مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة، فمعنى الآية أن الله تعالى قد جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام فيهتدي قوم ويضل آخرون، ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد وبقي الضياء على هذا الانفصال أبلغ في الشروق كما اقتضت آيتنا هذه والله عز وجل هو ضياء السماوات والأرض ونورها وقيومها، ويحتمل أن يعترض هذا الانفصال والله المستعان، وقوله وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ يريد البروج المذكورة في غير هذه الآية، وأما الضمير الذي رده على الْقَمَرَ وقد تقدم ذكر الشَّمْسَ معه فيحتمل أن يريد بالضمير «القمر» وحده لأنه هو المراعى في معرفة عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ عند العرب ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما يتصرفان في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. لكنه اجتزأ بذكر الواحد كما قال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] وكما قال الشاعر [أبو حيان] :[الطويل]
رماني بذنب كنت منه ووالدي... بريّا ومن أجل الطويّ رماني
قال الزجّاج وكما قال الآخر: [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف
وقوله لِتَعْلَمُوا المعنى قدر هذين النيرين، مَنازِلَ لكي «تعلموا» بها، عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ رفقا بكم ورفعا للالتباس في معاشكم وتجركم وإجاراتكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ، وقوله ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي للفائدة لا للعب والإهمال فهي إذا يحق أن تكون كما هي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص «يفصل الآيات»، وقرأ ابن كثير أيضا وعاصم والباقون والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل مكة والحسن والأعمش «نفصل» بنون العظمة، وقوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إنما خصهم لأن نفع التفصيل فيهم ظهر وعليهم أضاء وإن كان التفصيل إنما وقع مجملا للكل معدا ليحصله الجميع، وقرأ جمهور السبعة وقد رويت عن ابن كثير «ضياء»، وقرأ ابن كثير وحده فيما روي أيضا عنه «ضئاء» بهمزتين، وأصله ضياء فقلبت فجاءت ضئائا، فقلبت الياء همزة لوقوعها بين ألفين، قال أبو علي: وهي غلط، وقوله تعالى إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية، آية اعتبار وتنبيه، ولفظه الاختلاف تعم تعاقب الليل والنهار وكونهما خلفه وما يتعاورانه من الزيادة والنقص وغير ذلك من لواحق سير الشمس وبحسب أقطار الأرض، قوله وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لفظ عام لجميع المخلوقات، و «الآيات» العلامات والدلائل، وخصص «القوم المتقين» تشريفا لهم إذ الاعتبار فيهم يقع ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره، يَرْجُونَ في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل
وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء: إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده، فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال ابن زيد: هذه الآية في الكفار، وقال بعض أهل العلم: «الرجاء» في هذه الآية على بابه، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظنا بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة
106
خوف، وهذه الحال من الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة، والذي أقول: إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه، وقوله وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: إذا شئت رأيت هذا الموصوف، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه، إذ قد يكون العاصي المجلح مستوحشا من آخرته، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر، وقوله وَاطْمَأَنُّوا بِها تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها لأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره، وقوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط، ثم حتم عليهم بالنار وجعلها مَأْواهُمُ، وهو حيث يأوي الإنسان ويستقر، ثم جعل ذلك بسبب كسبهم واجتراحهم، وفي هذه اللفظة رد على الجبرية ونص على تعلّق العقاب بالتكسب الذي للإنسان، وقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا. الآية لما قرر تبارك وتعالى حالة الفرقة الهالكة عقب ذلك بذكر حالة الفرقة الناجية ليتضح الطريقان ويرى الناظر فرق ما بين الهدى والضلال، وهذا كله لطف منه بعباده، وقوله يَهْدِيهِمْ لا يترتب أن يكون معناه يرشدهم إلى الإيمان لأنه قد قررهم مؤمنين فإنما الهدى في هذه الآية على أحد وجهين: إما أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم، كما قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: ١٣٦] فإنما معناه اثبتوا، وإما أن يريد يرشدهم إلى طرق الجنان في الآخرة، وقوله: بِإِيمانِهِمْ يحتمل أن يريد بسبب إيمانهم ويكون مقابلا لقوله قبل مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى، أي يهديهم إلى طرق الجنة بنور إيمانهم، قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به ويتركب هذا التأويل على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيّب الرائحة فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة، وبعكس هذا في الكافر»، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يريد من تحت علياتهم وغرفهم وليس التحت الذي هو بالمماسة بل يكون إلى ناحية من الإنسان كما قال تعالى: جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم: ٢٤] وكما قال حكاية عن فرعون وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١] وقوله دَعْواهُمْ الآية، الدعوى بمعنى الدعاء يقال دعا الرجل وادعى بمعنى واحد، قاله سيبويه، وسُبْحانَكَ اللَّهُمَّ تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله عن كل ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه، وقال طلحة بن عبيد الله: قلت يا رسول الله، ما معنى سبحان الله؟ فقال: معناها تنزيه الله من السوء، وقد تقدم ذكر خلاف النحاة في اللَّهُمَّ، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رأوا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن في الجنة عند ما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائرا أو غير ذلك قال: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى، رواه ابن جريح وسفيان بن عيينة، وقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ يريد تسليم بعضهم على بعض، و «التحية» مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها، يقال حياه يحييه، ومنه قول زهير بن جناب: [مجزوء الكامل]
107
من كل ما نال الفتى... قد نلته إلا التحيه
يريد دعاء الناس للملوك بالحياة، وقد سمي الملك تحية بهذا التدريج ومنه قول عمرو بن معديكرب:
أزور أبا قابوس حتى... أنيخ على تحيته بجندي
أراد علي مملكته وقال بعض العلماء وَتَحِيَّتُهُمْ يريد تسليم الله عز وجل عليهم، و «السلام» مأخوذ من السلامة، وقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ يريد وخاتمة دعواهم في كل موطن وكلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه، وكانت بدأتهم بالتنزيه والتعظيم، وقرأ جمهور الناس «أن الحمد لله» وهي عند سيبويه «أن» المخففة من الثقيلة، وقرأ ابن محيصن وبلال بن أبي بردة ويعقوب وأبو حيوة «أنّ الحمد لله»، وهي على الوجهين رفع على خبر الابتداء، قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة هي أن المخففة من الثقيلة بمنزلة الأعشى: [البسيط]
في فتية كسيوف الهند قد علموا... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فتأمل هذا التقدير تجده صحيحا، واسْتِعْجالَهُمْ نصب على المصدر، والتقدير مثل استعجالهم، وقيل: التقدير تعجيلا مثل استعجالهم، وهذا قريب من الأول، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] وقيل نزلت في قوله ائْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف: ٧٧] وما جرى مجراه، وقرأ جمهور القراء «لقضي» على بناء الفعل للمفعول ورفع «الأجل»، وقرأ ابن عامر وحده وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب، «لقضى» على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجل» وقرأ الأعمش:
«لقضينا»، و «الأجل» في هذا الموضع أجل الموت، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما... داود أو صنع السوابغ تبع
وأنشد أبو علي في هذا المعنى: [الطويل]
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها فوائح في أكمامها لم تفتق
وتعدّى «قضى» في هذه الآية ب «إلى» لما كان بمعنى فرغ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام، فمن ذلك قول جرير:
ألان فقد فرغت إلى نمير فصرت على جماعتها عذابا
ومن الآخر قوله عز وجل سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: ٣١] وقرأ الأعمش: «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا»، ويَرْجُونَ في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله، والرجاء مقترن أبدا بخوف، «والطغيان» الغلو في الأمر وتجاوز الحد، و «العمه» الخبط في ضلال، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر، فلو عجل لهم لهلكوا، وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ الآية، هذه الآية أيضا عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى الله تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره، وقوله لِجَنْبِهِ في موضع حال كأنه قال: مضطجعا، ويجوز أن يكون حالا من الإنسان والعامل فيه مَسَّ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في دَعانا والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان، والضُّرُّ لفظ لجميع الأمراض، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين، وقيل هو مختص برزايا البدن: الهزال والمرض، وقوله مَرَّ يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص، فمعنى الآية مَرَّ في إشراكه بالله وقلة توكله عليه، وقوله زُيِّنَ إن قدرناه من الله تعالى فهو خلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم صحبة أعمالهم الفاسدة ومثابرتهم عليها، وإن قدرنا ذلك من الشيطان فهو بمعنى الوسوسة والمخادعة، ولفظة التزيين قد جاءت في القرآن بهذين المعنيين من فعل الله تعالى ومرة من فعل الشياطين.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
هذه الآية وعيد للكفار وضرب أمثال لهم، أي كما فعل هؤلاء فعلكم فكذلك يفعل بكم ما فعل بهم،
وقوله وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إخبار عن قسوة قلوبهم وشدّة كفرهم، وقرأ جمهور السبعة وغيرهم: «نجزي» بنون الجماعة، وفرقة «يجزي» بالياء على معنى يجزي الله، وخَلائِفَ جمع خليفة، وقوله لِنَنْظُرَ معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلا، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقرأ يحيى بن الحارث وقال: رأيتها في الإمام مصحف عثمان، «لنظر» بإدغام النون في الظاء، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضا يقول: قد استخلفت يا ابن الخطاب فانظر كيف تعمل؟ وأحيانا كان يقول قد استخلفت يا ابن أم عمر، قوله تعالى وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ الآية، هذه الآية نزلت في قريش لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا وأحل ما حرمته وحرم ما حللته ليكون أمرنا حينئذ واحدا وكلمتنا متصلة، فذم الله هذه الصنعة وذكرهم بأنهم يقولون هذا للآيات البيّنات، ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالبعث، ثم أمر الله نبيه عليه السلام أن يرد عليهم بالحق الواضح وأن يستسلم ويتبع حكم الله تعالى ويعلم بخوفه ربه، و «اليوم العظيم» يوم القيامة.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٦ الى ١٨]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
هذه من كمال الحجة أي هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي وإنما هو من عند الله، ولو شاء ما بعثني به ولا تلوته عليكم ولا أعلمتكم به، وأَدْراكُمْ بمعنى أعلمكم يقال دريت بالأمر وأدريت غيري، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه: «ولا دراكم به» وهي لام تأكيد دخلت على أدرى، والمعنى على هذا ولا علمكم به من غير طريقي وقرأ ابن عباس وابن سيرين وأبو رجاء والحسن «ولا أدرأتكم به»، وقرأ ابن عباس أيضا وشهر بن حوشب: «ولا أنذرتكم به»، وخرج الفراء قراءة ابن عباس والحسن على لغة لبعض العرب منها قولهم: لبأت بمعنى لبيت، ومنها قول امرأة منهم: رثأت زوجي بأبيات أي رثيت. وقال أبو الفتح إنما هي «أدريتكم» قلبت الياء ألفا لانفتاح ما قبلها، وروينا عن قطرب:
أن لغة عقيل في أعطيتك أعطأتك، قال أبو حاتم: قلبت الياء ألفا كما في لغة بني الحارث بن كعب: السلام علاك، ثم قال فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أي الأربعين سنة قبل بعثته عليه السلام، ويريد لم تجربوني في كذب ولا تكلمت في شيء من هذا أَفَلا تَعْقِلُونَ أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن كلا عمره وتقاصر أمله واشتدت حنكته وخوفه لربه، وقرأ الجمهور بالبيان في «لبثت»، وقرأ أبو عمرو:
«لبت» بإدغام الثاء في التاء، وقوله فَمَنْ أَظْلَمُ الآية، جاء في هذه الآية التوقيف على عظم جرم المفتري على الله بعد تقدم التنصل من ذلك قيل، فاتسق القول واطردت فصاحته، وقوله فَمَنْ أَظْلَمُ استفهام وتقرير أي لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، أو ممن كَذَّبَ بِآياتِهِ بعد بيانها، وذلك أعظم جرم على الله وأكثر استشراف إلى عذابه، ثم قرر إِنَّهُ لا يُفْلِحُ أهل الجرم، ويُفْلِحُ معناه يظفر ببغيته، وقوله وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ الآية، الضمير في يَعْبُدُونَ عائد على الكفار من قريش الذين تقدّمت محاورتهم، وما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ هي الأصنام، وقولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا هو مذهب النبلاء منهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقررهم ويوبخهم أهم يعلمون الله بأنباء من السماوات والأرض لا يعلمها هو؟ وذكر السَّماواتِ لأن من العرب من يعبد الملائكة والشعرى، وبحسب هذا حسن أن يقول: هؤُلاءِ، وقيل ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل، وفي التوقيف على هذا أعظم غلبة لهم، ولا يمكنهم ألا أن يقولوا: لا نفعل ولا نقدر، وذلك لهم لازم من قولهم:
هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا، وسُبْحانَهُ استئناف تنزيه لله عز وجل، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر هنا: «عما يشركون» بالياء على الغيبة، وفي حرفين في النحل وحرف في الروم وحرف في النمل، وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك نافع والحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش، وقرأ ابن كثير ونافع هنا وفي النمل فقط «تشركون» بالتاء على مخاطبة الحاضر، وقرأ حمزة والكسائي الخمسة الأحرف بالتاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
قالت فرقة: المراد آدم كان أمة واحدة ثم اختلف الناس بعد في أمر ابنيه وقالت فرقة: المراد نسم بنيه إذ استخرجهم الله من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر، وقالت فرقة: المراد وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً في الضلالة والجهل بالله فاختلفوا فرقا في ذلك بحسب الجهالة، ويحتمل أن يكون المعنى كان الناس صنفا واحدا معدا للاهتداء، واستيفاء القول في هذا متقدم في سورة البقرة في قوله كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [البقرة: ٢١٣]. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر ونافع وشيبة وأبو عمرو «لقضي بينهم» بضم القاف وكسر الضاد، وقرأ عيسى بن عمر «لقضى» بفتحهما على الفعل الماضي، وقوله وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال الموقتة، ويحتمل أن يريد «الكلمة» في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما كان حينئذ، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الآية، يريدون بقولهم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ آية، تضطر الناس
إلى الإيمان وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ولا هي المعجزات اضطرارية وإنما هي معرضة للنظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، وقوله فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على غيبه أحد، وقوله فَانْتَظِرُوا وعيد قد صدقه الله تعالى بنصرته محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الطبري: في بدر وغيره، وقوله وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ الآية، المراد ب النَّاسَ في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير، و «الرحمة» هنا بعد الضراء، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر، و «المكر» الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متقين به واقع لا محالة، وكل آت قريب، قال أبو حاتم: قرأ الناس «أن رسلنا» بضم السين، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو، وقال أبو علي أَسْرَعُ من سرع ولا يكون من أسرع يسرع، قال ولو كان من أسرع لكان شاذا.
قال القاضي أبو محمد: وقد قال رسول الله ﷺ في نار جهنم «لهي أسود من القار» وما حفظ للنبي ﷺ فليس بشاذ. وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون» بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل، ورويت أيضر عن نافع والأعرج، قال أبو حاتم: قال أيوب بن المتوكل: في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكرا وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون».
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٢]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)
هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذلك لضرورة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث: «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة». وقال النبي ﷺ «البحر لا أركبه أبدا». وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم «يسيركم» قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي: [الطويل]
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها وأول راض سنة من يسيرها
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدا في هذا. وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق وهذه قراءة الجمهور من سير، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود، وفي مصحف أبي شيخ وقال عوف بن أبي جميلة قد: كان يقرأ «ينشركم» فغيرها الحجاج بن
يوسف «يسيركم»، قال سفيان بن أبي الزعل: كانوا يقرأون «ينشركم» فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها «يسيركم»، فأول من كتبها كذلك الحجاج، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه «يسيركم» من أسار، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «ينشركم» بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة، وروي عن الحسن أنه قرأ «ينشركم» بضم الياء وكسر الشين وقال: هي قراءة عبد الله، قال أبو حاتم: أظنه غلط، والْفُلْكِ جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد ولكنه فعل جمع على فعل، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء «في الفلكي» على وزن فعليّ بياء نسب وذلك كقولهم أشقري وكدواري في دور الدهر وكقول الصلتان أنا الصلتاني، وقوله وَجَرَيْنَ علامة قليل العدد، وقوله بِهِمْ خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قولهم: كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن، و «الريح» إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه، لكنها لا يحسن في البحر أن تكون إلا واحدة متصلة لا نشرا، فقيدت المفردة «بالطيب» فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة «جاءتهم ريح عاصف»، والعاصف الشديدة من الريح، يقال: عصفت الريح، وقوله وَظَنُّوا على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور، وقوله دَعَوُا اللَّهَ أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم:
هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم، قال الطبري: جواب قوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وجواب قوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٣]
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
يَبْغُونَ: أي يفسدون ويكفرون، والبغي: التعدي والأعمال الفاسدة، ووكد ذلك بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ، ثم ابتدأ بالرجز وذم البغي في أوجز لفظ، وقوله «متاع الحياة» رفع، وهذه قراءة الجمهور وذلك على خبر الابتداء، والمبتدأ بَغْيُكُمْ، ويصح أن يرتفع مَتاعَ على خبر ابتداء مضمر تقديره ذلك متاع أو هو متاع، وخبر «البغي» قوله عَلى أَنْفُسِكُمْ، وقرأ حفص عن عاصم وهارون عن ابن كثير وابن أبي إسحاق: «متاع» بالنصب وهو مصدر في موضع الحال من «البغي»، وخبر البغي على هذا محذوف تقديره:
مذموم أو مكروه ونحو هذا، ولا يجوز أن يكون الخبر قوله عَلى أَنْفُسِكُمْ لأنه كان يحول بين المصدر وما عمل فيه بأجنبي، ويصح أن ينتصب مَتاعَ بفعل مضمر تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا، وقرأ ابن أبي إسحاق: «متاعا الحياة الدنيا» بالنصب فيهما، ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عيينة: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
قال القاضي أبو محمد: وقالوا: الباغي مصروع، قال الله تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج: ٦٠] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أسرع عقوبة من بغي». وقرأت فرقة «فننبئكم» على ضمير المعظم المتكلم وقرأت فرقة: «فينبئكم»، على ضمير الغائب، والمراد الله عز وجل.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
المعنى: إِنَّما مَثَلُ تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين إذ يصير ذلك إلى الفناء كمطر نزل من السماء فَاخْتَلَطَ، ووقف هنا بعض القراء على معنى، فاختلط الماء بالأرض ثم استأنف به نَباتُ الْأَرْضِ على الابتداء والخبر المقدم، ويحتمل على هذا أن يعود الضمير في بِهِ على «الماء» أو على «الاختلاط» الذي يتضمنه القول. ووصلت فرقة فرفع «النبات» على ذلك بقوله اختلط أي اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، وقوله مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، يريد الزروع والأشجار ونحو ذلك، وقوله وَالْأَنْعامُ يريد سائر العشب المرعي، وأَخَذَتِ الْأَرْضُ، لفظة كثرت في مثل هذا كقوله خُذُوا زِينَتَكُمْ [الأعراف: ٣١] و «الزخرف» التزين بالألوان، وقد يجيء الزخرف بمعنى الذهب إذ الذهب منه، وقرأ مروان بن الحكم وأبو جعفر والسبعة وشيبة ومجاهد والجمهور: وَازَّيَّنَتْ أصله: تزينت سكنت التاء لتدغم فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبيّ بن كعب «وتزينت» وهذه أصل قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وأبو العالية والشعبي وقتادة ونصر بن عاصم وعيسى «وأزينت» على معنى حضرت زينتها كما تقول أحصد الزرع، «وأزينت» على مثال أفعلت وقال عوف بن أبي جميلة: كان أشياخنا يقرؤونها «وازيانت» النون شديدة والألف ساكنة قبلها، وهي قراءة أبي عثمان النهدي، وقرأت فرقة «وازيأنت»، وهي لغة منها قول الشاعر [ابن كثير] :[الطويل] إذا ما الهوادي بالغبيط احمأرّت وقرأت فرقة «وازاينت» والمعنى في هذا كله ظهرت زينتها، وقوله وَظَنَّ أَهْلُها على بابها.
والضمير في عَلَيْها عائد على الْأَرْضِ، والمراد ما فيها من نعمة ونبات، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، وحَتَّى غاية وهي حرف ابتداء لدخولها على إِذا ومعناها متصل إلى قوله قادِرُونَ عَلَيْها، ومن بعد ذلك بدأ الجواب، والأمر الآتي واحد الأمور كالريح والصر والسموم ونحو ذلك، وتقسيمه لَيْلًا أَوْ نَهاراً تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت، وحَصِيداً: فعيل بمعنى مفعول وعبر ب «حصيد» عن التالف الهالك من النبات وإن لم يهلك بحصاد إذ الحكم فيهما واحد وكأن الآفة حصدته قبل أوانه، وقوله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر
بغضارتها وقرأ قتادة «يغن» بالياء من تحت يعني الحصيد، وقرأ مروان «كأن لم تتغن» بتاءين مثل تتفعل والمغاني المنازل المعمورة ومنه قول الشاعر: [الوافر]
وقد نغنى بها ونرى عصورا بها يقتدننا الخرد الخذالا
وفي مصحف أبي بن كعب «كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات»، رواها عنه ابن عباس، وقيل: إن فيه «وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها»، وقرأ أبو الدرداء «لقوم يتذكرون» ومعنى الآية التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرضة للتلف وأن يصيبها ما أصاب هذه الأرض المذكورة بموت أو غيره من رزايا الدنيا، وخص «المتفكرين» بالذكر تشريفا للمنزلة وليقع التسابق إلى هذه الرتبة.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
نصت هذه الآية أن الدعاء إلى الشرع عام في كل بشر، والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه، والسَّلامِ قيل: هو اسم الله عز وجل، فالمعنى يدعو إلى داره التي هي الجنة، وإضافتها إليه إضافة ملك إلى مالك، وقيل: السَّلامِ بمعنى السلامة، أي من دخلها ظفر بالسلامة وأمن الفناء والآفات، وهذه الآية رادة على المعتزلة، وقد وردت في دعوة الله تعالى عباده أحاديث منها رؤيا النبي ﷺ إذ رأى في نومه جبريل وميكائيل ومثلا دعوة الله ومحمدا الداعي والملة المدعو إليها والجنة التي هي ثمرة الغفران بالمادية يدعو إليها ملك إلى منزله. وقال قتادة في كلامه على هذه الآية ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا «يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انته». وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الآية، قالت فرقة وهي الجمهور: الْحُسْنى الجنة و «الزيادة» النظر إلى وجه الله عز وجل، وروي في نحو ذلك حديث عن النبي ﷺ رواه صهيب، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال:
«الزيادة» غرفة من لؤلؤة واحدة، وقالت فرقة الْحُسْنى هي الحسنة، و «الزيادة» هي تضعيف الحسنات إلى سبعمائة فدونها حسبما روي في نص الحديث، وتفسير قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١]، وهذا قول يعضده النظر ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول، وطريق ترجيحه أن الآية تتضمن اقترانا بين ذكر عمال الحسنات وعمال السيئات، فوصف المحسنين بأن لهم حسنى وزيادة من جنسها، ووصف المسيئين بأن لهم بالسيئة مثلها فتعادل الكلامان، وعبر عن الحسنات
ب الْحُسْنى مبالغة، إذ هي عشرة، وقال الطبري: الْحُسْنى عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك أيضا قوله: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ، ولو كان معنى الْحُسْنى الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة وأنهم لا يرهق وجوهم قتر ولا ذلة، ثم قال أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ على جهة المدح لهم، أي أولئك مستحقوها وأصحابها حقا وباستيجاب، ويَرْهَقُ معناه يغشى مع ذلة وتضييق، والقتر الغبار المسود، ومنه قول الشاعر [الفرزدق] :[البسيط]
متوج برداء الملك يتبعه موج ترى وسطه الرايات والقترا
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش وأبو رجاء «قتر» بسكون التاء، وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ الآية، اختلف النحويون في رفع «الجزاء» بم هو؟ فقالت فرقة: التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها، وقالت فرقة: التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة.
