تفسير سورة عبس

الماوردي
تفسير سورة سورة عبس من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى ﴿ عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى ﴾ روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم، وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر، وكان ضريراً، أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في إسلامهم - قال قتادة : هو أمية بن خلف، وقال مجاهد : هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فأعرض النبي ﷺ عن الأعمى وعبس في وجهه، فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال « عبس وتولّى » أي قطّب واعرض « أن جاءه الأعمى » يعني ابن ام مكتوم.
﴿ وما يُدريك لعلّه يَزَّكى ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : يؤمن، قاله عطاء.
الثاني : يتعبد بالأعمال الصالحة، قاله ابن عيسى.
الثالث : يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن، قاله الضحاك.
الرابع : يتفقه في الدين، قاله ابن شجرة.
﴿ أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى ﴾ قال السدّي : لعله يزّكّى ويّذكرُ، والألف صلة، وفي الذكرى وجهان :
أحدها : الفقه.
الثاني : العظة.
قال ابن عباس : فكان النبي ﷺ إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له.
قال قتادة : واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته، كل ذلك لما نزل فيه.
﴿ كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن هذه السورة تذكرة، قاله الفراء والكلبي.
الثاني : أن القرآن تذكرة، قاله مقاتل.
﴿ فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فمن شاء الله ألهمه الذكر، قاله مقاتل.
الثاني : فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله، وهو معنى قول الكلبي.
﴿ في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مكرمة عند الله، قاله السدي.
الثاني : مكرمة في الدين لما فيها من الحكم والعلم، قاله الطبري.
الثالث : لأنه نزل بها كرام الحفظة.
ويحتمل قولاً رابعاً : أنها نزلت من كريم، لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه.
﴿ مرفوعةٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : مرفوعة في السماء، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : مرفوعة القدروالذكر، قاله الطبري.
ويحتمل قولاً ثالثاً : مرفوعة عن الشُبه والتناقض.
﴿ مُطَهّرةٍ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدهأ : من الدنس، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : من الشرك، قاله السدي.
الثالث : أنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله ابن زيد.
الرابع : مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن.
ويحتمل خامساً : لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر.
﴿ بأيْدِى سَفَرَةٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن السفرة الكتبة، قاله ابن عباس، قال المفضل : هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً، إذا كتب، قال الزجاج : إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها.
383
الثاني : أنهم القّراء، قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار.
الثالث : هم الملائكة، لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة، قال زيد، كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً، وأنشد الفراء :
وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ
﴿ كِرام بَرَرةٍ ﴾ في الكرام ثلاثة أقاويل :
أحدها : كرام على ربهم، قاله الكلبي.
الثاني : كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها، قاله الحسن.
الثالث : يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له، وهو معنى قول الضحاك.
ويحتمل رابعاً : أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم.
وفي « بررة » ثلاثة أوجه :
أحدها : مطيعين، قاله السدي.
الثاني : صادقين واصلين، قاله الطبري.
الثالث : متقين مطهرين، قاله ابن شجرة.
ويحتمل قولاً رابعاً : أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم، والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم.
384
﴿ قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه ﴾ في « قتل » وجهان :
أحدهما : عُذِّب.
الثاني : لعن.
وفي « الإنسان » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه إشارة إلى كل كافر، قاله مجاهد.
الثاني : أنه أمية بن خلف، قاله الضحاك.
الثالث : أنه عتبة بن أبي لهب حين قال : إني كفرت برب النجم إذا هوى، فقال النبي ﷺ :« اللَّهم سلّطْ عليه كلبك » فأخذه الأسد في طريق الشام، قاله ابن جريج والكلبي.
وفي « ما أكْفَرَه » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « ما » تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى : أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا.
الثاني : أي شيء أكفره، على وجه الاستفهام، قاله السدي ويحيى بن سلام.
الثالث : ما ألعنه، قاله قتادة.
﴿ ثم السبيلَ يَسّرَهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : خروجه من بطن أمه، قاله عكرمة والضحاك.
