ﰡ
مَكِّيَّةٌ إلا قولَه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ الآية، آيها مئةٌ وثلاثٌ وعشرونَ، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وخمسُ مئةٍ وسبعةٌ وستونَ كسورةِ يونسَ، وكَلِمُها ألفٌ وتسعُ مئةٍ وخمسَ عشرةَ كلمةً.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)﴾.
[١] ﴿الر﴾ تقدَّمَ الكلامُ عليهِ، ومذاهبُ القراءِ فيه في أولِ سورةِ يونس (١).
﴿كِتَابٌ﴾ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هذا كتابٌ، وهو القرآنُ.
﴿أُحْكِمَتْ﴾ نُظِمَتْ ﴿آيَاتُهُ﴾ نَظْمًا مُحْكَمًا لا يلحقُها تناقضٌ ولا خللٌ، وقال ابنُ عباسٍ: أَيْ: لم يُنْسَخْ بكتابٍ كما نُسِخَتِ الكتبُ والشرائعُ بهِ (٢).
﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بُيِّنَتْ بالأحكامِ ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ أي: من عندِه.
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٩٩٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٨٥).
[٢] ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ أي: بألَّا لا تعبدوا ﴿إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ﴾ أي: من الله ﴿نَذِيرٌ﴾ بالعذابِ ﴿وَبَشِيرٌ﴾ بالثوابِ.
...
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ وَحِّدُوهُ، عطفٌ على الأولِ.
﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من الكفر، أي: انسلِخوا منهُ، واندَموا على سالفِهِ.
﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾ يُعَيِّشْكُم في الدنيا ﴿مَتَاعًا حَسَنًا﴾ عَيْشًا طيبًا.
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى المماتِ.
﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ أي: في العملِ؛ أي: زيادةٍ في ﴿فَضْلَهُ﴾ أي: جزاءَ فضلِه.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: تتولَّوا، فحُذفَتْ إحدى التاءين. وقرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ (وَإن تَّوَلَّوا) بتشديدِ التاء (١).
﴿فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ: (فَإِنِّيَ أَخَافُ) (إِنِّيَ أَخَافُ) حيثُ وقعَ بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (٢) ﴿عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ هو يومُ القيامة.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠٠).
[٤] ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ في ذلك اليومِ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من ثوابٍ وعقابٍ، ولا ينفعُ من قضائِه واقيةٌ.
...
﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)﴾.
[٥] ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ يخفونَ ما فيها من العداوةِ، نزلتْ في الأخنسِ بنِ شريقٍ، وكانَ رجلًا حلوَ الكلامِ والمنظرِ، يلقى رسولَ اللهِ - ﷺ - بما يحبُّ، وينطوي بقلبِه على ما يكرهُ (١).
﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾ أي: من الله، قال ابنُ عطية: هذا هو الأفصحُ الأجزلُ في المعنى، وقيل: يمكنُ أن يعودَ الضميرُ على محمدٍ - ﷺ - (٢).
﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ يَتَغَطَّونَ بها، و (حين) توقيتٌ للتغطَي لا للعلمِ ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ في قلوبهم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أفواههم.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ وذواتُ الصدورِ: ما فيها.
...
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: ليسَ دابةٌ، و (من) صِلَةٌ، والدابّةُ:
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ١٥١).
﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ مكانها.
﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ حيثُ كانتْ من قبلُ من صلبٍ أو رَحِم.
﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ أي: مثبتٍ في اللوحِ المحفوظَ قبلَ خَلْقِها.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ والأرجحُ أنها من أيامِ الدنيا، وأجزأَ ذكرهُ السمواتِ والأرضَ عن ذكرِ ما فيها؛ إِذ كلُّ ذلكَ خُلِقَ في تلكَ الستةِ أيامٍ، وتقَّدمَ الكلامُ في ذلك في سورة الأعراف.
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ قبلَ خلق السمواتِ والأرضِ، وكانَ ذلكَ الماءُ على مَتْنِ الريح، ثم بَيَّنَ علَّةَ الخلقِ فقالَ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختَبركم ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ أيُّها المؤمنون وأزهدُ في الدنيا وأتمُّ عقلًا.
﴿وَلَئِنْ قُلْتَ﴾ يا محمدُ ﴿إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ يعنون: القرآن. قرأ حمزةُ، والكسائُّي، وخلفٌ: (سَاحِرٌ) بفتح السين وألفٍ بعدَها وكسرِ الحاءِ، يعني: محمدًا - ﷺ - (١).
[٨] ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾ أي: أجلٍ محدودٍ، وأصلُ الأمةِ: الجماعةُ، فكأنه قال: إلى انقراضِ أمةٍ ومجيِء أخرى.
﴿لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ المعنى: أيُّ شيٍء يمنعُ العذابَ من النزولِ؟ يقولونه استهزاءً.
﴿أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾ كيومِ بدرٍ ﴿لَيْسَ﴾ العذابُ ﴿مَصْرُوفًا﴾ مدفوعًا ﴿عَنْهُمْ وَحَاقَ﴾ وأحاطَ ﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: نزل بهم جزاءَ استهزائهم.
...
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ المرادُ: الجنسُ ﴿مِنَّا رَحْمَةً﴾ نعمةً.
﴿ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ﴾ أَزَلْناها عنه ﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾ شديدُ اليأس أنها لا تعودُ إليه ﴿كَفُورٌ﴾ أَنْعُمَ اللهِ عليه.
...
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ﴾ صحةً وسَعَةً ﴿بَعْدَ ضَرَّاءَ﴾ شدةٍ.
﴿مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ﴾ الإنسانُ ﴿ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ﴾ المصائبُ ﴿عَنِّي﴾ ويتجَبَّرُ.
﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ﴾ بطر.
...
﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ استثناءٌ متصلٌ على ما تقدَّمَ من أن (الإنسانَ) عامٌّ، ويرادُ به الجنسُ.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ هو الجنةُ.
...
﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ يا محمدُ ﴿تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ أي: تاركٌ تبليغَ ما يسوؤهم رجاءَ توبتِهم، وذلكَ أن كفارَ مكةَ لما قالوا: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ [يونس: ١٥] ليس فيه سبُّ آلهتنا، هَمَّ النبيُّ - ﷺ - أن يدعَ سبَّ آلهتهم ظاهرًا، فأنزل اللهُ الآية (٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٩٠).
﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ فأدّ النِّذارَةَ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي: حافظٌ وشهيدٌ.
...
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿أَمْ﴾ بَلْ ﴿يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أي: اختلقَ محمدٌ الموحَى إليه، وهو القرآنُ.
﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ مختلَقاتٍ من عندِ أنفسِكم، قال هنا: عشر، وفي يونسَ: (بسورة)؛ لأن هذه نزلتْ قبلَ تلكَ، لأنهم تُحُدُّوا أولًا بالإتيان بعشر، فلما عَجَزوا، تُحُدُّوا بسورةٍ واحدةٍ، المعنى: إن كان ما جئتُ به مفترًى كما تزعمونَ، فعارضوا بعضَه.
﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ للمعارضةِ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من الكهنةِ والأعوانِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم.
...
﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا﴾ في المعارضة، ولم تتهيأ لهم، خوطب جَمعًا؛ تعظيمًا لقدره، أو الخطابُ له ولأصحابهِ.
...
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ونزل في كلِّ مَنْ عملَ عملًا لغيرِ اللهِ تعالى ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ بإحسانهِ وبرِّهِ.
﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ أي: أُجورَ أعمالِهم في الدنيا؛ بسعةِ الرزقِ، وطيبِ العيش ﴿وَهُم فِيهَا﴾ أي: في الدنيا ﴿لَا يبُخسُونَ﴾ لا يُنْقَصون من حظِّهم.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾ لأنهم استوفَوا ما تَقتضيه صورُ أعمالِهم الحسنةِ، وبقيت لهم أوزارُ العزائمِ السيئةِ.
﴿وَحَبِطَ﴾ بَطَلَ في الآخرةِ ﴿مَا صَنَعُوا فيهَا﴾ أي: في الدنيا.
﴿وَبَاطِلٌ﴾ في نفسِه ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لأنه عمل لغيرِ الله تعالى، واختلِف في المعني بهذه الآية، فقيل: هم أهلُ الرياءِ من المؤمنين، وقيل: هم الكفارُ، قال ابنُ عطيةَ: وهو عندي أرجحُ التأويلاتِ بحسبِ ذكرِ الكفارِ
...
﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ ابتداءٌ، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: أفمَنْ كان على بينةٍ كمَنْ كفرَ باللهِ وكذَّبَ أنبياءه؟ والمرادُ: أن النبيَّ - ﷺ - على بينةٍ؛ أي: برهانٍ وبيانٍ من اللهِ أن دينَ الإسلامِ حَقٌّ.
﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ﴾ أي: يتبع البرهانَ شاهدٌ يشهدُ بصحته، وهو القرآن.
﴿مِنْهُ﴾ أي: من الله تعالى.
﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: قبلَ القرآنِ ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ هو التوراةُ.
﴿إِمَامًا﴾ مُؤْتمًا به ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن تبعَه.
﴿أُولَئِكَ﴾ أي: المؤمنون.
﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ بالنبيِّ - ﷺ -.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ وهم الفِرَقُ من أهلِ مكةَ ومن ضامَّهم من الكفار المتحزِّبين على رسولِ اللهِ - ﷺ -.
﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ مصيرهُ.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فزعمَ أن له ولدًا وشريكًا؟ أي: لا أحدَ أظلمُ منه.
﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: الكاذبينَ ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ في الموقفِ، فيسألُهم عن أعمالهم.
﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾ جمع شاهدٍ، وهم الملائكةُ والنبيونَ ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ بُعْدُهُ وسَخَطُهُ ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الذين وَضعوا العبادةَ في غيرِ موضِعها.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ يمنعونَ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن دينهِ.
﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي: يعدِلون بالناسِ عنها إلى المعاصي والشركِ.
﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ أعادَ لفظَ (هم) تأكيدًا لكفرِهم.
***
[٢٠] ثم قال الأشهادُ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الكاذبون.
﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ فائتينَ اللهَ إذا أرادَ عذابَهم.
﴿فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ ناصرينَ يمنعونهم من عذابِه، ولكن أَخَّرَهم إلى يومِ القيامةِ.
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾ يشدَّدُ حتى يكونَ ضِعْفَي ما كان. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وجعفرٌ، ويعقوبُ: (يُضَعَّفُ) بتشديدِ العينِ مع حذفِ الألف، والباقون: بإثباتِ الألف والتخفيفِ (١).
﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ أي: استماعَ الحقِّ.
﴿وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ محمدًا؛ بُغْضًا له، فـ (ما) نافية.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ غَبَنوا.
﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ باشتراءِ عبادةِ الأوثانِ بعبادةِ اللهِ.
﴿وَضَلَّ﴾ ضاع.
﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من زَعْمِهم أن الآلهةَ تشفعُ لهم.
[٢٢] ﴿لَا جَرَمَ﴾ أي: حقًّا.
﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ أي: متحقِّقٌ خسرانُهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدَّقوا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا﴾ خَشَعوا ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ وأصلُ الإخباتِ: الخضوعُ، من الخَبْتِ، وهي الأرضُ المطمئنَّةُ.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذه الآيةُ في الصحابةِ المؤمنين، والتي قبلَها في المشركين.
...
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم ضربَ للكافرينَ والمؤمنينَ مثلًا فقال: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ مبتدأ، خبُره ﴿كَالْأَعْمَى﴾ أي: كمثلِ الأعمى.
﴿وَالْأَصَمِّ﴾ هذا للكافرينَ ﴿وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ للمؤمنين، شَبَّهَ الكافرَ بالأعمى وبالأصمِّ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ والسميعِ، فهو على تمثيل مثالين، وقال بعضُ المتأولين: التقديرُ: كالأعمى الأصمِّ، والبصيرِ السميعِ، فدخلت واوُ العطف كما تقولُ جاءني: زيدٌ العاقلُ والكريمُ،
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ﴾ أي: الفريقانِ ﴿مَثَلًا﴾ تمييز.
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ تَتَّعظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ،
وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذْكُرونَ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديدِ (٢).
...
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: (إنِّي) بكسرِ الهمزة؛ أي: فقال: إني؛ لأن في الإرسالِ معنى القولِ، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة؛ أي: بـ (أني) (٣)، والنذرُ والمنذِرُ هو المحذِّرُ.
...
﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ هو يومُ القيامةِ، وُصِفَ بذلك؛ لأن العذابَ يكونُ فيه، وتقدمَ ذكرُ الاختلافِ في عمرِه حينَ بعثَهُ اللهُ إلى قومِه في سورة الأعرافِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٥٩]، ولبثَ يدعو قومَه تسعَ مئةٍ وخمسينَ
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠٥ - ١٠٦).
...
﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ والملأُ: هم الأشرافُ والرؤساءُ ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا﴾ آدمِيًّا ﴿مِثْلَنَا﴾ لا مَزِيَّةَ لكَ علينا.
﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ الناقصونَ الأقدارِ فينا.
﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ قرأ أبو عمروٍ: (بَادِئ) بالهمزة؛ أي: أولَ الرأي، يريدون: أنهم اتبعوكَ في أولِ الرأيِ من غيرِ رؤيةٍ وتفكُّرٍ، ولو تفكَّروا ما اتّبَعوكَ، وقرأ الباقونَ: بياءٍ مفتوحةٍ بغيرِ همزٍ (١)؛ أي: ظاهرَ الرأي، معناه: اتبعوك ظاهرًا من غيرِ أن يتدَبَّروا ويتفكروا باطِنًا، ونصبُه على القراءتين ظرفٌ.
﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ﴾ لكَ ولمتبعيكَ ﴿عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ أي: زيادةِ شرفٍ علينا نؤهِّلُكم بها للنبوةِ ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ الخطابُ لنوحٍ ولمن آمَن به.
...
[٢٨] ﴿قَالَ﴾ نوحٌ ﴿يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾ أَخْبِروني.
﴿إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ حُجَّةٍ ﴿مِنْ رَبِّي﴾ شاهدةٍ بصحةِ دَعْواي.
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾ أي: النبوةَ ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ (فَعُمِّيَتْ) بضمِّ العينِ وتشديدِ الميم؛ أي: شُبِّهَتْ ولُبِّسَتْ، وقرأ الباقون: بفتح العينِ وتخفيفِ الميم؛ أي: خَفِيَتْ (١).
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أنُلْزِمُكُمُ الهدايةَ ﴿وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ لا تريدونها؟ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ.
...
﴿وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: على التبليغِ وإيمانِكم ﴿مَالًا﴾ أَجْرًا.
﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ ما ثوابي ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ،
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وذلكَ أنهم قالوا له: اطردْ عنكَ المؤمنينَ؛ حَسَدًا لهم ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ أي: صائرونَ إليه، فيجزي من طَرَدَهم.
﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ أمرَ اللهِ ولقاءَه. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وقنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلكنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ من يمنعُني من عذابِه.
﴿إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾ لأجلِ إيمانهم ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ تتَّعظون. قرأ أبو عمروٍ: (وَيَا قَوْم منْ) بإدغامِ الميم في الميم (٣).
...
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠٩).
[٣١] ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ فآتي منها ما تطلبونَ.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فأخبرُكم بما تريدونَ.
﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي﴾ تحتقرُ ﴿أَعْيُنُكُمْ﴾ من المؤمنين ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ أي: إيمانًا وتوفيقًا؛ لجهلي بحالهم، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلُنا، ولن يؤتيَهم اللهُ خيرًا.
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ فيجازيهم عليه ﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ إنْ آذيتُهم. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ خاصَمْتَنا ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ فَأطْنَبْته.
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ من العذابِ.
﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في الدَّعْوى.
...
[٣٣] ﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ﴾ عاجِلًا أوآجِلًا.
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائِتينَ.
...
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾ نَصيحتي.
﴿إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾ أي: نصحَكم.
﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ يُضِلَّكم، تقديرُ الكلام: إنْ كانَ اللهُ يريدُ أن يغويَكم، فإن أردتُ أن أنصحَ لكم، لا ينفعكُم نصحي. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفر: (نُصْحِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ فإليه الإغواء والهدايةُ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إخبارٌ في ضمنِه تهديدٌ ووعيدٌ. قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء، والباقون: بضمها (٢).
...
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١٠).
[٣٥] ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ هؤلاء الكفرةُ ﴿افْتَرَاهُ﴾ افترى نوحٌ هذا التوعُّدَ بالعذاب، وأراد الإرهابَ علينا بذلك، وقيل: إن هذه الآيةَ اعترضَتْ في قصةِ نوحِ، وهي في شأنِ محمدٍ - ﷺ - مع كفارِ قريشٍ، وذلك أنهم قالوا: افترى القرآنَ، وافترى هذهِ القصةَ عن نوحٍ، فنزلتِ الآيةُ في ذلك، والأولُ هو قولُ ابنِ عباسٍ (١)، قال القرطبيُّ: وهو أظهرُ؛ لأنه ليسَ قبلَه ولا بعده إلا ذكرُ نوحٍ وقومِه، فالخطاب منهم ولهم (٢).
﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ المعنى: إن صحَّ أني افتريتُه، فعلي جزاءُ افترائي.
﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ من الكفرِ والتكذيبِ. قرأ أبو جعفرٍ بخلاف عنه: (بَرِيٌّ) و (بَرِيُّونَ) حيثُ وقعَ بتشديدِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ والمدِّ.
...
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ معنى الكلام: الإياسُ من إيمانهم، واستدامةُ كفرِهم تحقيقًا لنزولِ الوعيدِ بهم.
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٩/ ٢٩).
...
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ بمنظرٍ مِنَّا؛ أي: اصنعْها محفوظًا أن تنُالَ بسوءٍ، وأن يُحال بينَكَ وبينَ عملِها، وأن تُخطئ في عملِها، لأنه لما أُمِرَ بعملِ السفينةِ، لم يدرِ كيفَ يصنعُها، فأوحيَ إليه أن اصنعْها كجؤجُؤِ الطائرِ، فإنَّكَ بعيني، فأخذ القَدُّومَ، وجعل يضربُ ولا يخطئ، ورُوي أن السفينةَ كان طولُها ثلاثَ مئةِ ذراعٍ، وعرضُها خمسينَ ذراعًا، وطولُها في السماء ثلاثين ذراعًا، وقيلَ غيرُ ذلك، وكانتْ من خشبِ الساجِ، وجعلَ لها ثلاثةَ بُطونٍ، فحملَ في البطنِ الأسفلِ الوحوشَ والسباعَ والهوامَّ، وفي البطنِ الوسطِ الدوابَّ والأنعام، وركبَ هو ومَنْ معه البطنَ الأعلى معَ ما يحتاجُ إليه من الزاد.
﴿وَوَحْيِنَا﴾ وتعليمِنا لكَ صورةَ العملِ بالوحيِ.
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾ تراجِعْني.
﴿فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ في إهلاكِ الكفارِ وابنِك كنعانَ وامرأتِكَ واعلةَ.
﴿إِنَّهُم مُّغرَقُونَ﴾ محكومٌ بغرقِهم.
***
[٣٨] ﴿وَيَصْنَعُ﴾ أي: وطَفِقَ يصنعُ ﴿الْفُلْكَ﴾ رُوي أن نوحًا عليه السلام لبثَ يغرسُ الشجرَ مئةَ عام، ثم جعلَ يقطعُ الخشبَ ويضربُ الحديدَ ويهيئ عدةَ الفلكِ من القارِ وغيره.
﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ﴾ جماعةٌ ﴿مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ فكانوا يتضاحَكون ويقولون: يا نوحُ! صرت نجارًا بعد ما كنت نبيًّا!
﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ في المستقبلِ عند رؤيةِ الهلاكِ.
﴿كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ منا الآنَ.
...
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ يُذِلُه، وهو الغرقُ.
﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ وهو عذابُ الآخرةِ، فصنعَ نوحٌ السفينةَ في سنتين، وقيلَ غيرُ ذلك.
...
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ أي: وقتُ الوعدِ بإهلاكهم. واختلافُ القراء في حكم الهمزتين من قوله (جَاءَ أَمْرُنَا) في هذا الحرف وجميعِ ما في
﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ أَي: جاشَ بالماء، وهو تنورُ الخبزِ في قولِ الأكثرِ، وكان هو الآيةَ بينَ نوحٍ وبينَ ربِّهِ، واختلِفَ في موضعِ التنور، فقيلَ: بالكوفة، وقيل: بالشام بموضعٍ يُقال له عَيْنٌ وردة، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا﴾ أي: في السفينة.
﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ صِنْفَين من الحيوان.
﴿اثْنَيْنِ﴾ ذكرًا وأنثى، وقيل لهما: زوجان؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما يُقال له: زوجٌ؛ لأنه لابدَّ لأحدِهما من الآخر. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (مِنْ كُلِّ) بالتنوين؛ أي: من كلِّ صنفٍ زوجينِ، اثنينِ ذكرَه تأكيدًا، والباقون: بغيرِ تنوينٍ على الإضافةِ على معنى: احمل اثنينِ من كلِّ زوجينِ، والقراءتانِ ترجعان إلى معنىً واحدٍ (١).
وعندَ فورانِ التنورِ حُشِرَ الحيوانُ لنوحٍ عليه السلام، فجعل يضربُ بيديه فيقعُ الذكرُ في اليمنى، والأنثى في اليسرى، فيلقيهما في السفينة، ورُوي أن أول ما أَدخلَ السفينةَ الدُّرَّةُ، وآخرَ ما أدخلَ الحمارُ، فتمسَّكَ الشيطانُ بذنبِهِ، فزجرَهُ نوحٌ فلم ينزجرْ، فقالَ له: ادخلْ ولو كانَ معكَ الشيطانُ، قال ابنُ عباسٍ: "زَلَّتْ هذهِ الكلمةُ على لسانِه، فدخلَ الشيطانُ حينئذٍ"، وكان عندَ مؤخرِ السفينة، فلما كثرتْ أرواثُ الدوابِّ، تأذَّى نوحٌ من رائحتها، فأوحي إليه أنِ امسحْ على ذَنَبِ الفيلِ، ففعلَ، فخرجَ منه
﴿وَأَهْلَكَ﴾ أي: واحملْ أهلَكَ من النسبِ ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ بالهلاكِ، وهو كنعانُ، وامرأتُك واعلةُ مستثنىً من الأهلِ.
﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ أي: واحملْ مَنْ آمنَ بكَ، قال الله تعالى:
﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ وهم بنوه الثلاثةُ سامٌ وحامٌ ويافثُ، وثلاثُ نسوةٍ لهم، وامرأةُ نوحٍ غيرُ الهالكةِ، وتقدَّم في سورةِ الأعراف أنَّ من آمن به كانوا أربعين رجلًا، وأربعين امرأة، وهم الذين نجوا معه في السفينة، وفي ذلك خلاف، والله أعلم.
...
﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)﴾.
[٤١] فلما دهمَهم الماءُ، ندبَهم إلى الركوبِ ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾ فركبوا في السفينة يومَ الجمعةِ لعشرٍ مضينَ من رجبٍ من عينِ وردةَ، فأتتِ
﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ أي: اركبوا مُسَمِّينَ أو قائلين: باسم الله عندَ مجراها ومرساها، فكانَ إذا أرادَ أن تجريَ قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوَ قال: بسم الله، فرست. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عاصمٍ: (مَجْرَاهَا) بفتح الميم؛ أي: جَرْيَها، والباقون: بضمِّها؛ أي: إجرائِها، وأمالَ الراءَ أبو عمرٍو والأربعةُ المذكورون، ولم يُمِلْ حفصٌ غيرَ هذا الحرفِ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، فرويَ عنه الإمالةُ والفتحُ، قال ابنُ الجزري: وقد غلطَ مَنْ حكى فتحَ الميمِ عن ابنِ ذكوانَ من المؤلفين، وشُبْهَتُهم في ذلك والله أعلم: أنهم رأوا فيها عنه الفتحَ والإمالةَ، فظنوا فتحَ الميم، وليسَ كذلك، إنما أريد فتحُ الراء وإمالتُها، انتهى.
ورُوي عن ورشٍ الفتحُ والإمالةُ بينَ بينَ (١).
﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تنبيهٌ لهم على نعمةِ الله عليهم ورحمتِه لهم.
...
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ﴾ في اضطرابِ الماءِ وارتفاعِه.
﴿كاَلْجِبَالِ﴾ عِظَمًا وارتفاعًا.
﴿يَابُنَيَّ﴾ قرأ عاصمٌ: (يَا بُنَيَّ) بفتح الياء، والباقون: بالكسرِ مشدَّدًا (١)، وقوله: (بُنَيَّ) مصغرًا ليكونَ أعطفَ له ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾. قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ، ويعقوبُ: (ارْكَب معَنَا) بإدغامِ الباءِ في الميمِ؛ لقربِ المخرَجِ، واختلِفَ عن ابنِ كثيرٍ وعاصمٍ وقالونَ وخَلَّادٍ، وقرأ الباقون، وهم: ابنُ عامر، وأبو جعفرٍ، وخلفٌ لنفسِه (٢)، وعن حمزةَ، وورشٌ عن نافعٍ: بإظهارِ الباءِ على الأصل (٣)، تلخيصُه: اركبْ معنا تنجُ.
﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ فتهلك.
...
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿قَالَ﴾ له ابنُه ﴿سَآوِي﴾ سألتجِئُ.
﴿إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ يمنعُني من الغرقِ.
﴿قَالَ﴾ له نوحٌ ﴿لَا عَاصِمَ﴾ لا مانعَ ﴿الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ من عذابِ الله.
(٢) في "ن": "بنفسه".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٤١)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١٤).
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا﴾ أي: بينَ نوحٍ وابنهِ ﴿الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ بالماءِ، رُوي أن الماءَ علا على رؤوسِ الجبال أربعينَ ذراعًا، وعقمتِ النساءُ أربعينَ سنةً، وأدركَ الصغارُ على دينِ آبائِهم، وماتتِ البهائمُ بآجالِها.
...
﴿وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَقِيلَ﴾ بعدَ ما تناهَى أمرُ الطوفان:
﴿يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ الذي خرجَ منكِ؛ أي: اشربيهِ.
﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ أَمْسِكي عن إنزالِ القَطْر؛ لأن الأرض كانتْ تنبعُ الماءَ، والسماءَ تمطرُ بأجمعِها.
﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ نقصَ. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ عن ابنِ عامر، ورويسٌ عن يعقوبَ: (وَقِيلَ) (وَغِيضَ) بإشمامِ الضمِّ للقافِ والغينِ، واختلافُ القراءِ في الهمزتين من قوله: (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) كاختلافِهم فيهما من قوله: (السّفَهَاءُ أَلاَ) في سورةِ البقرةِ [الآية: ١٣].
﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فُرِغَ من إهلاكِ قومِ نوحٍ.
﴿وَاسْتَوَتْ﴾ يعني: استقرَّتِ السفينةُ ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾ اسمُ جبلٍ بالجزيرةِ بقربِ المَوْصِلِ ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ هلاكًا لهم.
[٤٥] ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ وقد وَعَدْتنَي بنجاةِ أهلي ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ الذي لا خُلْفَ فيه ﴿وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ أعدَلُهم.
...
﴿قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿قَالَ﴾ اللهُ ﴿يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي: أهلِ ولايتِك ولا دينك، وهو ولدُه من صُلْبِه في قولِ الأكثرِ ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ قرأ الكسائيُّ، ويعقوبُ: (عَمِلَ) بكسرِ الميمِ وفتحِ اللام (غَيْرَ) بنصبِ الراء؛ أي: عَمِلَ شركًا، وقرأ الباقون: بفتح الميمِ ورفعِ اللام منوَّن ورفعِ الراءِ تعليلٌ لانتفاءِ الأهليةِ (١)، وجُعلت ذاتُه عملًا غيرَ صالح مبالغةً في ذمِّه.
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ما لا تعلمْ أصوابٌ هو أم ليسَ صوابًا.
قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (تَسْأَلَنِّ) بفتح اللام وكسر النون وتشديدِها، وابنُ كثيرٍ كذلكَ، إلا أنه يفتحُ النونَ، والباقون: بإسكانِ اللامِ وكسرِ النونِ وتخفيفِها، وأثبتَ الياءَ بعدَ النونِ وصلًا أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ، وأثبتَها في الحالين يعقوبُ (٢) {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، =
...
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] وحُكِيَ أن نوحًا كانَ لا يعلمُ بكفرِ ابنِهِ ﴿قَالَ﴾ نوحٌ ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ﴾ في المستقبلِ ﴿مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ ما لا علمَ لي بصحَّتِهِ ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أعمالًا، وكان - ﷺ - على قدمِ الاستغفارِ إلى أن تُوُفِّيَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ أَعِظُكَ) (إِنِّيَ أَعُوذُ) بفتحِ الياءِ فيهما، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ﴾ انزلْ من السفينةِ ﴿بِسَلَامٍ مِنَّا﴾ أي: سلامةٍ ﴿وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ﴾ والبركةُ: الخيرُ التامُّ ﴿وَعَلَى أُمَمٍ﴾ أي: ذريةِ أممٍ ﴿ممَّن﴾ كانَ ﴿مَعَكَ﴾ في السفينةِ، يعني: على قرونٍ تجيءُ بعدكَ من ذريةِ مَنْ معكَ من ولدِك، وهم المؤمنون ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدنيا.
﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الأخرى، وهم الكافرونَ أهلُ الشقاوة،
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١٦).
...
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا﴾ أي: آياتِ القرآن ﴿إِلَيْكَ﴾ بأخبارِ الأمم الماضية.
﴿مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ أي: من قبلِ نزولِ القرآن.
﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذى قومِكَ؛ كنوح.
﴿إِنَّ الْعَاقِبَةَ﴾ آخرَ الأمرِ ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ بالسعادةِ والنصرِ.
...
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَإِلَى﴾ أي: وأرسلْنا إلى ﴿عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ في النسبِ، لا في الدين، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ الأعرافِ.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وَحِّدُوه ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، والكسائيُّ: (غَيْرِهِ) بخفضِ الراءِ حيثُ وقعَ إذا كانتْ قبلَ (إِلَهٍ) (مِنْ) التي
﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾ باتخاذِ الأوثانِ شركاءَ.
...
﴿يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: على تبليغ الرسالةِ ﴿أَجْرًا﴾ جُعْلًا.
﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ ثوابي ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ خَلقَني.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (فَطَرَنيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
...
﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ولما حُبِسَ القَطْرُ عن قومِ هودٍ ثلاثَ سنينَ، وعقمتْ أرحامُ نسائِهم، فلم يلدْنَ، قال لهم هود: ﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ من الذنوبِ السالفةِ، وآمِنوا ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من عبادةِ العِجْلِ وغيرِه.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ مُتتابعًا ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً﴾ في العددِ والمالِ
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٦ - ١٢٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١٧ - ١١٨).
...
﴿قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ دليل على قولكَ ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ أي: بقولكَ ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بمصدِّقينَ.
...
﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ يعني: لستَ تتعاطى ما تتعاطى من مخالفتنا وسبِّ آلهتِنا إلَّا لأنَّ بعضَ آلهتِنا اعْتَراكَ، أي: أصابَكَ بسوء؛ أي: بِخَبَلٍ وجُنُونٍ لسبِّكَ إياها، فَثَمَّ اسْتِخفافًا بهم وبآلهتِهم.
﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ على نفسي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إنِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (١).
﴿وَاشْهَدُوا﴾ أنتم أيضًا على ﴿أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
...
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ يعني: الآلهةَ ﴿فَكِيدُونِي﴾ احتالوا في أمري أنتم وهم
...
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ اعتمدْتُ عليه ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ أي: مالكُها وقادرٌ عليها، والناصيةُ: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرأسِ، وخُصَّتْ بالذكر؛ لأنَّ العربَ كانتْ تجرُّ بناصيةِ الأسيرِ الممنون عليه؛ لتكونَ تلكَ علامةً أنه قُدِرَ عليه، وقُبِضَ على ناصيتِهِ، والدَّابةُ: جميعُ الحيوانِ، وخُصَّ بالذكرِ إذ هو صنفُ المخاطبينَ والمتكلمُ.
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: إن أفعالَ اللهِ عز وجل هي في غايةِ الإحكامِ، وقولُه الصدقُ، ووعدُه الحقُّ، فجاءتِ الاستقامةُ في كلِّ ما ينضافُ إليهِ سبحانَهُ.
...
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: تتولوا؛ يعني: تُعْرِضوا عما دعوتُكُم إليه. قرأ البزيُّ عنِ ابنِ كثيرٍ: (فَإِن تَّوَلَّوا) بتشديدِ التاء (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٤٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ أطوعَ منكم يُوَحدونه.
﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ بإشراكِكم ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ (على) بمعنى اللام؛ أي: لكلِّ شيءٍ حفيظٌ، فهو يحفظُني ويجازيكم.
...
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ عذابُنا، وهو السَّمُومُ، كانتْ تدخلُ أنوفَ الكفارِ وتخرجُ من أدبارِهم، فتقطعُ أعضاءهم.
﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ من العذابِ، وكانوا أربعة آلافٍ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ بنعمةٍ ﴿مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ شديدٍ، المعنى: نجوا من عذابَي الدنيا والآخرةِ بسببِ إيمانهم.
...
﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَتِلْكَ عَادٌ﴾ إشارةٌ إلى قبورِهم وآثارِهم {جَحَدُوا بِآيَاتِ
﴿وَاتَّبَعُوا﴾ يعني: السفْلَةَ ﴿أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ معاندٍ، أي: معارضٍ بالخلافِ، وهم رؤساؤهم ومقدَّموهم.
...
﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَأُتْبِعُوا﴾ أُرْدِفُوا ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ تلحقُهم، واللعنةُ: الإبعادُ والطردُ عن الرحمةِ ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أيضًا.
﴿أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ جَحَدُوا نعمتَه ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾ من رحمةِ اللهِ تعالى ﴿قَوْمِ هُودٍ﴾ عطفُ بيانٍ لِعادٍ؛ ليتمَيَّزوا عن عادٍ الثانيةِ، وهي عادُ إِرَم.
...
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ أي: وأرسلنا إلى ثمودَ، وتقدَّمَ تفسيرُه في سورةِ الأعرافِ ﴿أَخَاهُمْ﴾ في النسبِ ﴿صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾ ابتدأَ خَلْقَكم من آدمَ، وآدمُ ﴿مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي: خلقَكُم لِعِمارتها، وقيل: أطالَ أعمارَكم، قيل: كانتْ أعمارُهُم من ألفِ سنةٍ إلى ثلاثِ مئةِ سنةٍ.
...
