ﰡ
وأحكت صفة له. ومعنى الاحكام: نظمه نظماً رصيفاً لا نقص فيه ولا خلل. والهمزة في " أحكمت " للنقل وأصله حكم فهو حكيم، ثم أدخلت عليه همزة النقل فصار يتعدى لواحد ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والاحكام والمواعظ والبعث بعد الموت والقصص. أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بيّن. ولخص من لدن، تقدم الكلام عليه في آل عمران حكيم بمعنى محكم وهي صفة راجعة لقوله: أحكمت خبير عالم بخفايا الأشياء راجع لقوله: ثم فصلت، وكان العطف بثم لتراخي أوامر التفصيل ونواهيه عن المنزل بالاحكام. ومن لدن يتعلق بأحد الفعلين من باب الاعمال، ومن حيث المعنى تتعلق بهما. و ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ يحتمل أن يكون حرف ان تفسير، لأن في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر. ويجوز أن تكون ان الناصبة للمضارع ولا نفي، وعلامة النصب حذف النون. ويجوز أن تكون أن مصدرية وصلت بفعل النهي وعلامة الجزم فيه حذف النون. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله تعالى أي انني لكم نذير من جهته وبشير فيكون في موضع الصفة فيعلق بمحذوف، أي كائن من جهته، أو يعلق بنذير، أي أنذركم من عذابه إن كفرتم وأبشركم بثوابه ان آمنتم.﴿ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ ﴾ هذا أمر بالاستغفار يرجح أن يكون ان لا تعبدوا نهياً نهي، ثم أمر كقوله: وقوفاً بها على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجملوالاستغفار: طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة: الانسلاخ من المعاصي والندم على ما سلف منها والعزم على عدم العود إليها. وتقدم أمران بينهما تراخ وترتب عليهما جواباً بينهما تراخ ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا. وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة وناسب كل جواب لما وقع جواباً له لأن الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله تعالى فناسب ان يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والضمير في " فضله " يحتمل أن يعود على الله، أي يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير وزيادة ما تفضل به عليه تعالى وزيادة. ويحتمل أن يعود على كل، أي جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيئاً. والظاهر ان تولوا مضارع حذف منه التاء أي وإن تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين. والتقدير فقل لهم: إني أخاف عليكم. ووصف يوم بكبير، وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال.﴿ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي إلى جزائه.﴿ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي يوم القيامة.﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر. وقيل غير ذلك.﴿ لِيَسْتَخْفُواْ ﴾ أي من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على أزورارهم. والضمير في منه عائد على الله تعالى، والذي يظهر من أسباب النزول أنه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قيل ان هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون ان ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى. فنزلت الآية. فعلى هذا يكون " ليستخفوا " متعلقاً بقوله: يثنون صدورهم. ومعنى يستغشون ثيابهم: يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء: أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماريوانتصب حين بقوله: يعلم. وقال الزمخشري: يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم. وقال أبو البقاء: إلا حين العامل في الظرف محذوف أي إلا حين يستغشون ثيابهم يستخفون. وتقدير الزمخشري وأبي البقاء إضمار لا يحتاج إليه.
﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ ﴾ نهاه تعالى عن ابتئاسه وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتئس: افتعل من البؤس. ويقال: ابتأس الرجل، إذا أبلغه شىء يكرهه. قال الشاعر: وكم من خليل أو حميم رزئته فلم تبتئس والرزء فيه جليل﴿ وَٱصْنَعِ ﴾ عطف على فلا تبتئس.﴿ بِأَعْيُنِنَا ﴾ بمرأى منا وكلاءة وحفظ.﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعه الفلك فأوحى الله تعالى أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.﴿ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ ﴾ الآية، هي حكاية حال ماضية. والفلك: السفينة. قال ابن عباس: الخشب من خشب السمسار وهو البقص قطعة من جبل لبنان وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت. قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي على الماء. فتعجبوا من قوله وسخروا منه وقالوا: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً. وكلما: ظرف. وما: مصدرية ظرفية تقديره وكل وقت مرور سخروا منه. والناصب لكل سخروا.﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ تهديد بالغ. والعذاب المخزي: الغرق، والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد. و ﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ مفعول بتعلمون. ومن موصولة. وتعدي تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. قال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على واحد. " انتهى ". ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً لأن أصله خبر مبتدأ ولا اختصاراً هنا لأنه لا دليل على حذفه. وحتى هنا: غاية لقوله: ويصنع الفلك ويصنع كما قلنا حكاية حال ماضية، أي وكان يصنع الفلك إلى أن جاء الوعد الموعود به. والجملة من قوله: وكلما مر عليه حال كأنه قيل: ويصنعها. والحال أنه كلما مروا وأمرنا واحد الأمور أو مصدر، أي أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإِرسال والملائكة بالتصرف في ذلك وفار معناه انبعث بقوة والتنور وجه الأرض والعرب تسميه تنوراً، قاله ابن عباس. والتنور: مستوقد النار، وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي وليس بمشتق. وقال ثعلب: وزنه مفعول من النور. وأصله تنووُر، فهمزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبله. وقرىء: من كل بالتنوين. فيكون زوجين مفعولاً بقوله: احمل. وقرىء: بغير تنوين على الإِضافة، فيكون اثنين مفعول احمل وأهلك ومن معطوفان على المفعول قبله ولما كان المطر ينزل كأفواه القرب، جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء حتى اجتمعت عند السفينة فأمر الله تعالى أن يجعل فيها من الزوجين اثنين يعني ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وكانت السفينة ثلاث طبقات السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه.﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ قال ابن عباس: ثمانون رجلاً، وعنه ثمانون إنساناً ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاثة كنائن له ولما خرجوا من السفينة بنو قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل.
فالألف واللام في القوم للعهد لو سقط لفظة القوم هنا لحصل لبس في المعنى والمساواة فلفظها مساوٍ لمعناها وحسن النسق لعطف قضايا بعضها على بعض، والإِيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمة والتسهيم، لأن أول الآية يا أرض ابلعي، فاقتضى آخرها ويا سماء اقلعي. والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة وحسن البيان والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها. والتجنيس في قوله: اقلعي وابلعي. والمقابلة في قوله: يا أرض ابلعي ويا سماء اقلعي. والذم في قوله: بعداً للقوم الظالمين. والوصف قصة القصة ووصفها بأحسن وصف بحيث استعمل نعوت ألفاظها وصفات معانيها، فما أعظم إعجازها من آية عدة ألفاظها تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع. والجودي اسم جبل. وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق، وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب. وروي ان إعرابياً سمع هذه الآية فقال هذا كلام القادرين. ومعنى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ ﴾ الآية، أراد أن يناديه ولذلك أدخل الفاء إذ لو أراد حقيقة النداء والاخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال وإلا لسقطت، والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً وذلك أن هذه القصة كانت أولى ما ركب نوح السفينة. ومعنى من أهلي أي الذي أمرت أن أحملهم في السفينة بقوله تعالى:﴿ ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود: ٤٠] ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله تعالى بقوله:﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾[هود: ٤٠] لظنه أنه مؤمن. وعموم قوله: ومن آمن، يشمل المؤمن من أهله ومن غيرهم. وحسَّن الخطاب بقوله: وان وعدك الحق. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال انه ابنه لصلبه، أي الناجين، أو الذين عمّهم الوعد ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة فعلى هذا نفى ما قدر أنه داخل في قوله: وأهلك ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله. بـ ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ والضمير في أنه عائد على ابن نوح. وقرىء: عمل غير صالح منوناً غير رفعاً صفة له فاحتمل قوله: انه أن يكون على حذف مضاف تقديره أيْ انّ عمله عمل غير صالح أو يكون الحذف في عمل تقديره انه ذو عمل غير صالح، أو جعله نفس العمل مبالغة في ذمه. وقرىء: وعمل فعلاً ماضياً وغير منصوب به. ومعنى قوله: ﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإِذا رأيت ولدك لم يحمل فكان عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله تعالى. وعلى هذا القدر وقع عتابه ولذلك جاء بترفق وتلطف في قوله:﴿ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ وان أسألك في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً واتعاظاً بموعظتك.
وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة أو من الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض. والباء للحال أي مصحوباً بسلامة وأمن.﴿ وَبَركَاتٍ ﴾ وهي الخيرات النامية في كل الجهات. والظاهر أن من لابتداء الغاية أي ناشئة من الذين معك وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. ويجوز أن يكون وأمم مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة. والتقدير وأمم منهم، أي ممن معك، أي ناشئة معك. ويجوز أن يكون مبتدأ ولا تقدّر صفة والخبر سنمتعهم في التقديرين ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، ويدل على ان الممتعين تقع منهم معاصي فلذلك قال: ثم يمسهم منا عذاب أليم.﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ ﴾ تلك: الإشارة إلى قصة نوح. وتلك: إشارة للبعيد لأن بين هذه القصة والرسول عليه السلام مُدَداً لا تحصى. ومن أنباء الغيب من: للتبعيض، وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله تعالى. و ﴿ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ ﴾ لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها لتكون لهم مثالاً وتحذيراً ان يجيئهم ويصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ولِلَحْظِ هذا المعنى ظهرت فصاحة. قوله: فاصبر، أي فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن الله تعالى فالعاقبة لك كما كانت لنوح عليه السلام في هذه القصة. ومعنى ما كنت تعلمها أي مفصلة كما سردناها عليك وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإِجمال. والجملة من قوله: ما كنت تعلمها في موضع الحال من مفعول نوحيها أو من مجرور إليك.﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾ الآية، وإلى عاد معطوف على قوله: أرسلنا نوحاً، عطفت الواو المجرور على المجرور والمنصوب على المنصوب.﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾ قال الحسن: في جعلهم الإِلهية لغير الله تعالى.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً ﴾ الآية، قيل: كانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. والظاهر تعلق ﴿ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ بقوله: نجينا أي نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم لا بأعمالهم الصّالحة. وقال الزمخشري: فإِن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: ونجيناهم من عذاب غليظ، على معنى وكانت التنجية من عذاب غليظ. قال: وذلك ان الله تعالى بعث عليهم السَّموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا.﴿ وَتِلْكَ عَادٌ ﴾ إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قيل: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم استأنف الاخبار عنهم فقال: جحدوا بها، أي بآيات ربهم أي أنكروها. وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم فأنكروا آياته، والواجب إقرارهم بها وأصل جحد أن يتعدى بنفسه لكنه أجري مجرى كفر فعدي بالباء كما عدي كفر بنفسه.﴿ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ﴾ قيل: عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله وقيل: ينزل تكذيب الرسل الواحد منزلة تكذيب الرسل لأنهم كلهم مجمعون على الإِيمان بالله والإِقرار وبربوبيته لقوله:﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٥].
﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ ﴾ أي سقَّاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم. والمعنى أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به.﴿ وَأُتْبِعُواْ ﴾ عام في المتبعين والمتبوعين. وانتصب بُعداً على أنه مصدر بمعنى الدعاء كأنه قيل: أبعدهم الله بعداً، ومعناه الدعاء بالهلاك وقوم هود بدل من عاد. وإنما خصهم بالذكر لأن ثم عادا أخرى وهم المشار إليهم بقوله تعالى:﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ ﴾[النجم: ٥٠] وهم عاد آدم.
أو يقال: انها تأمر بالجميل والمعروف، أي تدعو إليه وتبعث عليهم. إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته. والمعنى تأمرك بتكليفنا أن نترك فحذف المضاف لأن الإِنسان لا يؤمر بفعل غيره. والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة.﴿ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ ﴾ ظاهره أنه إخبار منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم.
" انتهى ". هذا التخريج يبنى على جواز وصف فاعل نعم وبئس وفيه خلاف ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود رفدهم أي بئس العون المعان، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطي. " انتهى ". ويظهر من كلامه أن المرفود صفة للرفد وأن المخصوص بالذم محذوف تقديره رفدهم وما ذكره من تفسيره، أي بئس العون المعان هو قول أبي عبيدة، وسمي العذاب رفداً على نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع وقال الكلبي: الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار.
