تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب زهرة التفاسير
.
لمؤلفه
أبو زهرة
.
المتوفي سنة 1394 هـ
بين يدي السورة :
هذه أولى آيات سورة آل عمران، و هي مدنية، و قد سميت بآل عمران لاشتمالها على قصتهم، إذ قال سبحانه :﴿ إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ٣٣ ﴾ ( آل عمران ) إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.
موضوعات السورة :
و إن هذه السورة الكريمة :
( ١ ) فيها تنويه بذكر القرآن و أقسامه، و إشارة إلى محكمه و المتشابه منه، و أقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
( ٢ ) و فيها قصة آل عمران، و ولادة مريم البتول، و يحيى النبي، و عيسى الرسول، و ما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
( ٣ ) و فيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، و كفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، و إن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، و على البصيرة فلا تدرك.
( ٤ ) و فيها مجادلة النبي صلى الله عليه و سلم مع النصارى و اليهود، و بيان طائفة من أخلاق اليهود و اعتقادهم أن الإيمان احتكار المذهب، و تغليق القلوب عن غيره، إذ قالوا :﴿ و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ٧٣ ﴾ إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
( ٥ ) و فيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين، لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، و ختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.
( ٦ ) و فيها بيان فريضة الحج المحكمة و بيان الوحدة الإسلامية، و في جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، و أعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنها ركن الوحدة الإسلامية و دعامتها، و الذريعة لجعل هذه الوحدة على أسس فضيلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.
( ٧ ) و فيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنون خبالا و يودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، و بيان سبب الهزيمة و أعقابها، و العبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة و لكن لم يكن في ها خذلان، بل كانت العبرة فيها و الاعتبار بها باب الفتح المبين. و في أثناء القصة و ختامها بيان حال قتلى المؤمنين و أنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
( ٨ ) و فيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر و الهزيمة، و اتباع ضعاف الإيمان لسوستهم، و صيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
( ٩ ) ثم فيها عزاء للنبي صلى الله عليه و سلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات و الأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه :﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير ١٨٤ ﴾.
( ١٠ ) و فيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين و يختبرهم، و في الابتلاء صقل إيمانهم.
( ١١ ) و فيها بيان أخلاق المؤمنين و تفكرهم في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و ضراعتهم إلى ربهم، و استجابة الله تعالى لهم، و جزاؤهم يوم القيامة، و المقابلة بينه و بين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، و فيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا و صدقوا و لم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار و التكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
( ١٢ ) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى و بالصبر و بإعداد العدة، فقال تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و اربطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون ٢٠٠ ﴾
هذه أولى آيات سورة آل عمران، و هي مدنية، و قد سميت بآل عمران لاشتمالها على قصتهم، إذ قال سبحانه :﴿ إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ٣٣ ﴾ ( آل عمران ) إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.
موضوعات السورة :
و إن هذه السورة الكريمة :
( ١ ) فيها تنويه بذكر القرآن و أقسامه، و إشارة إلى محكمه و المتشابه منه، و أقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
( ٢ ) و فيها قصة آل عمران، و ولادة مريم البتول، و يحيى النبي، و عيسى الرسول، و ما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
( ٣ ) و فيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، و كفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، و إن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، و على البصيرة فلا تدرك.
( ٤ ) و فيها مجادلة النبي صلى الله عليه و سلم مع النصارى و اليهود، و بيان طائفة من أخلاق اليهود و اعتقادهم أن الإيمان احتكار المذهب، و تغليق القلوب عن غيره، إذ قالوا :﴿ و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ٧٣ ﴾ إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
( ٥ ) و فيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين، لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، و ختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.
( ٦ ) و فيها بيان فريضة الحج المحكمة و بيان الوحدة الإسلامية، و في جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، و أعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنها ركن الوحدة الإسلامية و دعامتها، و الذريعة لجعل هذه الوحدة على أسس فضيلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.
( ٧ ) و فيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنون خبالا و يودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، و بيان سبب الهزيمة و أعقابها، و العبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة و لكن لم يكن في ها خذلان، بل كانت العبرة فيها و الاعتبار بها باب الفتح المبين. و في أثناء القصة و ختامها بيان حال قتلى المؤمنين و أنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
( ٨ ) و فيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر و الهزيمة، و اتباع ضعاف الإيمان لسوستهم، و صيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
( ٩ ) ثم فيها عزاء للنبي صلى الله عليه و سلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات و الأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه :﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير ١٨٤ ﴾.
( ١٠ ) و فيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين و يختبرهم، و في الابتلاء صقل إيمانهم.
( ١١ ) و فيها بيان أخلاق المؤمنين و تفكرهم في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و ضراعتهم إلى ربهم، و استجابة الله تعالى لهم، و جزاؤهم يوم القيامة، و المقابلة بينه و بين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، و فيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا و صدقوا و لم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار و التكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
( ١٢ ) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى و بالصبر و بإعداد العدة، فقال تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و اربطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون ٢٠٠ ﴾
ﰡ
ﭑ
ﰀ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم ( ١ ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ٢ ) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل ( ٣ ) من قبل هدى للناس و أنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ( ٤ ) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( ٥ ) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( ٦ ) ﴾
﴿ الم ﴾ هذا الاسم القرآني الذي سمى به القرآن هذه السورة، و هذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، و هي ألف لام ميم. و المعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين كما أسلفنا في سورة البقرة و الله أعلم بمراده منها، و لا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، و المعنى المحرر لها، و أقصى ما ذكره العلماء لها حكم يدل عليها ذكرها، و من أحسن ذلك أن يقال : إن هذه الحروف تشير إلى أن القرآن الكريم من جنس ما يتكلم به العرب، و أنه مكون من الحروف التي يتكون منها كلامكم، و مع ذلك تعجزون أن تأتوا بمثل سورة منه، فهي إشارة إلى العجز مع الطمع في أن يحاولوا، و لن يأتوا بسورة من مثله. و من أحسن ما يقال أيضا أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لا يعرفها إلا من يقرأ و يكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته – عليه السلام – دليل على أنه من عند الله. و من ذلك أيضا ما قيل من هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، و إن لم يرد السامعون. و يروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن :﴿ و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ ﴾ ( فصلت ).
﴿ الم ( ١ ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ٢ ) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل ( ٣ ) من قبل هدى للناس و أنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ( ٤ ) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( ٥ ) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( ٦ ) ﴾
﴿ الم ﴾ هذا الاسم القرآني الذي سمى به القرآن هذه السورة، و هذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، و هي ألف لام ميم. و المعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين كما أسلفنا في سورة البقرة و الله أعلم بمراده منها، و لا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، و المعنى المحرر لها، و أقصى ما ذكره العلماء لها حكم يدل عليها ذكرها، و من أحسن ذلك أن يقال : إن هذه الحروف تشير إلى أن القرآن الكريم من جنس ما يتكلم به العرب، و أنه مكون من الحروف التي يتكون منها كلامكم، و مع ذلك تعجزون أن تأتوا بمثل سورة منه، فهي إشارة إلى العجز مع الطمع في أن يحاولوا، و لن يأتوا بسورة من مثله. و من أحسن ما يقال أيضا أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لا يعرفها إلا من يقرأ و يكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته – عليه السلام – دليل على أنه من عند الله. و من ذلك أيضا ما قيل من هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، و إن لم يرد السامعون. و يروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن :﴿ و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ ﴾ ( فصلت ).
فكانوا إذا قرعت آذانهم هذه الحروف بمدها، التفتوا مغرمين، ثم هجمت على قلوبهم من بعد ذلك الآيات البينة المحكمة، تعالت كلماته سبحانه :
﴿ الله لا إله إلا هو الحث القيوم ﴾ : هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، و تقرر معناه، فابتدأت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، و انفراده – سبحانه – بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق و رباه و نماه، و لا مالك لهذا الوجود و من فيه و ما فيه سواه. و لفظ " الله" علم على الذات العلية المتصف بكل كمال و النزهة عن كل نقص، و التي لا تشابه الحوادث، و لا يشبهها شيء من الحوادث :﴿ ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ١١ ﴾ ( الشورى ). ثم صرح سبحانه و تعالى بما يتضمنه لفظ الجلالة و هو الانفراد بالألوهية و حق العبودية فقال سبحانه :﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي لا معبود بحق إلا هو، أو لا إله في الحقيقة و الواقع إلا هو، و كل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماء سماهم بها المشركون الضالون، و ليس من حقيقة الألوهية في شيء ﴿ إن هي إلا أسناء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... ٢٣ ﴾ ( النجم ) ثم بين سبحانه الوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه :﴿ الحي القيوم ﴾ أي الدائم الحياة الذي لا ينفى، و ينفي ما سواه، و لا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، و هو القائم بنفسه، و القائم على كل شيء، و المدبر لكل شيء. فهذا معنى القيوم ١.
﴿ الله لا إله إلا هو الحث القيوم ﴾ : هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، و تقرر معناه، فابتدأت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، و انفراده – سبحانه – بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق و رباه و نماه، و لا مالك لهذا الوجود و من فيه و ما فيه سواه. و لفظ " الله" علم على الذات العلية المتصف بكل كمال و النزهة عن كل نقص، و التي لا تشابه الحوادث، و لا يشبهها شيء من الحوادث :﴿ ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ١١ ﴾ ( الشورى ). ثم صرح سبحانه و تعالى بما يتضمنه لفظ الجلالة و هو الانفراد بالألوهية و حق العبودية فقال سبحانه :﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي لا معبود بحق إلا هو، أو لا إله في الحقيقة و الواقع إلا هو، و كل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماء سماهم بها المشركون الضالون، و ليس من حقيقة الألوهية في شيء ﴿ إن هي إلا أسناء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... ٢٣ ﴾ ( النجم ) ثم بين سبحانه الوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه :﴿ الحي القيوم ﴾ أي الدائم الحياة الذي لا ينفى، و ينفي ما سواه، و لا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، و هو القائم بنفسه، و القائم على كل شيء، و المدبر لكل شيء. فهذا معنى القيوم ١.
١ قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى: قد فسرنا هذه الجملة السامية في تفسير آية الكرسي فاجع إليه...
﴿ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ﴾ " الكتاب " هو القرآن الكريم، و إن أكثر السور التي تبتدئ بتلك الحروف تقترن فيها الحروف بالتنويه بذكر القرآن، و إعلاء شأنه، مما جعل المفسرين يعتبرون تلك الحروف أسماء للسور، سماها القرآن بها، و فواصل محكمة بين سورة و أخرى من سور القرآن الكريم، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل. و قد عبر – سبحانه و تعالى – عن نزول القرآن الكريم ب ﴿ نزل ﴾ للإشارة إلى أن النزول كان تدريجيا، و لم يكن دفعة واحدة، إذ إن التنزيل يدل على التدرج في النزول، و كذلك كان القرآن الكريم، فقد نزل منجما ينزل في الوقائع، أو الأسئلة ليكون السبب الذي اقترن بنزوله معينا على فهمه و إدراك بعض مغازيه.
و قد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما :
أولهما : أنه حق في ذاته، و مبين للحق مشتمل عليه، و داع إليه، فقال الله تعالى :﴿ بالحق ﴾
أي مصاحبا له مقترنا بما ملازما له، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين، و اشتمل على الحق، فكل ما فيه من قصص و أخبار و شرائع و أحكام و عقائد حق لا شك فيه، و هو يدعو إلى الحق و العدل، فهو الحق الملازم للحق، الناصر للحق.
و ثاني الأمرين : أنه مصدقا لما بين يديه، أي الشرائع الإلهية التي سبقته، و لذا قال سبحانه :﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ فهو في لبه و معناه مبين لكل الشرائع مصدقا لصدقها، و هذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها و معناها و أصولها، و لذا قال سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه... ١٣ ﴾ ( الشورى ). فالإسلام هو لب الأديان و غايتها، و لذا قال سبحانه :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾ ( آل عمران ).
﴿ و أنزل التوراة والإنجيل ﴾ هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة، إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله في الشرائع السابقة، و هي تتضمن أنها كانت هداية للناس، و هذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي و الإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم. و في هذه الجملة إشارة على معنى آخر، و هو أن لكل أمة كتابا و هداية خاصة، و إن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام، حتى إذا كانت دعوة محمد صلى الله عليه و سلم كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة.
﴿ التوراة ﴾ اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام، و نزل عليه من رب العالمين، و ليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم، لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل على ما نزل في عهد موسى، و تشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود و سليمان و غيرهما، و فوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به، و حرفوا الكلم عن مواضعه، و غيروا و بدلوا، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن.
﴿ و الإنجيل ﴾ كلمة يونانية ١ معناها البشارة، و الإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى، و ليس هو هذا الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام، نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه، و لقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس. و لقد قرر الأحرار من النصارى ذلك، فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية :" إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال أنها هي الإنجيل الأصلي، و الغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم و لم يروا أحواله بأعينهم، و كان هذا الإنجيل بمنزلة القلب، و ما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب " ٢.
و قد ذكرت ذلك الإنجيل الأناجيل المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن، فقد جاء في إنجيل متى ما نصه :" و كان يسوع يطوف كل الجليل، يعلم في مجامعهم، و يكرر ببشارة الملكوت، و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب " و بشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا، فقد كانت إذا بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو المذكور في القرآن و إن لم يعلم الآن.
و قد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما :
أولهما : أنه حق في ذاته، و مبين للحق مشتمل عليه، و داع إليه، فقال الله تعالى :﴿ بالحق ﴾
أي مصاحبا له مقترنا بما ملازما له، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين، و اشتمل على الحق، فكل ما فيه من قصص و أخبار و شرائع و أحكام و عقائد حق لا شك فيه، و هو يدعو إلى الحق و العدل، فهو الحق الملازم للحق، الناصر للحق.
و ثاني الأمرين : أنه مصدقا لما بين يديه، أي الشرائع الإلهية التي سبقته، و لذا قال سبحانه :﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ فهو في لبه و معناه مبين لكل الشرائع مصدقا لصدقها، و هذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها و معناها و أصولها، و لذا قال سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه... ١٣ ﴾ ( الشورى ). فالإسلام هو لب الأديان و غايتها، و لذا قال سبحانه :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾ ( آل عمران ).
﴿ و أنزل التوراة والإنجيل ﴾ هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة، إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله في الشرائع السابقة، و هي تتضمن أنها كانت هداية للناس، و هذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي و الإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم. و في هذه الجملة إشارة على معنى آخر، و هو أن لكل أمة كتابا و هداية خاصة، و إن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام، حتى إذا كانت دعوة محمد صلى الله عليه و سلم كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة.
﴿ التوراة ﴾ اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام، و نزل عليه من رب العالمين، و ليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم، لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل على ما نزل في عهد موسى، و تشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود و سليمان و غيرهما، و فوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به، و حرفوا الكلم عن مواضعه، و غيروا و بدلوا، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن.
﴿ و الإنجيل ﴾ كلمة يونانية ١ معناها البشارة، و الإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى، و ليس هو هذا الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام، نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه، و لقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس. و لقد قرر الأحرار من النصارى ذلك، فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية :" إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال أنها هي الإنجيل الأصلي، و الغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم و لم يروا أحواله بأعينهم، و كان هذا الإنجيل بمنزلة القلب، و ما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب " ٢.
و قد ذكرت ذلك الإنجيل الأناجيل المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن، فقد جاء في إنجيل متى ما نصه :" و كان يسوع يطوف كل الجليل، يعلم في مجامعهم، و يكرر ببشارة الملكوت، و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب " و بشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا، فقد كانت إذا بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو المذكور في القرآن و إن لم يعلم الآن.
١ و قيل: سريانية، و قيل: أعجمية ( اللباب ٥/١٩ – ٢٠ )..
٢ راجع تاريخ الأناجيل و صحة نسبتها في كتاب " محاضرات في النصرانية " للأستاذ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي..
٢ راجع تاريخ الأناجيل و صحة نسبتها في كتاب " محاضرات في النصرانية " للأستاذ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي..
﴿ و أنزل الفرقان ﴾ :﴿ الفرقان ﴾ هنا هو : القرآن، و كرر ذكره بعد أن ذكرت التوراة و الإنجيل، للإشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله تعالى، و أنه تتميم لما سبقه، و أنه كمال هذه الشرائع كلها، و أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر لبنة في صرح الشرائع الإلهية، و بنزولها كمل دين الله ١. و كرر ذكره أيضا لوصفه بالفرقان، فهو أتى بمعنى جديد لا يغني عنه ذكر الكتاب أولا. و وصف القرآن الكريم بالفرقان، لأنه فارق بين الحق و الباطل، و مبين للصادق من الكتب السابقة، و لأنه فارق بين عهدين في الرسائل الإلهية، فقد كانت رسالات الرسل من قبل لأمم خاصة، و من بعد كانت الرسالة المحمدية للناس كافة، فمن قبله كانت الرسالات لعلاج أحوال عارضة وقتية، أما رسالة القرآن فعلاج لأدواء الإنسانية، و تقرير الصالح لها مهما تختلف الأمصار، و تتباعد الأقطار، و لأنه ميزان الحقائق إلى يوم القيامة، و لذلك قال تعالى :﴿ الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان... ١٧ ﴾ ( الشورى ).
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ﴾ ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله، أي معجزاته الباهرة، و آياته المتلوة القاهرة، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث : اليهودية، و النصرانية، و الإسلام، للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها، لأنه شريعته كمالها، و بها تمامها و ختامها، و للإشارة إلى أن اليهود و النصارى الذين لا يتبعون محمدا، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها، و اليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد صلى الله عليه و سلم، فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية، و هي الكمال، و قد بشرت به الكتب السابقة كلها، فالكفر به كفر بها، و الإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته، و لو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه و سلم.
و من أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد، و خصوصا إذا كانوا من اليهود و النصارى، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى.
ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد انه غالب، و أنه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال :﴿ و الله عزيز ذو انتقام ﴾ أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء، مسيطر على كل شيء، ليس فوقه احد، و هو القاهر فوق عباده. و هو انتقام، أي أنه سبحانه له انتقام شديد لا يدرك كنهه، و لذلك نكر الانتقام. و الانتقام إنزال النقمة و الشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص، فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة، و جزاء وفاقا، و كذلك يكون عقاب الله تعالى، فانتقام الله ليس تشفيا و شفاء غيظ كما هو الشأن في البشر، بل انتقام الله عقوبة عادلة، و قصاص رادع. و عبر ب ﴿ ذو انتقام ﴾، أي صاحب انتقام، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه و سلطانه ينزله أنى شاء، و متى شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته، وعلمه الذي يحيط بكل شيء، و لذا قال بعد ذلك :
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ﴾ ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله، أي معجزاته الباهرة، و آياته المتلوة القاهرة، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث : اليهودية، و النصرانية، و الإسلام، للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها، لأنه شريعته كمالها، و بها تمامها و ختامها، و للإشارة إلى أن اليهود و النصارى الذين لا يتبعون محمدا، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها، و اليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد صلى الله عليه و سلم، فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية، و هي الكمال، و قد بشرت به الكتب السابقة كلها، فالكفر به كفر بها، و الإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته، و لو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه و سلم.
و من أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد، و خصوصا إذا كانوا من اليهود و النصارى، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى.
ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد انه غالب، و أنه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال :﴿ و الله عزيز ذو انتقام ﴾ أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء، مسيطر على كل شيء، ليس فوقه احد، و هو القاهر فوق عباده. و هو انتقام، أي أنه سبحانه له انتقام شديد لا يدرك كنهه، و لذلك نكر الانتقام. و الانتقام إنزال النقمة و الشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص، فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة، و جزاء وفاقا، و كذلك يكون عقاب الله تعالى، فانتقام الله ليس تشفيا و شفاء غيظ كما هو الشأن في البشر، بل انتقام الله عقوبة عادلة، و قصاص رادع. و عبر ب ﴿ ذو انتقام ﴾، أي صاحب انتقام، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه و سلطانه ينزله أنى شاء، و متى شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته، وعلمه الذي يحيط بكل شيء، و لذا قال بعد ذلك :
١ يشير – رحمه الله – إلى ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " إن مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنا بيتا فأحسنه و أجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به و يعجبون له و يقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة و أنا حاتم النبيين " و هو حديث متفق على صحته رواه البخاري: المناقب – خاتم النبيين ( ٣٢٧١ )، و مسلم ( ٤٢٣٩ )..
﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ هذه الجملة السامية تفيد تمام إحاطة الله تعالى في علمه، فهو سبحانه و تعالى يتجلى له كل شيء، و لو كان خافيا عن الناس أومن شأنه الخفاء، و لذلك جاء التعبير عن العلم الكامل، ببيان نفي الخفاء عليه سبحانه، و ذلك لأن العالم المحيط قد يخفى عليه شيء، لكن علم الله غير ذلك، فهو علم لا خفاء معه في شيء مطلقا، و إذا كان الله سبحانه و تعالى عليما بكل شيء لا يخفى عليه شيء فهو يعلم القلوب و ما تخفيه، و ما تكنه السرائر، و ما تكنه الضمائر، فهو يعلم البواعث على الكفر، و أنها ليست نقصا في الدليل، و لكنها مآرب الدنيا، و العصبية الجنسية و المذهبية، فليس الذين ينكرون ما جاء به محمد مخلصين في إنكارهم، بل هي لجاجة العناد، و جحود المستيقن. و ذكر سبحانه السماء و الأرض للإشارة إلى أن علمه قد وسع كل شيء، وسع السماوات و الأرض، و ليس الإنسان و ما تحدثه به نفسه إلا شيئا صغيرا في هذا الملكوت العظيم، و ذلك العالم بأرضه و سمائه. و أكد نفي الخفاء بتكرار " لا" في قوله تعالى :﴿ و لا في السماء ﴾ فذكرها ثانيا تأكيد لأنه لا يخفى عليه شيء.
﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ هذا بيان لسبب علم الله بعامة، زو علمه بالإنسان خاصة، فإنه علم المكون المنشئ، الخالق المبدع، و من ذا الذي لا يعلم ما أنشأه و كونه و أبدعه على غير مثال سبق ؟ ! و لذا قال تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير ١٤ ﴾ ( الملك ). فهذه الآية الكريمة في مقام التعليل للآية السابقة، إذ الأولى بينت أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و هي تتضمن الإشارة إلى أن ما تخفيه السرائر من بواعث على الإيمان أو الكفر، و الوفاق أو العناد، يعلمه سبحانه لأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء. و هذه الآية تفيد أن الله سبحانه و تعالى يعلم الإنسان لا بعد أن استوى و صار في أحسن تقويم، بل يعلمه و هو نطفة لفظت، ثم استقرت في الأرحام، و بعلمه كذلك علم المكون المنشئ المربى الذي يتولى بقدرته تصويره حتى يصير بشرا سويا.
و التصوير : مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه، أو من صَارَهُ إلى كذا بمعنى أماله و حوله، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغيرا في شكله و هيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر، و كذلك صنع الله تعالى في النطفة، فإنه يحولها إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، و هكذا، و تحويل الله و تصويره ليس تغييرا في الشكل، بل هو تنمية، و تكوين، و تدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها، حتى يصير إنسانا في أحسن تقويم، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده.
و الأرحام : جمع رحم، و هو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى و ينمو، و يجري تصوير الله له و تكوينه إياه، حتى يبرز في الوجود حيا يحس و يسمع، ثم يعلم و يتعلم، و الله سبحانه و تعالى على كل شيء قدير.
و قوله تعال :﴿ كيف يشاء ﴾ فيه بيان لأمرين :
أحدهما : أن هذا التكوين تبع لمشيئة الله و إرادته، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته، و كالمسبب من سببه، إنما وجوده و تكوينه و نموه بإرادة الله تعالى و مشيئته، و هو فعال لما يريد.
الأمر الثاني : بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا و أنثى، و جميلا أو دميما، و أبيض أو أسود، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا، مؤمنا أو كافرا، عالما أو جاهلا، تعالى الله سبحانه في عمله علوا كبيرا.
و لقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى بن مريم إلها، لأنه ولد من غير أب، فالله سبحانه و تعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه، كما يكون سائر الناس، و ما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر، و من النطفة إلى العلقة، فالمضغة، فالعظام، و إذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو خمن جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فيكون إلها ؟ و يزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها – فيما يروى في أسباب النزول – وفد نجران و مناقشة النبي صلى الله عليه و سلم، و سواء أصح ذلك سبب للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدعي ألوهية المسيح.
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية و انفراده سبحانه و تعالى بالألوهية و حق العبودية، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية، و هو العلم الشامل لكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ة لا في السماء، و بعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء و خص الإنسان بالذكر، لأنه هو الذي يتمرد ويضل، و كل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا... ٢٩ ﴾ ( البقرة ).
ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة و الحكمة، لبيان كما لسلطانه في ملكه الذي خلقه، و إثبات انه لا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه و تعالى، و كيف يكون إله لا سلطان له ! و لبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه و عظيم حكمته، إنه على كل شيء قدير، و هو نعم المولى و نعم النصير.
و التصوير : مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه، أو من صَارَهُ إلى كذا بمعنى أماله و حوله، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغيرا في شكله و هيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر، و كذلك صنع الله تعالى في النطفة، فإنه يحولها إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، و هكذا، و تحويل الله و تصويره ليس تغييرا في الشكل، بل هو تنمية، و تكوين، و تدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها، حتى يصير إنسانا في أحسن تقويم، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده.
و الأرحام : جمع رحم، و هو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى و ينمو، و يجري تصوير الله له و تكوينه إياه، حتى يبرز في الوجود حيا يحس و يسمع، ثم يعلم و يتعلم، و الله سبحانه و تعالى على كل شيء قدير.
و قوله تعال :﴿ كيف يشاء ﴾ فيه بيان لأمرين :
أحدهما : أن هذا التكوين تبع لمشيئة الله و إرادته، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته، و كالمسبب من سببه، إنما وجوده و تكوينه و نموه بإرادة الله تعالى و مشيئته، و هو فعال لما يريد.
الأمر الثاني : بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا و أنثى، و جميلا أو دميما، و أبيض أو أسود، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا، مؤمنا أو كافرا، عالما أو جاهلا، تعالى الله سبحانه في عمله علوا كبيرا.
و لقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى بن مريم إلها، لأنه ولد من غير أب، فالله سبحانه و تعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه، كما يكون سائر الناس، و ما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر، و من النطفة إلى العلقة، فالمضغة، فالعظام، و إذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو خمن جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فيكون إلها ؟ و يزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها – فيما يروى في أسباب النزول – وفد نجران و مناقشة النبي صلى الله عليه و سلم، و سواء أصح ذلك سبب للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدعي ألوهية المسيح.
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية و انفراده سبحانه و تعالى بالألوهية و حق العبودية، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية، و هو العلم الشامل لكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ة لا في السماء، و بعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء و خص الإنسان بالذكر، لأنه هو الذي يتمرد ويضل، و كل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا... ٢٩ ﴾ ( البقرة ).
ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة و الحكمة، لبيان كما لسلطانه في ملكه الذي خلقه، و إثبات انه لا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه و تعالى، و كيف يكون إله لا سلطان له ! و لبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه و عظيم حكمته، إنه على كل شيء قدير، و هو نعم المولى و نعم النصير.
﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إلا أولوا الألباب ( ٧ ) ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، و أنه فرقانها و ميزانها، و ذكر أنه سبحانه و تعالى العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو العليم بخلقه، و العليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، و العليم بمداركهم البشرية، و طاقتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون، و في هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، و تطلعهم لفهمه، و تباين مقاصدهم في طلب حقيقته و معناه، و غايته و مرماه، و فيها بيان أنها قسمان : قسم لا تدركه كل العقول، و قسم تدركه كل العقول المميزة، و أن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. و لذا قال سبحانه :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته – جلت قدرته – بأنه الحي القيوم على كل شيء، و الذي به يقوم كل شيء، و بأنه منزل الكتب من السماء، و جاعل القرآن ميزانها، و أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و أنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين، و هو الذي يصوره ذلك التصوير، و يكونه ذلك التكوين، و هو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، و لا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته و علمه بكل شيء، فقوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل ﴾ الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. و قوله :﴿ الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة و فرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، و قد اختارك موضع رسالته، و أداء أمانته، و ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾ ( الأنعام ) و هو أعلم بشأن الكتاب و ما جاء فيه، و تلقي الناس له، و مقدار إدراكهم لما فيه، و قد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين، أحدهما : يدركه كل الناس، و الثاني : فوق مستوى عامة الناس، و لذا قال بعد ذلك :
﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات ﴾ أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له : محكم، و متشابه، و لقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى :﴿ الر كتاب أحكمت آياته... ١ ﴾ ( هود ) أي أنها نزلت محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها، و وصفه الله سبحانه و تعالى بأنه متشابه، فقد قال تعالى :﴿ كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله.. ٢٣ ﴾ ( الزمر ) و معنى التشابه هنا هو انه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، و تآخي معانيه، و إحكام نسقه، و فصاحة ألفاظه، و قوة تأثيره بألفاظه و معانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضا.
و في هذه الآية التي نتكلم في معانيها وصف القرآن بأن منه آيات محكمات، و أخر متشابهات، فلا شك أن معنى محكم هنا غير معناها في قوله تعالى :﴿ كتاب أحكمن آياته... ١ ﴾ و تشابه غير معناها في قوله تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني... ٢٣ ﴾ و إن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم و متشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة : العرب تقول : حاكمت و حكمت و أحكمت بمعنى رددت و منعت، و الحاكم يمنع الظالم من الظلم، و حكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب. و روى إبراهيم النخعي : أحكم اليتيم كما تحكم ولدك. أي امنعه عن الفساد.
و قال ابن جرير الطبري : أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم، و بناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. و سميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي. و أما التشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال تعالى :﴿ إن البقر تشابه علينا... ٧٠ ﴾ ( البقرة ) و قال في وصف ثمار الجنة ﴿ و أتوا به متشابها... ٢٥ ﴾ ( البقرة ) أي متفق المنظر مختلف الطموع، و قال تعالى :﴿ تشابهت قلوبهم... ١١٨ ﴾ ( البقرة ). و منه يقال : اشتبه علي الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام :" الحلال بين، و الحرام بين، و بينهما أمور متشابهات ". و في رواية أخرى " متشابهات " ١. ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمى كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشاله أم لم يكن له مشابه ٢.
و على هذا الأساس اللغوي : نقول : إن التشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق و يختفي على العامة، و لا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى التشابه، فإما أن نقول إنه ما لا يكون معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، و إما أن نقول إنه ما يمكن معرفته و لكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، و المحكم هو ما يقابل التشابه، و هو الواضح البين للعامة و الخاصة الذي لا تتفاوت في إدراكه الأنظار، و ما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، و هو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، و الجزم بمعناه، و التصديق بمغزاه. فالآيات المحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، و يحمل المتشابه عليه، و يخرج بتخريج لا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، و التأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، و ما يخالفه فهو الزيغ في الدين، و الخروج عن جادته.
و المتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين، إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته، كحقيقة الروح، و حقيقة الجن و الملائكة، و ما يكون يوم القيامة، و كيف يكون نعيم الجنة الحسي، و عذاب الجحيم المادي، و كيف ينشئ الله الخلق، و كيف يعيده، و كيف يتجلى سبحانه يوم الحساب، و هكذا مما غيبه الله تعالى علينا، لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه، و بالمادة التي ندركها، و علم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا، لأنه يعلو عن مداكرنا في هذه الدنيا، و علينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم، و ما جاءت به السنة الصحيحة، فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب، إذ قال سبحانه في أوصافهم :﴿ الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ٣ ﴾ ( البقرة ).
هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه.
أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون و تكوين السماء و الأرض، و بعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه و تعالى، و نحو ذلك من الحقائق التي لا يخوض فيها إلا أهل الذكر، و هي دقيقة في معناها.
هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة، و يدخل في عمومها كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام ٣. و نرى أن كلا الوجهين تحتملها الآية، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يصح لنا أن نقول :
إن الوجهين معا مرادان، و سنختار ذلك، و نبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى.
و إن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وجد الذين زاغوا و أضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم و يضلوهم، و ذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه و بين الآيات المحكمات و هن أم الكتاب، و لذا قال سبحانه :
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه و تعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان، كما أن آيات القرآن قسمان، و لكلام الله تعالى المثل الأعلى، فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه، ما يعرفه يهتدي به، و ما لا يغرفه يؤمن به، و يفوض فيه الأمر إلى ربه، و يقول :﴿ قل ما أسألك عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين ٨٦ ﴾ ( ص ). و القسم الثاني زاغ، فأزاغه الله عن الحق. و قد ذكر الله ذلك القسم، و يفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾.
و الزيغ أصل معناه في اللغة : الميل عن الاستقامة. و التزايغ التمايل، و رجل زائغ : أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. و المعنى على هذا : أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق و عدم أخذ بالمنهج المستقيم، لا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن، لأنه بغيتهم، و يجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، و عدم استقامة تفكيرهم، و ما ينطوي عليه مقصدهم الباطل، فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، و إذا تحكم الهوى و سيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط و الغلب و حب السلطان، و شهوة المال، و شهوة النساء، و شهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، و تفسد، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، و أولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصونه و يتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، و يشككون الناس فيه، و لذا قال سبحانه :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي طالبا لفتنة الناس عن دينهم و خدعهم، و إثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا : ما نعيم الجنة و ما جحيمها ؟ و ﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾ ( الرعد ). و كيف يخلق الله العالم ؟ و هكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول، و لذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال :﴿ و ابتغاء تأويله ﴾ فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى و الرغبة في تضليل الناس و إثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، و الرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لا تتحقق الفتنة إلا بها.
و التأويل في اصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأول أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه عملا أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود، و لذلك أطلق التأويل على التفسير و معرفة ما يخفى من الحقائق و إرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه، و إما بمعرفة المآل و النتيجة عملا، كما في قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كمنا نعمل قد خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون ٥٣ ﴾ ( الأعراف ).
و التأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، و كأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، و قد يفسرون تفسيرات المقصود منها تشويه الحقائق و تضليل العقول، و قد قصدوا في الأمرين الضلال.
و إن الله سبحانه و تعالى قد بين بعد ذلك أن معرفة المآل عند الله تعالى وحده، و
في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، و أنه فرقانها و ميزانها، و ذكر أنه سبحانه و تعالى العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو العليم بخلقه، و العليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، و العليم بمداركهم البشرية، و طاقتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون، و في هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، و تطلعهم لفهمه، و تباين مقاصدهم في طلب حقيقته و معناه، و غايته و مرماه، و فيها بيان أنها قسمان : قسم لا تدركه كل العقول، و قسم تدركه كل العقول المميزة، و أن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. و لذا قال سبحانه :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته – جلت قدرته – بأنه الحي القيوم على كل شيء، و الذي به يقوم كل شيء، و بأنه منزل الكتب من السماء، و جاعل القرآن ميزانها، و أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و أنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين، و هو الذي يصوره ذلك التصوير، و يكونه ذلك التكوين، و هو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، و لا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته و علمه بكل شيء، فقوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل ﴾ الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. و قوله :﴿ الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة و فرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، و قد اختارك موضع رسالته، و أداء أمانته، و ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾ ( الأنعام ) و هو أعلم بشأن الكتاب و ما جاء فيه، و تلقي الناس له، و مقدار إدراكهم لما فيه، و قد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين، أحدهما : يدركه كل الناس، و الثاني : فوق مستوى عامة الناس، و لذا قال بعد ذلك :
﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات ﴾ أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له : محكم، و متشابه، و لقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى :﴿ الر كتاب أحكمت آياته... ١ ﴾ ( هود ) أي أنها نزلت محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها، و وصفه الله سبحانه و تعالى بأنه متشابه، فقد قال تعالى :﴿ كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله.. ٢٣ ﴾ ( الزمر ) و معنى التشابه هنا هو انه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، و تآخي معانيه، و إحكام نسقه، و فصاحة ألفاظه، و قوة تأثيره بألفاظه و معانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضا.
و في هذه الآية التي نتكلم في معانيها وصف القرآن بأن منه آيات محكمات، و أخر متشابهات، فلا شك أن معنى محكم هنا غير معناها في قوله تعالى :﴿ كتاب أحكمن آياته... ١ ﴾ و تشابه غير معناها في قوله تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني... ٢٣ ﴾ و إن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم و متشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة : العرب تقول : حاكمت و حكمت و أحكمت بمعنى رددت و منعت، و الحاكم يمنع الظالم من الظلم، و حكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب. و روى إبراهيم النخعي : أحكم اليتيم كما تحكم ولدك. أي امنعه عن الفساد.
و قال ابن جرير الطبري : أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم، و بناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. و سميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي. و أما التشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال تعالى :﴿ إن البقر تشابه علينا... ٧٠ ﴾ ( البقرة ) و قال في وصف ثمار الجنة ﴿ و أتوا به متشابها... ٢٥ ﴾ ( البقرة ) أي متفق المنظر مختلف الطموع، و قال تعالى :﴿ تشابهت قلوبهم... ١١٨ ﴾ ( البقرة ). و منه يقال : اشتبه علي الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام :" الحلال بين، و الحرام بين، و بينهما أمور متشابهات ". و في رواية أخرى " متشابهات " ١. ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمى كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشاله أم لم يكن له مشابه ٢.
و على هذا الأساس اللغوي : نقول : إن التشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق و يختفي على العامة، و لا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى التشابه، فإما أن نقول إنه ما لا يكون معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، و إما أن نقول إنه ما يمكن معرفته و لكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، و المحكم هو ما يقابل التشابه، و هو الواضح البين للعامة و الخاصة الذي لا تتفاوت في إدراكه الأنظار، و ما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، و هو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، و الجزم بمعناه، و التصديق بمغزاه. فالآيات المحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، و يحمل المتشابه عليه، و يخرج بتخريج لا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، و التأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، و ما يخالفه فهو الزيغ في الدين، و الخروج عن جادته.
و المتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين، إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته، كحقيقة الروح، و حقيقة الجن و الملائكة، و ما يكون يوم القيامة، و كيف يكون نعيم الجنة الحسي، و عذاب الجحيم المادي، و كيف ينشئ الله الخلق، و كيف يعيده، و كيف يتجلى سبحانه يوم الحساب، و هكذا مما غيبه الله تعالى علينا، لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه، و بالمادة التي ندركها، و علم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا، لأنه يعلو عن مداكرنا في هذه الدنيا، و علينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم، و ما جاءت به السنة الصحيحة، فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب، إذ قال سبحانه في أوصافهم :﴿ الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ٣ ﴾ ( البقرة ).
هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه.
أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون و تكوين السماء و الأرض، و بعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه و تعالى، و نحو ذلك من الحقائق التي لا يخوض فيها إلا أهل الذكر، و هي دقيقة في معناها.
هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة، و يدخل في عمومها كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام ٣. و نرى أن كلا الوجهين تحتملها الآية، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يصح لنا أن نقول :
إن الوجهين معا مرادان، و سنختار ذلك، و نبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى.
و إن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وجد الذين زاغوا و أضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم و يضلوهم، و ذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه و بين الآيات المحكمات و هن أم الكتاب، و لذا قال سبحانه :
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه و تعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان، كما أن آيات القرآن قسمان، و لكلام الله تعالى المثل الأعلى، فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه، ما يعرفه يهتدي به، و ما لا يغرفه يؤمن به، و يفوض فيه الأمر إلى ربه، و يقول :﴿ قل ما أسألك عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين ٨٦ ﴾ ( ص ). و القسم الثاني زاغ، فأزاغه الله عن الحق. و قد ذكر الله ذلك القسم، و يفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾.
و الزيغ أصل معناه في اللغة : الميل عن الاستقامة. و التزايغ التمايل، و رجل زائغ : أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. و المعنى على هذا : أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق و عدم أخذ بالمنهج المستقيم، لا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن، لأنه بغيتهم، و يجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، و عدم استقامة تفكيرهم، و ما ينطوي عليه مقصدهم الباطل، فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، و إذا تحكم الهوى و سيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط و الغلب و حب السلطان، و شهوة المال، و شهوة النساء، و شهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، و تفسد، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، و أولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصونه و يتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، و يشككون الناس فيه، و لذا قال سبحانه :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي طالبا لفتنة الناس عن دينهم و خدعهم، و إثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا : ما نعيم الجنة و ما جحيمها ؟ و ﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾ ( الرعد ). و كيف يخلق الله العالم ؟ و هكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول، و لذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال :﴿ و ابتغاء تأويله ﴾ فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى و الرغبة في تضليل الناس و إثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، و الرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لا تتحقق الفتنة إلا بها.
و التأويل في اصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأول أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه عملا أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود، و لذلك أطلق التأويل على التفسير و معرفة ما يخفى من الحقائق و إرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه، و إما بمعرفة المآل و النتيجة عملا، كما في قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كمنا نعمل قد خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون ٥٣ ﴾ ( الأعراف ).
و التأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، و كأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، و قد يفسرون تفسيرات المقصود منها تشويه الحقائق و تضليل العقول، و قد قصدوا في الأمرين الضلال.
و إن الله سبحانه و تعالى قد بين بعد ذلك أن معرفة المآل عند الله تعالى وحده، و
١ متفق عليه و قد سبق تخريجه بألفاظه..
٢ جاء في هامش الأصل هذا التحقيق اللغوي منقول من التفسير الكبير للفخر الرازي، بتصرف قليل..
٣ جاء في هامش الأصيل: اختلف المفسرون في المحكم و المتشابه على أقوال كثيرة:
منها أن المحكم ما اتفقت عليه الشرائع السماوية، و المتشابه ما خالف فيه الإسلام ما سبقه.
و منها أن المتشابه أوائل السور المبتدأة بالحروف.
و منها أن المحكم الناسخ، و المتشابه المنسوخ.
و منها أن المحكم ما كان دليله واضحا و المتشابه ما يخفي دليله إلا على الراسخين.
و منها أن المحكم ما أمكن الاستدلال عليه جلي و خفي، و المتشابه ما لا يمكن الاستدلال عليه.
و منها أن المحكم ما فيه بيان الحلال و الحرام و المتشابه ما سواه.
و منها أن المتشابه ما احتمل في تأويله عدة وجوه، و المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا.
و منها أن المحكم و المتشابه في القصص، فما فصل منها محكم، و ما أجمل متشابه.
و قال ابن تيمية: المحكم: ما يجب الإيمان به و العمل به، و المتشابه ما يجب الإيمان به من غير تكليف بعمل.
و منها أن المتشابه آيات الصفات، و غيرها محكم.
و قال ابن حزم الظاهري: كل القرآن محكم ما عدا الحروف التي ابتدأت بها بعض السور، و أقسام القرآن مثل قوله تعالى: ﴿و الشمس و ضحاها ١﴾ ( الشمس )..
٢ جاء في هامش الأصل هذا التحقيق اللغوي منقول من التفسير الكبير للفخر الرازي، بتصرف قليل..
٣ جاء في هامش الأصيل: اختلف المفسرون في المحكم و المتشابه على أقوال كثيرة:
منها أن المحكم ما اتفقت عليه الشرائع السماوية، و المتشابه ما خالف فيه الإسلام ما سبقه.
و منها أن المتشابه أوائل السور المبتدأة بالحروف.
و منها أن المحكم الناسخ، و المتشابه المنسوخ.
و منها أن المحكم ما كان دليله واضحا و المتشابه ما يخفي دليله إلا على الراسخين.
و منها أن المحكم ما أمكن الاستدلال عليه جلي و خفي، و المتشابه ما لا يمكن الاستدلال عليه.
و منها أن المحكم ما فيه بيان الحلال و الحرام و المتشابه ما سواه.
و منها أن المتشابه ما احتمل في تأويله عدة وجوه، و المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا.
و منها أن المحكم و المتشابه في القصص، فما فصل منها محكم، و ما أجمل متشابه.
و قال ابن تيمية: المحكم: ما يجب الإيمان به و العمل به، و المتشابه ما يجب الإيمان به من غير تكليف بعمل.
و منها أن المتشابه آيات الصفات، و غيرها محكم.
و قال ابن حزم الظاهري: كل القرآن محكم ما عدا الحروف التي ابتدأت بها بعض السور، و أقسام القرآن مثل قوله تعالى: ﴿و الشمس و ضحاها ١﴾ ( الشمس )..
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( ٨ ) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ( ٩ ) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك هم وقود النار ( ١٠ ) كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم و الله شديد العقاب ( ١١ ) قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنم و بئس المهاد ( ١٢ ) ﴾.
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾ هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. و قد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون :﴿ آمنا به كل من عند ربنا ﴾ و يقولون أيضا :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ و كأنهم إذ يعلنون الإيمان و الإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه و يبقيه بإبعادهم عن الزيغ و الاضطراب في العقيدة.
و قال بعض المفسرين : إن هذا كلام جديد، و هو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء، و المعنى على الحالين : ربنا أي يا خالقنا و العليم بنفوسنا و القيوم على أمورنا ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ : لا تبتلينا بابتلاء و اختبار تزيغ معه قلوبنا، و تضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم و المنهاج الحق. و الزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ، و هذا قول تعالى :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم... ٥ ﴾ ( الصف ) و روت أم سلمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فقالت له : يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال :" يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا و قلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، و من شاء أزاغ " ١.
﴿ و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ هذا بقية الدعاء و الضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، و هي من تعليم الله سبحانه و تعالى، و هذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، و قد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، و هو أول أبواب الرحمة، و الأصل لكل رحمة، فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجهنا لطلب الأثر كذلك و هو الرحمة، و رحمة الله تفضل و نعمة و إنعام على العبد، لأنه و ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصف المالك في ملكه، و ليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كملة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا و القرار و الاطمئنان فيها، و النعيم في الآخرة. و التعبير بقوله تعالى :﴿ من لدنك ﴾ أي من عندك، و لدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. و المعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. و قد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، و وصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين :﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها " إن " التي للتوكيد، و منها تأكيد الضمير بقوله " أنت " و منها القصر، أي لا يهب أحد سواك، و ذاك بتعريف الطرفين، و منها التعبير بصيغة المبالغة، و هي : الوهاب، و إنه سبحانه قد انفرد بالرحمة و هبة الرحمة لمن يشاء، و إن رجمته وسعت كل شيء.
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾ هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. و قد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون :﴿ آمنا به كل من عند ربنا ﴾ و يقولون أيضا :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ و كأنهم إذ يعلنون الإيمان و الإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه و يبقيه بإبعادهم عن الزيغ و الاضطراب في العقيدة.
و قال بعض المفسرين : إن هذا كلام جديد، و هو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء، و المعنى على الحالين : ربنا أي يا خالقنا و العليم بنفوسنا و القيوم على أمورنا ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ : لا تبتلينا بابتلاء و اختبار تزيغ معه قلوبنا، و تضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم و المنهاج الحق. و الزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ، و هذا قول تعالى :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم... ٥ ﴾ ( الصف ) و روت أم سلمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فقالت له : يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال :" يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا و قلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، و من شاء أزاغ " ١.
﴿ و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ هذا بقية الدعاء و الضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، و هي من تعليم الله سبحانه و تعالى، و هذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، و قد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، و هو أول أبواب الرحمة، و الأصل لكل رحمة، فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجهنا لطلب الأثر كذلك و هو الرحمة، و رحمة الله تفضل و نعمة و إنعام على العبد، لأنه و ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصف المالك في ملكه، و ليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كملة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا و القرار و الاطمئنان فيها، و النعيم في الآخرة. و التعبير بقوله تعالى :﴿ من لدنك ﴾ أي من عندك، و لدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. و المعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. و قد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، و وصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين :﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها " إن " التي للتوكيد، و منها تأكيد الضمير بقوله " أنت " و منها القصر، أي لا يهب أحد سواك، و ذاك بتعريف الطرفين، و منها التعبير بصيغة المبالغة، و هي : الوهاب، و إنه سبحانه قد انفرد بالرحمة و هبة الرحمة لمن يشاء، و إن رجمته وسعت كل شيء.
١ رواه الترمذي: الدعوات ( ٣٤٤٤ ) عن شهر بن حوشب رضي الله عنه، و أحمد: مسند الأنصار ( ٢٥٤٥٧ )..
﴿ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ هذه هي الضراعة الثانية التي اقترنت بآية المحكم و المتشابه في القرآن، و الكلام فيها كالكلام في الآية السابقة، من حيث كون هذا الدعاء من مقول الراسخين في العلم، أو تعليم من الله للراسخين في العلم من المؤمنين، و كلاهما ينتهي إلى أن هذه الضراعة إن صدرت عن القلب تكون مانعة له من الزيغ، فإن الإيمان باليوم الآخر لب الإيمان، و هو يربي الإذعان، و فيه كل معاني التفويض، و به يستعين المؤمن على محاربة داعي الهوى و الشهوة. و قوله تعالى على لسان المؤمن الراسخ في العلم :﴿ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ﴾ تنبيه إلى أن في هذا اليوم يتبين الحق، و يواجه المحق و المبطل، و يعلن الذين يزيغون و الذين يذعنون، و يتبين زيغ الزائغ و جزاؤه، و ثمرات الإيمان و جزاءه. و في هذا تنبيه أيضا إلى أن اليوم الآخر لا ينبغي أن يكون محل ريب، لأن الذي أخبر به هو الذي خلق الخلق، فهو الذي بدأهم، و هو الذي يعيدهم، و لأنه سبحانه ما خلق الخلق عبثا، و ما ترك الأمر للباطل و المبطلين يرتعون في الأرض و يفسدون، بل جعل للحق سلطانا، و جعل له العلو، فإن لم يكن في الحال، فإنه سيكون لا محالة في المآل، و الله على كل شيء قدير.