قال القاضي أبو محمد: ويتوجه أن يكون رفع «الجزاء» على المبتدأ وخبره في الَّذِينَ لأن الَّذِينَ معطوف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا، فكأنه قال والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وعلى الوجه الآخر فقوله وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ رفع بالابتداء، وتعم السَّيِّئاتِ هاهنا الكفر والمعاصي، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى. و «العاصم» المنجي، ومنه قوله تعالى: إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: ٤٣]. وأُغْشِيَتْ كسيت ومنه الغشاوة، و «القطع» جمع قطعة، وقرأ ابن كثير والكسائي «قطعا» من الليل بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، و «القطع» الجزء من الليل ومنه قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: ٨١] وهذا يراد به الجزء من زمان الليل، وفي هذه الآية الجزء من سواده، ومُظْلِماً، نعت ل «قطع»، ويجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في قوله مِنَ اللَّيْلِ، فإذا كان نعتا فكان حقه أن يكون قبل الجملة ولكن قد يجيء بعدها، وتقدير الجملة قطعا استقر من الليل مظلما على نحو قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: ١٥٥] ومن قرأ «قطعا» على جمع قطعة فنصب «مظلما» على الحال مِنَ اللَّيْلِ والعامل في الحال مِنَ إذ هي العامل في ذي الحال، وقرأ أبي بن كعب، «كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل وظلم»، وقرأ ابن أبي عبلة «قطع من الليل مظلم» بتحريك الطاء في قطع.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والحسن وشيبة وغيرهم، «نحشرهم» بالنون، وقرأت فرقة:
«يحشرهم» بالياء، والضمير في «يحشرهم» عائد على جميع الناس محسنين ومسيئين، ومَكانَكُمْ نصب على تقدير لازموا مكانكم وذلك مقترن بحال شدة وخزي، ومَكانَكُمْ في هذا الموضع من أسماء الأفعال إذ معناه قفوا واسكنوا، وهذا خبر من الله تعالى عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله الأصنام بالتبري منهم. وقوله: وَشُرَكاؤُكُمْ، أي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء لله، فأضافهم إليهم لأن كونهم شركاء إنما هو بزعم هؤلاء، وقوله فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ معناه فرقنا في الحجة والمذهب وهو من زلت الشيء عن الشيء أزيله، وهو تضعيف مبالغة لا تعدية، وكون مصدر زيل تزييلا، يدل على أن زيل إنما هو فعل لا فيعل، لأن مصدره كان يجيء على فيعلة، وقرأت «فزايلنا»، وروي عن النبي ﷺ أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام: والله ما كنا نسمع ولا نعقل وما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فتقول الآلهة فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الآية.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم، وأَنْتُمْ رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون، ويجوز أن يكون أَنْتُمْ تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه. وشَهِيداً نصب على التمييز، وقيل على الحال، «وإن» هذه عند سيبويه هي مخففة موجبة حرف ابتداء ولزمتها اللام فرقا بينها وبين «إن» النافية، وقال الفراء: «إن» بمعنى ما واللام بمعنى إلا، وهُنالِكَ نصب على الظرف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «تبلوا» بالباء بواحدة بمعنى اختبر، وقرأ حمزة والكسائي «تتلوا» بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى تتبع أي تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها، ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها، وقرأ يحيى بن وثاب «وردوا» بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله»، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
هذا توقيف وتوبيخ واحتجاج لا محيد عن التزامه، ومِنَ السَّماءِ يريد بالمطهر ومن الْأَرْضِ يريد بالإنبات ونحو ذلك، ويَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه حتى أن ما عداهما من الحواس تبع، ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من
الأرض إذ له نمو شبيه بالحياة، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، مثل البيضة من الطائر ونحو ذلك، وقد تقدم فيما سلف إيعاب القول في هذه المعاني، و «تدبير الأمر» عام لهذا وغيره من جميع الأشياء، وذلك استقامة الأمور كلها عن إرادته عز وجل، وليس تدبيره بفكر ولا روية وتغيرات تعالى عن ذلك بل علمه محيط كامل دائم، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة: وقوله تعالى فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الآية، يقول: فهذا الذي هذه صفاته رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق، وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازا وإيضاحا، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف وهي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات»، والْحَقُّ في هذه في الطرفين لأن المتعبدين إنما طلبوا بالاجتهاد لا بعين في كل نازلة ويدلك على أن «الحق» في الطرفين اختلاف الشرائع بتحليل وتحريم في شيء واحد، والكلام في مسائل الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بالمتشرع، وقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ تقرير كما قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] ثم قال: كَذلِكَ حَقَّتْ أي كما كانت صفات الله كما وصف وعبادته واجبة كما تقرر وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم وتكسبوا كَذلِكَ حَقَّتْ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، وحمزة والكسائي هنا وفي آخر السورة «كلمة» على الإفراد الذي يراد به الجمع كما يقال للقصيدة كلمة، فعبر عن وعيد الله تعالى بكلمته، وقرأ نافع وابن عامر في الموضعين المذكورين «كلمات»، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وهذه الآية إخبار أن في الكفار من حتم بكفره وقضى بتخليده، وقرأ ابن أبي عبلة، «إنهم» بكسر الألف.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
هذا توقيف أيضا على قصور الأصنام وعجزها، وتنبيه على قدرة الله عز وجل، و «بدء الخلق» يريد به إنشاء الإنسان في أول أمره، و «إعادته» هي البعث من القبور، وتُؤْفَكُونَ معناه: تصرفون وتحرمون، تقول العرب: أرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة والقلب، كما قال وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم: ٥٣] وقوله تعالى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يريد به يبين
الطرق والصواب ويدعو إلى العدل ويفصح بالآيات ونحو هذا، ووصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت، فوجه ذلك أنه عامل في العبارة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن، وذكر ذلك أبو علي الفارسي، والذي أقول: إن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى أمن لا يهدي أحدا إلا أن يهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها «أمن لا يهتدي إلا أن يهدى» فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي، وفيه تجوز كثير، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إلى مناكرة الكفار يوم القيامة، حسبما مضى في هذه السورة، وقراءة حمزة والكسائي هي «يهدي» بفتح الياء وسكون الهاء، وقرأ نافع وأبو عمرو وشيبة والأعرج وأبو جعفر «يهدّي» بسكون الهاء وتشديد الدال، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يهدي» بفتح الياء والهاء، وهذه أفصح القراءات، نقلت حركة تاء «يهتدي» إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال، وهذه رواية ورش عن نافع وقرأ عاصم في رواية حفص «يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء وشد الدال، أتبع الكسرة الكسرة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، «يهدّي»، بكسر الياء والهاء وشد الدال وهذا أيضا إتباع وقال مجاهد: الله يهدي من الأوثان وغيرها ما شاء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقرأ يحيى بن الحارث الزماري. «إلا أن يهدّي» بفتح الهاء وشد الدال، ووقف القراء فَما لَكُمْ، ثم يبدأ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وقوله وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ
، إخبار عن فساد طرائقهم وضعف نظرهم وأنه ظن، ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده من الحق، والظَّنَّ في هذه الآية على بابه في أنه معتقد أحد جائزين لكن ثم ميل إلى أحدهما دون حجة تبطل الآخر، وجواز ما اعتقده هؤلاء إنما هو بزعمهم لا في نفسه. بل ظنهم محال في ذاته. والْحَقِّ أيضا على بابه في أنه معرفة المعلوم على ما هو به. وبهذه الشروط «لا يغني الظن من الحق شيئا». وأما في طريق الأحكام التي تعبد الناس بظواهرها فيغني الظن في تلك الحقائق ويصرف من طريق إلى طريق. والشهادة إنما هي مظنونة. وكذلك التهم في الشهادات وغيرها تغني. وليس المراد في هذه الآية هذا النمط. وقرأ جمهور الناس. «يفعلون». وقرأ عبد الله بن مسعود «تفعلون» بالتاء على مخاطبة الحاضر.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
هذا نفي قول من قال من قريش إن محمدا يفتري القرآن وينسبه إلى الله تعالى، وعبر عن ذلك بهذه الألفاظ التي تتضمن تشنيع قولهم وإعظام الأمر كما قال تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: ١٦١] وكما قال حكاية عن عيسى عليه السلام ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
119
[المائدة: ١١٦] ونحو هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته، ويُفْتَرى معناه: يختلق وينشأ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة، فهو مشتق من فريت إذا قطعت لإصلاح، وتَصْدِيقَ نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر، وقال الزجّاج: هو خبر «كان» مضمرة، والتقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه، وقوله الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يريد التوراة والإنجيل، والذي بين اليد هو المتقدم للشيء، وقالت فرقة في هذه الآية: إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، والأمر بالعكس كتاب الله تعالى بين يدي تلك، أما أن الزجّاج تحفظ فقال: الضمير يعود على الأشراط، والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا قلق، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه، وتَفْصِيلَ الْكِتابِ هو تبيينه، ولا رَيْبَ فِيهِ يريد هو في نفسه على هذه الحالة وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه، وقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية، أَمْ هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو، وإنما هي التي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاما وإضرابا عما تقدم، وهي كقولهم: إنها لا بل أم شاء، وقالت فرقة في أَمْ هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن:
إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده.
