ﰡ
قلنا في الحروف التي تبدأ بها بعض السور: إن معناها قد اختص به علم اللَّه تعالى، ولنا أن نتعرف الحكمة في ابتداء بعض السور بها، وأشرنا إلى أنها تنبه لإعجاز القرآن، وأنه مؤلف من الحروف التي يتألف منها كلامكم ومع ذلك عجزتم أن تأتوا بمثلها، وأنها تنبه الأذهان للاستماع، وقد كان المشركون تعاهدوا على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا تليت عليهم تلك الحروف بغنِّها ومدها نبهتهم فيستمعون إليها، تهجم عليهم الآيات المفهومة المدركة، فيستمعون إليها راغمين غير مختارين وهي أسماء للسور، وذكر للكتاب.
(ذِكْرُ) خبر (كهيعص) وهذا يشير إلى أنها الكتاب أو بعضه، و (عَبْدَهُ) منصوبة بالرحمة؛ لأن الرحمة مصدر بمعنى المرة من الرَّحْم، ويصح أن يجعل مفعولا لـ (ذِكْرُ)، على أن تكون إضافة الذكر إلى الرحمة من إضافة المصدر لفاعله، وإنا نرى أن ذلك بعيد ويحتاج إلى تأويل، وما لَا تحتاج لتأويل أولى مما يحتاج لتأويل.
وإن ذلك الذكر لهذه الرحمة في وقت نادى ربه بها، ولذا قال تعالى:
(إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣)
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء تضرع وفي الجهر به اعتداء؛ لأنه يكون فيه دعوة لغير اللَّه وشكوى للناس من ربه.
وموضوع النداء، بينه بقوله تعالى عنه.
(وَهَنَ الْعَظْمُ)، أي ضعف، ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله؛ لأنه عمود الدين وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه، كذا قال القرطبي في تفسيره (١).
ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي، ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف، وهو أنه يعلوه الشيب فقال: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ) الاشتعال الانتشار، و (شَيْبًا) تمييز محول عن الفاعل، والمعنى اشتعل شيب الرأس، أي انتشر الشيب فيه، والاشتعال مع أنه بمعنى الانتشار إلا أنه غلب على انتشار النار.
وهنا نجد ثمة استعارة، فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار، إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار، ولأن فيه إفناء الشعر الأسود، كما تحرق
_________
(١) الجامع الأحكام القرآن: ١١/ ٧٣
وقال اللَّه تعالى عن زكريا: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) في هذه الجملة السامية الدلالة على رجائه من اللَّه تعالى، وفيها ذاتها ضراعة، وعبر هنا بالدعاء، وفى الأولى بالنداء للدلالة على أن النداء استغاثة وتلهف ورجاء، ودعاء وعبادة وتقى، وذكر (رَبِّ) في هذه لبيان أن نعمه سبحانه وتعالى موصولة دائما منذ خلقه إلى أن يبعثه نبيا، و (شَقِيًّا) بالأمر إذا تعب فيه ولم ينل ثمرته، أو طرد من خير، والمعنى لم أكن منذ خلقتني بدعائك محروما متعبا، بل كانت نعمة واستجابة دعائي قائمة دائمة موصولة، وفي نفي الشقاء في الدعاء ماضيا تأكيد للرجاء قابلا، وأن ذلك من طرائق الاستجابة والرغبة فيها، وإن ذكر النعمة الماضية شكر لها وإيذان لشكر فاعله.
وصرح بموضوع الدعاء فقال:
هذه الجملة حالية، والواو واو الحال، والمعنى أنه في الحال الذي وهن العظم واشتعل الرأس شيبا ودنا الموت (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، والموالي هم الحواشي والعصبات من قرابته، وسموا موالي؛ لأنهم الذين يلونه على ما يترك من علم ونبوة والأموال التي تورث من بعده، وقوله: (مِن وَرَائِي)، إما أن يتعلق بالموالي ويكون ظاهر القول إني خفت الموالي الذين يجيئون من ورائي، وإما أن يتعلق بـ (خِفْتُ) ويكون ظاهر المعنى: إني خفت من بعد موتي الموالي الذين يجيئون، والمؤدى في التقديرين واحد. ولماذا
الاعتراض الأول: أنه ورد في الأثر: " إننا معشر الأنبياء لَا نورث " (١).
الاعتراض الثاني: أنه إذ يطلب الولد يرثه إنما يعترض على تقسيم اللَّه تعالى للميراث ويستكثر على الموالي ما يأخذوه.
والجواب عن الاعتراض الأول: أن هذا الأثر كان بالنسبة للنبي، وإلا فقد ورث سليمان داود - عليهما السلام - أو على أنه غالب أمرهم، أو على أن الوراثة هي وراثة العلم والنبوة ولكن ذلك بعيد.
وأما الجواب عن الاعتراض الثاني: فهو أنه لَا مضارة في الوراثة، وإنما أراد أن يضم إليهم في تحمل أعباء العلم الذي حمله زكريا، ويؤيد ذلك قراءة خَفَّت بفتحِ الخاء وتشديد الفاء، والمرأة العاقر التي لَا تلد، وقوله: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، أي ثبت عقرها ودوامه يدل عليه التعبير بـ " كان " الدالة على الدوام والاستمرار، أي أنه لَا أصل له في الولادة لكبره وعقمها، ولكن رجاؤه من اللَّه تعالى مسبب الأسباب، ولذا قال متجها إليه؛ لأنه فوق الأسباب الظاهرة (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) " الفاء " لبيان ترتيب ما بعدها على مع ما قبلها، فهو مترتب على رجائه في اللَّه تعالى، وترك الرجاء من جهة الأسباب العادية وكان التعبير بـ " هب "، أي أنه هبة مجردة من فضلك وإرادتك أنت الفاعل المختار، وكان قوله (مِن لَّدُنكَ) تأكيد بأنه من قِبَل الله تعالى لَا دخل للأسباب العادية فيه، بل إنه خرق لهذه الأسباب.
(وَلِيًّا)، أي يليني ويخلفني في مالي وما أوتيت من علم وحكم وحكمة.
________
(١) رواه أحمد - باقي مسند المكثرين (٩٥٩٣). والنسائي في الكبرى ٤/ ٧١ (٦٢٦٦): " إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة ". كما رواه البخاري ومسلم بلفظ آخر.
الوراثة مترتبة على أنه ولي أو هو معنى ولايته عنه، ولذا انفصلت عن الجملة السامية السابقة؛ لأنها مترتبة عليها أو لأنها بمنزلة السبب، وهذه بمنزلة المسبب، وما الموروث؟ قالوا: إن الوراثة تكون وراثة في الجسم والعقل والغرائز والصفات الفطرية وبعض المكتسبة؛ كي تكون الوراثة في المال والعلم والحكمة والسجايا الفطرية، وقد نفى بعض العلماء الوراثة لقول النبي - ﷺ -: " نحن معشر الأنبياء لَا نورث " (١) ولكن الأكثر على أن الوراثة في المال بالنسبة لزكريا - عليه السلام - هي ثابتة، ولعل ما ذكره النبي - ﷺ - غالب ما عليه الأنبياء أو خاص بالمرسلين أصحاب الشرائع منهم كموسى وعيسى ونوح وإبراهيم - عليهم السلام - وإلى هذا نميل؛ لأنه من المؤكد أنه ورث سليمان داود بنص القرآن الكريم.
وقوله تعالى: (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، (مِنْ) هنا تدل على الابتداء، أي يرث ميراثا من آل يعقوب.
هذا هو الطلب الأول الذي دعا ربه ضارعا إليه، أما الطلب الثاني فهو أنه خصه بأن يكون مرضيا، أي تكون سجاياه وأعماله وأخلاقه مرضية مستقيمة، ولذا قال تعالى: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، (رَضِيًّا) هنا فعيل بمعنى مفعول، أي اجعله مرضيا عندك، أي أن أخلاقه وأفعاله وصفاته المكتسبة موضع رضا منك، ولم يقل: وكن راضيا عنه، لأنه يطلب ما يطلب في خلق الولي وتكوينه، أي اجعله في تكوينه محاولا رضاك، وأن ترضى عنه، بحيث يتخذ الأسباب لينال رضاك أنت العليم الحكيم فلا يكون شقيا، ولا يكون عصيا بل يكون رضيا برا تقيا.
وإن الدعاء صادر من قلب خاشع ضارع، ولذا استجاب سبحانه وكان الخارق للعادة فقال تعالى:
________
(١) المرجع السابق.
ابتدأ الإجابة بندائه باسمه إدناء، وعناية وإظهار الحبة واختصاصه، وتمكينا لإجابته في ندائه الضارع، وأردف ذلك النداء المقرِّب بقوله: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ)، (نُبَشِّرُكَ) أضاف سبحانه التبشير إلى ذاته العلية ذاكرا بضمير المتكلم العظيم فوق كل عظمة الذي لَا يتقيد بأسباب الناس وعاداتهم، بل إنه الفعال لما يريد (بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى)، وتأكيدا للتبشير سماه اللَّه تعالى، فسماه يحيى، ولهذا الاسم مناسبة واضحة بالنسبة لأبويه، فأبوه شيخ فان، وكأنما رد إليه شبابه في حياة ولده فكان له إحياء، وأمه عاقر، كأنما خلق اللَّه تعالى الحياة في رحم جف فلم يربّ جنينا، فكان منه الولد، وذلك بلا ريب خرق للأسباب والمسببات العادية التي فرضها فأسفة اليونان الذين قارنوا ظهور المسيح - عليه السلام - ومريم أمه، وزكريا كافلها، و (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)، أي شبيها في خلاله وسجاياه، فقد كان حصورا من الصالحين وليس له سمي، فالتسمية من اللَّه، وقد سبق يحيى بها كل الأسماء التي سمي بها الرجال.
وهنا نجد نبي اللَّه زكريا، وقد وقف بين حالين: حال الإيمان باللَّه خالق الأسباب والمسببات الذي لَا تقيد إرادته عادة ولا سبب أي سبب، والحال التي تسود الناس، وهي سيطرة الأسباب والمسببات العادية على تفكيرهم، فبالأولى طلب ما طلب عالما أن اللَّه تعالى فوق الأسباب والمسببات، وبالثانية ثار عجبه؛ ولذا قال تعالى عنه:
الاستفهام ليس للاستنكار؛ فكيف يستنكر نبي قدرة اللَّه تعالى على الأشياء من غير وسائط وأسباب، وهو خالق الوسائط والأسباب، وإنما كان هذا السؤال للتنبيه إلى موضع الغرابة، وليؤمن من لم يكن آمن بقدرة اللَّه تعالى، وأنه لا
وموضع البعد أنه شيخ فانٍ قد تصلبت عظامه وصار كالحطام الذي لَا تجري فيه الحياة، فقد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر لم تنجب ولم يكن من شأن أمثالها في العادة أن تنجب، وقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، أي بلغت من كبر السن حدا صرت فيه صلب العظام معروق اللحم، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة (عتي) واشتقاقها: " أى بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل، ويقال: عتا العود من أجل الكبر والطعن في السن العالية، أو بلغت من مدارح الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا " اهـ (١).
وأصل عتي عتوو. كسر ما قبل الواو الأولى فقلبت ثم اجتمعت الواو والياء وكانت إحداهما ساكنة فقلبت ياء وأدغمت الياء في الياء، وقرئت (عِتِيًّا) بكسر العين وبضمها (٢).
أجاب اللَّه تعالى زكريا بقوله:
________
(١) الكشاف للزمخشري: ٢/ ٥٠٣، والجساوة: الصلابة والخشونة. لسان العربَ جسا.
(٢) اختلف في (عتيا)، فحمزة والكسائي وحفص: بكسر العين، وقرأها الباقون بالضم. الشيخ محمود خليل الحصري - القراءات العشر من الشاطبية والدرة - الشمرلي. مختصرا.
(كَذَلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلا الأمر كذلك، وقائل هذا هو الملك الذي تولى الوحي بين زكريا وربه، أي قال الملك: الأمر كذلك، فقد قدره اللَّه تعالى، وأحكم ما قدر، ثم نقل عن اللَّه تعالى قوله: (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وعبر بـ (رَبُّكَ) للإشارة إلى أنه خالقه ومربيه والقائم على كل أموره، وأنه لا غرابة في أن يكون هذا من الحي القيوم (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، الضمير (هُوَ) يعود
وقد خلقتك من قبل هذا ولم تك شيئا؛ لأني خلقتك من عدم لَا بعد شيء، وإذا كان ذلك ممكنا وواقعا وقد وقع فبالأولى يكون الخلق من شيء، وإن كان من أب شيخ وأم عاقر فهما شيء، والخلق من شيء أقرب في الوجود من الخلق من عدم.
اطمأن زكريا الرسول إلى بشرى رب العالمين أو قوي اطمئنانه، أو زالت الغرابة من نفسه وبقي أن يوثق البشرَى:
الآية هنا العلامة التي يعرف بها أن امرأته حملت، وأن الولادة آتية لا ريب، فإن الولد قرة عينه وإنه آت لَا محالة لوعد اللَّه تعالى به. وإن اللَّه لَا يخلف الميعاد (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، وِقد قال تعالى في سورة آل عمران: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١).
وقد ذكر الأيام في سورة آل عمران، والليالي في سورة مريم؛ للدلالة على أن العلامة هي ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بلياليها، وكان ذكر الليالي في هذه السورة لأنها مكية، وما كان العرب الأميون في مكة يعرفون الأيام إلا بالليالي، حيث يرون القمر فهو شهر الأميين، والأيام الثلاثة قد حبس اللَّه تعالى لسانه عن النطق، فما كان يتكلم إلا بالإشارة، كما قال تعالى في سورة آل عمران:
(... أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا...)، أي بالاشارة، وأوضح الإشارات الكتابة، وقوله تعالى: (سَوِيًّا) حال من ضمير (تُكَلِّمَ)، أي سوى الخلق سليم
(الْمِحْرَابِ) هو المصلَّى، ويظهر أنه كان يلازمه عندما وعده ربه أو كان قربيا منه دائما، ولذا كان خروجه مبتدأ منه، وسمي المصلَّى محرابا؛ لأنه يحارب الشيطان بلزومه فهو مشتق من المحرب، أو يحارب التعب ويأنس فيه باللَّه والقرب منه، فيكون مشتقا من الحرب والتعب وجهاد النفس.
ومهما يكن اشتقاقه فهو أشرف مكان خرج على قومه منه وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا، (فَأَوْحَى) أي أشار إليهم، وكأنه كان إلى محبوس اللسان، كما يدل على ذلك مخاطبته لفومه بالإشارة والرمز، وقد كان هو في ذكر دائم، كما قال تعالى: (... وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِي وَالإِبْكَارِ).
وقد دعا قومه للمشاركة في هذا بالإشارة لشكر اللَّه تعالى لما تأكد من العلامة أن اللَّه تعالى وهبه الولد الذي يكون وليا.
والتسبيح: التقديس، والتسبيح في العشي والإبكار يفيد أنه تسبيح طوال النهار وطرفا من الليل، وكانت دعوة قومه للتسبيح معه؛ لأنه ذلك الولي الذي
بعد ذلك كان يحيى نبي اللَّه، وقد صار شخصا سويا يخاطب وينادى بما أنعم اللَّه به عليه وعلى أبيه فقال تعالى مخاطبا نبيه يحيى:
ناداه سبحانه بالبعيد إعلاء له وتشريفا، وناداه باسمه محبة له وتقريبا، وقد دل ذلك النداء على أنه بلغ حد الخطاب؛ ولذا تضمن معنى كبر وكمل، وعطف عليه بقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فالواو عاطفة تحمل على ما تضمنه معنى (يَا يَحْيَى) من بلوغ الرشد، واستواء الشخصية الإنسانية وذلك أمر خارق للعادة فإن الصبي يشدو في الكمال حتى يبلغ مبلغ الرجال، فيخاطب كما يخاطب الرجال، ولكنه بلغ مبلغ الرجال، وهو مبلغ من يعطيه اللَّه تعالى الحكْم، والحُكْم هنا الحكمة، وذلك كما في كلام حكيم تميم أكثم بن صيفي " الصمت حكْم، وقليل فاعله "، أي الصمت حكمة وقليل فاعله، والكتاب الذي أخذه هو التوراة، فقد كانت التوراة شريعة النبيين الذين جاءوا من بعد موسى يقرأونها وينفذون أحكامها، ويعلمونها للناس ويحكمون بما اشتملت عليه من نظم، فداود وسليمان - عليهما السلام - كانا ينفذان في ملكهما حكم التوراة، ويقيمان ما اشتملت من حدود وقصاص من غير تفريط فيها، ومعنى (بِقُوَّةٍ)، أي خذه منفذا له بقوة لا تخشى فيه لومة لائم، ولا معذرة لأثيم.
وقد ذكر اللَّه سبحانه ما حلاه من صفات بشرية هي صفاث البشر الكامل فقال تعالى:
ذكر اللَّه تعالى ثلاث صفات هي صفات الكمال لإنسان يعيش في وسط مجتمع يغذيه بماله وعاطفته، ويجنب عنه السوء.