و الأساس في العلم باليوم الآخر هو إخبار الله تعالى الذي لا يحتمل إخلافا، و لذلك قال سبحانه بعد ذلك :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ أي إن اليوم الآخر الذي لا ينبغي لمؤمن أن يرتاب فيه هو وعد الله الذي وعد به المتقين، و نذيره الذي أنذر به الجاحدين الضالين، و الله سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد. و في هذه الجملة السامية ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ إشارة إلى الجزاء الأخروي و ما فيه من جزاء بعد الحساب، فهي تتضمن تبشيرا للمؤمنين، و إنذارا للعاصين الكافرين. جعلنا الله من المتقين المهتدين، الذين لا يزيغون في فهم دينه، و تفهم قرآنه، و المذعنين للحق الطالبين له.
و الأساس في العلم باليوم الآخر هو إخبار الله تعالى الذي لا يحتمل إخلافا، و لذلك قال سبحانه بعد ذلك :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ أي إن اليوم الآخر الذي لا ينبغي لمؤمن أن يرتاب فيه هو وعد الله الذي وعد به المتقين، و نذيره الذي أنذر به الجاحدين الضالين، و الله سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد. و في هذه الجملة السامية ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ إشارة إلى الجزاء الأخروي و ما فيه من جزاء بعد الحساب، فهي تتضمن تبشيرا للمؤمنين، و إنذارا للعاصين الكافرين. جعلنا الله من المتقين المهتدين، الذين لا يزيغون في فهم دينه، و تفهم قرآنه، و المذعنين للحق الطالبين له.
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا ﴾ كان السبب في كفر من كفر، و زيغ من يزيغ، هو اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال، و عزة النفر، و قوة العصبية، مما جعلهم يبغون على الناس، و يبغون على أنفسهم، فتطمس مسالك النور إلى قلوبهم، و إنه لا شيء يدلي بالنفس فتعمى عن الإدراك أكثر من الغرور، و لذلك ذكر سبحانه و تعالى أن هذه الأموال و أولئك الأولاد و إن كانوا العصبة أولى القوة لن تغني عنهم شيئا. و قد أكد القول سبحانه في موضعين في قوله :﴿ إن الذين كفروا ﴾ و بهذا يؤكد سبحانه وقوع الكفر منهم، و يؤكد النفي سبحانه في قوله :﴿ لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا ﴾ إذ نفى ب :" لن "، فالخبران مؤكدان : الإثبات و النفي، فكفرهم و عدم نفع أعراض الدنيا مؤكدان، و كأن مجرى القول هكذا : غرتهم أماني الدنيا بالأموال و الأولاد فكفروا كفرا مؤكدا مع أنه من المؤكد أنها لن تنفعهم بأي نفع، و لن يكون فيها ما يغني عن رحمة الله التي حرموها بسبب كفرهم المؤكد.
و هنا بعض إشارات بيانية منها قوله :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ﴾ فقد قال بعض المفسرين : إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا. فتغني معناها تدفع، و الدفع المنفي هو منع العذاب، و لكن كلمة تغني لا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز، الذي يشرح له و يقويه قوله تعالىا :﴿ من الله ﴾ و " من" هنا بمعنى البدلية، و المعنى يكون على هذا : لا تكون الأموال و الأولاد مغنية أي غناء و نافعة أي نفع بدل رحمة الله تعالى و قدرته و إرادته و نفعه لعباده، فالغاية أن الأولاد و الأموال لا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى و نفعه لعباده شيئا من الغناء أو النفع.
ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال ﴿ و لا أولادهم ﴾ إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة و العادات الجارية في الأولاد أكثر، و لذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار " لا" كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد، و لذا زاده توكيدا بعد توكيد، و إن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأموال و الأولاد، و لم يستبدلوا برحمة الله شيئا، فلهم مع ذلك عذاب شديد، و لذا قال سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾الإشارة في قوله :﴿ وأولئك ﴾إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية، وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لا سبيل إلى الشك في ولا الريب بيان ان السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق. والجملة السامية﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة. وقد أكد الخبر بثلاثة مؤكدات :
أولها : الإشارة إلى البعيد ب﴿ أولئك ﴾الدالة على غلوهم في الكفر، وإيغالهم فيه، وكلما قوى المسبب، وكلما اشتدت الجريمة اشتد العقاب، فهي مثلة للجزاء.
وثانيهما : ذكر ضمير الفصل"هم"، فهو، يؤكد ؛إذ فيه تكرار لذكر الموضوع الذي يرد عليه الحكم، وكل تكرار فيه تأكيد فوق ما يدل عليه من الاختصاص.
وثالثهما : التعبير عن العقوبة النارية التي تنزل بهم، بأنهم يكونون وقود النار ؛فإن الوقود هو الحطب الذي تحرق به النار، وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت، والمصدر الوقود، وبالفتح ما يكون به الاتقاد والاشتعال. والمعنى على هذا أن الكافرين يكونون وقود النار ؛أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى كأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل. وقرئ﴿ وقود ﴾١، وهذا يكون فيه مبالغة في شدة احتراقهم، أي أنهم يحترقون بالنار ويسجرون فيها كأنهم الاشتعال لا مادة الاشتعال، ولا من يكوى بهذا الاشتعال.
وإن هذا العقاب هو الغرور ينتظر الكفار جميعا، وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد، والعزة بالنفر والعصبية، كحال من سبقوهم، ولذا ينزل ما نزل بأولئك ؛ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾.
و هنا بعض إشارات بيانية منها قوله :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ﴾ فقد قال بعض المفسرين : إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا. فتغني معناها تدفع، و الدفع المنفي هو منع العذاب، و لكن كلمة تغني لا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز، الذي يشرح له و يقويه قوله تعالىا :﴿ من الله ﴾ و " من" هنا بمعنى البدلية، و المعنى يكون على هذا : لا تكون الأموال و الأولاد مغنية أي غناء و نافعة أي نفع بدل رحمة الله تعالى و قدرته و إرادته و نفعه لعباده، فالغاية أن الأولاد و الأموال لا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى و نفعه لعباده شيئا من الغناء أو النفع.
ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال ﴿ و لا أولادهم ﴾ إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة و العادات الجارية في الأولاد أكثر، و لذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار " لا" كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد، و لذا زاده توكيدا بعد توكيد، و إن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأموال و الأولاد، و لم يستبدلوا برحمة الله شيئا، فلهم مع ذلك عذاب شديد، و لذا قال سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾الإشارة في قوله :﴿ وأولئك ﴾إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية، وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لا سبيل إلى الشك في ولا الريب بيان ان السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق. والجملة السامية﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة. وقد أكد الخبر بثلاثة مؤكدات :
أولها : الإشارة إلى البعيد ب﴿ أولئك ﴾الدالة على غلوهم في الكفر، وإيغالهم فيه، وكلما قوى المسبب، وكلما اشتدت الجريمة اشتد العقاب، فهي مثلة للجزاء.
وثانيهما : ذكر ضمير الفصل"هم"، فهو، يؤكد ؛إذ فيه تكرار لذكر الموضوع الذي يرد عليه الحكم، وكل تكرار فيه تأكيد فوق ما يدل عليه من الاختصاص.
وثالثهما : التعبير عن العقوبة النارية التي تنزل بهم، بأنهم يكونون وقود النار ؛فإن الوقود هو الحطب الذي تحرق به النار، وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت، والمصدر الوقود، وبالفتح ما يكون به الاتقاد والاشتعال. والمعنى على هذا أن الكافرين يكونون وقود النار ؛أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى كأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل. وقرئ﴿ وقود ﴾١، وهذا يكون فيه مبالغة في شدة احتراقهم، أي أنهم يحترقون بالنار ويسجرون فيها كأنهم الاشتعال لا مادة الاشتعال، ولا من يكوى بهذا الاشتعال.
وإن هذا العقاب هو الغرور ينتظر الكفار جميعا، وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد، والعزة بالنفر والعصبية، كحال من سبقوهم، ولذا ينزل ما نزل بأولئك ؛ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾.
١ قرأ بها مجاهد والحسن وجماعة(المحرر الوجيز١/٤٠٥، البحر المحيط٢/٤٥، الدر المصون٢/٢١)..
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾الدأب : العادة والشأن، وأصله من دأب الرجل في عمل يدأب دأبا ودءوبا إذا وجد فيه واجتهد، ثم أطلق الدأب على العادة والشأن ؛لأن من يدأب في عمل ويستمر عليه أمدا طويلا يصبر شأنا له، وحالا من أحواله، وعادة من عاداته ؛فهو من باب إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب. وآل فرعون، وهم نصراؤه وأهل حوزته ومعاضدوه، قد استمرءوا الطغيان وألفوه حتى صار الكفر دأبا وعادة وشأنا من شئونهم.
وقد شبه الله سبحانه وتعالى حال الكافرين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، بحال آل فرعون والذين سبقوا فرعون من الطغاة العتاة القساة المغرورين، وقد كان وجه السبب في أمرين :
أولهما : أن الغرور هو الذي دفع إلى الجحود واللجاجة فيه والإصرار عليه، حتى إنهم ليردون الدليل تلو الدليل، وما تزيدهم الآيات إلا كفورا، وما تزيدهم الموعظة إلا عتوا في الأرض وفسادا.
وثانيهما : في الجزاء.
وهنا يرد سؤالان أولهما : لم ذكر آل فرعون، ولم يذكر فرعون ؟، والثاني : لماذا نص على قوم فرعون من بين الذين سبقوهم بالكفر والجحود ومعاندة النبيين ؟
والجواب عن السؤال الأول : ان ذكر آل فرعون يتضمن ذكر فرعون ؛لأنه إذا كان العناد في التابع فهو في المتبوع أشد ؛وفوق ذلك فإن آل فرعون وحاشيته ونصراءه هم السبب في طغيانه، وهم الذين سهلوا له سبيل الطغيان وضنوا بالموعظة في إبانها، وهم الذين حرضوه على الاستمرار في الشر والإيغال فيه، فهم اتبعوه اولا، ثم حرضوه على الطغيان ثانيا بمبالغتهم في مرضاته، واستحسان ما يفعل.
وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو اختصاص فرعون وآله بالذكر، فلأن فرعون كان أقوى الطغاة وأشدهم، وكان أكثرهم مالا، وأعزهم نفرا، وأكثرهم غرورا ؛ أليس هو القائل :﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... ٥١ ﴾[ الزخرف ]أليس هو الذي ذهب به فرط غروره على ان يقول في حماقة ظاهرة :﴿ يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب٣٦ أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى... ٣٧ ﴾[ غافر ]ولقد كان مستكبرا يصم آذانه عن سماع الحق حتى لقد قال سبحانه فيه :﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق... ٣٩ ﴾[ القصص ].
ولقد بين سبحانه وتعالى نتيجة الغرور في آل فرعون والذين من قبلهم، وهو التكذيب بآيات الله، وقد ترتب على التكذيب نزول العقاب الشديد ؛سنة الله في الذين كفروا ولجوا ولم يثوبوا إلى رشدهم، وينيبوا إلى ربهم، فقال سبحانه :
﴿ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴾هذا هو الدأب والعادة، وهو الغرور المردى، وهذه نتائجه التي تجمع بين المغرورين دائما ؟، وهو التكذيب بآيات الله تعالى. وفي هذه الجملة السامية يقرر الله سبحانه ثلاث حقائق ثابتة ؛اثنتان منها تتعلقان بالكافرين المغرورين، وهما : التكذيب بآيات الله تعالى، والعقاب الذي يأخذهم سبحانه وتعالى به ؛والثالثة بيان شأن من شئون الله تعالى جلت قدرته، وهو أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما انه سبحانه غفور رحيم، وانه المنتقم الجبار، كما انه اللطيف الخبير.
فأما الحقيقة الأولى فقد قال سبحانه فيها﴿ كذبوا بآياتنا ﴾أي كذبوا بالآيات والأدلة التي تثبت رسالات الرسل، وتثبت وحدانية الله تعالى. وأضاف سبحانه الآيات إليه جلت قدرته، للإشارة إلى عظم دلالتها وقوة إثباتها، وأنها آيات الخالق لتعريف خلقه، وأدلة الواحد الأحد لإثبات وحدانيته، ومع ذلك لجوا واستمروا في غيهم يعمهون.
والحقيقة الثانية : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾أي أنه سبحانه وتعالى يعاقبهم على هذه الذنوب بما يساويها، وبما يقابلها، وعبر عن العقاب بهذا التعبير ؛لأنه يفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان الأخذ يفيد الوقع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لا يستطيع من أمره فكاكا.
ثانيها : أن التعبير بالباء يفيد أمرين : المصاحبة والمقابلة ؛فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على ان العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما انهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.
وثالثها : ان هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل ؛فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن انفسهم يظلمون.
والحقيقة الثالثة : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ والله شديد العقاب ﴾وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب ؛لأهن لا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار ؛فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال. ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب ان يكون له جزاءه﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ]. وهذا النص الكريم فوق ذلك المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يدل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يدل بعبادته.
وقد شبه الله سبحانه وتعالى حال الكافرين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، بحال آل فرعون والذين سبقوا فرعون من الطغاة العتاة القساة المغرورين، وقد كان وجه السبب في أمرين :
أولهما : أن الغرور هو الذي دفع إلى الجحود واللجاجة فيه والإصرار عليه، حتى إنهم ليردون الدليل تلو الدليل، وما تزيدهم الآيات إلا كفورا، وما تزيدهم الموعظة إلا عتوا في الأرض وفسادا.
وثانيهما : في الجزاء.
وهنا يرد سؤالان أولهما : لم ذكر آل فرعون، ولم يذكر فرعون ؟، والثاني : لماذا نص على قوم فرعون من بين الذين سبقوهم بالكفر والجحود ومعاندة النبيين ؟
والجواب عن السؤال الأول : ان ذكر آل فرعون يتضمن ذكر فرعون ؛لأنه إذا كان العناد في التابع فهو في المتبوع أشد ؛وفوق ذلك فإن آل فرعون وحاشيته ونصراءه هم السبب في طغيانه، وهم الذين سهلوا له سبيل الطغيان وضنوا بالموعظة في إبانها، وهم الذين حرضوه على الاستمرار في الشر والإيغال فيه، فهم اتبعوه اولا، ثم حرضوه على الطغيان ثانيا بمبالغتهم في مرضاته، واستحسان ما يفعل.
وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو اختصاص فرعون وآله بالذكر، فلأن فرعون كان أقوى الطغاة وأشدهم، وكان أكثرهم مالا، وأعزهم نفرا، وأكثرهم غرورا ؛ أليس هو القائل :﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... ٥١ ﴾[ الزخرف ]أليس هو الذي ذهب به فرط غروره على ان يقول في حماقة ظاهرة :﴿ يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب٣٦ أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى... ٣٧ ﴾[ غافر ]ولقد كان مستكبرا يصم آذانه عن سماع الحق حتى لقد قال سبحانه فيه :﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق... ٣٩ ﴾[ القصص ].
ولقد بين سبحانه وتعالى نتيجة الغرور في آل فرعون والذين من قبلهم، وهو التكذيب بآيات الله، وقد ترتب على التكذيب نزول العقاب الشديد ؛سنة الله في الذين كفروا ولجوا ولم يثوبوا إلى رشدهم، وينيبوا إلى ربهم، فقال سبحانه :
﴿ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴾هذا هو الدأب والعادة، وهو الغرور المردى، وهذه نتائجه التي تجمع بين المغرورين دائما ؟، وهو التكذيب بآيات الله تعالى. وفي هذه الجملة السامية يقرر الله سبحانه ثلاث حقائق ثابتة ؛اثنتان منها تتعلقان بالكافرين المغرورين، وهما : التكذيب بآيات الله تعالى، والعقاب الذي يأخذهم سبحانه وتعالى به ؛والثالثة بيان شأن من شئون الله تعالى جلت قدرته، وهو أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما انه سبحانه غفور رحيم، وانه المنتقم الجبار، كما انه اللطيف الخبير.
فأما الحقيقة الأولى فقد قال سبحانه فيها﴿ كذبوا بآياتنا ﴾أي كذبوا بالآيات والأدلة التي تثبت رسالات الرسل، وتثبت وحدانية الله تعالى. وأضاف سبحانه الآيات إليه جلت قدرته، للإشارة إلى عظم دلالتها وقوة إثباتها، وأنها آيات الخالق لتعريف خلقه، وأدلة الواحد الأحد لإثبات وحدانيته، ومع ذلك لجوا واستمروا في غيهم يعمهون.
والحقيقة الثانية : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾أي أنه سبحانه وتعالى يعاقبهم على هذه الذنوب بما يساويها، وبما يقابلها، وعبر عن العقاب بهذا التعبير ؛لأنه يفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان الأخذ يفيد الوقع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لا يستطيع من أمره فكاكا.
ثانيها : أن التعبير بالباء يفيد أمرين : المصاحبة والمقابلة ؛فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على ان العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما انهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.
وثالثها : ان هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل ؛فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن انفسهم يظلمون.
والحقيقة الثالثة : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ والله شديد العقاب ﴾وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب ؛لأهن لا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار ؛فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال. ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب ان يكون له جزاءه﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ]. وهذا النص الكريم فوق ذلك المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يدل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يدل بعبادته.
﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾اغتر المشركون بأموالهم وأولادهم وقوتهم في الأرض، فكفروا وعتوا عتوا كبيرا ؛فبين الله سبحانه وتعالى انهم سيغلبون في هذه الدنيا، وأنهم في الآخرة سيحشرون إلى جهنم ؛ولذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه ان يقول فيهم هذه الحقيقة فقال سبحانه :﴿ قل للذين كفروا ﴾.
فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وان العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد امر الله سبحانه نبيه بان يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم ؛لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلون بقوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتزون بها في مخاطبته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له :﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين٣٥ ﴾ [ سبأ ]. وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا٣٥ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت على ربي لأجدن خيرا منها منقلبا٣٦ ﴾[ الكهف ]وهكذا الطبيعة الإنسانية عن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ ان رآه استغنى٧ ﴾[ العلق ].
وإذا كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإن يكون من المناسب ان يتولى هو الرد، وهو الذي جرد من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.
وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد جابهوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون ؛فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم :"يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم انى نبي مرسل". فقالوا : لا يغرنك انك لقيت أقواما أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا١.
وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح ان نقول عن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا ان النبي صلى الله عليه وسلم امر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء ام كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق الواضحة البينة التي تدركها العقول السليمة يكون سببه دائما اغترار بأمر مادي مسيطر على النفس يجعل عليها غشاوة فلا يدرك العقل، ولا يؤمن القلب.
وهنا يرد بحث لغوي وهو : لماذا ادخل السين في قوله تعالى :﴿ ستغلبون ﴾ولم يقل تعالت كلماته : ستحشرون ؟.
والجواب عن ذلك : ان السين لتأكيد القول، والذي كان موضع شك عند هؤلاء هو كون النبي صلى الله عليه وسلم سيهز مهم في الدنيا، والحشر قد أكده سبحانه وتعالى في كثير من آي الكتاب. وفوق ذلك فإن السين مقدرة في تحشرون باعتبارها معطوفة على"ستغلبون"والعطف على نية تكرار العامل.
ولقد أشار سبحانه إلى ان الحشر سيكون تجميعا للكفار يساقون بعده على نار جهنم، وجهنم هي الجزء العميق في النار ؛ لأنه بعد الحشر يكون السوق على نار جهنم وتعدت كلمة يحشرون ب"إلى" ؛إذ قد تضمنت مع معنى التجمع معنى السوق والأخذ إلى نار جهنم. ثم أشار سبحانه إلى شدة العذاب بقوله تعالى :﴿ وبئس المهاد ﴾أي انها ليست مقاما محمودا بالنسبة لهم، بل هي مقام مذموم منهم يصح ان يقال فيه بالنسبة لهم﴿ بئس المهاد ﴾فجهنم ليست موضع ذم في ذاتها باعتبارها دار جزاء عادل، ولا يذم الجزاء العادل ولو كان قاسيا، ولكن هي موضع الذم ممن ينزل به لأنه سيتلقى قسوته. ومعنى المهاد : الفراش المبسوط السهل اللين المريح، فيقال : مهد الرجل الأمر بسطه وهيأه واعده، وعلى هذا فالتعبير فيه نوع من التهكم بهم، إذ هي لا تكون أمرا ممهدا.
فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وان العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد امر الله سبحانه نبيه بان يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم ؛لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلون بقوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتزون بها في مخاطبته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له :﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين٣٥ ﴾ [ سبأ ]. وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا٣٥ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت على ربي لأجدن خيرا منها منقلبا٣٦ ﴾[ الكهف ]وهكذا الطبيعة الإنسانية عن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ ان رآه استغنى٧ ﴾[ العلق ].
وإذا كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإن يكون من المناسب ان يتولى هو الرد، وهو الذي جرد من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.
وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد جابهوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون ؛فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم :"يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم انى نبي مرسل". فقالوا : لا يغرنك انك لقيت أقواما أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا١.
وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح ان نقول عن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا ان النبي صلى الله عليه وسلم امر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء ام كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق الواضحة البينة التي تدركها العقول السليمة يكون سببه دائما اغترار بأمر مادي مسيطر على النفس يجعل عليها غشاوة فلا يدرك العقل، ولا يؤمن القلب.
وهنا يرد بحث لغوي وهو : لماذا ادخل السين في قوله تعالى :﴿ ستغلبون ﴾ولم يقل تعالت كلماته : ستحشرون ؟.
والجواب عن ذلك : ان السين لتأكيد القول، والذي كان موضع شك عند هؤلاء هو كون النبي صلى الله عليه وسلم سيهز مهم في الدنيا، والحشر قد أكده سبحانه وتعالى في كثير من آي الكتاب. وفوق ذلك فإن السين مقدرة في تحشرون باعتبارها معطوفة على"ستغلبون"والعطف على نية تكرار العامل.
ولقد أشار سبحانه إلى ان الحشر سيكون تجميعا للكفار يساقون بعده على نار جهنم، وجهنم هي الجزء العميق في النار ؛ لأنه بعد الحشر يكون السوق على نار جهنم وتعدت كلمة يحشرون ب"إلى" ؛إذ قد تضمنت مع معنى التجمع معنى السوق والأخذ إلى نار جهنم. ثم أشار سبحانه إلى شدة العذاب بقوله تعالى :﴿ وبئس المهاد ﴾أي انها ليست مقاما محمودا بالنسبة لهم، بل هي مقام مذموم منهم يصح ان يقال فيه بالنسبة لهم﴿ بئس المهاد ﴾فجهنم ليست موضع ذم في ذاتها باعتبارها دار جزاء عادل، ولا يذم الجزاء العادل ولو كان قاسيا، ولكن هي موضع الذم ممن ينزل به لأنه سيتلقى قسوته. ومعنى المهاد : الفراش المبسوط السهل اللين المريح، فيقال : مهد الرجل الأمر بسطه وهيأه واعده، وعلى هذا فالتعبير فيه نوع من التهكم بهم، إذ هي لا تكون أمرا ممهدا.
١ رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفئ-كيف كان إخراج اليهود من المدينة(٢٦. ٧)..
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار١٣ ﴾
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين ﴾هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر، فالفئتان المشار إليهما في الآية : ا لمسلمون، والمشركون. والمسلمون الفئة التي تقاتل في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمة وطلبا لمرضاته، والأخرى الكافرة : المشركون. والمعنى على هذا ان الله سبحانه إذ ينذر الكافرين بأنهم سيغلبون في الدنيا، ينذرهم بما قامت عليه البينات، وظهرت به الأمارات ؛وذلك لأن لهم آية أي أمارة ودلالة تدل على صدق ما يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم من انهم سيغلبون، وتلك الآية الدالة على صدق ذلك التهديد والإنذار الشديد هي في حال الطائفتين اللتين التقتا في حرب قوية، إذ انتصرت الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي القلة، على الفئة الكافرة وهي الكثرة، ومع ان أولئك الذين يقاتلون في سبيل الله كانوا يعلمون ان أولئك أكثر عددا، وأكثر عدة.
ونريد ان نبحث هنا في بعض ألفاظ التي لها إشارات بيانية :
فقوله تعالى عن الفئة الكافرة :﴿ وأخرى كافرة ﴾فيه إشارة إلى بعد ما بين الفريقين من حيث الغاية من القتال ؛ففيه إشارة على تقدم الأولى معنويا، وتأخر الثانية ؛فالأولى تقاتل لا لعرض من أعراض الدنيا، ولا لغاية مادية مبتغاة، بل للحق، وفي سبيل الحق، ومرضاة للحق جل جلاله ؛والأخرى تكفر بكل هده المعنويات فتقاتل في الباطل وللباطل ولنصرة المادة، ولأعراض الدنيا ؛وفرق ما بين الفئتين عظيم ؛فإن كانت الأولى فقيرة في المال قليلة في العدد، فهي قوية بالمقصد والغاية، والثانية على نقيض ذلك تماما، فهي كثيرة المال وكثيرة العدد، ولكنها فقيرة في الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ يرونهم رأي العين ﴾فيه بيان ان المؤمنين يرون المشركين﴿ مثليهم ﴾أي أكثر منهم مرتين، فالمثل معناه المساوى، والمثلان لأمر ضعفه، والمعنى على هذا ان المؤمنين الذين أعطاهم الله ذخيرة من الإيمان واليقين وطلب الحق يرون أعداءهم رأي العين لا بالوهم والخيال ضعفهم، ومع ذلك لم يجنبوا ولم يضعفوا. فالتعبير بقوله :﴿ رأي العين ﴾تأكيد الرؤية بأنها رؤية بصرية، لا رؤية تقديرية ؛فهم يعاينون معاينة لا لبس فيها ولا غموض انهم ضعفهم. فالذين يعتزون بالكثرة عليهم ان يعرفوا أي الفريقين غلب، والذين يعتزون بالمادة عليهم ان يعرفوا لمن كانت النصرة : أهي للمادة ام للروح والإيمان ؟ فالذين رأوا خصومهم مثليهم هم المؤمنون. وهذا ترجيح ابن جرير الطبري. وقد رجح الزمخشري ان الذين رأوا : هم المشركون، قد رأوا المؤمنين مثليهم. وإن الأول في نظرنا أولى ؛لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا فعلا أقل عددا من المشركين، وأقل عدة، ولأن التعبير بقوله تعالى﴿ رأي العين ﴾يفيد ان رؤية هذه الكثرة كانت بصرية بالمعاينة، لا بالتقدير او التخيل او التوهم، ولا يمكن ان يتحقق ذلك في رؤية المشركين للمؤمنين ؛لأنه كان يكذب، ولذلك نختار ان الرؤية كانت رؤية المؤمنين للمشركين، ولكن قد ورد اعتراضان :
أحدهما : ان المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا ولم يكونوا ضعفهم.
ثانيهما : أن الله سبحانه قد قال في غزوة بدر :﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله امرا كان مفعولا... ٤٤ ﴾[ الأنفال ].
وإن رد الاعتراض الأول سهل ؛فإن العين لا تقدر تقديرا عدديا، ولكنها تقدر تقديرا تقريبا ؛فثلاثة الأمثال قد ترى رأي العين مثلين. وقد يقال إن المراد بكلمة مثلين ليس التثنية إنما المراد مجرد التكرار وذلك استعمال عربي، كما في قوله :﴿ ثم ارجع البصر كرتين... ٤ ﴾[ الملك ]، فالمراد تكرار النظر، لا التقدير بمرتين اثنتين ؛كذلك هنا المراد التكرار العددي لا مجرد مثلين اثنين، وإن ذلك شائع، فيقال مثلا : اقرأ هذا مرتين ولا تكتف بالنظرة الأولى، والمراد التكرار.
أما الاعتراض الثاني، فقد أجاب عنه ابن كثير في تفسيره المستمد من الأثر، بأنهم عندما أرادوا حسبانهم رأوهم ضعفهم او يزيدون، فلما ألقى في قلوب الذين آمنوا البأس والقوة، والتقوا بهم استهانوا بهم ؛ ولذا روى عن ابن مسعود انه قال في غزوة بدر :"نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا"وتلك حكمة الله العلي الخبير ؛رأوهم يزيدون عليهم أضعافا، وذلك هو الحس الواقع، ولكن عند اللقاء ضعف امامه فيكون الانهزام، وإن استهان مع الحرص كان النصر ؛ولذا سئل على رضي الله عنه : كيف كنت تصرع من يبارزك ؟فقال :"كنت أكون وهو على نفسه"أي ان عليا يقدم مستعليا بإيمانه على خصمه، وخصمه يحس بالخوف فتكون عليه قوتان ينتفع بهما على : قوة من نفسه، وقوة من نفس خصمه ولدها الخوف.
﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء عن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾
اشتمل ذلك النص الكريم على حقيقة مقررة، ودعوة على التأمل والاستبصار لولى الأبصار، ليمتنع الناس عن الاغترار بالقوة والاعتزاز بغير الله تعالى. أما الحقيقة فهي ان الله ينصر من يشاء، فهو الذي سينصر ويخذل، وان من يعتمد على قوته وحده من غير اعتبار بما تجري به المقادير يخذله الله، وإن شان الذين يغترون بالقوة المادية دائما ويعتزون بها لا يعتمدون على الله تعالى، ولا يعملون حسابا للقدر الذي يجريه خالق الكون حسب مشيئته وتدبيره، وأنهم إذ ينسون هذا يأتيهم القدر من حيث لا يحتسبون، فينهزمون حيث يرتقبون النصر ؛وإذا كان النصر والخذلان بيد الله تعالى، فالله سبحانه ينصر من ينصره، ويخذل من يكفره، كما قال تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم٧ ﴾[ محمد ]وكما قال تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾ [ الحج ].
وأما الدعوة إلى الاعتبار فقد ذكرها رب البرية بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾أي إن ذلك الذي رأوه وشاهدوه وهو ان الفئة القليلة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله، غلبت الفئة الكثيرة الكافرة التي في سبيل الشيطان مع كثرتها وعدتها وأموالها فيه اعتبار بان يجعلوا منه سبيلا لإدراك المستقبل ؛فإن العبرة معناها في اللغة وفي عرف القرآن والناس ان يؤخذ من الأمور الواقعة المحسوسة دليل على ما يمكن ان يأتي المستقبل غير المحسوس والمكشوف، فكان الكفر مع كثرته، ان القوة المادية ليست كل شئ ؛وإن الذي يدرك ذلك هم أولوا الأبصار، أي أصحاب المدارك الصحيحة التي تفهم الأمور على وجهها، فالمراد من الأبصار ليس البصر الحسي بل البصر المعنوي العقلي ولكن الذين طمست عليهم المادة لا يدركون الأمور على وجهها، كما قال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون١٤٩ ﴾[ الأعراف ].
وإنه لكي تخرج النفس من ربقة المادة تذكر الله دائما، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب٢٨ ﴾[ الرعد ]. اللهم ثبت قلوبنا على دينك والإيمان بنصرك وعدلك يا رب العالمين.
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين ﴾هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر، فالفئتان المشار إليهما في الآية : ا لمسلمون، والمشركون. والمسلمون الفئة التي تقاتل في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمة وطلبا لمرضاته، والأخرى الكافرة : المشركون. والمعنى على هذا ان الله سبحانه إذ ينذر الكافرين بأنهم سيغلبون في الدنيا، ينذرهم بما قامت عليه البينات، وظهرت به الأمارات ؛وذلك لأن لهم آية أي أمارة ودلالة تدل على صدق ما يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم من انهم سيغلبون، وتلك الآية الدالة على صدق ذلك التهديد والإنذار الشديد هي في حال الطائفتين اللتين التقتا في حرب قوية، إذ انتصرت الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي القلة، على الفئة الكافرة وهي الكثرة، ومع ان أولئك الذين يقاتلون في سبيل الله كانوا يعلمون ان أولئك أكثر عددا، وأكثر عدة.
ونريد ان نبحث هنا في بعض ألفاظ التي لها إشارات بيانية :
فقوله تعالى عن الفئة الكافرة :﴿ وأخرى كافرة ﴾فيه إشارة إلى بعد ما بين الفريقين من حيث الغاية من القتال ؛ففيه إشارة على تقدم الأولى معنويا، وتأخر الثانية ؛فالأولى تقاتل لا لعرض من أعراض الدنيا، ولا لغاية مادية مبتغاة، بل للحق، وفي سبيل الحق، ومرضاة للحق جل جلاله ؛والأخرى تكفر بكل هده المعنويات فتقاتل في الباطل وللباطل ولنصرة المادة، ولأعراض الدنيا ؛وفرق ما بين الفئتين عظيم ؛فإن كانت الأولى فقيرة في المال قليلة في العدد، فهي قوية بالمقصد والغاية، والثانية على نقيض ذلك تماما، فهي كثيرة المال وكثيرة العدد، ولكنها فقيرة في الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ يرونهم رأي العين ﴾فيه بيان ان المؤمنين يرون المشركين﴿ مثليهم ﴾أي أكثر منهم مرتين، فالمثل معناه المساوى، والمثلان لأمر ضعفه، والمعنى على هذا ان المؤمنين الذين أعطاهم الله ذخيرة من الإيمان واليقين وطلب الحق يرون أعداءهم رأي العين لا بالوهم والخيال ضعفهم، ومع ذلك لم يجنبوا ولم يضعفوا. فالتعبير بقوله :﴿ رأي العين ﴾تأكيد الرؤية بأنها رؤية بصرية، لا رؤية تقديرية ؛فهم يعاينون معاينة لا لبس فيها ولا غموض انهم ضعفهم. فالذين يعتزون بالكثرة عليهم ان يعرفوا أي الفريقين غلب، والذين يعتزون بالمادة عليهم ان يعرفوا لمن كانت النصرة : أهي للمادة ام للروح والإيمان ؟ فالذين رأوا خصومهم مثليهم هم المؤمنون. وهذا ترجيح ابن جرير الطبري. وقد رجح الزمخشري ان الذين رأوا : هم المشركون، قد رأوا المؤمنين مثليهم. وإن الأول في نظرنا أولى ؛لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا فعلا أقل عددا من المشركين، وأقل عدة، ولأن التعبير بقوله تعالى﴿ رأي العين ﴾يفيد ان رؤية هذه الكثرة كانت بصرية بالمعاينة، لا بالتقدير او التخيل او التوهم، ولا يمكن ان يتحقق ذلك في رؤية المشركين للمؤمنين ؛لأنه كان يكذب، ولذلك نختار ان الرؤية كانت رؤية المؤمنين للمشركين، ولكن قد ورد اعتراضان :
أحدهما : ان المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا ولم يكونوا ضعفهم.
ثانيهما : أن الله سبحانه قد قال في غزوة بدر :﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله امرا كان مفعولا... ٤٤ ﴾[ الأنفال ].
وإن رد الاعتراض الأول سهل ؛فإن العين لا تقدر تقديرا عدديا، ولكنها تقدر تقديرا تقريبا ؛فثلاثة الأمثال قد ترى رأي العين مثلين. وقد يقال إن المراد بكلمة مثلين ليس التثنية إنما المراد مجرد التكرار وذلك استعمال عربي، كما في قوله :﴿ ثم ارجع البصر كرتين... ٤ ﴾[ الملك ]، فالمراد تكرار النظر، لا التقدير بمرتين اثنتين ؛كذلك هنا المراد التكرار العددي لا مجرد مثلين اثنين، وإن ذلك شائع، فيقال مثلا : اقرأ هذا مرتين ولا تكتف بالنظرة الأولى، والمراد التكرار.
أما الاعتراض الثاني، فقد أجاب عنه ابن كثير في تفسيره المستمد من الأثر، بأنهم عندما أرادوا حسبانهم رأوهم ضعفهم او يزيدون، فلما ألقى في قلوب الذين آمنوا البأس والقوة، والتقوا بهم استهانوا بهم ؛ ولذا روى عن ابن مسعود انه قال في غزوة بدر :"نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا"وتلك حكمة الله العلي الخبير ؛رأوهم يزيدون عليهم أضعافا، وذلك هو الحس الواقع، ولكن عند اللقاء ضعف امامه فيكون الانهزام، وإن استهان مع الحرص كان النصر ؛ولذا سئل على رضي الله عنه : كيف كنت تصرع من يبارزك ؟فقال :"كنت أكون وهو على نفسه"أي ان عليا يقدم مستعليا بإيمانه على خصمه، وخصمه يحس بالخوف فتكون عليه قوتان ينتفع بهما على : قوة من نفسه، وقوة من نفس خصمه ولدها الخوف.
﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء عن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾
اشتمل ذلك النص الكريم على حقيقة مقررة، ودعوة على التأمل والاستبصار لولى الأبصار، ليمتنع الناس عن الاغترار بالقوة والاعتزاز بغير الله تعالى. أما الحقيقة فهي ان الله ينصر من يشاء، فهو الذي سينصر ويخذل، وان من يعتمد على قوته وحده من غير اعتبار بما تجري به المقادير يخذله الله، وإن شان الذين يغترون بالقوة المادية دائما ويعتزون بها لا يعتمدون على الله تعالى، ولا يعملون حسابا للقدر الذي يجريه خالق الكون حسب مشيئته وتدبيره، وأنهم إذ ينسون هذا يأتيهم القدر من حيث لا يحتسبون، فينهزمون حيث يرتقبون النصر ؛وإذا كان النصر والخذلان بيد الله تعالى، فالله سبحانه ينصر من ينصره، ويخذل من يكفره، كما قال تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم٧ ﴾[ محمد ]وكما قال تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾ [ الحج ].
وأما الدعوة إلى الاعتبار فقد ذكرها رب البرية بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾أي إن ذلك الذي رأوه وشاهدوه وهو ان الفئة القليلة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله، غلبت الفئة الكثيرة الكافرة التي في سبيل الشيطان مع كثرتها وعدتها وأموالها فيه اعتبار بان يجعلوا منه سبيلا لإدراك المستقبل ؛فإن العبرة معناها في اللغة وفي عرف القرآن والناس ان يؤخذ من الأمور الواقعة المحسوسة دليل على ما يمكن ان يأتي المستقبل غير المحسوس والمكشوف، فكان الكفر مع كثرته، ان القوة المادية ليست كل شئ ؛وإن الذي يدرك ذلك هم أولوا الأبصار، أي أصحاب المدارك الصحيحة التي تفهم الأمور على وجهها، فالمراد من الأبصار ليس البصر الحسي بل البصر المعنوي العقلي ولكن الذين طمست عليهم المادة لا يدركون الأمور على وجهها، كما قال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون١٤٩ ﴾[ الأعراف ].
وإنه لكي تخرج النفس من ربقة المادة تذكر الله دائما، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب٢٨ ﴾[ الرعد ]. اللهم ثبت قلوبنا على دينك والإيمان بنصرك وعدلك يا رب العالمين.
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده المئاب١٤* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ١٥ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار١٦ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالسحار١٧ ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم، وكثرة النفر الذين يعاضدونهم، وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم، وعاقبة أمرهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا، وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى ان يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها ؛ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من متع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم. وإذا كان قد بين سبحانه وتعالى اولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا، فقد بين في هذه الآيات مآل المتقين وأوصافهم، ومقدار فهمهم لزخارف هده الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها. ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه متعها، وهي مصدر الخير، ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العزة، وبها تكون الذلة ؛والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في احد الطريقين، فإن كانت الإرادة قوية حازمة جعلت من هذه الأمور مصدر خير وطريقا إلى الجنة، وغن تحكم الهوى وغلب الشيطان إلى النار ؛فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئ وما تهوى نفسه.
وإن هذه الأمور محببة لنفس الإنسان، مجبول بفطرته على الميل إليها، والاستشراف لها وطلبها، فهي طلبة النفس الإنسانية ؛إذ هي من طبيعتها، وهي تتقاضاها طبيعة الإنسانية، ومن يحاول ان ينزع الميل إلى هذه الأشياء الستة من نفسه، فإنما يحاول اقتلاع الخاصة الإنسانية من كونه، فالطبيعة الإنسانية قد ركز فيها حب هذه الأمور، ولا تخرج هذه الأمور من النفس الإنسانية إلا إذا بعد الإنسان عن طبعه.
ولأن هذه الأمور في الفطرة الإنسانية عبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾فأبهم سبحانه من زين حب هذه الأمور للإشارة إلى انها في الفطرة الإنسانية، نشأت في الإنسان منذ خلقه سبحانه وانزله إلى هذه الدنيا، فهو قد كونه سبحانه ومعه تلك الطبيعة الإنسانية، وغنه ينتهي الأمر إلى ان الذي زين هذا الحب هو الله سبحانه وتعالى، وقد يؤكد ذلك قراءة مجاهد( زين للناس )١بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرا يعود على الله سبحانه وتعالى. ومعنى﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ : أودعت فطرتهم حب هذه الشهوات، وأنهم لا يرون فيها نقصا ولا مخالفة للكمال والشهوات المراد بها موضع الشهوات، فهي من باب ذكر المصدر وإرادة اسم المفعول ؛فهذه الأمور الستة هي المشتهيات، وليست هي الشهوات، ولكن أطلق عليها اسم الشهوات للإشارة إلى شدة محبتها والحرص عليها. ولقد قال الزمخشري في ذلك :"جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشهاة محروصا على الاستمتاع بها"فالمراد انهم يحبون هذه الأشياء، ويرون محبتها امرا حسنا، ولا غضاضة فيه.
ويرى الزمخشري ان قوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ فيه إشارة على حساسة هذه الأمور، ويقول في ذلك :"والوجه انه يقصد تخسيسها فيسميها شهوات ؛لأن الشهوة مسترذلة مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ثم جاء بالتفسير ليقرر في النفوس ان المزين لهم حبه ما هو غلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله".
ولسنا نرى رأي الزمخشري في ان هذه خسيسة في ذاتها، او يقصد إلى تخسيسها في ذاتها، وغنما نرى انها فطرة الله يبينها الله سبحانه وتعالى، ويشير على انها مطلوبة من كل إنسان، وان المقتصد يجمل في الطلب ويجعله للخير، وغير المقتصد يسرف فيفحش، فيكون الشر. وزينة الله التي خلقها ليست حراما، وهي من قبيل هده المشتهيات، ؟فيقول تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق... ٣٢ ﴾[ الأعراف ]. وقال تعالى :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا غنه لا يحب المسرفين٣١[ الأعراف ] وقال تعالى :{ وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم... ٢٢ ﴾[ البقرة ]، وقال صلى الله عليه وسلم في الخيل :" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"٢.
وقال في الحرث وهو الزرع :"ما من مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه إنسان او دابة غلا كان له به صدقة"٣. وقال صلى الله عليه وسلم :"حبب إلي من دنياكم : النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"٤. وقال صلى الله عليه وسلم :"ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء ؟المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"٥. وقال تعالى :﴿ ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة عن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾[ الروم ].
وبهذا يتبين ان هذه العيان ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد تخسيسها، وإن كانت هي دون نعيم الحرة ومتعها.
وقوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾فيه إشارة إلى ان الناس يحبون هذه الشهوات ويستحسنون هذه المحبة ؛وذلك لن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه في محبته له غير راض عن نفسه، كأولئك الذين يميلون إلى بعض الآفات الاجتماعية، كالخمر، والميسر ؛فإنهم مع ميلهم إليها يستنكرون حالهم، ولا يحمدون ما يفعلون، إلا إذا كانوا قد طمس الله على بصيرتهم، فعموا وضلوا، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، ولكن الناس جميعا مع محبتهم لهذه الأمور يستحسنون هذه المحبة، ويرضون عن انفسهم في ميلهم إليها ؛وإن ذلك الاستحسان من عامة الناس يدل على ان محبة هذه الأمور من فطرة الإنسان ومن طبيعته ؛وغن هذا الميل لا يدل على خسة في الطبع، ولكنه يدل على انها في الفطرة.
وإن محبة هذه الأشياء، وهي رمز للطبيعة الإنسانية ليست بدرجة واحدة، بل تختلف بمقدار قوة نزوع النفس إليها، وتختلف بمقدار ما تشبع به الحاجات والغرائز الإنسانية.
وقد يقول قائل : وكيف يكون حب الذهب والفضة فطريا، مع انه ليس من الفطرة ؟والجواب عن ذلك : ان الذهب والفضة يشبعان الحاجات الإنسانية، فهما من الوسائل للوصول إلى النساء وغيرهن، وهما في خدمة تلك الفطرة، وأحبهما الناس لنهما يوصلان دائما إليها، ثم صار حبهما لذاتهما، وأشبه ان يكون من الفطرة.
ولنذكر هذه الأمور الستة، وهي مرتبة مراتب بترتيب القرآن الكريم :
المرتبة الأولى : النساء، وحبهن فطري في الطبيعة الإنسانية مستكن فيها، لا يختلف فيه الناس إلا من إيفت٦ مشاعره وفسدت طباعه، وهن زهرة هذا الوجود الإنساني، ولقد سماهم القرآن كذلك فقال تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك على ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا... ١٣١ ﴾[ طه ].
وقال تعالى في العلاقة بين الرجل والمرأة :﴿ هن لباس لكم وانتم لباس لهن... ١٨٧ ﴾[ البقرة ]. وإن الرجل في حب النساء قد يستهين بكل شئ. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم :"ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء"٧. وقد يقول قائل إن المراة من المكلفين ومن الناس فلماذا ذكر حب الرجال للنساء، ولم يذكر حب النساء للرجال، وكلاهما فطري في الطبع الإنساني ؟وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأن طلب الرجل للمرأة اشد وأقوى واحد، وكثير من الرجال من يفتتنون بالنساء، وقليل من النساء من تظهر فتنتهن بالرجال، والحس يؤيد طلب الرجل للمرأة، فهو يبذل النفس والنفيس في طلبها، ولا يعرف من النساء إلا قليلا من يبذل ذلك.
والرأي عندي ان ذكر حب الرجال للنساء فيه إشارة إلى علاقة المحبة المتبادلة بين الفريقين ؛فهي إشارة إلى تلك العلاقة الفطرية من الجانبين، فذكر محبة الرجل للمرأة فيه تنبيه إلى محبة المراة للرجل ؛وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة، واكتفى بذكر حب الرجل لن حبه الأوضح، ولأنه الأشد، ولأنه الذي يؤدي في جملة أحواله إلى الفتنة، ولأن المرأة مجيبة في هذا الباب لا طالبة، وإن سبقت هي بالمحبة حاولت ان تخلق الطلب في نفس من تحب.
وحب النساء ليس شرا ؛لأن الله جعل المرأة رحمة للرجل، إنما يكون الشر في الإسراف في الطلب حتى يكون النساء خلب كبده، وطلب الحرام، وفي طلب الجمال من غير ملاحظة الدين ؛فلقد قال صلى الله عليه وسلم :"إياكم وخضراء الدمن"٨، وقال صلى الله عليه وسلم :"تنكح المراة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، عليك بذات الدين تربت يداك"٩.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"من أراد ان يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر"١٠.
المرتبة الثانية : حب البنين، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء ؛لأن البنين ثمرة الحب الأول ؛ وفيه إشارة إلى التوجيه الإسلامي، وهو ان يكون حب النساء ذريعة على الإنجاب والنسل لا لذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم :"تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم المم يوم القيامة"١١. وهل المراد من البنين الذكور فقط ؟الظاهر ذلك، ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا... ٤٦ ﴾[ الكهف ]وما هو واقع بين الناس في الماضي والحاضر من انهم يطلبون الذكر دون الأنثى، وإنهم يرون في كثرة البنين نصرة وفخارا، وفي البنت غير ذلك ؛ولكن لو أننا قلنا إن المراد الأولاد ذكورا كانوا او إناثا لكان في النص القرآني متسع ؛لأن الابن يطلق ويراد الذكر والأنثى على سبيل المجاز، وإن محبة الولد بعد ولادته امر فطري لا فرق بين المحبة الفطرية لأولاده جميعا، والعرب انفسهم كانوا يحبون بناتهم وإن كانوا لا يعتزون إلا بالبنين. وإني أميل إلى هذا ؛ فالأولاد جميعا ثمرات القلوب وقرة الأعين ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين، وغنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة".
والمرتبة الثالثة : حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :"القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية"١٢ وإن كانت الأوقية التي نعرفها هي الأوقية التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فالقنطار الذي نعرفه في مصر هو القنطار الذي ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛لأن القنطار( ١٢٠٠ )أوقية لأنه مائة رطل والرطل( ١٢ )أوقية. وقد قال الزجاج في أصل معنى القنطار : إنه مأخوذ من عقد الشئ وإحكامه، تقول العرب : قنطرت الشئ إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها، والقنطرة المعقود، فكأن القنطار شئ محكم يسع ذلك المال، أو أنه جمع قدر كبير من المال متراص الأجزاء محكم الربط. والمقنطرة معناها مضاعفة مقادير القنطار، فمعنى قناطير مقنطرة عدد كثير من القناطير متضاعف، كقولك
في الآيات السابقة بين سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم، وكثرة النفر الذين يعاضدونهم، وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم، وعاقبة أمرهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا، وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى ان يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها ؛ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من متع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم. وإذا كان قد بين سبحانه وتعالى اولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا، فقد بين في هذه الآيات مآل المتقين وأوصافهم، ومقدار فهمهم لزخارف هده الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها. ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه متعها، وهي مصدر الخير، ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العزة، وبها تكون الذلة ؛والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في احد الطريقين، فإن كانت الإرادة قوية حازمة جعلت من هذه الأمور مصدر خير وطريقا إلى الجنة، وغن تحكم الهوى وغلب الشيطان إلى النار ؛فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئ وما تهوى نفسه.