﴿قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿قَالُوا﴾ يعني: ثمودَ ﴿قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا﴾ للسيادةِ في ديننا ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ القولِ.
﴿أَتَنْهَانَا﴾ استفهامٌ معناهُ الإنكارُ ﴿أَن﴾ أي: عن أن ﴿نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الآلهةِ ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ من التوحيدِ.
﴿مُرِيبٍ﴾ مُوقِعٍ في الريبةِ، وهي قلقُ النفسِ وانتفاءُ الطمأنينةِ.
...
﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ بيانٍ وبصيرةٍ.
﴿مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾ نبوةً.
﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ أي: يمنعُني من عذابه ﴿إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي﴾ بقولكم هذا ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ أي: غيرَ بَصَارةٍ في خسارتكم.
...
﴿وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ نصبٌ على الحالِ
﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ من العشبِ، فليس عليكم مُؤْنتها.
﴿وَلَا تَمَسُّوهَا﴾ جزم بالنهي ﴿بِسُوءٍ﴾ بعقرٍ ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾ جوابُ النهي ﴿عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ مِنْ عقرِها، وهو ثلاثة أيام.
...
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ﴾ لهم صالحٌ: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ﴾ عِيشوا في ديارِكم ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ ثم تهلكونَ ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ فيه، تقدَّمَ ذكرُ القصةِ في الأعراف.
...
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ﴾ نعمة ﴿مِنَّا وَمِنْ﴾ عطفٌ على (نَجَّيْنا)؛ أي: ونجيناهم من ﴿خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ أي: عذابهم في الدنيا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم، والباقون: بكسرها على إضافة (يَوْمِ) إلى (إِذْ)، وأبو عمرٍو يدغمُ الياءَ في الياءِ (١).
...
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾.
[٦٧] ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ كفروا ﴿الصَّيْحَةُ﴾ في اليومِ الرابعِ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام صاحَ صيحةً واحدةً، فهلكوا.
﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه في سورةِ الأعراف [الآية: ٥].
...
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ يقيموا في ديارهم.
﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ قرأ حمزةُ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (ثَمُودَ) غيرَ منوَّنٍ، والباقونَ: بالتنوين (١).
﴿أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ قرأ الكسائيُّ: (لِثَمُودٍ) بالخفضِ والتنوينِ، والباقون: بنصبِ الدال، فمن أجازَ الصرفَ لأنه اسمٌ مذكرٌ، ومن لم يُجِزْهُ جعلَهُ اسمًا للقبيلةِ (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤١٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٩ - ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢١).
(٢) المصادر السابقة.
[٦٩] ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾ هم جبريلُ ومَنْ معه من الملائكةِ.
﴿إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ بالبشارةِ بإسحقَ ويعقوبَ، وبإهلاكِ قومِ لوطٍ.
﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ نصبٌ على المصدرِ، والعاملُ فيه مضمَرٌ من لفظِه؛ كأنه قال: أسْلمْ سلامًا.
﴿قَالَ﴾ إبراهيمُ ﴿سَلَامٌ﴾ مبتدأٌ وخبر، أي: سلامٌ عليكم. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (سِلْمٌ) بكسرِ السينِ بلا ألفٍ وسكونِ اللام، بمعنى: السلام، كما يقال: حِلٌّ وحَلالٌ (١).
﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ﴾ أي: فما أبطأ بمجيئِه ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ مَشْوِيٍّ بالحجارةِ المحمَّاةِ في حُفَيرة، وكانَ سَمينًا يسيلُ دَسَمًا.
...
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ إلى العجلِ. قرأ أبو عمرٍو: (رَأَى) بإمالةِ الهمزةِ فقط، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بإمالةِ الراءِ تبًعًا للهمزة، واختلِفَ عن هشامٍ وأبي بكرٍ (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (٢/ ٤٤ - ٤٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢٢).
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ يا إبراهيمُ.
﴿إِنَّا﴾ ملائكةُ الله ﴿أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾.
...
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ سارَةُ بنتُ هارانَ بنِ ناحور، وهي ابنةُ عمِّ إبراهيمَ ﴿قَائِمَةٌ﴾ خلفَ الستر تسمعُ كلامَهم.
﴿فَضَحِكَتْ﴾ أي: تبسَّمَتْ سرورًا بزوالِ الخيفةِ، وهو قولُ الجمهورِ، قيل: ضَحِكَتْ؛ أي: حاضَتْ، قال ابنُ عطيةَ: وهو ضعيفٌ قليلُ التمكُّنِ (١).
﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ﴾ أي: بعد ﴿إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ فَبُشِّرَتْ أنها تعيشُ حتى ترى ولدَ ولدِها. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَعْقُوبَ) بنصبِ الباءِ عطفًا على (إِسْحَاقَ)، والباقون: بالرفعِ على أنه مبتدأٌ خبرُه الظرفُ (٢)؛ أي: ويعقوبُ مولودٌ من بعدِه، واختلافُ القراءِ في الهمزتينِ من قوله: (وَرَاءِ إِسْحَاقَ) كاختلافِهم فيهما من قوله: (هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: ٥].
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٣٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢٤).
[٧٢] ﴿قَالَتْ يَاوَيْلَتَى﴾ أي: يا عجبًا، وتقالُ هذهِ اللفظةُ عندَ ورودِ أمرٍ عظيمٍ.
﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا﴾ وكانت ابنةَ تسعينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك.
واختلافُ القراءِ في قوله: (أَأَلِدُ) كاختلافهم في قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: ٦].
﴿بَعْلِي﴾ بعلُ المرأةِ: زوجُها ﴿شَيْخًا﴾ نصبٌ حالٌ، وكانَ سِنُّ إبراهيمَ مئةً وعشرينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك، فأنكرت ذلك عادةً، وقالت: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي: وجودَ الولدِ من كبيرين ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ وهو استعجابٌ من حيثُ العادة دونَ القدرةِ، وكانَ بينَ البشارةِ والولادةِ سنةٌ.
...
﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿قَالُوا﴾ أي: الملائكةُ منكِرينَ: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ بإيجادِ الولدِ من كبيرين؟
﴿رَحْمَتُ اللَّهِ﴾ نبوَّتُه، و (رَحْمَتُ) رُسمت بالتاء في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ (١).
﴿عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ نصبٌ نداءٌ؛ أي: بيتَ إبراهيمَ، وفيه دليلٌ أن زوجةَ الرجلِ من أهلِ بيته؛ لأنها خوطبَتْ به، فيقوى القولُ في زوجاتِ النبيِّ - ﷺ - بأنهن من أهلِ بيتِه الذينَ أذهبَ اللهُ عنهم الرَجْسَ، بخلافِ ما تذهبُ إليهِ الشيعةُ من قولهم: أَهْلُ بيتِه الذين حُرِموا الصدقَةَ، فيدفعونَ الزوجاتِ؛ بغضًا في عائشةَ رضي الله عنها.
﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ﴾ محمودٌ في أفعالِه.
﴿مَّجيدٌ﴾ كثيرُ الرفعةِ والشرفِ.
...
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ الخوفُ.
﴿وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾ بإسحاقَ ويعقوبَ.
﴿يُجَادِلُنَا﴾ فيه إضمارٌ؛ أي: أخذَ يجادِلُنا، ومعناهُ: يجادلُ رُسُلَنا.
﴿فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ في إهلاكِهم، ومجادلتُه إياهم أَنْ قالَ لهم: أَتُهْلِكونَ قومًا فيهم خمسونَ مؤمنًا؟ قالوا: لا، قال: أربعونَ؟ قالوا: لا، فما زالَ ينقصُ حتى قالَ: واحد؟ قالوا: لا ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ [العنكبوت: ٣٢].
***
[٧٥] ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ غيرُ عَجولٍ.
﴿أَوَّاهٌ﴾ كثيرُ التأَوُّهِ من الذُّنوبِ ﴿مُنِيبٌ﴾ تائبٌ.
...
﴿يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)﴾.
[٧٦] وكان في قرى لوطٍ أربعُ مئةِ ألفٍ، فقالتِ الرسلُ عندَ ذلك: ﴿يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ الجدالِ.
﴿إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ بإهلاكِهم.
﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ﴾ نازلٌ بهم ﴿عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ عنهم.
...
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾ يعني: هؤلاءِ الملائكةَ.
﴿لُوطًا﴾ على صورةِ غِلْمانٍ مُرْدٍ حِسانِ الوجوهِ.
﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ أي: حزنَ لوطٌ بمجيئهم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (سِيءَ) و (سِيئَتْ) بإشمامِ السينِ الضَّمَّ حيث وقعَ (١).
﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ شديدٌ.
...
﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)﴾.
[٧٨] رُوي أنهم جاؤوا منزلَ لوطٍ سرًّا، ولم يعلمْ بهم إلا أهلُ بيتِ لوط، فخرجتِ امرأتُه فأخبرَتْ قومَها، وقالت: إنَّ في بيتِ لوطٍ رجالًا ما رأيتُ مثلَ وُجوهِهِمْ قَطُّ.
﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ يُسرِعون، وقيلَ: يُسْتَحَثُّونَ.
﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾ أي: ومن قبلِ ذلكَ الوقتِ.
﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إتيانَ الذكورِ في أدبارِهم.
﴿قَالَ﴾ لهم لوطٌ حينَ قصدوا أضيافَهُ: ﴿يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي: بالنكاحِ أحلُّ، وَقَى أضيافَهُ ببناتِهِ، وكان في ذلكَ الوقتِ تزويجُ المسلمةِ من الكافرِ جَائزًا كما زَوَّجَ النبيُّ - ﷺ - ابنتيه من أبي العاصِ بنِ وائلٍ، وعُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ قبلَ الوحيِ وهما كافرانِ.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بتركِ الفواحشِ ﴿وَلَا تُخْزُونِ﴾ تَفْضحونِ.
﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ صالحٌ يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ؟
...
﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ أي: حاجةٍ، فلا ننكحُهُنَّ.
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ من إتيانِ الذكورِ.
...
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿قَالَ﴾ لهم لوطٌ عندَ ذلكَ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ أنصارًا وأعوانًا ﴿أَوْ آوِي﴾ أَنْضَمُ.
﴿إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ عشيرةٍ منيعةٍ، وجوابُ (لو) محذوفٌ؛ أي: لَقاتَلْتُكم وحُلْتُ بَينكم وبينَهم.
...
(٢) المصادر السابقة.
[٨١] وكان لوط قد أغلقَ عليه وعلى أضيافِه بابَه، وهو يناشِدُهم من وراءِ البابِ، وهم يعالجونَ في تسَوُّرِ الجدارِ، فلما رأتِ الملائكةُ ما يلقى لوطٌ منهم.
﴿قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ بسوءٍ، وإنَّ ركنَكَ لشديدٌ، فخلِّ بينَنا وبينَهم، ففتحَ البابَ، فصفقَ جبريلُ وجوهَهم بجناحه، فأعمى أبصارَهُم، فذهبوا يتهدَّدونَ لوطًا يقولونَ: مكانَكَ حَتَى نصبحَ.
﴿فَأَسْرِ﴾ يا لوطُ ﴿بِأَهْلِكَ﴾ بابنتكَ وامرأتك. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (فَاسْرِ) بوصلِ الألفِ من سَرَى، والباقون: بقطعِها من أَسْرَى، ومعناهُما واحدٌ، وهو سيرُ الليلِ (١).
﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ بطائفةٍ منهُ، قيلَ: إنه السَّحَرُ الأولُ.
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو (امْرَأَتُكَ) برفع التاء على الاستئنافِ، من الالتفاتِ؛ أي: لا يلتفتْ منكم أحدٌ إلا امرأتُك، فإنها تلتفتُ فتهلكُ، وكان لوطٌ قد أخرجَها معه، ونهى من تبعَه ممن أَسْرى بهم أَنْ يلتفتَ سوى زوجتِه، فإنها لما سمعتْ هَدَّةَ العذابِ،
﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ من العذابِ، فقال لهم لوطٌ: متى موعدُ هلاكِهم؟ فقالتِ الملائكةُ: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ قال لوطٌ: أريدُ أسرعَ من ذلك، فقالوا: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾؟
...
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢)﴾.
[٨٢] فخرج لوطٌ وطوى اللهُ له الأرضَ في وقْتِه حتى نَجا، ووصلَ إلى إبراهيمَ عليهما السلام ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ عذابُنا.
﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ وذلكَ أن جبريلَ عليه السلام حملَ مَدائِنَهم، الخمسَ، وهي سدومُ، وهي القريةُ العظمى، وعَمُورا، وأَدْم، وأصبؤين، ولُوشَع بمنْ فيها على جناحه، وكانوا أربعَ مئةِ ألفٍ، ورفعَها حتى سمعتِ الملائكةُ نباحَ الكلابِ وصياحَ الدِّيكةِ، لم يُكْفَأْ لهم إناءٌ، ولم ينتبهْ نائمٌ، ثم قلبَها فجعلَ عاليَها سافلَها.
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾ أي: على شذَّاذِ القُرى، وهم مَنْ لم يكنْ فيها.
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٩/ ٨٠).
﴿مَنْضُودٍ﴾ متتابع يتبعُ بعضُها بعضًا.
...
﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿مُسَوَّمَةً﴾ نعتُ الحجارةِ؛ أي: مُعَلَّمَة، عليها أمثالُ الجبالِ لا تشبهُ حجارةَ الدنيا ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾ في خزائِنِه.
﴿وَمَا هِيَ﴾ يعني: تلكَ الحجارةَ ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: مشركي مكة.
﴿بِبَعِيدٍ﴾ أي: بمكانٍ بعيدٍ.
...
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ أي: وأرسلْنا إلى مَدْيَنَ ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وكان قومُ شُعيبٍ يُطَفِّفُونَ معَ شِرْكِهم، فقال: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ أي: لا تَبْخَسوا.
﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ سَعَةٍ وخِصْبٍ، فلا حاجةَ لكم إلى التَّطْفيفِ ﴿وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ يحيطُ بكم فيهلِكُكُم، والمرادُ: يومُ القيامةِ. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنّي أَرَاكُمْ) (إِنّي أَخَافُ) بإسكانِ الياء، وافَقَهم الكسائيُّ في (إِنّي أَرَاكُمْ) (١).
[٨٥] ﴿وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا﴾ أَتِمُّوا ﴿الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ.
﴿وَلَا تَبْخَسُوا﴾ لا تنقِصُوا ﴿النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ أي: لا تَسْعَوْا في فسادٍ.
...
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ﴾ أي: ما أبقاه اللهُ لكمْ من الحلال. وقفَ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ على (بَقِيَّة) بالهاءِ (١)، ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من التطفيفِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأنه لا ينتفعُ بالثوابِ إلا مؤمنٌ.
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أحفظُكم من القبائح، إِنْ عَلَيَّ إلا البلاغُ.
...
﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)﴾.
[٨٧] وكانَ شعيبٌ - ﷺ - كثيرَ الصلاةِ ﴿قَالُوا﴾ لهُ سُخريةً واستهزاءً:
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢٩).
﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ من البَخْسِ والتَّطفيفِ.
﴿إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ قالوهُ استهزاءً به، وأرادوا: الضَّالَّ السَّفيهَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (أَصَلاَتُكَ) بحذفِ الواوِ على التوحيدِ، والباقونَ بإثباتها على الجمعِ (١)، واختلافُهم في الهمزتينِ مِنْ (نَشَاءُ إِنَّكَ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلَى) في سورةِ البقرة [الآية: ١٤٢].
...
﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ بصيرةٍ.
﴿من ربِّي﴾ وهو ما آتاهُ الله من العلمِ والنبوةِ.
﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ مالًا حلالًا، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: فهلْ يسعُ لي مع هذا الإنعام أن أشوبَ الحلالَ بالحرامِ.
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ المعنى: ما أريدُ أن أنفردَ بشهواتِكُم اللاتي نهيتُكم عنها لأَستبدَّ بها دونَكُم.
﴿إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ مُدَّةَ استطاعتي.
﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ أي: لا أقدرُ على توفيقِ نفسي، فكيفَ توفيق غيري؟ والتوفيق: تسهيلُ سُبُلِ الخيرِ. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ (توفيقي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (١) ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ اعتمدْتُ.
﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أرجعُ في جميعِ أموري.
...
﴿وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾ خِلافي. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (شِقَاقِي) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحِها (٢).
﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾ أي: على فعلٍ يصيُبكم.
﴿مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾ من الغرقِ.
﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾ من الريحِ ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ من الصَّيْحَةِ.
﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ لأنهم قريبو المنازلِ والهلاكِ منكم.
...
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٢)، والمصادر السابقة.
[٩٠] ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ عَمَّا أنتم عليه.
﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾ عظيمُ الرحمةِ للتائبين ﴿وَدُودٌ﴾ مُحِبٌّ أَولياءَهُ.
...
﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١)﴾.
[٩١] وجاءَ في الخبر: "أَنَّ شُعَيبًا كانَ خطيبَ الأنبياءِ" (١) ﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ﴾ لا نفهمُ ﴿كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ احتقارًا بكَ.
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ عاجِزًا عن التصرُّفِ، وذلك أنه كانَ ضريرَ البصر.
﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾ عشيرتُك ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾ لقتلْناكَ بالحجارةِ، والرجمُ: أقبحُ القتلِ، وقالوا ذلكَ تألُّفًا لقومِه؛ لأنهم كانوا على دينهم لا خوفًا منهم؛ لأنَّ الرهطَ ما دونَ العشرةِ.
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ تمنعُنا عِزَّتُكَ عن الرجمِ، بل قومُكَ الأعزةُ.
...
﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي﴾ أترون رهطي.
﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ أي: اللهَ ﴿وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ أي: كالمنبوذِ وراءَ ظهورِكم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) بإظهارِ الذالِ عندَ التاء، والباقونَ: بالإدغام (٢).
﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ خبرٌ في ضمنِه توعُّدٌ، ولفظُ الرجالِ والرهطِ لا يعمُّ النساءَ، ويعمُّ الناسَ ونحوَه الكلُّ بالاتفاقِ، والقومُ للرجالِ، ولهنَّ تبعًا.
...
﴿وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ قُوَّتِكم طالبينَ هلاكي. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَكَانَاتِكُمْ) بالألف على الجمع، والباقون: بغيرِ ألفٍ على التوحيدِ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٣٢).
﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ فسيعلمُ كذبَهُ ويذوقُ وبالَ أمرِه.
﴿وَارْتَقِبُوا﴾ انتظروا العذابَ.
﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ أرقُبُ نزولَ عذابِكم.
...
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ قيل: صاحَ بهم جبريلُ صيحةً، فخرجَتْ أرواحُهم من أجسادِهِم، أُنِّثَ الفعلُ على لفظِ الصيحةِ، وقالَ في قصةِ صالحٍ: ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ فَذُكِّر على معنى الصياحِ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: "ما أهلكَ اللهُ أُمَّتينِ بعذابٍ واحدٍ إلا قومَ صالحٍ وقومَ شُعيبٍ أهلكَهم اللهُ بالصيحةِ، غيرَ أَنَّ قومَ صالحٍ أخذَتْهم الصيحةُ من تحتِهم، وقومَ شعيبٍ من فوقِهم" (١).
﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ ميتين.
...
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا﴾ لم يُقيموا ﴿فِيهَاَ﴾ في الأرص ﴿أَلَا بُعْدًا﴾ هلاكًا.
...
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ بالتوراةِ.
﴿وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ حُجَّةٍ بينةٍ.
...
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ والملأُ: الجمعُ من الرجالِ.
﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ بالكفرِ بموسى ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي: ليسَ بمصيبٍ في مذهبهِ، ولا مفارقٍ للسفاهةِ.
...
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾ المغرَقين مَعه؛ أي: يتقدَّمُهم.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ﴾ أدخلَهم.
﴿النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ أي: المدخلُ المدخولُ فيه، وأوقعَ الفعلَ الماضي في (أَوْرَدَهُمْ) موقعَ المستقبلِ؛ للإيذانِ أن ذلكَ واقعٌ لا محالةَ؛ لأنَّ الماضيَ متيقَّنُ الوجودِ.
[٩٩] ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يُلْعَنون أيضًا بدخولهم في جهنمَ.
﴿بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ أي: بئسَ العونُ المعانُ، وقيل: بئسَ العطاءُ المعطَى لهم، والرفدُ في كلامِ العربِ: العَطِيَّةُ.
...
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا﴾ من القرى ﴿قَائِمٌ﴾ ما بقي حيطانُه وسقطَتْ سُقوفُهُ ﴿وَحَصِيدٌ﴾ انمحَقَ أَثَرُه. قرأ أبو عمرٍو: (المَرْفُود ذلِكَ) بإدغام الدالِ في الذالِ (١).
...
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ لم نُهْلِكْهم ظلمًا ﴿وَلَكِنْ﴾ كانوا أنفسَهم يظلمونَ ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالشِّركِ.
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي: نزلَ عذابُه ﴿وَمَا زَادُوهُمْ﴾ أي: الأصنامُ بعبادتِهم.
﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ تَخْسيرٍ.
[١٠٢] ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ﴾ أي: مثلُ ذلكَ الأخذِ أخذُ رَبِّكَ.
﴿الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: وأهلُها ظالمونَ، فحذفَ المضافَ؛ مثلَ: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾.
﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وَجيعٌ، وهو مبالغةٌ في التهديدِ، قالَ - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ الآية" (١).
...
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ لعبرةً.
﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ يعتبرُه عظةً.
﴿ذَلِكَ﴾ يومُ القيامةِ ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾ المعنى: يُجْمَعُ الأولونَ والآخِرون جميعًا ثَمَّ ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ فيه على جميع الخلق ولهم.
...
[١٠٤] ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾ أي: ذلكَ اليومَ. قرأ يعقوبُ: (يُؤَخّرُهُ) بالياء، والباقون: بالنون، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: بفتح الواوِ بغيرِ همزٍ (١).
﴿إِلَّا لِأَجَلٍ معدُودٍ﴾ معلومٍ عندَ اللهِ.
...
﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ الضميرُ عائدٌ إلى (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ: (يَأْتِي) بإثباتِ الياءِ وصلًا، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ: بإثباتِها في الحالَينِ، والباقون: بحذفها في الحالَينِ، فالقراءةُ بالإثباتِ على الوصلِ، وبالحذفِ اكتفاءً بالكسرةِ (٢).
﴿لَا تَكَلَّمُ﴾ لا تتَكلَّمُ ﴿نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ في الشفاعةِ، وكُلُّ الخلائقِ سُكوتٌ إِلَّا مَنْ أذنَ له في الكلامِ. قرأ البزيُّ عنِ ابنِ كثيرٍ: (لا تكَلَّمُ) بالمدِّ وتشديدِ التاءِ.
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ﴾ بالعذابِ ﴿وَسَعِيدٌ﴾ بالنعيمِ.
...
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٣٥).
[١٠٦] ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ باستحقاقِهم النارَ بالكفرِ والمعصيةِ ﴿فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ هو تردُّدُ النفسِ من شِدَّهِّ الحزنِ ﴿وَشَهِيقٌ﴾ صوتٌ مُمْتَدٌّ.
...
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ أي: سمواتُ الآخرةِ وأرضُها؛ فإنَّ لهما سماءً وأرضًا، بدليل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إبراهيم: ٤٨]، وتلكَ دائمة أبدًا وقوله: ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ [الزمر: ٧٤]، ولأنه لا بدَّ لأهلِ الآخرهِّ مما يُقِلُّهم ويُظِلُّهم إما سماءٌ يخلقُها الله، أو يظلُّهم العرشُ، وكلُّ ما أظلَّكَ، فهو سماءٌ.
﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ استثناءٌ من الخلودِ في النارِ؛ لأنَّ بعضَهم، وهم فُسَّاقُ الموحِّدين، يخرجونَ منها ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ من غيرِ اعتراضٍ.
...
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ باستحقاقِهم الجنةَ بالإيمانِ والطاعةِ.
قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (سُعِدُوا) بضمِّ السين، من سُعِدَ بمعنى أُسْعِدَ، والباقونَ: بفتحِها من سَعِدَ، وهما لغتان (١).
...
﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ثم قال تعالى مُخاطبًا نبيَّه - ﷺ -، والمرادُ غيرُه: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ وشَكٍّ.
﴿مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ إنَّهم ضُلَّالٌ.
﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا﴾ كان.
﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ تقليدًا لآبائِهم من غيرِ دليلٍ.
﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ حَظَّهم من العذابِ ﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾ أي: وافيًا.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراةَ.
﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ فمِنْ مصدِّقٍ به ومكذِّبٍ كما فعلَ قومُكَ بالقرآن.
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بإهلاكِ الكفارِ، وإنجاءِ الأبرارِ.
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ من القرآنِ.
﴿مُرِيبٍ﴾ موقعِ الريبةِ، وهي قلقُ النفسِ.
﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ أي: وإنَّ كلًّا من الأممِ التي عَدَدْناهم المختلفينَ، المؤمنينَ منهم والكافرين. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَإِنْ) بإسكانِ النونِ على إعمالِ المُخَفَّفَةِ عملَ الثقيلةِ اعتبارًا لأصلِها الذي هو التثقيلُ، وقرأ الباقون: بتشديدها (١).
﴿لمَّا﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامر، وعاصمٌ، وحمزةُ: بتشديد الميمِ، والباقونَ: بالتخفيف (٢)، ووجهُ تخفيفِ (لما) أن اللامَ هي الداخلةُ في خبرِ (أَنَّ) المخفَّفةِ والمشدَّدةِ، و (ما) زائدةٌ، واللامُ في ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ في موضع خبرِ (إِن)، و (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جوابُ ذلكَ القسمِ المحذوفِ، والتقديرُ: وإنَّ كلًّا لأُقْسِمُ لَيُوفينهم، ووجهُ تشديدِ (لَمَّا) الجازمةِ حذفُ الفعلِ المجزومِ؛ لدلالةِ المعنى عليه، والتقدير: وإنَّ كلًّا لما ينقص من جزاءِ عملِه، ويدلُّ عليه قولُه:
(٢) المصادر السابقة.
﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ تهديدٌ ووعيدٌ.
...
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)﴾.
[١١٢] قال - ﷺ -: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها"، قيلَ: أَشَيَّبَكَ منها قصصُ الأنبياءِ وهلاكُ الأممِ الماضية؟ قالَ: "لا، ولكنْ قولُه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ " (٢) أي: افتقرْ إلى اللهِ تعالى بصحَّةِ العزمِ، والاستقامةُ: التبرُّؤُ من الحولِ والقوةِ، وقيل: هي الميلُ إلى العدلِ.
﴿وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ أي: وليستقمِ المؤمنُ معك.
﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾ لا تَخْرجوا عن حدودِ الله.
﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا يَخْفى عليه من أعمالِكم شيءٌ.
...
(٢) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤٣٩)، عن أبي علي السّري: أنه رأى النبي - ﷺ - في رؤيا فقال: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: شيبتني... ، فذكره.
[١١٣] ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ تَطْمَئِنُّوا وتسكُنوا إلى قولهم، والركونُ: هو المحبةُ والميلُ بالقلبِ ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ فَتُصيبَكم.
﴿النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: أعوانٍ يحفظونَكم من العذابِ ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾.
عن بعضِهم: أنه سمعَ هذهِ الآيةَ، فغشيَ عليه، فلما أفاقَ، قيلَ له في ذلكَ، فقال: هذا لمن رَكَنَ، فكيفَ بمن ظَلَمَ.
...
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ أولَه وآخرَه، يعني: صلاةَ الصبحِ والمغربِ، قاله ابنُ عباسٍ، والحسنُ، ورجَّحه الطبريُّ، وقيلَ غيرُ ذلك (١). قرأ أبو عمرو: (الصَّلاة طَّرَفَي) بإدغام التاء في الطاء (٢).
﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ ساعاتِه، واحدتُها زُلفَةٌ. قرأ أبو جعفرٍ: (وَزُلُفًا) بضّمِّ اللام، والباقون: بالفتح (٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٣٨).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٤٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ الخطيئاتِ، نزلَتْ فيمَنْ ألمَّ بما لم يَحِلَّ.
عن ابنِ مسعودٍ أن رجلًا أصابَ من امرأةٍ قبلةً حرامًا، فأتى النبيَّ - ﷺ -، فسألَهُ عن ذلكَ وكفارتها، فنزلتِ الآيةُ، فقالَ الرجلُ: ألي هذهِ يا رسولَ الله؟ فقال: "لكَ ولمن عملَ بها من أمتي" (١).
وقال - ﷺ -: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبائِرُ" (٢).
﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكورُ من الوصيةِ بالاستقامةِ وتركِ الطغيانِ والميلِ إلى الظالمين ﴿ذِكْرَى﴾ موعظةٌ ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾ أي: لمن ذكرَهُ، وخَصَّهم بالذكرِ؛ لأنهم المنتفعونَ بهِ.
...
﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمدُ على ما تلقى من أَذَى قومِكَ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ في أعمالِهم.
...
(١) رواه البخاري (٥٠٣)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، ومسلم (٢٧٦٣)، كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
(٢) رواه مسلم (٢٣٣)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة.... ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
[١١٦] ﴿فَلَوْلَا﴾ أي: فهلَّا ﴿كَانَ مِنَ الْقُرُونِ﴾ التي أهلَكْناهم.
﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ والآيةُ للتوبيخِ.
﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ أي: ذوو جودٍ وخيرٍ، وسُمِّيَ الفضلُ والجودةُ بقيةً؛ لأنَّ الرجلَ يستبقي أفضلَ ما يخرجُه، يقالُ: هو من بقيةِ الناسِ؛ أي: خيارِهم. قوأ ابنُ جمازٍ عن أبي جعفرِ (بِقْيَةٍ) بكسرِ الباءِ وسكونِ القافِ وفتحِ الياءِ مخففةً، والباقون: بفتح الباء وكسر القاف وتشديد الياء (١)، معناه: فهلَّا كانَ من القرونَ من قبلِكم أولو بقيةٍ من خيرٍ.
﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يقومون بالنهي عن الفسادِ، ومعناه جَحْدٌ، أي: لم يكنْ فيهم أولو بقيةٍ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنَّ قليلًا.
﴿مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ نَهَوا عن الفسادِ، وهم أتباعُ الأنبياءِ، و (مِنْ) في (مِمَّنْ) للبيانِ لا للتبعيضِ، تقديرُه: لكنَّ قليلًا منهم أنجيناهُم؛ لأنهم كانوا كذلكَ.
﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا﴾ نُعِّموا ﴿فِيهِ﴾ من الشهواتِ.
﴿وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ كافرينَ.
[١١٧] ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ منهُ لهم، تعالى عن ذلك.
﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ لأعمالِهم مؤمنونَ.
...
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مسلمينَ كلَّهم.
﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ أي: أهلُ الباطلِ ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾ على أديانٍ شتى؛ من بين يهوديٍّ، ونصرانيٍّ، ومجوسيٍّ، ومشركٍ.
واختلفَ الأئمةُ في حكمِ المللِ، فقال أبو حنيفةَ: الكفرُ ملَّةٌ واحدةٌ؛ لأنه ضلالٌ، وهو ضدُّ الإسلام، ويتوارثون، وإذا تنصَّرَ يهوديٌّ، أو عكسُه، تُرِكَ على حالِهِ، ولا يُجبَرُ على الإسلام.
وقال مالكٌ: الكفرُ مللٌ شَتَّى، فلا تَوارُثَ بينَ اليهوديِّ والنصرانيِّ، وأما إذا انتقلَ الكافرُ من ملَّة إلى أخرى، أُقِرَّ على كفرهِ، وأُخِذَتْ منه الجزيةُ، كقول لأبي حنيفةَ.
وقال الشافعيُّ: الكفرُ ملَّةٌ واحدةٌ، ويتوارثون؛ كقولِ أبي حنيفة، لكن لا توارثَ بينَ ذميٍّ وحربيٍّ، وأما إذا تنصر يهودي، أو عكسه، أو تهوَّدَ وثنيٌّ، أو تنصَّرَ، فلا يُقبل منهُ بعدَ انتقالِه إلا الإسلامُ، أو القتلُ.
وقالَ أحمدُ: الكفرُ مللٌ شتَّى مختلفةٌ، فلا يتوارثونَ مع اختلافِ مِلَلِهم؛ كقولِ مالكٍ، وأما إذا تهوَّدَ نصرانيٌّ، أو عكسُه، لم يُقبلْ منه إلا الإسلامُ، أو
...
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)﴾.
[١١٩] ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ أي: لكنْ من رحمَ ربُّكَ، فهداهُ إلى الحقِّ فهم لا يختلفون ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أي: للرحمةِ، يعني: الذين رحمَهم، وقيلَ: معناه: للاختلافِ خلقَهم.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ وجبَ حكمُه، وهو.
﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ أي: من عُصاتِهما.
﴿أَجْمَعِينَ﴾ واللام في (لأملأنَّ) لامُ القسم، إذِ الكلمةُ تتضمَّنُ القسمَ، والجنُّ جميعٌ لا واحدَ له من لفظِه، والجِنَّةُ للمبالغةِ، وإن كانَ الجنُّ يقعُ على الواحدِ، فالجِنَّةُ جمعُهُ.
...
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿وَكُلًّا﴾ أي: كلَّ نبأٍ ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ أخبارِهم.
﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي: لنثبتَ، أي: نسكِّنَ بهِ فؤادكَ؛ لتزدادَ يقينًا،
﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ﴾ أي: السورةِ ﴿الْحَقُّ﴾ صدقُ الأنبياءِ.
﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فيتَّعظون بما جرى للأممِ.
...
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ثم تهدَّدَهم بقوله ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ على حالِكم ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ على حالِنا. قرأ أبو بكرٍ عن عاصم: (مَكَانَاتِكُمْ) على الجمعِ، والباقونَ على الإفرادِ.
...
﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا الدوائرَ ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ حلولَ النقمِ بكم.
...
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: علمُ ما غابَ عن العبادِ فيهما.
﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ ثِقْ به؛ فإنه كافيكَ.
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (٢).
وتقدَّمَ في أولِ سورةِ الأنعامِ ما رُوي عن كعبٍ أنه قال: "فاتحةُ التوراةِ فاتحةُ الأنعامِ ﴿اَلحمْدُ لِلَّهِ﴾ إِلَى ﴿يَعْدِلُونَ﴾ وخاتمةُ التوراةِ خاتمةُ هودٍ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ " (٣).
عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: يا رَسُولَ اللهِ! شِبْتَ، قالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلاَتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" (٤)، والله أعلم.
...
(٢) المصادر السابقة.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) رواه الترمذي (٣٢٩٧)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وقال: حسن غريب، وأبو يعلى في "مسنده" (١٠٧)، والحاكم في "المستدرك" (٣٣١٤)، وغيرهم.