قال القاضي أبو محمد: هكذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب ردا على قولهم افْتَراهُ، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتيانا بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: ٣]، وكقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: ٢٧] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضا أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علما، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته- وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي «عرفجكم» فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين: اطراد النظم والسرد،
120
وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل: فأما مثل قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: ٦٤] وقوله ثُمَّ نَظَرَ [المدثر: ٢١] فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه، وقوله مِثْلِهِ صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر، كأنه قال: فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه، وخلطت فرق في قوله مِثْلِهِ من جهة اللسان كقول الطبري: ذلك على المعنى، ولو كان على اللفظ لقال: «مثلها»، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه، وقرأ عمرو بن فائد «بسورة مثله»، على الإضافة، قال أبو الفتح: التقدير بسورة كلام مثله، قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة «سورة» أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت، وقوله وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك، وهو كقوله في الآية الأخرى، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: ٨٨] أي معينا، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزا لهم.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٩ الى ٤٣]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)
المعنى: ليس الأمر كما قالوا في أنه مفترى بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وهذا اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد بها الوعيد الذي توعدهم الله عز وجل على الكفر، وتأويله على هذا يراد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: ٥٣]، والآية بجملتها على هذا التأويل تتضمن وعيدا، والمعنى الثاني أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة ولا أحاطوا بعلم غيوبه وحسن نظمه ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد من سلف من أمم الأنبياء، قال الزجّاج كَيْفَ في موضع نصب على خبر كانَ ولا يجوز أن يعمل فيها «انظر» لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.
قال القاضي أبو محمد: هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا «كيف» في كل مكان معاملة الاستفهام المحض في قولك: كيف زيد، ول «كيف» تصرفات غير هذا، تحل محل المصدر الذي هو كيفية وتخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري:
كيف كان بدء الوحي فإنه لم يستفهم وذكر الفعل المسند إلى «العاقبة» لما كانت بمعنى المآل ونحوه وليس تأنيثها بحقيقي، وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الآية، الضمير في مِنْهُمْ عائد على قريش، ولهذا الكلام معنيان قالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ومنهم من حتم الله أنه لا يؤمن به
أبدا، وقالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من هو مؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه وعلمه بأن نبوة محمد ﷺ وإعجاز القرآن حق، حفظا لرياسته أو خوفا من قومه، كالفتية الذين خرجوا إلى بدر مع الكفار فقتلوا فنزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] وكالعباس ونحو هذا، ومنهم من ليس بمؤمن.
قال القاضي أبو محمد: وفائدة الآية على هذا التأويل التفرق لكلمة الكفار، وإضعاف نفوسهم، وأن يكون بعضهم على وجل من بعض، وفي قوله وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ، تهديد ووعيد، وقوله وَإِنْ كَذَّبُوكَ، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد، وهذه الآية نحو قوله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: ١] إلى آخر السورة، وقال كثير من المفسرين منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال لأن هذه مكية، وهذا صحيح، وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، جمع يَسْتَمِعُونَ على معنى مَنْ لا على لفظها، ومعنى الآية: ومن هؤلاء الكفار من يستمع إلى ما يأتي به من القرآن بإذنه ولكنه حين لا يؤمن ولا يحصل فكأنه لا يسمع، ثم قال على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأنت يا محمد تريد أن تسمع الصم. أي لا تكترث بذلك، وقوله وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ معناه: ولو كانوا من أشد حالات الأصم، لأن الأصم الذي لا يسمع شيئا بحال، فذلك لا يكون في الأغلب إلا مع فساد العقل والدماغ فلا سبيل أن يعقل حجة ولا دليلا أبدا، وَلَوْ هذه بمعنى «إن»، وهذا توقيف للنبي ﷺ أي ألزم نفسك هذا، وقوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ الآية، هي نحو الأولى في المعنى، وجاء يَنْظُرُ على لفظ مَنْ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف آخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ، وهذه الآية نحو الأولى في المعنى كأنه قال:
ومنهم من ينظر إليك ببصره لكنه لا يعتبر ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فهون ذلك عليك، أفتريد أن تهدي العمي، والهداية أجمع إنما هي بيد الله عز وجل.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)
قرأت فرقة: «ولكن الناس» بتخفيف «لكن» ورفع «الناس»، وقرأت فرقة «ولكنّ» بتشديد «لكنّ» ونصب «الناس»، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم، وعرف «لكن» إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف، وقد ينخرم هذا، وقال الكوفيون:
قد يدخل اللام في خبر «لكن» المشددة على حد دخولها في «أن» ومنع ذلك البصريون، وقوله تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ الآية، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض، ويَوْمَ ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا
ساعَةً مِنَ النَّهارِ
، ويصح نصبه ب يَتَعارَفُونَ، والكاف من قوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في موضع الحال من الضمير في يَحْشُرُهُمْ وخصص النَّهارِ بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنة للجميع، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء، وأما قوله يَتَعارَفُونَ فيحتمل أن يكون معادلة لقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كأنه أخبر أنهم يوم الحشر يَتَعارَفُونَ، وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض. ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في يَحْشُرُهُمْ ويكون معنى التعارف كالذي قبله، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في يَلْبَثُوا ويكون التعارف في الدنيا، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري، وقرأ السبعة وجمهور الناس «نحشرهم»، بالنون، وقرأ الأعمش فيما روي عنه، «يحشرهم» بالياء، وقوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى، وهذا على أن الكلام إخبار من الله تعالى وقيل: إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم، وقوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الآية، إِمَّا شرط وجوابه فَإِلَيْنا، والرؤية في قوله نُرِيَنَّكَ رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر بَعْضَ، والإشارة بقوله بَعْضَ الَّذِي إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها، ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف ثُمَّ هاهنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، وإما هي «إن» زيدت عليها «ما» ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، إخبار مثل قوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى [الملك: ٨] وقال مجاهد وغيره: المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك «القضاء بينهم بالقسط» وقيل: المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا من حتم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم، فذلك قضاء بينهم بالقسط، وقرن بعض المتأولين هذه الآية بقوله وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] وذلك يتفق إما بأن نجعل مُعَذِّبِينَ [الإسراء: ١٥] في الآخرة، وإما بأن نجعل «القضاء بينهم» في الدنيا بحيث يصح اشتباه
الآيتين، وقوله وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إلى يَسْتَقْدِمُونَ، الضمير في يَقُولُونَ يراد به الكفار، وسؤالهم عن الوعد تحرير بزعمهم في الحجة، أي هذا العذاب الذي توعدنا حدد لنا فيه وقته لنعلم الصدق في ذلك من الكذب، وقال بعض المفسرين: قولهم هذا على جهة الاستخفاف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يظهر من اللفظة، ثم أمره تعالى أن يقول لهم لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، المعنى قل لهم يا محمد ردا للحجة إني لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً من دون الله ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وبضمن الحاجة إلى لطفه، فإذا كنت هكذا فأحرى أن لا أعرف غيبه ولا أتعاصى شيئا من أمره، ولكن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ انفرد الله تعالى بعلم حده ووقته، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة لم يتأخروا ساعة ولا أمكنهم التقدم عن حد الله عز وجل، وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بالجمع.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
المعنى: قال يا أيها الكفرة المستعجلون عذاب الله عز وجل أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ ليلا وقت المبيت، يقال: بيت القوم القوم إذا طرقوهم ليلا بحرب أو نحوها أَوْ نَهاراً لكم منه منعة أو به طاقة؟ فماذا تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به؟ و «ما» ابتداء و «ذا» خبره، ويصح أن تكون ماذا بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء وخبره الجملة التي بعده، وضعف هذا أبو علي وقال: إنما يجوز ذلك على تقدير إضمار في يَسْتَعْجِلُ وحذفه كما قال [أبو النجم] :[الرجز] كله لم أصنع وزيدت ضربت قال: ويصح أن تكون ماذا في حال نصب ل يَسْتَعْجِلُ، والضمير في مِنْهُ يحتمل أن يعود على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على «العذاب»، وقوله أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ الآية، عطف بقوله ثُمَّ جملة القول على ما تقدم ثم أدخل على الجميع ألف التقرير، ومعنى الآية: إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به حينئذ، وذلك غير نافعكم بل جوابكم الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به، وقرأ طلحة بن مصرف «أثم» بفتح الثاء، وقال الطبري في قوله «ثم» بضم الثاء، معناه هنالك وقال: ليست «ثم» هذه التي تأتي بمعنى العطف.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى صحيح على أنها «ثم» المعروفة ولكن إطباقه على لفظ التنزيل هو كما قلنا، وما ادعاه الطبري غير معروف، وآلْآنَ أصله عند بعض النحاة آن فعل ماض دخلت عليه الألف واللام على حدها في قوله: الحمار اليجدع ولم يتعرف بذلك كل التعريف ولكنها لفظة مضمنة معنى
حرف التعريف ولذلك بنيت على الفتح لتضمنها معنى الحرف ولوقوعها موقع المبهم لأن معناها هذا الوقت، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وعاصم والجمهور آلْآنَ بالمد والاستفهام على حد التوبيخ، وكذلك آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ [يونس: ٩١] وقرأها باستفهام بغير مد طلحة والأعرج. وقوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا الآية، هو الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخص الذي هو ظلم الكفر لا ظلم المعصية، وقوله هَلْ تُجْزَوْنَ توقيف وتوبيخ، ونصت هذه الآية على أن الجزاء في الآخرة، هو على تكسب العبد، وقوله وَيَسْتَنْبِئُونَكَ معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين: ثلاثة: أحدها الكاف، والآخر في الابتداء والخبر، وقيل هي بمعنى يستعلمونك، فهي على هذا تحتاج إلى مفعولين ثلاثة: أحدها الكاف، والابتداء والخبر يسد مسد المفعولين، وأَ حَقٌّ هُوَ قيل الإشارة إلى الشرع والقرآن، وقيل: إلى الوعيد وهو الأظهر، وقرأ الأعمش «الحق هو» بمدة وبلام التعريف، وقوله إِي، هي لفظة تتقدم القسم وهي بمعنى «نعم» ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول: إِي وَرَبِّي وإي ربي ومعجزين معناه مفلتين، وهذا الفعل أصله تعدية عجز لكن كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
هذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن ذلك الوعد حق، وَأَسَرُّوا لفظة تجيء بمعنى أخفوا، وهي حينئذ من السر، وتجيء بمعنى أظهروا، وهي حينئذ من أسارير الوجه، قال الطبري: المعنى وأخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة عن سفلتهم ووضعائهم.
قال القاضي أبو محمد: بل هو عام في جميعهم وأَلا استفتاح وتنبيه، ثم أوجب أن جميع ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملك لله تعالى، قال الطبري: يقول: فليس لهذا الكافر يومئذ شيء يقتدي به.