وإن هذه الأمور محببة لنفس الإنسان، مجبول بفطرته على الميل إليها، والاستشراف لها وطلبها، فهي طلبة النفس الإنسانية ؛إذ هي من طبيعتها، وهي تتقاضاها طبيعة الإنسانية، ومن يحاول ان ينزع الميل إلى هذه الأشياء الستة من نفسه، فإنما يحاول اقتلاع الخاصة الإنسانية من كونه، فالطبيعة الإنسانية قد ركز فيها حب هذه الأمور، ولا تخرج هذه الأمور من النفس الإنسانية إلا إذا بعد الإنسان عن طبعه.
ولأن هذه الأمور في الفطرة الإنسانية عبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾فأبهم سبحانه من زين حب هذه الأمور للإشارة إلى انها في الفطرة الإنسانية، نشأت في الإنسان منذ خلقه سبحانه وانزله إلى هذه الدنيا، فهو قد كونه سبحانه ومعه تلك الطبيعة الإنسانية، وغنه ينتهي الأمر إلى ان الذي زين هذا الحب هو الله سبحانه وتعالى، وقد يؤكد ذلك قراءة مجاهد( زين للناس )١بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرا يعود على الله سبحانه وتعالى. ومعنى﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ : أودعت فطرتهم حب هذه الشهوات، وأنهم لا يرون فيها نقصا ولا مخالفة للكمال والشهوات المراد بها موضع الشهوات، فهي من باب ذكر المصدر وإرادة اسم المفعول ؛فهذه الأمور الستة هي المشتهيات، وليست هي الشهوات، ولكن أطلق عليها اسم الشهوات للإشارة إلى شدة محبتها والحرص عليها. ولقد قال الزمخشري في ذلك :"جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشهاة محروصا على الاستمتاع بها"فالمراد انهم يحبون هذه الأشياء، ويرون محبتها امرا حسنا، ولا غضاضة فيه.
ويرى الزمخشري ان قوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ فيه إشارة على حساسة هذه الأمور، ويقول في ذلك :"والوجه انه يقصد تخسيسها فيسميها شهوات ؛لأن الشهوة مسترذلة مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ثم جاء بالتفسير ليقرر في النفوس ان المزين لهم حبه ما هو غلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله".
ولسنا نرى رأي الزمخشري في ان هذه خسيسة في ذاتها، او يقصد إلى تخسيسها في ذاتها، وغنما نرى انها فطرة الله يبينها الله سبحانه وتعالى، ويشير على انها مطلوبة من كل إنسان، وان المقتصد يجمل في الطلب ويجعله للخير، وغير المقتصد يسرف فيفحش، فيكون الشر. وزينة الله التي خلقها ليست حراما، وهي من قبيل هده المشتهيات، ؟فيقول تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق... ٣٢ ﴾[ الأعراف ]. وقال تعالى :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا غنه لا يحب المسرفين٣١[ الأعراف ] وقال تعالى :{ وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم... ٢٢ ﴾[ البقرة ]، وقال صلى الله عليه وسلم في الخيل :" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"٢.
وقال في الحرث وهو الزرع :"ما من مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه إنسان او دابة غلا كان له به صدقة"٣. وقال صلى الله عليه وسلم :"حبب إلي من دنياكم : النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"٤. وقال صلى الله عليه وسلم :"ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء ؟المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"٥. وقال تعالى :﴿ ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة عن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾[ الروم ].
وبهذا يتبين ان هذه العيان ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد تخسيسها، وإن كانت هي دون نعيم الحرة ومتعها.
وقوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾فيه إشارة إلى ان الناس يحبون هذه الشهوات ويستحسنون هذه المحبة ؛وذلك لن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه في محبته له غير راض عن نفسه، كأولئك الذين يميلون إلى بعض الآفات الاجتماعية، كالخمر، والميسر ؛فإنهم مع ميلهم إليها يستنكرون حالهم، ولا يحمدون ما يفعلون، إلا إذا كانوا قد طمس الله على بصيرتهم، فعموا وضلوا، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، ولكن الناس جميعا مع محبتهم لهذه الأمور يستحسنون هذه المحبة، ويرضون عن انفسهم في ميلهم إليها ؛وإن ذلك الاستحسان من عامة الناس يدل على ان محبة هذه الأمور من فطرة الإنسان ومن طبيعته ؛وغن هذا الميل لا يدل على خسة في الطبع، ولكنه يدل على انها في الفطرة.
وإن محبة هذه الأشياء، وهي رمز للطبيعة الإنسانية ليست بدرجة واحدة، بل تختلف بمقدار قوة نزوع النفس إليها، وتختلف بمقدار ما تشبع به الحاجات والغرائز الإنسانية.
وقد يقول قائل : وكيف يكون حب الذهب والفضة فطريا، مع انه ليس من الفطرة ؟والجواب عن ذلك : ان الذهب والفضة يشبعان الحاجات الإنسانية، فهما من الوسائل للوصول إلى النساء وغيرهن، وهما في خدمة تلك الفطرة، وأحبهما الناس لنهما يوصلان دائما إليها، ثم صار حبهما لذاتهما، وأشبه ان يكون من الفطرة.
ولنذكر هذه الأمور الستة، وهي مرتبة مراتب بترتيب القرآن الكريم :
المرتبة الأولى : النساء، وحبهن فطري في الطبيعة الإنسانية مستكن فيها، لا يختلف فيه الناس إلا من إيفت٦ مشاعره وفسدت طباعه، وهن زهرة هذا الوجود الإنساني، ولقد سماهم القرآن كذلك فقال تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك على ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا... ١٣١ ﴾[ طه ].
وقال تعالى في العلاقة بين الرجل والمرأة :﴿ هن لباس لكم وانتم لباس لهن... ١٨٧ ﴾[ البقرة ]. وإن الرجل في حب النساء قد يستهين بكل شئ. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم :"ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء"٧. وقد يقول قائل إن المراة من المكلفين ومن الناس فلماذا ذكر حب الرجال للنساء، ولم يذكر حب النساء للرجال، وكلاهما فطري في الطبع الإنساني ؟وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأن طلب الرجل للمرأة اشد وأقوى واحد، وكثير من الرجال من يفتتنون بالنساء، وقليل من النساء من تظهر فتنتهن بالرجال، والحس يؤيد طلب الرجل للمرأة، فهو يبذل النفس والنفيس في طلبها، ولا يعرف من النساء إلا قليلا من يبذل ذلك.
والرأي عندي ان ذكر حب الرجال للنساء فيه إشارة إلى علاقة المحبة المتبادلة بين الفريقين ؛فهي إشارة إلى تلك العلاقة الفطرية من الجانبين، فذكر محبة الرجل للمرأة فيه تنبيه إلى محبة المراة للرجل ؛وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة، واكتفى بذكر حب الرجل لن حبه الأوضح، ولأنه الأشد، ولأنه الذي يؤدي في جملة أحواله إلى الفتنة، ولأن المرأة مجيبة في هذا الباب لا طالبة، وإن سبقت هي بالمحبة حاولت ان تخلق الطلب في نفس من تحب.
وحب النساء ليس شرا ؛لأن الله جعل المرأة رحمة للرجل، إنما يكون الشر في الإسراف في الطلب حتى يكون النساء خلب كبده، وطلب الحرام، وفي طلب الجمال من غير ملاحظة الدين ؛فلقد قال صلى الله عليه وسلم :"إياكم وخضراء الدمن"٨، وقال صلى الله عليه وسلم :"تنكح المراة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، عليك بذات الدين تربت يداك"٩.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"من أراد ان يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر"١٠.
المرتبة الثانية : حب البنين، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء ؛لأن البنين ثمرة الحب الأول ؛ وفيه إشارة إلى التوجيه الإسلامي، وهو ان يكون حب النساء ذريعة على الإنجاب والنسل لا لذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم :"تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم المم يوم القيامة"١١. وهل المراد من البنين الذكور فقط ؟الظاهر ذلك، ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا... ٤٦ ﴾[ الكهف ]وما هو واقع بين الناس في الماضي والحاضر من انهم يطلبون الذكر دون الأنثى، وإنهم يرون في كثرة البنين نصرة وفخارا، وفي البنت غير ذلك ؛ولكن لو أننا قلنا إن المراد الأولاد ذكورا كانوا او إناثا لكان في النص القرآني متسع ؛لأن الابن يطلق ويراد الذكر والأنثى على سبيل المجاز، وإن محبة الولد بعد ولادته امر فطري لا فرق بين المحبة الفطرية لأولاده جميعا، والعرب انفسهم كانوا يحبون بناتهم وإن كانوا لا يعتزون إلا بالبنين. وإني أميل إلى هذا ؛ فالأولاد جميعا ثمرات القلوب وقرة الأعين ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين، وغنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة".
والمرتبة الثالثة : حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :"القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية"١٢ وإن كانت الأوقية التي نعرفها هي الأوقية التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فالقنطار الذي نعرفه في مصر هو القنطار الذي ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛لأن القنطار( ١٢٠٠ )أوقية لأنه مائة رطل والرطل( ١٢ )أوقية. وقد قال الزجاج في أصل معنى القنطار : إنه مأخوذ من عقد الشئ وإحكامه، تقول العرب : قنطرت الشئ إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها، والقنطرة المعقود، فكأن القنطار شئ محكم يسع ذلك المال، أو أنه جمع قدر كبير من المال متراص الأجزاء محكم الربط. والمقنطرة معناها مضاعفة مقادير القنطار، فمعنى قناطير مقنطرة عدد كثير من القناطير متضاعف، كقولك
١ وبها قرأ الضحاك، ينظر: المحرر الوجيز١/٤٠٨، البحر المحيط٢/٤١٣، الدر المصون٢/٣١...
٢ متفق عليه رواه البخاري: الجهاد والسير-الخيل معقود في نواصيها الخير(٢٦٣٨)، ومسلم: الإمارة(٣٤٨٠)..
٣ رواه بهذا اللفظ احمد في مسند المكثرين(١٣٠٦٥)]، والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري: المزارعة-فضل الغرس(٢١٥٢)، ومسلم: المساقاة(٢٩٠٤)..
٤ رواه النسائي: عشرة النساء-حب النساء(٣٨٧٨)، أحمد: مسند المكثرين(١٨٤٥)..
٥ رواه أبو داود: الزكاة-حقوق المال(١٤١٧)..
٦ أي أصابتها الآفة..
٧ متفق عليه؛رواه البخاري: النكاح-ما يتقى من شؤم المراة(٤٧٠٦)، ومسلم: الذكر والدعاء(٣٩٢٣)عن أسامة بن زيد رضي الله عنه..
٨ سبق تخريجه. وراجع الإكمال من الجامع الصغير، والكامل لابن عدي..
٩ متفق على صحته وقد رواه البخاري: النكاح-الأكفاء في الدين(٤٧٠٠)، ومسلم: الرضاع-استحباب نكاح ذات الدين(٢٦٦١)..
١٠ رواه ابن ماجة: النكاح-تزويج الحرائر(١٨٥٢)عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
١١ فتح الباري في شرحه حديث: من استطاع منكم الباءة (٤٦٧٧)..
١٢ أخرجه ابن ماجة: الأدب-الوالد والإحسان إلى البنات، واحمد: مسند الشاميين(١٦٩٠٤)..
٢ متفق عليه رواه البخاري: الجهاد والسير-الخيل معقود في نواصيها الخير(٢٦٣٨)، ومسلم: الإمارة(٣٤٨٠)..
٣ رواه بهذا اللفظ احمد في مسند المكثرين(١٣٠٦٥)]، والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري: المزارعة-فضل الغرس(٢١٥٢)، ومسلم: المساقاة(٢٩٠٤)..
٤ رواه النسائي: عشرة النساء-حب النساء(٣٨٧٨)، أحمد: مسند المكثرين(١٨٤٥)..
٥ رواه أبو داود: الزكاة-حقوق المال(١٤١٧)..
٦ أي أصابتها الآفة..
٧ متفق عليه؛رواه البخاري: النكاح-ما يتقى من شؤم المراة(٤٧٠٦)، ومسلم: الذكر والدعاء(٣٩٢٣)عن أسامة بن زيد رضي الله عنه..
٨ سبق تخريجه. وراجع الإكمال من الجامع الصغير، والكامل لابن عدي..
٩ متفق على صحته وقد رواه البخاري: النكاح-الأكفاء في الدين(٤٧٠٠)، ومسلم: الرضاع-استحباب نكاح ذات الدين(٢٦٦١)..
١٠ رواه ابن ماجة: النكاح-تزويج الحرائر(١٨٥٢)عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
١١ فتح الباري في شرحه حديث: من استطاع منكم الباءة (٤٦٧٧)..
١٢ أخرجه ابن ماجة: الأدب-الوالد والإحسان إلى البنات، واحمد: مسند الشاميين(١٦٩٠٤)..
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ﴾الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛يكلفه جل شانه ان يوجه غليهم ذلك السؤال لينبههم إلى عظيم شان ما أخره لهم سبحانه من نعيم مقيم عن أحسنوا، فالاستفهام للتنبيه ؛وقد حوى من طرق التنبيه ثلاثة : أولها : التعبير ب﴿ أؤنبئكم ﴾ ؛لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الخطير الشأن، وثانيها : التعبير ب﴿ ذلكم ﴾بالإشارة للبعيد للدلالة على عظيم شأن ما سيخبرهم به، وبالتعبير ب"كم"كأنه يدعوهم جميعا ليستمعوا إلى ما سيخبرهم به، وثالثها : التعبير ب"خير"الدالة على الأفضلية، وان نعيم الجنة خير لا شر فيه قط، وان نعيم الدنيا لا يخلو من شر.
وبعد ان كان الاستفهام الذي سيق للتنبيه كان الجواب هو :
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ﴾هذه متع الآخرة، وهي أعلى مقاما، وأعظم مكانا من نعيم الدنيا، وهي أربعة :
أولها :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثانيها : الخلود، وهو نعمة وحده، فكل ما في الدنيا عرض زائل يعروه الفناء، وما في الآخرة دائم البقاء.
وثالثها :﴿ وأزواج مطهرة ﴾لا دنس فيها، ولا ما يشينهن او يوجد الريب، فلا معكر من شر او ما يشبهه.
و رابعها : وهو أعظمها بل أعظم ما في الوجود، وهو﴿ ورضوان من الله ﴾أي رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون ومنشئ الوجود، فالرضوان مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ؛لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم، ولأنه إبهامه ثم بيان مصدره فيه إشارة إلى شرف هذا الرضا بإضافة لأعظم نسبة إذ هو منسوب إذ هو منسوب إلى الله جل جلاله.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾أي أن الله سبحانه جل جلاله عليم بأحوال العباد علم من يبصر ويرى، فهو يعلم دقائق أحوالهم وخفى أمورهم، وخلجات قلوبهم. وصدر سبحانه القول بلفظ الجلالة لتربية المهابة في القلوب، وإشعارها بعظمته. وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بخفى أحوالهم، فإنه سيجزى المحسن إحسانا والمسئ عقابا ؛فهذه الجملة السامية فيها وعد ووعيد، وفيها إشعار برقابة العلي القدير، مما يجعل المؤمن التقي يشعر دائما بأن الله يراه، وغن لم يكن هو يراه، ويتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١.
وبعد ان كان الاستفهام الذي سيق للتنبيه كان الجواب هو :
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ﴾هذه متع الآخرة، وهي أعلى مقاما، وأعظم مكانا من نعيم الدنيا، وهي أربعة :
أولها :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثانيها : الخلود، وهو نعمة وحده، فكل ما في الدنيا عرض زائل يعروه الفناء، وما في الآخرة دائم البقاء.
وثالثها :﴿ وأزواج مطهرة ﴾لا دنس فيها، ولا ما يشينهن او يوجد الريب، فلا معكر من شر او ما يشبهه.
و رابعها : وهو أعظمها بل أعظم ما في الوجود، وهو﴿ ورضوان من الله ﴾أي رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون ومنشئ الوجود، فالرضوان مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ؛لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم، ولأنه إبهامه ثم بيان مصدره فيه إشارة إلى شرف هذا الرضا بإضافة لأعظم نسبة إذ هو منسوب إذ هو منسوب إلى الله جل جلاله.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾أي أن الله سبحانه جل جلاله عليم بأحوال العباد علم من يبصر ويرى، فهو يعلم دقائق أحوالهم وخفى أمورهم، وخلجات قلوبهم. وصدر سبحانه القول بلفظ الجلالة لتربية المهابة في القلوب، وإشعارها بعظمته. وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بخفى أحوالهم، فإنه سيجزى المحسن إحسانا والمسئ عقابا ؛فهذه الجملة السامية فيها وعد ووعيد، وفيها إشعار برقابة العلي القدير، مما يجعل المؤمن التقي يشعر دائما بأن الله يراه، وغن لم يكن هو يراه، ويتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١.
١ هو جزء من حديث جبريل الشهير وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح بلفظ المصنف رحمه الله تعالى..
﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾هذه اول أوصاف المؤمنين الذين استحقوا ذلك الجزاء الكريم من رب العالمين :﴿ الذين يقولون ﴾وهذا الوصف يدل على انهم دائما متذكرون للإيمان وحالهم إنما هو تصديق للنبي في كل ما جاء به، فلسان حالهم دائما انهم يقولون ﴿ آمنا ﴾أي انهم يقولون غنهم يذعنون ويصدقون كل ما جاء به القرآن الكريم، وهدى النبي الأمين، ومن كان لسان حاله تذكر الإيمان والإذعان لمر الله تعالى لا تكون منه معصية كبيرة، ولا إهمال لأوامر الله تعالى ؛لأن ارتكاب المعاصي يتنافى مع الإذعان المطلق، وتذكر الإيمان الدائم ؛إذ المعصية نكون في غفلة القلب وعدم تذكر الإيمان ؛ولذا قال عليه الصلاة والسلام :"لا يزني الزاني وهو مؤمن"١، وإذا كان الإيمان بالله مستوليا على شعورهم فهم دائما يغلبون الخوف على الرجاء والضراعة على الطمع، ولذا رتبوا على هذه الحالة طلبهم المغفرة وقالوا﴿ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾فهم دائما يحسون بعظم أخطائهم، وذلك من قوة إيمانهم، وقوة إذعانهم ؛ولذلك يطلبون الستر والغفران، والوقاية من النار، ولذلك كله من قوة الوجدان الديني، وعظم سلطان النفس اللوامة، والضمير المستيقظ، فتكبر في نظرهم هفواتهم، وتصغر حسناتهم، ويعتقدون انه لا جزاء إلا أن يتغمدهم الله برحمته.
١ متفق عليه؛رواه البخاري: المظالم والغضب-النهبى بغير إذن صاحبه(٢٢٩٥)، ومسلم: الإيمان- نقص الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس(٨٦)]..
﴿ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ﴾
هذه خمسة أوصاف للمؤمنين الصادقي الإيمان، والمذعنين حق الإذعان :
أولها : انهم صابون، والصبر صفة الإيمان حقا وصدقا، وقد حث عليه القرآن في أكثر من سبعين موضعا، والصبر له شعب كثيرة، منها وهي أدناها الصبر عند الشديدة، وتحملها من غير أنين ولا شكوى، وهذا هو الصبر الجميل، فإن ضج الصابر وشكا فصبره غير جميل، ومنها الصبر بضبط النفس عن الشهوات وقدعها عن الأهواء المردية، وجعل العقل متحكما دائما ؛وهذه مرتبة عالية في الصبر. ومنها الصبر على تحمل النعم ؛فإن النعم تحتاج إلى صبر لكيلا يطغى الإنسان بسبب النعمة فتؤدي إلى الكفر بدل الشكر. ولقد قال تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه غنه ليئوس كفور٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني غنه لفرح فخور ١٠إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير١١ ﴾[ هود ].
والوصف الثاني : أنهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية، وهو شعب أيضا فمنها الإخبار بالحق ؛ومنها ان يصدق نفسه، فلا يخدعها، ويزين لها سوء العمال، ويغالط قلبه وحسه ؛ ومنها ان يتعرف عيوب نفسه بالحق ويتكشفها ويتعرفها ولا يسترها عن نفسه، لتكون بين يديه ماثلة دائما فيستيقظ ضميره، وهذا هو طريق التهذيب الروحي الحق.
والوصف الثالث : انهم قانتون، والقانت هو الطائع المديم للطاعة غير متململ منها، ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها، فالقنوت يصور الإذعان المطلق.
والوصف الرابع : أنهم المنفقون، أي انهم ينفقون المال في مصارفه سواء أكانت عامة ام كانت خاصة، وقد بينا مناهج الإنفاق الديني فيما أسلفنا.
والوصف الخامس : انهم مستغفرون بالأسحار، والأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل، وهذا الوقت وقت التهجد، وتذكر ما كان من عمل، واستقبال ما يكون من أعمال، فالاستغفار فيه باستشعار الضراعة وتذكر الله، والشعور بمراقبته، يجعل المؤمن يستقبل أعمال الحياة بقلب سليم نقي كما هو، فلا يكون فيه إلا خير، وليس الاستغفار هو ترداد كلمة أستغفر، إنما هو الشعور بالخضوع، ومراقبة الله والضراعة إليه سبحانه، وليس كذلك أكثر المستغفرين ؛ولذا قالت رابعة العدوية :"استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير". ولقد روى البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"سيد الاستغفار أن تقول : اللهم انت ربي لا إله إلا انت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت. ومن قالها بالنهار موقنا فمات من يومه قبل ان يمسي فهو من اهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليلته قبل أن يصبح فهو من اهل الجنة"١.
هذه خمسة أوصاف للمؤمنين الصادقي الإيمان، والمذعنين حق الإذعان :
أولها : انهم صابون، والصبر صفة الإيمان حقا وصدقا، وقد حث عليه القرآن في أكثر من سبعين موضعا، والصبر له شعب كثيرة، منها وهي أدناها الصبر عند الشديدة، وتحملها من غير أنين ولا شكوى، وهذا هو الصبر الجميل، فإن ضج الصابر وشكا فصبره غير جميل، ومنها الصبر بضبط النفس عن الشهوات وقدعها عن الأهواء المردية، وجعل العقل متحكما دائما ؛وهذه مرتبة عالية في الصبر. ومنها الصبر على تحمل النعم ؛فإن النعم تحتاج إلى صبر لكيلا يطغى الإنسان بسبب النعمة فتؤدي إلى الكفر بدل الشكر. ولقد قال تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه غنه ليئوس كفور٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني غنه لفرح فخور ١٠إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير١١ ﴾[ هود ].
والوصف الثاني : أنهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية، وهو شعب أيضا فمنها الإخبار بالحق ؛ومنها ان يصدق نفسه، فلا يخدعها، ويزين لها سوء العمال، ويغالط قلبه وحسه ؛ ومنها ان يتعرف عيوب نفسه بالحق ويتكشفها ويتعرفها ولا يسترها عن نفسه، لتكون بين يديه ماثلة دائما فيستيقظ ضميره، وهذا هو طريق التهذيب الروحي الحق.
والوصف الثالث : انهم قانتون، والقانت هو الطائع المديم للطاعة غير متململ منها، ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها، فالقنوت يصور الإذعان المطلق.
والوصف الرابع : أنهم المنفقون، أي انهم ينفقون المال في مصارفه سواء أكانت عامة ام كانت خاصة، وقد بينا مناهج الإنفاق الديني فيما أسلفنا.
والوصف الخامس : انهم مستغفرون بالأسحار، والأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل، وهذا الوقت وقت التهجد، وتذكر ما كان من عمل، واستقبال ما يكون من أعمال، فالاستغفار فيه باستشعار الضراعة وتذكر الله، والشعور بمراقبته، يجعل المؤمن يستقبل أعمال الحياة بقلب سليم نقي كما هو، فلا يكون فيه إلا خير، وليس الاستغفار هو ترداد كلمة أستغفر، إنما هو الشعور بالخضوع، ومراقبة الله والضراعة إليه سبحانه، وليس كذلك أكثر المستغفرين ؛ولذا قالت رابعة العدوية :"استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير". ولقد روى البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"سيد الاستغفار أن تقول : اللهم انت ربي لا إله إلا انت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت. ومن قالها بالنهار موقنا فمات من يومه قبل ان يمسي فهو من اهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليلته قبل أن يصبح فهو من اهل الجنة"١.
١ رواه البخاري بهذا اللفظ عن شداد بن أوس رضي الله عنه: الدعوات-أفضل الاستغفار(٥٨٣١)كما رواه الترمذي والنسائي وأحمد بنحوه..
﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم١٨ إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب١٩ ﴾
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم، وصدق إيمانهم، وإذعان نفوسهم، وصبرهم وضبط شهواتهم ؛وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وان الإسلام شريعة النبيين أجمعين، وهو دين الله المتين ؛وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال :
﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾الشهادة : الحضور، إما بالبصر، وغما بالبصيرة ؛ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ﴾[ الحج ]وقوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين٢ ﴾[ النور ] ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة، ثم أطلقت بمعنى العلم، وبمعنى الحكم ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من اهلها... ٢٦ ﴾[ يوسف ].
وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾للعلماء في تفسير الشهادة فيه طريقان :
أحدهما : ان الشهادة الإخبار، وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته بالآيات القرآنية التي انزلها على نبيه في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم... ٥٥ ﴾[ البقرة ]وقوله تعالى :﴿ قل هو الله احد١الله الصمد٢ لم يلد ولم يولد٣ولم يكن له كفؤا احد٤ ﴾[ الإخلاص[ واخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته أيضا بالآيات الكونية التي وجه النظار إليها من خلق السموات والأرض وما بينهما، ومن تسخير الشمس والقمر، ومن إيلاج الليل في النهار. واخبر سبحانه عن وحدانيته بالأدلة القاطعة التي أشار إليها في كتابه العزيز، من مثل قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون٢٢ ﴾[ الأنبياء ].
وإخبار الملائكة عن وحدانيته سبحانه، بعبادتهم له سبحانه وطاعتهم المستمرة﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون٦ ﴾[ التحريم ]ونزولهم على الأنبياء بأخبار الوحدانية.
وشهادة أولى العلم من الناس هي إخبارهم أيضا بما يستنبطونه من الأدلة العلمية الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه، وتصديقهم لما جاء به الرسل، ونطقهم بما آمنوا به ودعوتهم إليه ؛وهذه الشهادة مختصة بأهل العلم الذين قد اخلصوا في طلب الحقيقة ؛فقد قال تعالى عن الجهال :﴿ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق انفسهم... ٥١ ﴾[ الكهف ].
وفي إجماع هذه الأخبار-إخبار خالق الكون، وإخبار الملائكة الأطهار، وبنى آدم الأبرار-دليل على انه معنى مقرر لا مجال لأن يرتاب فيه عاقل.
المعنى الثاني للشهادة في قوله تعالى﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو ﴾هو العلم. والمعنى : علم الله في علمه الأزلي، وعلم الملائكة بفطرهم وبما أنشاهم عليه رب العالمين، وعلم اهل العلم من الناس باستنباطهم وتقصيهم لأنواع الاستدلال المختلفة انه لا إله غلا هو. وفي جمع العلم على هذا النحو إشارة على ان أنواع العلم الثلاثة قد اتفقت على الوحدانية. فعلم الله الأزلي، قد تلاقى مع علم الملائكة النوراني وعلم الناس الاستدلالي على ان الله واحد، فكيف يختلف الناس فيه ؟ !تعالى الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وقوله تعالى :﴿ قائما بالقسط ﴾معناه انه هو الواحد الأحد، الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان، وكل شئ في هذا الكون بمقدار، يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه، لا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطور الذي أعده الله سبحانه له، كما قال سبحانه :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم٣٨ ﴾[ يس ]وهذا التعبير السامي﴿ قائما بالقسط ﴾فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو انه وحده المستحق للعبادة، ما دام هو وحده القائم على كل شئ وفيه إشارة على مقام العبودية، وهو انه لا يعبد سواه، فلا قوة لحد او لشئ بجوار قدرة الله ؛فهو سبحانه الديان، والمجازى للخلق على ما يعملون، بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط، فإنه بحكم القسط لا يستوي الذين يعملون الخير، والذين يعملون الشر ؛ولهذا نقول : إن في هذه الجملة الكريمة ﴿ قائما بالقسط ﴾إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب.
وكرر سبحانه تقرير الوحدانية فقال :
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة.
منها : الإشارة إلى انه سبحانه وتعالى لا يترك الناس سدى، فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية، وقد شرع الشرائع بمقتضى حكمته، وهو يحميها بعزته وسلطانه ؛ولذا وصف سبحانه بأنه﴿ العزيز الحكيم ﴾أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس، ويشرع لهم الشرائع ويحميها ؛ لأنه العزيز الحكيم.
ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان.
وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون ان لهم سلطانا، وما لحد عند رب العالمين من سلطان، فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء.
وقبل ان نترك القول في هذه الآية الكريمة لا بد من ان نتكلم كلمة موجزة في أولى العلم ؛فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة، ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه، وشهادة ملائكته الأطهار ؟هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم. ونقول في الإجابة عنه :
إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء... ٢٨ ﴾[ فاطر ]وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله :﴿ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب٧ ﴾[ آل عمران ]ولذا نرى ان اول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون٢ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون٣ ﴾[ الصف ] وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال :﴿ وأولوا العلم ﴾أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية، ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية ؛فهاتان صفتان لازمتان او هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان :"العلماء أمناء الله على خلقه"١ وقال فيهم :"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم اهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"٢.
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة، فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روى عنه عليه الصلاة والسلام انه قال :"أخوف ما اخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته"٣.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم، وصدق إيمانهم، وإذعان نفوسهم، وصبرهم وضبط شهواتهم ؛وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وان الإسلام شريعة النبيين أجمعين، وهو دين الله المتين ؛وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال :
﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾الشهادة : الحضور، إما بالبصر، وغما بالبصيرة ؛ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ﴾[ الحج ]وقوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين٢ ﴾[ النور ] ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة، ثم أطلقت بمعنى العلم، وبمعنى الحكم ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من اهلها... ٢٦ ﴾[ يوسف ].
وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾للعلماء في تفسير الشهادة فيه طريقان :
أحدهما : ان الشهادة الإخبار، وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته بالآيات القرآنية التي انزلها على نبيه في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم... ٥٥ ﴾[ البقرة ]وقوله تعالى :﴿ قل هو الله احد١الله الصمد٢ لم يلد ولم يولد٣ولم يكن له كفؤا احد٤ ﴾[ الإخلاص[ واخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته أيضا بالآيات الكونية التي وجه النظار إليها من خلق السموات والأرض وما بينهما، ومن تسخير الشمس والقمر، ومن إيلاج الليل في النهار. واخبر سبحانه عن وحدانيته بالأدلة القاطعة التي أشار إليها في كتابه العزيز، من مثل قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون٢٢ ﴾[ الأنبياء ].
وإخبار الملائكة عن وحدانيته سبحانه، بعبادتهم له سبحانه وطاعتهم المستمرة﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون٦ ﴾[ التحريم ]ونزولهم على الأنبياء بأخبار الوحدانية.
وشهادة أولى العلم من الناس هي إخبارهم أيضا بما يستنبطونه من الأدلة العلمية الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه، وتصديقهم لما جاء به الرسل، ونطقهم بما آمنوا به ودعوتهم إليه ؛وهذه الشهادة مختصة بأهل العلم الذين قد اخلصوا في طلب الحقيقة ؛فقد قال تعالى عن الجهال :﴿ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق انفسهم... ٥١ ﴾[ الكهف ].
وفي إجماع هذه الأخبار-إخبار خالق الكون، وإخبار الملائكة الأطهار، وبنى آدم الأبرار-دليل على انه معنى مقرر لا مجال لأن يرتاب فيه عاقل.
المعنى الثاني للشهادة في قوله تعالى﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو ﴾هو العلم. والمعنى : علم الله في علمه الأزلي، وعلم الملائكة بفطرهم وبما أنشاهم عليه رب العالمين، وعلم اهل العلم من الناس باستنباطهم وتقصيهم لأنواع الاستدلال المختلفة انه لا إله غلا هو. وفي جمع العلم على هذا النحو إشارة على ان أنواع العلم الثلاثة قد اتفقت على الوحدانية. فعلم الله الأزلي، قد تلاقى مع علم الملائكة النوراني وعلم الناس الاستدلالي على ان الله واحد، فكيف يختلف الناس فيه ؟ !تعالى الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وقوله تعالى :﴿ قائما بالقسط ﴾معناه انه هو الواحد الأحد، الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان، وكل شئ في هذا الكون بمقدار، يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه، لا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطور الذي أعده الله سبحانه له، كما قال سبحانه :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم٣٨ ﴾[ يس ]وهذا التعبير السامي﴿ قائما بالقسط ﴾فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو انه وحده المستحق للعبادة، ما دام هو وحده القائم على كل شئ وفيه إشارة على مقام العبودية، وهو انه لا يعبد سواه، فلا قوة لحد او لشئ بجوار قدرة الله ؛فهو سبحانه الديان، والمجازى للخلق على ما يعملون، بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط، فإنه بحكم القسط لا يستوي الذين يعملون الخير، والذين يعملون الشر ؛ولهذا نقول : إن في هذه الجملة الكريمة ﴿ قائما بالقسط ﴾إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب.
وكرر سبحانه تقرير الوحدانية فقال :
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة.
منها : الإشارة إلى انه سبحانه وتعالى لا يترك الناس سدى، فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية، وقد شرع الشرائع بمقتضى حكمته، وهو يحميها بعزته وسلطانه ؛ولذا وصف سبحانه بأنه﴿ العزيز الحكيم ﴾أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس، ويشرع لهم الشرائع ويحميها ؛ لأنه العزيز الحكيم.
ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان.
وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون ان لهم سلطانا، وما لحد عند رب العالمين من سلطان، فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء.
وقبل ان نترك القول في هذه الآية الكريمة لا بد من ان نتكلم كلمة موجزة في أولى العلم ؛فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة، ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه، وشهادة ملائكته الأطهار ؟هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم. ونقول في الإجابة عنه :
إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء... ٢٨ ﴾[ فاطر ]وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله :﴿ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب٧ ﴾[ آل عمران ]ولذا نرى ان اول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون٢ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون٣ ﴾[ الصف ] وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال :﴿ وأولوا العلم ﴾أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية، ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية ؛فهاتان صفتان لازمتان او هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان :"العلماء أمناء الله على خلقه"١ وقال فيهم :"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم اهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"٢.
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة، فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روى عنه عليه الصلاة والسلام انه قال :"أخوف ما اخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته"٣.
١ رواه ابن عساكر، والقضاعي عن انس رضي الله عنه[كنز العمال: ج١ص١٩٨١ (٢٨٦٧٥)، وقد أورد الإمام احمد: مسند الشاميين(١٧١١٨)..
٢ راجع تلخيص السنن للمنذري، وقد اخرجه عن ابي الدرداء الترمذي: العلم-ماجاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٠٦) واحمد (٢٠٧٢٣)والدارمي: المقدمة(٣٤٦). سنن أبي داود: العلم-الحث على طلب العلم..
٣ رواه احمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة(١٣٧)..
٢ راجع تلخيص السنن للمنذري، وقد اخرجه عن ابي الدرداء الترمذي: العلم-ماجاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٠٦) واحمد (٢٠٧٢٣)والدارمي: المقدمة(٣٤٦). سنن أبي داود: العلم-الحث على طلب العلم..
٣ رواه احمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة(١٣٧)..
﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾في هذا النص الكريم قراءتان : قراءة بفتح همزة"أن"وقراءة بكسر همزة"إن"١ وعلى القراءة الأولى يكون سياق النص الكريم هكذا : شهد الله انه لا إله إلا هو، شهد ان الدين عند الله الإسلام، فيكون قوله تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ؛في موضع البدل او عطف البيان من قوله تعالى :{ انه لا إله إلا هو ﴾وينتهي ذلك على ان معنى لا إله إلا الله هو الإسلام، وان الله يشهد بالإسلام وقد أقام الأدلة على صحته، وانه دينه الذي ارتضاه، وشهد بذلك الملائكة الأطهار بما اخبرهم به رب العالمين، وشهد به أولو العلم بما استنبطوه، فهو دين العقل، ودين الإخلاص، ودين الله. هذا على قراءة الفتح، اما قراءة الكسر فإن الكلام يكون مستأنفا مقررا لمعاني الآية السابقة وما اشتملت عليه من معاني الألوهية والعبودية والربوبية وعزة الله وحكمته ؛لأن دين الإسلام يقتضي الإيمان بكل هذا ؛فكان سائلا سأل : ما هو الدين الذي يقرر هذه الحقائق ؟فقال سبحانه : إن الدين عند الله الإسلام ؛وكلمة الدين تطلق بمعنى الجزاء، وبمعنى الطاعة والعبادة وبمعنى مجموعة التكليفات ؛وإني أميل على المعنى الثاني، و هو أن يكون الدين هنا بمعنى الطاعة والعبادة، والمعنى على ذلك : ان الطاعة والعبادة التي يقبلها الله هي الإسلام والإسلام هو الإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعدم الاستكبار على الحق في أي ناحية من نواحيه ؛وعلى ذلك يكون الإسلام هنا مكونا من عنصرين : الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والخضوع لذات الله وحده لا لأحد سواه. وقد يؤيد هذا المعنى قول الله تعالى بعد ذلك :﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾وقوله تعالى في آية أخرى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن... ١١٢ ﴾[ البقرة ] وعلى هذا يكون الإسلام هنا هو كمال الإيمان بالله جلت قدرته، وتوحيده. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان"٢.
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ عند الله ﴾واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام بالمعنى الذي ذكرناه ؛لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو ان الله لا يقبل غيره، فوق انه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد انه الدين الذي نزل على كل النبيين، وانه الأصل في كل شرائع السماء ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا غليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى... ١٣ ﴾[ الشورى ] فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليقة الثاني نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام.
﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وغن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات ولكن لوحظ مع ذلك ان كثيرين من اهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب انها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى او تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة ؛ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل غنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم :﴿ ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل غليهم من ربهم لكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون٦٦ ﴾[ المائدة ] وقد بين سبحانه ان سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾فالسبب هو البغي فيما بينهم ؛لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنافق لا يؤمن بشئ ولقد قال الإمام جعفر الصادق :"إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق"فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى :﴿ بغيا بينهم ﴾كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشئ وغن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة"﴿ إلا من بعد ما جاءهم ﴾إذ عن السياق هكذا : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه ؟ والجواب عن ذلك : ان هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار ؛إذ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع ان العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم ان يصلوا إلى الحق في المر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع ان العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم ان يعرفوا السائغ منه والحق ان العلم كالنور لا ينتفع فيه غلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لا بد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق ؛اما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون١٤ ﴾[ المطففين ]فأسباب العلم لا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لابد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها ؛ ذلك لن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا ؛ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، غذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية ؛ولذا قال :﴿ بغيا بينهم ﴾أي ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه ؛ولذا لم يقل سبحانه"أوتوا العلم"بل قال :﴿ جاءهم العلم ﴾إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لا تستفيد منه الأرض الطيبة، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى : من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى :﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا : ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن اهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة على ان اختلافهم لا محالة راجع إلى كفرهم، وان الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجة عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وانطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ عند الله ﴾واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام بالمعنى الذي ذكرناه ؛لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو ان الله لا يقبل غيره، فوق انه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد انه الدين الذي نزل على كل النبيين، وانه الأصل في كل شرائع السماء ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا غليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى... ١٣ ﴾[ الشورى ] فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليقة الثاني نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام.
﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وغن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات ولكن لوحظ مع ذلك ان كثيرين من اهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب انها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى او تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة ؛ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل غنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم :﴿ ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل غليهم من ربهم لكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون٦٦ ﴾[ المائدة ] وقد بين سبحانه ان سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾فالسبب هو البغي فيما بينهم ؛لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنافق لا يؤمن بشئ ولقد قال الإمام جعفر الصادق :"إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق"فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى :﴿ بغيا بينهم ﴾كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشئ وغن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة"﴿ إلا من بعد ما جاءهم ﴾إذ عن السياق هكذا : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه ؟ والجواب عن ذلك : ان هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار ؛إذ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع ان العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم ان يصلوا إلى الحق في المر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع ان العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم ان يعرفوا السائغ منه والحق ان العلم كالنور لا ينتفع فيه غلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لا بد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق ؛اما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون١٤ ﴾[ المطففين ]فأسباب العلم لا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لابد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها ؛ ذلك لن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا ؛ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، غذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية ؛ولذا قال :﴿ بغيا بينهم ﴾أي ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه ؛ولذا لم يقل سبحانه"أوتوا العلم"بل قال :﴿ جاءهم العلم ﴾إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لا تستفيد منه الأرض الطيبة، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى : من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى :﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا : ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن اهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة على ان اختلافهم لا محالة راجع إلى كفرهم، وان الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجة عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وانطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
١ قرأها الكسائي بفتح همزة إن، وقرأ الباقون بالكسر.[غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار-أبو العلاء الحسن الهمذاني ص٤٤٧]..
٢ رواه ابن ماجة: المقدمة-الإيمان(٦٤)عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه..
٢ رواه ابن ماجة: المقدمة-الإيمان(٦٤)عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه..
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد٢٠ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ٢١ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ومالهم من ناصرين٢٢
ذكر سبحانه اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، واختلافهم على أنبيائهم بعد ان جاءتهم البينات من ربهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى انها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين، بل أساسها محاولة طمس الحق، واللجاجة بالباطل ؛وذلك لن المجادلة قسمان : قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه، ودراسة الأمر من كل نواحيه، وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق، وهذا القسم محمود لا شك فيه. والقسم الثاني لا يقصد به طلب الحق، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا او باطلا، فهو يجادل ليغالب خصمه، لا ليهتدي إلى أقوم المناهج ؛ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من اهل الكتاب، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم... ١٤ ﴾[ النمل ] وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لا يقصد به رفع منار الحق او طلب الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه طلب إليهم ان يخلصوا في طلب الحقيقة كما اخلص هو ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾ المحاجة : ان يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق انه حجة بأن يقدم كل واحد حجته، ويطلب من الآخر ان يرد عليها او يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لا شك فيه. والمعنى : فغن حاجك اهل الكتاب، ومن لف لفهم، وسلك مثل طريقهم، فلا تسر معهم في لجاجتهم ؛فهم لا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لا يبغون بدله، ولا يريدون غيره ؛بل إنهم قد شاهت عقولهم، وتأشبت بالغرض المردى نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا تجارهم في هذه اللجاجة، واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى، وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك :﴿ فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾. والوجه المراد به الذات ؛لأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم ؛فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل. ومعنى أسلمت وجهي : أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى، فلا أفكر إلا في الله، ولا أطلب الأمر إلا لله، ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله. ومعنى قوله :﴿ ومن اتبعن ﴾أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا ؛ فقد اخلصوا في طلب الحق واسلموا وجوههم لله تعالى. وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد، وان محمدا وأتباعه لا يعبدون إلا الله، وفوق ذلك لا يطلبون أي امر من الأمور إلا لوجه الله تعالى ؛وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون٦٤ ﴾[ آل عمران ].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن، أن يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة ؛ولذا امر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك، فقال سبحانه :﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾.
أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ؛لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا، وإن كانوا مع ذلك قد نسوا حظا مما ذكروا به. والأميون هم المشركون، وجاء التعبير عن المشركين بالأميين ؛لأنهم أولا تغلب فيهم الأمية ؛إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب، وليست لهم علوم ؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم ؛نحن امة أمية، ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم. وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى ؛إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود أميين ولا يحترمونهم، ويقولون عنهم :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل... ٧٥ ﴾[ آل عمران ]. ومعنى النص الكريم : قل لأهل الكتاب والمشركين : إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم ؟
والاستفهام في قوله تعالى :﴿ أسلمتم ﴾للحض على ان يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول، وان يستمروا على اللجاجة في الجدل. وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو ان يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع، والحجج تزور، وإنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة، وقد قال في ذلك الزمخشري :"وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته : هل فهمتها ؟لا أم لك ! "ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص.
وعندي ان الاستفهام بمعنى الحض، والمعاني على أي حال متقاربة. ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن اخلصوا فقال :﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾والمعنى : إن أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية او جنسية، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق، ومن سار على الدرب وصل. وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون، وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا. وعندي ان نفس ذلك الإخلاص، وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق، فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق، فقد اهتدى حقا وصدقا ؛إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته، قمن وصل إليه فإنه لا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام.
هذا إن اخلصوا، وإن تولوا أي اعرضوا عن هذا الإخلاص، وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق، فما من حجة تهديهم، وما من آية ترشدهم، وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لا تجدي ؛ لأنهم مكابرون، والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارا وعنادا ولجاجة ؛فإن اعرضوا فأعرض عنهم، واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم، وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة. ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ والله بصير بالعباد ﴾.
والمعنى انه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد، يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها، وما يصلحها وما يجدبها ؟، وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا، ولا تريد رشادا، وعليم بمسالكهم في الدنيا، وأعمالهم التي اركستهم في ذلك الضلال المتكاثف، والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما، وعليم بما يصيبهم في الآخرة. فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم.
وقبل ان نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر ان جمع اهل الكتاب والأميين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عموم رسالته، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... ٢٨ ﴾[ سبأ ]ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"بعثت إلى الحمر والأسود"١ وقال صلى الله عليه وسلم :"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"٢ ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لا يسمع بي احد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اهل النار"٣.
ذكر سبحانه اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، واختلافهم على أنبيائهم بعد ان جاءتهم البينات من ربهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى انها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين، بل أساسها محاولة طمس الحق، واللجاجة بالباطل ؛وذلك لن المجادلة قسمان : قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه، ودراسة الأمر من كل نواحيه، وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق، وهذا القسم محمود لا شك فيه. والقسم الثاني لا يقصد به طلب الحق، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا او باطلا، فهو يجادل ليغالب خصمه، لا ليهتدي إلى أقوم المناهج ؛ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من اهل الكتاب، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم... ١٤ ﴾[ النمل ] وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لا يقصد به رفع منار الحق او طلب الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه طلب إليهم ان يخلصوا في طلب الحقيقة كما اخلص هو ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾ المحاجة : ان يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق انه حجة بأن يقدم كل واحد حجته، ويطلب من الآخر ان يرد عليها او يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لا شك فيه. والمعنى : فغن حاجك اهل الكتاب، ومن لف لفهم، وسلك مثل طريقهم، فلا تسر معهم في لجاجتهم ؛فهم لا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لا يبغون بدله، ولا يريدون غيره ؛بل إنهم قد شاهت عقولهم، وتأشبت بالغرض المردى نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا تجارهم في هذه اللجاجة، واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى، وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك :﴿ فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾. والوجه المراد به الذات ؛لأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم ؛فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل. ومعنى أسلمت وجهي : أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى، فلا أفكر إلا في الله، ولا أطلب الأمر إلا لله، ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله. ومعنى قوله :﴿ ومن اتبعن ﴾أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا ؛ فقد اخلصوا في طلب الحق واسلموا وجوههم لله تعالى. وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد، وان محمدا وأتباعه لا يعبدون إلا الله، وفوق ذلك لا يطلبون أي امر من الأمور إلا لوجه الله تعالى ؛وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون٦٤ ﴾[ آل عمران ].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن، أن يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة ؛ولذا امر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك، فقال سبحانه :﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾.
أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ؛لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا، وإن كانوا مع ذلك قد نسوا حظا مما ذكروا به. والأميون هم المشركون، وجاء التعبير عن المشركين بالأميين ؛لأنهم أولا تغلب فيهم الأمية ؛إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب، وليست لهم علوم ؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم ؛نحن امة أمية، ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم. وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى ؛إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود أميين ولا يحترمونهم، ويقولون عنهم :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل... ٧٥ ﴾[ آل عمران ]. ومعنى النص الكريم : قل لأهل الكتاب والمشركين : إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم ؟
والاستفهام في قوله تعالى :﴿ أسلمتم ﴾للحض على ان يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول، وان يستمروا على اللجاجة في الجدل. وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو ان يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع، والحجج تزور، وإنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة، وقد قال في ذلك الزمخشري :"وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته : هل فهمتها ؟لا أم لك ! "ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص.
وعندي ان الاستفهام بمعنى الحض، والمعاني على أي حال متقاربة. ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن اخلصوا فقال :﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾والمعنى : إن أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية او جنسية، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق، ومن سار على الدرب وصل. وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون، وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا. وعندي ان نفس ذلك الإخلاص، وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق، فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق، فقد اهتدى حقا وصدقا ؛إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته، قمن وصل إليه فإنه لا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام.
هذا إن اخلصوا، وإن تولوا أي اعرضوا عن هذا الإخلاص، وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق، فما من حجة تهديهم، وما من آية ترشدهم، وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لا تجدي ؛ لأنهم مكابرون، والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارا وعنادا ولجاجة ؛فإن اعرضوا فأعرض عنهم، واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم، وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة. ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ والله بصير بالعباد ﴾.