والصفة الثانية: الطهارة وذكرها اللَّه تعالى بقوله: (وَزَكاةً)، أي طهارة، وهي طهارة إيجابية فهو طاهر في نفسه، ويفيض بطهارته على غيره، ولذا نقول: إن " زكاة " تتضمن طهارة النفس، والفيض على قومه بالصدقات، فتكون طهارة لذاته وطهارة لمجتمعه من الموبقات، فإن الزكاة طهارة للمجتمع.
والصفة الثالثة: التقوى وقد قال تعالى (وَكانَ تَقِيًّا)، أي كانت نفسه مملوءة بالتقوى وهي خوف الله تعالى، وخوف الشر لقومه، فكان نبيا، وكان إنسانا كاملا سوي الخلق والنفس، وتحققت فيه أمنية أبيه ولذا قال تعالى:
هذان الوصفان يضافان إلى الأوصاف الثلاثة السابقة، أول الوصفين إيجابي، والثاني سلبي.
أما الوصف الأول: فهو أنه كان برا بأبويه، وهو استجابة لزكريا؛ لأنه كان يخاف الموالي من ورائه، فجاءه البر به وبأمه، والذي به تقر أعينهما، ولا يجدون شقوة في عشرته بل يصاحبهما صحبة طيبة كريمة برة.
والوصف الثاني: سلبي، وهو أنه لم يكن جبارا مستكبرا مستطيلا على الناس بقوته أو رهبته، بل كان أليفا متطامنا مطمئن النفس عادلا، لَا يُرهب، ولا يتجبر، ووصف الجبار بأنه عصي، وكل جبار عصي؛ لأن يعصي بالبعد عن الناس ويعصي بمجافاتهم، ويعصي بعداوتهم، ويعصي بالظلم، فالظلم مرتعه وخيم، ويشقى فوق ذلك بغضب اللَّه تعالى عليه، وحسب الظلم شقاء، فإنه لَا يظلم إلا
السلام هو الأمن، والأمن يتضمن الأمن من عذاب اللَّه، والظفر برضاه، وهو أكبر ما يأخذه العبد، وهذا الأمن والرضا من وقت ولادته، فهو مبارك آمن يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا.
* * *
ولادة عيسى
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢)
* * *
قلنا: إن العصر الذي قارب عيسى هو عصر الإيمان بالأسباب والمسببات العادية حتى ادعى أن الكون نشأ من منشئه على نظام: العلة والمعاول.
وعيسى كان من غير أب، بل سبق ذلك خوارق أخرى في الحمل بأمه، وفي كفالتها ومدة حضانتها، فقد كانت وهي في حضانة زكريا تعيش في المسجد محررة له كما نذرتها أمها في أثناء الحمل بها، إذ قالت مخاطبة ربها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨).
نرى أن خرق نظام الأسباب والمسببات ابتدأ بما كان من رزق مريم الذي أثار عجب زكريا، وقد رأى الأسباب تُطوى ولا تحول بين اللَّه تعالى وما يريد، فدعا ربه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة.
فخرق نظام الأسباب العادية ومسبباتها كان في أم عيسى قبل أن تجيء إرهاصات ولادته، بل كانت هذه هي الإرهاصات الأولى، ولذا كان اصطفاء اللَّه مريم البتول لتكون أم المسيح، إذ قال عز من قائل (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)، كانت هذه كلها إرهاصات لما اختارها اللَّه تعالى له.
الخطاب للنبي - ﷺ -، والكتاب هو القرآن الكريم، فهو الكتاب الكامل الذي إذا ذكرت كلمة الكتاب انتهت إليه، فهو الجدير وحده بأن يسمى الكتاب؛ لأنه كامل في نسبته إلى اللَّه تعالى، إذ هو خطابه لعباده، وكامل فيما اشتمل عليه من إعجاز، وكامل فيما اشتمل عليه من شرائع وحكم ومواعظ وقصص.
(إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) النبذ: الطرح والرمي، وانتبذ معناه نبذه نبذا شديدا، والمعنى أنها اعتزلت الناس ونبذتهم، وانفردت لعبادة اللَّه وحده، لا تأنس إلا به، ولا يعمر قلبها إلا بذكره، والمعنى انفردت من أهلها (مَكَانًا شَرْقِيًّا)، أي انفردت من أهلها في مكان شرقي بيت المقدس الذي كان فيه محرابها، ومحراب كافلها زكريا - عليه السلام -، وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما.
ولذا قال تعالى:
والفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها، فلا يرونها في عزلتها، ولا تراهم، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من اللَّه تعالى، لتكون أما لعيسى، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقي أمر ربها، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي، أو بالإلهام الروحي: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣).
في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة، كان لقاء جبريل الأمين لها، ولذا قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)، الروح هو جبريل، وقد عبر عنه بروح القدس، وأضيفت الروح إلى اللَّه؛ لأنه خالقها؛
(... فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا...)، أي جبريل الأمين، والفاء للترتيب، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل، فتمثل لها بشرا سويا، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوي الخلق والتكوين حسن الصورة، وقد جاءها كذلك، لأن البشر لَا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر، قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)؛ لأن البشر بحالهم البشرية لَا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية.
فوجئت البتول مريم - وهي في مكان قصي شرقي قد انتبذت الناس، واتخذت من دونهم حجابا - بصورة رجل من البشر يدخل عليها ولا تدري من أين جاءها، وقد سدت الأبواب، وقام الحجاب، وفي الفزع من المفاجأة، قال اللَّه عنها:
أي ألجأ إلى اللَّه تعالى منك حذرة خائفة، وذكرت اللَّه تعالى بوصف الرحمن كأنها تستغيث من الناس برحمة اللَّه تعالى، وأنها في هذه الساعة تلجأ إلى رحمة الرحمن الرحيم، ثم تتجه إلى الذي دنا منها مستنجدة بتقواه، فتقول: (إِن كُنتَ تَقِيًّا)، طاهرا متصونا مرجوا تخاف اللَّه تعالى وتخشاه، فهي تلجأ إلى الرحمن، وتحثه على أن يخافه ويتقيه، ويكون امرءا يخاف عذابه ويرجو ثوابه، هنا يتقدم الملك الذي تمثل بشرا سويا يعلن حقيقته ومهمته، وأنه ما جاء لينال منها شرا وأن ما سبق إلى وهمها ينفيه نفيا قاطعا، ويزكيها ويقوي اصطفاء اللَّه تعالى كما جاء في سورة آل عمران:
________
(١) راجع سورة آل عمران من هذا التفسير المبارك.
وقوله تعالى: (غُلامًا زَكيًّا)، أي غلاما طاهرا ناميا في جسمه ونفسه وروحه، وكل ما يتصل بالنمو الإنساني الكامل.
اعتراها ما اعترى كافلها زكريا من استيلاء الأسباب والمسببات العادية فكانت مستغربة، وحكى اللَّه تعالى عنها أنها قالت:
________
(١) قراءة (ليهب لك): أبو عمرو، وروح - وصوب ابن الجزري في النشر يعقوب بكماله - وورش، وأبو نشيط عن قالون عن نافع، وقرأ الباقون (لأهب) بهمزة مفتوحة. راجع: الهمداني - غاية الاختصار - تحقيق د/ أشرف محمد فؤاد طلعت (٢/ ٥٦٣)، والنشر في القراءات العشر (٢/ ٣١٨).
(أَنَّى) بمعنى كيف وهي للاستغراب لتأثرها بنظرية الأسباب التي كانت سائدة، ولأن هذا هو النظام الذي كانت تعرفه ويعرفه الناس، وموضع الاستغراب أن يكون لها غلام ولم يكن أحد من الرجال قد مسها، أي خالطها مخالطة جنسية بزاوج شرعي، أي أنها لم تزف إلى رجل في الحلال، ولم تك بغيا أي امرأة مبغية مقصودة من الرجال، بل كانت عفيفة نزيهة طاهرة، وبغي: قال بعض الصرفيين: إنها على وزن " فعول " دخلها الإعلال بأن اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالتسكين فَعُلَّتْ وأدغمت الياء، وعندي أنها على وزن " فعيلة " بمعنى مفعول، ولم تلحقها التاء، وذلك مثل قتيل وجريح، والمرأة المتفحشة يقال لها بغي لأنها تُبتغَى من الرجال ويطلبونها.
وقد رد اللَّه سبحانه وتعالى قولها بأنه سبحانه أراد ذلك، وإرادته فوق الأسباب، ولذا قال تعالى:
(قَالَ): أي جبريل، (كَذَلِكِ) خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، قد تقرر في علم اللَّه المكنون وقدره المحتوم، فلا تغيير فيه استبعدتيه أو لم تستبعديه، (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، أي قال ربك الذي خلقك ولم تكوني شيئا وكلأك وحماك وربَّاك واصطفاك على نساء العالمين؛ لهذه الخاصة التي منحك اللَّه تعالى إياها، هو على اللَّه هين؛ لأنه يكون أي شيء في الوجود بقوله تعالى: (... كن فَيَكُونُ)، فليس خلق شيء بعزيز على اللَّه خالق لَا شيء (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) " الواو " عاطفة على فعل محذوف يفهم من الكلام (هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ) فثبتت قدرتنا الكاملة في تغير الأسباب العادية ومسبباتها، وإن إرادتنا لا يقيدها شيء، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ)، الضمير يعود على الغلام، والآية هي الدلالة على قدرة اللَّه تعالى المطلقة على خرق الأسباب والمسببات، فأي دلالة أقوى في الدلالة على أن اللَّه تعالى فعال لما يريد، لَا تتقيد بالأسباب والمسببات، كما يتوهم الفلاسفة ومن يلف لفهم ويسير في دروبهم.
(وَرَحْمَةً مِّنَّا)، أي أن ذلك الغلام سيكون آية دالة على كمال القدرة الربانية وسيكون رحمة منا؛ إذ نبعثه بالرحمة والرأفة والتسامح الإنساني.
ويقول سبحانه في بيان أن ذلك أمر محتوم (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) قررنا [بحتمه]، وفي حدود قدرتنا، ونفذناه بحكمتنا العالية التي لَا تعلو إليها مدارك البشر، إنه هو العليم الخبير السميع البصير.
جاء في بعض الروايات أنها حملت بنفخِ جبريلِ في بعض ثيابها، فروى أن جبريل - عليه السلام - حين قال لها: (كَذَلِكِ قَالَ ربُّكِ هو عَلَيَّ هيّنٌ) نفخ في جيب درعها، وعن ابن عباس أخذ جبريل ردن قميصها (١) فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى، وإن هذا يتلاقى مع قوله في سورة الأنبياء: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) فهو لم ينفخ في الفرج، ولكن نفخ في مريم ذاتها، وذلك بالنفخ في فتحات من قميصها، وعلى أي حال الكلام في ذلك ليس ذا جداء، فإن جبريل روح من اللَّه تعالى وليست له خواص الآدمي، بل له الخواص الروحية التي لَا تتصل بالمادة.
قيل: كان الحمل بعيسى ومريم في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولا يهمنا مقدار سنها، إنما يهمنا أنها كانت عذراء وأنها حملت من غير زوج مطلقا، بل جاء حملها أمرا خارقا لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به الفلاسفة، ولا يؤمنون بأن الله فعال لما يريد، فجاءت ولادة عيسى من غير أب أمرا خارقا لهذا النظام؛ ولذا قال الشهرستاني: بحق إن عيسى بوجوده معجزة في ذاتها.
وعندما أحست بالحمل واعتزلت الناس وانفردت عنهم، وانتبذتهم في مكان قصي بعيد وشددت في نبذهم وعدم الانغمار في جمعهم، لأنها صارت تصاحب من نفسها من يؤنسها في وحدتها، وهو الحمل الذي تسعد به كل امرأة في هذه الدنيا، ولذا قال تعالى: (فَانتَبَذَتْ بِهِ)، أي انتبذت مصاحبة له (مَكَانًا قَصِيًّا)، (مَكَانًا) ظرف، أي في مكان (قَصِيًّا) بعيد عن الناس حتى لَا يروها فيقلقوها بفضولهم، وفي الناس في كل العصور فضول، يقولون فيه ما لَا يعنيهم ولا يهمهم.
ولكن لابد من المواجهة عندما ترجع إليهم حاملة معها غلاما طاهرا زكيا ناميا.
________
(١) الردنُ، بالضم: أصْلُ الكُم، والجمع أرْدَانٌ. القاموس المحيط. وفي العين: مُقَدَّمُ كُم القميص.
وكانت - عليها السلام - قد انتبذت الناس في ذلك المكان القصي، حتى اضطررت إلى الخروج منه وذلك بسبب المخاض الذي هو مقدمة الولادة، ولذا قال تعالى:
* * *
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
* * *
من إخباره إلى حمله على المجيء وساقه إليه غير مختار فيه، ولذا كان معناه ألجأها المخاض وهو الطلق عند النساء أو مقدمة الولادة، وكان إلجاؤها إلى جذع النخلة؛ لأنها احتاجت إلى شيء تعتمد عليه وتتعلق به لشدة الحمل وكره الولادة
وجذع النخلة عادة يكون يابسا سواء أكانت النخلة مثمرة أم كانت غير مثمرة، وسواء أكانت في أرض زراعية أم كانت غير زراعية، والنخل يكون في الأرض غير الزراعية، و " أل " للجنس كقولك: ادخل السوق واشتر شيئا، فليس ثمة سوق معينة، ولا تكون للعهد؛ لأنه لم تذكر من قبل شجرة، ولا يكون في الذهن شجرة معينة.
وقد كانت مريم العذراء البتول في كربين:
الكرب الأول: احتملته ورضيته بحكم الفطرة وهو كره الولادة كما ذكرنا.
والكرب الثاني: العار الذي زعمته ويستقبلها، فإنها البريئة الطاهرة تستقبل اتهاما وهي البريئة وذلك عبؤه على البريء ثقيل، ولذا قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا).
تنادي " ليت " الدالة على التمني، وكأنها تقول إنها تتمنى الموت، وتنادي أداة تمنى الموت قبل هذا، لأن ذلك وقت تمني الموت فرارا من عار الاتهام الظالم، وهي البريئة الطاهرة التي اصطفاها رب العالمين.
وأنها ما قالت الذي قالته تململا مما أراد رب العالمين لها من كرامة، وإنما كان ذلك استشعارًا من ضعفها وصعوبة الاحتمال، وإن كانت راضية بما قضى اللَّه وبما أمر، غير خالعة ربقة، ولا متمردة على طاعه، (وَكنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)، المنسِيّ والنَسِيّ: الشيء المنسي، كذبح الشيء المذبوح، ونقص الشيء المنقوص، فالنسي الشيء الذي من شأنه أن ينسى؛ لأنه مهمل في ذاته، والمنسي بالفعل.
وقد قال الزمخشري في هذا الأمر الذي كانت عليه العذراء البتول - محللا الألفاظ - وهو إمام البلاغة: المنسي ما من شأنه أن ينسى ويطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها، كالذِّبح اسم ما شأنه أن يذبح، قال تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبحٍ
تمنت لو كانت شيئا تافها لَا يؤبه له من شأنه وحقه أن ينسى في العادة، وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو من حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء (أي الحال التي توجب الاستحياء) من الناس على حكم العادة البشرية لَا كراهة لحكم اللَّه، أو لشدة التكليف عليها إذ بهتوها، وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به، من اختصاص اللَّه إياها بغاية الإجلال والإكرام، لأنه مقام دحض (١) قلما تثبت فيه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم، وفضل باهر تستحق به المدح، ويستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم عيبا يعاب به، أو يعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا اللَّه تعالى بسببها.
في هذا الكرب الشديد الذي لَا تمرد فيه كانت تحف بها مكارم اللَّه، وخوارق العادات.
(فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥)
________
(١) الدَّحْضُ: الزَّلَقُ، والإِدْحاضُ: الإِزْلاقُ. لسان العرب. دحض.
وقال تعالى:
________
(١) انظر الحاكم في المستدرك (٣٤٦٠)، وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الطبراني في الصغير عن البراء بن عازب مرفوعا، كما في مجمع الزوائد: ٧/ ١٤٩ (٥٥١١١).
(الواو) عاطفة، فيعد أن نهى المنادي عن الحزن أخذ يدعوها بعد الانصراف أن تأكل مستريحة مطمئنة، وأن تشرب هنيئا مريئا وتلتفت إلى حاجة الجسم الذي نهكه المخاض وتحتاج إلى تعويضه.
والباء في قوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة) يقول الزمخشري أنها صلة للتأكيد كقوله تعالى: (... وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...).
وأرى أن الباء للدلالة على تسهيل وصول الرطب إليها؛ ذلك أنها تهز في مكان هو الجذع تتساقط عليها الرطب من عَلٍ، وذلك بلا ريب تيسيرا للوصول، فلا تهز من أعلى بل تهز بمكان قريب منها، وهي النفساء والتي تتعبها الحركة الكثيرة.