الثاني : سبيل السعادة والشقاوة، قاله مجاهد.
الثالث : سبيل الهدى والضلالة، قاله الحسن.
ويحتمل رابعاً : سبيل منافعه ومضاره.
﴿ ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : جعله ذا قبر يدفن فيه، قاله الطبري، قال الأعشى :
لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر
الثاني : جعل من يقبره ويواريه، قاله يحيى بن سلام.
﴿ ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ ﴾ يعني أحياه، قال الأعشى :
حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا يا عجباً للميّت الناشِرِ
﴿ كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أنه على العموم في المسلم والكافر، قال مجاهد : لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه، وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد.
ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً، والمؤمن لا يقضيه شهراً.
﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه به، من أي شيء كان، قاله يحيى.
الثاني : ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد.
قال الحسن : إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه.
ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين :
أحدهما : ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى.
الثاني : ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى.
﴿ أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً ﴾ يعني المطر.
﴿ ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً ﴾ يعني بالنبات.
﴿ فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً ﴾ والقضب : القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره.
385
﴿ وزَيْتوناً ونخْلاً * وحدائقَ غُلْباً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : نخلاً كراماً، قاله الحسن.
الثاني : الشجر الطوال الغلاظ، قال الكلبي : الْغلب الغِلاط، قال الفرزدق :
عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار
وفي « الحدائق » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ما التف واجتمع، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه نبت الشجر كله.
الثالث : أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر، وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح.
ويحتمل قولاً رابعاً : أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها.
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً.
﴿ وفاكهةً وأبّاً ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأبّ ما ترعاه البهائم، قاله ابن عباس : وما يأكله الآدميون الحصيدة، قال الشاعر في مدح النبي ﷺ :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا
الثاني : أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض، قاله الضحاك.
الثالث : أنه كل نبات سوى الفاكهة، وهذا ظاهر قول الكلبي.
الرابع : أنه الثمار الرطبة، قاله ابن أبي طلحة.
الخامس : أنه التبن خاصة، وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً، قال الشاعر :
فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ
ووجدت لبعض المتأخرين سادساً : أن رطب الثمار هو الفاكهة، ويابسها الأبّ.
ويحتمل سابعاً : أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب، والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر.
روي أن عمر بن الخطاب قرأ ﴿ عبس وتولّى ﴾ فلما بلغ إلى قوله تعالى :﴿ وفاكهة وأبّا ﴾ قال : قد عرفنا الفاكهة، فما الأبّ؟ ثم قال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره، وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم.
386
﴿ فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها، قاله الحسن، ومنه قول الشاعر :
يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد
الثاني : أنه اسم من أسماء القيامة، لإصاخة الخلق إليها من الفزع، قاله ابن عباس.
﴿ يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه ﴾ وفي فراره منهم ثلاثة أوجه :
أحدها : حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم.
الثاني : حتى لا يروا عذابه.
الثالث : لاشتغاله بنفسه، كما قال تعالى بعده :
﴿ لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ ﴾ أي يشغله عن غيره.
﴿ وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مشرقة.
الثاني : فرحة، حكاه السدي.
﴿ ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ضاحكة من مسرة القلب.
الثاني : ضاحكة من الكفار شماتة وغيظاً، مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً.
﴿ ووجوهٌ يومَئذٍ عليها غبرَةٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا.
الثاني : أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة.
﴿ ترْهقُها قَتَرةٌ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : تغشاها ذلة وشدة، قاله ابن عباس.
الثاني : خزي، قال مجاهد.
الثالث : سواد، قاله عطاء.
الرابع : غبار، قاله السدي، وقال ابن زيد : القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة : ما انحطت إلى الأرض.
الخامس : كسوف الوجه، قاله الكلبي ومقاتل.
﴿ أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ ﴾ يحتمل جمعه بينهما وجهين :
أحدهما : أنهم الكفرة في حقوق الله، الفجرة في حقوق العباد.
الثاني : لأنهم الكفرة في أديانهم، الفجرة في أفعالهم.
Icon