والمعنى انه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد، يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها، وما يصلحها وما يجدبها ؟، وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا، ولا تريد رشادا، وعليم بمسالكهم في الدنيا، وأعمالهم التي اركستهم في ذلك الضلال المتكاثف، والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما، وعليم بما يصيبهم في الآخرة. فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم.
وقبل ان نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر ان جمع اهل الكتاب والأميين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عموم رسالته، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... ٢٨ ﴾[ سبأ ]ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"بعثت إلى الحمر والأسود"١ وقال صلى الله عليه وسلم :"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"٢ ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لا يسمع بي احد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اهل النار"٣.
١ رواه الدارمي: السير-الغنيمة لا تحل لحد قبلنا(٢٣٥٨)، واحمد: مسند الأنصار(٢٠٣٥٢)..
٢ هذه الرواية تفسر قوله عليه الصلاة والسلام:"بعثت إلى الأحمر والأسود"يعني:"إلى الناي كافة"، وبالأول رواها مسلم في صحيحه باللفظ المشار إليه في التخريج السابق. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة فيها(٨١٠)، النسائي: الغسل والتيمم(٤٢٩)، أحمد: باقي المكثرين (١٣٧٤٥)، والدارمي الصلاة(١٣٥٢)..
٣ رواه مسلم: الإيمان-وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(٢١٨)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٧٨٥٦)..
٢ هذه الرواية تفسر قوله عليه الصلاة والسلام:"بعثت إلى الأحمر والأسود"يعني:"إلى الناي كافة"، وبالأول رواها مسلم في صحيحه باللفظ المشار إليه في التخريج السابق. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة فيها(٨١٠)، النسائي: الغسل والتيمم(٤٢٩)، أحمد: باقي المكثرين (١٣٧٤٥)، والدارمي الصلاة(١٣٥٢)..
٣ رواه مسلم: الإيمان-وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(٢١٨)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٧٨٥٦)..
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ﴾هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت تلك العمال للدلالة على انهم لا يطلبون الحق، وغنما يلجون في الباطل، وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة ان يقتلوا الداعين إلى الحق، فقتلوا بعض النبيين، وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط. وقد ذكر سبحانه لهم وصفا، ثم ذكر من أعمالهم عملين يتصلان بوصفهم ؛أما الوصف فهو انهم يكفرون بآيات الله، أي يكفرون بالحجج والبينات المثبتة لوحدانية الله، ولرسالة رسله وصدق دعواتهم، فهم لا يكفرون فقط بالله، بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة، وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون، لا يهتدون إلى الحق، ويغلقون عقولهم فلا يمكن ان تصل إليها دعوة الحق، ويمنع الغرض مداركهم من ان تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم محاجة، فهم قوم بور، كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم، وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم، وصم آذانهم عن ان تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما : قتل النبيين، وقتل الدعاة إلى القسط ؛والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شئ، وهؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين ؟ والجواب عن ذلك انهم استهانوا، ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء، كما قال تعالى :﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ٣٢ ﴾[ المائدة ].
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
١ ذكره القرطبي في تفسيره وقال روي عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"وذكره بتمامه.[تفسير القرطبي: سورة آل عمران(٢١)]. وفي كنز العمال(٥٥٨٣)..
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ﴾هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت تلك العمال للدلالة على انهم لا يطلبون الحق، وغنما يلجون في الباطل، وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة ان يقتلوا الداعين إلى الحق، فقتلوا بعض النبيين، وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط. وقد ذكر سبحانه لهم وصفا، ثم ذكر من أعمالهم عملين يتصلان بوصفهم ؛أما الوصف فهو انهم يكفرون بآيات الله، أي يكفرون بالحجج والبينات المثبتة لوحدانية الله، ولرسالة رسله وصدق دعواتهم، فهم لا يكفرون فقط بالله، بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة، وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون، لا يهتدون إلى الحق، ويغلقون عقولهم فلا يمكن ان تصل إليها دعوة الحق، ويمنع الغرض مداركهم من ان تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم محاجة، فهم قوم بور، كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم، وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم، وصم آذانهم عن ان تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما : قتل النبيين، وقتل الدعاة إلى القسط ؛والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شئ، وهؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين ؟ والجواب عن ذلك انهم استهانوا، ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء، كما قال تعالى :﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ٣٢ ﴾[ المائدة ].
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
١ ذكره القرطبي في تفسيره وقال روي عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"وذكره بتمامه.[تفسير القرطبي: سورة آل عمران(٢١)]. وفي كنز العمال(٥٥٨٣)..
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون٢٣ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون٢٤ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون٢٥ ﴾
قد بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عن ماضي اليهود من اهل الكتاب انهم اختلفوا بغيا بينهم مع ان أسباب العلم متوافرة بين أيديهم، ولكن البغي ومجاوزة الحد إن سكنا في رؤوس قوم اذهب عنهم الهداية، وتحكمت فيهم الغواية مهما تكن أسباب العلم قائمة ؛ وبين سبحانه أيضا انهم قوم غير مخلصين في طلب الحقيقة، وأنهم لو أخلصوا لوصلوا، وان محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم منبعثة عن الهوى والغرض. وفي هذه الآيات يبين سبحانه صورة حسية عن مناقشتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛يكون الحق محسوسا بين أيديهم ويعرضون بعد ان تتبين الحجة ناصعة.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون على كتاب الله ليحكم بينهم ﴾هذه الآية نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق فأعرضوا، ودعاهم ليحكم بينهم كتاب الله فأعرضوا، ولكن ما كتاب الله الذي دعاهم إليه ؟روى في ذلك ابن جرير الطبري روايتين :
إحداهما : ان المراد من كتاب الله التوراة، فهي في أصلها كتاب من عند الله، وغن حرفوه وغيروه ؛ويروى في ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مدراس اليهود، وهو بيت تدارسهم، فدعاهم إلى الله فقال قائلهم له : على أي دين انت يا محمد ؟قال : على ملة إبراهيم، فقال القائل : إن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :"هلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم"هذه هي الرواية الأولى. وإطلاق كلمة﴿ كتاب الله ﴾على التوراة باعتبار أصلها، وباعتبار ان الجزء الذي كان التحاكم إليه فيها هو الجزء الباقي الذي لم يدخله تحريف.
والرواية الثانية : أن كتاب الله هو القرآن ؛وذلك لن طائفة من اليهود تحاكموا غليه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بحكم القرآن، فلما تبين لهم الحكم وانه على غير هواهم اعرضوا وناوأ بجانبهم عن سماع قول الحق والإنصات إليه.
وأياما كان الكتاب المشار إليه في الآية فالمر دليل على انهم لا يذعنون لحق ولا يهتدون بهدى، بل هم قوم غلبت شقوتهم، وغلب هواهم على تفكيرهم وطمس الله على أبصارهم وبصائرهم، فهم لا يهتدون، ولا ترجى منهم هداية، فلا تعجب إذا لم يؤمنوا.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾هذا تعبير قرآني معناه لقد رأيت وتحققت وعجبت من امر أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف يدعون إلى حكم الحق فيتولون ويعرضون. والاستفهام داخل على الفعل المنفي، وهو استفهام إنكاري تعجبي، فهو نفي دخل على فعل منفى، ونفى النفي إثبات، إذ إن نفى عدم الرأي معناه ثبوت الرؤية، وسيق الكلام على ذلك النحو لتأكيد المر، وللتعجب، ولبيان انه ما كان يصح ان يقع، ولكنه وقع.
وقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾يشير إلى أمرين :
أولهما : انهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لا يأخذون به ؛فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو انهم تلقوا كتاب التوراة واخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان.
وثانيهما : انهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه، فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه، وليس كل الكتاب.
وعبر هنا بقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾وفي الآيات السابقة قال سبحانه :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]وذلك لن الكلام هنا في الذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عندهم قطعا إلا حظ من الكتاب، ولم يكن عندهم كل الكتاب ؛أما في الآيات السابقة فقد كان الكلام في الذين عاصروا النبيين السابقين من بني إسرائيل، وقد كان عندهم الكتاب كله، ومع ذلك ضلوا على علم، وذلك لسيطرة الهوى على قلوبهم، وغلبته على نفوسهم، فبغوا وطغوا، وقتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس.
دعي أولئك اليهود إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، وقد كانت النتيجة انهم لم يذعنوا للحق كما قررنا، بل تولوا عنه، او تولى فريق منهم عن الحق، ولذا قال تعالى :
﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾أصل تولى الأمر او الشخص الإقبال عليه، والانصراف إليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ومن يتولهم منكم فغنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]أي من يتخذ منهم ولاية ونصرة، ويقبل عليهم فهو منهم. وإذا عدي هذا الفعل ب"عن"أو قدرت في القول كانت بمعنى الانصراف عن المر وعدم الإقبال عليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين٦٣ ﴾[ آل عمران ]وقوله تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم٣٨ ﴾[ محمد ]. والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل، أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم، بدل ان يولوه قلوبهم.
وعبر هنا بثم التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم ؛وذلك لنهم ليسوا أميين او جاهلين فيعذروا، بل هم قوم اهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل ان يخضعوا ويذعنوا اعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون، فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي، وما هو كائن، سببا في التعبير بثم المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا او معنى.
وقوله تعالى :﴿ وهم معرضون ﴾قال بعض المفسرين : غنه تأكيد لمعنى التولي، والحق انها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين :
أولهما : ان حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليتهم غذ دعوتهم على ان يحكم كتاب الله بينهم امر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
الأمر الثاني : ان تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون على كتاب الله تعالى ليحكم بينهم.
والقرآن الكريم ينصف الحق في إخباره، كما هو الحق في ذاته ؛ولذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولي كان من فريق منهم، ولم يكن من كلهم ؛وهذا كقوله تعالى :﴿ منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون٦٦ ﴾[ المائدة ].
قد بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عن ماضي اليهود من اهل الكتاب انهم اختلفوا بغيا بينهم مع ان أسباب العلم متوافرة بين أيديهم، ولكن البغي ومجاوزة الحد إن سكنا في رؤوس قوم اذهب عنهم الهداية، وتحكمت فيهم الغواية مهما تكن أسباب العلم قائمة ؛ وبين سبحانه أيضا انهم قوم غير مخلصين في طلب الحقيقة، وأنهم لو أخلصوا لوصلوا، وان محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم منبعثة عن الهوى والغرض. وفي هذه الآيات يبين سبحانه صورة حسية عن مناقشتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛يكون الحق محسوسا بين أيديهم ويعرضون بعد ان تتبين الحجة ناصعة.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون على كتاب الله ليحكم بينهم ﴾هذه الآية نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق فأعرضوا، ودعاهم ليحكم بينهم كتاب الله فأعرضوا، ولكن ما كتاب الله الذي دعاهم إليه ؟روى في ذلك ابن جرير الطبري روايتين :
إحداهما : ان المراد من كتاب الله التوراة، فهي في أصلها كتاب من عند الله، وغن حرفوه وغيروه ؛ويروى في ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مدراس اليهود، وهو بيت تدارسهم، فدعاهم إلى الله فقال قائلهم له : على أي دين انت يا محمد ؟قال : على ملة إبراهيم، فقال القائل : إن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :"هلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم"هذه هي الرواية الأولى. وإطلاق كلمة﴿ كتاب الله ﴾على التوراة باعتبار أصلها، وباعتبار ان الجزء الذي كان التحاكم إليه فيها هو الجزء الباقي الذي لم يدخله تحريف.
والرواية الثانية : أن كتاب الله هو القرآن ؛وذلك لن طائفة من اليهود تحاكموا غليه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بحكم القرآن، فلما تبين لهم الحكم وانه على غير هواهم اعرضوا وناوأ بجانبهم عن سماع قول الحق والإنصات إليه.
وأياما كان الكتاب المشار إليه في الآية فالمر دليل على انهم لا يذعنون لحق ولا يهتدون بهدى، بل هم قوم غلبت شقوتهم، وغلب هواهم على تفكيرهم وطمس الله على أبصارهم وبصائرهم، فهم لا يهتدون، ولا ترجى منهم هداية، فلا تعجب إذا لم يؤمنوا.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾هذا تعبير قرآني معناه لقد رأيت وتحققت وعجبت من امر أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف يدعون إلى حكم الحق فيتولون ويعرضون. والاستفهام داخل على الفعل المنفي، وهو استفهام إنكاري تعجبي، فهو نفي دخل على فعل منفى، ونفى النفي إثبات، إذ إن نفى عدم الرأي معناه ثبوت الرؤية، وسيق الكلام على ذلك النحو لتأكيد المر، وللتعجب، ولبيان انه ما كان يصح ان يقع، ولكنه وقع.
وقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾يشير إلى أمرين :
أولهما : انهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لا يأخذون به ؛فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو انهم تلقوا كتاب التوراة واخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان.
وثانيهما : انهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه، فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه، وليس كل الكتاب.
وعبر هنا بقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾وفي الآيات السابقة قال سبحانه :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]وذلك لن الكلام هنا في الذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عندهم قطعا إلا حظ من الكتاب، ولم يكن عندهم كل الكتاب ؛أما في الآيات السابقة فقد كان الكلام في الذين عاصروا النبيين السابقين من بني إسرائيل، وقد كان عندهم الكتاب كله، ومع ذلك ضلوا على علم، وذلك لسيطرة الهوى على قلوبهم، وغلبته على نفوسهم، فبغوا وطغوا، وقتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس.
دعي أولئك اليهود إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، وقد كانت النتيجة انهم لم يذعنوا للحق كما قررنا، بل تولوا عنه، او تولى فريق منهم عن الحق، ولذا قال تعالى :
﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾أصل تولى الأمر او الشخص الإقبال عليه، والانصراف إليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ومن يتولهم منكم فغنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]أي من يتخذ منهم ولاية ونصرة، ويقبل عليهم فهو منهم. وإذا عدي هذا الفعل ب"عن"أو قدرت في القول كانت بمعنى الانصراف عن المر وعدم الإقبال عليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين٦٣ ﴾[ آل عمران ]وقوله تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم٣٨ ﴾[ محمد ]. والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل، أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم، بدل ان يولوه قلوبهم.
وعبر هنا بثم التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم ؛وذلك لنهم ليسوا أميين او جاهلين فيعذروا، بل هم قوم اهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل ان يخضعوا ويذعنوا اعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون، فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي، وما هو كائن، سببا في التعبير بثم المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا او معنى.
وقوله تعالى :﴿ وهم معرضون ﴾قال بعض المفسرين : غنه تأكيد لمعنى التولي، والحق انها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين :
أولهما : ان حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليتهم غذ دعوتهم على ان يحكم كتاب الله بينهم امر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
الأمر الثاني : ان تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون على كتاب الله تعالى ليحكم بينهم.
والقرآن الكريم ينصف الحق في إخباره، كما هو الحق في ذاته ؛ولذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولي كان من فريق منهم، ولم يكن من كلهم ؛وهذا كقوله تعالى :﴿ منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون٦٦ ﴾[ المائدة ].
﴿ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾في هذه الآية يبين سبحانه السبب في انهم لا يقبلون على الخير ولا يعملون بالحق، وهو اعتقاد انهم لن يعاقبوا عقابا أليما، ولن يعذبوا عذابا شديدا ؛وذلك لما ركز في نفوسهم من انهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم لا يحاسبون غلا بمقدار ما يحاسب الأب ولده المدلل، وحبيبه المختار، إذا رأى مخالفة او عنادا فإنه لا يجافيه ولا يعاقبه، ولكن يقربه ويعاتبه ؛فمعنى﴿ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ : ذلك الإعراض عن الحق، والتولي عن الداعي إليه، واللجاجة في الباطل ؛بل المراد الاستخفاف بالعقاب والاستهانة به، وعدم الالتفات إلى وعيد الله، وزعمهم الباطل انهم ينالون ما وعد به من ثواب ونعيم مقيم من غير عمل يعملونه، ولا كسب يكسبونه، فهم بهذا قد استناموا إلى الأماني وغرتهم الأوهام.
ولماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق ؟الجواب عن ذلك ان الحق يصل غليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة : إما بإشراق النفس، واستقامة القلب، وسلامة الفكر من الهوى والغرض، وذلك شان من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم ؛وغما شكر للنعمة، ووفاء لحق المنعم، وذلك شان عباد الله الخيار ؛وغما خوف العقاب والحساب، وذلك شان المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني، فلم إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا. وغن المؤمن يجب ان يصون نفسه دائما بخوف العقاب، وان يغلب الخوف على الرجاء ؛فإنه عن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة على النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأر كست في السيئات، وارتكبت الموبقات ؛ وذلك شان كثيرين من المنتسبين للأديان، وشان كثيرين من المسلمين في هذه الأيام. وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر، ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم انهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال الله تعالى :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ام تقولون على الله ما لا تعلمون٨٠بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون٨١ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون٨٢ ﴾[ البقرة ].
﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك، والغرة : الغفلة والغفوة. ومعنى﴿ وغرهم فيد دينهم ما كانوا يفترون ﴾ : أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين.
وإن الأوهام التي ترد على النفس وتستولي على القلب تدفع على الضلال، وكذلك شان هؤلاء اليهود : تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، وابغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لا يتصور ان يهوديا احب غير يهودي لغير مآرب من مآرب الدنيا، او غاية من غاياتها ؛وحتى بقد حسبوا ان الديانة جنس، واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم، فاعتقدوا ما لا يعتقد ؛ اعتقدوا انهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، واعتقدوا ان الجزاء بالجنس لا بالعمل ؛وهذا ما يفيده قوله تعالى :﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل.
ولماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق ؟الجواب عن ذلك ان الحق يصل غليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة : إما بإشراق النفس، واستقامة القلب، وسلامة الفكر من الهوى والغرض، وذلك شان من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم ؛وغما شكر للنعمة، ووفاء لحق المنعم، وذلك شان عباد الله الخيار ؛وغما خوف العقاب والحساب، وذلك شان المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني، فلم إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا. وغن المؤمن يجب ان يصون نفسه دائما بخوف العقاب، وان يغلب الخوف على الرجاء ؛فإنه عن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة على النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأر كست في السيئات، وارتكبت الموبقات ؛ وذلك شان كثيرين من المنتسبين للأديان، وشان كثيرين من المسلمين في هذه الأيام. وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر، ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم انهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال الله تعالى :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ام تقولون على الله ما لا تعلمون٨٠بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون٨١ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون٨٢ ﴾[ البقرة ].
﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك، والغرة : الغفلة والغفوة. ومعنى﴿ وغرهم فيد دينهم ما كانوا يفترون ﴾ : أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين.
وإن الأوهام التي ترد على النفس وتستولي على القلب تدفع على الضلال، وكذلك شان هؤلاء اليهود : تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، وابغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لا يتصور ان يهوديا احب غير يهودي لغير مآرب من مآرب الدنيا، او غاية من غاياتها ؛وحتى بقد حسبوا ان الديانة جنس، واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم، فاعتقدوا ما لا يعتقد ؛ اعتقدوا انهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، واعتقدوا ان الجزاء بالجنس لا بالعمل ؛وهذا ما يفيده قوله تعالى :﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل.
ولقد رد الله سبحانه وتعالى زعمهم بإثبات ان الثواب والعقاب بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾كيف : يستفهم بها عن الحال، أي ما حالهم وما شانهم إذا جمعهم الله رب العالمين/ليوم لا ريب فيه ؟لا شك انهم يفاجئون بذهاب غرورهم الذي اغتروه، وضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذي أحدثوه فدلاهم في غرورهم ؛وإنه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت، وهم لا يظلمون أي لا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، وبالشر السوء.
وفي الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير غليها واحدا واحدا ؛لأن في بيانها توجيها إلى معان دقيقة في النص الكريم :
أول هذه الأمور : الفاء في قوله تعالى :﴿ فكيف ﴾فإنها هي ما تسمى فاء الإفصاح، وهي التي تفصح عن شرط مقدر، أي انه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات في اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التي لم تقدروها وطمس عليكم فلم تعلموها ؟.
وثاني هذه المباحث اللفظية قوله تعالى :﴿ جمعناهم ﴾فإن التعبير بلفظ الجمع فيه إشارة إلى معنى المساواة التامة، وانه لا فضل لجنس على جنس، وإضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكي هذه المساواة ؛لأنه خالق الجميع، ورب الجميع، وجامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء في الأصل والتكوين وفي الربوبية والحفظ، وفي الجمع يوم القيامة فيكونون سواء في الحساب والعقاب والثواب، وكل وعمله.
وثالث هذه الأمور : تنكير"يوم"في قوله تعالى :﴿ ليوم لا ريب فيه ﴾فإن ذلك التنكير للتهويل، وبيان عظم شانه وانه يوم عبوس، وانه مع شدته وشدة الحساب لا ريب في وجوده ولا شك. وذكر قوله :﴿ لا ريب فيه ﴾في هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة في دين الله، الخارجة على كل أديان السماء، والباقون عن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
ورابع هذه المباحث اللفظية في التعبير بقوله تعالى :﴿ وفيت كل نفس ما كسبت ﴾إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكان المثاب يوفى عمله، ولا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما. وقد أكد سبحانه وتعالى معنى العدالة وان كل شئ بالقسطاس المستقيم بقوله :﴿ وهم لا يظلمون ﴾أي سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، ولا ظلم، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم هو العدل. وغن سبب ضلال اليهود انهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، وجنبنا الاغترار في ديننا، إنك سميع الدعاء.
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾كيف : يستفهم بها عن الحال، أي ما حالهم وما شانهم إذا جمعهم الله رب العالمين/ليوم لا ريب فيه ؟لا شك انهم يفاجئون بذهاب غرورهم الذي اغتروه، وضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذي أحدثوه فدلاهم في غرورهم ؛وإنه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت، وهم لا يظلمون أي لا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، وبالشر السوء.
وفي الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير غليها واحدا واحدا ؛لأن في بيانها توجيها إلى معان دقيقة في النص الكريم :
أول هذه الأمور : الفاء في قوله تعالى :﴿ فكيف ﴾فإنها هي ما تسمى فاء الإفصاح، وهي التي تفصح عن شرط مقدر، أي انه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات في اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التي لم تقدروها وطمس عليكم فلم تعلموها ؟.
وثاني هذه المباحث اللفظية قوله تعالى :﴿ جمعناهم ﴾فإن التعبير بلفظ الجمع فيه إشارة إلى معنى المساواة التامة، وانه لا فضل لجنس على جنس، وإضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكي هذه المساواة ؛لأنه خالق الجميع، ورب الجميع، وجامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء في الأصل والتكوين وفي الربوبية والحفظ، وفي الجمع يوم القيامة فيكونون سواء في الحساب والعقاب والثواب، وكل وعمله.
وثالث هذه الأمور : تنكير"يوم"في قوله تعالى :﴿ ليوم لا ريب فيه ﴾فإن ذلك التنكير للتهويل، وبيان عظم شانه وانه يوم عبوس، وانه مع شدته وشدة الحساب لا ريب في وجوده ولا شك. وذكر قوله :﴿ لا ريب فيه ﴾في هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة في دين الله، الخارجة على كل أديان السماء، والباقون عن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
ورابع هذه المباحث اللفظية في التعبير بقوله تعالى :﴿ وفيت كل نفس ما كسبت ﴾إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكان المثاب يوفى عمله، ولا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما. وقد أكد سبحانه وتعالى معنى العدالة وان كل شئ بالقسطاس المستقيم بقوله :﴿ وهم لا يظلمون ﴾أي سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، ولا ظلم، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم هو العدل. وغن سبب ضلال اليهود انهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، وجنبنا الاغترار في ديننا، إنك سميع الدعاء.
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير٢٦ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب٢٧ ﴾
بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم، وذكر انهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد، واعتزازه بقهره لشعبه، وطغيانه في ملكه إذ يقول :﴿ و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون٥١ ﴾[ الزخرف ]. ثم أشار سبحانه على طغيان اهل الكتاب، واختلافهم على النبيين، وقتلهم بعض الأنبياء، وقتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، وما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد ان تبين لهم إلا لأن حب السلطان والغلب قد استولى عليهم واستغرق نفوسهم، ولذلك كانوا إذا حاجهم النبي صلى الله عليه وسلم او حاجوه نظروا في محاجتهم على المر من وراء ذلك الغرض، وتلك الشهوة ؛وقد امر الله سبحانه نبيه بان يقابل هواهم بإعلان إخلاصه في طلب الحق، وإسلامه وجهه لله سبحانه !وفي هذه الآية :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ﴾إشارة إلى الإخلاص للذات العلية، وطلب الحق إرضاء لله، لا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى السلطان الحق من مالك الملك.
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق، أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة ؛فإنها الحق في هذا الوجود، ولا يعرف مؤمن سواها ؛والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة على الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذوات السلطان، يؤتيه ويعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء ؛أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده. والملك هنا السلطان، وفسره بعضهم بالنبوة، وعبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار ان الملك الحق لازم من لوازمها ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤ ﴾ [ النساء ] والظاهر ان المراد هو السلطان. وقوله تعالى :﴿ اللهم ﴾نداء على الذات العلية بلفظ الجلالة، والميم المشددة في الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل وسيبويه. وقال بعض الكوفيين : عن الميم المشددة هي"أم"بمعنى قصد، أي أقصدك يا مولاي بضراعتي، وأنت صاحب السلطان.
ولكن خطا ذلك النظر الزجاج، وقرر ان معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء والدعاء. وقوله :﴿ مالك الملك ﴾نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء، أي يا مالك الملك، فكان في النص دعاءين : دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، وقد اشتمل على كل معاني العبودية، والتنزيه والتقديس، والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية ؛والدعاء الثاني لمالك الملك، وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية، والضعف امام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته.
وقلنا عن قوله تعالى :﴿ مالك الملك ﴾أبلغ من صاحب الملك او صاحب السلطان ؛لن من يملك شان امة لا يملك ملكها، ولكنه يستولي على ملكها ويده فيها ليست يد ملك ولكنها يد عارية ؛اما سلطان الله تعالى ذي الملكوت فسلطان مالك متصرف في السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، ويمنعه ممن يشاء، ويسترد عاريته ممن يشاء ؛ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾.
وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما :
أولهما : التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى :﴿ وتنزع الملك ممن تشاء ﴾فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة على انه يأخذه منه بعد ان استقر فيه وثبت له وظن انه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب، ويأخذ ملكه اخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة على ان من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا، بل لابد ان يمكن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه "ومن مأمنه يؤتى الحذر". وفي كثير من الحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه.
الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه : ان الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سن من نظم في هذا الوجود، وما تسير عليه أعماله في خلقه، لا يعطي الملك غلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه، ويقصد به رفعة قومه، ولا ينزعه إلا ممن يسئ ويطغى، ويفهم ان الملك متعة تشتهى وليس تبعات تؤدى، فينزعه منه غيره، وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس : من لا يسوس الملك يخلعه، ومن حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
وكلمة"الملك"ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة، إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغلب، أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة، ام ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان. وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة، فقال :
﴿ وتعز من تشاء ﴾العزة ليست مرادفة للسلطان، وإن كان الأصل في كلمة عز معناها غلب ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وعزني في الخطاب٢٣٢ ﴾[ ص ] ولكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك في معنى نفسي، وهو عدم الخضوع إلا للحق، والتسامي عن الخضوع الذي ينافي المروءة والخلق الكريم، وقد يكون ذلك في ضعيف في بدنه مستضعف عند الناس، مادام قد علا عن الخضوع غلا لذات الله تعالى ؛وغن صهيبا وآل ياسر، وخباب بن الأرت وغيرهم، كانوا وهم المستضعفون في مكة الأعزاء في انفسهم ؛لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة غلا مع الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده ؛ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء. ولما قال المنافقون في شأن المؤمنون :﴿ ليخرجن العز منها الأذل... ٨ ﴾[ المنافقون ]. نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه :﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون٨ ﴾[ المنافقون ]. وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره ؟فهو قد سلب كل شئ حتى قلبه ولسانه.
ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطي العزة غلا لمن خلص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة، فالشهوات مردية، ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته ؛فإن العزة تبتدئ من النفس، فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا ؛ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة، وكان الذليل وإن ظهر انه العزيز ؛ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم :"أذل الحرص أعناق الرجال".
﴿ بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾هذا تسليم بأن ما يفعله الله تعالى دائما خير، وأن الخير كله بيده سبحانه وقوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾معناه إنك وحدك الذي تملك الخير كله، ف"ال" في قوله"الخير" للاستغراق الشامل ؛فكل خير هو بيد الله سبحانه. والتعبير ب"يد"هنا إشارة إلى الملكية التامة لسيرة، فهو استعارة تمثيلية، فقد قرب سبحانه-ولله تعالى المثل الأعلى-لهاننا معنى سلطانه وكمال ملكه لكل الأمور، بحل من يكون المر في يده وقبضته، ولا سلطان لأحد من الناس فيما بيده، وفي قبضته. ومعنى قوله تعالى :﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾شمول قدرته على الأشياء كلها : ما يتخذه الناس سببا للخير عنهم، وما يتخذونه سببا للشر عندهم. وفي الجمع بين قوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾و﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾إشارة إلى أمرين :
أولهما : أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير، فلا يقال إن بيده الخير والشر، فإن الشر معنى نسبي
للعبيد، ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه :"إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه".
الأمر الثاني : إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب، إلا النفع فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما.
و أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾فكل ما في ا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكن الله تعلى في ه الأرض. وإنه يلاحظ دائما ان الشر نسبي للناس، ولا يصح ان يقال في فعل الله إلا انه خير.
بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم، وذكر انهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد، واعتزازه بقهره لشعبه، وطغيانه في ملكه إذ يقول :﴿ و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون٥١ ﴾[ الزخرف ]. ثم أشار سبحانه على طغيان اهل الكتاب، واختلافهم على النبيين، وقتلهم بعض الأنبياء، وقتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، وما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد ان تبين لهم إلا لأن حب السلطان والغلب قد استولى عليهم واستغرق نفوسهم، ولذلك كانوا إذا حاجهم النبي صلى الله عليه وسلم او حاجوه نظروا في محاجتهم على المر من وراء ذلك الغرض، وتلك الشهوة ؛وقد امر الله سبحانه نبيه بان يقابل هواهم بإعلان إخلاصه في طلب الحق، وإسلامه وجهه لله سبحانه !وفي هذه الآية :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ﴾إشارة إلى الإخلاص للذات العلية، وطلب الحق إرضاء لله، لا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى السلطان الحق من مالك الملك.
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق، أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة ؛فإنها الحق في هذا الوجود، ولا يعرف مؤمن سواها ؛والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة على الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذوات السلطان، يؤتيه ويعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء ؛أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده. والملك هنا السلطان، وفسره بعضهم بالنبوة، وعبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار ان الملك الحق لازم من لوازمها ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤ ﴾ [ النساء ] والظاهر ان المراد هو السلطان. وقوله تعالى :﴿ اللهم ﴾نداء على الذات العلية بلفظ الجلالة، والميم المشددة في الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل وسيبويه. وقال بعض الكوفيين : عن الميم المشددة هي"أم"بمعنى قصد، أي أقصدك يا مولاي بضراعتي، وأنت صاحب السلطان.
ولكن خطا ذلك النظر الزجاج، وقرر ان معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء والدعاء. وقوله :﴿ مالك الملك ﴾نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء، أي يا مالك الملك، فكان في النص دعاءين : دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، وقد اشتمل على كل معاني العبودية، والتنزيه والتقديس، والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية ؛والدعاء الثاني لمالك الملك، وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية، والضعف امام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته.
وقلنا عن قوله تعالى :﴿ مالك الملك ﴾أبلغ من صاحب الملك او صاحب السلطان ؛لن من يملك شان امة لا يملك ملكها، ولكنه يستولي على ملكها ويده فيها ليست يد ملك ولكنها يد عارية ؛اما سلطان الله تعالى ذي الملكوت فسلطان مالك متصرف في السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، ويمنعه ممن يشاء، ويسترد عاريته ممن يشاء ؛ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾.
وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما :
أولهما : التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى :﴿ وتنزع الملك ممن تشاء ﴾فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة على انه يأخذه منه بعد ان استقر فيه وثبت له وظن انه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب، ويأخذ ملكه اخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة على ان من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا، بل لابد ان يمكن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه "ومن مأمنه يؤتى الحذر". وفي كثير من الحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه.
الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه : ان الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سن من نظم في هذا الوجود، وما تسير عليه أعماله في خلقه، لا يعطي الملك غلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه، ويقصد به رفعة قومه، ولا ينزعه إلا ممن يسئ ويطغى، ويفهم ان الملك متعة تشتهى وليس تبعات تؤدى، فينزعه منه غيره، وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس : من لا يسوس الملك يخلعه، ومن حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
وكلمة"الملك"ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة، إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغلب، أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة، ام ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان. وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة، فقال :
﴿ وتعز من تشاء ﴾العزة ليست مرادفة للسلطان، وإن كان الأصل في كلمة عز معناها غلب ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وعزني في الخطاب٢٣٢ ﴾[ ص ] ولكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك في معنى نفسي، وهو عدم الخضوع إلا للحق، والتسامي عن الخضوع الذي ينافي المروءة والخلق الكريم، وقد يكون ذلك في ضعيف في بدنه مستضعف عند الناس، مادام قد علا عن الخضوع غلا لذات الله تعالى ؛وغن صهيبا وآل ياسر، وخباب بن الأرت وغيرهم، كانوا وهم المستضعفون في مكة الأعزاء في انفسهم ؛لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة غلا مع الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده ؛ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء. ولما قال المنافقون في شأن المؤمنون :﴿ ليخرجن العز منها الأذل... ٨ ﴾[ المنافقون ]. نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه :﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون٨ ﴾[ المنافقون ]. وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره ؟فهو قد سلب كل شئ حتى قلبه ولسانه.
ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطي العزة غلا لمن خلص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة، فالشهوات مردية، ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته ؛فإن العزة تبتدئ من النفس، فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا ؛ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة، وكان الذليل وإن ظهر انه العزيز ؛ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم :"أذل الحرص أعناق الرجال".
﴿ بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾هذا تسليم بأن ما يفعله الله تعالى دائما خير، وأن الخير كله بيده سبحانه وقوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾معناه إنك وحدك الذي تملك الخير كله، ف"ال" في قوله"الخير" للاستغراق الشامل ؛فكل خير هو بيد الله سبحانه. والتعبير ب"يد"هنا إشارة إلى الملكية التامة لسيرة، فهو استعارة تمثيلية، فقد قرب سبحانه-ولله تعالى المثل الأعلى-لهاننا معنى سلطانه وكمال ملكه لكل الأمور، بحل من يكون المر في يده وقبضته، ولا سلطان لأحد من الناس فيما بيده، وفي قبضته. ومعنى قوله تعالى :﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾شمول قدرته على الأشياء كلها : ما يتخذه الناس سببا للخير عنهم، وما يتخذونه سببا للشر عندهم. وفي الجمع بين قوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾و﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾إشارة إلى أمرين :
أولهما : أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير، فلا يقال إن بيده الخير والشر، فإن الشر معنى نسبي
للعبيد، ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه :"إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه".
الأمر الثاني : إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب، إلا النفع فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما.
و أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾فكل ما في ا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكن الله تعلى في ه الأرض. وإنه يلاحظ دائما ان الشر نسبي للناس، ولا يصح ان يقال في فعل الله إلا انه خير.
ولقد بين سبحانه مظاهر قدرته في الكون المحسوس فقال سبحانه مبتدئا بآياته جل شأنه في الليل والنهار :
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ا مظهر حسي لقدرة الله تعالى في ا الكون. تولج معناها تدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل. وفقد فسره الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا، ولكن كيف نسمي ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل ؟والجواب عن ذلك : أن الليل لا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، ويبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع ؛وكذلك لا يجئ الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجئ الغروب، ثم تجئ العشية، فيكون ظلام وتمحى آية النهار.
وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى ام كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الدوار المستمرة الدائبة بقدرة الله تعالى وقيامه على كل شئ، وفي الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾هذا مظهر كوني حسي يدل على عظيم قدرة الله، وبيان انه لا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وانه القادر على كل شئ، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما ؛فالله سبحانه يخرج الحي من الميت، ويجعل من هذا الحي الذي أخرجه ميتا ؛وإخراج الحي من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج ؛إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد ؛وإخراج الله الحي من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون : إنه إخراج الجسم النامي الذي يسير في مدراج
الحياة، من الجسم الجاف الذي لا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة ؛وإخراج الميت من الحي هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحي النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرطب. وقد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. وقد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر. وفي الحق عن إخراج الحي من الميت امر محسوس مرئي كل يوم ؛فإن تلك الشجرة او ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحي، فهي إخراج الحي من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لا حياة فيه ؛وإن إخراج الميت من الحي امر واضح لا مجال للشك فيه ؛فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا.
وعلى هذا نقول إن إخراج الحي من الميت ليس فلق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد ؛ولذا قال سبحانه في آية أخرى :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون٩٥ ﴾[ الأنعام ].
﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾هذا مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين. ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :"الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان ام أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى ؛يقال اعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما ؛قال تعالى :﴿ وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل ان يأتي أحدكم الموت... ١٠ ﴾[ المنافقون ]أي أنفقوا من المال والجاه والعلم".
فالله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم ؛فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من اعطاه مالا وحرمه من نعيم العلم، ومنهم من اعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقر بهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس. ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول :
كم عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
فما في ذلك حيرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة : حرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد و أعطاه ذكرا بين الناس... و هكذا لو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.
وقوله تعالى :﴿ بغير حساب ﴾معناه انه ليس فوقه احد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وان عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطي من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شئ، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله. روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"بسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب"في هذه الآية :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾.
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ا مظهر حسي لقدرة الله تعالى في ا الكون. تولج معناها تدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل. وفقد فسره الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا، ولكن كيف نسمي ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل ؟والجواب عن ذلك : أن الليل لا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، ويبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع ؛وكذلك لا يجئ الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجئ الغروب، ثم تجئ العشية، فيكون ظلام وتمحى آية النهار.
وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى ام كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الدوار المستمرة الدائبة بقدرة الله تعالى وقيامه على كل شئ، وفي الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾هذا مظهر كوني حسي يدل على عظيم قدرة الله، وبيان انه لا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وانه القادر على كل شئ، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما ؛فالله سبحانه يخرج الحي من الميت، ويجعل من هذا الحي الذي أخرجه ميتا ؛وإخراج الحي من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج ؛إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد ؛وإخراج الله الحي من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون : إنه إخراج الجسم النامي الذي يسير في مدراج
الحياة، من الجسم الجاف الذي لا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة ؛وإخراج الميت من الحي هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحي النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرطب. وقد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. وقد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر. وفي الحق عن إخراج الحي من الميت امر محسوس مرئي كل يوم ؛فإن تلك الشجرة او ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحي، فهي إخراج الحي من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لا حياة فيه ؛وإن إخراج الميت من الحي امر واضح لا مجال للشك فيه ؛فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا.
وعلى هذا نقول إن إخراج الحي من الميت ليس فلق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد ؛ولذا قال سبحانه في آية أخرى :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون٩٥ ﴾[ الأنعام ].
﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾هذا مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين. ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :"الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان ام أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى ؛يقال اعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما ؛قال تعالى :﴿ وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل ان يأتي أحدكم الموت... ١٠ ﴾[ المنافقون ]أي أنفقوا من المال والجاه والعلم".
فالله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم ؛فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من اعطاه مالا وحرمه من نعيم العلم، ومنهم من اعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقر بهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس. ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول :
كم عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
فما في ذلك حيرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة : حرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد و أعطاه ذكرا بين الناس... و هكذا لو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.
وقوله تعالى :﴿ بغير حساب ﴾معناه انه ليس فوقه احد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وان عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطي من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شئ، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله. روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"بسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب"في هذه الآية :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾.
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير٢٨ قل إن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير٢٩ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد٣٠ ﴾
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وانه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم عن لم يحسنوا القيام عليه ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه انه لا يصح للمؤمن ان يستعين بسلطان غير المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر١، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا ؛فكان الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة ؛أي انه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن ان يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته ؛لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾أولياء جمع ولى، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال :"الولاء والتوالي : أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، ولاعتقاد. والولاية( بكسر بالواو )النصرة. والولاية( بالفتح )تولى المر. وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدلالة والدلالة". وعلى ذلك تكون كلمة ولى تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى امر غيره. وما المراد بها هنا ؟الظاهر ان المراد هو من يتولى امر غيره، فمعنى﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾نهى المؤمنين وسلطانهم ؛فإن على المؤمنين ان يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على ان أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم ؛فالمعنى إذن انه لا يجوز لطائفة من المؤمنين ان يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾وفي وقله :﴿ من دون المؤمنين ﴾ ؛فإنه من المقررات البيانية ان اللفظ إذا ‘عيد معرفا ب"أل" كان الثاني هو عين الأول، فإذا قلت : خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
وإن النهي عهن تولي المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾يشير إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا صريحا ؛فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]. وقال تعالى :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير٧٣ ﴾[ الأنفال ].
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن ان يكون المؤمنون او بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين ان السبب في انه لا يجوز للمؤمنين ان يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور :
أولها : أن غير المؤمنين لا يمكن ان يرعوا حقوق المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيهما : أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾إذ تكون كل قوته و كل نشاطه الإنساني و الاجتماعي لهم، وليس منه شيء.
و ثالثهما : أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي فساد ؛ولذا قال تعالى :﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
هذا، ويجب التنبيه إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب عن تحقق السبب الموجب للبر ؛فقد قال تعالى :﴿ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين٨إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون٩ ﴾[ الممتحنة ].
﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم ثقاة ﴾أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما ؛لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى ؛وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله فيس شئ ﴾. وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى : فليس من ولاية الله في شئ، وبعضهم قال : فليس من الصلة بالله في شئ، ولكن ولكن لم حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة ؟والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى ان من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر :﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم... ١٦٠ ﴾[ آل عمران ].
هذا حكم الجماعة الإسلامية او بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك ؟ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه :﴿ إلا أن تتقوا تقاة ﴾أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر ؛وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و"تقاة"مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
وإن هذا النص يستفاد منه ان التقية جائزة، والتقية ان يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على ان يكون نزول الذي مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان... ١٠٦ ﴾[ النحل ] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين ان يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض ؛فقد قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩ ﴾[ النساء ].
هذا، هو التخويف لجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه. والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد انه لا مخاف، ولا ما يثير الخوف ؛وإن مقام التحذير هنا واضح بين ؛لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون ان ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم عن امنوا الكفار ومالأوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم ان يحذروه.
ومعنى﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾قال بعض العلماء فيه : إن الكلام على حذف مضاف وهو : عقاب الله او نقمته، وعندي انه لا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى : احذر الأسد ؛فإنه لا يقدر : صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة. وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل : خاصمت زيدا نفسه، وغاضبت عمروا نفسه ؛وللإشارة إلى ان ما ينزله الله تعالى مغيب غي معلن الآن ؛إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب١١٦ ﴾[ المائدة ].
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمرارا ؛ولذا قال بعد ذلك :﴿ وإلى الله المصير ﴾أي إليه وحده المآل وانتهاء امر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين ؛فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وانه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم عن لم يحسنوا القيام عليه ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه انه لا يصح للمؤمن ان يستعين بسلطان غير المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر١، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا ؛فكان الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة ؛أي انه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن ان يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته ؛لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾أولياء جمع ولى، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال :"الولاء والتوالي : أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، ولاعتقاد. والولاية( بكسر بالواو )النصرة. والولاية( بالفتح )تولى المر. وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدلالة والدلالة". وعلى ذلك تكون كلمة ولى تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى امر غيره. وما المراد بها هنا ؟الظاهر ان المراد هو من يتولى امر غيره، فمعنى﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾نهى المؤمنين وسلطانهم ؛فإن على المؤمنين ان يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على ان أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم ؛فالمعنى إذن انه لا يجوز لطائفة من المؤمنين ان يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾وفي وقله :﴿ من دون المؤمنين ﴾ ؛فإنه من المقررات البيانية ان اللفظ إذا ‘عيد معرفا ب"أل" كان الثاني هو عين الأول، فإذا قلت : خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
وإن النهي عهن تولي المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾يشير إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا صريحا ؛فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]. وقال تعالى :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير٧٣ ﴾[ الأنفال ].
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن ان يكون المؤمنون او بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين ان السبب في انه لا يجوز للمؤمنين ان يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور :
أولها : أن غير المؤمنين لا يمكن ان يرعوا حقوق المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيهما : أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾إذ تكون كل قوته و كل نشاطه الإنساني و الاجتماعي لهم، وليس منه شيء.
و ثالثهما : أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي فساد ؛ولذا قال تعالى :﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
هذا، ويجب التنبيه إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب عن تحقق السبب الموجب للبر ؛فقد قال تعالى :﴿ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين٨إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون٩ ﴾[ الممتحنة ].
﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم ثقاة ﴾أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما ؛لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى ؛وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله فيس شئ ﴾. وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى : فليس من ولاية الله في شئ، وبعضهم قال : فليس من الصلة بالله في شئ، ولكن ولكن لم حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة ؟والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى ان من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر :﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم... ١٦٠ ﴾[ آل عمران ].
هذا حكم الجماعة الإسلامية او بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك ؟ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه :﴿ إلا أن تتقوا تقاة ﴾أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر ؛وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و"تقاة"مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
وإن هذا النص يستفاد منه ان التقية جائزة، والتقية ان يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على ان يكون نزول الذي مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان... ١٠٦ ﴾[ النحل ] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين ان يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض ؛فقد قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩ ﴾[ النساء ].
هذا، هو التخويف لجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه. والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد انه لا مخاف، ولا ما يثير الخوف ؛وإن مقام التحذير هنا واضح بين ؛لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون ان ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم عن امنوا الكفار ومالأوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم ان يحذروه.
ومعنى﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾قال بعض العلماء فيه : إن الكلام على حذف مضاف وهو : عقاب الله او نقمته، وعندي انه لا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى : احذر الأسد ؛فإنه لا يقدر : صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة. وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل : خاصمت زيدا نفسه، وغاضبت عمروا نفسه ؛وللإشارة إلى ان ما ينزله الله تعالى مغيب غي معلن الآن ؛إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب١١٦ ﴾[ المائدة ].
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمرارا ؛ولذا قال بعد ذلك :﴿ وإلى الله المصير ﴾أي إليه وحده المآل وانتهاء امر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين ؛فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
١ يديلنا: من الدولة. والإدالة: الغلبة. ودالت الأيام: دارت، والله تعالى يداولها بين الناس.[القاموس المحيط-فصل الدال-الدولة]..
﴿ قل إن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله ﴾كان التحذير والتخويف من الله سبحانه وتعالى، وقد امر سبحانه نبيه بأن لهم مقدار علمه بخفايا نفوسهم، وعلمه بالكون وما فيه، فقال سبحانه :﴿ قل عن تخفوا ما في صدوركم ﴾أي أن علمه سبحانه وتعالى يعم الظاهر والباطن، وغن كون الأمر ظاهرا او باطنا إنما هو بالنسبة لنا، أم علم الله تعالى فإنه فيه ظاهر وباطن، بل العلم كله سواء بالنسبة له سبحانه وتعالى وسيق إثبات علم الله تعالى وإحاطته الشاملة في هذا المقام، لمقام التحذير أيضا ؛لأن الذين يوالون الكافرين يظنون في انفسهم ضعفا وقد يظهرون ان ما يفعلونه غنما هو تقية وخوف من الكافرين، والواقع انهم يفعلون ذلك استخذاء وذلة، أو تملقا للأقوياء او مداهنة لهم على أقوامهم، أو رجاء غرض دنيوي ينالونه، كما نرى في عصرنا الحاضر، إذ نجد ناسا يبررون كل خيانة قومية ودينية، والدخول في ولاية غير المؤمنين بالتقية وحال الضعف، وما هو إلا ضعف وازع الدين وفقد اليقين، ورجاء الدنيا الذليلة، وفرار من العزة والحياة السامية الكريمة حقا وصدقا ؛فأمر الله نبيه ان يبين انه يعلم ما تخفيه الصدور، وما تختلج به القلوب، وما ينوون وما يقصدون، كما يعلم ما يبدون ويعلنون، وان الله سبحانه محاسبهم على أعمالهم بنياتهم، لا بظواهر هذه العمال، ولا بما تتلوى به الألسنة، وإن كانت مخافة لما تطويه القلوب.