وقوله (إِلَيْكِ) للإشارة إلى قرب المكان الذي تهز منه بشدة إليها، وقال الزمخشري: إن في قوله تعالى: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) تسع قراءات، وكل يتعلق بحركات الفاء، ولا فرق كبير بين معاني هذه القراءات، ولذا لَا حاجة إلى
وقد قال أكثر المفسرين: إن جذع النخلة كان جافا، وهي جافة، ولم يكن فيها ثمر فأثمرت فكان ذلك خارقا للعادة، ونقول: إن الآيات الكريمات الخاصة بالحمل بعيسى - عليه السلام - وولادته ثرية بالخوارق فلا نزيد عليها إلا ما يثبت بالنص، ولا نفرض من غير نص.
وإذا كان الطعام والشراب قد توافر فقد كان حقا عليها أن كل وتشرب، ولذا قال تعالى:
(الفاء) للإفصاح؛ لأنها نفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت البراءة متوافرة، وقد تهيأ الطعام والشراب وكان معك غلام سوي سيكون الأمثل بين الرجال، (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا)، فكلي من الرطب الجني، واشربي من الجدول السري، (وَقَرِّي عَيْنًا) بما وهبك اللَّه تعالى من غلام زكي، وقرار العين سكونها، وإن الإنسان في اضطرابه وخوفه تدور عينه ولا تستقر، فكنى بقرار العين عن السكون والاطمئنان، فقرار العين يعلن عن قرار النفس، والأمر بقرار العين وإن لم تكن تحت سلطان الإرادة أمر باطمئنان النفس وإبعاد الهواجس المخيفة، وألا تتوقع سوءا؛ لأن اللَّه معها، وقامت الخوارق الدالة على أنه سبحانه وتعالى معها، ومن كان اللَّه معه فإنه يجب أن يكون مطمئنا قرير العين والنفس.
ولقد صرح الملك بما يجب عليها لاتقاء فضول الناس قال الملك: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) " إن " حرف شرط، و " ما " تأكيد لفعل الشرط، بدليل التوكيد بالنون الثقيلة، كتوكيد القسم، وهو توكيد لأنها سترى من البشر كثيرا ولا ترى منهم ومن فضولهم ما لَا يسرها،
التقت بهم، وعبر اللَّه تعالى عن لقائها بهم بقوله تعالى:
* * *
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
* * *
الفِرى العظيم القبح فقوله تعالى: (فَرِيًّا)، أي أمرا عظيما، وهو أنك أتيت بولد لَا نَسب له، وهو من يكون من زنى، ومن الأدب في التعبير أن يقول
وقد أرسلوا القول في هذا الافتراء الكاذب عليها، وقد أقرَّ اللَّه نفسها به رأت من عناية اللَّه تعالى بها وإجراء خوارق العادات لأجلها وولدها، وهي شاهدة لها ولولدها الغلام الزكي بالكرامة والإكبار.
قالوا منددين لها على حسب مداركهم:
ينفون عن أبويها الشر، فأبوها لم يكن امرأ تغلغل فيه السوء حتى صار يعرف به فلم يكن قرين سوء، (وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيًّا) يبغونها الرجال لقضاء مآربهم، وتناسوا أنها كانت خالصة لخدمة البيت وتربت في كفالة نبي الله زكريا - عليه السلام -، وهارون في ظاهر القرآن ومتضافر الروايات هو هارون أخو موسى، وينادي الرجل برأس قبيله وأبيهم فيقال يا أخا العرب، ويا أخا قريش، ويا أخا تميم، ويا أخا همدان إلى آخر ما يجري على ألسنة الناس، ولكنها صمتت ولم ترُدَّ، وأشارت إلى من يرُدُّ وهنا ظهر ما يبهتهم ويرد غيهم.
فأشارت إشارة فهموها ليخاطبوا عيسى - عليه السلام -، وذلك بإلهام اللَّه تعالى:
أشارت إليهم ليستمعوا إلى ما عدوه مادة الاتهام ليعرفوا أنه كان الحمل به أمرا من اللَّه، فأثار ذلك عجبهم، وقالوا مستبعدين مستنكرين إشارتها، ولعلهم جرت في نفوسهم ما هو أبعد مما اتهموا (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) الاستفهام للإنكار أو الاستغراب، أي غريب أن نكلم من كان في المهد صبيا، وذكرت كلمة (نُكَلِّمُ) للإشارة إلى موضع الاستنكار أو لتفسير معنى (فِي الْمَهْدِ)، أو للمبالغة في الاستنكار، أي أن الاستنكار لأمرين: كونه (فِي الْمَهْدِ) فهذا عجب، وكونه (صَبِيًّا)، وهذا أعجب أيضا، والمراد بـ " المهد " الحِجْر سواء
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
كان كلامه الحكيم الفيصل بين الحق والباطل وأبلغ ما يكون ردا للاتهام الذي لَا يقوم إلا بمجرى العادات، فتبين لهم أنه فوق مجرى العادات الحاكمة التي يحسبها فلاسفتهم أن الأسباب والمسببات قانون لَا يقبل التخلف، ونسوا أن خالق الأسباب والمسببات فوق كل نظام؛ لأنه خالق كل نظام وفعال لما يريد.
ونلاحظ قبل أن نتكلم في معاني هذه الآيات أنها عندما واجهت القوم لم تقل كما أمرت (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صوْمًا فَلَنْ أُكلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، ولكنها نفذت الأمر بالفعل فلم تتكلم معهم بل أشارت إليه أن يرد، فهي نفذت مدلول الأمر ولم تنطق به ولو نطقت لكان ذلك نقضا للصوم الذي نذرته.
وقد أثار العلماء بحثا حول نطقه صغيرا بهذا الكلام الذي لَا ينطق به إلا نبي يوحى إليه، أكان هذا الكلام نتيجة بعثه نبيا، وأنه بذلك بُعث وهو صبي في المهد، وقد أجاب الأكثرون عن ذلك بأنه تكلم في المهد ليتحقق وفاء أمه بنذرها، ولتحقق براءة أمه من اتهامها بالزنى، وهي البريئة العذراء البتول التي اصطفاها اللَّه على نساء العالمين، ثم عاد إلى ما يكون عليه الأطفال حتى بلغ المبلغ الذي ينطق فيه من يكون في سن النطق، وأثاروا بحثا حول ما جاء بقوله من أنه أوتي الكتاب، وجَعْله نبيا، وإيصائه بالصلاة والزكاة، وبره بأمه ونطقه بقوله (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣). وأجيب عن ذلك بأن كل هذا الذي أخبر به سبق بلفظ الماضي، ومعناه للمستقبل كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وذلك
أول قول لعيسى في المهد:
والكتاب ذكر بالتعريف بـ (أل)، وقد أشرنا إلى أنه التوراة والإنجيل، فإن الإنجيل لم ينسخ التوراة، ولكن نسخ بعض أحكامها، وما يغاير فيها لَا يؤخذ به، وما لم ينص عليه فيها يؤخذ بأحكامها.
وقد بين عيسى - عليه السلام - على لسانه وهو في المهد أنه سيكون مباركا، فقال تعالى عنه:
ثم قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَاة مَا دُمْتُ حَيًّا)، الإيصاء: الأمر المؤكد الواجب الاتباع أوصاه اللَّه تعالي (بِالصَّلاةِ)، ويكنى بها عن إصلاح نفسه
وقد قرر الغلام الطاهر أن ذلك كتب عليه ما دام حيا، لَا يترخص في ترك الصلاة ولا يسوغ تركها، ولا مسوغ لترك الزكاة إذا توافرت موجباتها.
وإن جعل هذه الأفعال بالماضي لتأكيد حصوله في المستقبل؛ ولأن الماضي والمضارع والأمر إنما هو بالأزمان التي يتفاوت العلم بها عندنا، أما بالنسبة للَّه تعالى فعلمه أزلي لَا تحده الأزمان.
والأمر الثالث ذكره سبحانه وتعالى عند بقوله:
في هذا النص الكريم أمران جليلان:
الأمر الأول: إيجابي وهو بر أمه، وحسن صحبتها والإحسان إليها جزاء ما قالت بسببه فقد وضعته كرها وحملته كرها، وقالت من الأذى النفس والملام وتحملت ما تحملت في سبيل ذلك حتى برأها اللَّه تعالى بكلامه هو، ومهما يكن فقد تحملت قبل أذى كثيرا، فكانت جديرة بحسن الصحبة والإحسان، وهو البَر الطاهر الكريم، بالآدمية الروحية.
الأمر الثاني: سلبي، وهو قول تعالى: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، الجبار هو الظالم المتكبر المتطاول على الناس بالحق الذي يؤذي الضعفاء ويستعلي عليهم، وقد كان من نعمة اللَّه تعالى التي أنعم اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام - أنه لم يجعله جبارا، وقد وصف الجبار بأنه شقي مطرود من رحمة اللَّه، وقد كتبت عليه الشقوة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو أنه مبغض إلى الناس يتمنون به النازلات، ويتحينون له الفرض ليردوه، وهو يتوجس بنفسه من الناس وممن يحيطون به، فهو في شقاء دائم لنفرة الناس منه، فلا سعادة في نفسه وإن حسبه الناس سعيدا فهو
________
(١) مسند الشهاب ١/ ٢٤٣ - برقم (٣٨٩).
وفي هذا تقرير لأنه يعيش في أمن وقد ولد في أمن وأنه يموت في أمن، وفي هذا إشارة إلى أنه لن يقتله ولن يصلبه أحد، بل هو ولد آمنا، وعاش آمنا ومات آمنا؛ لأن السلام هو الأمن.
ونكرر ما لاحظناه، وهو أن ما جاء على لسان الغلام الطاهر هو ما سيكون له في المستقبل بالنسبة لزمان الإنسان.
هذا هو التعريف بعيسى - عليه السلام.
* * *
قال الله تعالى:
(ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)
* * *
هذا بيان لعيسى - عليه السلام -، بينت الآيات فيه كيف حملت به أمه، وبينت أن الذي نفخ فيها روح القدس، وهو مخلوق من اللَّه تعالى، فيكون ما ينفخه مخلوقا
الإشارة إلى المذكور من التبشير به على لسان جبريل - عليه السلام - ونفخه في مريم من جيب قميصها إلى ولادته ونطقه غلاما زكيا، وإن ذلك كله خارق لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به فلاسفة الإسكندرية التي ولدت منها ديانة التثليث. (قَوْلَ الْحَقِّ) هنا قراءتان: قراءة بضم اللام (١)، ويكون (قَوْلَ الْحَقِّ) بدلا من (عِيسَى)، أي أن عيسى هو قول الحق، والإضافة من إضافة الاسم إلى الوصف، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، وكان عيسى (قَوْلَ الْحَقِّ)، لأنه نشأ بالقول، إذا قال الله تعالى: (كن) فكان كما قال تعالى: (... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ...)، وعلى النصب (٢) يكون (قَوْلَ) مفعول لفعل محذوف، ويكون حذفه لبيان اختصاصه بأنه قول الحق وتقدير الكلام أخص قولَ الحق، وأنه خلق بقوله تعالى: (كن فيكون)، كما أشرنا، وكما سيقول الله تعالى فيما يتلو ذلك من آيات بينات، وقوله تعالى: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) الامتراء: الشك المقترن بملاحات ومجادلات بل مهاترات أحيانا.
وكذلك كان شخص عيسى - عليه السلام - موضع ملاحات وخلافات بين طوائف مسيحية، فإنه منذ انعقد مجمع نيقية سنة ٣٢٥ ميلادية والمناقشات جارية حول شخص المسيح - عليه السلام -، فمن ادعاء بنوته للَّه تعالى وألوهيته وفرضها على المسيحيين الموحدين، والخلافات والملاحات تجري، فقد ضموا إلى ألوهيته ألوهية روح
________
(١) قراءة (قولَ الحق) بالنصب: ابن عامر، وعاصم، ويعقوب، وقرأ الباقون بالرفع. غاية الاختصار.
(٢) انظر المرجع السابق.
وقد بين اللَّه تعالى الحق في المسيح عيسى - عليه السلام - وهو أنه عبد من عباد اللَّه تعالى اختاره سبحانه نبيا رسولا، وقد خُلق من غير أب، ليكون في خلقه آية، تبين أن اللَّه سبحانه وتعالى فعَّال مختار لَا يلزمه نظام الأسباب العادية ومسبباتها.
ولقد أكد سبحانه ما ذكره من أنه خَلْق من مخلوقات اللَّه تعالى، لذا قال عز من قائل:
نفَى سبحانه وتعالى أن يكون له ولد مثبتا له سبحانه بلحن القول وبصريحه أن ذلك ليس من شأنه، ولا من صفات الكمال والجلال، اتصف سبحانه وتعالى بها مخالفا الحوادث فقال: (مَا كانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ)، أي مما ساغ، ومما استقام أن يتخذ من ولد أيّ ولد كان، عيسى أو غيره؛ لأنه منزه عن مشابهته للحوادث؛ ولأنه دليل الاحتياج، واللَّه غني حميد لَا يحتاج لأحد؛ ولأنه خالق الوجود فنسبة كل موجود إليه كنسبة المخلوق للخالق؛ ولأنه لو كان له ولد لكانت له صاحبة تلده، ولذا قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)، وقد صرح سبحانه بتنزيهه عن ذلك فقال تعالى: (سُبْحَانَهُ)، أي تقدست ذاته المتصفة بالكمال، والغني عن كل البشر، والذي ليس كمثله شيء - عن ذلك: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، أي إذا حكم بوجود أمر أراد أن يوجد تكون إرادته وحده هي الموجدة وحدها من غير أوساط، ولا وسائط، وقد شبه حاله في ذلك
وإن اللَّه سبحانه هو المعبود وحده، ولذا قال تعالى:
هذا من كلام النبي - ﷺ - أمره اللَّه تعالى بأن يقوله بعد أن قص ولادة عيسى - عليه السلام - وامتراء الناس في أمره، وقد ادعوا بنوته وألوهيته، فأمر نبيه أن يقرر الحق في العبادة فقال، (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، أي إن اللَّه تعالى خالقي وخالقكم، والقائم على شئوني وشئونكم، وإن ذلك يقتضي أن نعبده، ولذا بعد أن قرر الربوبية أمر بالعبودية له سبحانه وتعالى وحده، لأن الألوهية تلازم الربوبية، وفي ذلك إبطال لأوهام المشركين الذين يقرون للَّه تعالى بالخلق والربوبية، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، ومن فيهما، وما فيهما من خلقه، ومع ذلك في العبادة يشركون به الأوثان ويتخذونها أندادا له سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَاعْبُدُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالعبادة مترتبة على الإقرار بالربوبية، لأنه الحق، وإن ذلك هو الصراط المستقيم، ولذا قال تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ) الإشارة إلى عبادة اللَّه وحده وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، وأنه لَا يليق بذاته المتصفة بالكمال، أي هذا وحده هو الصراط، أي الطريق الموصل إلى الحق، والخط المستقيم هو أقرب الخطوط للحق، ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...).
وهنا قراءتان في قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) قراءة بكسر (إِنَّ) وقراءة أخرى بفتحها (١)، وعلى القراءة الأولى كان ما قلناه في معاني
________
(١) قراءة كسر همزة (إن): ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وروح، وقرأ الباقون بفتح الهمزة.
غاية الاختصار - ٢/ ٥٦٤.
وقد بين سبحانه وتعالى اختلاف الناس في شأن الحقيقة الثابتة، وهي طريق اللَّه تعالى المستقيم الذي ذكره سبحانه في قوله تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فقال تعالى:
كانت آخر الآيات السابقة لهذه الآية قوله تعالى على لسان النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم وإن لم تذكر النسبة إليه لأنه ملاحظ في كل خطاب في بيان ما يجب بيانه: (وَإنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ)، قد بين سبحانه أن عبادة اللَّه تعالى وحده هي الصراط المستقيم، ومن حاد عنه زاغ وضل عن الهداية، ولكن هل تلقاه الناس بالطاعة والخضوع، فقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، فمنهم من أشرك، ومنهم من قال أنه اتخذ ولدا، واختلفوا في ذلك على فرق شتى، ولذا قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ)، (الفاء) عاطفة على ما قبلها في قوله تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) وهو عطف عملهم واعتقادهم على الاعتقاد المستقيم الذي لَا ريب فيه.
و (الأَحْزَابُ) جمع حزب، وهو الجماعة التي تنتحل نِحلة وتتميز بها وتناصرها، وتؤيدها وتنحاز بها عن غيرها، وتدافع عنها وتلاحى دونها، والكافرون أحزاب ونِحَل متباينة، فالنصارى طوائف، واليهود طوائف، والمشركون طوائف، فمنهم عبدة الأوثان، ومنهم عبدة النيران، ومنهم عبدة الشمس، ومع أن الطريق واضح هو المستقيم اختلف الكافرون ذلك الاختلاف، على نواح شتى وأهواء متباينة، فكلمة (الأَحْزَابُ) ليست مقصورة على فرق النصرانية، إنما المراد بها كل الذين أشركوا مع اللَّه سواء أكان ما أشركوه صنما أم شمسا أم نارا أم شخصا، وحزب اللَّه هم المؤمنون، كما قال تعالى: (... أولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
و (مِنْ) في قوله: (مِنْ بَيْنِهِمْ) قال كثير من المفسرين زائدة، ونحن لا نرى في القرآن حرفا زائدا، بل نقول إن (مِنْ) تؤدي معنى سليما فليس قولك " فاختلف الأحزاب بينهم "، كقول الله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) إن (مِنْ) تدل على أن اختلاف الأحزاب صادر عنهم هم، ومن بينهم، فإن التناحر بين الأهواء والأوهام الضالة هو الذي صدر عنه الاختلاف من بينهم ومنِ مضطربهم، وقد حكم اللَّه تعالى بمآلهم في هذا الاختلاف فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالهلاك في المشهود من أوهامهم وأهوائهم، والمشهد هو اسم مصدر بمعنى شهود يوم عظيم في أنه حساب وفيه العقاب، والجزاء بجهنم.