قال القاضي أبو محمد: وربط الآيتين هكذا يتجه على بعد، وليس هذا من فصيح المقاصد، وقوله:
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قيد بالأكثر لأن بعض الناس يؤمن فهم يعلمون حقيقة وعد الله تعالى وأكثرهم لا يعلمون فهم لأجل ذلك يكذبون، وقوله وهُوَ يُحيِي، يريد يحيي من النطفة وَيُمِيتُ بالأجل ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله، وقرأ «ترجعون» بالتاء من فوق الأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع والناس، وقرأ عيسى بن عمر «يرجعون» بالياء من تحت، واختلف عن الحسن.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
125
هذه آية خوطب بها جميع العالم، و «الموعظة» : القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله مِنْ رَبِّكُمْ يريد لم يختلقها محمد ﷺ بل هي من عند الله، وما فِي الصُّدُورِ يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هُدىً وَرَحْمَةٌ بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه، وقوله سبحانه قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس: «الفضل» : الإسلام، و «الرحمة» : القرآن، وقال أبو سعيد الخدري:
«الفضل» : القرآن، و «الرحمة» أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم والضحاك «الفضل» : القرآن، و «الرحمة» : الإسلام، وقالت فرقة: «الفضل» : محمد صلى الله عليه وسلم، و «الرحمة» : القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه، أن «الفضل» هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، و «الرحمة» هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم: فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة، والكافرون يقال لهم: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فلتفرحوا، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي ﷺ «فلتفرحوا»، و «تجمعون» بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة، وعن أكثرهم خلاف، وقرأ السبعة سوى ابن عامر وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش: بالياء فيهما على ذكر الغائب، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة: بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي ﷺ بالياء في الأولى وفي الآخرة، ورويت عن أبي التياح، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ، وفي مصحف أبي بن كعب، «فبذلك فافرحوا»، وأما من قرأ «فلتفرحوا»، فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة، حكى ذلك أبو علي في الحجة، وقال أبو حاتم وغيره: الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر، وإذا كان أمرا لغائب بلام، قال أبو الفتح: إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده، وقرأ أبو الفتوح والحسن: بكسر اللام من «فلتفرحوا»، فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: ١٠]، وفي قوله لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: ٧٦] قيل إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية، وإذا ورد مقيدا
126
في شر أو مطلقا لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنة على ذنبه وخوفه لربه، وقوله: مِمَّا يَجْمَعُونَ يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب والنصيب من الحرث والأنعام وغير ذلك مما لم يأذن الله به، وإنما اختلقوه بأمرهم، وقوله تعالى: أَنْزَلَ لفظة فيها تجوز، وإنزال الرزق، إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمئال، أو نزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع، ثم أمر الله نبيه بتوقيفهم على أحد القسمين، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله تعالى في ذلك، فلم يبق إلا أنهم افتروه، وهذه الآية نحو قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الأعراف: ٣٢]، ذكر ذلك الطبري عن ابن عباس، وقوله وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الآية، وعيد، لما تحقق عليهم، بتقسيم الآية التي قبلها، أنهم مفترون على الله، عظم في هذه الآية جرم الافتراء، أي ظنهم في غاية الرداءة بحسب سوء أفعالهم، ثم ثنى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء، والعصيان: والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة، ثم استدرك ذكر من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره ولا يبادر به فيه على جهة الذم لهم، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله وجميع تقصير الخلق في شكره، لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)
قصد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء، ومعنى اللفظ وَما تَكُونُ يا محمد، والمراد هو وغيره فِي شَأْنٍ من جميع الشؤون وَما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير عائد على شَأْنٍ أي فيه وبسببه من قرآن، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن، ثم عم بقوله وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وفي قوله إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً، تحذير وتنبيه، وتُفِيضُونَ تنهضون بجد، يقال: أفاض الرجل في سيره وفي حديثه، ومنه الإفاضة في الحج ومفيض القدام، ويحتمل أن «فاض» عدي بالهمزة، ويَعْزُبُ معناه: يغيب حتى
127
يخفى حتى قالوا للبعيد عازب، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] :[الطويل]
عوازب لم تسمع نبوح مقامه ولم تر نارا تم حول محرم
وقيل للغائب عن أهله: عازب، حتى قالوه لمن لا زوجة له، وفي السير أن بيت سعد بن خيثمة كان يقال: بيت العزاب، وقرأ جمهور السبعة والناس «يعزب» يضم الزاي، وقرأ الكسائي وحده منهم: «يعزب» بكسرها وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف، قال أبو حاتم: القراءة بالضم، والكسر لغة، و «المثقال» : الوزن، وهو اسم، لا صفة كمعطار ومضراب، والذر: صغار النمل، جعلها الله مثالا إذ لا يعرف في الحيوان المتغذي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه، وقرأ جمهور الناس وأكثر السبعة: «ولا أصغر ولا أكبر» بفتح الراء عطفا على ذَرَّةٍ في موضع خفض لكن منع من ظهوره امتناع الصرف، وقرأ حمزة وحده: «ولا أصغر ولا أكبر» عطفا على موضع قوله مِثْقالِ، لأن التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة، و «الكتاب المبين» : اللوح المحفوظ، كذا قال بعض المفسرين، ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل، وتقديم «الأصغر» في الترتيب جرى على قولهم:
القمرين والعمرين، ومنه قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: ٤٩] والقصد بذلك تنبيه، الأقل وأن الحكم المقصود إذا وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم، وأَلا استفتاح وتنبيه، وأَوْلِياءَ اللَّهِ هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنّما نبهنا هذا التنبيه حذرا من بعض الوصفية وبعض الملحدين في الولي، وروي عن النبي ﷺ أنه إذ سئل عن أولياء الله؟
فقال: الذين إذا رأيتهم ذكرت الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وصف لازم للمتقين لأنهم يخشعون ويخشعون، وروي عن النبي ﷺ أيضا أنه قال: «أولياء الله قوم تحابوا في الله واجتمعوا في ذاته لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه وقوله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يحتمل أن يكون في الآخرة، أي لا يهتمون بهمها ولا يخافون عذابا ولا عقابا ولا يحزنون لذلك، ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا أي لا يخافون أحدا من أهل الدنيا ولا من أعراضها ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأول أظهر والعموم في ذلك صحيح لا يخافون في الآخرة جملة ولا في الدنيا الخوف الدنياوي الذي هو في فوت آمالها وزوال منازلها وكذلك في الحزن، وذكر الطبري عن جماعة من العلماء مثل ما في الحديث من الأولياء الذين إذا رآهم أحد ذكر الله، وروي فيهم حديث: «إن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله وتجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم، فهم في عرصة القيامة لا يخافون ولا يحزنون»، وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال: «قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال»، الحديث، ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
، وقوله الَّذِينَ آمَنُوا يصح أن يكون في موضع نصب على البدل من الأولياء، ويصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء على تقديرهم الذين، وكثيرا ما يفعل ذلك بنعت ما عملت فيه «أن» إذا جاء بعد خبرها، ويصح أن يكون الَّذِينَ ابتداء وخبره في قوله هُمُ الْبُشْرى
128
وقوله وَكانُوا يَتَّقُونَ لفظ عام في تقوى الشرك والمعاصي.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
أما بشرى الآخرة فهي بالجنة قولا واحدا وتلك هي الفضل الكبير الذي في قوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧] وأما بشرى الدنيا فتظاهرت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، روى ذلك عن رسول الله ﷺ أبو الدرداء وعمران بن حصين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم على أنه سئل عن ذلك ففسره بالرؤيا، وعن النبي ﷺ في صحيح مسلم أنه قال: «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة»، وروت عنه أم كرز الكعبية أنه قال: «ذهبت النبوءة وبقيت المبشرات»، وقال قتادة والضحاك:
البشرى في الدنيا هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات، ويقوى ذلك بقوله في هذه الآية تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«هي الرؤيا» إلا إن قلنا إن النبي ﷺ أعطى مثالا من البشرى وهي تعم جميع الناس، وقوله تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يريد لا خلف لمواعيده ولا رد في أمره.
قال القاضي أبو محمد: وقد أخذ ذلك عبد الله بن عمر على نحو غير هذا وجعل التبديل المنفي في الألفاظ وذلك أنه روي: أن الحجّاج بن يوسف خطب فأطال خطبته حتى قال: إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله، فقال له عبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
، فقال له الحجاج: لقد أعطيت علما فلما انصرف إليه في خاصته سكت عنه، وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجّاج، ذكره البخاري، وقوله لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
إشارة إلى النعيم الذي به وقعت البشرى. وقوله: وَلا يَحْزُنْكَ، الآية. هذه آية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، المعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم، أي قول كفار قريش، ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك، ثم ابتدأ بوجوب إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، أي فهم لا يقدرون على شيء ولا يؤذونه إلا بما شاء الله وهو القادر على عقابهم لا يعازه شيء، ففي الآية وعيد لهم، وكسر إِنَّ في الابتداء ولا ارتباط لها بالقول المتقدم لها، وقال ابن قتيبة لا يجوز فتح «إن» في هذا الموضع وهو كفر.
قال القاضي أبو محمد: وقوله هو كفر غلو، وكأن ذلك يخرج على تقدير لأجل أن العزة لله، وقوله:
هُوَ السَّمِيعُ أي لجميع ما يقولونه الْعَلِيمُ بما في نفوسهم من ذلك، وفي ضمن هذه الصفات تهديد، ثم استفتح بقوله أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي بالملك والإحاطة، وغلب من يعقل في قوله مَنْ إذ له ملك الجميع ما فيها ومن فيها، وإذ جاءت العبارة ب «ما» فذلك تغليب للكثرة إذ الأكثر عددا من المخلوقات لا يعقل، ف مَنْ تقع للصنفين بمجموعهما، «وما» كذلك»، ولا تقع لما يعقل إذا تجرد من الصفات والأحوال، ألا ترى لو ذكرت لك قوله في مسألة فأردت أن تسأل عن قائلها أيجوز في كلام العرب أن تقول: ما قائل هذا القول؟ هذا ما يتقلده من يفهم كلام العرب، وقوله وَما يَتَّبِعُ يصح أن تكون ما استفهاما بمعنى التقرير وتوقيف نظر المخاطب، ويعمل يَدْعُونَ في قوله شُرَكاءَ ويصح أن تكون نافية ويعمل يَتَّبِعُ في شُرَكاءَ على معنى أنهم لا يتبعون شركاء حقا، ويكون مفعول يَدْعُونَ محذوفا، وفي هذا الوجه عندي تكلف وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «تدعون» بالتاء وهي قراءة غير متجهة وقوله إِنَّ نافية ويَخْرُصُونَ معناه يحدسون ويخمنون لا يقولون بقياس ولا نظر، وقرأت فرقة «ولا يحزنك» من أحزن، وقرأت فرقة «ولا يحزنك» من حزن.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل، وقوله لِتَسْكُنُوا دال على أن النهار للحركة والتصرف، وكذلك هو في الوجود، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء، وقوله وَالنَّهارَ مُبْصِراً مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم، فمن ذلك قول ذي الرمة: [الطويل]
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها. وإنما ذلك مثل قول الشاعر: [الكامل]
أما النهار ففي قيد وسلسلة والليل في بيت منحوت من الساج
فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار» بالنصب، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه، فذكر طرف من
هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين، وهذا كما في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: ١٧١]. وقوله يَسْمَعُونَ يريد ويعون، والضمير في قالُوا للكفار العرب وذلك قول طائفة منهم: الملائكة بنات الله، والآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول كالنصارى ومن يمكن أن يعتقد ذلك من الكفرة، وسُبْحانَهُ: مصدر معناه تنزيها له وبراءة من ذلك، فسره بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله هُوَ الْغَنِيُّ صفة على الإطلاق أي لا يفتقر إلى شيء من الجهات، و «الولد» جزء مما هو غني عنه، والحق هو قول الله تعالى أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر: ١٥]، وقوله ما فِي السَّماواتِ، أي بالملك والإحاطة والخلق، وإِنْ نافية، و «السلطان» الحجة، وكذلك معناه حيث تكرر من القرآن، ثم وقفهم موبخا بقوله أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، وقوله قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الآية، هذا توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية ولا يبقون في نعمة إذ هذه حال من يصير إلى العذاب وإن نعم في دنياه يسيرا، وقوله: مَتاعٌ مرفوع على خبر ابتداء، أي ذلك متاع أو هو متاع أو على الابتداء بتقدير: لهم متاع، وقوله ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ إلى آخر الآية توعد بحق.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١)
تقدم في الأعراف الكلام على لفظة نُوحٍ و «المقام» وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه، و «المقام» بضم الميم إقامته ساكنا في موضع أو بلد، ولم يقرأ هنا بضم الميم و «تذكيره» : وعظه وزجره، والمعنى: يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه، وقرأ السبعة وجمهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى: «فأجمعوا» من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر: [الكامل] هل أغدون يوما وأمر مجمع ومنه قول الآخر: [الخفيف]
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومنه الحديث ما لم يجمع مكثا ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
ذكر الورود بها فأجمع أمره شوقا وأقبل حينه يتتبع
وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش «فاجمعوا» بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئا إلى شيء، وأَمْرَكُمْ يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ [طه: ٦٠] وكل هؤلاء نصب «الشركاء»، ونصب قوله: شُرَكاءَكُمْ، يحتمل أن يعطف على قوله أَمْرَكُمْ، وهذا على قراءة «فاجمعوا» بالوصل،
وأما من قرأ: «فأجمعوا» بقطع الألف فنصب «الشركاء» بفعل مضمر كأنه قال: وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر: [المتقارب] شراب اللبان وتمر وأقط ومن قول الآخر: [مجزوء الكامل مرفل]
ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا
ومن قول الآخر: [الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا... حتى شأت همالة عيناها
وفي مصحف أبي بن كعب: «فأجمعوا وادعوا شركاءكم»، قال أبو علي: وقد ينتصب «الشركاء» بواو «مع»، كما قالوا جاء البريد والطيالسة، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم» بالرفع عطفا على الضمير في «أجمعوا»، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في أَمْرَكُمْ ناب مناب أنتم المؤكد للضمير، ولطول الكلام أيضا، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا، وقرأت فرقة «وشركائكم» بالخفض على العطف على الضمير في قوله: أَمْرَكُمْ، التقدير وأمر شركائكم، فهو كقول الشاعر [العجّاج] :
أكل امرئ تحسبين امرأ... ونار توقد بالليل نارا
أي وكل نار، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم، وقوله ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، أي ملتبسا مشكلا، ومنه قوله ﷺ في الهلال، «فإن غم عليكم» ومنه قول الراجز:
ولو شهدت الناس إذا تكمّوا... بغمة لو لم تفرج غمّوا
وقوله ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي، وقرأ السدي بن ينعم: «ثم أفضوا» بالفاء وقطع الألف، ومعناه: أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة وجلية، وقوله وَلا تُنْظِرُونِ أي لا تؤخرون والنظرة التأخير.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
المعنى فإن لم تقبلوا على دعوتي وكفرتم بها وتوليتم عنها، و «التولي» أصله في البدن ويستعمل في
الإعراض عن المعاني، يقول: فأنا لم أسألكم أجرا على ذلك ولا مالا، فيقع منكم قطع بي وتقصير بإرادتي، وإنما أجري على الذي بعثني، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه: «أجري» بسكون الياء، وقرأ «أجري» بفتح الياء الأعرج وطلحة بن مصرف وعيسى وأبو عمرو، وقال أبو حاتم: هما لغتان، والقراءة بالإسكان في كل القرآن، ثم أخبرهم بأن الله أمره بالإسلام والدين الحنيفي الذي هو توحيد الله والعمل بطاعته والإعداد للقائه، وقوله فَكَذَّبُوهُ الآية، إخبار من الله عز وجل عن حال قوم نوح المكذبين له، وفي ضمن ذلك الإخبار توعد للكفار بمحمد ﷺ وضرب المثال لهم، أي أنتم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكونون بحالهم من النقمة والتعذيب، والْفُلْكِ: السفينة، والمفسرون وأهل الآثار مجمعون على أن سفينة نوح كانت واحدة، والْفُلْكِ لفظ الواحد منه ولفظ الجمع مستو وليس به وقد مضى شرح هذا في الأعراف، وخَلائِفَ حمع خليفة، وقوله فَانْظُرْ مخاطبة للنبي ﷺ يشاركه في معناها جميع الخلق، وفي هذه الآية أنه أغرق جميع من كذب بآيات الله التي جاء بها نوح، وهي مقتضية أيضا أنه أنذرهم فكانوا منذرين، فلو كانوا جميع أهل الأرض كما قال بعض الناس لاستوى نوح ومحمد ﷺ في البعث إلى أهل الأرض، ويرد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» الحديث. ويترجح بهذا النظر أن بعثة نوح والغرق إنما كان في أهل صقع لا في أهل جميع الأرض.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
الضمير في قوله مِنْ بَعْدِهِ عائد على نوح عليه السلام والضمير في قَوْمِهِمْ عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم، و «البينات» المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله كانُوا وفي لِيُؤْمِنُوا عائد على قوم الرسل، والضمير في كانُوا عائد على قوم نوح، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم: بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام مِنْ قَبْلُ، معناه من قبل العذاب.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جراه، ويؤيد هذا التأويل قوله كَذلِكَ نَطْبَعُ، وقال بعض العلماء: عقوبة التكذيب الطبع على القلوب، وقرأ جمهور الناس: «نطبع» بالنون، وقرأ العباس بن الفضل: «يطبع» بالياء، وقوله كَذلِكَ أي هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ كَذلِكَ نَطْبَعُ أي كفعلنا هذا والْمُعْتَدِينَ هم الذين تجاوزوا طورهم
واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي هاهنا في الكفر، والضمير في بَعْدِهِمْ عائد على الرسل، والضمير في مَلَائِهِ عائد على فِرْعَوْنَ، والملأ: الجماعة من قبيلة وأهل مدينة، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ، أي هم يقومون مقام الملأ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله ﷺ في قريش بدر: «أولئك الملأ»، وكذلك هي في قوله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ [القصص: ٢٠]. وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف وقد مضى في المص [الأعراف: ١]، ذكر ما بعث إليهم فيه، و «الآيات» : البراهين والمعجزات وما في معناها، وقوله فَاسْتَكْبَرُوا أي تعظموا وكفروا بها، ومُجْرِمِينَ معناه: يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
يريد ب الْحَقُّ آيتي العصا واليد، ويدل على ذلك قولهم عندهما: هذا سحر ولم يقولوا ذلك إلا عندهما ولا تعاطوا إلا مقاومة العصا فهي معجزة موسى عليه السلام التي وقع فيها عجز المعارض، وقرأ جمهور الناس: «لسحر مبين»، وقرأ سعيد بن جبير والأعمش: «لساحر مبين»، ثم حكي عن موسى أنه وقفهم ووبخهم بقوله أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ، ثم اختلف المتأولون في قوله أَسِحْرٌ هذا فقالت فرقة: هو حكاية من موسى عنهم على معنى أن قولهم كان أَسِحْرٌ هذا، ثم اختلف في معنى قول قوم فرعون: أَسِحْرٌ هذا فقال بعضهم: قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر، فهو يسأل عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يضعفه ما ذكر الله قبل عنهم من أنهم صمموا على أنه سحر بقولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، وقال بعضهم بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم كما تقول لفرس تراه يجيد الجري: أفرس هذا؟ على معنى التعجب منه والاستغراب وأنت قد علمت أنه فرس، وقالت فرقة غير هاتين: ليس ذلك حكاية من موسى عنهم بل القول الذي حكاه عنهم مقدر تقديره أتقولون للحق لما جاءكم سحر.
قال القاضي أبو محمد: أو نحو هذا من التقدير، ثم ابتدأ يوقفهم بقوله: أَسِحْرٌ هذا على جهة التوبيخ، ثم أخبرهم عن الله تعالى أن الساحرين لا يفلحون ولا يظفرون ببغية، ومثل هذا التقدير المحذوف على هذا التأويل موجود في كلام العرب، ومنه قول ذي الرمة:
فلما لبسن الليل أو حين نصّبت له من خذا آذانها وهو جانح
يريد أو حين قاربن ذلك، ومنه قول الله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ
[الإسراء: ٧] المعنى بعثناهم ليسوءوا، ومثل هذا كثير شائع، وقوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا الآية، المعنى قال قوم فرعون لموسى: أجئتنا لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا، يقال لفت الرجل عن الآخر إذا لواه، ومنه قولهم: التفت فإنه افتعل من لفت عنقه، ومنه قول رؤبة: [الرجز] لفتا وتهزيعا سواء اللفت وقرأ السبعة سوى أبي عمرو فإنه اختلف عنه «وتكون» بالتاء من فوق وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما زعم خارجة وإسماعيل، «ويكون» بالياء من تحت ورويت عن أبي عمرو وعن عاصم وهي قراءة ابن مسعود، والْكِبْرِياءُ: مصدر مبالغ من الكبر، والمراد به في هذا الموضع الملك، وكذلك قال فيه مجاهد والضحاك وأكثر المتأولين، لأنه أعظم تكبر الدنيا، ومنه قول الشاعر [ابن الرقاع] :
[الخفيف]
مؤددا غير فاحش لا تداني هـ تجبارة ولا كبرياء
وقوله بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
يخبر أن فرعون قال لخدمته ومتصرفيه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ، هذه قراءة جمهور الناس، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب وعيسى «بكل سحار» على المبالغة، قال أبو حاتم: لسنا نقرأ «سحار» إلا في سورة الشعراء، فروي أنهم أتوه بسحرة الفرما وغيرها من بلاد مصر حسبما قد ذكر قبل في غير هذه الآية، فلما ورد السحرة باستعدادهم للمعارضة خيّروا موسى كما ذكر في غير هذه الآية، فقال لهم عن أمر الله: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، وقوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا الآية، المعنى فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وخيلوا بها وظنوا أنهم قد ظهروا قال لهم موسى هذه المقالة، وقرأ السبعة سوى أبي عمرو السِّحْرُ وهي قراءة جمهور الناس، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع بِهِ السِّحْرُ بألف الاستفهام ممدودة قبل السِّحْرُ.
فأما من قرأ السِّحْرُ بغير ألف استفهام قبله ف ما في موضع رفع على الابتداء وهي بمعنى الذي وصلتها قوله جِئْتُمْ بِهِ والعائد الضمير في بِهِ، وخبرها السِّحْرُ، ويؤيد هذه القراءة والتأويل أن في مصحف ابن مسعود «ما جئتم به سحر»، وكذلك قرأها الأعمش وهي قراءة أبي بن كعب، «ما أتيتم به سحر»، والتعريف هنا في السحر أرتب لأنه قد تقدم منكرا في قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ [يونس: ٧٦] فجاء هنا بلام العهد كما يقال في أول الرسالة، سلام عليك وفي آخرها والسلام عليك، ويجوز أن تكون ما
استفهاما في موضع رفع بالابتداء وجِئْتُمْ بِهِ الخبر والسِّحْرُ خبر ابتداء مضمر تقديره هو السحر إن الله سيبطله، ووجه استفهامه هذا هو التقرير والتوبيخ، ويجوز أن تكون ما في موضع نصب على معنى أي شيء جئتم والسِّحْرُ مرفوع على خبر الابتداء تقدير الكلام أي شيء جئتم به هو السحر، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، وأما من قرأ الاستفهام والمد قبل السِّحْرُ ف ما استفهام رفع بالابتداء وجِئْتُمْ بِهِ الخبر، وهذا على جهة التقرير، وقوله: السِّحْرُ استفهام أيضا كذلك، وهو بدل من الاستفهام الأول، ويجوز أن تكون ما في موضع نصب بمضمر تفسيره جِئْتُمْ بِهِ تقديره أي شيء جئتم به السحر، وقوله إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إيجاب عن عدة من الله تعالى، وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، يصح أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويصح أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى، وقوله وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ الآية، يحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون من إخبار الله عز وجل، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري، وأما قوله بِكَلِماتِهِ فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك، قال ابن سلام بِكَلِماتِهِ بقوله: لا تخف، ومعنى وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ وإن كره المجرمون والمجرم: المجترم الراكب للخطر.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
المعنى فما صدق موسى، ولفظة آمَنَ تتعدى بالباء، وتتعدى باللام وفي ضمن المعنى الباء، واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في قَوْمِهِ فقالت فرقة: هو عائد على موسى، وقالت فرقة هو عائد على فِرْعَوْنَ، فمن قال إن العود على موسى قال معنى الآية وصف حال موسى في أول مبعثه أنه لم يؤمن به إلا فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل، فالضمير في «الملأ» عائد على «الذرية» وتكون الفاء على هذا التأويل عاطفة جملة على جملة لا مرتبة، وقال بعض القائلين بعود الضمير على موسى: إن معنى الآية أن قوما أدركهم موسى ولم يؤمنوا به وإنما آمن ذريتهم بعد هلاكهم لطول الزمان، قاله مجاهد والأعمش، وهذا قول غير واضح، وإذا آمن قوم بعد موت آبائهم فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية، وأيضا فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، وهيئة قوله فَما آمَنَ يعطي تقليل المؤمنين به لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض ولو كان الأكثر مؤمنا لأوجب الإيمان أولا ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية إنه القليل لا أنه أراد أن لفظة الذرية هي بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره، وقالت فرقة إنما سماهم ذرية لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط، فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء وهم الفرس المنتقلون مع وهرز
136
بسعاية سيف بن ذي يزن، والأمر بكماله في السير، وقال السدي كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون.
قال القاضي أبو محمد: ومما يضعف عود الضمير على «موسى» أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما قد تقدمت فيهم النبوات وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبيا، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه واتبعوه ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على «فرعون» ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم، ثم قال فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ من قوم فرعون الذين هذه أقوالهم، وروي في ذلك أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه، قاله ابن عباس، والسحرة أيضا فإنهم معدودون في قوم فرعون وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني، التي عطفت، ويعود الضمير في مَلَائِهِمْ على «الذرية»، ولاعتقاد الفراء وغيره عود الضمير على موسى تخبطوا في عود الضمير في مَلَائِهِمْ، فقال بعضهم: ذكر فرعون وهو الملك يتضمن الجماعة والجنود، كما تقول جاء الخليفة وسافر الملك وأنت تريد جيوشه معه، وقال الفراء: المعنى على خوف من آل فرعون وملئهم وهو من باب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢].
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنظير غير جيد لأن إسقاط المضاف في قوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] هو سائغ بسبب ما يعقل من أن «اسأل القرية» لا تسأل، ففي الظاهر دليل على ما أضمر، وأما هاهنا فالخوف من فرعون متمكن لا يحتاج معه إلى إضمار، إما أنه ربما احتج أن الضمير المجموع في مَلَائِهِمْ يقتضي ذلك والخوف إنما يكون من الأفعال والأحداث التي للجثة ولكن لكثرة استعماله ولقصد الإيجاز أضيف إلى الأشخاص، وقوله أَنْ يَفْتِنَهُمْ بدل من فِرْعَوْنَ وهو بدل الاشتمال، ف أَنْ في موضع خفض، ويصح أن تكون في موضع نصب على المفعول من أجله، وقرأ الحسن والجراح، ونبيح «أن يفتنهم» بضم الياء، ثم أخبر عن فرعون بالعلو في الأرض والإسراف في الأفعال والقتل والدعاوى ليتبين عذر الخائفين، وقوله تعالى: وَقالَ مُوسى - إلى- الْكافِرِينَ، ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل المؤمنين منهم مؤنسا لهم ونادبا إلى التوكل على الله الذي بيده النصر ومسألة التوكل متشعبة للناس فيها خوضات، والذي أقول: إن التوكل الذي أمرنا له هو مقترن بتسبب جميل على مقتضى الشرع، وهو الذي في قوله ﷺ «قيدها وتوكل» فقد جعله متوكلا مع التقييد، والنبي ﷺ رأس المتوكلين وقد تسبب عمره كله، وكذلك السلف كله، فإن شذ متوكل فترك التسبب جملة فهي رتبة رفيعة ما لم يسرف بها إلى حد قتل نفسه وإهلاكها، كمن يدخل غارا خفيا يتوكل فيه فهذا ونحوه مكروه عند جماعة من العلماء، وما روي من إقدام عامر بن قيس على الأسد ونحو ذلك كله ضعيف، وللصحيح منه قرائن تسهله، وللمسلمين أجمعين قال الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: ١٩٨]، ولهم قال وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: ٢] ليس فيه أنهم يتركون التسبب جملة واحدة ولا حفظ عن عكاشة أنه ترك التسبب بل كان يغزو ويأخذ سهمه، وأعني بذلك ترك التسبب في الغذاء، وأما ترك التسبب في الطب فسهل وكثير من الناس جبل عليه دون نية وحسبة، فكيف
137
بمن يحتسب، وقال لهم: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ مع علمه بإيمانهم على جهة إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة كما تقول، إن كنت رجلا فقاتل، تخاطب بذلك رجلا تريد إقامة نفسه، وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ، يريد أهل طاعة منضافة إلى الإيمان المشروط، فذكر الإسلام فيه زيادة معنى، ثم ذكر أنه أجاب بنو إسرائيل بنية التوكل على الله والنطق بذلك، ثم دعوا في أن لا يجعلهم فتنة للظلمة، والمعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة مجاورتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أن إهلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق، قاله مجاهد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين، أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون، والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق، وفي ذلك فساد الأرض، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «ليس الميت أبو امامة اليهود والمشركين يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه»، ويحتمل اللفظ من التأويل وقد قالته فرقة: إن المعنى لا تفتنهم وتبتلهم بقتلنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة وفي هذا التأويل قلق، وباقي الآية بيّن.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، قال مجاهد: «مصر» في هذه الآية الإسكندرية، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر، وتَبَوَّءا معناه كما قلنا تخيرا واتخذا، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا
وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرئ القيس: [الكامل]
يتبوأون مقاعدا لقتالكم كليوث غاب ليلهن زئير
وقرأ الناس «تبوّآ» بهمزة على تقدير تبوعا، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا» وهذا تسهيل ليس بقياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، قوله قِبْلَةً ومعناه مساجد، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم، قالوا: خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل يقابل بعضها بعضا، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة، قاله ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي
138
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة»، وقوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر، وقوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أمر لموسى عليه السلام، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متمكن، وقوله تعالى وَقالَ مُوسى الآية، غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها، وآتَيْتَ معناه أعطيت وملكت، وتكرر قوله رَبَّنا استغاثة كما يقول الداعي بالله، وقوله لِيُضِلُّوا يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجا فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كما قال فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا، وروي عن الحسن أنه قال: هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك، وفي هذا تقرير الشنعة عليهم.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة: «ليضلوا» بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه، «ليضلوا» بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم، وقرأ الشعبي «ليضلوا» بكسر الياء، وقرأ الشعبي أيضا وغيره «اطمس» بضم الميم، وقرأت فرقة «اطمس» بكسر الميم وهما لغتان، وطمس يطمس ويطمس، قال أبو حاتم: وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه، ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط]
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد، وقال مجاهد وغيره، معناه أهلكها ودمرها، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع، وقوله اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بمعنى اطبع واختم عليهم بالكفر، قاله مجاهد والضحاك، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله ﷺ بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦]. وقوله فَلا يُؤْمِنُوا مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفا على قوله لِيُضِلُّوا، وقيل هو منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر [الأعشى] :[الطويل]
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلّا وأنفك راغم
وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه، قال ابن عباس:
الْعَذابَ هنا الغرق، وقرأ الناس «دعوتكما»، وقرأ السدي والضحاك «دعواتكما»، وروي عن ابن جريح ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة. وحينئذ كان الغرق.
قال القاضي أبو محمد: وأعلما أن دعاءهما صادق مقدورا، وهذا معنى إجابة الدعاء، وقيل لهما
139
لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له، وقوله دَعْوَتُكُما ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى، وروي أن هارون كان يؤمّن على دعاء موسى، قاله محمد بن كعب القرظي، نسب الدعوة إليهما، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال «قفا نبكي» ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء، قال علي بن سليمان قول موسى: رَبَّنا دال على أنهما دعوا معا، وقوله فَاسْتَقِيما أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله، وأمرا بالاستقامة وهما عليها للإدامة والتمادي، وقرأ نافع والناس، «تتّبعانّ» بشد التاء والنون على النهي، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان «تتبعانّ» بتخفيف التاء وشد النون، وقرأ ابن ذكوان أيضا: «تتّبعانِ» بشد التاء وتخفيف النون وكسرها، وقرأت فرقة «تتبعان» بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبرا معناه الأمر، أي لا ينبغي أن تتبعا، قال أبو علي: إن شئت جعلته حالا من استقيما كأنه قال غير متبعين.
قال القاضي أبو محمد: والعطف يمانع في هذا فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
قرأ الحسن بن أبي الحسن «وجوّزنا» بشد الواو، وطرح الألف، ويشبه عندي أن يكون «جاوزنا» كتب في بعض المصاحف بغير ألف، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف، وقرأ جمهور الناس «فأتبعهم» لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد، وقرأ قتادة والحسن «فاتّبعهم» بشد التاء، قال أبو حاتم: القراءة «أتبع» بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك، و «اتّبع» بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب قد استقر أولا بمصر في نيف على السبعين ألفا من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل، وروي أقل من هذه الأعداد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني إسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة عَدْواً على مثال غزا غزا، وقرأ الحسن وقتادة «غزوا» على مثال علا علوا، وقوله أَدْرَكَهُ
140
الْغَرَقُ
أي في البحر، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر، وبعث الله ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر، فانطبق عليهم حينئذ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية، وقرأ جمهور الناس «أنه» بفتح الألف، ويحتمل أن تكون في موضع نصب، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «إنه» بكسر الألف، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه، وإما على أن يتم الكلام في قوله آمَنْتُ ثم يبتدىء إيجاب «إنه»، وروي عن النبي ﷺ «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحدا قط بغضي لفرعون، ولقد سمعته يقول آمَنْتُ الآية، فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله» وفي بعض الطرق:
«مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة».
قال القاضي أبو محمد: فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه، «أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم»، والحال الطين، كذا في الغريب المصنف وغيره، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة، وقوله تعالى آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ الآية، قال أبو علي:
اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين: أحدهما أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيه فيقال الحمر وقد حكى ذلك سيبويه، وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناسا يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل فمن ذلك قول الشاعر:
[الطويل]
وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة فبح لان منها بالذي أنت بائح
قرأ نافع في رواية ورش لم يختلف عنه «الآن» بمد الهمزة وفتح اللام، وقرأ الباقون بمد الهمزة وسكون اللام وهمز الثانية، وقرأت فرقة «الان» بقصر الهمزة وفتح اللام وتخفيف الثانية وقرأ جمهور الناس «ألأن» بقصر الأولى وسكون اللام وهمز الثانية.
قال القاضي أبو محمد: وقراءات التخفيف في الهمزة تترتب على ما قال أبو علي فتأمله، فإن الأولى على لغة من يقول الحمر، وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه، وهذا اللفظ يحتمل أن يكون مسموعا لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين، وقوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ الآية، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد فرقه، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتا كأنه ثور أحمر، وتحققوا غرقه، وقرأت فرقة «فاليوم
141
ننجيك» وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء، وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ومنه قول أوس بن حجر: [البسيط]
فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقرأ يعقوب «ننجيك» بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ أبي بن كعب «ننحّيك» بالحاء المشددة من التنحية، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي، وقالت فرقة: معنى بِبَدَنِكَ بدرعك، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة «بندائك» أي بقولك آمَنْتُ إلخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنّا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، وقرأت فرقة هي الجمهور «خلفك» أي من أتى بعدك، وقرأت فرقة «خلقك» المعنى يجعلك الله آية له في عباده، ثم بيّن عز وجل العظة لعباده بقوله وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ وهذا خبر في ضمنه توعد.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل، ومُبَوَّأَ صِدْقٍ أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله، ويعني بهذه الآية: إحلالهم بلاد الشام وبيت المقدس، قاله قتادة وابن زيد، وقيل: بلاد مصر والشام، قاله الضحاك، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر، على أن القرآن كذلك وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ٥٩] يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك، وقد يحتمل أن يكون أَوْرَثْناها [الشعراء: ٥٩] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد، وقوله فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين، وهذا التأويل يحتاج إلى سند، والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه يَقْضِي بَيْنَهُمْ ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم، وقوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الآية، قال بعض المتأولين وروي ذلك عن الحسن: أن «إن» نافية بمعنى ما والجمهور على أن «إن» شرطية، والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي ﷺ والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك
أو يعارض، وقال قوم: الكلام بمنزلة قولك إن كنت ابني فبرّني.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا المثال بجيد وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى «أأنت قلت للناس اتخذوني». وروي أن رجلا سأل ابن عباس عما يحيك في الصدر من الشك فقال ما نجا من ذلك أحد ولا النبي ﷺ حتى أنزل عليه فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الزهراوي أن هذه المقالة أنكرت أن يقولها ابن عباس وبذلك أقول، لأن الخواطر لا ينجو منها أحد وهي خلاف الشك الذي يحال فيه عليه الاستشفاء بالسؤال، والَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ هم من أسلم من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، وروي أن رسول الله ﷺ قال لما نزلت هذه الآية: «أنا لا أشك ولا أسأل». وقرأ «فسل» دون همز الحسن وأبو جعفر وأهل المدينة وأبو عمرو وعيسى وعاصم، وقرأ جمهور عظيم بالهمز، ثم جزم الله الخبر بقوله لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، واللام في لَقَدْ لام قسم، والمُمْتَرِينَ معناه الشاكين الذين يحتاجون في اعتقادهم إلى المماراة فيها، وقوله مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يريد به من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه، وهذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الذي يشبه أن ترتجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب، ويحتمل اللفظ أن يريد بما أنزلنا جميع الشرع ولكنه بعيد بالمعنى لأن ذلك لا يعرف ويزول الشك فيه إلا بأدلة العقل لا بالسماع من مؤمني بني إسرائيل، وقوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الآية، مما خوطب به النبي ﷺ والمراد سواه.
قال القاضي أبو محمد: ولهذا فائد، ليس في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله ﷺ يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
جاء في هذا تحذير مردود وإعلام بسوء حال هؤلاء المحتوم عليهم، والمعنى أن الله أوجب لهم سخطه في الأزل وخلقهم لعذابه فلا يؤمنون، ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمان، كما صنع فرعون وأشباهه من الخلق وذلك وقت المعاينة، وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله، وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وأبو رجاء «كلمة» بالإفراد، وقرأ نافع وأهل المدينة «كلمات» بالجمع، وقد تقدم ذكر هذه الترجمة، وقوله فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ الآية، في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا» والمعنى فيهما واحد، وأصل «لولا»
في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه، وقد تجيء «لولا»، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير: [الطويل] لولا الكمي المقنعا وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب: لولا تحرزت، وهذه الآية من هذا القبيل.
قال القاضي أبو محمد: ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعا في هذه الحالة، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله إِلَّا قَوْمَ هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة:
إلا الأواري وذلك هو حكم لفظ الآية، وقالت فرقة: يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء، وقال المهدوي:
والرفع على البدل من قَرْيَةٌ، وروي في قصة قوم يونس: أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه: أن أنذرهم بالعذاب لثلاثة، ففعل فقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل، وروي عن علي ميل، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضبا كما ذكر الله في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش «يونس» بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في «يوسف»، وقوله: إِلى حِينٍ، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي ﷺ حين قال له إنه من أهل نينوى، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث، الذي في السيرة لابن إسحاق.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنا، فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك فالأمر محتوم، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا التأويل الآية عليه محكمة، أي ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة وقالت فرقة: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان، وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة، وقوله تعالى: كُلُّهُمْ جَمِيعاً تأكيد وهو من فصيح الكلام، وجَمِيعاً حال مؤكدة، ونحوه قوله لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: ٥١]، وقوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الآية، رد إلى الله تعالى وإلى أن الحول والقوة لله، في إيمان من يؤمن وكون الرجس على الكفار، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «ونجعل الرجس» بنون العظمة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: «ويجعل» بالياء وقرأ الأعمش: «ويجعل الله الرجس»، والرِّجْسَ يكون بمعنى العذاب كالرجز، ويكون بمعنى القذر والنجاسة ذكره أبو علي هنا وغيره وهو في هذه الآية بمعنى العذاب، ولا يَعْقِلُونَ يريد آيات الله وحجج الشرع. ومعنى «الإذن» في هذه الآية الإرادة والتقدير لذلك، فهو العلم والتمكين، وقوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع وغير ذلك من آيات السماوات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب فهو ينهاكم إلى المعرفة بالله والإيمان بوحدانيته، وقرأ أبو عبد الرحمن والعامة بالبصرة، «قل انظروا» بكسر اللام، وقرأ نافع وأهل المدينة: قل انظروا» بضم اللام، ثم أعلم في آخر الآية أن النظر في الآيات والسماع من النذر وهم الأنبياء لا يغني إلا بمشيئة الله، وأن ذلك غير نافع لقوم قد قضى الله أنهم لا يؤمنون، وهذا على أن تكون ما نافية، ويجوز أن يعد استفهاما على جهة التقرير الذي في ضمنه نفي وقوع الغناء، وفي الآية على هذا توبيخ لحاضري رسول الله ﷺ من المشركين، وقوله:
الْآياتُ وَالنُّذُرُ، حصر طريقي تعريف الله تعالى عباده، ويحتمل أن تكون ما في قوله: وَما تُغْنِي، مفعولة بقوله انْظُرُوا معطوفة على قوله: ماذا، أي تأملوا قدر غناء الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإنه يرفع بالعذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات، فالآية على هذا تحريض على الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وتجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو في قوله لا يُؤْمِنُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)
هذا وعيد وحض على الإيمان، أي إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية، فهل عند هؤلاء غير ذلك. وهو استفهام بمعنى التوقيف، وفي قوله قُلْ فَانْتَظِرُوا مهادنة ما، وهي من جملة ما نسخه القتال، وقوله نُنَجِّي رُسُلَنا الآية، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم، فالتخويف على هذا أشد، وكلهم قرأ «ننجي» مشددة الجيم إلا الكسائي وحفصا عن عاصم فإنهما قرآ «ننجي» بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ عاصم في سورة الأنبياء في بعض ما روي عنه «نجي» بضم النون وحذف الثانية وشد الجيم، كأن النون أدغمت فيها، وهي قراءة لا وجه لها، ذكر ذلك الزجاج. وحكى أبو حاتم نحوها عن الأعمش، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج» بجيم مطلقة دون ياء وكذلك قرأ الكسائي في سورة مريم ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: ٧٢] بسكون النون وتخفيف الجيم، والباقون بفتح النون وشد الجيم، والكاف في قوله كَذلِكَ يصح أن تكون في موضع رفع، ويصح أن تكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف، وقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز، والمعنى إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٧]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
المعنى: قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك للدين، ثم جاءت العبارة بهذا الترتيب، و «الوجه» في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد، أي اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع، وحَنِيفاً معناه:
مستقيما على قول من قال، الحنف الاستقامة، وجعل تسمية المعوج القدم أحنف على جهة التفاؤل. ومن قال الحنف الميل جعل حَنِيفاً هاهنا مائلا عن حال الكفرة وطريقهم، وحَنِيفاً نصب على الحال،
وقوله وَلا تَدْعُ معناه قيل لي: وَلا تَدْعُ فهو عطف على أَقِمْ، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي ﷺ إذا كانت هكذا فأحرى أن يتحرز من ذلك غيره، وما لا ينفع ولا يضر هو الأصنام والأوثان، والظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقوله وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الآية، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم، و «الضر» لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان كان ذلك في ماله أو في بدنه، وهذه الآية مظهرة فساد حال الأصنام، لكن كل مميز أدنى ميز يعرف يقينا أنها لا تكشف ضرّا ولا تجلب نفعا. وقوله وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ لفظ تام العموم، وخصص النبي ﷺ الفقه بالذكر في قوله «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وهو على جهة التشريف للفقه، وقوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترجية وبسط ووعد ما.
قوله عز وجل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
هذه مخاطبة لجميع الكفار مستمرة مدى الدهر، والْحَقُّ هو القرآن والشرع الذي جاء به محمد، فَمَنِ اهْتَدى، أي اتبع الحق وتدين به فإنما يسعى لنفسه لأنه يوجب لها رحمة الله، ويدفع عذابه، وَمَنْ ضَلَّ أي حاد عن طريق الحق ولم ينظر بعين الحقيقة وكفر بالله عز وجل فيضل ذلك، وقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، أي لست بآخذكم ولا بد بالإيمان وإنما أنا مبلغ، وهذه الآية منسوخة بالقتال، وقوله وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ الآية معناه: اتبع ما رسمه لك شرعك وما أعلمك الله به من نصرته لك، وَاصْبِرْ على شقاء الرسالة وما ينالك في الله من الأذى، وقوله حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وعد للنبي ﷺ بأن يغلبهم- كما وقع- تقتضيه قوة اللفظ، وهذا الصبر منسوخ بالقتال، وهذه السورة مكية وقد تقدم ذكر هذا في أولها.
Icon