وجعل البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية ؛لأن ذلك التنويع من شأنه ان يربي المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا : أحذركم مخالفتي، ثم يتركه لصفى من أصفياءه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
﴿ ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير ﴾في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بين في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجري فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شئ في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته ؛إنه فعال لما يريد ؛فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه ؟فإن كانت الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السموات والأرض. وقد ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم ؛لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم. ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم :"هذا بيان لقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي، لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان انه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في امره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم ان العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك"
وجعل البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية ؛لأن ذلك التنويع من شأنه ان يربي المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا : أحذركم مخالفتي، ثم يتركه لصفى من أصفياءه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
﴿ ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير ﴾في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بين في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجري فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شئ في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته ؛إنه فعال لما يريد ؛فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه ؟فإن كانت الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السموات والأرض. وقد ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم ؛لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم. ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم :"هذا بيان لقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي، لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان انه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في امره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم ان العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك"
ولقد بين سبحانه وقت تنفيذ عقوبته المؤكدة، وهو يوم القيامة، فقال :
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾المعنى الجملي للنص الكريم : خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رأى بالحس والبصر، وتود كل نفس ان لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى ان يتأخر ويؤجل ؛ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلى المعنى :
المبحث اللغوي الأول-متعلق﴿ يوم تجد ﴾ : لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات ؛أولها ذكره الزمخشري انه متعلق ب"تود"والمعنى : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت ان تجد كل ما عملت محضرا من خير او سوء.
وهذا يؤدي على ان من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، ومع من عملت سوءا، مع ان رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لا تمنى التأجيل ؛ولهذا لا نوافق عليه.
والوجه الثاني : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجئ جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل ؛فالأول من قول الله تعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله ولكن يرد على هذا الاعتراض بأن قوله تعالى :﴿ قل عن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه ﴾معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث : انه متعلق بمحذوف تقديره : اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني-قوله تعالى﴿ وما عملت من سوء ﴾أهي معطوفة على﴿ ما عملت من خير ﴾ أم"ما"مبتدأ خبره"تود" ؟أظهر الأقوال انها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى : ما عملت : ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث-الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال : أبد كذا ؛اما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى ان النفس التي تجد عملها السيئ محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لا يؤخذوا اخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم ؛لإثبات ان عقاب المسئ وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شئ ان يتساوى المحسن والمسئ، ولإثبات ام ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾المعنى الجملي للنص الكريم : خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رأى بالحس والبصر، وتود كل نفس ان لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى ان يتأخر ويؤجل ؛ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلى المعنى :
المبحث اللغوي الأول-متعلق﴿ يوم تجد ﴾ : لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات ؛أولها ذكره الزمخشري انه متعلق ب"تود"والمعنى : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت ان تجد كل ما عملت محضرا من خير او سوء.
وهذا يؤدي على ان من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، ومع من عملت سوءا، مع ان رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لا تمنى التأجيل ؛ولهذا لا نوافق عليه.
والوجه الثاني : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجئ جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل ؛فالأول من قول الله تعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله ولكن يرد على هذا الاعتراض بأن قوله تعالى :﴿ قل عن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه ﴾معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث : انه متعلق بمحذوف تقديره : اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني-قوله تعالى﴿ وما عملت من سوء ﴾أهي معطوفة على﴿ ما عملت من خير ﴾ أم"ما"مبتدأ خبره"تود" ؟أظهر الأقوال انها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى : ما عملت : ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث-الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال : أبد كذا ؛اما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى ان النفس التي تجد عملها السيئ محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لا يؤخذوا اخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم ؛لإثبات ان عقاب المسئ وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شئ ان يتساوى المحسن والمسئ، ولإثبات ام ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم٣١ قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين٣٢ ﴾
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآتم هذه الدنيا ؛وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
وفي الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ﴾ وقال :﴿ ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾ فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾.
وفي هذه الآية يدعو إلى الطاعة لا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدى إلى أعلى منازل السائرين، وهي المحبة : محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
قال بعض السلف : ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة :
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلى الله عليه وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى ؛إذ جعل إتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وان الله تعالى يمضي ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة ؛لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة ؛فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة ؛ولأن فيه بيان أقوى الاتصال ؛لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل ان المحبة من الله تجئ نتيجة لإتباعه الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام ؛لأن المعنى : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتموني يحببكم الله ؛لن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر ؛وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور :
ألهما : أن أول طرق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، و عصيان الرسول عصيان لله تعالى، و ليس من المعقول أن يحب الله تعالى و يعصيه، و لذلك يقول الشاعر الصوفي :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم : أن طاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه و تعالى لعبده. و أى منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه و تعالى.
الأمر الثالث : الذي يدل عليه النص القرآني :﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب ؛وذلك لن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحا كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة. ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ :
وصفان كريمان للذات العلية : أولهما انه غفور ؛أي انه كثير الغفران لعباده ؛لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى انه يحب من عباده الطاعة، ويحب ممن عباده التوبة ؛فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل العلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب ؛فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسئ بالمحسن، وليحمل المسئ على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية : أنه رحيم. وكان من رحمته ان قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته انه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، ويعلموا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين١٠٧ ﴾[ الأنبياء ]، وكان من رحمته ان سن العقاب للمسئ المستمر على إساءته الموغل في الفساد ؛فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس ان لا يرحم ؛ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم"من لا يرحم لا يرحم"١.
وقبل ان نترك الكلام في هذه الآية الكريمة، لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين :
أولهما : في معنى الإتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الإتباع.
وثانيهما : التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد، وتترتب عليها محبة الله تعالى : أهي الطاعة ام شئ أعلى من الطاعة ؟وما محبة الله : أهي الرحمة أم امر أعلى من الرحمة والإحسان، ولله الفضل والمنة في كل حال.
أما بالنسبة للأمر الأول ؛فإن النص الكريم﴿ قل عن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة ؛اما الطريق فهو إتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده ؛فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده.
وقد فصل الله الإتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم... ٥٤ ﴾[ المائدة ].
فعلامات الإتباع التي يترتب عليها ان يحبهم الله ويحبوه، أربع :
أولها : أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا : إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ﴾[ الفتح ].
والعلامة الثانية : انهم أعزة على الكافرين، أي لا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون ان يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
والعلامة الرابعة : انهم لا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة٢
تلك هي آيات الإتباع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال :"أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما"٣ وهذا الوصف هو الجامع لكل المارات التي لا يند عنه٤ شئ منها.
هذا هو القول في المر الأول، وهو الإتباع الذي تترتب عليه المحبة. بقى ان تتكلم في المر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد، والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى :
اما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا ؛لن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يعمان كل موجود، والرضا وغن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم :﴿ ورضوان من الله اكبر... ٧٢ ﴾[ التوبة ]نجد المحبة أكثر منه. وقد ذكرها الله سبحانه اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
وأما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها : الميل بكليته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤد من واجبات وطاعات.
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وغن كانت ملازمة للإتباع المطلق للأوامر والنواهي، وفي الحقيقة عن طاعة العبد لربه لها مرتبتان :
أولاهما : الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والثانية : الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعض أصحابه"نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه عن عذاب ربك كان محذورا٥٧ ﴾[ الإسراء ]فإن هذا النص الكريم ذل على أن ثمة مقامين جليلين : مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى :﴿ أيهم أقرب ﴾وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه ؛ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين :"المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إلى، ثم لم يفارقوه على حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم".
والمحبة ثلاث درجات :
أولاها : استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شئ سواه، ويصف الهروي في"منازل السائرين"تلك المحبة بأنها : تقطع الوساوس، وتسلي عن المصائب، وتثبت تلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن إتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
والدرجة الثانية : وهي أعلى من هذه في درجات المحبة-هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم :"فيها مطالعة الصفات، وشهود معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة. وكل منها داع قوي إلى محبته سبحانه ؛لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لا محالة على محبته"٥.
والدرجة الثالثة : المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب. وجاء في"منازل السائرين"في هذه المحبة( هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول ).
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله اهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسه نرجو ان تضئ في هذا الموضوع، وإن كانت لا تدفئ.
وإن العبرة في هذا الموضوع هي ان الشريعة لا يصح ان تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد ان يصل إلى أحكام الشرع وهو طريق المحبة عند اهل السنة ا
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآتم هذه الدنيا ؛وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
وفي الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ﴾ وقال :﴿ ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾ فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾.
وفي هذه الآية يدعو إلى الطاعة لا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدى إلى أعلى منازل السائرين، وهي المحبة : محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
قال بعض السلف : ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة :
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلى الله عليه وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى ؛إذ جعل إتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وان الله تعالى يمضي ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة ؛لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة ؛فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة ؛ولأن فيه بيان أقوى الاتصال ؛لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل ان المحبة من الله تجئ نتيجة لإتباعه الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام ؛لأن المعنى : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتموني يحببكم الله ؛لن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر ؛وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور :
ألهما : أن أول طرق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، و عصيان الرسول عصيان لله تعالى، و ليس من المعقول أن يحب الله تعالى و يعصيه، و لذلك يقول الشاعر الصوفي :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم : أن طاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه و تعالى لعبده. و أى منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه و تعالى.
الأمر الثالث : الذي يدل عليه النص القرآني :﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب ؛وذلك لن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحا كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة. ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ :
وصفان كريمان للذات العلية : أولهما انه غفور ؛أي انه كثير الغفران لعباده ؛لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى انه يحب من عباده الطاعة، ويحب ممن عباده التوبة ؛فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل العلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب ؛فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسئ بالمحسن، وليحمل المسئ على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية : أنه رحيم. وكان من رحمته ان قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته انه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، ويعلموا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين١٠٧ ﴾[ الأنبياء ]، وكان من رحمته ان سن العقاب للمسئ المستمر على إساءته الموغل في الفساد ؛فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس ان لا يرحم ؛ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم"من لا يرحم لا يرحم"١.
وقبل ان نترك الكلام في هذه الآية الكريمة، لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين :
أولهما : في معنى الإتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الإتباع.
وثانيهما : التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد، وتترتب عليها محبة الله تعالى : أهي الطاعة ام شئ أعلى من الطاعة ؟وما محبة الله : أهي الرحمة أم امر أعلى من الرحمة والإحسان، ولله الفضل والمنة في كل حال.
أما بالنسبة للأمر الأول ؛فإن النص الكريم﴿ قل عن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة ؛اما الطريق فهو إتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده ؛فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده.
وقد فصل الله الإتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم... ٥٤ ﴾[ المائدة ].
فعلامات الإتباع التي يترتب عليها ان يحبهم الله ويحبوه، أربع :
أولها : أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا : إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ﴾[ الفتح ].
والعلامة الثانية : انهم أعزة على الكافرين، أي لا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون ان يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
والعلامة الرابعة : انهم لا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة٢
تلك هي آيات الإتباع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال :"أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما"٣ وهذا الوصف هو الجامع لكل المارات التي لا يند عنه٤ شئ منها.
هذا هو القول في المر الأول، وهو الإتباع الذي تترتب عليه المحبة. بقى ان تتكلم في المر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد، والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى :
اما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا ؛لن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يعمان كل موجود، والرضا وغن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم :﴿ ورضوان من الله اكبر... ٧٢ ﴾[ التوبة ]نجد المحبة أكثر منه. وقد ذكرها الله سبحانه اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
وأما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها : الميل بكليته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤد من واجبات وطاعات.
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وغن كانت ملازمة للإتباع المطلق للأوامر والنواهي، وفي الحقيقة عن طاعة العبد لربه لها مرتبتان :
أولاهما : الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والثانية : الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعض أصحابه"نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه عن عذاب ربك كان محذورا٥٧ ﴾[ الإسراء ]فإن هذا النص الكريم ذل على أن ثمة مقامين جليلين : مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى :﴿ أيهم أقرب ﴾وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه ؛ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين :"المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إلى، ثم لم يفارقوه على حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم".
والمحبة ثلاث درجات :
أولاها : استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شئ سواه، ويصف الهروي في"منازل السائرين"تلك المحبة بأنها : تقطع الوساوس، وتسلي عن المصائب، وتثبت تلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن إتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
والدرجة الثانية : وهي أعلى من هذه في درجات المحبة-هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم :"فيها مطالعة الصفات، وشهود معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة. وكل منها داع قوي إلى محبته سبحانه ؛لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لا محالة على محبته"٥.
والدرجة الثالثة : المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب. وجاء في"منازل السائرين"في هذه المحبة( هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول ).
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله اهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسه نرجو ان تضئ في هذا الموضوع، وإن كانت لا تدفئ.
وإن العبرة في هذا الموضوع هي ان الشريعة لا يصح ان تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد ان يصل إلى أحكام الشرع وهو طريق المحبة عند اهل السنة ا
١ رواه البخاري: الأدب-رحمة الولد وتقبيله(٥٥٣٨)، ومسلم: الفضائل-رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال(٤٢٨٢)..
٢ جاء في هامش الأصل: راجع في هذا الجزء الثالث من"مدراج السالكين}، ابن قيم الجوزية، ص١٤..
٣ البخاري: الإيمان-حلاوة الإيمان(١٥)، مسلم: الإيمان(٦٠)..
٤ أي لا يشرد. ند البعير يند ندودا إذا شرد. لسان العرب-باب النون-ندد..
٥ مدارج السالكين ج٣ ص٢٥.
.
٢ جاء في هامش الأصل: راجع في هذا الجزء الثالث من"مدراج السالكين}، ابن قيم الجوزية، ص١٤..
٣ البخاري: الإيمان-حلاوة الإيمان(١٥)، مسلم: الإيمان(٦٠)..
٤ أي لا يشرد. ند البعير يند ندودا إذا شرد. لسان العرب-باب النون-ندد..
٥ مدارج السالكين ج٣ ص٢٥.
.
وإذا كان ذلك هو الحق، فإطاعة الله ورسوله هي فيصل التفرقة بين الحق والباطل وبين محبة الله ومحبة الضلال، وبين الإيمان والكفر ؛ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوهم على طاعة الله وطاعته، وهو معنى الإتباع في الماضي، وتكرر المر بهذه الصيغة للإشارة إلى ان إتباع الرسول هو طاعة لله وللرسول، فمن اتبع الرسول لا يطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو ان محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الإتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف :"من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في انه لا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته غلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر صعق، على تصورها".
وهنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الأسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات ان محبة الله تعالى طريقها المستقيم الذي لا عوج فيه هو إتباع الرسول، وتلك الإشارة انه سبحانه قال :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى ان الطاعة واحدة، وان إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا٨٠ ﴾[ النساء ]وإن من إعجاز القرآن الكريم ان تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
﴿ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ﴾أي فإن اعرضوا عن إتباع ما تدعوهم وهو إتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لا ينالون محبة الله تعالى ؛لأنهم كافرون ؛إذ تعمدوا الا يطيعوك، وأنكروا ان إتباعك طريق محبة الله رب العالمين. ففي هذا النص الكريم دلالة على ان محبة الله لا ينالها غلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه :
أولها : انه سبحانه عبر بأنه لا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد انه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
وثانيها : أنه عبر عن تركهم إتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
وثالثها : أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله !إن ذلك في القياس غريب.
اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك. فقد قال نبيك وقوله الحق :"إن الله إذا احب عبدا دعا جبريل فقال إني احب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا ابغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في اهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"١.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوهم على طاعة الله وطاعته، وهو معنى الإتباع في الماضي، وتكرر المر بهذه الصيغة للإشارة إلى ان إتباع الرسول هو طاعة لله وللرسول، فمن اتبع الرسول لا يطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو ان محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الإتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف :"من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في انه لا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته غلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر صعق، على تصورها".
وهنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الأسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات ان محبة الله تعالى طريقها المستقيم الذي لا عوج فيه هو إتباع الرسول، وتلك الإشارة انه سبحانه قال :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى ان الطاعة واحدة، وان إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا٨٠ ﴾[ النساء ]وإن من إعجاز القرآن الكريم ان تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
﴿ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ﴾أي فإن اعرضوا عن إتباع ما تدعوهم وهو إتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لا ينالون محبة الله تعالى ؛لأنهم كافرون ؛إذ تعمدوا الا يطيعوك، وأنكروا ان إتباعك طريق محبة الله رب العالمين. ففي هذا النص الكريم دلالة على ان محبة الله لا ينالها غلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه :
أولها : انه سبحانه عبر بأنه لا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد انه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
وثانيها : أنه عبر عن تركهم إتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
وثالثها : أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله !إن ذلك في القياس غريب.
اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك. فقد قال نبيك وقوله الحق :"إن الله إذا احب عبدا دعا جبريل فقال إني احب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا ابغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في اهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"١.
١ رواه مسلم: البر والصلة والآداب-إذا احب الله عبدا حببه إلى عباده(٤٧٧٢)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٨٩٨٤)، ورواه البخاري: التوحيد-كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة(٦٩٣١)..
﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين٣٣ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم٣٤إذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك انت السميع العليم٣٥فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم٣٦فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم انى لك هذا قالت هو من عند الله عن الله يرزق من يشاء بغير حساب٣٧ ﴾
أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾بين سبحانه وتعالى وحده الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال. ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفى ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية : بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات.
وأولى هذه القصص : قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
والقصة الثانية : قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع انه قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو ان العاقر لا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
والقصة الثالثة : قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد ان انتشر بنو آدم في الأرض.
القصة الرابعة : قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها اغرب من ولادته ؛منها : إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
وقصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخي، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به أولا : العظة والاعتبار، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لولي الألباب... ١١١ ﴾[ يوسف ]، ثم ثانيا : إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وذلك لن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب اهل الكتاب يجري على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لحد من اهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث. ثم المقصود ثالثا : بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية ؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السموات والأرض وما فيهما ؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على ان التوحيد هو الوحدة الجامعة بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض. وفي بيان قصص النبيين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت.
وفي قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي اتى بها النبيون بيان ان الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح. ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على عيسى عليه السلام ؛فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾ :
معنى الاصطفاء : طلب الصفوة من كل شئ، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى ان آدم و نوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى :﴿ على العالمين ﴾إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس ؛فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس. وآل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد ؛وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي"كن".
وإن في ذلك التسلسل إشارة إلى ان الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم ؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ١٢٢ ﴾ [ طه ] فهو اول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده.
ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى :﴿ وكلا هدينا ونوحا هدينا من قبل... ٨٤ ﴾[ الأنعام ].
ثم جاء من بعد ذلك قرون لا يعلمها إلا فاطر السموات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاءت من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران و أقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم. وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض. وعمران هذا هو ابو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض انه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى ان المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير. وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾بين سبحانه وتعالى وحده الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال. ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفى ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية : بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات.
وأولى هذه القصص : قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
والقصة الثانية : قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع انه قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو ان العاقر لا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
والقصة الثالثة : قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد ان انتشر بنو آدم في الأرض.
القصة الرابعة : قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها اغرب من ولادته ؛منها : إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
وقصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخي، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به أولا : العظة والاعتبار، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لولي الألباب... ١١١ ﴾[ يوسف ]، ثم ثانيا : إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وذلك لن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب اهل الكتاب يجري على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لحد من اهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث. ثم المقصود ثالثا : بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية ؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السموات والأرض وما فيهما ؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على ان التوحيد هو الوحدة الجامعة بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض. وفي بيان قصص النبيين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت.
وفي قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي اتى بها النبيون بيان ان الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح. ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على عيسى عليه السلام ؛فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾ :
معنى الاصطفاء : طلب الصفوة من كل شئ، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى ان آدم و نوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى :﴿ على العالمين ﴾إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس ؛فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس. وآل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد ؛وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي"كن".
وإن في ذلك التسلسل إشارة إلى ان الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم ؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ١٢٢ ﴾ [ طه ] فهو اول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده.
ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى :﴿ وكلا هدينا ونوحا هدينا من قبل... ٨٤ ﴾[ الأنعام ].
ثم جاء من بعد ذلك قرون لا يعلمها إلا فاطر السموات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاءت من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران و أقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم. وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض. وعمران هذا هو ابو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض انه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى ان المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير. وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
ولقد بين الله سبحانه بعد ذلك تسلسل هذه الصفوة المختارة بعضها من بعض فقال :﴿ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ﴾ :
الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة"ذرأ"وقيل منّ الذرو"وقيل من ّالذر"، وكل هذه الألفاظ تنتهي إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع ؛ومعنى النص الكريم ان أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلوا النسب بسلسلة لا تنقطع ؛فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية. ويترتب على ان بعضهم من بعض ان تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة. وقد قال بعضهم عن معنى﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾أنهم متشابهون، كقوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض... ٦٧ ﴾[ التوبة ]فهم يشبه بعضهم بعضا، وهم ذرية واحدة لآدم. والحق ان ذلك المعنى يجئ بالالتزام من المعنى الأول فليس مغايرا له من كل الوجوه.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ والله سميع عليم ﴾إشارة إلى كمال إحاطته، وإلى أنه إذ اصطفى هؤلاء اصطفاهم على علم كعلم من يسمع، أي انه علم دقيق لا يخفى على الله شئ في الأرض ولا في السماء، وإن ذلك النص الكريم فيه تمهيد لما سيتلى من بعد، وهو قول امرأة عمران، فقد قال تعالى حاكيا عنها :﴿ وإذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾
الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة"ذرأ"وقيل منّ الذرو"وقيل من ّالذر"، وكل هذه الألفاظ تنتهي إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع ؛ومعنى النص الكريم ان أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلوا النسب بسلسلة لا تنقطع ؛فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية. ويترتب على ان بعضهم من بعض ان تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة. وقد قال بعضهم عن معنى﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾أنهم متشابهون، كقوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض... ٦٧ ﴾[ التوبة ]فهم يشبه بعضهم بعضا، وهم ذرية واحدة لآدم. والحق ان ذلك المعنى يجئ بالالتزام من المعنى الأول فليس مغايرا له من كل الوجوه.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ والله سميع عليم ﴾إشارة إلى كمال إحاطته، وإلى أنه إذ اصطفى هؤلاء اصطفاهم على علم كعلم من يسمع، أي انه علم دقيق لا يخفى على الله شئ في الأرض ولا في السماء، وإن ذلك النص الكريم فيه تمهيد لما سيتلى من بعد، وهو قول امرأة عمران، فقد قال تعالى حاكيا عنها :﴿ وإذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾
﴿ وإذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾فقوله تعالى :﴿ إذ قالت امرات عمران ﴾متعلق بقوله تعالى :﴿ والله سميع عليم ﴾أي أن الله سبحانه وتعالى كان يعلم علم من يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول، فهو سبحانه وتعالى سمع قول امرأة عمران ذلك القول، ونذرها ذلك النذر، وقد عقدت العزم على ان يكون ما في بطنها خالصا لله سبحانه وتعالى ؛ومعنى النذر التزام التقرب إلى الله تعالى بأمر من جنس العبادات المفروضة ؛وقد نذرت هذه السيدة الكريمة لله، أي التزمت لله ان يكون ما في بطنها محررا، أي خالصا لله سبحانه وتعالى ولخدمة بيته المقدس ؛فمعنى"محررا"أي مخلصا للعبادة والمناجاة، ومن أخلص للعبادة فقد صار عتيقا من كل رق في الدنيا، فهو عتيق من رق الهوى، ومن رق الرجال، ومن رق ذوي السلطان ؛لأنه يكون خالصا لمالك الملكوت، ومن خلص له تعالى فقد عتق من كل رق في الدنيا.
وعمران : هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور اولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى، وان عمران هذا هو ابو مريم، تكلف لا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها ان يقبل نذرها ؛ولذلك تضرعت إليه ان يقبل فقالت :﴿ فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾. أي أضرع إليك ان تقبل نذري، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فإن الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في المر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله. ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر، والعبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾.
وعمران : هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور اولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى، وان عمران هذا هو ابو مريم، تكلف لا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها ان يقبل نذرها ؛ولذلك تضرعت إليه ان يقبل فقالت :﴿ فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾. أي أضرع إليك ان تقبل نذري، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فإن الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في المر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله. ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر، والعبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾.
وهي في نذرها وفي ضراعتها لقبول هذا النذر كانت تفرض ان الحمل ذكر، لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس، ولكنها عند الولادة تبين انها أنثى، فذكرت ذلك، وأشارت في ذكرها على تقديرها وفرضها ؛ولذا حكى الله عنها انها قالت :
﴿ فلما وضعتها قالت رب غني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ﴾أي انها قدرت الحمل ذكرا، وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر ؛لأنه لا يستطيع المولود بعد ان تبين انه أنثى الخدمة، فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى، فإن الأنثى لا تستطيع ذلك. وقوله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾جملة معترضة بين كلاميها ؛وهي تشير إلى ان الله تعالى اعلم منها بما وضعت، فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه، وتتحسر بين يديه اعلم منها بما وضعته ؛لأنه هو الذي خلقة وجعله أنثى، وهو اعلم بما يصلح له، وهو وحده العليم بما هيأ له في لوح القدر، فإذا كانت لا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من غير أب ؛ولذا قال الزمخشري في هذا :"قال الله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾تعظيما لموضوعها.. ومعناه والله اعلم بالشئ الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وان يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذبك لا تعلم عنه شيئا". وقوله تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة، ويكون المنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها، وهذا هو الظاهر ؛وإما ان يكون من كلامها وهو غير الظاهر ؛إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها : وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل.
ومع ان هذه التقية تتحسر على ان مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت ؛ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت غليه ان يهديها ولذا قالت :
﴿ وإني سميتها مريم وغني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت، قال الزمخشري في الكشاف :"وغن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى ؛لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه ان يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وان يصدق فيها". ولذا طلبت إلى ربها ان يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ومعنى الإعاذة ان تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان ؛وذلك لن التعوذ الالتجاء. فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، واتخذ منه معاذا ؛ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى. وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
والشيطان : ما يوسوس في النفس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم. والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية :﴿ قال فاخرج منها فإنك رجيم٣٤ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين٣٥ ﴾[ الحجر ]. وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من ان يمسها الشيطان. وقد ورد في ذلك بعض الآثار.
ولقد قال الزمخشري في ذلك : يروى من الحديث"ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها"١ فالله اعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى :﴿ ولأغوينهم اجمعين٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين٤٠ ﴾[ الحجر ] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
﴿ فلما وضعتها قالت رب غني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ﴾أي انها قدرت الحمل ذكرا، وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر ؛لأنه لا يستطيع المولود بعد ان تبين انه أنثى الخدمة، فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى، فإن الأنثى لا تستطيع ذلك. وقوله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾جملة معترضة بين كلاميها ؛وهي تشير إلى ان الله تعالى اعلم منها بما وضعت، فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه، وتتحسر بين يديه اعلم منها بما وضعته ؛لأنه هو الذي خلقة وجعله أنثى، وهو اعلم بما يصلح له، وهو وحده العليم بما هيأ له في لوح القدر، فإذا كانت لا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من غير أب ؛ولذا قال الزمخشري في هذا :"قال الله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾تعظيما لموضوعها.. ومعناه والله اعلم بالشئ الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وان يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذبك لا تعلم عنه شيئا". وقوله تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة، ويكون المنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها، وهذا هو الظاهر ؛وإما ان يكون من كلامها وهو غير الظاهر ؛إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها : وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل.
ومع ان هذه التقية تتحسر على ان مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت ؛ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت غليه ان يهديها ولذا قالت :
﴿ وإني سميتها مريم وغني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت، قال الزمخشري في الكشاف :"وغن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى ؛لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه ان يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وان يصدق فيها". ولذا طلبت إلى ربها ان يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ومعنى الإعاذة ان تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان ؛وذلك لن التعوذ الالتجاء. فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، واتخذ منه معاذا ؛ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى. وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
والشيطان : ما يوسوس في النفس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم. والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية :﴿ قال فاخرج منها فإنك رجيم٣٤ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين٣٥ ﴾[ الحجر ]. وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من ان يمسها الشيطان. وقد ورد في ذلك بعض الآثار.
ولقد قال الزمخشري في ذلك : يروى من الحديث"ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها"١ فالله اعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى :﴿ ولأغوينهم اجمعين٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين٤٠ ﴾[ الحجر ] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
١ متفق عليه؛رواه بهذا اللفظ البخاري: تفسير القرآن(٤١٨٤)، ومسلم: الفضائل-فضائل عيسى عليه السلام(٤٣٦٣)..
تلك ضراعات امرأة عمران عند ولادة مريم البتول، وقد تقبل الله نذرها، وأجاب دعاءها ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ﴾قلنا عن التقبل هو اخذ المر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت ام مريم ان يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني( إنما قال :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾، ولم يقل : بتقبل حسن ؛للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ).
هذا هو قبول النذر، أما إجابة الدعاء وهو الا يمسها الشيطان او لا يكون له سلطان عليها ؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله :﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾أي أنشاها برعايته ومحبته وحصنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم : تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، اما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت : بأن نشأت في بيت العبادة، وغن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله :
﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ :
﴿ وكفلها ﴾ : أي ضمها إلى زكريا ؛لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم ؛ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم غذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم غذ يختصمون٤٤ ﴾[ آل عمران ] فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجئ من حيث لا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شئ، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على ان يؤتى لهذه المصطفاة رزقا جاريا لا يعلمه إلا هو، وهو على كل شئ قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا ؛ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه :
﴿ قال يا مريم انى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾عجب نبي الله فقال : أنى لك هذا ؟أي من أين لك هذا ؟فإن أنى تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى :﴿ فأتوا حرثكم انى شئتم... ٢٢٣ ﴾[ البقرة ]وتكون بمعنى من أين، وهي هنا كذلك ؛عجب نبي الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لا يعرف سببه، ولو كان يعرف انها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار ؛﴿ قالت هو من عند الله ﴾. أكدت انه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾أي ان رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر ؛ولذا لا يحده الحساب، ولا تجري عليه الأعداد التي تنتهي. ويصح ان تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان ان الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شئ قدير.
﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ﴾قلنا عن التقبل هو اخذ المر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت ام مريم ان يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني( إنما قال :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾، ولم يقل : بتقبل حسن ؛للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ).
هذا هو قبول النذر، أما إجابة الدعاء وهو الا يمسها الشيطان او لا يكون له سلطان عليها ؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله :﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾أي أنشاها برعايته ومحبته وحصنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم : تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، اما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت : بأن نشأت في بيت العبادة، وغن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله :
﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ :
﴿ وكفلها ﴾ : أي ضمها إلى زكريا ؛لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم ؛ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم غذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم غذ يختصمون٤٤ ﴾[ آل عمران ] فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجئ من حيث لا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شئ، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على ان يؤتى لهذه المصطفاة رزقا جاريا لا يعلمه إلا هو، وهو على كل شئ قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا ؛ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه :
﴿ قال يا مريم انى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾عجب نبي الله فقال : أنى لك هذا ؟أي من أين لك هذا ؟فإن أنى تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى :﴿ فأتوا حرثكم انى شئتم... ٢٢٣ ﴾[ البقرة ]وتكون بمعنى من أين، وهي هنا كذلك ؛عجب نبي الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لا يعرف سببه، ولو كان يعرف انها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار ؛﴿ قالت هو من عند الله ﴾. أكدت انه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾أي ان رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر ؛ولذا لا يحده الحساب، ولا تجري عليه الأعداد التي تنتهي. ويصح ان تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان ان الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شئ قدير.
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء٣٨فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين٣٩قال رب انى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء٤٠قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار٤١ ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم، وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى، وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام، تتدرج في خوارق العادات، تبتدئ بالقريب من المألوف ثم تنتهي بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل.
وانتهينا في قصة مريم البتول إلى ان نبي الله زكريا كفلها، وأنها تربت منذ صغرها في المسجد، بيت الله المقدس، وان الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة، فملأ قلبها إيمانا وروحانية، وغذاها بلبان المعرفة، وبغذاء مادي طيب.
ولقد كان زكريا، ومريم تدرج في مدارج الصبا، شيخا هرما يئس من الولاد، ولكنه رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى، ورآها ترزق بغير حساب، ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا، حن إلى الولد حنينا، ورغب في الذرية، وكان بين حالين متناقضين : حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شئ، وحال الكبر الذي أصابه، والشيخوخة الفانية التي هو فيها ؛ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها، ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته.
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ﴾ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس، ولذا قال تعالى :﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقي فيه بمريم الفينة بعد الفينة، ويسائلها فيه، وتتكلم بلسان البر والتقوى، تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس، فدعا ربه. والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شئ، إذ هو ربه الذي ذراه ونماه صغيرا، حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا، فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شئ على غير مثال سبق، قال :﴿ رب ﴾أي خالقي الذي خلقني، وخلق كل شئ من طين، وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية :﴿ هب لي من لدنك ﴾أي أعطني انت عطاء كريما لا سبب له إلا إرادتك، ولا باعث عليه إلا رحمتك، فلا يكون المر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة، والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك :﴿ من لدنك ﴾أي من عندك ؛أي السبب يكون من عندك لا من عندي ؛لأن الأسباب عندي قد زالت، ولم يعد إلا سبب منك، وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطى من غير أي علة او ترتيب. والتعبير ب﴿ لدنك ﴾التي لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية، لا العندية القريبة المقارنة، ولا العندية المقاربة
ودعاء نبي الله ان يهب له ذرية طيبة، فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى انه يطلب ذرية طيبة، والذرية قد بينا معناها من قبل. والطيبة : هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات اثر طيب ؛لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لا ينتج إلا خيرا، ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا... ٥٨ ﴾[ الأعراف ].
وبعد ان ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله :﴿ إنك سميع الدعاء ﴾أي إنك تعلم بدعائي علم من يسمع، وغن المر إليك إذ علمته وسمعته ؛فإن أجبت فبرحمتك، وغن لم تجب فبحكمتك، فأنت العليم الحكيم، والرحمن الرحيم. والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة.
وفي هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا ام كان خفيا، وفي سورة مريم بين حاله، وبين نوع ما يطلب من الذرية، فقال سبحانه :﴿ كهيعص١ ذكر رحمة ربك عبده زكريا٢إذ نادى ربه نداء خفيا٣قال رب إني وهن عظمي مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا٥يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وفي هذا النص الكريم يتبين انه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية، وكون امرأته عاقرا لا تلد، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء، فدعا ذلك الدعاء، وضرع على الله تعالى تلك الضراعة.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم، وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى، وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام، تتدرج في خوارق العادات، تبتدئ بالقريب من المألوف ثم تنتهي بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل.
وانتهينا في قصة مريم البتول إلى ان نبي الله زكريا كفلها، وأنها تربت منذ صغرها في المسجد، بيت الله المقدس، وان الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة، فملأ قلبها إيمانا وروحانية، وغذاها بلبان المعرفة، وبغذاء مادي طيب.
ولقد كان زكريا، ومريم تدرج في مدارج الصبا، شيخا هرما يئس من الولاد، ولكنه رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى، ورآها ترزق بغير حساب، ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا، حن إلى الولد حنينا، ورغب في الذرية، وكان بين حالين متناقضين : حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شئ، وحال الكبر الذي أصابه، والشيخوخة الفانية التي هو فيها ؛ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها، ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته.
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ﴾ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس، ولذا قال تعالى :﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقي فيه بمريم الفينة بعد الفينة، ويسائلها فيه، وتتكلم بلسان البر والتقوى، تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس، فدعا ربه. والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شئ، إذ هو ربه الذي ذراه ونماه صغيرا، حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا، فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شئ على غير مثال سبق، قال :﴿ رب ﴾أي خالقي الذي خلقني، وخلق كل شئ من طين، وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية :﴿ هب لي من لدنك ﴾أي أعطني انت عطاء كريما لا سبب له إلا إرادتك، ولا باعث عليه إلا رحمتك، فلا يكون المر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة، والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك :﴿ من لدنك ﴾أي من عندك ؛أي السبب يكون من عندك لا من عندي ؛لأن الأسباب عندي قد زالت، ولم يعد إلا سبب منك، وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطى من غير أي علة او ترتيب. والتعبير ب﴿ لدنك ﴾التي لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية، لا العندية القريبة المقارنة، ولا العندية المقاربة
ودعاء نبي الله ان يهب له ذرية طيبة، فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى انه يطلب ذرية طيبة، والذرية قد بينا معناها من قبل. والطيبة : هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات اثر طيب ؛لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لا ينتج إلا خيرا، ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا... ٥٨ ﴾[ الأعراف ].
وبعد ان ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله :﴿ إنك سميع الدعاء ﴾أي إنك تعلم بدعائي علم من يسمع، وغن المر إليك إذ علمته وسمعته ؛فإن أجبت فبرحمتك، وغن لم تجب فبحكمتك، فأنت العليم الحكيم، والرحمن الرحيم. والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة.
وفي هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا ام كان خفيا، وفي سورة مريم بين حاله، وبين نوع ما يطلب من الذرية، فقال سبحانه :﴿ كهيعص١ ذكر رحمة ربك عبده زكريا٢إذ نادى ربه نداء خفيا٣قال رب إني وهن عظمي مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا٥يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وفي هذا النص الكريم يتبين انه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية، وكون امرأته عاقرا لا تلد، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء، فدعا ذلك الدعاء، وضرع على الله تعالى تلك الضراعة.
وقد أجاب الله تعالى دعاءه فور طلبه ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى ﴾والتعبير ب"الفاء"يفيد ان النداء كان في زمن قريب من الدعاء. وهنا ثلاث نقط نريد ان نوضحها بعض التوضيح :
أولاها : في النداء ونسبته إلى الملائكة، فهل خاطبه بهذا عدد منهم ؟لقد أجاب المفسرون عن ذلك بجوابين ؛أحدهما : أن الذي ناداه هو جبريل الذي ينزل بالوحي على النبيين، ولقد قال في ذلك التفسير ابن جرير الطبري"يقال خرج فلان على بغال البريد، وغنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟فيقال : من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل إن منه﴿ الذين قال لهم الناس عن الناس قد جمعوا لكم... ١٧٣ ﴾[ آل عمران ] والقائل فيما ذكروا كان واحدا".
هذا التوجيه من قال إن المراد جبريل. و ذكر الملائكة بالجمع إشارة إلى الجنس، أى أن الله سبحانه كان من رحمته به أن أجاب دعاءه، وسارع بتبشيره بإجابته، وكانت الإجابة بملائكته، و إن كان المبلغ واحد.
وأما التخريج الثاني : فهو ان المراد بالجمع من الملائكة ؛لأن من كمال عناية الله تعالى بعباده ان ألقى إليه بالبشرى عدد كبير من الملائكة لا واحد منهم، وهذا ما رجحه ابن جرير ؛ولذا قال :"والصواب من القول في تأويله ان يقال إن الله جل ثناؤه. أخبر ان الملائكة نادته، والظاهر من ذلك انها جماعة الملائكة دون الواحد، وجبريل واحد، فلا يجوز ان يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثرمن الكلام المستعمل في السن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى انه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب ألمخرج بالخفي من الكلام والمعاني"ولا شك ان العدد فيه مبالغة بالتبشير، وكان حال هذا النبي الكريم في يأسه من الولد لشيخوخته الفانية وكون امرأته عاقرا وعجوزا، كان يحتاج فيها إلى عدد من المبشرين ليزول من نفسه كل يأس، ويحل محله الرجاء.
النقطة الثانية : أن النداء الذي وجهته الملائكة كان وهو قائم يصلي في المحراب، فهو في وقت مواجهته لربه، ومناجاته لخالقه، وغنه بابتداء القول بالفاء الدالة على التعقيب من غير تراخ، وكون خطاب زكريا لمريم كان وهو في المحراب، وان الدعاء كان وهو في المحراب، يتبين ان إجابة الدعاء كانت فور الدعاء، فهو قد ضرع إلى الله خالص النية، طاهر النفس والحس فأجاب الله دعاءه على سنته في إجابة المهديين من خلقه دعاءهم، كما قال تعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين٦٠ ﴾[ غافر ].
النقطة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ أن الله يبشرك بيحيى ﴾وهنا قراءتان في ان، إحداهما بالكسر على تضمين النداء معنى القول، أي فنادته الملائكة قائلين عن الله يبشرك بيحيى، والفتح على ان الباء محذوفة والتقدير فنادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى، واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء، إذ قال كما في سورة مريم﴿ يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا، فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه ؛ولذا قال سبحانه في وصفه :
﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾وصفه الله سبحانه وتعالى بصفات أربع كلها بجعل من الله وتكوينه وخلقه : وأولى هذه الأوصاف : أنه كان مصدقا بكلمة من الله، وتصديقه بكلمة من الله اختلف المفسرون في تحرير معناها، لاختلافهم في معنى :"كلمة"، فمنهم من اتجه إلى ان كلمة الله هو المسيح عيسى بن مريم، ما قال تعالى من بعد ذلك لمريم :﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم... ٤٥ ﴾[ آل عمران ]ويكون المدح في يحيى حينئذ بأنه صدق عيسى وأذعن للحق إذ تبين له، فلم يكن من المعاندين الذين يجحدون بآيات الله تعالى، ويكفرون ببيناته، وسمى عيسى"كلمة من الله" من الله ؛لأنه نشأ بكلمة منه سبحانه، ومن المفسرين من قال إن المراد من كلمة الله تعالى كتابه ؛وذلك لأنه تطلق الكلمة ويراد منها الكلام، وذلك من هذا القبيل، والظاهر عندي هو الأول ؛لأنه في هذا المقام ذكرت كلمة الله على انها المسيح عليه السلام، والاسم المكرر في مقام واحد تكون فيه وحدة المقام دليلا على وحدة المسمى. وكان في هذا التعبير إيذان بأن ولادة المسيح ستكون قريبا من ولادة يحيى وفيه إيماء إلى ان زكريا نبي الله قد أوتي علما بأن المسيح عهده قريب.
والوصف الثاني من أوصاف يحيى : أنه سيد، والسيد فيعل من السيادة، وهي الشرف والتفوق والعلو، وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها، ويضبطها ويأخذ بعنانها، فلا تذل، ولا تتكبر ولا تجمح، ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور، والاستغناء عما في هذا المصر ؟فقيل له : الحسن البصري فقال : وبم ساده ؟قيل استغنى عما في أيدي الناس، واحتاج الناس إلى ما في يده، فقال : ذلك هو السيد حقا.
فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق.
والوصف الثالث : أنه حصور. واصل الحصر معناه الحبس، والمراد انه حبس نفسه عن الشهوات، حتى لقد روي انه امتنع عن النساء زهاده واستعفافا، واتجاها على الروحانية. وقيل إنه كان لا يأتي النساء عجزا، وذلك غير صحيح، والحق أنه إن كان قد امتنع عن النساء فعن قدرة واختيار لا عن عجز ؛وذلك لن الله سبحانه وتعالى ساق ذلك الوصف في مقام المدح والثناء، ولا يتحقق معنى المدح والثناء إلا إذا كان فيه اختيار، ولم يكن عجزا وجبرا. ولأن"حصور"صيغة مبالغة لحاصر، أي أنه يبالغ في منع نفسه من الشهوات.
وليس في النص ما يدل على انه امتنع عن النساء بخاصة، بل النص يدل على أنه حبس نفسه عن الشهوات، وقدعها عن أهوائها.
والوصف الرابع : أنه نبي من الصالحين، وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا ؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه، ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله﴿ ومن الصالحين ﴾إشارة إلى موطن النبوة. وموضع اختيارها، والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين، فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة، ويعصمهم عن المعاصي بعدها.
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى ﴾والتعبير ب"الفاء"يفيد ان النداء كان في زمن قريب من الدعاء. وهنا ثلاث نقط نريد ان نوضحها بعض التوضيح :
أولاها : في النداء ونسبته إلى الملائكة، فهل خاطبه بهذا عدد منهم ؟لقد أجاب المفسرون عن ذلك بجوابين ؛أحدهما : أن الذي ناداه هو جبريل الذي ينزل بالوحي على النبيين، ولقد قال في ذلك التفسير ابن جرير الطبري"يقال خرج فلان على بغال البريد، وغنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟فيقال : من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل إن منه﴿ الذين قال لهم الناس عن الناس قد جمعوا لكم... ١٧٣ ﴾[ آل عمران ] والقائل فيما ذكروا كان واحدا".
هذا التوجيه من قال إن المراد جبريل. و ذكر الملائكة بالجمع إشارة إلى الجنس، أى أن الله سبحانه كان من رحمته به أن أجاب دعاءه، وسارع بتبشيره بإجابته، وكانت الإجابة بملائكته، و إن كان المبلغ واحد.
وأما التخريج الثاني : فهو ان المراد بالجمع من الملائكة ؛لأن من كمال عناية الله تعالى بعباده ان ألقى إليه بالبشرى عدد كبير من الملائكة لا واحد منهم، وهذا ما رجحه ابن جرير ؛ولذا قال :"والصواب من القول في تأويله ان يقال إن الله جل ثناؤه. أخبر ان الملائكة نادته، والظاهر من ذلك انها جماعة الملائكة دون الواحد، وجبريل واحد، فلا يجوز ان يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثرمن الكلام المستعمل في السن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى انه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب ألمخرج بالخفي من الكلام والمعاني"ولا شك ان العدد فيه مبالغة بالتبشير، وكان حال هذا النبي الكريم في يأسه من الولد لشيخوخته الفانية وكون امرأته عاقرا وعجوزا، كان يحتاج فيها إلى عدد من المبشرين ليزول من نفسه كل يأس، ويحل محله الرجاء.
النقطة الثانية : أن النداء الذي وجهته الملائكة كان وهو قائم يصلي في المحراب، فهو في وقت مواجهته لربه، ومناجاته لخالقه، وغنه بابتداء القول بالفاء الدالة على التعقيب من غير تراخ، وكون خطاب زكريا لمريم كان وهو في المحراب، وان الدعاء كان وهو في المحراب، يتبين ان إجابة الدعاء كانت فور الدعاء، فهو قد ضرع إلى الله خالص النية، طاهر النفس والحس فأجاب الله دعاءه على سنته في إجابة المهديين من خلقه دعاءهم، كما قال تعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين٦٠ ﴾[ غافر ].
النقطة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ أن الله يبشرك بيحيى ﴾وهنا قراءتان في ان، إحداهما بالكسر على تضمين النداء معنى القول، أي فنادته الملائكة قائلين عن الله يبشرك بيحيى، والفتح على ان الباء محذوفة والتقدير فنادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى، واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء، إذ قال كما في سورة مريم﴿ يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا، فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه ؛ولذا قال سبحانه في وصفه :
﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾وصفه الله سبحانه وتعالى بصفات أربع كلها بجعل من الله وتكوينه وخلقه : وأولى هذه الأوصاف : أنه كان مصدقا بكلمة من الله، وتصديقه بكلمة من الله اختلف المفسرون في تحرير معناها، لاختلافهم في معنى :"كلمة"، فمنهم من اتجه إلى ان كلمة الله هو المسيح عيسى بن مريم، ما قال تعالى من بعد ذلك لمريم :﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم... ٤٥ ﴾[ آل عمران ]ويكون المدح في يحيى حينئذ بأنه صدق عيسى وأذعن للحق إذ تبين له، فلم يكن من المعاندين الذين يجحدون بآيات الله تعالى، ويكفرون ببيناته، وسمى عيسى"كلمة من الله" من الله ؛لأنه نشأ بكلمة منه سبحانه، ومن المفسرين من قال إن المراد من كلمة الله تعالى كتابه ؛وذلك لأنه تطلق الكلمة ويراد منها الكلام، وذلك من هذا القبيل، والظاهر عندي هو الأول ؛لأنه في هذا المقام ذكرت كلمة الله على انها المسيح عليه السلام، والاسم المكرر في مقام واحد تكون فيه وحدة المقام دليلا على وحدة المسمى. وكان في هذا التعبير إيذان بأن ولادة المسيح ستكون قريبا من ولادة يحيى وفيه إيماء إلى ان زكريا نبي الله قد أوتي علما بأن المسيح عهده قريب.
والوصف الثاني من أوصاف يحيى : أنه سيد، والسيد فيعل من السيادة، وهي الشرف والتفوق والعلو، وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها، ويضبطها ويأخذ بعنانها، فلا تذل، ولا تتكبر ولا تجمح، ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور، والاستغناء عما في هذا المصر ؟فقيل له : الحسن البصري فقال : وبم ساده ؟قيل استغنى عما في أيدي الناس، واحتاج الناس إلى ما في يده، فقال : ذلك هو السيد حقا.
فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق.
والوصف الثالث : أنه حصور. واصل الحصر معناه الحبس، والمراد انه حبس نفسه عن الشهوات، حتى لقد روي انه امتنع عن النساء زهاده واستعفافا، واتجاها على الروحانية. وقيل إنه كان لا يأتي النساء عجزا، وذلك غير صحيح، والحق أنه إن كان قد امتنع عن النساء فعن قدرة واختيار لا عن عجز ؛وذلك لن الله سبحانه وتعالى ساق ذلك الوصف في مقام المدح والثناء، ولا يتحقق معنى المدح والثناء إلا إذا كان فيه اختيار، ولم يكن عجزا وجبرا. ولأن"حصور"صيغة مبالغة لحاصر، أي أنه يبالغ في منع نفسه من الشهوات.
وليس في النص ما يدل على انه امتنع عن النساء بخاصة، بل النص يدل على أنه حبس نفسه عن الشهوات، وقدعها عن أهوائها.
والوصف الرابع : أنه نبي من الصالحين، وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا ؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه، ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله﴿ ومن الصالحين ﴾إشارة إلى موطن النبوة. وموضع اختيارها، والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين، فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة، ويعصمهم عن المعاصي بعدها.
استمع زكريا إلى تلك البشارة الإلهية، فاعتراه العجب، لما كان يتنازعه من عامل الرجاء وعامل اليأس، فقال :﴿ قال رب انى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾.