والمعنى الذي يظهر لنا، فهلاك شديد يوم الشهود العظيم، وهو يوم القيامة وقال: (لِّلَّذِينَ كفَرُوا) فأظهر في موضع الإضمار لإثبات سبب الهلاك، وهو الكفر والحجود، وتحكم الأوهام وسيطرة الفساد الفكري والضلال المبين.
وإن كانوا يُعرضون عن ذكر البعث والنشور، ولا يبصرون العواقب، ولا يتدبرون ما وراء، وإنهم في هذا اليوم المشهود يكونون أحدّ الناس سمعا وبصرا وإدراكا لما أنكروا من قبل، ولذا قال تعالى:
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) لفظان يستعملان للتعجب في اللغة العربية، أو لأفعل التفضيل المستفهم به، أي ما أسمعهم وما أبصرهم، فهم حديدو السمع والبصر، والمعنى أن حالهم في قوة لسمعهم للحق وقوة بصرهم وإدراكهم للحق حال
وإن اللَّه تعالى أمر نبيه الأمين أن ينذرهم بهذا اليوم المشهود؛ ولأنه يوم الحسرة عليهم؛ ولذا قال تعالى:
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، أي أنذرهم بهذا اليوم الذي يكون حسرة (إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ)، إذ تبين أمر اللَّه تعالى الذي قضاه، بأن قدر وجوده ونفذه، و (إِذْ) ظرف متعلق بالحسرة، أي أنه الحسرة لأنه قضي الأمر وجاء التنفيذ. والحسرة، لأنهم فرطوا في أمورهم ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب اللَّه، والحسرة؛ لأنهم رأوا العذاب وعاينوه، والحسرة لأنهم أنكروه، وهم اليوم قد عاينوه، والحسرة لأنهم خسروا أنفسهم وكذّبوا بلقاء اللَّه.
وقد وصفهم اللَّه تعالى بوصفين أحدهما ذريعة الآخر:
الوصف الأول: أنهم في غفلة فقال تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) الجملة حالية أي والحال أنهم في هذه الدنيا في غفلة، والتعبير بقوله: (فِي غَفْلَةٍ) يفيد أنهم قد
والوصف الثاني: أنهم (لا يُؤْمِنُونَ) وعبر اللَّه سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ) وهذه الجملة حالية كأختها، والحال أنهم لَا يؤمنون، وكان النفي نفيا للمضارع للإشارة على استمرارهم على الإيمان وهو نتيجة للغفلة التي أحاطتهم وسكنوها؛ لأن الإيمان بصر الحقائق وإدراك لها.
هذا، وإن الغرور المتمكن في أهل هذه الدنيا أنهم يحسبون في أعمالهم أنهم باقون، ولا يفكرون في الموت، وإن فكروا في الموت لَا يفكرون في البعث، وقد أكد سبحانه وتعالى هاتين الحقيقتين الموت والبعث فقال تعالى:
أخبر اللَّه تعالى عن نفسه بعبارة تدل على عظمة اللَّه وجلاله، وأكد ضمير (إِنَّا) بـ (نَحْنُ)، للدلالة على أنه لَا باقي إلا اللَّه تعالى، والجميع ميت، كما قال تعالى مخاطبا نبيه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)، وقوله تعالى: (نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي نحن نرث الأرض ونرث من عليها، فموضع (وَمنْ) في قوله تعالى: (وَمَنْ عَلَيْهَا) النصب بـ (نَرِثُ)، ومعنى وراثتها أنه هو وحده الباقي بعد الأرض ومن فيها فكلها إلى نهاية، وقد شبه وجوده العزيز الجبار بأنه يكون بعدها؛ كي يكون الوارث بعد المورث، فالمورث يموت والوارث يموت بعده، ولكن اللَّه حي لا يموت، وليس المعنى أن اللَّه يرث الأرض ويرث ما ترك الناس من المال والنسب، فاللَّه غني عن المخلوقات كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ثم قال: (وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) وهو البعث، وقدم الجار
* * *
إبراهيم - عليه السلام - وأبوه وأولاده
قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
* * *
قال تعالى في ابتداء قصة إبراهيم:
الأمر للنبي - ﷺ -، والكتاب هو القرآن، و (ال) للاستغراق، المعنى أي أنه هو الكتاب الجدير بأن يسمى كتابا، وهو الكامل والستغرق لكل صفات الكمال، والقصر فيه قصر إضافي، أي أنه لَا كتاب يوصف بالكمال المطلق سواه، وقوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) والصِّدِّيق هو البالغ أقصى درجات الصدق في القول والعمل والإذعان للحق، وهو الذي يصدق الحق إذا ألقي إليه، لَا يماري فيه ولا يمتنع عن الإقرار به والإذعان له، وأي دلالة أبلغ من التصديق والإذعان عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه فَهَمَّ بأن يذبحه، وقد قال تعالى في ذلك: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
وهو نبي من أولي العزم من الرسل، وَجَدُّ خاتم النبيين.
وإن هذا الجزء من قصة إبراهيم فيه علاقة الأبوة بإبراهيم واحترامها والتلطف فيها والرفق بها والمحبة لها.
قال تعالى عنه مخاطبا أباه:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣)
ابتدأ بندائه بقوله: (يَا أَبَتِ) وهو نداء المحبة العاطفة المقربة، وذلك شأن الداعي الكامل يبتدئ بما يقرب ولا ينفر.
وابتدأ بأن قال غير موجه لوما ولكن ساق إرشاده مَساق الاستفهام المستدنى، لا مقام الآمر المستعلي سائلا له سؤال المستفهِم في سياقه، ولكن المنبه بأرفق تعبير: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، لقد وصف معبوده وهو الصنم بثلاث صفات سلبية:
الوصف الأول: أنه لَا يسمع، وكيف يعبد من يسمع ما لَا يسمع، فهو أقل كمالا منه وهو عاجز، لأن عدم السماع عجز.
الوصف الثالث: أنه لَا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، وهذا قوله تعالى: (وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، أي لَا يدفع شيئا، ومجموع هذه الصفات السلبية تفيد أنه لَا يجلب له أي نفع؛ لأنه فاقد لصفات اللَّه التي يكون بها القدرة على وقد قال الزمخشري في ذلك: " انظر حين أراد أن ينصح أباه، ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز من الغباوة التي ليس بعدها غباوة، كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدث أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه - ﷺ -: " أوحى الله إلى إبراهيم - عليه السلام - إنك خليلي، حَسِّنْ خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه جِواري " (١).
وإنه بعد أن نبه إلى أن الأوثان تتقاصر عن مقام الألوهية، بل حتى الإنسانية، بل الحيوانية أخذ يوجهه إلى الحق الكامل، فقال في رفق أيضا كما ابتدأ أولا مُصَدِّرًا القول بخطاب المحبة الراجية.
________
(١) ذكره الزمخشري في الكشاف، وجماعة من المفسرين، ورواه الطبراني في الأوسط، وفيه: مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (٢٦٦٢١).
يقول العلماء التحلية قبل التخلية، بين أن الأوثان عاجزة في ذاتها عن جلب النفع ودفع الضرر، وذلك كافٍ للامتناع عن عبادتها، فإنما يعبد العاقل من هو أعلى منه قدرة وفهما وإدراكا، وهذه دونه في الخلق والتكوين، فمن يعبد؟! أخذ يبين له المعبود فقال بنداء المتوسل المتحبب: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ)
والمعرفة (مَا لَمْ يَأْتِكَ) فتعفف عن أن يرميه بالجهل، وتعفف عن ادعاء العلم الكامل حتى لَا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه ومستعليا عليه، بل قال: (مِنَ الْعِلْمِ)، أي بعض العلم، وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق، وذكره العلم داع لأن يتبعه؛ لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم، ولو كان أعلى منه، وإذا كان له بعض العلم الذي يسره، ولا يضره، فإنه يتبعه، ولذا قال: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) " الفاء " هنا تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك، كما يتبع السائر في طريق لَا يعلمه الرائد الخريت (١) العارف.
والصراط: الطريق كما ذكرنا، والسوي: المستوي الذي لَا عوج فيه ولا أمت، وقد قال الزمخشري في هذا النداء من ذلك الابن البار بأبيه: " ثنى -عليه السلام - بدعوته إلى الحق مترفقا متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهبني وإياك في سير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجيك من أن تضل وتتيه ".
وبعد أن نبه إلى أنه لَا يليق أن يعبد ما لَا يسمع ولا يبصر وأمره باتباعه؛ لأنه بين له أن هذه الضلالة وهي عبادة ما لَا ينفع ولا يضر عبادة للشيطان عدو آدم وذريته فقال:
________
(١) الخَرِّيت: الدليل الحاذق بالهداية والدلالة (فى الطريق). لسان العرب - القاموس المحيط.
ناداه بالأبوة وكرره تعطيفا وتلطيفا وتقربا، وكان النهي (لا تَعْبُد الشَّيْطَانَ) وعبادة الشيطان في أنه أطاع غوايته التي توعد بها عباد اللَّه فقال: (... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، فطاعته في معنى عبادته، ولأن
ويقول الزمخشري في ذلك أيضا: " ثم ثلث بتثبيطه ونهيه كما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لَا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال. وعدو أبيك آدم، وجنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة، وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه ".
ونقول إن الشرك هو أعظم ما وسوس به إبليس وألقى به الأوهام في نفس، وما دونه قد يناله الغفران، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِر أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...).
بعد هذا النهي الصريح القاطع عن عبادة الأوثان، وذكره أن عبادتها عبادة للشيطان، لأنه هو الذي وسوس بها ذكر ما يخاف على أبيه، وذلك استمرار في الحنان والعطف على أبيه فقال تعالى عنه:
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥)
وكانت عبارته في التخويف في أدب، ولم يصرح بالعقاب الشديد، وإن نبه إليه في شدة، بأنه سيكون وليّ الشيطان وقرينه، وبئس ولايته، وأن يكون له قرينا.
أجاب أبوه إجابة المحنق المغيظ لمحاولته ترك عبادة الأوثان وملته وملة آبائه، فقال كما قال تعالى عنه:
(أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)، هذا استفهام إنكاري توبيخي من ذلك الأب المخبط وكان موضوع التوبيخ هو انصرافه عن آلهته وبعد عنها، وكأنَّه كان يجب أن يكون مثله منغمرا في ضلال، وهو بذلك يضرب صفحا عن كل ما قاله، ويقول بلسان الحال: سمعنا وعصينا وينقلب عليه بالتوبيخِ عن تركه له ولملة آبائه المشركين، وقد أكد التوبيخ بالتأكيد بالضمير بقول: (أَنت) وفي ذلك تأكيد التوبيخ استصغارا لشأنه، وما كان صغيرا، بل كان الكبير بإدراكه وبدعوته إلى الوحدانية، وهو يستنكر أن يرغب عن آلهته، ولم يتعرض لما يدعو إليه ويرغب فيه، وكأنه معرض عنه وعن أدلته وآياته.
هذا إيعاد إن عاد، ثم حسم الأمر بقوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) وقد تضمن التهديد التحذير، كأنه قال له فاحذرني ولذا عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم واهجرني مليا، فهي عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم.
(مَلِيًّا)، أي ملاوة من الزمن الطويل، ويدعوه أبوه إلى أن يهجره هجرا غير جميل، ولا يهتم بأمره ولا يجالسه ولا يقاربه، وهذه مبالغة في الاستنكار، وقد صم أذنيه عن الحق ولا يريد أن يسمعه.
وإنه إذ يعلن هذا النفور الجافي يعلن الابن البار الذي هو مَثَلٌ سامٍ كريم للأبناء يقول كما قال اللَّه تعالى عنه:
هو يقابل الإساءة بالحسنة، ويعذر أباه في إساءته؛ لأنه في ضلال بعيد وإفك أثيم قد استغرق نفسه وأعمى بصيرته، وأصابه بغشاوة على قلبه (سَلامٌ عَلَيْكَ)، معناه أَمْنٌ يفيض عليك وهو تحية له وهو يفارقه ويريد له السلامة في غيبته، وأن يكون في أَمْنٍ، فهو يفارقه على مودة، وإن كان يقول مقالة القطيعة، وقد قال بعض المفسرين أن ذلك من قبيل قوله تعالى: (... وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
وقد قال الزمخشري: إن استغفار إبراهيم لأبيه كان مشروطا فيه التوبة، ونحن نرى أن سياق الآية لَا يدل على اشتراط التوبة بل هو استغفار لمشرك، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤).
وهذا النص (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، هو الموعدة التي وعد إبراهيم أباه بها، وقوله تعالى: (سَأَسْتَغْفِرُ) السين لتأكيد الاستغفار في المستقبل القريب، (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) الضمير يعود إلى (رَبِّي) الذي يكون في موضع عناية واستجابة لي، فمعنى (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، أي كنت موضع رحمته وبره، وأنه لهذا يظن أنه سيجيب دعائي، ولكن تبين له من بعد أنه عدو لله فتبرأ منه.
كان لَا بد أن يخرج من بينهم نبي الله تعالى - عليه السلام -، فهو لَا يريد أن يبقى محكوما بالوثنية وأرجاسها؛ ولذا قال كما أخبر الله تعالى عنه:
" الواو " عاطفة والمعطوف عليه (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، أي إني أخرج عنكم سالما مستغفرا غير هاجر كما أردت، وفي الوقت أسألكم، (وَأَعْتَزِلُكُمْ)، أي أفارقكم مفارقة موادّ محب ولست هاجرا لكم ولا مجافيا، (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا
وإطلاق الدعاء بمعنى العبادة؛ لأنه التجاء إلى اللَّه تعالى، وهي ضراعة إليه، ولقد قال النبي - ﷺ -: " الدعاء مخ العبادة " (١)، وقد ذكر التصريح بالعبادة بعد ذلك في قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) (عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، أي خائبا ضائعا غير مقبول في دعائي وعبادتي، فإن ذلك هو الشقاء الأكبر، وهذا الرجاء كان لفرط إخلاصه للَّه تعالى، وخشيته من غضبه وطرده، فإن الحبيب دائما يخشى من غضب محبوبه، ويعمل على رضاه ويخشى من غضبه، وخليل اللَّه الذي اختاره اللَّه تعالى خيلا، وقال: (... وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا)، كان أشد ما يخشاه غضب ربه، وأن يرد عبادته فيشقى بهذا الرد، وقال: (عَسَى) الدالة على الرجاء تواضعا للَّه واستصغارا لعبادته، وكان بهذا المخلص البر الحبيب المحبوب؛ إذ غلَّب الخوف ليصلح أمره وأنه إذ اعتزلهم حرم من أنس أهله، فوهبه البنين والذرية، ولذا قال تعالى:
________
(١) سبق تخريجه من رواية الترمذي في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
" الفاء " عاطفة على (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)، فاللَّه عوضه عن الغربة الأنس بالولد والأحفاد، أما الولد فإسحاق، وأما الحفيد فيعقوب، وكانوا بذلك فئته التي اعتز بعد اللَّه تعالى بها، وكان أنسه في هذا الاعتزال، (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)، أي جعلنا كل واحد منهما نبيا، و " كُلًّا " مفعول مقدم لـ " جعلنا "، وقدم لأهميته، وللإشارة إلى أن بدَّله من أبيه المشرك الذي نهره وهدده بالرجم ثم طرده محروما من محبته، بدله من هذا أنبياء من ذريته استأنس بهم بعد وحشة الاعتزال.
وقد ذكر سبحانه وتعالى كمال البيان في أسرته الموحدة، فقال تعالى:
الضمير في (لَهُم) يعود إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يذكر الموهوب إعلاء لشأنه ولفخامته، وحسبه أنه هبة اللَّه، وأنه من رحمته سبحانه، فكان العقل يذهب في تقديره أعلى المذاهب التي تليق بهبة اللَّه ورحمته، فهي تشمل النبوة، وتشمل الأموال، وتشمل الجاه والسلطان، وتشمل العزة والكرامة، والعلو في الأرض ووراثتها، والإمامة فيها وكل ذلك كان في ذرية إبراهيم، وفي إسحاق ويعقوب والأسباط.
النعمة الثانية التي أنعمها على إبراهيم وذريته هي قوله تعالى، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ)، أي لإبراهيم وذريته (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)، (لِسَانَ صِدْقٍ) من إضافة الاسم إلى وصفه، أي لسانا صادقا عليا، رافعا لهم، وليس خافضا لمآثرهم، والمراد الكلام الطيب والذكر الطيب، من قبيل إطلاق الآلة على ما يكون، فأطلق اللسان وأريد الكلام، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام - إذا قال في دعائه - عليه السلام - (وَاجْعَل لِّي لسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ). وقد آتي اللَّه إبراهيم ذلك فقال تعالى: (... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ...)، وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتًّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
* * *
الأمر للنبي - ﷺ -، أمره سبحانه أن يذكر من ذرية إسحاق ويعقوب موسى وهارون، ومن ذرية إبراهيم إسماعيل وهو أبو العرب ونبي العرب، ومن ذريته محمد - ﷺ -، وذكر في البشارة به على أنه من أولاد عم بني إسرائيل لأنه أخو إسحاق وهو الكبير، والكتاب هو القرآن، وإذا أطلق الكتاب انصرف إليه؛ لأن المطلق ينصرف إلى الفرد الأكمل، والأكمل بين الكتب هو القرآن، لأنه كتاب اللَّه تعالى بلفظه ومعناه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)، وإن الله أمر نبيه أن يذكره في القرآن؛ لأنه سجل الأنبياء ومعجزاتهم، وأخبارهم لَا تعرف بطريق متواتر من غير تغيير ولا تبديل إلا عن طريقه. وكذلك معجزاتهم، فإنها أحداث تقضت في وقتها وما عاينها من الأخلاف أحد، ولكنها سجلت في القرآن المتواتر المحفوظ بوعد اللَّه العظيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وإن اللَّه لَا يخلف الميعاد وذكر موسى هنا في قوله تعالى:
وفى هذا الجزء من قصص موسى ذكر ما لم يذكر في مواضع كثيرة من قصصه، وهو صفته التي كانت من أبرز صفاته أنه كان مخلصا، قرئ (مخلِصا) بكسر اللام، و (مخلَصا) بفتحها والقراءتان متلاقيتان، فقراءة الكسر معناها أنه أخلص نفسه للَّه، وبدا ذلك في حياته، فقد نشأ في بيت فرعون رافغا بعيشه مستمكنا بسلطان، ومع ذلك نفر من دينه وملته ورضي بأن يكون من بني إسرائيل المستزلين المستضعفين في أرض مصر (... يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيونَ نِسَاءَكُمْ...)، ثم هاجر ابن النعمة الفرعونية إلى حيث يستأجر زارعا كادحا، فأي شيء يدل على الإخلاص أكثر من هذا.
وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة فتح اللام يكون المعنى أن اللَّه تعالى أخلصه له وجعله كليمه، وذلك ثابت من حياة موسى - عليه السلام -، فقد ولدته أمه في وقت فرعون وآله يذبحون أبناءهم، فألهم سبحانه أم موسى أن تضعه في تابوت وتلقيه في اليم، ويلتقطه آل فرعون ليكون في المستقبل عدوا لهم وحزنا، وقد أرادوه قرة عين لهم (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ)، أي أخته - (... هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحونَ)، وبذلك رجع إلى أمه وخلص لها فتربى في مهدها وكنف فرعون، وبذلك صنع على عين اللَّه، كما قال تعالى: (... وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، فكيف بعدها لَا يكون مخلصا وخالصا للَّه، واختاره أن يكون له كليما.
وكلٌّ قراءة قرآن فيكون المعنيان مرادين بمجموع القراءتين، فهو مخلص في شخصه، وأخلصه اللَّه سبحانه لذاته العلية.
(وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)، الرسول - فيما يظهر من عبارات القرآن - من أُرسل بكتاب مشتمل على أحكام، والنبي من يُنَبَّأ بمخاطبة اللَّه له بالوحي أو يرسل رسولا، أو من وراء حجاب، وقد كان موسى كذلك، فقد أرسل بالتوراة فيها كل الشرائع المصلحة للإنسانية في رسالته وبعضها باقٍ سجله القرآن ولم ينسخه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى المكان الذي نزل عليه الوحي ابتداء فيه، وهو في أرض مدين فقال تعالى:
كان خطاب اللَّه تعالى لموسى بالكلام، ولذا قال تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)، أي الجهة اليمنى من الطور، أي أن مناجاة ربه كانت من جهة الطور اليمنى، واليمين ميمون، فهذه إشارة إلى اليُمن، وما هنا مجمل مذكور مفصلا في سورة القصص، فقد قال تعالى بعد أن أنهى الإجارة مع شعيب:
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١).
وهذا واضح في أنه تفصيل لبيان كيف كان النداء، ولم يكن تكرارًا، بل كان بيانا لما أجمل هنالك، وبيان المجمل ليس تكرارا، هذه منزلة عالية، وهو أنه كليم اللَّه، كلمه من وراء حجاب، ولذا قال تعالى: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)، أي كان خطاب اللَّه تعالى تقريبا إذ ناجاه وخاطبه (نَجِيًّا)، وكأنها مُسارّة له، لأنه لم يسمع ذلك النداء غيره في ساعة هذا النداء، تعالى اللَّه سبحانه علوا كبيرا.
أحس موسى - عليه السلام - بعظم التكليف الذي كلفه، وهو أن يدعو إلى الإيمان طاغية الدنيا في عصره، وأنه مهما يكن عِظَم التكليف فهو راضٍ به قائم بحقه، ولكن طلب أن يكون معه أخوه هارون وزيرا له ومعاونا ليحمل العبء كاملا ويعاونه فإن له بيانا ليس لموسى، وقد طلب موسى ذلك فقد قال اللَّه تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)، فكان من نعمة اللَّه تعالى على موسى أن جعل له من رحمته أخاه هارون نبيا، والرحمة كانت في هبته له نبيا، ذهبا معا إلى فرعون وخاطباه قائلين: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧).
هؤلاء من ذرية إبراهيم الذين كانوا من إسحاق، وقد كان لإبراهيم ذرية أخرى - كان منهم خاتم النبيين - هو إسماعيل - عليه السلام -، وقد قال تعالى في ذكر إسماعيل:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وقد وصفه الله تعالى بأربعة أوصاف تدل على الكمال الإنساني الذي لا يعلو عليه كمال.
الوصف الأول: أنه كان (صَادِقَ الْوَعْدِ)، أي إذا وعد لَا يخيس، ولا يكذب بل ينفذه، وكل الأنبياء كذلك ولكن وصف اللَّه به إسماعيل، لأنه كان أخص أوصافه واشتهر به، فإن إبراهيم أباه عندما رأى الرؤيا بذبح إسماعيل لم يجبن إسماعيل بل قال: (... سَتجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ)، وصدق وعده، فاستعد لأن يذبح، وقال اللَّه تعالى: (... يَا إِبْرَاهِيمُ (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا...)، فهو الذبيح الأول، وصدق الوعد والوفاء به والرضا بتنفيذه وعدم الحيف فيه، وقد كان إسماعيل كذلك فيما وعد وأوفى.
الوصف الثاني: أنه كان (رَسُولًا نَّبِيًّا)، كما قال تعالى: (وَكَانَ رَسُولًا نَّبيًّا) فقد جاء بشرائع ومنحه اللَّه تعالى النبوة فقد كان ينزل عليه الوحي، ويكلمه اللَّه تعالى بإحدى طرق الكلام، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسولًا...)، وقد يقال: إن شريعته كانت شريعة أبيه إبراهيم، ونقول إنه أرسل بها، ولا مانع من أن يخاطب بالشريعة الواحدة رسولان، وقد ذكر اللَّه تعالى أن إبراهيم كان رسولا وإسماعيل كان رسولا نبيا.
الوصف الثالث: وهو عملي لأنه
ومن العلماء من قال: إن أهله الذين اتبعوه أجمعون، وذلك القول له وجهه، وقد أمر نبي اللَّه إسماعيل - عليه السلام - بأمرين: بالصلاة، وهذا رمز للتهذيب للجماعة التي يدعوها والتربية الروحية التي تكون بالصلاة، وما يشبهها في روحانياتها، وتكون الركن الأول في المقاصد الدينية، ثم يجيء الأمر الثاني وهو الأمر بالزكاة، فإنها تكون الركن الاجتماعي الذي يكون به التعاون بين الجماعة في تحقق الركن الإنساني في الصلات بين الناس، وهذا يمثل الركن الثاني من المقاصد الدينية، ولا بد للثاني من الأول فهو لَا يتحقق على وجهه الأكمل إلا بالأول، فالأول هو الرباط الروحي، والثاني رباط مادي لَا يؤدي مؤداه إلا بتربية الروح.
الوصف الرابع: وهو أعلى الأوصاف التي وصف بها إسماعيل - عليه السلام - هو رضا اللَّه تعالى، فقد قال عز من قائل: (وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) " مرضيّ " اسم مفعول من رَضِي، وقد زكى اللَّه إسماعيل بأنه مرضي (عَندَ رَبِّهِ) فهو رَضِىٌ في ذاته ومرضي عند ربه الذي خلقه وكونه وقام على وجوده، وهذا أعلى ما يصل إليه المؤمن؛ ولذا قال تعالى بعد ذكر نعيم الجنة المقيم (... وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكبَرُ...)، فرضوان اللَّه أكبر من كل جزاء، ولذا قال: (وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) و " كان " في كل أوصاف الله تعالى للدوام والاستمرار، اللهم أدم علينا نعمتك وامنحنا رضاك.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)
* * *
تلك أخبار النبيين تذكر لما فيها من عبرة، ولما فيها من دعوة إلى الاقتداء بهم وسلوك طريقهم، فهم أسوة الأبرار، وطريقهم هو طريق الأخيار، وإذا كان طريق إبليس طريق الأشرار، فطريقهم هو طريق الأخيار.
وابتدأ بذكر إدريس فقال عز من قائل:
الكتاب هو القرآن كما أشرنا من قبل، والخطاب للنبي - ﷺ -، وإدريس قيل: إنه كان قبل نوح، ولا نجد ما يدل على ذلك من كتاب ولا سنة، وإنما هي أخبار كتاب قصص الأنبياء.
ورد في تفسير القرطبي " إدريس - عليه السلام - أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من خط في علم النجوم والحساب، وإذا صح هذا فربما يكون أقدم من نوح، ولكنا في مثل هذا نقول علمه عند اللَّه، وإنه لا يزيل إبهاما في القرآن، ولا يأتي بعلم جديد، وإنه لمن أمر. فالظن لا يغني من الحق شيئا، ويؤكد الزمخشري أنه جد أبي نوح - عليه السلام -، ويقول بعض العلماء: إنه إلياس - عليه السلام - المذكور في سورة الصافات، وقد قال عن إلياس - عليه السلام - في سورة الصافات
وإذا صح أن إدريس هو إلياس فتكون سورة الصافات قد بينت دعوته، وأن قومه أنكروا وكذبوا، وقد وصف اللَّه تعالى في هذه الآية إدريس بثلاث صفات:
الوصف الأول والثاني: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)، فهو صديق لَا يقول إلا حقا، ويصدق الحق وينفذه ولا يتردد في تنفيذه ومعه الإذعان له من غير تململ، بل باطمئنان ورضا وقبول، وكان نبيا قد كلف بتبليغ رسالة ربه.
الوصف الثالث: أن اللَّه تعالى رفعه منزلة عالية، وقد عبر سبحانه وتعالى من ذلك بقوله:
والرفعة هنا معنوية، والمكان المراد به منزلة عليا، وقد زعم بعض المفسرين أن ذكر المكان يدل على أنها رفعة مادية، ولا نرى وجها لتخصيص ذكر المكان بالرفعة الحسية، فإن ذلك تخصيص من غير مخصِّص قام الدليل عليه، وإنما نقول: إنها نعمة من اللَّه تعالى على عبده ونبيه الصدِّيق الأمين لأمر اقتضى ذلك في علمه المكنون، ولم يبينه لنا فحق علينا أن نقول ما نعلمه، ونسلم بصدق ما لم نعلمه، والله هو العليم المحيط بكل شيء علما.
الإشارة إلى النبيين المذكورين في هذه السورة زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وأولاده وموسى وهارون وإدريس، فهولاء جميعا قد ذكروا في هذه السورة، وكلهم من ذرية آدم، قوله: (مِّنَ النَّبِيِّينَ) " من " بيانية، وقوله: (مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ)، " من " هنا تبعيضية، فالمذكورون بعض هذه
وقد ذكر اللَّه تعالى أن ممن أنعم اللَّه تعالى من هداهم اللَّه تعالى بهدْي الأنبياء والمرسلين؛ ولذا قال تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا)، " الواو " ساطفة على قوله تعالى: (مِّنَ النَّبيّينَ) فـ " من " بيانية، واللَّه أنعم على النبيين ومن تبعهم، فقوله: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا)، أي الذين اتبعوهم على صراط مستقيم، (وَاجْتَبَيْنَا) الذي اخترناهم لنبوة وجهاد كداود، وطالوت الذي جعله اللَّه تعالى رئيسا لبني إسرائيل قادهم إلى الحرية والعزة وإن لم يكن من أبناء كبرائهم.
وإن هؤلاء الأنبياء المصطفين الأخيار والتابعين الأبرار قد صفت نفوسهم واستقامت قلوبهم، وصغت إلى الحق أفئدتهم فكانوا إذا تليت عليهم آياته في كتبه الذي أنزلها الرحمن خروا ساجدين باكين؛ ولذا قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) سُجَّدًا: جمع ساجد، وبكيا جمع باك، أي أنهم لفرط تأثرهم بآيات الرحمة التي تنزل من عند الرحمن، ولذا اختير ذلك الوصف (الرَّحْمَنِ) في التعبير عن الذات، فهم يبكون لشعورهم برحمة اللَّه، ويسجدون شكرا للَّه تعالى على ما أنعم، وإن ذلك كان من شأن الصالحين، فكان أبو بكر بكَّاءً عند تلاوة القرآن الكريم، وكان الإمام الشافعي إذا صلى بالناس بكى وبكوا عند تلاوته حتى سمي القارئ البكَّاء، ومن كان من الصالحين لَا تدمع عيناه يبكي قلبه. وإن ذلك من الوعي الطيب، إذ يحمس السامع للتلاوة، بأنه يسمع اللَّه تعالى ينادي فيرتجف ويقشعر بدنه، ولقد قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...).
قد ذكر اللَّه تعالى مَنْ خلف أولئك الأبرار من النبيين والصديقين.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
* * *
" الفاء " للترتيب والتعقيب، فهي تفيد أنه جاء عقب هؤلاء الأطهار من تنكبوا طريقهم، وخرجوا عن منهاجهم، وليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم من خالف المنهاج من أقوامهم، بل كان كل نبي من هؤلاء الأنبياء من لقي مقاومة من قومه، فمن قوم إدريس من قاومه، وقالوا: (... وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ...)، وهذا كان شأن كل المصطفين الأخيار من
وصف اللَّه تعالى الأخلاف الذين انحرفوا بسبب هذا الانحراف ونتيجته، فقال عز من قائل: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، وذكر أسباب انحرافهم فحصره في أمرين أو ذكر أن أكبر أسبابه أمران: الأمر الأول: أنهم (أَضَاعُوا الصَّلاةَ)، ومعنى إضاعة الصلاة إضاعة الدين، لأنها عمود كل دين، وكما قال النبي - ﷺ -، " لا دين من غير صلاة "، فهي سمة الدين وشعاره، ومعنى إضاعتها إهمالها، أو الصلاة من غير إقامتها على وجهها، أو الصلاة التي فقدت الخشوع والخضوع، وهذا لبابها، أو الإتيان بصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، بل تلابسها.
الأمر الثاني: هو اتباع الشهوات، فإنه إذا سيطرت الشهوات على النفس، وصارت سيدا مطاعا انحرف الاعتقاد تبعا لها، وحينئذ يتخذون إلههم هواهم وكان معبودهم وسرى ذلك إلى كل أعمالهم.
وقد نبه سبحانه إلى النتيجة من ذلك فقال تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، الغي ضد الرشاد وهو الغواية، وهي تنكب الطريق المستقيم، إن اتباع الشهوات وجعل الأهواء لها السلطان الأكمل سبيل الفساد والغواية، وبها تنكب الرشاد؛ وذلك أن الهدى والعقل نقيضان لَا يجتمعان في قلب واحد، فإذا كان سلطان الهوى ذهب العقل وقوله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) " سوف " هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، وقوله تعالى: (يَلْقَوْنَ)، أي يجدون أمامهم وهو نتيجة طبيعية لترك الصلاة واتباع الشهوات.
وإن الله تعالى الكريم يستثني المتقين الأبرار؛ ولذا قال تعالى:
الاستثناء هنا منقطع، وليس استثناء متصلا؛ فـ (مَن تَابَ وَآمَنَ) لا يدخل في عموم من اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، فـ (إِلَّا) بمعنى " لكن "، وهي مقابلة بين المؤمن وغيره، فالأول يتبع الشهوات، والثاني مؤمن تواب إلى ربه راجع إليه طالب، وقوله تعالى: (إِلَّا من تَابَ) يشمل من غَوِي منهم الأهواء والشهوات ورجع إلى ربه، ومن لم يسيطر عليه هواه ابتداءً واتبع سبيل الحق، ويكون التعبير عنه بـ (تَابَ) إشارة إلى الإذعان الكامل؛ لأن المؤمن التواب وصل إلى أعلى درجات الإيمان، لأنه يستصغر أفعاله أمام اللَّه ويحسب نفسه مقصرا فلا يُدِلّ بالطاعة، بل يستشعر الخشية الدائمة ويغلب عليه الخوف ولا يغلب عليه رجاء الثواب، لأنه يستكثر خطأه، ويستقل طاعته.
(فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، الإشارة إلى التائبين الراجعين إلى اللَّه تعالى، والإشارة إلى الموصوفين بأوصاف تدل على أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو أنهم (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) التي هي جزاء المتقين، (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، أي لَا ينقصون أي شيء من النقص، بل يأخذون جزاءهم جزاء وفاقا لما عملوا من طيبات، ولتجردهم من شهوات الدنيا وخلاصهم من أهوائها المردية.
وذكر اللَّه تعالى في وصف الجنة أنها التي (وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ) للإشارة إلى أنها من فضل رحمته بعباده الذين يريد منهم الرشاد، ولا يرضى لهم الكفر والانحراف عن طريق الإيمان، ولذا قال:
(جَنَّاتِ عَدْنٍ): هي جنة الإقامة الدائمة، كما قال تعالى: (... لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مقِيمٌ)، وقد وعد الرحمن عباده بالغيب، وذكر (الرَّحْمَن) هنا إشارة إلى أن ذلك من رحمة اللَّه تعالى، إذ كان منه الغفران وهو رحمة، وكان منه
وقوله تعالى: (بِالْغَيْبِ) متعلق بـ (وَعَدَ)؛ لأنه وعدهم سبحانه وهم غائبون عنه، وقد آمنوا بهذا الوعد واطمأنوا إليه، وهو غائب، فهم آمنوا بالبعث والجزاء والرحمة وهو غائب عنهم، فكانوا مؤمنين بالغيب وهو سبيل إدراك الحق، والإيمان بحقائق يوم القيامة، وقد أكد سبحانه صدق وعده وأنه لَا يخلف الميعاد بقوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) الضمير في (إِنَّهُ) يعود على (الرَّحْمَنُ)، و (مَأتِيًّا) اسم مفعول، أي أنه يجعله - سبحانه وتعالى - آتيا لَا محالة، وذلك كقوله تعالى: (... إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، وبعض المفسرين فسر الوعد بأنه جنة عدن، وهو مأتي لَا محالة لمن وعدوا به، ونرى أن الوعد هو ما يتعلق بنعيم الجنة، واللَّه تعالى يمكِّن عباده من وعده، فيكون آتيا بالنسبة له، ومأتيا منهم إذ يمكنهم سبحانه وتعالى منه، و (جَنَّاتِ) بدل أو عطف بيان من قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)، وهنا يرد سؤال كيف يكون البدل جمعا، والمبدل منه مفردا؛ ونقول: إن اسم الجنس وهو (الجنة) عام يدخل في عمومه الكثير من الجنات فهو بدل جمع من جمع، وهناك قراءة " جنة عدن " (١) بالإفراد واللَّه تعالى أعلم.
وقد وصف اللَّه تعالى الحياة الفاضلة في الجنة فقال عز من قائل:
________
(١) قراءة (جنة عدن)، ليست في العشر.
اللغو هو الكلام الذي لَا يكون له فائدة مذكورة عند العقلاء، وهو الذي يؤدي إلى المشاحنة والمنازعة، ومبادلة القول والجدال، وكل ذلك بعيد عن الحياة الفاضلة التي تكون في الجنة؛ ولذا قال تعالى في آية أخرى: (... لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثيمٌ)، وإن اللغو في الدنيا ليس من دأب الفضلاء، وسماعه ليس
وقوله تعالى: (إِلَّا سَلَامًا) الاستثناء فيها منقطع، بمعنى لكن يسمعون سلاما، أي أمنا واطمئنانا وبعدا عن المشاحة والمنازعة والمخاصمة.
هذه هي الحياة المعنوية الطيبة الهادئة التي لَا لغو فيها ولا تأثيم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن الجسم فيها ينال حظه في مواقيته فقال تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، أي أن طعامهم يأتيهم في أوقات منتظمة مستمرة وهي تجيء في البكور، وفي العشية.
أي على عادة المتناولين لهذه الحياة من غير زهادة ولا إفراط في الأخذ منها ليترفوا فيها، وفي ذلك الاعتدال تكون استقامة الحياة من غير مرض ولا عناء.
وإن تلك الجنة الطيبة التي تحيا فيها الروح، ويحيا فيها الجسم من غير إسراف ولا تفريط تكون للمتقين؛ ولذا قال تعالى:
الإشارة هنا للبعيد إعلاء لشأنها وتشويفا وتكريما لها (نُورِثُ)، أي يجعلها سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيا، وسميت ميراثا أورث اللَّه تعالى به، لأنه خلف للعمل الصالح، ولأنه ترك الأهواء والشهوات فأخذ بديلا لها تلك الجنة وهي أغلى وأدوم، وسمى سبحانه وتعالى ذلك توريثا؛ لأنها خلف، كما يملك الوارث بالخلافة بيد أن ذلك ميراث عن عمل صالح بنعيم دائم فهو دائم بدوام المال الموروث، وقد قال في هذا الزمخشري ما نصه: " نورث: استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث المال الموروث؛ ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية، وهي الجنة، فإذا دخلوا الجنة أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال ".
(وَمَا نَتَنَزَّلُ) هذا بيان من متكلم ما هو؟ أهو من الملائكة أم من المتقين؛ إن النص يحتملهما، وقد روي أن ذلك من الملائكة، وروى البخاري والترمذي أن الذي قال ذلك جبريل - عليه السلام -، فإنه قد روى الترمذي والبخاري عن ابن عباس أن النبي - ﷺ -، قال لجبريل - عليه السلام -: " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا "، فنزلت هذه الآية (١)، ومعناها على ذلك، (وَمَا نَتَنَزَّلُ)، أي نتنزل نحن الملائكة (إِلَّا بِأمْرِ رَبِّكَ) الذي خلقك، فلا ننزل من تلقاء أنفسنا بل بإرادة، وروي أنه قال النبي - ﷺ -: " أنا أشوق إليك ".
وقد قيل: إن المشركين قالوا: قلاه اللَّه وودعه، وقد قال تعالى في سورة الضحى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى) هذا تخريج تؤيده الرواية الصحيحة، ونتنزل أي ننزل وقتا بعد آخر.
وهناك تخريج آخر وهو أن قائل ذلك هم المتقون الذين نزلوا الجنة، وأدخلهم الله تعالى فيها، ويكون معنى التنزل النزول إليها مترفقين، ويكون كلامهم إعلانا لشكرهم للَّه تعالى.
ونحن نميل إلى التخريج الأول ونرجحه؛ لأنه قد ورد فيه حديث صحيح، وهو معقول في ذاته؛ ولأن التعبير بالتنزل يدل على النزول وقتا بعد آخر، وذلك يتفق مع نزول جبريل، ولا يتفق مع دخول الجنة؛ لأنه يكون دفعة واحدة، ولأنه
________
(١) رواه بهذا اللفظ البخاري: تفسير القرآن - (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (٤٣٦٢)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة مريم (٣٠٨٣). عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ذكر الملائكة قدرة اللَّه تعالى، وأنه هو الملك للملائكة والإنس والجن، فقالوا كما حكى اللَّه تعالى عنهم: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْن ذَلِكَ)، له ما مضى من أمرنا لَا يعلمه سواه، وله ما بين أيدينا مما هو مبهما، وما خلفنا مما تركنا، وما بين ذلك هو حاضرنا، وملكيته سبحانه لحاضرنا، وهو ما بين ملك المتصرف العالم علما محيطا.
وقد بين سبحانه وتعالى ملكه للسماوات والأرض فقال:
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السماوات والأرض الذي يملك كل شيء ما بين أيدينا وما خلفنا ويعلم كل خلقه، هو رب السماوات ورب الأرض ورب ما بينهما من فضاء، وإذا كان هو الرب الخالق لكل شيء ولا خالق سواه فإنه وحده الذي يستحق العبادة، ولذا قال تعالى: (فَاعْبُدْه وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، و " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأنه إذا كان الخالق القائم بحق الربوبية، الحي القيوم فهو وحده المستحق للعبادة، ولكن هذه العبادة لا يستقيم لها الإنسان وسط الأهواء والأوهام، وما يألف الناس من عبادة الأحجار والأشخاص ليس الطريق الإنساني إليها معبدا، ولذلك كان المؤمن يحتاج إلى صبر فقال تعالى: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أصل اصطبر " اصتبر " قلبت تاء الافتعال طاء لقرب التاء من الطاء، ومعنى الافتعال هنا الصبر، وتحمل ما يكلفه النفس من جهود، ونبه سبحانه إلى أنه لَا مشابه له من الحوادث، فقال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، أي شبيها، والاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي لَا تعلم له شبيها فهو
وهذا النفي بالاستفهام الإنكاري دليل على استحقاقه وحده للعبادة لأنه لَا شبيه له.
* * *
إنكار الإنسان للبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤)
* * *
الإنسان ينظر دائما إلى حاضره ولا ينظر إلى قابله، وينكر القابل إذا لم يتفق مع حاضره إلا أن يكون ممن هداهم اللَّه وآمنوا بالغيب إيمانهم بالشاهد، ولم يحصروا علمهم في المحسوس لَا يخرجون عنه، وقد قال تعالى:
الإنسان المأسور بالحسّ الذي لَا ينفذ عقله إلى ما وراء الحس من غيب ستره اللَّه تعالى، ولا يؤمن به إلا بنقل صادق، وعلى ذلك يكون المراد بعض الإنسان لا كل آحاده، وعبر عن هذا البعض باسم الكل؛ لأن ما يقوله بعضهم مساير لإحساس الكثيرين منهم، أو لحال الإنسان قبل أن يجيئه النقل القاطع الجازم، ولأنه مشتق من طبيعة الإنسان المأسور بالحاضر المحسوس، لَا القابل المغيب.
وبعضهم يقول: إن الجنس هو المتحدث عنه، فجنس الإنسان يدرك الحس وحده، إلا من رحم ربك.
ويقول تعالى: (وَيَقُولُ الإنسَانُ) عبر بالمضارع للإشارة إلى تكراره، وأنه يذكره مرارا، وللإشارة إلى صورة قوله المتكرر (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَج حَيًّا) الاستفهام في ظاهر اللفظ ومدلوله داخل على (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) وتركيب القول، ولكلام اللَّه تعالى المثل الأعلى. لسوف أخرج حيا إذا ما مت، وتأخرت (لَسَوْفَ) على " إذا " الأمرين:
الأمر الأول: أن الاستفهام له الصدارة.
الأمر الثاني: أن موضع الإنكار ليس هو الإخراج إنما هو أن يكون بعد
الموت وأن يصير رميما، كقوله تعالى (... مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩).
والمعنى على هذا التخريج: أحقا مؤكدا سوف يخرج حيا مجتمع الأجزاء غير مفرق، و " اللام " لتأكيد الخروج، وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، ولقد بين سبحانه أنه لَا غرابة في الإعادة بعد الموت فقال:
الواو عاطفة على فعل مذكور مشار إليه فيما سبق، وتقديره، أيقول ذلك ولا يذكر الإنسان...
ولقد أكد اللَّه البعث بالقسم برب الوجود مضافا إلى سيد الوجود، فقال:
أقسم بذاته العلية الكريمة مضافا إلى نبيه، بيانا لإعزازه وإعلانه وتكريمه، وكان القسم بالذات العلية بعنوان الربوبية الكالئة الحامية المتصلة بالإنسان، وبأكرم إنسان وهو محمد - ﷺ -، وفي ذلك إشارة إلى أن البعث من الربوبية، فهو كما أنشأكم وكلأكم ورباكم يبعثكم، فهو لم يخلقكم عبثا، و " الفاء " هنا للتعقيب على التوبيخ بتأكيد الأمر الذي قرره وقدره وأنكروه بل استنكروه، و " اللام " في قوله تعالى: (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا أكد بنون التوكيد الثقيلة، و " الواو " واو المعية في قوله تعالى: (وَالشَّيَاطِينَ)، أي أنهم يحشرون معهم، وهم الذين أضلوهم، وجعلوهم بالأوهام التي بُثَّت فيهم يعبدون الأوثان.
والإحضار حول جهنم جاثين على ركبهم؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)، والجثي جمع جاث، وهم الجالسون على ركبهم.
فقال تعالى: (وَتَرَى كلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً...)، وذلك يكون في أحوال تناقلات القول، وذلك من تجاثي أهلها على ركبهم، وذلك يكون في حال الاستفزاز والقلق، وكأنهم لهول ما يرون يتجاثون على ركبهم فزعين قد أصابهم الهلع، ويكونون حول جهنم مترقبين ما يكون من أمرهم في جزع.
والعطف بـ (ثُمَّ) يقتضي فاصلا بأمد ليس قصيرا بين الحشر والإحضار، وذلك الأمد يكون فيه الحساب ويكون ما يقرره اللَّه لأهل البر، وما يقرره للفجار، فكل يحضر حول جهنم ثم يكون الأبرار بعد ذلك للجنة إذ يرون ما آل إليه أمر الكفار، كما سنتلو قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا).
ويقول في أحوال يوم القيامة وأهواله:
(ثُمَّ) عاطفة للترتيب والتراخي، لأنه ترتيب أعمال يوم، فيكون الحشر ثم الإحضار إلى جهنم جثيا ثم نزع أشدهم عتوا من الشيع، من كل شيعة أعتاها وأجرؤها على الرحمن، وقوله تعالى: (لَنَنزِعَنَّ) " اللام " لام القسم التي تكون في جوابه وهي تنبئ عن قَسَم مقدَّر في القول، والنزع الاستخراج لَا اختيار
أي أنه سبحانه وتعالى ينزع أشدهم عتوا من بين الأشرار فئة فئة، واللَّه تعالى أعلم بمن هم أولى بالنار صليا، و (صِلِيًّا) مصدر صلى يصلي صليا مثل مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، ومعنى (أَوْلَى)، أي أحق بأن يصطلى هذه النار، والعطف بـ (ثُمَّ) يفيد التراخي المعنوي بين النزع من الشيع، وصليها بالنار فإنه يكون العرض، ثم يكون الإلقاء في النار إلقاءً، وهكذا يختار من الشيع المستغرقة في الشر المتشايعة فيه أعتاها، ثم يلقى أحقها بالصلي في النار، ويعفو اللَّه سبحانه عن بعض العصاة غير المشركين إذا تابوا أو كانت لهم حسنات تكافئ سيئاتهم؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...)، ويقول: (... إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَيِّئَاتِ...)، ويقول: (... وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
(إن) هنا نافية، والمعنى ما منكم إلا واردها، وقد التفت سبحانه وتعالى من الغيبة إلى الخطاب؛ لمواجهة عباده بما قرر لهم وما قدره سبحانه وتعالى عليهم، والورود ليس معناه الدخول، بل إن المؤمن يرِدُها ولا يُلقى ولا يُعذب فيها، وبذلك يوفق بين قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، وقوله تعالى بالنسبة للمؤمنين: (... أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، أي مبعدون من عذابها ولا يلقون فيها ولا يدخلونها، وروي أن المؤمنين يوردون عليها وهي ضاورة (١)، أي خامدة بالنسبة إليهم لَا تمسهم ولا يلقون عذابها.
(كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)، (كَانَ) ذلك الورود (عَلَى رَبِّكَ) الذي خلقك ورباك (حَتْمًا)، أي لازمًا، (مَّقْضِيًّا)، أي قضاه اللَّه تعالى وكتبه على نفسه، كما قال تعالى: (... كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نفْسِهِ الرَّحْمَةَ...)، وإن هذا الكلام لتأكيد الوقوع، وإنه سبحانه وتعالى قد كتبه على ذاته العلية، ولا إلزام عليه من أحد ولا يصح أن يستدل به الذين يقولون بوجوب الصلاح أو الأصلح، فإن هذا ليس من ذلك الباب في شيء، إنما لتأكيد الوقوع والقضاء منه، وهو الذي يقضي ويقدر وهو العزيز الحكيم.
وبعد أن يردها الجميع يصطفي اللَّه تعالى ممن وردها المؤمنين التقاة، فينجيهم منها؛ ولذا يقول تعالى:
________
(١) هكذا بالواو، والتَّضورُ: التَّضعّفُ، من قولهم: رجل ضُورَةٌ وامرأة ضُورَة، والضُّورَةُ، بالضم، من الرجال: الصغير الحقير الشأْن. قاله أبو العباس: لسان العرب - ضور. وقد تكون (ضامرة) بالراء، من الضمور وهو الهزال. وكلاهما يحتمل معنى الخمود، والله أعلم.
(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)
هذه أحوالهم في الآخرة، ولكنهم عنها عمون، فقد حسبوا أن الآخرة - إن كانت في زعمهم - ستكون لهم كما أن الدنيا تكون لهم؛ ولذا كانوا يستمرئون عنهم؛ ولذا قال اللَّه عنهم (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا)، أي يتلى عليهم القرآن المنزل من اللَّه تعالى، أي تقرأ آياته مرتلة واضحة بينة في ألفاظها وعباراتها المعجزة ومعانيها الواضحة الزاجرة الواعظة المبشرة المنذرة - أعرضوا عنها واستهزءوا بقراءتها وبالمؤمنين، وقالوا للذين آمنوا في شأنهم ساخرين منهم مستهزئين بهم ومستهينين بأمرهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) المؤمن والكافر، والبر والفاجر (خَيْرٌ مَقَامًا) ومنزلة (وَأَحْسَنُ
وقد رد اللَّه قولهم ببيان أن العبرة بالعاقبة، لَا بالأمر الحاضر، وإن كثيرين من القرون السابقة أهلكهم اللَّه بظلمهم، ونجا الذين استضعفوا، وكان منهم أئمة وكانوا الوارثين؛ ولذا قال تعالى:
(كم) هي العددية، أي وكثير من الأمم أهلكناهم قبلكم، وكانوا أحسن أثاثا، فبيوتهم كانت مملوءة بالمتاع الطيب؛ لأن الأثاث هو متاع البيت، و (الرئى): المنظر الحسن، أي إذا كنتم تفاخرون المؤمنين بأنكم أهل نَدِي حسن فيه الطنافس (١)
والآرائك والذرابي المبثوثة، وأنهم فقراء يعيشون في شدة، وليس لهم ندي كنديكم، وأنكم بذلك أهل الحق، والمؤمنون هم أهل الباطل، فقد أنصفهم اللَّه منكم وكان هلاك اللَّه نازلا بكم، والقرن الجماعة أو الأمة من الناس التي تعيش في زمن من الأزمان، وإذا كان الهلاك لَا يكون إلا لأهل الباطل فليس الغنى
________
(١) جمع طِنْفِسَة: وهي بساط له خمل رقيق. لسان العرب - طنفس.
* * *
سنة الله تعالى في الضلال والهداية
قال اللَّه تعالى:
(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)
* * *
يقول تعالى ردا على المشركين في غرورهم بالمال والبنين ومتعة الجاه والسلطان: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) الخطاب لمحمد - ﷺ - يأمره سبحانه وتعالى بأن يبين لهم الحق وسنة اللَّه تعالى في أمر الضلالة والهداية، فهو سبحانه يَمُدُّ الذين أرادوا الضلالة وسلكوا سبيلها وأخذوا في أسبابها، يمدهم فيها مدا حتى يحسبوا أن الأمر إليهم، كما قال تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، يمهلهم سبحانه ويتركهم في غيهم يعمهون، ويزيدهم بالمال ويعطيهم، حتى يفرقهم الغرور ويجعلهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقال تعالى بلفظ الأمر: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) جاء الخبر على صيغة الأمر؛ لبيان أن ذلك بإرادة اللَّه وكأنه يأمره به أمرا، وهو استدراج من اللَّه تعالى لهم، كما قال تعالى: (... سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، كما تلونا من قبل.
وأكد سبحانه إمهالهم واستدراجهم بالعطاء بوفرة عليهم بالمصدر (مَدًّا)، وأسند سبحانه وتعالى المد إلى الرحمن؛ وذلك لإفادة أن من رحمة اللَّه بعباده أن يمكن كُلًّا ما يحب، ثم يحاسب كُلًّا على ما فعل من خير أو شر، فيكافئ كُلًّا بما فعل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ويستمر الضال في غيه (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)، ومما يوعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتال والجهاد واستئصال الشرك، وقد رأوه في جهاد النبي - ﷺ - وقد اجتث الشرك اجتثاثا، وإن لم يكن الجهاد وضرب الشرك وجعل كلمة اللَّه هي العليا، فإنها تكون الساعة تستقبلهم ويكون العذاب يوم القيامة.
وعند الوصول إلى هذه الغاية المحتومة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)، " الفاء " عاطفة على (مَا يُوعَدُونَ)، و " السين " لتأكيد الفعل في المستقبل
(وَيَزِيدُ اللَّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا) بأن سلكوا طريق الهداية وأزالوا كل غشاوة ونفذوا إلى نور الحق (هُدًى) بأن يستمسكوا بالحق ويهتدوا بهديه. والآيات التي تنزل تزيدهم إيمانا فوق إيمانهم، وكل سورة تنزل تزيد قوة في إيمانهم، كما قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥).
وإن الذين اهتدوا تشرب قلوبهم حب الإيمان ويستمرئون الطاعة فيسيرون في طريقها، ويصلون إلى الغاية، وما كان من أعمالهم فهو باق له أجره وثوابه ويرد عليهم يوم القيامة، وإن كل خير يبقى، وكل شر يزول فهو كالزبد يكون له مظهر الوجود ولا يبقى، ولقد قال تعالى: (... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ...)، والأعمال الصالحة لهذا باقية؛ ولذا قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) وهي ما تكون ثمرة للإيمان القوي المثمر (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوابًا)، أي خير جزاء وقبولا عند اللَّه، أما غيرها من الأعمال التي لَا تكون ثمرة للإيمان فلا خير فيها ولا تبقى، ولقد قال في مثل ما ينفق الكافرون: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
وإن منشأ الضلالة هو الغرور بهذه الحياة والطمع، وقد صور سبحانه وتعالى هذا الغرور في قوله:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨).
إن المشركين مغرورون بالدنيا غرتهم بغرورها، وحسبوا أنها لَا حياة بعدها، وقدروا لأنفسم مقاديرها فهم يستمتعون بحاضرهم، ويحسبون أن قابلهم من جنس حاضرهم بل ذهب بهم فرط غرورهم إلى أن حسبوا أن البعث إن كان يكونون فيه الأعلين كما هم في الدنيا.
وقوله تعالى:
" الفاء " للترتيب والتعقيب، وهي تصور كيف يمد للكافر حتى يصيبه الغرور، وهي مؤخرة عن تقديم وتقدير القول: فأريت، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم على الفاء، والاستفهام للإنكار، إنكار الواقع، وهو بمعنى التنديد لمن كانت حاله كذلك في غروره، وقوله تعالى: (الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)، أي جحدها وأنكر دلالتها على وحدانية الواحد الأحد الفرد الصمد، وهذا من الاستنكار الذي أفاده الاستفهام، وقال مقسما قسما هو حانث فيه (لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)، و " اللام " لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا كان التوكيد بنون التوكيد الثقيلة، وما كان له أن يحلف تلك اليمين الفاجرة الآثمة بأن سيكون له مال وولد، وقال في قسمه الحانث (لأُوتَيَنَّ)، أي أنه بإرادته وقدرته الواهمة سيكون له مال قد اتخذه وأخذه
الاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، فهو بمعنى النفي لما دخل الاستفهام عليه ومقابله، فهو لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند اللَّه عهدا.
قال الزمخشري في قوله: (أَطَلَعَ الْغَيْبَ) معناه أرتقى علم الغيب، من قِبَل قولهم: اطلع الجيل ارتقاه. وأرى أن قوله: اطلع تتضمن الرؤية، وهنا همزة استفهام، وهمزة الفعل، والمعنى أراى الغيب عيانا، أم اتخذ عهدا عند اللَّه تعالى، وإن شيئا من ذلك لم يحدث، فهو لم ير الغيب عيانا؛ إذ هو مطموس الفكر والنفس والقلب، وهو لَا عهد له عند اللَّه، كما قال تعالى: (... لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
ويذكر المحدثون جميعا أن سبب نزول هذه الآية أن خباب بن الأرت المؤمن الذي عُذب في سبيل الله كان قينا، أي حدادا فصنع للعاص بن وائل شيئا فطالبه بأجرته، فلم يعطه حتى يكفر بمحمد فقال: لَا، فقال: إنكم تقولون إنكم ستبعثون، وسيكون لي ذهب فإني معطيك منه، فنزلت هذه الآيات. وقد رد الله تعالى كلامه فقال سبحانه: (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) وإن ما يقوله مكتوب في علم اللَّه تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها فكيف يقال: (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) بالسين التي تؤكد الكتابة في المستقبل، واللَّه به عليم، وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأن معنى (سَنَكْتُبُ)، أي سنظهر المكتوب، وأحسب أن معنى (سَنَكْتُبُ)، أي سنكتبه في كتابه الذي يقرأ عليه والذي ينطق بسيئاته حجة عليه قائمة لَا يكون له سبيل لإنكاره، أي نسجِّله عليه في صكِّه المنشور يوم القيامة.
ونمد له في غروره مدا، وسمي ذلك عذابا؛ لأنه سبب لعذابه، فذكر المسبب وأريد السبب، وذلك جائز في المجاز المرسل واللَّه تعالى أعلم. ثم يقول تعالى:
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ)، أي نجعل ما يقول خلفا يتركه في الدنيا ويأتينا يوم القيامة فردا: منفردا عن ماله وولده، (مَا يَقولُ): هو الذي تألّى أن يكون له مال وولد ليكونا زينته في الحياة الدنيا فهو يعطاهما، ولكن يخلفها من بعده ويتركهما حيث كانا في الدنيا، ويجيء منفردا، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ...)، فلا مالا ولا ولد يبقى، إنما الباقيات الصالحات كما قال تعالى. ويصح أن نقول: إن ما يقول هو دعاء الأنداد والإشراك باللَّه تعالى، وفتنة المؤمنين في دينهم، وادعاؤه أنه أولى بالنجاة من المؤمنين إن كانت، وإنكاره البدث، وقوله: (... أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...).
وهذا الذي يقوله في الدنيا من افتراء على اللَّه وكذب، وكل هذا سيكون ميراثه يوم القيامة ينال عذابه ويدخل جهنم وبئس المهاد.
وإضافة الميراث للَّه سبحانه؛ لأنه سبحانه هو الذي يقوم بعمل التوريث في الدنيا، فيورثه أخلافه، على التفسير الأول، وهو الذي يورثه العقاب الأليم على المعنى الثاني وهو الذي نختاره، واللَّه - تعالى - أعلم بمراده.
وبعد ذلك بين اللَّه أنواع الكافرين، فبعضهم يتخذ آلهة من دون الله، وبعضهم قالوا اتخذ الرحمن ولدا، فأما الأولون فقال سبحانه فيهم:
هذا فريق من الكافرين، وجعل سبحانه وتعالى الضمير يعود إلى جمعهم، لأنهم جميعا اتخذوا آلهة، فقوم اتخذوا أصناما آلهة، وآخرون عبدوا النجوم، وغيرهم عبدوا الملائكة وقالوا بنات اللَّه - تعالى - وبعضهم عبدوا الأشخاص، كالهنود الذين عبدوا كرشنه، والبوذيين الذين عبدوا بوذا. وكل يرى في معبوده نصيرا ينصره، وشفيعا يشفع له، وعبدة الأصنام كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى اللَّه
(كَلَّا) حرف للردع والزجر وبيان الغفلة وسوء التقدير والجهل؛ لأنهم في الوقت الذي يحتاجون إلى نصرتهم سيكفرون بعبادتهم، والضمير في قوله تعالى: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم) يعود إلى العابدين، ويكون المعنى أنهم في يوم القيامة يوم يحتاجون إلى النصير، ويعتزون بالولي يكفرون بعبادة الأوثان التي كانوا يرجون منها النصرة والعزة في الدنيا؛ إذ تتبين حالهم ويتكشف أمرهم، ويرون أنها لَا تملك من أمرها شيئا، ويظهر الصبح، وينجلي الحق (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، أي يكون العابدون ضدا عليهم ولا يكونون معهم.
هذا على أن الضمير يعود على العابدين الذين عبدوا آلهة من دون اللَّه
- تعالى -، بل يصل الأمر إلى أن ينكروا عبادتهم لهم، كقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وكما قال تعالى:
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦).
ويصح أن يعود الضمير على الآلهة التي اتخذوها من دون اللَّه، بتنزيل الأوثان منزلة العقلاء في زعمهم، والمعنى أن الأصنام التي أرادوها عزا لهم ستكون ضدا عليهم، وتتبرأ منهم فلا يكونون عونا لهم بل يكونون عونا عليهِم، كما قال تعالى: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦). وقال تعالى في سورة إبراهيم: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
وربما يكون من الممكن أن نقول: إن الضمير يعود إلى العابد والمعبود، فكِلا الفريقين يكفر بالآخر ويكون عليه ضدا، واللَّه أعلم بمراده، ويقول الله تعالى في إغراء الشياطين:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
هذا بيان لتمكين اللَّه الشياطين من الكافرين باستفزازهم وتهييجهم للشر،
" الفاء " لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن اللَّه تعالى أراد لهم ذلك؛ لأنهم اختاروا لأنفسم أن يكونوا عبدة الشيطان فهو يستفزهم دائما، يرتكبون شرا بعد شر حتى يصلوا إلى أقصى الغاية فيه ويبتغوه، وكله محسوب عليهم معدود عدا، (إِنَّمَا) أداة قصر، أي إنما يفعل ذلك ليعد عليهم عدا، وكلما أكثروا كان العذاب على قدر مما يرتكبون. وفهم بعض المفسرين أن عَدَّهُ عَدًّا يدل على القلة، ونحن نقول: إن القلة بالنسبة لِلَّهِ تعالى، لَا أنه قليل في ذاته، ومعنى (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لَا تطلبهم في عجل من أمرهم إنهم آتون إليك يوم
(يَوْمَ) متعلق بمحذوف معناه نؤجلهم إلى يوم يكون جزاء المتقين وجزاء المجرمين. والمتقون يحشرون مجتمعين على كرم اللَّه تعالى لهم، فيكونون وفدا، أي ركبا مكرما فيكونون وافدين كرماء، كما يفد الركبان على الرؤساء الأجواد، ويحلون محل الكرامة في ساحتهم، وقوله تعالى: (إِلَى الرَّحْمنِ)، أي أن الحشر إلى الرحمن الرحيم الذي يرحم عباده المؤمنين بجنة أورثوها بعملهم الطيب، ويستقبلهم عملهم الطيب كأنه رجل له عبير وعَرف الأطهار المطمئنين، ويدخلون الجنة تجري من تحتها الأنهار، أنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهذا إكرام وفد الأبرار، هذا وفد المتقين.
أما المجرمون فيُساقون سَوقا إلى جهنم، وهم عطاش يردون وردا يشربون منه فلا يجدون إلا حميما وماء غساقا؛ ولذا قال تعالى في حالهم يوم البعث ثم القيامة:
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ)، أي ندفعهم مسوقين كالبهائم مُهانين غير مكرمين، لا إلى الرحمن رب العالمين، وإنما يساقون إلى جهنم وهم عطاش وكأنهم يذهبون إلى وِرد ماء يردونه ولكن يكون السَّوْق والدفع إلى جهنم فيكون وِردهم جهنم وبئس الوِرد المورود لهم، والوِرد الذهاب إلى الماء، وفي هذا تشبيه، أي أنه شبهت جهنم لهم بالوِرد الذي يردونه على أنه ماء، فماذا هو جهنم، فهي استعارة تمثيلية.
وهم يلقون في جهنم لَا شفيع يشفع؛ ولذا قال تعالى:
(لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)
* * *
كفر من قال اتخذ الله ولدا
قال اللَّه تعالى:
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ
* * *
هذا هو القسم الثاني من الكافرين، والأول قد ذكرناه، وهم الذين يعبدون غير اللَّه من أوثان ونار وكواكب وشمس، وبعد أن بين مالهم، وعاقبتهم يوم القيامة، ذكر الذين فجروا وكذبوا على اللَّه تعالى:
سرى هنا إلى الذين قالوا إنا نصارى من الأفلاطونية الحديث، والأفلاطونية الحديثة أخذتها من الهند، حيث إن البراهمة قالوا: إن كرشنه ابن براهما، وبوذا ابن اللَّه، ولقد أعظم الذين قالوا إنا نصارى، أعظموا الأمر وأضلوا أنفسهم، فزعموا أن اللَّه اتخذ ولدا، أي أراد أن يكون له ولد، واتخذ ولدا؛ لاحتياجه إليه، ثم أذاعوا بهتانا عظيما، فقالوا إنه قديم بقدم اللَّه تعالى (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ...)، وذكر اللَّه تعالى بوصف الرحمة، لأنه سبحانه رحيم بالجميع فكيف يكون مختصا بولد أو بصاحبة، ورحمته عامة للعالين.