" انتهى ".﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ ﴾ الآية، سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات حيث جاء الخطاب في الأَمر فاستقم كما أمرت وأقم الصلاة موحّداً في الظاهر وان كان المأمور به من حيث المعنى عاماً. وجاء الخطاب في النهي ولا تطغوا ولا تركنوا موجّهاً إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً به أمته فحيث كان الأمر بأفعال الخير توجه الخطاب إليه وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته وهذا من جليل الفصاحة ولا خلاف أن المأمور بإِقامتها هي الصلاة المكتوبة وإقامتها دوامها. وانتصب طرفي النهار على الظرف وطرف الشىء يقتضي أن يكون من الشىء فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار، والزلف مثل المغرب والعشاء. والظاهر أن الإِشارة بقوله: ذلك، إلى أقرب مذكور وهو قوله: أقم الصلاة، أي إقامتها في هذه الأوقات ذكرى، أي سبب عظة. وتذكرة للذاكرين، أي المتعظين.
﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكون أهل ملة واحدة، وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل فاختلفوا.﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ إلا أناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه." انتهى ". وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر لكنه تعالى لم يشأ ذلك.﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فلا يقع منهم اختلاف. والإِشارة بقوله: ﴿ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال الشاعر: إذا أنهى السفيه جرى إليه فعاد الضمير على المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قال: وللاختلاف خلقهم ويكون على حذف مضاف، أي ولثمرة الاختلاف من الشقاء والسعادة خلقهم. وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام أولاً من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. " انتهى ". وهذا على طريقة الاعتزال.﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ أي نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في ﴿ لأَمْلأَنَّ ﴾ هي التي يتلقى بها القسم إذ الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾[آل عمران: ٨١]، ثم قال: لتؤمنن به، والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة وان كان الخبر يقع على الواحد فالجنة جمعه. " انتهى ". فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء وجمعه بالهاء كقول بعض العرب: كم للواحد، وكمأة للجمع.﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ ﴾ مفعول به والعامل فيه نقص، والتنوين عوض عن المحذوف والتقدير وكل نبأ نقص عليك. ومن نبأ الرسل في موضع الصفة لقوله: ولاك، إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة. وما: زائدة كما هي في قوله:﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾[الأعراف: ٣].
﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ قال ابن عباس: ما نسكن به فؤادك وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم السلام، ولاتباعهم المؤمنين، وما لقوا من تكذيبهم من الأذى، ففي هذا كله أسوة بهم إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإِنسان من الأذى، ثم الاعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع العذاب من الغرق والريح والرجفة وخسف وغير ذلك فيه طمأنينة النفس وتأنيس. والإِشارة بقوله: ﴿ فِي هَـٰذِهِ ﴾، إلى أبناء الرسل التي قصها الله تعالى عليه أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق لما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف كما ينقل شيئاً من ذلك المؤرخون.﴿ وَمَوْعِظَةٌ ﴾ أي اتعاظ وازدجار لسامعه.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ لمن آمن إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بهما إلا المؤمن لقوله تعالى:﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الذاريات: ٥٥].
﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، اعملوا صيغة أمر ومعناه التهديد والوعيد. والخطاب لأهل مكة وغيرها.﴿ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي جهتكم وحالتكم التي أنتم عليها.﴿ وَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾ بنا الدوائر.﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.﴿ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، أضاف تعالى علم الغيب بما في السماوات والأرض له توسعاً لا يخفى عليه شىء في أعمالكم، ولاحَظَّ لمخلوق في علم الغيب، فالجملة الأولى: دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليّها وجزئّيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية: دلت على القدرة النافذة والمشيئة. والجملة الثالثة: دلت على الأمر بإِفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب الذي يتحلى بها العبد. والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل وهي أخيرة الرتب لأنه بنور العبادة أبصر أن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها لا يشركه في شىء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شىء منها. والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.