﴿ انى ﴾هنا بمعنى"كيف"، فهو يعجب من الحال، ولا يصح ان تكون بمعنى"كم أين"لأن الله سبحانه وتعالى اخبر انه سيعطيه الولد، فلا يليق ان يسأل من أين، إنما العجب من حال العطاء مع حاله هو وامرأته ؛ولذا كانت الجملة من بعد ذلك جملة حالية صدرت بواو الحال، فقال :﴿ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾كان وجه العجب من ناحيتين : الناحية الأولى : أنه شيخ فان قد أصابه الكبر بما فيه من ضعف، والثانية ان امرأته عاقر لا تلد، والعقر يوصف به الرجل والمرأة، فيقال رجل عاقر، وامرأة عاقر أي بينة العقر، والعقر مصدر عقر يعقر عقرا ويظهر ان امرأته مع شيخوختها كانت عقيما لا تلد، فكان العجب إذن من ثلاث نواح : شيخوختها، وعقرها. وقد عبر عن شيخوخته بقوله :﴿ وقد بلغني الكبر ﴾ولم يقل قد بلغت الكبر وهو الظاهر، ولكنه عدل هنا للإشارة إلى ان الكبر قد أصابه بضعفه وما فيه من آلام وأسقام وضعف. ويقول في ذلك الزمخشري :( وقد بلغني الكبر كقولهم أدركته السن العالية، والمعنى أثر في الكبر فأضعفني )وعلى ذلك يكون قوله تعالى :﴿ بلغني الكبر ﴾يتضمن بلوغ الشيخوخة، وأنها أوجدت فيه ضعفا وعجزا، ويكون هذا في معنى قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا :﴿ وقد بلغت من الكبر عتيا٨ ﴾[ مريم ].
وقد أجابه سبحانه وتعالى بما يزيل عجبه، ويمنع حيرته ؛وذلك بأن بين ان الله تعالى فوق السنن الكونية وفوق الأسباب في الخلق ؛لأنه خالق الأسباب ؛فقال تعالى :
﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾أي مثل ذلك الذي رأيته من ان يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي ان الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس ؛لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجاري العادات التي تجري بينهم. فالإجابة لا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو ان الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد غنه سبحانه فعال لما يريد.
ولماذا كان ذلك الخارق، وما يجئ بعده ؟الجواب عن ذلك : ان هذا لأن بني إسرائيل كانوا لا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شئ تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب او المعلول عن علته، فكان لابد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على ان المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير ؛ولذا قال سبحانه﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾.
﴿ انى ﴾هنا بمعنى"كيف"، فهو يعجب من الحال، ولا يصح ان تكون بمعنى"كم أين"لأن الله سبحانه وتعالى اخبر انه سيعطيه الولد، فلا يليق ان يسأل من أين، إنما العجب من حال العطاء مع حاله هو وامرأته ؛ولذا كانت الجملة من بعد ذلك جملة حالية صدرت بواو الحال، فقال :﴿ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾كان وجه العجب من ناحيتين : الناحية الأولى : أنه شيخ فان قد أصابه الكبر بما فيه من ضعف، والثانية ان امرأته عاقر لا تلد، والعقر يوصف به الرجل والمرأة، فيقال رجل عاقر، وامرأة عاقر أي بينة العقر، والعقر مصدر عقر يعقر عقرا ويظهر ان امرأته مع شيخوختها كانت عقيما لا تلد، فكان العجب إذن من ثلاث نواح : شيخوختها، وعقرها. وقد عبر عن شيخوخته بقوله :﴿ وقد بلغني الكبر ﴾ولم يقل قد بلغت الكبر وهو الظاهر، ولكنه عدل هنا للإشارة إلى ان الكبر قد أصابه بضعفه وما فيه من آلام وأسقام وضعف. ويقول في ذلك الزمخشري :( وقد بلغني الكبر كقولهم أدركته السن العالية، والمعنى أثر في الكبر فأضعفني )وعلى ذلك يكون قوله تعالى :﴿ بلغني الكبر ﴾يتضمن بلوغ الشيخوخة، وأنها أوجدت فيه ضعفا وعجزا، ويكون هذا في معنى قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا :﴿ وقد بلغت من الكبر عتيا٨ ﴾[ مريم ].
وقد أجابه سبحانه وتعالى بما يزيل عجبه، ويمنع حيرته ؛وذلك بأن بين ان الله تعالى فوق السنن الكونية وفوق الأسباب في الخلق ؛لأنه خالق الأسباب ؛فقال تعالى :
﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾أي مثل ذلك الذي رأيته من ان يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي ان الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس ؛لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجاري العادات التي تجري بينهم. فالإجابة لا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو ان الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد غنه سبحانه فعال لما يريد.
ولماذا كان ذلك الخارق، وما يجئ بعده ؟الجواب عن ذلك : ان هذا لأن بني إسرائيل كانوا لا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شئ تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب او المعلول عن علته، فكان لابد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على ان المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير ؛ولذا قال سبحانه﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾.
ولقد أراد نبي الله زكريا ان يعلم الوقت الذي تبتدئ فيه هذه البشارة ان تتحقق، وان تقوم آية تدل على الحمل كما يقول بعض المفسرين فقال كما حكى الله عنه :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ :
في تفسير هذا النص الكريم اتجاهان :
أولهما : أن سيدنا زكريا عليه السلام طلب علامة تدل على موعد الحمل، فقال :﴿ اجعل لي آية ﴾أي علامة أعرف منها موعد الحمل، فقال له ربه : آيتك أي علامتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، أي لا تستطيع ان تكلم الناس إلا بالرمز والإشارة، وان تستطيع ذكر الله، فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار، أي في المساء، وفي الصباح من وقت الفجر إلى الضحى، وقد وضح هذا الاتجاه الزمخشري فقال :"آيتك الا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام، وإنما خص تكليم الناس ليعلم انه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ؛ولذلك قال :﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟قلت ليخص المدة بذكر الله لا يشغل لسانه بغيرها، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من اجله، كأنه لما طلب الآية لأجل الشكر قيل له آيتك ان تحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه".
هذا هو الاتجاه الأول. و أساسه أن ثمة أمر آخر خارقا للعادة، و هو عجزه عن الكلام الناس مع قدرته على الذكر.
هذا هو الاتجاه الثاني، فأساسه غير ذلك، إذ عن معنى النص الكريم على هذا الاتجاه ان زكريا شعر بإكرام الله تعالى إكراما خصه به، وكانت آية ذلك الإكرام بين الناس انه قد أنجب من عاقر وعجوزا ولدا، وقد بلغ من الكبر عتيا، فدعا ربه ان يجعل له بين الناس آية تدل على عظيم شكره، وان يختص من بين الناس بهذا الشكر، ليعلم الناس علامة شكره كما علموه علامة إكرامه، فقال سبحانه :
﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾بأن تحبس انت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكي ذلك الاتجاه انه لا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال :﴿ ألا تكلم الناس ﴾وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على انه امتنع اختيارا لا اضطرارا، وان النسب بشكر النعمة ان يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم اظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبار غذ يقول سبحانه :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليال سويا١٠فخرج على قومه من المحراب فأوحى غليهم ان سبحوا بكرة وعشيا١١ ﴾[ مريم ].
وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لا بالكلام والعبارة. وإن هذا الاتجاه لا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة ان يكون ترك كلام الناس اختيارا. وفوق ما تقدم فغن عطف قوله تعالى :﴿ ألا تكلم الناس... ﴾ جملة طلبية ؛لأن الجملة الطلبية لا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلي القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.
وهنا بعض عبارات نفسرها لفظيا :
الأولى : كلمة﴿ إلا رمزا ﴾قد جاء في تفسير الزمخشري :"إلا إشارة بيد أو رأس او غيرهما، واصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب"إلا رمزا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل ؛وقرئ"رمزا"بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.
والثانية : كلمتا﴿ بالعشي والإبكار ﴾ ؛فالعشي من حين تزول الشمس إلى ان تغيب، والإبكار من طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
والثالثة : كلمتا ذكر وتسبيح ؛فإن الذكر معناه ان يستحضر الإنسان عظمة ربه، وينطق بها لسانه، والتسبيح معناه التنزيه المطلق لله سبحانه وتعالى، وقد كان طلب الذكر والتسبيح في هذا المقام مناسبا لتلك النعمة التي أسداها لعبده ونبيه زكريا عليه السلام ؛فإن سيادة المادية في بني إسرائيل وطغيانها على الروح أنستهم ذكر الله، وسيادة الفلسفة المنكرة للإرادة جعلتهم لا ينزهون الله تعالى، فدعا ربه لأن يقوم بهذا المر الذي فيه استذكار كل معاني الألوهية وانصراف بالكلية للنواحي الروحية. وفي التسبيح إدراك لله وتنزيه له عن العلية ؛ولذا اتخذ زكريا من هذا الخارق للعادة بإنجابه ولدا سبيلا لأن يدعوهم إلى التسبيح وهو التنزيه عن العلية والسببية وكل ما لا يليق بذات الله تعالى، وان يتركوا ما هم عليه من ماديات وفلسفة تنكر الإرادة لرب العالمين، فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا.
في تفسير هذا النص الكريم اتجاهان :
أولهما : أن سيدنا زكريا عليه السلام طلب علامة تدل على موعد الحمل، فقال :﴿ اجعل لي آية ﴾أي علامة أعرف منها موعد الحمل، فقال له ربه : آيتك أي علامتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، أي لا تستطيع ان تكلم الناس إلا بالرمز والإشارة، وان تستطيع ذكر الله، فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار، أي في المساء، وفي الصباح من وقت الفجر إلى الضحى، وقد وضح هذا الاتجاه الزمخشري فقال :"آيتك الا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام، وإنما خص تكليم الناس ليعلم انه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ؛ولذلك قال :﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟قلت ليخص المدة بذكر الله لا يشغل لسانه بغيرها، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من اجله، كأنه لما طلب الآية لأجل الشكر قيل له آيتك ان تحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه".
هذا هو الاتجاه الأول. و أساسه أن ثمة أمر آخر خارقا للعادة، و هو عجزه عن الكلام الناس مع قدرته على الذكر.
هذا هو الاتجاه الثاني، فأساسه غير ذلك، إذ عن معنى النص الكريم على هذا الاتجاه ان زكريا شعر بإكرام الله تعالى إكراما خصه به، وكانت آية ذلك الإكرام بين الناس انه قد أنجب من عاقر وعجوزا ولدا، وقد بلغ من الكبر عتيا، فدعا ربه ان يجعل له بين الناس آية تدل على عظيم شكره، وان يختص من بين الناس بهذا الشكر، ليعلم الناس علامة شكره كما علموه علامة إكرامه، فقال سبحانه :
﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾بأن تحبس انت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكي ذلك الاتجاه انه لا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال :﴿ ألا تكلم الناس ﴾وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على انه امتنع اختيارا لا اضطرارا، وان النسب بشكر النعمة ان يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم اظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبار غذ يقول سبحانه :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليال سويا١٠فخرج على قومه من المحراب فأوحى غليهم ان سبحوا بكرة وعشيا١١ ﴾[ مريم ].
وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لا بالكلام والعبارة. وإن هذا الاتجاه لا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة ان يكون ترك كلام الناس اختيارا. وفوق ما تقدم فغن عطف قوله تعالى :﴿ ألا تكلم الناس... ﴾ جملة طلبية ؛لأن الجملة الطلبية لا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلي القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.
وهنا بعض عبارات نفسرها لفظيا :
الأولى : كلمة﴿ إلا رمزا ﴾قد جاء في تفسير الزمخشري :"إلا إشارة بيد أو رأس او غيرهما، واصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب"إلا رمزا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل ؛وقرئ"رمزا"بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.
والثانية : كلمتا﴿ بالعشي والإبكار ﴾ ؛فالعشي من حين تزول الشمس إلى ان تغيب، والإبكار من طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
والثالثة : كلمتا ذكر وتسبيح ؛فإن الذكر معناه ان يستحضر الإنسان عظمة ربه، وينطق بها لسانه، والتسبيح معناه التنزيه المطلق لله سبحانه وتعالى، وقد كان طلب الذكر والتسبيح في هذا المقام مناسبا لتلك النعمة التي أسداها لعبده ونبيه زكريا عليه السلام ؛فإن سيادة المادية في بني إسرائيل وطغيانها على الروح أنستهم ذكر الله، وسيادة الفلسفة المنكرة للإرادة جعلتهم لا ينزهون الله تعالى، فدعا ربه لأن يقوم بهذا المر الذي فيه استذكار كل معاني الألوهية وانصراف بالكلية للنواحي الروحية. وفي التسبيح إدراك لله وتنزيه له عن العلية ؛ولذا اتخذ زكريا من هذا الخارق للعادة بإنجابه ولدا سبيلا لأن يدعوهم إلى التسبيح وهو التنزيه عن العلية والسببية وكل ما لا يليق بذات الله تعالى، وان يتركوا ما هم عليه من ماديات وفلسفة تنكر الإرادة لرب العالمين، فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا.
﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم عن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين٤٢ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين٤٣ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم غذ يختصمون٤٤ ﴾
بين الله سبحانه المر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحي من الحي، بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر، وغن الذي خرق هذه السنن هو خالق السنن، وغنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس انه سبحانه خلقها بإرادته وحكمته ؛فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد. وبعد ان بين ذلك، وهو العليم، مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين، ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي ؛وذلك هو خلق عيسى بن مريم من غير أب، كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا ام، وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام، وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى، وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت، والركوع والخضوع لرب العالمين، ثم باختيارها النهائي للوديعة الربانية ؛ولذا قال تعالى :
﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾"الواو"هنا عاطفة، وهي تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى :﴿ إذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا... ٣٥ ﴾[ آل عمران ]فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهي حمل، ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها، وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبي الله زكريا إياها، مما جعلها تنشأ تنشئة التقوى والورع، ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها وخاطبتها الملائكة بذبك الخطاب﴿ قالت الملائكة يا مريم ﴾وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم، لا بواحد، كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لمريم البتول ؟أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون، أم كان بالإلهام او الرؤيا الصادقة في النوم ؟لم تبين الآية هنا نوع الخطاب ؛ولذا قال بعض العلماء : إن الخطاب كان بالإلهام، وغلى هذا يومئ الزمخشري رضي الله عنه، ولكنه صرح بقوله :"روى انهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام".
وبعض العلماء كما ترى قرر ان الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما، ولا رؤيا صادقة في النوم ؛وإنا نميل إلى ذلك الرأي، ؛لأنه ثبت بنص القرآن الصريح الذي لا يحتمل تأويلا ان الملك خاطبها حين ابتدأ حملها، كما جاء في سورة مريم، إذ قال الله سبحانه وتعالى :﴿ واذكروا في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا غليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧ قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن كنت تقيا١٨ قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩ ﴾[ مريم ].
والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله، أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام، ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان ؛لأنه ليس بإنسان، والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية ؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى، والخلق والتكوين لرب العالمين، وهو يخلق الحي من غير جرثومة حياة، كما يخلق جرثومة الحياة نفسها.
وإذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية، لن الملائكة خاطبوها ؟هكذا قال بعض العلماء.
ولكن الأكثرون على انه لا يمكن ان تكون نبية، وخطاب الملائكة لها لا يقتضي النبوة ؛لن النبي من يوحى إليه بشرع، ومريم لم يوح إليها بشئ من الشرع، ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علة منزلتها، واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها.
والاصطفاء افتعال من صفا ؛فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة ؛والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية. ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقي ؛فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية، واختيارها لسدانة البيت المقدس ؛وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون اما لمن لا أب له، إذ تلد بعد ان تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجري بين البشر ؛وبين الاصطفاءين طهر وتقي وعفاف، وإيمان وانصراف للعبادة، وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم :﴿ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾وذكر في الاصطفاء ما يدل على انها به مختارة دون نساء العالمين ؛لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لا تختص به مريم، فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار ؛أما الاصطفاء الثاني وهو ان تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود ؛ولذا قال فيه :﴿ واصطفاك على نساء العالمين ﴾.
وإن هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء، يدل على ان لها فضلا على نساء العالمين، إذ إن التعبير﴿ على نساء العالمين ﴾يتضمن معنى الأفضلية عليهم، وإن لها ذلك الفضل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري :"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"١وروى من طرق صحيحة :"خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"٢.
بين الله سبحانه المر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحي من الحي، بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر، وغن الذي خرق هذه السنن هو خالق السنن، وغنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس انه سبحانه خلقها بإرادته وحكمته ؛فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد. وبعد ان بين ذلك، وهو العليم، مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين، ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي ؛وذلك هو خلق عيسى بن مريم من غير أب، كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا ام، وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام، وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى، وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت، والركوع والخضوع لرب العالمين، ثم باختيارها النهائي للوديعة الربانية ؛ولذا قال تعالى :
﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾"الواو"هنا عاطفة، وهي تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى :﴿ إذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا... ٣٥ ﴾[ آل عمران ]فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهي حمل، ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها، وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبي الله زكريا إياها، مما جعلها تنشأ تنشئة التقوى والورع، ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها وخاطبتها الملائكة بذبك الخطاب﴿ قالت الملائكة يا مريم ﴾وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم، لا بواحد، كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لمريم البتول ؟أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون، أم كان بالإلهام او الرؤيا الصادقة في النوم ؟لم تبين الآية هنا نوع الخطاب ؛ولذا قال بعض العلماء : إن الخطاب كان بالإلهام، وغلى هذا يومئ الزمخشري رضي الله عنه، ولكنه صرح بقوله :"روى انهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام".
وبعض العلماء كما ترى قرر ان الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما، ولا رؤيا صادقة في النوم ؛وإنا نميل إلى ذلك الرأي، ؛لأنه ثبت بنص القرآن الصريح الذي لا يحتمل تأويلا ان الملك خاطبها حين ابتدأ حملها، كما جاء في سورة مريم، إذ قال الله سبحانه وتعالى :﴿ واذكروا في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا غليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧ قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن كنت تقيا١٨ قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩ ﴾[ مريم ].
والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله، أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام، ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان ؛لأنه ليس بإنسان، والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية ؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى، والخلق والتكوين لرب العالمين، وهو يخلق الحي من غير جرثومة حياة، كما يخلق جرثومة الحياة نفسها.
وإذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية، لن الملائكة خاطبوها ؟هكذا قال بعض العلماء.
ولكن الأكثرون على انه لا يمكن ان تكون نبية، وخطاب الملائكة لها لا يقتضي النبوة ؛لن النبي من يوحى إليه بشرع، ومريم لم يوح إليها بشئ من الشرع، ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علة منزلتها، واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها.
والاصطفاء افتعال من صفا ؛فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة ؛والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية. ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقي ؛فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية، واختيارها لسدانة البيت المقدس ؛وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون اما لمن لا أب له، إذ تلد بعد ان تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجري بين البشر ؛وبين الاصطفاءين طهر وتقي وعفاف، وإيمان وانصراف للعبادة، وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم :﴿ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾وذكر في الاصطفاء ما يدل على انها به مختارة دون نساء العالمين ؛لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لا تختص به مريم، فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار ؛أما الاصطفاء الثاني وهو ان تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود ؛ولذا قال فيه :﴿ واصطفاك على نساء العالمين ﴾.
وإن هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء، يدل على ان لها فضلا على نساء العالمين، إذ إن التعبير﴿ على نساء العالمين ﴾يتضمن معنى الأفضلية عليهم، وإن لها ذلك الفضل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري :"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"١وروى من طرق صحيحة :"خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"٢.
١ متفق عليه رواه البخاري: أحاديث الأنبياء-(٣١٧٩)، ومسلم: فضائل الصحابة-فضائل أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها(٤٤٥٩)عن أبي موسى الأشعري، واللفظ لمسلم..
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ج٦ ص١٨٦، عن أنس رضي الله عنه، ورواه الترمذي: المناقب- مناقب خديجة رضي الله عنها(٣٨١٣)وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح..
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ج٦ ص١٨٦، عن أنس رضي الله عنه، ورواه الترمذي: المناقب- مناقب خديجة رضي الله عنها(٣٨١٣)وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح..
﴿ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخضوع التام المطلق، والاستسلام لله وإسلام الوجه لله الكريم، فمعنى نداء الملائكة دعوتها إلى ان تستمر على ما هي عليه من خضوع لله وإسلام وجهها له سبحانه، وتفويض أمورها له. وتكرار النداء لإشعارها بقربهم منها وهم رسل ربهم إليها، وفي ذلك بيان قربها منه سبحانه وتعالى. وفي تكرار النداء إشعار بأن طلبهم الاستمرار على القنوت وهو من قبيل شكر الله على هذه النعمة ؛فهذا الاصطفاء يوجب الشكر بالاستمرار على القنوت، وقوله تعالى :﴿ واسجدي ﴾هذا الأمر هنا يفسر بملازمة الطاعة والعبادة ؛فالسجود الخضوع المطلق لله تعالى ؛لأن أظهر مظاهر الخضوع ان يتضامن الشخص فيضع جبهته على الأرض خضوعا لله تعالى، وشعورا بعظمته وجلالته، وعلوه سبحانه، وانخفاض العبد امامه. وقوله تعالى :﴿ واركعي مع الراكعين ﴾فسرها الزمخشري بأن تصلى مع المصلين، فقال :"﴿ واركعي مع الراكعين ﴾بمعنى لتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أو انظمي نفسك في جملة المصلين، وكوني معهم في عدوهم، ولا تكوني في عداد غيرهم"، فالأمر بالركوع مع الراكعين كناية عن صلاتها مع الجماعة، وهذا فيه فائدة، وهي إثبات ان الصلاة مع الجماعة من تمام النسك والعبادة. فمريم البتول كانت ملازمة للمحراب منذ نشأتها في كفالة زكريا عليه السلام، وهي بهذا تشبه ان تكون بعزلة عن عوجاء الحياة وما فيها، وما عند الناس حتى في عباداتهم، فبينت لها الملائكة عن الله سبحانه ان تصلى جماعة مع الناس، فإن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد.
وعلى ذلك يكون بالسجود من قبيل المر العام بالانصراف للعبادة والطاعة ؛لأن فيه أظهر مظاهر إسلام الوجه لله، ويكون الأمر بالصلاة ثابتا بقوله﴿ واركعي مع الراكعين ﴾.
ويصح ان نقول عن الأمر بالسجود هو امر بالصلاة مطلقا، إذ انه اظهر مظاهر الصلاة، وأقواها تأثيرا في النفس، وكان الأمر على هذا النحو بأن تديم الصلاة منفردة وفي خلواتها ؛وقوله تعالى :﴿ واركعي مع الراكعين ﴾أمر آخر بأن تصلى مع الجماعة وإلا تنقطع عنهم لفضل الصلاة في الجماعة، وكان في النص تعبيرا عن طلب الصلاة بتعبيرين ؛أولهما : طلبها بعبارة "اسجدي" والثانية : طلبها مع الجماعة، بعبارة"اركعي"، والبلاغة تسوغ ان تعبر عن المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين في صيغتهما ومادتهما في مقام واحد، وإن كان الأمر الأول مطلقا، وكان الثاني مقيدا.
وعلى ذلك يكون بالسجود من قبيل المر العام بالانصراف للعبادة والطاعة ؛لأن فيه أظهر مظاهر إسلام الوجه لله، ويكون الأمر بالصلاة ثابتا بقوله﴿ واركعي مع الراكعين ﴾.
ويصح ان نقول عن الأمر بالسجود هو امر بالصلاة مطلقا، إذ انه اظهر مظاهر الصلاة، وأقواها تأثيرا في النفس، وكان الأمر على هذا النحو بأن تديم الصلاة منفردة وفي خلواتها ؛وقوله تعالى :﴿ واركعي مع الراكعين ﴾أمر آخر بأن تصلى مع الجماعة وإلا تنقطع عنهم لفضل الصلاة في الجماعة، وكان في النص تعبيرا عن طلب الصلاة بتعبيرين ؛أولهما : طلبها بعبارة "اسجدي" والثانية : طلبها مع الجماعة، بعبارة"اركعي"، والبلاغة تسوغ ان تعبر عن المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين في صيغتهما ومادتهما في مقام واحد، وإن كان الأمر الأول مطلقا، وكان الثاني مقيدا.
هذه قصة مريم في ولادتها، وتهيئتها للآية الكبرى الدالة على ان الخالق فاعل مختار، قد قصها الله جل شأنه في القرآن الذي جاء به أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يتعلم ولم يجلس إلى معلم، ولم يختلط باليهود والنصارى، وفوق ذلك هذه القصة لم تكتب في التوراة قط، ولم يتعرض لها الإنجيل، وجاء بها القرآن الكريم. وهي صادقة كل الصدق فمن أين جاء علم هذا إلى ذلك الأمي ؟إنه من عند الله. أشار المولى إلى هذا المعنى بقوله :
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها، وكفالة زكريا لها، ودعا زكريا وإجابة الله دعاءه، ولزوم مريم للعبادة، وخطاب الملائكة ؛ فبين الله سبحانه وتعالى ان هذا القصص من أنباء الغيب، أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله، وهي مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ، ولم يذكرها كتاب، فهي مغيبة عن علم الناس لا يعلمها أحد إلا من الله تعالى، وهي عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني، وجرى الفكر الإنساني، ومجرى التاريخ بشكل عام ؛وذلك لأنها تتعلق بآية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهي إيجاد إنسان كامل مستو من غير أب، وحمل امرأة من غير تلقيح ؛فإن هذا يفتق ذهن الإنسان المفكر لأن يدرك ان الله يخلق الأشياء بإرادته غير مقيد بسنن كونية، ولا بنظم في الخلق والإنشاء ؛لأنه خالق كل السنن وكل النظم ؛وبذلك يرد أقوال الفلاسفة الذين زعموا ان العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن العلة من غير إرادة مبدعة مسيرة.
والأنباء جمع نبأ، والنبأ هو الخبر العظيم الشأن، فليس كل خبر يسمى نبأ، والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى. وقوله :﴿ نوحيه إليك ﴾إشارة إلى موضع الصدق وهو انه بوحي من الله تعالى ؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا، لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل، لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لا يكون إلا من الله تعالى. وفي قوله :﴿ نوحيه إليك ﴾مع كونه من قبل كان مغيبا إشارة إلى معنى الاختصاص، وفي الاختصاص بالتعريف كل معاني التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت حال مريم وخلوصها لعبادة الله تعالى مجهولة للناس قبل بيان القرآن، فإن القرآن صاحب الفضل في بيان براءتها من الدنس، ومقامها في عبادة الله تعالى، وكفالة الله تعالى لها بنبي من أنبيائه، وتشريف الله تعالى بخطاب ملائكته لها مبشرين بالآية الكبرى والمعجزة الإلهية القاطعة، وذلك بولادة عيسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة إلى وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو إخباره بالصادق الذي لا يوجد دليل قط على كذبه مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم، والخبر لم يكن مدونا من قبل حتى يتلقاه من احد كأولئك ؛الذين ادعوا انه كان يقول ما يقول عن أخبار بني اسرائيل من حداد بمكة، وقد رد الله تعالى فريتهم بقوله تعالى :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾[ النحل ]. فلا يمكن ان يدعى لأخبار مريم ؛لأنه ما كان معلوما قبل بيان الله تعالى، ولذلك سماه غيبا.
وقد وضح سبحانه وتعالى هذا المعنى، وهو كون هذا بوحي، لا من عند محمد عليه الصلاة والسلام، بقوله :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾الأقلام جمع قلم، من قلمه بمعنى قطعه، والمراد بالأقلام القداح التي يضربون بها القرعة. والاختصام معناه في الأصل ان يكون كل في خصم أي جانب، والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم ؛وذلك لأنها ولدت يتيمة، وقد تيمن العباد من بني إسرائيل بها، وكل يرجو خيرا من كفالتها، ويتخذ من هذه الكفالة قربة وزلفا إلى الله العزيز الحكيم، العليم الخبير، فلما كان الاختصام والتنافس اتفقوا على القرعة تحكم بينهم، وقد كانت نتيجة القرعة أن آلت كفالتها إلى نبي الله زكريا عليه السلام، وهكذا كان الله تعالى يختار لها ولابنها ؛فاختارها من صفوة آل عمران، واختارها منذورة للعباد محررة لها، واختارها مكفولة بنبي، واختارها لخطاب الملائكة إياها، ثم كانت النتيجة لهذا كله ان اختارها على نساء العالمين لتكون موضع آيته الكبرى في هذا الوجود.
والمعنى الجملي للنص الكريم : وما كنت لديهم أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم، كل يريدها في كنفه ورعايته، وما كنت لديهم إذ يحتكمون إلى القرعة، ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه، وقد ذكر سبحانه من قبل ان الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا عليه السلام، إذ قال من قبل :﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا... ٣٧ ﴾[ آل عمران ].
ما كنت عندهم في هذا الوقت، وما تلقيت بالسماع من احد، وما كنت تقرأ في كتاب، فمن أي شئ علمت هذا الغيب الذي لا يعلمه احد ؟إنه لا بد أن يكون من عند الله تعالى، فهذه الجملة الكريمة سيقت لإثبات ان العلم كان وحيا من عند الله العليم الخبير.
وهنا بعض مباحث نشير إليها :
أولها : أن"لدى"معناها"عند"، و"لدى"هنا تشير إلى معنى ليس في"عند" ؛ذلك انها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن ؛فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان، فما كانت هذه العندية متصورة، وما كان لأحد ان يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين ؛لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا، وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس.
وثانيها : ان هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين، ولا يسعهم تكذيبها ؛لأنها اقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من انها كانت ذات بعل، أو مخطوبة او نحو ذلك، فما عندهم مدعاة للشك، وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء، وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل ؛فأي الخبرين أصدق قيلا ؟
وثالثها : وهو ان هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ﴾تشير إلى بعض معاني الإعجاز في القرآن الكريم، وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها احد إلا رب العالمين، وهي حكاية دلائل الصدق فيها واضحة، وبينات الحق فيها لائحة ؛وإذا كان النبي لا يعلمها عن مشاهدة ولا عن سماع، فطريق العلم بها هو الله، وهذا يدل على ان القرآن من عند العزيز الحكيم، وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة، ولوكره الكافرون، كما قال منزله سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون٩ ﴾[ الحجر ].
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها، وكفالة زكريا لها، ودعا زكريا وإجابة الله دعاءه، ولزوم مريم للعبادة، وخطاب الملائكة ؛ فبين الله سبحانه وتعالى ان هذا القصص من أنباء الغيب، أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله، وهي مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ، ولم يذكرها كتاب، فهي مغيبة عن علم الناس لا يعلمها أحد إلا من الله تعالى، وهي عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني، وجرى الفكر الإنساني، ومجرى التاريخ بشكل عام ؛وذلك لأنها تتعلق بآية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهي إيجاد إنسان كامل مستو من غير أب، وحمل امرأة من غير تلقيح ؛فإن هذا يفتق ذهن الإنسان المفكر لأن يدرك ان الله يخلق الأشياء بإرادته غير مقيد بسنن كونية، ولا بنظم في الخلق والإنشاء ؛لأنه خالق كل السنن وكل النظم ؛وبذلك يرد أقوال الفلاسفة الذين زعموا ان العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن العلة من غير إرادة مبدعة مسيرة.
والأنباء جمع نبأ، والنبأ هو الخبر العظيم الشأن، فليس كل خبر يسمى نبأ، والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى. وقوله :﴿ نوحيه إليك ﴾إشارة إلى موضع الصدق وهو انه بوحي من الله تعالى ؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا، لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل، لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لا يكون إلا من الله تعالى. وفي قوله :﴿ نوحيه إليك ﴾مع كونه من قبل كان مغيبا إشارة إلى معنى الاختصاص، وفي الاختصاص بالتعريف كل معاني التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت حال مريم وخلوصها لعبادة الله تعالى مجهولة للناس قبل بيان القرآن، فإن القرآن صاحب الفضل في بيان براءتها من الدنس، ومقامها في عبادة الله تعالى، وكفالة الله تعالى لها بنبي من أنبيائه، وتشريف الله تعالى بخطاب ملائكته لها مبشرين بالآية الكبرى والمعجزة الإلهية القاطعة، وذلك بولادة عيسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة إلى وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو إخباره بالصادق الذي لا يوجد دليل قط على كذبه مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم، والخبر لم يكن مدونا من قبل حتى يتلقاه من احد كأولئك ؛الذين ادعوا انه كان يقول ما يقول عن أخبار بني اسرائيل من حداد بمكة، وقد رد الله تعالى فريتهم بقوله تعالى :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾[ النحل ]. فلا يمكن ان يدعى لأخبار مريم ؛لأنه ما كان معلوما قبل بيان الله تعالى، ولذلك سماه غيبا.
وقد وضح سبحانه وتعالى هذا المعنى، وهو كون هذا بوحي، لا من عند محمد عليه الصلاة والسلام، بقوله :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾الأقلام جمع قلم، من قلمه بمعنى قطعه، والمراد بالأقلام القداح التي يضربون بها القرعة. والاختصام معناه في الأصل ان يكون كل في خصم أي جانب، والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم ؛وذلك لأنها ولدت يتيمة، وقد تيمن العباد من بني إسرائيل بها، وكل يرجو خيرا من كفالتها، ويتخذ من هذه الكفالة قربة وزلفا إلى الله العزيز الحكيم، العليم الخبير، فلما كان الاختصام والتنافس اتفقوا على القرعة تحكم بينهم، وقد كانت نتيجة القرعة أن آلت كفالتها إلى نبي الله زكريا عليه السلام، وهكذا كان الله تعالى يختار لها ولابنها ؛فاختارها من صفوة آل عمران، واختارها منذورة للعباد محررة لها، واختارها مكفولة بنبي، واختارها لخطاب الملائكة إياها، ثم كانت النتيجة لهذا كله ان اختارها على نساء العالمين لتكون موضع آيته الكبرى في هذا الوجود.
والمعنى الجملي للنص الكريم : وما كنت لديهم أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم، كل يريدها في كنفه ورعايته، وما كنت لديهم إذ يحتكمون إلى القرعة، ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه، وقد ذكر سبحانه من قبل ان الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا عليه السلام، إذ قال من قبل :﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا... ٣٧ ﴾[ آل عمران ].
ما كنت عندهم في هذا الوقت، وما تلقيت بالسماع من احد، وما كنت تقرأ في كتاب، فمن أي شئ علمت هذا الغيب الذي لا يعلمه احد ؟إنه لا بد أن يكون من عند الله تعالى، فهذه الجملة الكريمة سيقت لإثبات ان العلم كان وحيا من عند الله العليم الخبير.
وهنا بعض مباحث نشير إليها :
أولها : أن"لدى"معناها"عند"، و"لدى"هنا تشير إلى معنى ليس في"عند" ؛ذلك انها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن ؛فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان، فما كانت هذه العندية متصورة، وما كان لأحد ان يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين ؛لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا، وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس.
وثانيها : ان هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين، ولا يسعهم تكذيبها ؛لأنها اقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من انها كانت ذات بعل، أو مخطوبة او نحو ذلك، فما عندهم مدعاة للشك، وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء، وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل ؛فأي الخبرين أصدق قيلا ؟
وثالثها : وهو ان هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ﴾تشير إلى بعض معاني الإعجاز في القرآن الكريم، وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها احد إلا رب العالمين، وهي حكاية دلائل الصدق فيها واضحة، وبينات الحق فيها لائحة ؛وإذا كان النبي لا يعلمها عن مشاهدة ولا عن سماع، فطريق العلم بها هو الله، وهذا يدل على ان القرآن من عند العزيز الحكيم، وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة، ولوكره الكافرون، كما قال منزله سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون٩ ﴾[ الحجر ].
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين٤٥ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين٤٦ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون٤٧ ﴾
توالت في هذه القصة خوارق العادات متدرجة من القريب من المألوف إلى البعيد الذي لا يعرفه الناس قط بمقتضى السنن الكونية المطردة ؛فقد ولدت مريم البتول بعد ان نذرت لتكون خالصة للبيت المقدس، وكان يأتيها في المحراب الرزق من حيث لا تحتسب ولا تقدر، حتى أثار ذلك عجب نبي الله زكريا، ثم كانت ولادة امرأة زكريا، وهي عجوز عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيا ؛ثم كانت الحادثة الكبرى التي تدل على ان الله تعالى مبدع الكون وخالق الأسباب ينشئ الكون كما يريد، وتلك الحادثة هي ولادة عيسى من غير أب ؛وهذا هو ما اصطفى الله به مريم ابنة عمران ؛ ولذا يقول سبحانه :
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم عن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾الكلام في هذه الآية الكريمة متصل بما سبقها ؛فإذا هنا متعلقة بما تعلقت به إذ في قوله تعالى :﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين٤٢ ﴾[ آل عمران ]فإذا هنا في مقام البدل أو البيان من الأولى ؛لأن هذا فيه تفصيل لمعنى الاصطفاء الذي اختصت به على نساء العالمين ؛والمعنى : اذكر إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك.. إذ كان ذلك الاصطفاء على نساء العالمين ؛بأن كانت هي التي تلقت البشارة الكبرى بأن تلد مولودا من غيرأب قد أنجبه. والملائكة الذين خاطبوا مريم بذلك الخطاب يتضح من السياق انهم الذين خاطبوها بالاصطفاء ؛ فكأنهم قد بشروها بالاصطفاء على نساء العالمين، وبشروها مع ذلك بنوع الاصطفاء. وقد استظهرنا كما استظهر ابن جرير الطبري ان الملائكة الذين بشروا بالاصطفاء كانوا عددا ولم يكونوا واحدا، فلابد إذا ان الذين بشروا بحقيقته كانوا عددا أيضا، ولكن سورة مريم فيها بيان ان الذي أنبأها نهائيا بهبة الله تعالى لها كان ملكا تمثل في صورة بشر قد أودعها ما يكون منه الولد من غير تلقيح جنسي ؛لأن الملك ليس له تلك الشهوة الإنسانية ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها من روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن منت تقيا١٨قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩قالت انى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا٢٠قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ].
وإن التوفيق بين هذا النص الكريم، والنص الذي نتكلم في معناه سهل يحتاج إلى إعمال فكر ؛ذلك ان الله سبحانه وتعالى أرسل ملائكته غليها يبشرونها بالاصطفاء ويبشرونها بنوع الاصطفاء، ثم أرسل إليها بعد هذه البشارات المتكررة ملكا تمثل لها بشرا سويا، ليودع رحمها نهائيا تلك الهبة التي أهداها رب العالمين إليها.
ذكر سبحانه البشارة بأنها كلمة منه، وان معنى هذه الكلمة شخص حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا اعتبره الكريم كلمة منه ؟لأنه سبحانه خلقه وأبدعه بكلمة منه ؛ فإذا كان سبحانه قد خلق الحياء بطريق التناسل : الرجل يلاقح الأنثى، ويخرج الولاد من أصلاب
الآباء، فإن عيسى عليه السلام لم يخلق ذلك الخلق، بل خلقه الله تعالى خلقا آخر ؛خلقه بكلمة منه وهي"كن"فكان، جديرا بأن يعتبر كلمة، وان تكون هذه الكلمة منسوبة على الله تعالى.
ويقول ابن جرير : إن الكلمة هي كلمة البشرى، تشريفا لمريم البتول، وتكريما لها بأن تكون البشرى بكلمة من الله، أي بخطاب من الله تعالى مرسل منه إليها. ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... ١٧١ ﴾[ النساء ]. وقوله تعالى :﴿ اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾هو ما تضمنته البشارة، ويكون التأويل : يبشرك ببشارة جازمة قاطعة لا احتمال لتخلفها ؛هذه البشارة هي ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وكان"اسمه المسيح"تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : البشارة ولد اسمه المسيح عيسى بن مريم.
وقد عرف سبحانه وتعالى ذلك المولود بثلاثة تعريفات : لقب، واسم وكنية ؛أما اللقب فهو المسيح، وأما الاسم فعيسى، وأما الكنية فهو ابن مريم، وهذه التعريفات الثلاثة، كل واحد منها يومئ إلى معنى قد تحقق في السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؛فأما الكنية فللإشارة إلى ان نسبة ثابت لأمه لا لأحد سواها، فليس ابنا لأي حي من الأحياء، وليس ابنا لله تعالى كما توهم او كما لبس على نفسه كل من لا يريد ان يحكم عقله فيما لقن من عقائد باطلة، ولا تعلق لهم في أن عيسى قيل عنه كلمة الله، فالكلمة هي البشارة، وهي مخلوقة، او لأنه خلق بكلمة الله وهي"كن"وكلتاهما لا يمكن ان تكون ابنا لله تعالى. وأما الاسم فينبئ عن البياض والصفاء المعلم الواضح ؛ولذلك يقول الأصفهاني :"عيسى اسم علم وإذا جعل عربيا أمكن ان يكون من قولهم : بعير أعيس وناقة عيساء، وهي إبل بيضاء يعترى بياضها بعض الظلمة، أي فيها اغبرار يعطى بياضها صفاء وجمالا، فهو ينبئ عن جمال تكوينه، وجمال دعوته وصفاء رسالته.
وأما اللقب فهو ينبئ عن البركة والفضل، وهو أحسن ما قيل في ذلك ؛فقد ذكر الزمخشري ان كلمة مسيح في أصلها العبري، وهو مشيح، معناه مبارك، وهذا قد جاء في شكره لربه إذ قال :﴿ وجعلني مباركا أين ما كنت... ٣١ ﴾[ مريم ].
وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأربعة أوصاف وأحوال ؛أولها : أنه وجيه في الدنيا والآخرة، والثاني : انه من المقربين، والثالث : أنه يكلم الناس في المهد وكهلا، والرابع : أنه من الصالحين. وقد ذكرت هذه الأوصاف كلها لأمه وقت البشارة به، فكانت أجل تبشير لأم رءوم في مثل تقوى مريم البتول.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الوصفين الأولين بقوله تعالى :
﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾هذان وصفان تما لعيسى الرسول بعد كمال رجولته، وظهرا أتم ظهور في أداء رسالته، واحدهما وصف ذاتي أضفاه الله تعالى على ذاته النبوية الطاهرة ليكون صاحب رسالته، وداعي هدايته، وناشر رحمته، وذلك الوصف هو الوجاهة في الدنيا، والوصف الثاني وصف إضافي، وهو انه في موضع المقربين من الله تعالى، وهذا وصف يضفى شرفا إضافيا، فوق شرف النبوة، وشرف الرسالة الإلهية.
وكلمة"وجيه"مشتقة من الوجه ؛لأنه هو الذي يلقى به الناس، وهو مظهر كل ما في النفس مما يوجب الاحترام، ومنه اشتقت كلمة جاه، أي ان من له جاه يكون ذا وجه دال على الاحترام والشرف، فمعنى"وجيها"أي انه ذو شرف ومكانة ؛اما مكانته يوم القيامة، فأمر مقرر ثابت، وإذا لم يكن لمثل عيسى وهو وأمثاله من النبيين عليهم السلام وجاهة فوق تقديرنا، فلمن تكون وجاهة الآخرة ؟
وأما وجاهة الدنيا فأمر ثابت مقرر، وأي وجاهة وشرف وأثر في النفوس اكبر من وجاهة رجل روحاني يبرئ الكمه والأبرص ويحيى الموتى، ويؤثر في القلوب فتنجذب له، ولم يستطع ان ينال خصومه منه شيئا، وإذا قيل إن اليهود آذوه وطردوه فليس ذلك بمانع من وجاهته، بل إنه دليل وجاهته وأثره في القلوب، ولو كان خاملا ما تحركوا لإيذائه، ومع ذلك لم ينالوا منه شيئا، ولم يمكنهم الله من رقبته، بل نحاه من شرورهم ودسائسهم، فكيف لا يكون وجيها عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؟ !.
فعيسى عليه السلام كان وجيها، ووجاهته أكمل أنواع الوجاهة، وهي الوجاهة التي تتجرد من كل سلطان إلا سلطان الحق والروح، وبهما ملك القلوب. والجاه الحق-كما قال الغزالي-هو ملك القلوب.
وأما كونه من المقربين إلى الله تعالى، فمعناه انه مقرب إلى الله تعالى كما هو قريب من الناس، وانه وجيه عند الله تعالى ذو مكانة قريبة منه، كما هو ذو مكانة عند الناس.
توالت في هذه القصة خوارق العادات متدرجة من القريب من المألوف إلى البعيد الذي لا يعرفه الناس قط بمقتضى السنن الكونية المطردة ؛فقد ولدت مريم البتول بعد ان نذرت لتكون خالصة للبيت المقدس، وكان يأتيها في المحراب الرزق من حيث لا تحتسب ولا تقدر، حتى أثار ذلك عجب نبي الله زكريا، ثم كانت ولادة امرأة زكريا، وهي عجوز عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيا ؛ثم كانت الحادثة الكبرى التي تدل على ان الله تعالى مبدع الكون وخالق الأسباب ينشئ الكون كما يريد، وتلك الحادثة هي ولادة عيسى من غير أب ؛وهذا هو ما اصطفى الله به مريم ابنة عمران ؛ ولذا يقول سبحانه :
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم عن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾الكلام في هذه الآية الكريمة متصل بما سبقها ؛فإذا هنا متعلقة بما تعلقت به إذ في قوله تعالى :﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين٤٢ ﴾[ آل عمران ]فإذا هنا في مقام البدل أو البيان من الأولى ؛لأن هذا فيه تفصيل لمعنى الاصطفاء الذي اختصت به على نساء العالمين ؛والمعنى : اذكر إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك.. إذ كان ذلك الاصطفاء على نساء العالمين ؛بأن كانت هي التي تلقت البشارة الكبرى بأن تلد مولودا من غيرأب قد أنجبه. والملائكة الذين خاطبوا مريم بذلك الخطاب يتضح من السياق انهم الذين خاطبوها بالاصطفاء ؛ فكأنهم قد بشروها بالاصطفاء على نساء العالمين، وبشروها مع ذلك بنوع الاصطفاء. وقد استظهرنا كما استظهر ابن جرير الطبري ان الملائكة الذين بشروا بالاصطفاء كانوا عددا ولم يكونوا واحدا، فلابد إذا ان الذين بشروا بحقيقته كانوا عددا أيضا، ولكن سورة مريم فيها بيان ان الذي أنبأها نهائيا بهبة الله تعالى لها كان ملكا تمثل في صورة بشر قد أودعها ما يكون منه الولد من غير تلقيح جنسي ؛لأن الملك ليس له تلك الشهوة الإنسانية ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها من روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن منت تقيا١٨قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩قالت انى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا٢٠قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ].
وإن التوفيق بين هذا النص الكريم، والنص الذي نتكلم في معناه سهل يحتاج إلى إعمال فكر ؛ذلك ان الله سبحانه وتعالى أرسل ملائكته غليها يبشرونها بالاصطفاء ويبشرونها بنوع الاصطفاء، ثم أرسل إليها بعد هذه البشارات المتكررة ملكا تمثل لها بشرا سويا، ليودع رحمها نهائيا تلك الهبة التي أهداها رب العالمين إليها.
ذكر سبحانه البشارة بأنها كلمة منه، وان معنى هذه الكلمة شخص حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا اعتبره الكريم كلمة منه ؟لأنه سبحانه خلقه وأبدعه بكلمة منه ؛ فإذا كان سبحانه قد خلق الحياء بطريق التناسل : الرجل يلاقح الأنثى، ويخرج الولاد من أصلاب
الآباء، فإن عيسى عليه السلام لم يخلق ذلك الخلق، بل خلقه الله تعالى خلقا آخر ؛خلقه بكلمة منه وهي"كن"فكان، جديرا بأن يعتبر كلمة، وان تكون هذه الكلمة منسوبة على الله تعالى.
ويقول ابن جرير : إن الكلمة هي كلمة البشرى، تشريفا لمريم البتول، وتكريما لها بأن تكون البشرى بكلمة من الله، أي بخطاب من الله تعالى مرسل منه إليها. ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... ١٧١ ﴾[ النساء ]. وقوله تعالى :﴿ اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾هو ما تضمنته البشارة، ويكون التأويل : يبشرك ببشارة جازمة قاطعة لا احتمال لتخلفها ؛هذه البشارة هي ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وكان"اسمه المسيح"تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : البشارة ولد اسمه المسيح عيسى بن مريم.
وقد عرف سبحانه وتعالى ذلك المولود بثلاثة تعريفات : لقب، واسم وكنية ؛أما اللقب فهو المسيح، وأما الاسم فعيسى، وأما الكنية فهو ابن مريم، وهذه التعريفات الثلاثة، كل واحد منها يومئ إلى معنى قد تحقق في السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؛فأما الكنية فللإشارة إلى ان نسبة ثابت لأمه لا لأحد سواها، فليس ابنا لأي حي من الأحياء، وليس ابنا لله تعالى كما توهم او كما لبس على نفسه كل من لا يريد ان يحكم عقله فيما لقن من عقائد باطلة، ولا تعلق لهم في أن عيسى قيل عنه كلمة الله، فالكلمة هي البشارة، وهي مخلوقة، او لأنه خلق بكلمة الله وهي"كن"وكلتاهما لا يمكن ان تكون ابنا لله تعالى. وأما الاسم فينبئ عن البياض والصفاء المعلم الواضح ؛ولذلك يقول الأصفهاني :"عيسى اسم علم وإذا جعل عربيا أمكن ان يكون من قولهم : بعير أعيس وناقة عيساء، وهي إبل بيضاء يعترى بياضها بعض الظلمة، أي فيها اغبرار يعطى بياضها صفاء وجمالا، فهو ينبئ عن جمال تكوينه، وجمال دعوته وصفاء رسالته.