ولأن ذلك الكلام الذي يقوله النصارى وكفروا به كفرا عظيما قال اللَّه تعالى في وصف هذا بقوله تعالى:
أي لقد جئتم بهذا القول شيئا إِدًّا، أي منكرا تنكره العقول، ولا يليق بذات الله العلية، ولقد قال الراجز:
لقد لقى الأقرانُ منِّي نُكْرًا | داهيةً دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرًا |
ويلاحظ أنه انتقل الكلام الكريم من الغيبة إلى الخطاب؛ ليوجه القول الشديد إليهم وينبههم إلى عظيم ما ارتكبوا، وأنهم أتوا بأمر تطابقت العقول المدركة على إنكاره، وهو خطير في ذاته لَا يقوله إلا مأفون في غفلة عن التفكير السليم المنطقي، ولقد كنا كلما تذاكرنا مع القائلين لهذا القول يقولون: إن ذلك فوق العقول لَا تدركه، وما هو بمدرك في ذاته؛ ولذا شاع بين فلاسفة النصارى كلمة المنطق الديني في مقابل المنطق العقلي البرهان، وقالوا: إن منطق الدين لا تطبق عليه مقاييس البرهان والاستدلال، ويقولون لأنه فوق العقل، ونقول لهم: إن منطقهم الديني أمر منكر في العقول، وهو إدٌّ في العقول، وهو أمر مع أنه نكر، هائل في بطلانه، وأثره في تضليل الأفهام، وغفلة العقول:
هذا الهول من ذلك القول الذي قاله النصارى مقلدين للفلسفة المشتقة من الديانة الوثنية عند البراهمة والبوذيين، وهو قول يحاولون إدخاله في العقول، وهو بالنسبة للمحسوس (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) التفطُّر: معناه التشقق أجزاء مختلفة متعددة متكررة، وقرئ (ينفطرن) (١) من قبيل فعل المطاوعة، وهو من فطره بمعنى شقَّه، وانشق مما يحتاج إلى معالجة، ومما يصعب فطره، فلا يقال كسرت القلم فانكسر؛ لأن كسر القلم لَا يحتاج إلى معالجة ومحاولة، ولكن يقال:
كسرت الحجر فانكسر، أو كسرت الباب فانكسر.
وما المراد من هذا التصوير السامي العالي: أيراد به بيان هول هذه الكلمة، وأنها لو نزلت على السماء والأرض لتفطرت السماء وانشقت الأرض، وهدت
________
(١) قراء (يتفطرن) في سورة مريم: بالتاء، وتشديد الطاء: نافع وابن كثير وأبو جعفر، وعلى (الكسائي) وحفص، وقرأ الباقون (ينفَطِرْن) بنون ساكنة، مع كسر الطاء المخففة. غاية الاختصار: ٢/ ٥٦٦.
ثم إن هذه الكلمة كانت تسوغ تعجيل العقاب عليهم بأن تنفطر السماء عليهم، وتنشق الأرض وتهد الجبال هدا، ولكن اللَّه تعالى يمسك السماء والأرض، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١)، وإن ذلك بسبب هذا الافتراء والادعاء الباطل؛ ولذا قال تعالى:
(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢)
ثم بين سبحانه أنه ليس من المعقول الذي يتفق مع كمال اللَّه وجلاله أن يتخذ اللَّه ولدا، ولذا قال:
أي ما يسوغ ولا يعقل أن يكون للرحمن ولدا، لعدم الحاجة إلى الولد أولا، ولمخالفته للحوادث ثانيا، ولأن الولد يحتاج إلى صاحبة ثالثا؛ ولأنه لَا قديم إلا اللَّه رابعا؛ لأنه يؤدي كأصله الفلسفي إلى أن الأشياء تنشأ عن اللَّه تعالى كما ينشأ المعلول عن عِلَّته، واللَّه فاعل مختار يفعل ما يريد.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ " (١)، ولذا ما كان ينبغي أن يكون للرحمن ولدا؛ لأنه تطاول على مقام الألوهية من قائليه، لأن العباد جميعا بالنسبة له على سواء، وعيسى - عليه السلام - عبد اللَّه ورسوله. وكما قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...). و (إنْ) في قوله تعالى: (إِن كُلُّ من فِي السَّمَاوَاتِ) نافية، أي ما كل من في السماوات والأرض إلا آتيه عبدا خاضعا خانعا للَّه سبحانه وتعالى، قائما بالعبودية، فالجميع خاضع له خضوع العبيد الأحياء وغير الأحياء، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...).
وقوله تعالى: (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، إلا آتيه مقبلا على اللَّه تعالى إقبال العبد في خضوع وخنوع، خضوع العابد للمعبود، وهو اللَّه جل جلاله. ويقول الإمام الزمخشري في تفسير هذه الآية: والمعنى ما من معبود لهم في السماوات
________
(١) رواه البخاري: تفسير القرآن - لَا ينون أحد، أي واحد (٤٥٩٢) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. كما رواه النسائي وأحمد.
وقوله تعالى:
فيه معنى إحاطة علم اللَّه تعالى بهم وبأحوالهم وبأشخاصهم كما نقلنا عن صاحب الكشاف، وفيه أيضا إنذار للعصاة المذنبين، بأنه سبحانه وتعالى سيحاسبهم بمقدار تلك الإحاطة الشاملة، والمعرفة المتقصية التي لَا تدع صغيرة ولا كبيرة إلا دخلت في إحصائها، ولذا قال تعالى بعد ذلك:
أي آتي اللَّه تعالى منفردا عما كان يعتز به من مال وبنين وعشيرة، ونفر وقوة، ولا شفيع ولا نصير، ولكن يلقون اللَّه تعالى بأعمالهم مجردة، وبأشخاصهم مجردين، وإن ذلك يوم القيامة، يوم يحاسب كل واحد على ما قدمت يداه، ويؤتى كتابه فيه إحصاء ما عمل، وتنطق أيديهم وأفواههم بما كانوا يقترفون.
وبعد أن بين اللَّه تعالى حال الكافرين من عبدة الأوثان، ومن كذبوا على اللَّه وقالوا اتخذ اللَّه ولدا، بين اللَّه سبحانه وتعالى حال المؤمنين في الدنيا فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، فسبقوا إلى الإيمان مذعنين للَّه، وقووا إيمانهم بالعمل الصالح، فالإيمان من غير عمل صالح يزكيه وينميه مآله أن يكون خاويا فارغا،
بالكسر، والود المحبة من غير حمل عليها، بل بانجذاب القلوب المؤمنة، فإن الإيمان يصفي قلوبهم، وينير بصائرهم، فينجذب بعضهم لبعض من غير تحبيب، بل بمقتضى الطهر الجامع. والإخلاص الذي يؤلف القلوب، ويؤاخي بين الناس، روى أن النبي - ﷺ - قال: " إن لله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانهم من الله يوم القيامة " قالوا: ومن هم يا رسول اللَّه؟ قال: " قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم ولا أموال يتعاطون، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور "، ثم تلا قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وكذلك كان المؤمنون الأولون، حتى إن الرجل من الأنصار بعد المؤاخاة كان يشاطر أخاه في ماله غير ضنين، بل إن بعضهم كان ذا زوجتين فهمَّ بأن يطلق إحداهما ليتزوجها أخوه، ولذا وصف اللَّه الأنصاري بقوله تعالى: (... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...).
ولقد كانت المحبة الصادقة والمودة الرابطة قوة المسلمين في مكة، حيث لا قوة لهم من مال أو جاه أو سلطان، فقد كانت هذه المودة دافعة أبا بكر لأن يشتري الأرقاء من المؤمنين، ويعتقهم، وقد صاروا فيما بعد قوة المسلمين في الجهاد وذوي شأن بين أهل الإيمان، وإنه من وقت زال الود الجامع للمؤمنين زالت وحدتهم، وذهبت قوتهم، ولا أستطيع أن أقول: إنهم خرجوا عن الإيمان، ولكن المؤكد أنهم لم يعملوا عملا صالحا، بل تنابذوا وذهبت ريحهم.
ولقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى ما يجمع شملهم ويوحد أمرهم، ويذهب شتاتهم وهو القرآن الكريم. فقال تعالى:
الضمير في (يَسَّرْنَاهُ) يعود إلى القرآن؛ لأنه حاضر في قلوب المؤمنين يملأ أجواءهم بعطره ونوره فلا يحتاج إلى ذكر معين سابقا؛ لأنه مذكور دائما حاضر في القلوب لَا يغيب عنها، و " الفاء " للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت حجتك الكبرى هذا القرآن العظيم، فإنما يسرناه بلسانك العربي، وسهلناه على كل عربي يقرؤه من غير عوج ولا عُجمة فيه ولا إبهام، لتبشر به المؤمنين الذين يدخل الإيمان قلوبهم؛ لأنهم يذعنون للحق إذا جاءهم، والناس أقسام ثلاثة:
القسم الأول: قسم آمن بالحق إذ جاءهم كأولئك الذين كانوا خلية الإيمان الأولى من أمثال أبي بكر وبلال وصهيب وزيد بن حارثة.
والقسم الثاني: قسم قلبُه منفتح للحق يجيب داعيه، ويحضر ناديه، وهؤلاء ومن سبقهم هم الذين يبشرهم القرآن بالجزاء الأوفى.
والقسم الثالث: اللُّدُّ وهم الذين يجادلون بغير الحق، وهؤلاء ينذرهم القرآن الإنذار الشديد لكيلا يكون لهم عذر في كفرهم، ولتقوم الحجة عليهم، كما قال تعالى: (... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير)، وقال تعالى: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، واللسان هو اللغة وهي هنا العربية. واللُّد جمع ألد وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: (... وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).
وقال الشاعر العربي:
أَبيتُ نَجِيًّا للهُمومِ كأنني | أُخَاصمُ أقوامًا ذَوِى جَدَلٍ لُدًّا |
القرن: الجماعة من الناس التي تعيش في عصر واحد، فالقرن الجماعة، وليس الزمن، والرِّكز هو الصوت الخفي، ومعنى ذلك أنهم أبيدوا، وصارت آثارهم تنبئ عنهم ليكونوا عبرة المعتبرين، وليكونوا المَثُلات لمن يرتكبون مثل ما فعلوا، والركز يقال لكل شيء مختف، فيقال ركز الرمح، أي اختفى في الأرض والرِّكاز المال المختفي. كذلك قال الزمخشري في الكشاف.
وإن هذا بلا ريب إنذار للمشركين في الدنيا بالهلاك والدمار، كما كان لقوم نوح إذ أغرقهم، ولقوم هود وصالح إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية، ولقوم لوط إذ جعل سبحانه وتعالى أرضهم عاليها سافلها.
وهكذا، ولكن المشركين لم ينزل سبحانه ذلك بهم، ولكنه ذكره لبيان عاقبة الكفر أولا، وعظيم قدرته ثانيا، وما يتعرضون له ثالثا، أما مشركو مكة فلم ينزل بهم ذلك العذاب المستأصِل؛ لأنَّ محمدا - ﷺ - خاتم النبيين فلا بد أن تبقى طائفة من أمته ظاهرة على الحق داعية إليه سبحانه، وقد كان من أولئك المشركين من هداه اللَّه وكان قوة للمؤمنين وعزًّا للإسلام، وكان من ذرية العاتين من صار من نصراء المؤمنين كعكرمة بن أبي جهل، والله بكل شيء عليم.
* * *
تمهيد:
هذه السورة مكية وعدد آياتها ١٣٥، وكلها نزلت بمكة، وقيل إلا آية ١٢، ١٣، وقد ابتدأت بخطاب النبي - ﷺ - بأن الله تعالى ما أنزل عليه القرآن ليشقى بتحمل أعباء الكافرين في كفرهم، وليس هو إلا مذكر، والقرآن تنزيل من قوي قاهر خلق السماوات العلا، وهو المسيطر على هذا الوجود. (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وهو يعلم كل شيء، (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقد تحدث سبحانه بحديث موسى عليه السلام في بعثه وخطاب الله تعالى له، وقد رأى نارا (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥)، وبذلك أخبره بِاختياره نبيا ونبهه إلى معجزته الأولى وهي العصا، قال: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠).
وأمره أن يأخذها ولا يخاف، وأعقبها بمعجزة أخرى فقال: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣). كلفه بعد أن رأى هاتين الآيتين أن يدعو فرعون إلى الهدى فقال سبحانه:
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ولكن موسى الكليم يحس بضعفه، وأنه لا يحسن القول فيقول: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)
ويجيبه الله (... قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧)، ولقد أشار سبحانه إلى منته الأولى عند ولادته إذ ألهم أمه (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ...)، ويذكر سبحانه بعض قصصه قبل الرسالة وقتله المصري وفتنته ببني إسرائيل، ويشير سبحانه إلى قصته في أهل مدين (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١).
وقد أمره سبحانه أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون، وأن يترفقا معه في القول (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، ولكنهما يخشيانه لسطوته وجبروته واستهانته بكل إنسان، وهكذا يبرر سكوت الناس عن الطغاة واستنكار أعمالهم بالقلوب، ولقد قال الله تعالى لهما: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧)
أمرهما بأن يخبراه بوحى الله تعالى: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)، أخذ فرعون يجادلهما، وسألهما من ربكما؟ قالا: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، وسألهما: فما بال القرون الأولى؟ قالا: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)، وأخذا يعرفان فرعون بكمال الله تعالى في خلقه وببيان قدرة الله تعالى في الخلق والإعادة (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥).
ولقد أراه الله تعالى على يد موسى وهارون الآيات الكبرى، وكانت كلها حسِّية ولكنه لم يؤمن، وحسب أن موسى جاء لينزع ملك فرعون، لَا ليهديه، وكذلك كان يستعين الفراعنة الذين حكموا مصر في عصور النور: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ...)، وجعلوا بينه وبينهم موعدا، وقد وافق موسى على أن يكون الموعد هو يوم الزينه يوم يحشر الناس ضحى.
ذلك إيمان المؤمن، ولقد أخذ موسى يأتي بالآيات حتى بلغت تسع آيات، ولكن لم يؤمن فرعون وملؤه، فامره بأن يسري ببني إسرائيل ليلا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩).
أخرج الله بني إسرائيل من فرعون وطغيانه، ومكنهم من أرض سيناء، وقال لهم تعالت حكمته وكلماته: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١).
عالج موسى أمر فرعون الطاغية وأعانه الله تعالى عليه، ثم أخذ بعد ذلك يعالج بني إسرائيل وكان علاجهم أشد من علاج فرعون؛ لأن علاج النفوس التي تطغى وتضعف، ومردت على النفاق والضعف، ومعاشرة الكافرين، وتأثر نفوسهم بالكفر والشرك، ولذا صعب أمرهم.
ذهب موسى إلى ربه ففُتن بنو إسرائيل بالعجل من بعده فقال الله تعالى:
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥).
أضلهم السامري بأن صنع لهم تمثال عجل من ذهب، ووضعه لهم في مهب الريح فإذا هبت صوَّت
فعلوا ذلك في غيبة موسى عليه السلام، وأخذ هارون يرشدهم ويقول: (... يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠).
ولكنهم أصروا على عبادته وقالوا: (... لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى). جاء موسى فوجَّه اللوم إلى أخيه هارون عليهما السلام، ولكن اعتذر نبي الله هارون بأنه خشي أن تكون فرقة بين بني إسرائيلِ، وقال: (... يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)، وعلى أي حال فهارون عليه السلام لم يشاركم في عبادة العجل، كما قالت التوراة المحرفة غير الصادقة، وكان هذا من أعظم الأدلة على تحريفها، بعد أن عاتب أخاه وحسبه مقصرا اتجه إلى السامري الذي أضلهم فقال: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بمَا لَمْ يبْصُرُوا بِهِ...) من الصناعة، صناعة التماثيل، (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)، أي من تعاليمه ودعوته إلى التوحيد (... فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧)، كان هذا دليلا عمليا على أن ذلك الصنم لا يملك من أمره شيئا، ولذلك قرر ألوهية الله وحده. (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨).
هذه أطراف من قصة موسى عليه السلام، وقال تعالى في ذلك: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩).
وبين سبحانه عاقبة من أعرض عن ذكرِ الله تعالى، وأشار سبحانه إلى يوم القيامة (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)، مبينا سبحانه حال الناس يوم القيامة وحال الأرض، وما فيها (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ
بعد هذا بين سبحانه أن الوجوه كلها تكون عانية خاضعة، وقد خاب من حمل ظلما، بين سبحانه منزلة القرآن وأنه نزل عربيا، وصرف فيه من الوعيد ما تهلع له القلوب، فتعالى الله الملك الحق (... وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤).
ويقول سبحانه تذكيرا لابن آدم، وبيان عرضته للخطأ والنسيان، فيقول
سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، فذكر سبحانه
أبانا بأنه حذره من الشيطان وقال له: (... إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧)،
ولكن وسوس إليه الشيطان: (... قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١).
وهبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض بعضهم لبعض عدو، وقال لهم رب البرية: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)، وإن العذاب عذابان: عذاب الدنيا بالضلال والعمى عن الحق، وهذا عذاب لأهل العقول، وعذاب في الآخرة وهو أشق وأبقى.
يذكر الله سبحانه بعد ذلك العبر في الماضين الذين أهلكوا وكان يمكن أن ينزل مثل ذلك بالمشركين الذين كفروا بمحمد، وفتنوا المؤمنين، وضلوا، ولكن سبقت الكلمة ببقائهم ليكون من ذريتهم من يعبدون الله تعالى، وقال تعالى في ذلك: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩).
واتجه سبحانه إلى النبي - ﷺ - يأمره بأصبر على ما يقولون، وأن يسبح الله تعالى (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠).
لقد تعللوا في كفرهم بتعللات ظاهرة البطلان طلبوا آيات حسية، وقالوا:
(... لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣).
لقد جاءهم الرسول مبشرا ونذيرا، ولكنهم كفروا وعاندوا (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥).
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)* * *