وأما اللقب فهو ينبئ عن البركة والفضل، وهو أحسن ما قيل في ذلك ؛فقد ذكر الزمخشري ان كلمة مسيح في أصلها العبري، وهو مشيح، معناه مبارك، وهذا قد جاء في شكره لربه إذ قال :﴿ وجعلني مباركا أين ما كنت... ٣١ ﴾[ مريم ].
وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأربعة أوصاف وأحوال ؛أولها : أنه وجيه في الدنيا والآخرة، والثاني : انه من المقربين، والثالث : أنه يكلم الناس في المهد وكهلا، والرابع : أنه من الصالحين. وقد ذكرت هذه الأوصاف كلها لأمه وقت البشارة به، فكانت أجل تبشير لأم رءوم في مثل تقوى مريم البتول.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الوصفين الأولين بقوله تعالى :
﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾هذان وصفان تما لعيسى الرسول بعد كمال رجولته، وظهرا أتم ظهور في أداء رسالته، واحدهما وصف ذاتي أضفاه الله تعالى على ذاته النبوية الطاهرة ليكون صاحب رسالته، وداعي هدايته، وناشر رحمته، وذلك الوصف هو الوجاهة في الدنيا، والوصف الثاني وصف إضافي، وهو انه في موضع المقربين من الله تعالى، وهذا وصف يضفى شرفا إضافيا، فوق شرف النبوة، وشرف الرسالة الإلهية.
وكلمة"وجيه"مشتقة من الوجه ؛لأنه هو الذي يلقى به الناس، وهو مظهر كل ما في النفس مما يوجب الاحترام، ومنه اشتقت كلمة جاه، أي ان من له جاه يكون ذا وجه دال على الاحترام والشرف، فمعنى"وجيها"أي انه ذو شرف ومكانة ؛اما مكانته يوم القيامة، فأمر مقرر ثابت، وإذا لم يكن لمثل عيسى وهو وأمثاله من النبيين عليهم السلام وجاهة فوق تقديرنا، فلمن تكون وجاهة الآخرة ؟
وأما وجاهة الدنيا فأمر ثابت مقرر، وأي وجاهة وشرف وأثر في النفوس اكبر من وجاهة رجل روحاني يبرئ الكمه والأبرص ويحيى الموتى، ويؤثر في القلوب فتنجذب له، ولم يستطع ان ينال خصومه منه شيئا، وإذا قيل إن اليهود آذوه وطردوه فليس ذلك بمانع من وجاهته، بل إنه دليل وجاهته وأثره في القلوب، ولو كان خاملا ما تحركوا لإيذائه، ومع ذلك لم ينالوا منه شيئا، ولم يمكنهم الله من رقبته، بل نحاه من شرورهم ودسائسهم، فكيف لا يكون وجيها عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؟ !.
فعيسى عليه السلام كان وجيها، ووجاهته أكمل أنواع الوجاهة، وهي الوجاهة التي تتجرد من كل سلطان إلا سلطان الحق والروح، وبهما ملك القلوب. والجاه الحق-كما قال الغزالي-هو ملك القلوب.
وأما كونه من المقربين إلى الله تعالى، فمعناه انه مقرب إلى الله تعالى كما هو قريب من الناس، وانه وجيه عند الله تعالى ذو مكانة قريبة منه، كما هو ذو مكانة عند الناس.
ولقد بين سبحانه وتعالى حالين هما من أحوال المسيح عليه السلام، فقال تعالى :
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾المهد : هو مضجع الطفل، من مهد يمهد مهدا، بمعنى انه مهيأ مسهل له وهو في الرضاعة.
ومن في المهد يكون طفلا صغيرا يحمل لا يتصور منه كلام مطلقا، والكهل هو الرجل السوي، والمر الخارق للعادة في هذا ان عيسى عليه السلام تكلم وهو في المهد، وكلامه وهو في المهد ليس لغو صبيان، بل هو كلام شبان مكتهلين، وقد بلغوا تمام الرجولة والاستواء العقلي، وجمعهما معا في الكلام يدل على ان كلامه في الأول من نوع كلامه في الثاني ؛ولذا يقول الزمخشري :"ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة، وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء"وإن ما حكاه الله تعالى عن كلامه في المهد ليوضح ذلك ؛ففي سورة مريم :﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت يوم أبعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ].
وقد ذكر سبحانه حالا ثانية من أحواله، او وصفا من أوصافه، وهو انه من الصالحين، وهذا رمز إلى ما يأتي به من إصلاح خلقي واجتماعي، وروحي فكري ؛إذ يزيل النزعة المادية من قلوب المؤمنين ؛فإن الصالح حقا هو الذي يصلح، فليس بصالح صلاحا كاملا من لم يرشد غيره إلى طريق الصلاح.
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾المهد : هو مضجع الطفل، من مهد يمهد مهدا، بمعنى انه مهيأ مسهل له وهو في الرضاعة.
ومن في المهد يكون طفلا صغيرا يحمل لا يتصور منه كلام مطلقا، والكهل هو الرجل السوي، والمر الخارق للعادة في هذا ان عيسى عليه السلام تكلم وهو في المهد، وكلامه وهو في المهد ليس لغو صبيان، بل هو كلام شبان مكتهلين، وقد بلغوا تمام الرجولة والاستواء العقلي، وجمعهما معا في الكلام يدل على ان كلامه في الأول من نوع كلامه في الثاني ؛ولذا يقول الزمخشري :"ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة، وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء"وإن ما حكاه الله تعالى عن كلامه في المهد ليوضح ذلك ؛ففي سورة مريم :﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت يوم أبعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ].
وقد ذكر سبحانه حالا ثانية من أحواله، او وصفا من أوصافه، وهو انه من الصالحين، وهذا رمز إلى ما يأتي به من إصلاح خلقي واجتماعي، وروحي فكري ؛إذ يزيل النزعة المادية من قلوب المؤمنين ؛فإن الصالح حقا هو الذي يصلح، فليس بصالح صلاحا كاملا من لم يرشد غيره إلى طريق الصلاح.
هذه بشارة الله بطريق ملائكته لمريم البتول، وقد بين الله تعالى ان هذه البشارة أثارت عجبها واستغرابها :﴿ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾ :
هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها، وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم :﴿ ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ ﴾[ مريم ]. صدرت إجابتها بالنداء للرب، وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين، وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى، فهو تسليم بالقدرة الإلهية، وبأن خالق كل شئ لا يكبر عليه شئ، سبحانه وتعالى.
و﴿ أنى ﴾في قوله تعالى :﴿ أنى يكون لي ولد ﴾هي بمعنى كيف، أي كيف يكون منى ولد ولم يمسسني بشر أي لم يكن مني ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد. فالاستغراب في الكيفية، لا في أصل القدرة الإلهية. وكلمة﴿ لم يمسسني ﴾إما ان نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة، وهذا ظاهر، وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف، حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم ؛أو نقول : المس المراد به حقيقته، وهو انها لم يلمسها رجل ؛لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط ؛وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع العجب والسؤال هو ان يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة. ولقد أزال عجبا رب البرية بقوله تعالى :
﴿ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ﴾أي كهذا الخلق الذي تجدينه في ان يكون لك ولد من غير ان يمسك رجل وهو إبداع، يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه، وكلمة يخلق غير ينشئ ؛لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق، فالتعبير ب"يخلق"يفيد الإبداع، وانه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين. وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان هذا النوع من التكوين، وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى ؛لأنه الخالق المبدع، وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه ؛لأن من خلق الخلق وخلق السنن الكونية وغيرها قادر تغييرها ؛لأنه مبدعها ومنشئها.
ثانيها : ان خلق عيسى امر من امر الله تعالى، وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته، فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات، فليس إلها ولا ابن إله.
ثالثها : ان خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته، وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من اجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو ان المخلوقات لا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته، ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه :﴿ بديع السموات والأرض انى يكون له ولد ﴾وفي ذلك رد عملي على اهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته.
ثم أشار سبحانه على عظيم قدرته بقوله تعالى :
﴿ إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى إذا أراد ان يوجد امرا لا يوجده إلا بكلمة"كن"وعبر سبحانه عن الإيجاد ب"قضى"للإشارة إلى ان إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود، فإذا حكم بالوجود في امر نفذ حكمه، وحكمه هو ان يقول كن، فيترتب على ذلك أن يكون.
وهل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية، ام ان هذا تصوير لسهولة الخلق ؟الظاهر ان هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق، وبارئ النسم ؛فهو تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة، وسهولة الإنشاء عليه سبحانه، ونفاذ إرادته في خلقه، ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مريم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة :﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ]. فهذا التعبير الكريم صريح في ان السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق، ويفيد أيضا ان المقصود بيان ان الله سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شئ قدير. ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا.
هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها، وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم :﴿ ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ ﴾[ مريم ]. صدرت إجابتها بالنداء للرب، وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين، وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى، فهو تسليم بالقدرة الإلهية، وبأن خالق كل شئ لا يكبر عليه شئ، سبحانه وتعالى.
و﴿ أنى ﴾في قوله تعالى :﴿ أنى يكون لي ولد ﴾هي بمعنى كيف، أي كيف يكون منى ولد ولم يمسسني بشر أي لم يكن مني ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد. فالاستغراب في الكيفية، لا في أصل القدرة الإلهية. وكلمة﴿ لم يمسسني ﴾إما ان نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة، وهذا ظاهر، وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف، حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم ؛أو نقول : المس المراد به حقيقته، وهو انها لم يلمسها رجل ؛لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط ؛وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع العجب والسؤال هو ان يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة. ولقد أزال عجبا رب البرية بقوله تعالى :
﴿ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ﴾أي كهذا الخلق الذي تجدينه في ان يكون لك ولد من غير ان يمسك رجل وهو إبداع، يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه، وكلمة يخلق غير ينشئ ؛لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق، فالتعبير ب"يخلق"يفيد الإبداع، وانه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين. وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان هذا النوع من التكوين، وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى ؛لأنه الخالق المبدع، وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه ؛لأن من خلق الخلق وخلق السنن الكونية وغيرها قادر تغييرها ؛لأنه مبدعها ومنشئها.
ثانيها : ان خلق عيسى امر من امر الله تعالى، وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته، فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات، فليس إلها ولا ابن إله.
ثالثها : ان خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته، وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من اجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو ان المخلوقات لا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته، ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه :﴿ بديع السموات والأرض انى يكون له ولد ﴾وفي ذلك رد عملي على اهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته.
ثم أشار سبحانه على عظيم قدرته بقوله تعالى :
﴿ إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى إذا أراد ان يوجد امرا لا يوجده إلا بكلمة"كن"وعبر سبحانه عن الإيجاد ب"قضى"للإشارة إلى ان إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود، فإذا حكم بالوجود في امر نفذ حكمه، وحكمه هو ان يقول كن، فيترتب على ذلك أن يكون.
وهل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية، ام ان هذا تصوير لسهولة الخلق ؟الظاهر ان هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق، وبارئ النسم ؛فهو تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة، وسهولة الإنشاء عليه سبحانه، ونفاذ إرادته في خلقه، ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مريم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة :﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ]. فهذا التعبير الكريم صريح في ان السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق، ويفيد أيضا ان المقصود بيان ان الله سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شئ قدير. ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا.
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل٤٨ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله وأبرئ الكمه والأبرص واحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم عن في ذلك لآية لكم عن كنتم مؤمنين٤٩ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله واطيعون٥٠ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم٥١ ﴾
في هذا القصص القرآني تستمر الآيات الكريمة متممة قصة البشارة بعيسى عليه السلام ؛بشرت به أمه قبل ان يكون في بطنها، وقد أوحى إليها انه ستكون له تلك المنزلة في الدنيا والآخرة التي اصطفاه الله تعالى لها، وإن من سنة الله تعالى في كلامه المعجز ان يشتمل الكلام على الإيجاز، الذي هو من أسرار الإعجاز، ففي أثناء البشارة قبل الحمل كان بيان رسالته وما هيأه الله به لأداء الرسالة، والمعجزات الكبرى التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يديه، وماهية الرسالة التي جاء بها، ومقام رسالته من الرسالات قبلها، ثم بيان تلقي الذين أرسل إليهم هذه الرسالة مؤيدة بهذه المعجزات الباهرة القاهرة، ثم بيان النهاية التي انتهى بها، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولقد ابتدأ سبحانه ببيان علم الرسالة الذي تكون به قوة الرسول الذي يدعو قوما معاندين من أمثال اليهود والمشركين من الرومان، فقال :
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى علم الرسالة التي أرسله بها، وهو علم بأربعة أمور : علمه بالكتاب، وعلمه بالحكمة، وعلمه بالتوراة، وعلمه بالإنجيل. اما علمه بالكتاب فقد قال بعض مفسري السلف : غنه العلم بالخط والكتابة، وتوجيه ذلك التفسير ان عيسى بعث في أمة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فلا بد ان يكون فيه ما هو سبيل العلم والمعرفة وهو الكتابة، وقد كانت آيته في إثبات رسالته فوق علم العلماء، وقدرة الناس قاطبة. وقال بعض مفسري السلف أيضا : إن علم عيسى بالكتاب هو علمه بما نزل على النبيين السابقين. وإنا نختار الأول ؛فإنه على التفسير الثاني يكون تكرارا ؛لأن علم الرسالات السابقة، في التوراة التي ذكر انها من علمه، والتأسيس أولى من التأكيد. وأما علمه الثاني، وهو الحكمة، فهو العلم الذي يحكم صاحبه في القول والعمل، وسياسة الناس في القول والعمل، ولذا يقول العلماء : إن الحكمة هي العلم النافع ؛فهي العلم الذي تظهر ثمرته في القول والعمل وهداية الناس، وقيادة نفوسهم ؛ولذلك قال الله تعالى آمرا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ١٢٥ ﴾[ النحل ]وإن هذا النوع من العلم هو ألزم العلوم لمن يقود الناس إلى الإيمان، ويدعوهم بدعاية الرحمن.
وأما العلم الثالث والرابع : فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بني إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهي لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
في هذا القصص القرآني تستمر الآيات الكريمة متممة قصة البشارة بعيسى عليه السلام ؛بشرت به أمه قبل ان يكون في بطنها، وقد أوحى إليها انه ستكون له تلك المنزلة في الدنيا والآخرة التي اصطفاه الله تعالى لها، وإن من سنة الله تعالى في كلامه المعجز ان يشتمل الكلام على الإيجاز، الذي هو من أسرار الإعجاز، ففي أثناء البشارة قبل الحمل كان بيان رسالته وما هيأه الله به لأداء الرسالة، والمعجزات الكبرى التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يديه، وماهية الرسالة التي جاء بها، ومقام رسالته من الرسالات قبلها، ثم بيان تلقي الذين أرسل إليهم هذه الرسالة مؤيدة بهذه المعجزات الباهرة القاهرة، ثم بيان النهاية التي انتهى بها، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولقد ابتدأ سبحانه ببيان علم الرسالة الذي تكون به قوة الرسول الذي يدعو قوما معاندين من أمثال اليهود والمشركين من الرومان، فقال :
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى علم الرسالة التي أرسله بها، وهو علم بأربعة أمور : علمه بالكتاب، وعلمه بالحكمة، وعلمه بالتوراة، وعلمه بالإنجيل. اما علمه بالكتاب فقد قال بعض مفسري السلف : غنه العلم بالخط والكتابة، وتوجيه ذلك التفسير ان عيسى بعث في أمة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فلا بد ان يكون فيه ما هو سبيل العلم والمعرفة وهو الكتابة، وقد كانت آيته في إثبات رسالته فوق علم العلماء، وقدرة الناس قاطبة. وقال بعض مفسري السلف أيضا : إن علم عيسى بالكتاب هو علمه بما نزل على النبيين السابقين. وإنا نختار الأول ؛فإنه على التفسير الثاني يكون تكرارا ؛لأن علم الرسالات السابقة، في التوراة التي ذكر انها من علمه، والتأسيس أولى من التأكيد. وأما علمه الثاني، وهو الحكمة، فهو العلم الذي يحكم صاحبه في القول والعمل، وسياسة الناس في القول والعمل، ولذا يقول العلماء : إن الحكمة هي العلم النافع ؛فهي العلم الذي تظهر ثمرته في القول والعمل وهداية الناس، وقيادة نفوسهم ؛ولذلك قال الله تعالى آمرا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ١٢٥ ﴾[ النحل ]وإن هذا النوع من العلم هو ألزم العلوم لمن يقود الناس إلى الإيمان، ويدعوهم بدعاية الرحمن.
وأما العلم الثالث والرابع : فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بني إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهي لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
وبعد ان أشار سبحانه وتعالى على علم الرسالة التي هيأه الله تعالى لها، أشار إلى من أرسل إليهم، فقال تبارك وتعالى :﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾ :
أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بني إسرائيل. ومعنى الكلام : ويجعله او يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل. وذكر بنو إسرائيل خاصة مع ان دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجئ من السماء ما ينسخها او يكملها، وهي الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛والسبب في اختصاص بني إسرائيل بالذكر انهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم وقد كانوا يدعون انهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم على غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم ؛ لنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتي بمعجزات لا تجعل للعقل مساغ لإنكار.
ولقد ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه :
﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي انه يتبين معنى انه رسول بقوله :﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوي في الكلام. وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة ؛لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولن معجزة عيسى كانت تومئ إلى معان من رسالته ؛ذلك بان عصره ماديا، لا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على انها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فكانت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى ؛وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على ان من مات لا يحيا في هذه الدنيا، وان الأكمه الذي ولد أعمى لا يرتد بصيرا، وان إخراج الحي من الطين مباشرة لا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بان الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.
والآية هنا هي المعجزة، وهي في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية ؛لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا ؛وعبر عنها بآية ؛لن مجموعها دال على رسالته، وغن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها ؛فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى انها جميعا كانت آيته.
والآيات الأربع : هي انه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وانه يحيى الموتى، وانه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ؛فهذه آيات أربع.
والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام ؛لأنها كانت تجري على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته ؛وقد خاطب بها بني إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.
وأول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ :
الخلق المراد به هنا التصوير، أي انه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينتفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة"اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما : تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام ؛ولذلك قال :﴿ بإذن الله ﴾أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه﴿ إنما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ﴾. وهذا يدل على انه لك يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.
ولقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده : إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله :﴿ أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾تدل على استطاعته ذلك ولكنها لا تدل على الوقوع، وعندي انها تومئ إلى الوقوع لن ذكر الكيفية وهو انه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فغن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا ؛فإنه سبحانه وتعالى يقول :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لا على إمكان الوقوع ؛لأن الله تعالى لا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.
والآية الثانية والثالثة : بينهما سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ وأبرئ الكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله ﴾الأكمه هو العمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يؤت حاسة الإبصار ؛أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه. والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لا يبرأ منه من يصاب به ؛فهذان مرضان لا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس انه يمكن ان يكون منهما شفاء ؛لأن الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدي عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا يقنع الماديين بأن وراء هذه السباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، غنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.
وإحياء الموتى وحده برهان قاطع على ان الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وغنما الخالق المكون هو المؤثر، وان الأشياء لم تخلق بالعلية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة، وعبر بقوله :﴿ بإذن الله ﴾في كل هذا للإشارة على ان المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وانه ليس ما يجري على يدي عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلي القدير.
والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ :
الإنباء والتنبؤ : الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وغما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شئ من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شانه ؛ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لا يراه.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما اعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى :﴿ غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ﴾وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره عليه الصلاة والسلام عن فشو الربا في أمته، مثل قوله عليه الصلاة والسلام :"يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا"قيل : الناس كلهم يا رسول الله ؟ !قال"من لم يأكله ناله غباره"١. هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام ؛ولذا قال تعالى بعد ذكرها :
﴿ إن في ذلك لآية لكم عن كنتم مؤمنين ﴾أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بينة تدل على صدق رسالته، وتثبيت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع. وقوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾إيماء إلى ان الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شانهم ان يذعنوا للحق، ويخضعوا له ؛فالناس قسمان : قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق ؛وقسم لا يزيده الدليل عليه إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم ان يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه ؛ولذلك عبر بالوصف في قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾أي إن كان الإيمان والإذعان للحق شانا من شئونكم، ووصفا ذاتيا لكم.
وإن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، ذليل على ان الدليل مهما يكن قويا لا يكفي للإيمان، بل لا بد من اتجاه نفسي لطلب الحق من ان يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، او أي غرض من أغراض الدنيا ؛وأي دليل حسي أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وان يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
بعد ان أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدي السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهي تتلخص في أمرين : انها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال لبعض الذي حرم على اليهود فيها، وثانيها : انه يدعو إلى الإيمان بان الله خالق كل شئ ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة ؛وهذا ما تضمنه قوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾.
أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بني إسرائيل. ومعنى الكلام : ويجعله او يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل. وذكر بنو إسرائيل خاصة مع ان دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجئ من السماء ما ينسخها او يكملها، وهي الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛والسبب في اختصاص بني إسرائيل بالذكر انهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم وقد كانوا يدعون انهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم على غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم ؛ لنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتي بمعجزات لا تجعل للعقل مساغ لإنكار.
ولقد ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه :
﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي انه يتبين معنى انه رسول بقوله :﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوي في الكلام. وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة ؛لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولن معجزة عيسى كانت تومئ إلى معان من رسالته ؛ذلك بان عصره ماديا، لا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على انها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فكانت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى ؛وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على ان من مات لا يحيا في هذه الدنيا، وان الأكمه الذي ولد أعمى لا يرتد بصيرا، وان إخراج الحي من الطين مباشرة لا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بان الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.
والآية هنا هي المعجزة، وهي في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية ؛لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا ؛وعبر عنها بآية ؛لن مجموعها دال على رسالته، وغن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها ؛فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى انها جميعا كانت آيته.
والآيات الأربع : هي انه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وانه يحيى الموتى، وانه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ؛فهذه آيات أربع.
والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام ؛لأنها كانت تجري على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته ؛وقد خاطب بها بني إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.
وأول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ :
الخلق المراد به هنا التصوير، أي انه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينتفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة"اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما : تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام ؛ولذلك قال :﴿ بإذن الله ﴾أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه﴿ إنما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ﴾. وهذا يدل على انه لك يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.
ولقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده : إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله :﴿ أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾تدل على استطاعته ذلك ولكنها لا تدل على الوقوع، وعندي انها تومئ إلى الوقوع لن ذكر الكيفية وهو انه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فغن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا ؛فإنه سبحانه وتعالى يقول :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لا على إمكان الوقوع ؛لأن الله تعالى لا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.
والآية الثانية والثالثة : بينهما سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ وأبرئ الكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله ﴾الأكمه هو العمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يؤت حاسة الإبصار ؛أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه. والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لا يبرأ منه من يصاب به ؛فهذان مرضان لا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس انه يمكن ان يكون منهما شفاء ؛لأن الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدي عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا يقنع الماديين بأن وراء هذه السباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، غنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.
وإحياء الموتى وحده برهان قاطع على ان الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وغنما الخالق المكون هو المؤثر، وان الأشياء لم تخلق بالعلية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة، وعبر بقوله :﴿ بإذن الله ﴾في كل هذا للإشارة على ان المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وانه ليس ما يجري على يدي عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلي القدير.
والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ :
الإنباء والتنبؤ : الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وغما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شئ من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شانه ؛ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لا يراه.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما اعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى :﴿ غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ﴾وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره عليه الصلاة والسلام عن فشو الربا في أمته، مثل قوله عليه الصلاة والسلام :"يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا"قيل : الناس كلهم يا رسول الله ؟ !قال"من لم يأكله ناله غباره"١. هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام ؛ولذا قال تعالى بعد ذكرها :
﴿ إن في ذلك لآية لكم عن كنتم مؤمنين ﴾أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بينة تدل على صدق رسالته، وتثبيت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع. وقوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾إيماء إلى ان الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شانهم ان يذعنوا للحق، ويخضعوا له ؛فالناس قسمان : قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق ؛وقسم لا يزيده الدليل عليه إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم ان يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه ؛ولذلك عبر بالوصف في قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾أي إن كان الإيمان والإذعان للحق شانا من شئونكم، ووصفا ذاتيا لكم.
وإن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، ذليل على ان الدليل مهما يكن قويا لا يكفي للإيمان، بل لا بد من اتجاه نفسي لطلب الحق من ان يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، او أي غرض من أغراض الدنيا ؛وأي دليل حسي أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وان يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
بعد ان أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدي السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهي تتلخص في أمرين : انها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال لبعض الذي حرم على اليهود فيها، وثانيها : انه يدعو إلى الإيمان بان الله خالق كل شئ ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة ؛وهذا ما تضمنه قوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾.
١ رواه بهذا اللفظ احمد بن حنبل: باقي مسند المكثرين(١٠٠٠٧)عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه النسائي: البيوع(٤٣٧٩)، وأبو داود: البيوع(٢٨٩٣)، وابن ماجة: التجارات(٢٢٦٩)بنحوه..
وقوله تعالى :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ﴾حال من الفعل المحذوف الذي دل عليه العطف، أي أني جئتكم بآية من ربكم أني اخلق، وجئتكم مصدقا لما بين يدي ؛يقال الأمر بين يديه أي أنه حاضر ثابت موجود، وعيسى جاءت رسالته متممة لرسالة موسى ناسخة لبعض ما جاء فيها، كالشأن في كل نبي بالنسبة لمن سبقه. ولقد بين عيسى عليه السلام لهم انه جاء بالرفق والسماحة ؛
ولذا احل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ١٦٠ ﴾[ النساء ]ولقد قال تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما او الحوا يا او ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وغنا لصادقون١٤٦ ﴾[ الأنعام ]. ذلك لنهم قست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية ؛فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، احل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم. وقوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته ؛لإثبات قدرة الله تعالى وإرادة في الخلق والإبداع.
وبعد ان أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم :
﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين المرين : تقوى الله تعالى، وان يطيعوه بان يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه. أما تقوى الله تعالى فكان لا بد ان تكون لباب الدعوة العيسوية ؛لأن اليهود كانوا قد اعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقون لا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم ان العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لا العقاب الأخروي ؛ومن اجل ذلك سرى في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها شديدا أيا كانت حياتهم فيها ؛ولذا قال تعالى عنهم :﴿ ولتجدنهم احرص الناس على حياة... ٩٦ ﴾[ البقرة ].
وأما الطاعة لعيسى عليه السلام ف[ ان يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم. واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهي التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.
ولذا احل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ١٦٠ ﴾[ النساء ]ولقد قال تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما او الحوا يا او ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وغنا لصادقون١٤٦ ﴾[ الأنعام ]. ذلك لنهم قست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية ؛فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، احل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم. وقوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته ؛لإثبات قدرة الله تعالى وإرادة في الخلق والإبداع.
وبعد ان أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم :
﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين المرين : تقوى الله تعالى، وان يطيعوه بان يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه. أما تقوى الله تعالى فكان لا بد ان تكون لباب الدعوة العيسوية ؛لأن اليهود كانوا قد اعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقون لا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم ان العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لا العقاب الأخروي ؛ومن اجل ذلك سرى في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها شديدا أيا كانت حياتهم فيها ؛ولذا قال تعالى عنهم :﴿ ولتجدنهم احرص الناس على حياة... ٩٦ ﴾[ البقرة ].
وأما الطاعة لعيسى عليه السلام ف[ ان يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم. واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهي التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.
ولقد قرر عيسى-عليه السلام-ان هذه المعجزات الباهرة لا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه ؛ولذا حكى الله تعالى عنه قوله :
﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾أي ان الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا ان نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، اللهم أهدنا إلى سواء السبيل.
﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾أي ان الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا ان نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، اللهم أهدنا إلى سواء السبيل.
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بانا مسلمون٥٢ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين٥٣ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين٥٤ ﴾
هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو ان يولد منها ولد هو إنسان حي يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه ؛ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة ؛وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه ان يأتوا بمثلها ؛وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتكلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى :﴿ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا٢٢ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليثني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا٢٤ وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا٢٥ فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر فقولي غني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا٢٦ فاتت به قومه تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا٢٧ يا أخت هارون ما كان أبوك امرا سوء وما كانت أمك بغيا٢٨ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ]. ففي سورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجئ بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته على الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال :
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ﴾هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله. وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على ان الآية مهما تكن باهرة قاهرة لا تحمل الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي انهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله. والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس.
ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين ؛ولذلك قال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾أي من الذين رضوا ان يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي، على ان يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة :
أولها : ان الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ؛ولذلك عبر بقوله تعالى :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾فنسب الكفر إليهم، وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله : من أنصاري إلى الله تعالى.
المعنى الثاني : الذي يشير إليه النص الكريم : ان السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وان الدعوة الحق أصبحت مهاجمته من تلك الكثرة الساحقة ؛ولذلك طلب ان يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
المعنى الثالث : الذي يشير إليه النص : هو ان النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم عن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون ﴿ ولينصرن الله من ينصره عن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ] ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء إلى الله، فقال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾وقد قال في ذلك الزمخشري :"إلى الله من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل : من الذين يضيفون انفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني، او يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله او ملتجأ"والأوضح في نظري ان يكون المحذوف حالا من الأنصار انفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين على الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بان نصرته هي نصرة الله، وان الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وغن دعوة الحق لا بد ان تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد ؛ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه :
﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين اخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده. واصل مادة ( حور ) : هي شدة البياض، او الخاص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحواري، وعلى النساء البيض : الحواريات، والحوريات ؛وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري ؛لأنهم اخلصوا له، ولنهم لباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام ؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب البيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.
أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما اخذ يبحث عن النصراء﴿ نحن أنصار الله ﴾وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين :
أولهما : انهم علموا انه يتكلم عن الله تعالى وانه رسول أمين ؛ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ؛ولذا قالوا : نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.
الأمر الثاني : انهم فهموا ان نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام ؛قالوا﴿ آمنا بالله ﴾أي آمنا بأنه الواحد الحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد، وانه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم :﴿ واشهد بانا مسلمون ﴾. الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى ان يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد اسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وغن ذلك فوق انه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.
هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو ان يولد منها ولد هو إنسان حي يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه ؛ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة ؛وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه ان يأتوا بمثلها ؛وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتكلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى :﴿ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا٢٢ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليثني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا٢٤ وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا٢٥ فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر فقولي غني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا٢٦ فاتت به قومه تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا٢٧ يا أخت هارون ما كان أبوك امرا سوء وما كانت أمك بغيا٢٨ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ]. ففي سورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجئ بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته على الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال :
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ﴾هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله. وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على ان الآية مهما تكن باهرة قاهرة لا تحمل الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي انهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله. والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس.
ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين ؛ولذلك قال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾أي من الذين رضوا ان يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي، على ان يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة :
أولها : ان الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ؛ولذلك عبر بقوله تعالى :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾فنسب الكفر إليهم، وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله : من أنصاري إلى الله تعالى.
المعنى الثاني : الذي يشير إليه النص الكريم : ان السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وان الدعوة الحق أصبحت مهاجمته من تلك الكثرة الساحقة ؛ولذلك طلب ان يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
المعنى الثالث : الذي يشير إليه النص : هو ان النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم عن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون ﴿ ولينصرن الله من ينصره عن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ] ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء إلى الله، فقال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾وقد قال في ذلك الزمخشري :"إلى الله من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل : من الذين يضيفون انفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني، او يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله او ملتجأ"والأوضح في نظري ان يكون المحذوف حالا من الأنصار انفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين على الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بان نصرته هي نصرة الله، وان الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وغن دعوة الحق لا بد ان تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد ؛ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه :
﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين اخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده. واصل مادة ( حور ) : هي شدة البياض، او الخاص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحواري، وعلى النساء البيض : الحواريات، والحوريات ؛وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري ؛لأنهم اخلصوا له، ولنهم لباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام ؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب البيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.
أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما اخذ يبحث عن النصراء﴿ نحن أنصار الله ﴾وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين :
أولهما : انهم علموا انه يتكلم عن الله تعالى وانه رسول أمين ؛ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ؛ولذا قالوا : نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.
الأمر الثاني : انهم فهموا ان نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام ؛قالوا﴿ آمنا بالله ﴾أي آمنا بأنه الواحد الحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد، وانه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم :﴿ واشهد بانا مسلمون ﴾. الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى ان يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد اسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وغن ذلك فوق انه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.
خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته، ملبين نداءه، معلنين نصرته، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين :
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ﴾وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، لن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا :﴿ آمنا بما أنزلت ﴾أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت. وما انزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات ؛فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل، لن العمل يدل على كمال الإيمان، ولن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد صلى اله عليه وسلم :"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"١
. وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما انزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم﴿ واتبعنا الرسول ﴾وهو عيسى عليه السلام، وإتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته ان يقوي الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وان ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة المشاهدة ؛ولذا قالوا :
﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾أي إذا كنا امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وإلوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي ان نكتب مع الشاهدين ؛ومن هم الشاهدون ؟يصح ان نقول غنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد صلى اله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان. ويصح ان تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود او المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفى نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه.
وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل ان هؤلاء الأتقياء طلبوا ان يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم ؛ولذلك اتجه إلى ان يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، واخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا بالحق بعد ان ظهرت أماراته، وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا ان نور الحق يزداد انتشارا، قرروا انه لا بد ان يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه. ويستفاد من الإشارات القرآنية انهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره. ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم.
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ﴾وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، لن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا :﴿ آمنا بما أنزلت ﴾أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت. وما انزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات ؛فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل، لن العمل يدل على كمال الإيمان، ولن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد صلى اله عليه وسلم :"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"١
. وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما انزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم﴿ واتبعنا الرسول ﴾وهو عيسى عليه السلام، وإتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته ان يقوي الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وان ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة المشاهدة ؛ولذا قالوا :
﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾أي إذا كنا امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وإلوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي ان نكتب مع الشاهدين ؛ومن هم الشاهدون ؟يصح ان نقول غنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد صلى اله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان. ويصح ان تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود او المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفى نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه.
وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل ان هؤلاء الأتقياء طلبوا ان يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم ؛ولذلك اتجه إلى ان يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، واخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا بالحق بعد ان ظهرت أماراته، وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا ان نور الحق يزداد انتشارا، قرروا انه لا بد ان يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه. ويستفاد من الإشارات القرآنية انهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره. ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم.
١ سبق تخريجه..
٢ سبق تخريجه..
٢ سبق تخريجه..
ولقد قال تعالى بعد ان بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ :
أي ان هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد ان كون فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، واخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه او على دعوته. والمكر، كما يظهر من عبارات القرآن : هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به ؛ولذا ذكر المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن ان يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾[ فاطر ]فدل هذا على ان مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن ان يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا ان يكون خيرا. وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمى تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وغن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ١٩٤ ﴾[ البقرة ]وما هو إلا عمل عدل ولكن سمى به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.
دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا-لاستيلاء الفساد على قلوبهم-قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى ؛ولذا قال تعالى :
﴿ والله خير الماكرين ﴾فسرها بعض المفسرين بان الله سبحانه لا يصدر عنه إلا الخير، فمكره خير مكر لأنه لا يتصور فيه شر قط. وفسر الزمخشري قوله :
﴿ والله خير الماكرين ﴾بقوله : أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ؛وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.
أي ان هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد ان كون فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، واخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه او على دعوته. والمكر، كما يظهر من عبارات القرآن : هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به ؛ولذا ذكر المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن ان يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾[ فاطر ]فدل هذا على ان مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن ان يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا ان يكون خيرا. وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمى تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وغن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ١٩٤ ﴾[ البقرة ]وما هو إلا عمل عدل ولكن سمى به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.
دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا-لاستيلاء الفساد على قلوبهم-قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى ؛ولذا قال تعالى :
﴿ والله خير الماكرين ﴾فسرها بعض المفسرين بان الله سبحانه لا يصدر عنه إلا الخير، فمكره خير مكر لأنه لا يتصور فيه شر قط. وفسر الزمخشري قوله :
﴿ والله خير الماكرين ﴾بقوله : أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ؛وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.
﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون٥٥ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين٥٦ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين٥٧ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم٥٨ ﴾
هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذي تدل عليه الآيات قبلها هو ان معركة قائمة بين الخير والشر ؛فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبر التدبير السيئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدي إليه﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾ :
والمعنى : اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى بن مريم، غذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل خير، أنصار لكل شر :﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم ان الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى النفس كلها، وانه رفع مكانته برفع روحه غليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها ان الله تعالى رفعه بجسده غليه سبحانه ؛فقد قال تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا١٥٧ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما١٥٨ ﴾[ النساء ]فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه ؛لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح ؛لأنه يجوز ان يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من ان عيسى عليه السلام سينزل على الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما ؛فقد روى مسلم عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص١ فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون على المال فلا يقبله أحد"٢ فإن ظاهر هذا الحديث يفيد انه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.
وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لا بد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى ؛ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما منزلتك وروحك إلي، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى النفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر، فقد قرروا انه لا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول ؛لأنها تدل على مجرد العودة عن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن ان يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يحيى العظام وهي رميم، وكما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾[ الأعراف ]وفضل عيسى عليه السلام انه عاد إلى جسده قبل ان يعود غيره على جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نزر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لا يحتاج إلى عناء في التأويل ؛لن الإضراب الذي تضمنته"بل"إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي، وكونه لا يقتل ولا يصلب لا يقتضي انه لا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وانه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته ؛إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر.
هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر انه إن كان لا بد من تأويل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على ان التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد او قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة :﴿ متوفيك ورافعك إلي ﴾.
والتفسير الثاني : يقرر ان الرفع بالجسم لا بالروح فقط، وان عيسى حي في السماء، وان الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا ؛وغن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة، منها ان قوله﴿ متوفيك ﴾ ليس معناها مميتك، بل معناها هو المعنى اللغوي الأصلي ؛إذ إن التوفي في اللغة أخذ الشئ وافيا تاما، والمراد في نظرهم أني موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة. ولكن يعارض هذا التأويل ان القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والله يتوفى النفس حين موتها ﴾وقوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم... ١١ ﴾[ السجدة ].
ومن التأويلات : انهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار ان النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار... ٦٠ ﴾[ الأنعام ]. والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إلي.
ومن التأويلات : ما ذكره القرطبي بقوله :﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ﴾على التقديم والتأخير ؛لن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد ان تنزل من السماء، كقوله تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما واجل مسمى١٢٩ ﴾[ طهي، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما٣ أي ان الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد ان ينزل إلى الأرض ولا شك ان هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.
ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة، أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى انه لا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم ؛لماذا اختص عيسى بهذا ؟ ولماذا لا يكون هذا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ويخشى ان يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام ؛ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شانها ان تفسد عقائد المسلمين.
أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأول من أجلها هذه الآية الكريمة، مع ان الأخبار احاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.
﴿ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث، والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول ان يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا إتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها، كما أبدى روحانية وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماه به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا انه غله او ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام، ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن ليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم ؛وهكذا طهر الله عيسى من كل رجس معنوي او حسي، ومن كل أذى حسي او معنوي.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهنا يسأل القارئ لكتاب الله : من هم الذين اتبعوه ؟ومن هم الذين كفروا به ؟وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه ؟
ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى او نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون انه ثالث ثلاثة او ابن الله ؛لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلي القدير وحده ؛وغنما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وان تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما امر الله ؛ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير ان يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواء عليه.
والفوقية ليست هي القوة ؛فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص ؛وذلك لن سبب الفوقية هو الإتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة، وبرهان، . ولقد قال الزمخشري في ذلك :"يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون ؛لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وغن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى"٤.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ، والقسطاس المستقيم، وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلول المقطوع بأنه سيقع لا محالة، يكون الاحتكام بها إلى الحكم العدل العليم ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ثم إلي مرجعكم ﴾أي إلي رجوعكم ومآبكم، وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شئ، فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين، فالفاء في قوله تعالى :﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾هي التي تسمى فاء الإفصاح ؛لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد ذكرناه في مطوي كلامنا.
هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذي تدل عليه الآيات قبلها هو ان معركة قائمة بين الخير والشر ؛فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبر التدبير السيئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدي إليه﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾ :
والمعنى : اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى بن مريم، غذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل خير، أنصار لكل شر :﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم ان الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى النفس كلها، وانه رفع مكانته برفع روحه غليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها ان الله تعالى رفعه بجسده غليه سبحانه ؛فقد قال تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا١٥٧ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما١٥٨ ﴾[ النساء ]فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه ؛لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح ؛لأنه يجوز ان يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من ان عيسى عليه السلام سينزل على الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما ؛فقد روى مسلم عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص١ فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون على المال فلا يقبله أحد"٢ فإن ظاهر هذا الحديث يفيد انه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.
وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لا بد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى ؛ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما منزلتك وروحك إلي، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى النفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر، فقد قرروا انه لا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول ؛لأنها تدل على مجرد العودة عن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن ان يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يحيى العظام وهي رميم، وكما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾[ الأعراف ]وفضل عيسى عليه السلام انه عاد إلى جسده قبل ان يعود غيره على جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نزر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لا يحتاج إلى عناء في التأويل ؛لن الإضراب الذي تضمنته"بل"إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي، وكونه لا يقتل ولا يصلب لا يقتضي انه لا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وانه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته ؛إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر.
هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر انه إن كان لا بد من تأويل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على ان التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد او قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة :﴿ متوفيك ورافعك إلي ﴾.
والتفسير الثاني : يقرر ان الرفع بالجسم لا بالروح فقط، وان عيسى حي في السماء، وان الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا ؛وغن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة، منها ان قوله﴿ متوفيك ﴾ ليس معناها مميتك، بل معناها هو المعنى اللغوي الأصلي ؛إذ إن التوفي في اللغة أخذ الشئ وافيا تاما، والمراد في نظرهم أني موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة. ولكن يعارض هذا التأويل ان القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والله يتوفى النفس حين موتها ﴾وقوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم... ١١ ﴾[ السجدة ].
ومن التأويلات : انهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار ان النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار... ٦٠ ﴾[ الأنعام ]. والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إلي.
ومن التأويلات : ما ذكره القرطبي بقوله :﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ﴾على التقديم والتأخير ؛لن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد ان تنزل من السماء، كقوله تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما واجل مسمى١٢٩ ﴾[ طهي، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما٣ أي ان الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد ان ينزل إلى الأرض ولا شك ان هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.
ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة، أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى انه لا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم ؛لماذا اختص عيسى بهذا ؟ ولماذا لا يكون هذا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ويخشى ان يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام ؛ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شانها ان تفسد عقائد المسلمين.
أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأول من أجلها هذه الآية الكريمة، مع ان الأخبار احاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.
﴿ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث، والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول ان يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا إتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها، كما أبدى روحانية وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماه به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا انه غله او ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام، ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن ليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم ؛وهكذا طهر الله عيسى من كل رجس معنوي او حسي، ومن كل أذى حسي او معنوي.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهنا يسأل القارئ لكتاب الله : من هم الذين اتبعوه ؟ومن هم الذين كفروا به ؟وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه ؟
ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى او نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون انه ثالث ثلاثة او ابن الله ؛لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلي القدير وحده ؛وغنما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وان تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما امر الله ؛ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير ان يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواء عليه.
والفوقية ليست هي القوة ؛فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص ؛وذلك لن سبب الفوقية هو الإتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة، وبرهان، . ولقد قال الزمخشري في ذلك :"يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون ؛لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وغن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى"٤.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ، والقسطاس المستقيم، وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلول المقطوع بأنه سيقع لا محالة، يكون الاحتكام بها إلى الحكم العدل العليم ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ثم إلي مرجعكم ﴾أي إلي رجوعكم ومآبكم، وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شئ، فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين، فالفاء في قوله تعالى :﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾هي التي تسمى فاء الإفصاح ؛لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد ذكرناه في مطوي كلامنا.
١ جاء في الهامش: القلاص جمع قلوص وهي الناقة، ولعل المعنى ان ابن آدم يتجرد للروحانية..
٢ متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن ابي هريرة-رضي الله عنه-مسلم: الإيمان-نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا(٢٢١)، وبه رواه احمد: باقي مسند المكثرين(١٠٠٠١)، ورواه البخاري: البيوع-قتل الخنزير(٢٠٧٠)..
٣ أحكام القرآن للقرطبي ج٤ ص٩٩..
٤ الكشاف: ج ١ ص١٩٢..
٢ متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن ابي هريرة-رضي الله عنه-مسلم: الإيمان-نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا(٢٢١)، وبه رواه احمد: باقي مسند المكثرين(١٠٠٠١)، ورواه البخاري: البيوع-قتل الخنزير(٢٠٧٠)..
٣ أحكام القرآن للقرطبي ج٤ ص٩٩..
٤ الكشاف: ج ١ ص١٩٢..
ولقد بين سبحانه وتعالى بعض الحكم مفصلا في قوله تعالى :
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾هذا هو الجزء الأول من الحكم، وهو عذاب الذين كفروا، وفي التعبير بالموصول إشارة إلى ان سبب العذاب هو كفرهم، وقد أكد سبحانه وتعالى شدة العذاب بعدة تأكيدات، أولها : بنسبة التعذيب إليه، وهو القوي القهار الغالب على كل شئ، وفيه إشعار بعدالة العذاب عدالة مطلقة، وثانيها : بالتأكيد بالمصدر، وثالثها : بالوصف بالشدة، ورابعها : بعدم رجائه إنهاءه او إزالته ؛إذ لا يوجد لهممن ناصر ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾وهو نفي مؤكد مستغرق، أي ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته، ولو كانت ضئيلة.
ولقد ذكر ان العذاب في الدنيا. وفي الآخرة ؛أما عذاب الآخرة فالأمر فيه إلى الله تعالى العلي القدير، وأما عذاب الدنيا بالنسبة لمن كذبوا المسيح من اليهود فهو هذه الذلة والتفريق في الأرض، ومهما يحاول الكافرون أمثالهم لهم من معاونة فإن حبلها مقطوع بعون الله تعالى العلي القدير﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون٢٢٧ ﴾[ الشعراء ]وأما النصارى فإن العذاب الذي هم فيه يبدو للناظر الفاحص من اختلافهم فيما بينهم، وتفرقهم أحزابا وشيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذه هي الحروب بينهم مستمرة مفنية مدمرة، وأي عذاب اشد من هول الحروب التي وقعت بينهم في الحربين العالميتين السابقتين ! !فكم من دماء أهر قها أولئك الذين كفروا بالمسيح فيما بينهم، وأي ذرية أبادوها، وكم من العمران خربوه ! !ولا يدري إلا الله ما سيكشف عنه المستقبل من عذاب شديد يعده بعضهم لبعض، حتى يصيروا في نهايتهم بورا.
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾هذا هو الجزء الأول من الحكم، وهو عذاب الذين كفروا، وفي التعبير بالموصول إشارة إلى ان سبب العذاب هو كفرهم، وقد أكد سبحانه وتعالى شدة العذاب بعدة تأكيدات، أولها : بنسبة التعذيب إليه، وهو القوي القهار الغالب على كل شئ، وفيه إشعار بعدالة العذاب عدالة مطلقة، وثانيها : بالتأكيد بالمصدر، وثالثها : بالوصف بالشدة، ورابعها : بعدم رجائه إنهاءه او إزالته ؛إذ لا يوجد لهممن ناصر ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾وهو نفي مؤكد مستغرق، أي ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته، ولو كانت ضئيلة.
ولقد ذكر ان العذاب في الدنيا. وفي الآخرة ؛أما عذاب الآخرة فالأمر فيه إلى الله تعالى العلي القدير، وأما عذاب الدنيا بالنسبة لمن كذبوا المسيح من اليهود فهو هذه الذلة والتفريق في الأرض، ومهما يحاول الكافرون أمثالهم لهم من معاونة فإن حبلها مقطوع بعون الله تعالى العلي القدير﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون٢٢٧ ﴾[ الشعراء ]وأما النصارى فإن العذاب الذي هم فيه يبدو للناظر الفاحص من اختلافهم فيما بينهم، وتفرقهم أحزابا وشيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذه هي الحروب بينهم مستمرة مفنية مدمرة، وأي عذاب اشد من هول الحروب التي وقعت بينهم في الحربين العالميتين السابقتين ! !فكم من دماء أهر قها أولئك الذين كفروا بالمسيح فيما بينهم، وأي ذرية أبادوها، وكم من العمران خربوه ! !ولا يدري إلا الله ما سيكشف عنه المستقبل من عذاب شديد يعده بعضهم لبعض، حتى يصيروا في نهايتهم بورا.
﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ﴾هذا هو الجزء الثاني من الحكم وهو جزاء الذين آمنوا، وقد ذكر جزاءهم الحكيم العليم بأنه يوفيهم أجورهم أي جزاءهم على ما قدموا من أعمال استحقوا عليها ذلك الجزاء، وهو النعيم المقيم ؛وقد جعل ذلك الوفاء وهذا الجزاء مبنيا على أمرين، احدهما : إيمان صادق، والثاني : عمل صالح، فهما اللذان نيط بهما الجزاء، وفي الحق إن الإيمان الصادق يتبعه العمل الصالح، وليس بمؤمن حق الإيمان من يتخلى عمله عن اعتقاده، ولم يذكر سبحانه وتعالى نعمته في ثوابه، وهو المنعم دائما المتفضل بالثواب ؛للإشعار بأن إنعامه سبحانه منوط بعمل، وليعلمنا العدالة بأن نربط الجزاء بالعمل. ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾لإعلان عدالته ولإثبات ان الكفر والظلم قرينان، وان الإيمان والعدل متلازمان، ولبيان استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات لما أعطوا من ثواب ونعيم مقيم.
ولقد ختم الله سبحانه وتعالى قصص عيسى بقوله تعالى :
﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴾ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها و زكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم غذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحي به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار ؛ولذلك كان هو من﴿ والذكر الحكيم ﴾أي الذكر الذي يربي الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بأن الأدلة مهما تكن قوتها لا تجعل الضال يهتدي ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شئ قدير.
﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴾ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها و زكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم غذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحي به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار ؛ولذلك كان هو من﴿ والذكر الحكيم ﴾أي الذكر الذي يربي الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بأن الأدلة مهما تكن قوتها لا تجعل الضال يهتدي ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شئ قدير.
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون٥٩ الحق من ربك فلا تكن من الممترين٦٠فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين٦١ عن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم٦٢ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين٦٣ ﴾
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته على ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه غليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادعوا ألوهيته، او انه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وان الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات ؛لأنه خالق كل شئ، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وغن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا ام، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين.
ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله :
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ﴾يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب ؛فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شانها ان يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها ؛ومعنى النص الكريم : إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين الهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين :
أولهما : أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لن يكون إلها او ابن إله، فأولى بذلك ثم أولى آدم ؛لأنه خلق من غير أب ولا ام، ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما : ان الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شأنها ان يتكون منها إنسان حي، فأولى ان يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن ام هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين ؛وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح ان يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنته من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، وهو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وانه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحي، ويخلق الحي على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو ابو الخليقة آدم عليه السلام. ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم :
﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى ان يكون فصوره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له امرا تكوينيا"كن"فكان. وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا ان تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون المر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه. وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام :﴿ كن فيكون ﴾ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته على ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه غليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادعوا ألوهيته، او انه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وان الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات ؛لأنه خالق كل شئ، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وغن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا ام، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين.
ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله :
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ﴾يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب ؛فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شانها ان يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها ؛ومعنى النص الكريم : إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين الهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين :
أولهما : أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لن يكون إلها او ابن إله، فأولى بذلك ثم أولى آدم ؛لأنه خلق من غير أب ولا ام، ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما : ان الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شأنها ان يتكون منها إنسان حي، فأولى ان يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن ام هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين ؛وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح ان يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنته من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، وهو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وانه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحي، ويخلق الحي على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو ابو الخليقة آدم عليه السلام. ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم :
﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى ان يكون فصوره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له امرا تكوينيا"كن"فكان. وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا ان تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون المر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه. وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام :﴿ كن فيكون ﴾ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.
وقد بين سبحانه ان هذا هو الحق الثابت المستمر، فقال :
﴿ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ﴾أي هذا الذي أخبرك الله به سبحانه من ان عيسى خلق من غير أب، وكونه كذلك، وكون خلق آدم من طين، وكون هذا التكوين العام هو بإرادة مختارة، لا قيد يقيدها، وأنها خالقة الأسباب، هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه. وقد أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات :
أولها : بتعريف كلمة الحق بأل، فإن مؤدى ذلك ان خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده، ولا حق سواه.
ثانيها : أنه بين ان إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك، وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لا ريب فيه.
ثالثها : أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، فقال سبحانه :﴿ فلا تكن من الممترين ﴾أي انه لا مجال فيه للشك، أو للجدال والمراء المثير للشك. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ان النبي صلى الله عليه وسلم لا شك عنده، وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان انه لا موضع فيه للجدال والامتراء، فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين، وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب.
والامتراء : هو الشك الذي يدفع إلى المراء والمجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق ولذلك قال الراغب الأصفهاني في معنى الامتراء ما نصه :"المرية التردد في المر، وهو اخص من الشك، قال تعالى :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه... ٥٥ ﴾[ الحج ]﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء... ١٠٩ ﴾[ هود ]﴿ فلا تكن في مرية من لقائه... ٢٣ ﴾[ السجدة ]﴿ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم... ٤٥ ﴾[ فصلت ]والامتراء والمماراة : المحاجة فيما فيه تردد، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب".
فمؤدى كلمة الامتراء هو الحاجة فيما فيه ريب، فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم : فلا تكن من الذين يجادلون في هذا شاكين ؛فإنه ليس موضع شك من جهة، وليس موضع جدال ؛لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى ﴿ وهو شديد المحال١٣ ﴾[ الرعد ]وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهيا عن المجادلة في هذا الأمر لأنه لا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره عن حاجوه هم ؟
﴿ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ﴾أي هذا الذي أخبرك الله به سبحانه من ان عيسى خلق من غير أب، وكونه كذلك، وكون خلق آدم من طين، وكون هذا التكوين العام هو بإرادة مختارة، لا قيد يقيدها، وأنها خالقة الأسباب، هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه. وقد أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات :
أولها : بتعريف كلمة الحق بأل، فإن مؤدى ذلك ان خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده، ولا حق سواه.
ثانيها : أنه بين ان إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك، وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لا ريب فيه.
ثالثها : أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، فقال سبحانه :﴿ فلا تكن من الممترين ﴾أي انه لا مجال فيه للشك، أو للجدال والمراء المثير للشك. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ان النبي صلى الله عليه وسلم لا شك عنده، وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان انه لا موضع فيه للجدال والامتراء، فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين، وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب.
والامتراء : هو الشك الذي يدفع إلى المراء والمجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق ولذلك قال الراغب الأصفهاني في معنى الامتراء ما نصه :"المرية التردد في المر، وهو اخص من الشك، قال تعالى :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه... ٥٥ ﴾[ الحج ]﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء... ١٠٩ ﴾[ هود ]﴿ فلا تكن في مرية من لقائه... ٢٣ ﴾[ السجدة ]﴿ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم... ٤٥ ﴾[ فصلت ]والامتراء والمماراة : المحاجة فيما فيه تردد، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب".
فمؤدى كلمة الامتراء هو الحاجة فيما فيه ريب، فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم : فلا تكن من الذين يجادلون في هذا شاكين ؛فإنه ليس موضع شك من جهة، وليس موضع جدال ؛لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى ﴿ وهو شديد المحال١٣ ﴾[ الرعد ]وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهيا عن المجادلة في هذا الأمر لأنه لا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره عن حاجوه هم ؟
فبين سبحانه ما يكون منه عن حاجوه بقوله تعالت كلماته :
﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح ؛إذ غنها تفصح عن شرط مقدر ؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به احد، فمن حاجك الخ : والمعنى : فمن حاجك في شانه من حيث كونه إلها او ابن غله او غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد ان علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه غليك، فلا تبادلهم حجة بحجة لنهم لا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وغن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم :﴿ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾والمعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم ؛أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، او على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه ان يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم.
وهذا المعنى هو ظاهر الآية ؛إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل.
وهناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو ان يدعو النبي خاصته من اهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته ؛وقد روى البخاري وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي١.
والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا على رب العالمين ؛لأن الأمر يهم الجميع، فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر، وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى. وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى ان الذي يؤمن بما يقول لا يمتنع عن تقديم احب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بان الحق في جانبه.
وإن النبي تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا ان يدفعوا عن يد وهم صاغرون.
والابتهال قال فيه الزمخشري :﴿ ثم نبتهل ﴾ : ثم نتباهل بأن نقول بهله الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله : لعنه وأبعده من رحمته، من قولك ابهله إذا أهمله. واصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية :
أولها : أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون ؛ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا.
وثانيها : أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، كما كان يقول الإمام مالك : بين الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.
ثالثها : انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين ؛ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.
ورابعها : التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين ؛فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا.
﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح ؛إذ غنها تفصح عن شرط مقدر ؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به احد، فمن حاجك الخ : والمعنى : فمن حاجك في شانه من حيث كونه إلها او ابن غله او غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد ان علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه غليك، فلا تبادلهم حجة بحجة لنهم لا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وغن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم :﴿ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾والمعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم ؛أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، او على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه ان يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم.
وهذا المعنى هو ظاهر الآية ؛إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل.
وهناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو ان يدعو النبي خاصته من اهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته ؛وقد روى البخاري وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي١.
والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا على رب العالمين ؛لأن الأمر يهم الجميع، فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر، وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى. وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى ان الذي يؤمن بما يقول لا يمتنع عن تقديم احب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بان الحق في جانبه.
وإن النبي تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا ان يدفعوا عن يد وهم صاغرون.
والابتهال قال فيه الزمخشري :﴿ ثم نبتهل ﴾ : ثم نتباهل بأن نقول بهله الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله : لعنه وأبعده من رحمته، من قولك ابهله إذا أهمله. واصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية :
أولها : أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون ؛ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا.
وثانيها : أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، كما كان يقول الإمام مالك : بين الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.
ثالثها : انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين ؛ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.
ورابعها : التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين ؛فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا.
١ رواه الترمذي: المناقب-مناقب علي بن أبي طالب(٣٦٥٨)واحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة(١٥٢٢)..
ولقد أكد سبحانه وتعالى صدق ما أخبر به عن عيسى عليه السلام فقال تعالى :﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾أي إن هذا الذي أخبرت هو القصص الثابت الذي لا مجال فيه لإنكار منكر، ولا لتشكيك متشكك، وقد أكد سبحانه صدق القصص في تلك الجملة السامية بأربعة مؤكدات هي : إن، فهي للتوكيد، واللام في قوله تعالى :﴿ لهو القصص الحق ﴾وضمير الفصل، والقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين ؛إذ المعنى فيه ان ما أخبرت به في شان عيسى عليه السلام هو وحده الخبر الحق، ولا حق في سواه، بل ما عندهم ترهات وأباطيل.
وإن هذا الخبر يتضمن في ذاته ان المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله، وانه عبد الله ورسوله الأمين، وانه من أولى العزم من الرسل، وان الألوهية الحق هي لله تعالى وحده ؛ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى :﴿ وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ :
هذا نفي بات قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة "من"فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفي النفي والإثبات تأكيدا لمعنى المستثنى ابلغ تأكيد، وغن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾معناه ان الله سبحانه وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لا يقهر، الحكيم الذي يدبر كل شئ بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان. وغن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن، وباللام، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين.
وفي هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون ان المسيح إله، ويعتقدون مع ذلك انه غلب على امره وصلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا، ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق، ولكن هكذا يعتقدون، وبه يؤمنون.
وإن هذا الخبر يتضمن في ذاته ان المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله، وانه عبد الله ورسوله الأمين، وانه من أولى العزم من الرسل، وان الألوهية الحق هي لله تعالى وحده ؛ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى :﴿ وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ :
هذا نفي بات قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة "من"فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفي النفي والإثبات تأكيدا لمعنى المستثنى ابلغ تأكيد، وغن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾معناه ان الله سبحانه وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لا يقهر، الحكيم الذي يدبر كل شئ بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان. وغن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن، وباللام، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين.
وفي هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون ان المسيح إله، ويعتقدون مع ذلك انه غلب على امره وصلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا، ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق، ولكن هكذا يعتقدون، وبه يؤمنون.
﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ﴾أي فإن أعرضوا ولم يبتهلوا لتكون لعنة الله على الكاذبين، وكلمة الحق هي الغالبة المسيطرة، فاعلم انهم ليسوا طلاب حق وهداية ولكنهم دعاة باطل، وفي دعاوي الباطل يكون الفساد في الأرض ؛لأنه لا فساد في الأرض أكثر من فساد الاعتقاد، فإن فساد الاعتقاد، يدفع إلى فساد العمل.
وقوله تعالى :﴿ فإن الله عليم بالمفسدين ﴾ليس هو جواب الشرط ولكنه ينبئ عن جواب الشرط المحذوف، إذ تقدير القول : فإن تولوا واعرضوا فأنذرهم بسوء المغبة وسوء العقبى، فإن الله عليم بالمفسدين. وهذه الجملة السامية تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا، إذ إن الله تعالى إذا علم بالمفسد لا يسكت عنه، ولا يتركه يعيث في الأرض فسادا، بل غنه يأخذه اخذ عزيز مقتدر، ويوم القيامة يأخذه بالنواصي والأقدام، وكذلك الشأن في كل من يعرضون عن الحق إذا دعوا إليه.
اللهم مكن الحق من قلوبنا، واجعلنا ممن يؤمنون به، ويذعنون له، واعز الإسلام، واجعل أهله يؤمنون به، ويفتدونه، إنك انت العزيز الحكيم.
وقوله تعالى :﴿ فإن الله عليم بالمفسدين ﴾ليس هو جواب الشرط ولكنه ينبئ عن جواب الشرط المحذوف، إذ تقدير القول : فإن تولوا واعرضوا فأنذرهم بسوء المغبة وسوء العقبى، فإن الله عليم بالمفسدين. وهذه الجملة السامية تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا، إذ إن الله تعالى إذا علم بالمفسد لا يسكت عنه، ولا يتركه يعيث في الأرض فسادا، بل غنه يأخذه اخذ عزيز مقتدر، ويوم القيامة يأخذه بالنواصي والأقدام، وكذلك الشأن في كل من يعرضون عن الحق إذا دعوا إليه.
اللهم مكن الحق من قلوبنا، واجعلنا ممن يؤمنون به، ويذعنون له، واعز الإسلام، واجعل أهله يؤمنون به، ويفتدونه، إنك انت العزيز الحكيم.
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد غلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون٦٤ يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون٦٥ ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون٦٦ ﴾
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق مريم البتول، وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا، ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته، وتوثيق دعوته، ثم آمن به الحواريون، وكفر به الأكثرون، مما يدل على ان المعجزة لا تحمل على الإيمان حملا، ولكنها تنير السبيل اما طالبي الحق الذين لا يبغونها عوجا ؛ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاءوا بعد عيسى وادعوا انهم اتبعوه، وما اتبعوه في شئ ؛فقد ادعوا انه إله أو ابن إله، وليس إلا عبد الله ورسوله، وقد اعتمدوا هواهم على انه خلق من غير أب، فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا، وهو ان آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى ان يعبد، إن كان قياسهم سليما، ولكنه غير سليم.
ثم امر سبحانه وتعالى ان يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم، وهي انهم لا يؤمنون بشئ إيمانا صادقا، ولكنهم يمارون، وما امره سبحانه به هو ان يبتهل هو وهم، فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فلم يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحق اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير.
وفي هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم، فيخاطب اهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه، يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع، فقال تعالى :
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾النداء هنا لهل الكتاب عامة، لا لطائفة خاصة منهم ؛فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا، لا فرق بين طائفة منهم وطائفة، وكان النداء في هذا عاما ؛لن العيب عام فيهم، والدواء واحد ؛فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما ؛ذلك ان عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم، فهم يظنون انهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم، فهم يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه، وكل يتعصب لما عنده، فاليهود يقولون : ليست النصارى على شئ، والنصارى يقولون : ليست اليهود على شئ، وكلاهما يقولون : ليس غيرنا على شئ، والدواء واحد أيضا، وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية، وحتى لا تؤدى إلى الانحراف.
وناداهم سبحانه : ب"أهل الكتاب"مع انهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه، وتفرقوا في فهمه ؛والسبب في هذا النداء هو اولا توبيخهم على ما كان منهم ؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، ﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٤ ﴾[ الشورى ] ثم هناد سبب آخر، وهو ان علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب.
ولقد أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله :﴿ كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم، أي فيها إنصاف لنا ولكم، ونلتقي فيها معكم، وتلتقون عندها عن طلبتموها، وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة، وقد قال زهير بن أبي سلمى :
أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
فالسواء هنا هو العدل، واصل السوي الاستواء، وإذا فتحت السين منها صارت سواء، ولقد قال تعالى :﴿... مكانا سوى٥٨ ﴾[ طه ] أي مكانا مستويا.
والمؤدى ان الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ان يدعوهم إلى كلمة يستوي فيها النبي معهم، وكان ينبغي ان يستووا بالنسبة لها معه، وتلك الكلمة، او تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾فهذه الكلمة التي يستوي فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد، والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية، والتوحيد في الربوبية، والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه :﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾. فلا يصح ان يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال : فلان إله، ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر.
أما التوحيد في الربوبية، فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾أي لا يتخذ احد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء او التأخير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر.
وهناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها، وهو ان يكون الشرع كله لله تعالى، فلا يتكلم عن الله احد إلا نبي يوحى إليه، والجميع بعد ذلك امام الشرع سواء، إلا ان يكون فهم متميز متفهم متعرف، ومن ادعى انه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحي يعتمد عليه، فقد ربا يؤخذ عنه ؛ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا ان قولهم دين يتبع، وتقاليد تؤثر، بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله، فقال تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله... ٣١ ﴾ [ التوبة ]ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في ان يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله، وان يخالفوا ما امر الله سبحانه وتعالى، فهم جعلوهم في مقام الرب جل جلاله، ولقد روى عندما نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾قال عدي بن حاتم : ما كنا يا رسول الله !فقال الرسول عليه السلام :"أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم ؟"قال : بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"هو ذاك"١.
وعن بعض التابعين أنه قال : لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة ! ! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما انزل الله، والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعي الجليل، وهو ألا يكون من اهل القبلة.
عرض النبي بأمر الله تعالى ذلك المر الذي يكون فيه نصفة له٢ ولهم، وكانت الدعوة إلى اخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان : إحداهما : ألا يتزيدوا على ما امر الله تعالى وما نهى عنه ؛ والثانية : أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب العمى، محافظة على سلطانهم ان يزول ؛فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من انهم خشوا على سلطانهم من أتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم.
وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين : غما ان يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعية، وتلك خير الخصلتين، وإما ان لا يجيبوا داعية وتلك هي السوءة، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لن يدخل النور قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لا يجدي ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ إن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ﴾ :
أي فإن اعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا ؛وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها، بل أمرهم الله تعالى بقوله :﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾أي يقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل : اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بان نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له ؛ومن جانبنا ؛فإن أذعنتم مثلنا فنعما هي، وغن لم تذعنوا فلنا ديننا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي، وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل، إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب او ألقى السمع وهو شهيد. وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين.
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق. ولذا كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هرقل ملك الروم :
"من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم ؛سلام على من اتبع الهدى. اما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين٣، ويا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"٤.
ولقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى، ويتخذون منها دليل ألوهيته، واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة، أو بالأحرى بما بقي عندهم منها ؛ولما كان كل من الفريقين يدعي ان إبراهيم ابا الأنبياء كان على مثل دينهم، وذلك ليبينوا ان ديانتهم هي ديانة السابقين، كما هي ديانة المتأخرين ؛
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق مريم البتول، وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا، ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته، وتوثيق دعوته، ثم آمن به الحواريون، وكفر به الأكثرون، مما يدل على ان المعجزة لا تحمل على الإيمان حملا، ولكنها تنير السبيل اما طالبي الحق الذين لا يبغونها عوجا ؛ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاءوا بعد عيسى وادعوا انهم اتبعوه، وما اتبعوه في شئ ؛فقد ادعوا انه إله أو ابن إله، وليس إلا عبد الله ورسوله، وقد اعتمدوا هواهم على انه خلق من غير أب، فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا، وهو ان آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى ان يعبد، إن كان قياسهم سليما، ولكنه غير سليم.
ثم امر سبحانه وتعالى ان يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم، وهي انهم لا يؤمنون بشئ إيمانا صادقا، ولكنهم يمارون، وما امره سبحانه به هو ان يبتهل هو وهم، فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فلم يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحق اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير.
وفي هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم، فيخاطب اهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه، يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع، فقال تعالى :
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾النداء هنا لهل الكتاب عامة، لا لطائفة خاصة منهم ؛فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا، لا فرق بين طائفة منهم وطائفة، وكان النداء في هذا عاما ؛لن العيب عام فيهم، والدواء واحد ؛فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما ؛ذلك ان عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم، فهم يظنون انهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم، فهم يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه، وكل يتعصب لما عنده، فاليهود يقولون : ليست النصارى على شئ، والنصارى يقولون : ليست اليهود على شئ، وكلاهما يقولون : ليس غيرنا على شئ، والدواء واحد أيضا، وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية، وحتى لا تؤدى إلى الانحراف.
وناداهم سبحانه : ب"أهل الكتاب"مع انهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه، وتفرقوا في فهمه ؛والسبب في هذا النداء هو اولا توبيخهم على ما كان منهم ؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، ﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٤ ﴾[ الشورى ] ثم هناد سبب آخر، وهو ان علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب.
ولقد أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله :﴿ كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم، أي فيها إنصاف لنا ولكم، ونلتقي فيها معكم، وتلتقون عندها عن طلبتموها، وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة، وقد قال زهير بن أبي سلمى :
أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
فالسواء هنا هو العدل، واصل السوي الاستواء، وإذا فتحت السين منها صارت سواء، ولقد قال تعالى :﴿... مكانا سوى٥٨ ﴾[ طه ] أي مكانا مستويا.
والمؤدى ان الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ان يدعوهم إلى كلمة يستوي فيها النبي معهم، وكان ينبغي ان يستووا بالنسبة لها معه، وتلك الكلمة، او تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾فهذه الكلمة التي يستوي فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد، والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية، والتوحيد في الربوبية، والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه :﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾. فلا يصح ان يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال : فلان إله، ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر.
أما التوحيد في الربوبية، فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾أي لا يتخذ احد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء او التأخير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر.
وهناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها، وهو ان يكون الشرع كله لله تعالى، فلا يتكلم عن الله احد إلا نبي يوحى إليه، والجميع بعد ذلك امام الشرع سواء، إلا ان يكون فهم متميز متفهم متعرف، ومن ادعى انه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحي يعتمد عليه، فقد ربا يؤخذ عنه ؛ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا ان قولهم دين يتبع، وتقاليد تؤثر، بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله، فقال تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله... ٣١ ﴾ [ التوبة ]ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في ان يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله، وان يخالفوا ما امر الله سبحانه وتعالى، فهم جعلوهم في مقام الرب جل جلاله، ولقد روى عندما نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾قال عدي بن حاتم : ما كنا يا رسول الله !فقال الرسول عليه السلام :"أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم ؟"قال : بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"هو ذاك"١.
وعن بعض التابعين أنه قال : لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة ! ! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما انزل الله، والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعي الجليل، وهو ألا يكون من اهل القبلة.
عرض النبي بأمر الله تعالى ذلك المر الذي يكون فيه نصفة له٢ ولهم، وكانت الدعوة إلى اخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان : إحداهما : ألا يتزيدوا على ما امر الله تعالى وما نهى عنه ؛ والثانية : أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب العمى، محافظة على سلطانهم ان يزول ؛فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من انهم خشوا على سلطانهم من أتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم.
وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين : غما ان يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعية، وتلك خير الخصلتين، وإما ان لا يجيبوا داعية وتلك هي السوءة، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لن يدخل النور قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لا يجدي ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ إن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ﴾ :
أي فإن اعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا ؛وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها، بل أمرهم الله تعالى بقوله :﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾أي يقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل : اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بان نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له ؛ومن جانبنا ؛فإن أذعنتم مثلنا فنعما هي، وغن لم تذعنوا فلنا ديننا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي، وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل، إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب او ألقى السمع وهو شهيد. وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين.
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق. ولذا كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هرقل ملك الروم :
"من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم ؛سلام على من اتبع الهدى. اما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين٣، ويا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"٤.
ولقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى، ويتخذون منها دليل ألوهيته، واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة، أو بالأحرى بما بقي عندهم منها ؛ولما كان كل من الفريقين يدعي ان إبراهيم ابا الأنبياء كان على مثل دينهم، وذلك ليبينوا ان ديانتهم هي ديانة السابقين، كما هي ديانة المتأخرين ؛
١ رواه الترمذي: تفسير القرآن-ومن سورة التوبة(٣٠٢٠)..
٢ النصفة: الإنصاف، وهي المعاملة بالعدل..
٣ جاء في الهامش: الأريسيون هم: العمال والفلاحون، أو الدهماء بشكل عام..
٤ متفق عليه؛رواه البخاري: بدء الوحي(٦)، ومسلم: الجهاد والسير-كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل(٣٣٢٢)، عن أبي سفيان(صخر)بن حرب رضي الله عنه..
٢ النصفة: الإنصاف، وهي المعاملة بالعدل..
٣ جاء في الهامش: الأريسيون هم: العمال والفلاحون، أو الدهماء بشكل عام..
٤ متفق عليه؛رواه البخاري: بدء الوحي(٦)، ومسلم: الجهاد والسير-كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل(٣٣٢٢)، عن أبي سفيان(صخر)بن حرب رضي الله عنه..
بين الله سبحانه ان مثل هذا الاحتجاج منهم باطل في معناه، كما هو باطل في شكله ومبناه ؛فقال سبحانه :﴿ يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ﴾أي انه لا يسوغ لكم المحاجة في شأن إبراهيم من حيث غنه كان يهوديا او كان نصرانيا ومن حيث إنكم اتبع الناس له او أبعد الناس عنه، ومن حيث ما جاء به وحقيقة دعوته ؛فإن التوراة والإنجيل ما جاءا إلا من بعده، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة قبل ان تجئ التوراة، وكيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل قبل أن ينزل الإنجيل ؟إن هذه محاجة واضحة البطلان.
والمحاجة معناها مبادلة الحجة، فما هذه المحاجة ؟أكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم ؟ظواهر النصوص تفيد بمقتضى السياق انها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقيمون الحجة على سلامة دينهم بأنه دين إبراهيم الذي كان موضع إجلال الجميع، والذي بنى البيت الحرام الذي هو اول بيت وضع للناس، والذي كان موضع تقديس العرب أجمعين.
ولكن مع هذا الظاهر روى ابن إسحاق عن ابن عباس انه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ﴾ الآية١.
وسواء أكانت المحاجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم فإنها غير معقولة في ذاتها ؛ولذا وبخهم سبحانه وتعالى عليها بقوله تعالت كلماته :
﴿ أفلا تعقلون ﴾هذا النص الكريم هو نتيجة لهذا الحكم الذي يتحاجون فيه، وهو كون إبراهيم يهوديا او نصرانيا ؛إذ أن ذلك هو حكم من لا يعقل ؛ولذلك كانت الفاء التي تفيد السببية، وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها، فتلك الحال التي هم عليها من الغرابة هي السبب في ذلك السؤال عن أصل عقلهم، وإدراكهم لمعناها.
والاستفهام إنكاري ؛فهو نفي لكونهم يعقلون في هذه الأمور التي يتجادلون حولها، وذلك يؤدي إلى السؤال عن أصل وجود العقل عندهم، وإن هذا النفي يدركون الأمور على وجهها، وينسيهم البديهيات التي لا تختلف فيها المدارك والعقول، حتى يكون أصل العقل عندهم موضع إنكار.
والمحاجة معناها مبادلة الحجة، فما هذه المحاجة ؟أكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم ؟ظواهر النصوص تفيد بمقتضى السياق انها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقيمون الحجة على سلامة دينهم بأنه دين إبراهيم الذي كان موضع إجلال الجميع، والذي بنى البيت الحرام الذي هو اول بيت وضع للناس، والذي كان موضع تقديس العرب أجمعين.
ولكن مع هذا الظاهر روى ابن إسحاق عن ابن عباس انه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ﴾ الآية١.
وسواء أكانت المحاجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم فإنها غير معقولة في ذاتها ؛ولذا وبخهم سبحانه وتعالى عليها بقوله تعالت كلماته :
﴿ أفلا تعقلون ﴾هذا النص الكريم هو نتيجة لهذا الحكم الذي يتحاجون فيه، وهو كون إبراهيم يهوديا او نصرانيا ؛إذ أن ذلك هو حكم من لا يعقل ؛ولذلك كانت الفاء التي تفيد السببية، وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها، فتلك الحال التي هم عليها من الغرابة هي السبب في ذلك السؤال عن أصل عقلهم، وإدراكهم لمعناها.
والاستفهام إنكاري ؛فهو نفي لكونهم يعقلون في هذه الأمور التي يتجادلون حولها، وذلك يؤدي إلى السؤال عن أصل وجود العقل عندهم، وإن هذا النفي يدركون الأمور على وجهها، وينسيهم البديهيات التي لا تختلف فيها المدارك والعقول، حتى يكون أصل العقل عندهم موضع إنكار.
١ أخرجه البيهقي في الدلائل-أسباب النزول للسيوطي: آل عمران(٦٥)..
ولقد زكى سبحانه وتعالى ذلك التوبيخ، وهذا النفي ببيان مظهر آخر من مظاهر مخالفتهم لما يقتضيه العقل في أمر آخر، يتصل بهذه المسألة، وهو انهم يجادلون ويتقدمون بالحجج في امر ليس عندهم أصل العلم به ؛ولذا قال تعالى :﴿ ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به من علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ﴾ :
أي أنتم معشر اهل الكتاب حاججتم وبادلتم الحجة، سواء أكانت داحضة ام دامغة في امر عندكم أسباب العلم به، سواء أكنتم تجادلون بمقتضى هذا العلم ام تخالفون مقتضاه، وتلوون منطقه، وتبعدون به عن الحجج، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟وبيان ذلك ان اليهود والنصارى عندما كانوا يتجادلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بينهم كانوا يتجادلون في امر أسباب العلم به قائمة حاضرة مهيأة وغن كانوا ينحرفون بها عن غاياتها، ويلوونها عن مقاصدها ومراميها تبعا لأهوائهم وشهواتهم، فكانت محاجة في امر لهم به علم، وغن لم يسيروا على مقتضى أحكام العلم، اما جدلهم في كون إبراهيم كان يهوديا او نصرانيا، أو في كون النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث في المستقبل يكون عربيا او عبريا فجدل ومحاجة في امر لا علم لهم به، وإن العاقل ينأى به عقله عن ان يجادل في امر ليس عنده شئ من أسباب العلم به، ولكن هكذا يتردى اهل العقول عندما تنحرف نفوسهم إلى التعصب، فيتحكم الهوى في العقل.
وهنا مباحث لفظية :
أولها : أن الهاء المكررة في قوله تعالى :﴿ ها انتم هؤلاء ﴾هي هاء التنبيه، وتكرارها في موضع واحد للدلالة على غرابة ما هم عليه ومجافاته لكل تفكير ولكل عقل، وكيف دلاهم التعصب في هذا الانحراف الفكري.
وثانيها : أن"هؤلاء"إشارة إلى النصارى واليهود الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا، وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده، فهي تتضمن الأحوال الغربية التي كانت منهم، وأنها أدت إلى شذوذ عقلي آخر.
ثالثها : أن الزمخشري ذكر أن بعض العلماء قال هنا إن"هؤلاء"بمعنى"الذين"وإن هذا يفيد ان الذي أدى إلى ترديهم العقلي هو انهم يتكلمون فيما يعلمون وفيما لا يعلمون.
﴿ والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾ختم الله سبحانه وتعالى ببيان علمه تعالى المؤكد، فقرر العلم المطلق له سبحانه، ونفى عنهم العلم في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حال إبراهيم عليه السلام، ويعلم الحق فيما يتحاجون به بعلم وبغير علم، ويعلم من الذي يكون أهلا لرسالته أيكون من العرب ام يكون من العجم ؟﴿ الله ؟اعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾[ الأنعام ] وهو الذي يعلم بخفايا نفوسهم، والحقد الدفين فيها، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله. وقد قرر سبحانه انهم لا يعلمون، فقال :﴿ وانتم لا تعلمون ﴾فهم لا يعلمون حال إبراهيم عليه السلام ولا من هو أهل للرسالة ؛وليس من شأنهم ان يعلموا ؛لأن أحقادهم تحول بينهم وبين ان يدركوا الذي عليه من يخالفونهم، فإنه لا شئ كالحقد والحسد يحول بين المرء والإدراك السليم والعلم الصحيح.
اللهم وفقنا للحق، وهيئ لنا أسباب العلم به، والإذعان له ؛فإن الهداية منك وإليك، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أي أنتم معشر اهل الكتاب حاججتم وبادلتم الحجة، سواء أكانت داحضة ام دامغة في امر عندكم أسباب العلم به، سواء أكنتم تجادلون بمقتضى هذا العلم ام تخالفون مقتضاه، وتلوون منطقه، وتبعدون به عن الحجج، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟وبيان ذلك ان اليهود والنصارى عندما كانوا يتجادلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بينهم كانوا يتجادلون في امر أسباب العلم به قائمة حاضرة مهيأة وغن كانوا ينحرفون بها عن غاياتها، ويلوونها عن مقاصدها ومراميها تبعا لأهوائهم وشهواتهم، فكانت محاجة في امر لهم به علم، وغن لم يسيروا على مقتضى أحكام العلم، اما جدلهم في كون إبراهيم كان يهوديا او نصرانيا، أو في كون النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث في المستقبل يكون عربيا او عبريا فجدل ومحاجة في امر لا علم لهم به، وإن العاقل ينأى به عقله عن ان يجادل في امر ليس عنده شئ من أسباب العلم به، ولكن هكذا يتردى اهل العقول عندما تنحرف نفوسهم إلى التعصب، فيتحكم الهوى في العقل.
وهنا مباحث لفظية :
أولها : أن الهاء المكررة في قوله تعالى :﴿ ها انتم هؤلاء ﴾هي هاء التنبيه، وتكرارها في موضع واحد للدلالة على غرابة ما هم عليه ومجافاته لكل تفكير ولكل عقل، وكيف دلاهم التعصب في هذا الانحراف الفكري.
وثانيها : أن"هؤلاء"إشارة إلى النصارى واليهود الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا، وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده، فهي تتضمن الأحوال الغربية التي كانت منهم، وأنها أدت إلى شذوذ عقلي آخر.
ثالثها : أن الزمخشري ذكر أن بعض العلماء قال هنا إن"هؤلاء"بمعنى"الذين"وإن هذا يفيد ان الذي أدى إلى ترديهم العقلي هو انهم يتكلمون فيما يعلمون وفيما لا يعلمون.
﴿ والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾ختم الله سبحانه وتعالى ببيان علمه تعالى المؤكد، فقرر العلم المطلق له سبحانه، ونفى عنهم العلم في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حال إبراهيم عليه السلام، ويعلم الحق فيما يتحاجون به بعلم وبغير علم، ويعلم من الذي يكون أهلا لرسالته أيكون من العرب ام يكون من العجم ؟﴿ الله ؟اعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾[ الأنعام ] وهو الذي يعلم بخفايا نفوسهم، والحقد الدفين فيها، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله. وقد قرر سبحانه انهم لا يعلمون، فقال :﴿ وانتم لا تعلمون ﴾فهم لا يعلمون حال إبراهيم عليه السلام ولا من هو أهل للرسالة ؛وليس من شأنهم ان يعلموا ؛لأن أحقادهم تحول بينهم وبين ان يدركوا الذي عليه من يخالفونهم، فإنه لا شئ كالحقد والحسد يحول بين المرء والإدراك السليم والعلم الصحيح.
اللهم وفقنا للحق، وهيئ لنا أسباب العلم به، والإذعان له ؛فإن الهداية منك وإليك، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين٦٧ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين٦٨ ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون٦٩ يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون٧٠ يا اهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون٧١ ﴾
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما يشير إلى ان كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى كانت تدعي ان دينها هو دين الله الخالص، وانه دين النبيين جميعا، وانه دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأنهم ما غيروا وما بدلوا ؛وكذلك كان يدعي المشركون ؛لنهم من سلالة إبراهيم عليه السلام، وحسبوا هذا يسوغ لهم ذلك الإدعاء ؛وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ان إبراهيم عليه السلام برئ من هذه النحل ؛لأنه نبي الوحدانية، هادم الأوثان، وحطمها، والذي تعرض للأذى بالنار لجرأته الكبرى عليها وعلى عبادها، وما نجاه إلا الله، كما قال تعالى :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم٦٩ ﴾[ الأنبياء ]ولقد قال سبحانه في تقرير هذه البراءة من اليهودية والنصرانية والشرك :
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ﴾وفي هذا النص القرآني الكريم نفى لوصف اليهودية والنصرانية عن خليل الله تعالى، ومرمى النص هو براءته منهم، وفي نفي الوصف على ذلك النحو توكيد لهذه البراءة، وتثبيت لهذه النزاهة ؛إذ إن المؤدى انه لو كانت اليهودية او النصرانية على ما هما عليه تنتمي إلى إبراهيم عليه السلام لكان متصفا بهما، وهو قد نزهه ربه عن ان يتصف بما عليه اليهود من ضلال ؛فنفي وصف اليهودية عنه عليه السلام تضمن براءته منهم، وفيه التعريض بما فيهما من ضلال لا يليق ان يلصق بنبي من أنبياء الله، والتنويه بشان إبراهيم من ان يكون في مثل حماة اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر سبحانه على سبيل الاستدراك وصفه الحقيقي، ودينه الحق فقال تعالى :﴿ ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾.
فقد ذكر سبحانه في وصفه الحقيقي ثلاثة أوصاف تتنافى كلها تمام التنافي مع ما عند اليهود والنصارى، وهذه الأوصاف هي انه : حنيف، ومسلم، وما كان من المشركين.
والوصف الأول وهو حنيف معناه : الميل إلى الحق وطلبه، والاتجاه إليه، وتحريه والاستقامة في الوصول إليه ؛ولقد قال الأصفهاني في مفرداته :"الحنف ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل إلى ذلك، قال عز وجل :﴿... قانتا لله حنيفا... ١٢٠ ﴾[ النحل ]وقال :﴿ حنيفا مسلما ﴾وجمعه حنفاء ؛ قال عز وجل :
﴿ واجتنبوا قول الزور٣٠ حنفاء لله... ٣١ ﴾[ الحج ]. وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة".
ووصفه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه، فهم لا يطلبون الحق لذات الحق، ولكن يطلبون هوى انفسهم، فإن يكن الحق لهم يأتوا عليه مذعنين، وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم.
والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله انه مسلم، والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى، حتى لا يعمر القلب بغير نوره، وهذا أيضا وصف مناف لما كان عليه اليهود والنصارى، فإلههم هواهم، ومحبتهم لنفسهم لا لله، وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم، وأغلقت دون نور الله قلوبهم.
والوصف الثالث : وصف سلبي، وهو انه كان غير مشرك، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن خليله وصف الشرك بهذه الصيغة الجامعة فقال :﴿ وما كان من المشركين ﴾ولم يقل"وما كان مشركا " لأنها تتضمن نفي الإشراك كله وشوائبه عن إبراهيم عليه السلام ؛فإن المشركين أصناف وألوان ؛ فمنهم من يعبد الأوثان، يتخذون من يجعل لله ابنا يعبد، ومنهم من يجعل الله ثالث ثلاثة، ومنهم من يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ومنهم من يتخذون وساطة بين العبد والرب، وهكذا، فما كان إبراهيم من أي صنف من هذه الأصناف. وفي ذكر الصيغة السامية في نفي الشرك عن إبراهيم تعريض بين حالهم وما هم عليه من الشرك الظاهر، فكيف يدعون الانتساب لإبراهيم عليه السلام، وهم على ما هم من الشرك.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما يشير إلى ان كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى كانت تدعي ان دينها هو دين الله الخالص، وانه دين النبيين جميعا، وانه دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأنهم ما غيروا وما بدلوا ؛وكذلك كان يدعي المشركون ؛لنهم من سلالة إبراهيم عليه السلام، وحسبوا هذا يسوغ لهم ذلك الإدعاء ؛وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ان إبراهيم عليه السلام برئ من هذه النحل ؛لأنه نبي الوحدانية، هادم الأوثان، وحطمها، والذي تعرض للأذى بالنار لجرأته الكبرى عليها وعلى عبادها، وما نجاه إلا الله، كما قال تعالى :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم٦٩ ﴾[ الأنبياء ]ولقد قال سبحانه في تقرير هذه البراءة من اليهودية والنصرانية والشرك :
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ﴾وفي هذا النص القرآني الكريم نفى لوصف اليهودية والنصرانية عن خليل الله تعالى، ومرمى النص هو براءته منهم، وفي نفي الوصف على ذلك النحو توكيد لهذه البراءة، وتثبيت لهذه النزاهة ؛إذ إن المؤدى انه لو كانت اليهودية او النصرانية على ما هما عليه تنتمي إلى إبراهيم عليه السلام لكان متصفا بهما، وهو قد نزهه ربه عن ان يتصف بما عليه اليهود من ضلال ؛فنفي وصف اليهودية عنه عليه السلام تضمن براءته منهم، وفيه التعريض بما فيهما من ضلال لا يليق ان يلصق بنبي من أنبياء الله، والتنويه بشان إبراهيم من ان يكون في مثل حماة اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر سبحانه على سبيل الاستدراك وصفه الحقيقي، ودينه الحق فقال تعالى :﴿ ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾.
فقد ذكر سبحانه في وصفه الحقيقي ثلاثة أوصاف تتنافى كلها تمام التنافي مع ما عند اليهود والنصارى، وهذه الأوصاف هي انه : حنيف، ومسلم، وما كان من المشركين.
والوصف الأول وهو حنيف معناه : الميل إلى الحق وطلبه، والاتجاه إليه، وتحريه والاستقامة في الوصول إليه ؛ولقد قال الأصفهاني في مفرداته :"الحنف ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل إلى ذلك، قال عز وجل :﴿... قانتا لله حنيفا... ١٢٠ ﴾[ النحل ]وقال :﴿ حنيفا مسلما ﴾وجمعه حنفاء ؛ قال عز وجل :
﴿ واجتنبوا قول الزور٣٠ حنفاء لله... ٣١ ﴾[ الحج ]. وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة".
ووصفه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه، فهم لا يطلبون الحق لذات الحق، ولكن يطلبون هوى انفسهم، فإن يكن الحق لهم يأتوا عليه مذعنين، وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم.
والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله انه مسلم، والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى، حتى لا يعمر القلب بغير نوره، وهذا أيضا وصف مناف لما كان عليه اليهود والنصارى، فإلههم هواهم، ومحبتهم لنفسهم لا لله، وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم، وأغلقت دون نور الله قلوبهم.
والوصف الثالث : وصف سلبي، وهو انه كان غير مشرك، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن خليله وصف الشرك بهذه الصيغة الجامعة فقال :﴿ وما كان من المشركين ﴾ولم يقل"وما كان مشركا " لأنها تتضمن نفي الإشراك كله وشوائبه عن إبراهيم عليه السلام ؛فإن المشركين أصناف وألوان ؛ فمنهم من يعبد الأوثان، يتخذون من يجعل لله ابنا يعبد، ومنهم من يجعل الله ثالث ثلاثة، ومنهم من يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ومنهم من يتخذون وساطة بين العبد والرب، وهكذا، فما كان إبراهيم من أي صنف من هذه الأصناف. وفي ذكر الصيغة السامية في نفي الشرك عن إبراهيم تعريض بين حالهم وما هم عليه من الشرك الظاهر، فكيف يدعون الانتساب لإبراهيم عليه السلام، وهم على ما هم من الشرك.
إنما الذين يعدلون أولى الناس هم من قال الله فيهم :
﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾أي إن أشد الناس ولاية بإبراهيم وأجدرهم بالاتصال به، للذين اتبعوه، وهذا النبي والذين آمنوا بهذا النبي، فهم أصناف ثلاثة قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة تأكيدات ؛أولها :"إن"وثانيها : أفعل التفضيل، وثالثها : اللام في قوله تعالى :﴿ للذين اتبعوه ﴾.
والذين اتبعوه موصول عام يشمل الذين اتبعوا هدايته في حياته، وأجابوا دعوته، ولم يخالفوه، والذين اتبعوه من بعد وفاته، وغنهم لكثيرون، وكان يمكن ان يكون من هؤلاء اليهود والنصارى، لو اتبعوا هديه فطلبوا الحق واخلصوا لله في طلبه، وتجنبوا الشرك بكل ضروبه وبكل أشكاله، وفي هذا توبيخ لهم على انهم لم يتبعوه، وادعوا الانتماء إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالنص عليه بالذات على انه أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ولم يذكره في ضمن الذين اتبعوه ؛لن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم، ولن محمدا صلى اله عليه وسلم خاتم النبيين، ولأنه آخر دعامة في بناء صرح الرسالة الإلهية إلى الأرض. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمهيد لبيان أولوية الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وبسيدنا إبراهيم من اليهود والنصارى ؛لأنهم حنفاء طلبوا الحق وتحروه وآمنوا به واهتدوا، واخلصوا دينهم لله تعالى، وصار الله ورسوله احب إليهم من انفسهم. والذين آمنوا في الآية هم من آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبى وخليل ربي إبراهيم"١.
وولاية إبراهيم للنبي ومن اتبعهما بإحسان إلى يوم الدين أساسها الإخلاص لله تعالى وتوحيده، فهي من ولاية الله ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ والله ولي المؤمنين ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى جل جلاله، وعظمت قدرته، وتعالت حكمته، وتسامت عظمته، هو ولي المؤمنين وناصرهم، وهم اهل محبته ورضوانه ؛وذلك لنهم لا يطلبون إلا رضاه، ولا يبتغون إلا محبته ورضوانه ؛فهم بإخلاصهم قد نالوا ولاء الله ومحبته ؛والله سبحانه وتعالى لا يوالي إلا من يؤمن للحق ويذعن له، ولا يطلب سواه.
وفي هذه الجملة السامية إشارة على عدة معان عالية :
أولها : ان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله ؛لنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولى ونصير ؛لأنهم جميعا أولياء الله. فالمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء، لنهم جميعا أولياء الله تعالى، وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه.
ثانيها : الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب ان يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شئ، وأساس الإحسان الإخلاص ؛ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢.
ثالثها : الإشارة إلى منزلة اهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتها مهما يتكاثف عددهم :﴿ إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ].
﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾أي إن أشد الناس ولاية بإبراهيم وأجدرهم بالاتصال به، للذين اتبعوه، وهذا النبي والذين آمنوا بهذا النبي، فهم أصناف ثلاثة قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة تأكيدات ؛أولها :"إن"وثانيها : أفعل التفضيل، وثالثها : اللام في قوله تعالى :﴿ للذين اتبعوه ﴾.
والذين اتبعوه موصول عام يشمل الذين اتبعوا هدايته في حياته، وأجابوا دعوته، ولم يخالفوه، والذين اتبعوه من بعد وفاته، وغنهم لكثيرون، وكان يمكن ان يكون من هؤلاء اليهود والنصارى، لو اتبعوا هديه فطلبوا الحق واخلصوا لله في طلبه، وتجنبوا الشرك بكل ضروبه وبكل أشكاله، وفي هذا توبيخ لهم على انهم لم يتبعوه، وادعوا الانتماء إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالنص عليه بالذات على انه أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ولم يذكره في ضمن الذين اتبعوه ؛لن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم، ولن محمدا صلى اله عليه وسلم خاتم النبيين، ولأنه آخر دعامة في بناء صرح الرسالة الإلهية إلى الأرض. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمهيد لبيان أولوية الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وبسيدنا إبراهيم من اليهود والنصارى ؛لأنهم حنفاء طلبوا الحق وتحروه وآمنوا به واهتدوا، واخلصوا دينهم لله تعالى، وصار الله ورسوله احب إليهم من انفسهم. والذين آمنوا في الآية هم من آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبى وخليل ربي إبراهيم"١.
وولاية إبراهيم للنبي ومن اتبعهما بإحسان إلى يوم الدين أساسها الإخلاص لله تعالى وتوحيده، فهي من ولاية الله ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ والله ولي المؤمنين ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى جل جلاله، وعظمت قدرته، وتعالت حكمته، وتسامت عظمته، هو ولي المؤمنين وناصرهم، وهم اهل محبته ورضوانه ؛وذلك لنهم لا يطلبون إلا رضاه، ولا يبتغون إلا محبته ورضوانه ؛فهم بإخلاصهم قد نالوا ولاء الله ومحبته ؛والله سبحانه وتعالى لا يوالي إلا من يؤمن للحق ويذعن له، ولا يطلب سواه.
وفي هذه الجملة السامية إشارة على عدة معان عالية :
أولها : ان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله ؛لنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولى ونصير ؛لأنهم جميعا أولياء الله. فالمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء، لنهم جميعا أولياء الله تعالى، وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه.
ثانيها : الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب ان يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شئ، وأساس الإحسان الإخلاص ؛ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢.
ثالثها : الإشارة إلى منزلة اهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتها مهما يتكاثف عددهم :﴿ إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ].
١ رواه أحمد: مسند المكثرين-مسند عبد الله بن مسعود(٣٦٠٩)، والترمذي: تفسير القرآن-ومن سورة آل عمران(٢٩٢١)..
٢ متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
٢ متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه..