ﰡ
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» فهي مؤخرة تأتيكم بعد «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين. وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية، سواء الذي زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (٢١) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران، فنسأل الله أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم، ويجمع شملهم، ويوحد خطتهم، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير، وما شيء على الله بعزيز. قال تعالى «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أسد وغطفان حلفاء خيبر، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم الله بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال «لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ» منهزمين «ثُمَّ لا يَجِدُونَ» لو أقدموا على قتالكم «وَلِيًّا» يواليهم عليكم «وَلا نَصِيراً» (٢٢) ينصرهم أبدا. واعلموا أن ما يفعله الله لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ» في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
(٢٣) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان، وإن الله كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك، لا يحول دون ما يريده حائل البتة. ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية، فقال «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» في حرمها، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (٢٤) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء. أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول الله من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد الله بن معقل المزني هم ثلاثون شابا، فدعا عليهم رسول الله فأخذ الله أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول الله، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول الله من ربه عزّ وجل قال تعالى «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعوكم من دخوله «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» محبوسا وممنوعا عن «أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» الذي يذبح فيه تقربا إلى الله «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ» ستضعفون عند أهل مكة «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك «أَنْ تَطَؤُهُمْ» فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار، فلولا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط، ولدخلتم مكة عنوة بإذن الله وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم، ولكن لم بأذن الله لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك
الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ» الأنفه والاستكبار، إذ لم يقروا بسم الله الرّحمن الرّحيم، ولا محمد رسول الله محتجين بعدم اعترافهم بهما، مع أنهما حق صريح لأن الله أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة، وقد أخبرهم بذلك، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه. فكانت هذه الشروط المجحفة «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ» استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم الله ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنيته ووقاره وانائته «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم الله من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية ١٠ من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة. قال تعالى (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الآية ١٨ من سورة النّساء المارة، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية ٧٥ من سورة النّساء أيضا فراجعها «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل
والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.
مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:
قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السّلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السّلام فعلا إن شاء الله، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من الله تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (٢٨) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة. ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية ١٤٤ من آل عمران والآية ٢ من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلّى الله عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم بالله ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم
عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلّى الله عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي الله عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم لله بعد رسوله، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم، والله يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله، ويمكنهم من أعدائهم بقوته، ويعلي كلمتهم برحمته آمين.
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.
نزلت بمكة بعد سورة والشمس، وهي اثنتان وعشرون آية، ومثلها في عدد الآي المجادلة فقط، ومائة وتسع كلمات، واربعمائة وخمسة وستون حرفا، ويوجد سورة الطارق مبدوءة بما بدئت به ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ١» القصور الاثني عشر ستة منها شمالية، ثلاثة ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي وثلاثة صيفية: السرطان والأسد والسنبلة وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي والشمال يسار القبلة، وستة جنوبية ثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي، وثلاثة شتائية:الجدي والدلو والحوت وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي والجنوب يمين القبلة فتكون السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم وهي مدة دخول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج، وكل برج ثلاثون درجة فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة، كل درجة بمقدار أربع دقائق، ومجموعها أربع وعشرون ساعة وأن الشمس تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمان وعشرين يوما وكسور، وسيأتي تفصيلها عند تفسير الآية ٣٩ من سورة يس الآتية ومعناها لغة القصر، والحصن وأصله الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وشبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها والمراد بها هنا اجزاء الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع، لكنها لم تكن ظاهرة حساد لّوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة أي الاثني عشر برجا المار ذكرها لأنها في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت أو بالكرسي بلسان الشرع على ما زعموا، فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من أثنى عشر جزءا من الفلك الأعلى سامته صورة الحمل من الثوابت وقت
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» الآية ٣٥ من سورة مريم الآتية وقال تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) الآية ١٠٣ من سورة هود من ج ٢. وما قيل ان ذلك اليوم هو يوم الجمعة أو يوم التروية أو يوم عرفه الله جل شأنه والمشهود يوم عرفة أو يوم النحر أو آدم عليه السلام لا وجه له، وسياق النظم ينافيه وكل ما جاء في هذا من الأحاديث لا عبرة بها لأنها لم تثبت بصورة يصح الإحتجاج بها وجواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ٤) الشقوق المستطيلة في الأرض المعمولة لتعذيب الناس، واعلم أن الذين وصفوا بهذا ثلاثة ولم يعلم المراد به منهم في هذه الآية وهي تنطبق عليهم الأذل أبطاموس الرومي عملها بالشام. والثاني بختنصر بفارس والثالث دو نواس باليمن إلا أن التي بالشام وفارس لم تشتهر عند العرب.
ت (١٥)
وإنما المشهور عندهم حادثة اليمن التي وقعت بنجران وهي أقرب إلى مكة ونزل بها القرآن تذكير لكفار قريش وتسلية لأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم لحملهم على الصبر مما يلاقونه في قومهم وتحمل المشاق في الدين طلبا لزيادة الثواب، وأصح ما جاء في هذه القصة ما رواه صهيب في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر لأنه قد يحتاج إليه فيما يتعلق بملكه ورعيته وكان في طريق الغلام عند ما يذهب إلى الساحر راهب فإذا مر به سمع منه فيعجبه كلامه، فرأى ذات يوم بطريقه دابة حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وصار بعد ذلك مرجعا للناس يبرىء الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فذهب إليه فأبرأه، فقال له الملك من رد عليك بصرك؟ فقال ربي، فغضب من سماع كلمته لزعمه أن لا رب غيره فعذبه وقال له لا أتركك حتى تعلمني من رد عليك بصرك، فقال الغلام، فجاء به فعذبه حتى دله على الراهب فجاء به واراده على الرجوع عن دينه إلى دينه، فلم يفعل، فقصه بالمنشار ثم كلف الغلام بالرجوع فأبى فأمر عونته ان يطرحوه في ذروة الجبل فأخذوه فرجف بهم الجبل فسقطوا ونجا الغلام، فأمر الملك ان يوضع في قرقوب ويلقى وسط البحر، فوضعوه وذهبوا ليقذفوه فانكفأت السفينة فغرقوا ونجا، ثم جيء به امام الملك ليرى كيف يتمكن من قتله فقال له لا تقدر حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جزع وتأخذ سهما من كنانتي ونقول باسم رب الغلام ثم ترميني، ففعل فرماه فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام وفي رواية مسلم كررت ثلاثا راجع آخر الجزء الأخير من صحيحه قبل كتاب التفسير، فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بحفر أخدود وأضرمها نارا وأتى بالناس واحدا واحدا فمن رجع عن دين الغلام تركه ومن أصر ألقاه فيه وبقي هكذا حتى جيء له بامرأة معها صبي وهي مصرة على دين الغلام ولما أرادوا طرحها بالأخدود تقاعست فقال لها ابنها لا تتأخري يا أماه فإنك على الحق فصبرت فرماها فيه اه باختصار من الخازن. وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم إثبات كرامة الأولياء
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
نزلت بمكة بعد سورة والشمس، وهي اثنتان وعشرون آية، ومثلها في عدد الآي المجادلة فقط، ومائة وتسع كلمات، واربعمائة وخمسة وستون حرفا، ويوجد سورة الطارق مبدوءة بما بدئت به ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ١» القصور الاثني عشر ستة منها شمالية، ثلاثة ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي وثلاثة صيفية: السرطان والأسد والسنبلة وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي والشمال يسار القبلة، وستة جنوبية ثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي، وثلاثة شتائية:الجدي والدلو والحوت وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي والجنوب يمين القبلة فتكون السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم وهي مدة دخول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج، وكل برج ثلاثون درجة فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة، كل درجة بمقدار أربع دقائق، ومجموعها أربع وعشرون ساعة وأن الشمس تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمان وعشرين يوما وكسور، وسيأتي تفصيلها عند تفسير الآية ٣٩ من سورة يس الآتية ومعناها لغة القصر، والحصن وأصله الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وشبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها والمراد بها هنا اجزاء الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع، لكنها لم تكن ظاهرة حساد لّوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة أي الاثني عشر برجا المار ذكرها لأنها في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت أو بالكرسي بلسان الشرع على ما زعموا، فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من أثنى عشر جزءا من الفلك الأعلى سامته صورة الحمل من الثوابت وقت
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» الآية ٣٥ من سورة مريم الآتية وقال تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) الآية ١٠٣ من سورة هود من ج ٢. وما قيل ان ذلك اليوم هو يوم الجمعة أو يوم التروية أو يوم عرفه الله جل شأنه والمشهود يوم عرفة أو يوم النحر أو آدم عليه السلام لا وجه له، وسياق النظم ينافيه وكل ما جاء في هذا من الأحاديث لا عبرة بها لأنها لم تثبت بصورة يصح الإحتجاج بها وجواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ٤) الشقوق المستطيلة في الأرض المعمولة لتعذيب الناس، واعلم أن الذين وصفوا بهذا ثلاثة ولم يعلم المراد به منهم في هذه الآية وهي تنطبق عليهم الأذل أبطاموس الرومي عملها بالشام. والثاني بختنصر بفارس والثالث دو نواس باليمن إلا أن التي بالشام وفارس لم تشتهر عند العرب.
ت (١٥)
وإنما المشهور عندهم حادثة اليمن التي وقعت بنجران وهي أقرب إلى مكة ونزل بها القرآن تذكير لكفار قريش وتسلية لأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم لحملهم على الصبر مما يلاقونه في قومهم وتحمل المشاق في الدين طلبا لزيادة الثواب، وأصح ما جاء في هذه القصة ما رواه صهيب في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر لأنه قد يحتاج إليه فيما يتعلق بملكه ورعيته وكان في طريق الغلام عند ما يذهب إلى الساحر راهب فإذا مر به سمع منه فيعجبه كلامه، فرأى ذات يوم بطريقه دابة حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وصار بعد ذلك مرجعا للناس يبرىء الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فذهب إليه فأبرأه، فقال له الملك من رد عليك بصرك؟ فقال ربي، فغضب من سماع كلمته لزعمه أن لا رب غيره فعذبه وقال له لا أتركك حتى تعلمني من رد عليك بصرك، فقال الغلام، فجاء به فعذبه حتى دله على الراهب فجاء به واراده على الرجوع عن دينه إلى دينه، فلم يفعل، فقصه بالمنشار ثم كلف الغلام بالرجوع فأبى فأمر عونته ان يطرحوه في ذروة الجبل فأخذوه فرجف بهم الجبل فسقطوا ونجا الغلام، فأمر الملك ان يوضع في قرقوب ويلقى وسط البحر، فوضعوه وذهبوا ليقذفوه فانكفأت السفينة فغرقوا ونجا، ثم جيء به امام الملك ليرى كيف يتمكن من قتله فقال له لا تقدر حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جزع وتأخذ سهما من كنانتي ونقول باسم رب الغلام ثم ترميني، ففعل فرماه فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام وفي رواية مسلم كررت ثلاثا راجع آخر الجزء الأخير من صحيحه قبل كتاب التفسير، فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بحفر أخدود وأضرمها نارا وأتى بالناس واحدا واحدا فمن رجع عن دين الغلام تركه ومن أصر ألقاه فيه وبقي هكذا حتى جيء له بامرأة معها صبي وهي مصرة على دين الغلام ولما أرادوا طرحها بالأخدود تقاعست فقال لها ابنها لا تتأخري يا أماه فإنك على الحق فصبرت فرماها فيه اه باختصار من الخازن. وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم إثبات كرامة الأولياء
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في دنياهم وماتوا لى ذلك (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ) وعد الله فيه (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ١١» الذي لا أكبر منه لأنه حق ثابت لكل من هذه صفته ولكل من عذّب لأجل دينه من أهل الأخدود وغيرهم، راجع تفسير الآية ١٠ من سورة والليل المارة «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ١٢» قوي جدا لا يضاهيه بطش أبدا، وهو الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تفاقم فيا ويل الظالمين الجبارين من انتقام الله «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ» خلقهم في الدنيا فيغريهم بالمال والولد ويخدعهم بالجاه والسلطان ويملي لهم بما يشتهون ويؤملون ليختبرهم «وَيُعِيدُ ١٣» خلقهم ثانيا كما كانوا عليه في الدنيا حتى القلقة يعيدها لموضعها ويعرض عليهم أعمالهم حتى الذرة فما فوقها ليجازيهم «وَهُوَ الْغَفُورُ» كثير المغفرة لمن أراد من عباده وهو «الْوَدُودُ ١٤» بهم عظيم الحب لأهل طاعته وهو «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ١٥» علوه وعظمته وهيبته، يقرأ بالرفع على أنه صفة لله وبالكسر على أنه صفة للعرش «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ١٦» تكوينه في خلقه ورحمة من يريد رحمته وعذاب من يريد تعذيبه، لا يعجزه شيء ولا يسأل عما يفعل، ثم ذكر نوعا من شدة بطشه وانه لا يمنعه مانع مما يريد فعله تعالى «هَلْ أَتاكَ» يا حبيبي «حَدِيثُ الْجُنُودِ ١٧» الذين تحزبوا على رسلهم ضد حقهم وأخص منهم «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ١٨» كيف فعلنا بهم حين تجمعوا على أنبيائهم، وإنما خصّ قصتهما لتداولها على ألسنة العرب ومعلوميتها عند أهل مكة لعلهم يتعظون بما حل فيهم، ويرتدعون عما هم عليه، ولكنهم لم ينجع بهم، لذلك أضرب
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ٢١» عظيم الشأن عالي البرهان ثابت عندنا ومدون «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ٢٢» من التبديل والتغيير والتحريف والنقص والزيادة وقرىء بالكسر على أنه صفة للوح وبالرفع على أنه صفة للقرآن مثل لفظ المجيد المتقدم في الآية ١٥ المارة وكلاهما جائز هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة التين عدد ٢٨- ٩٥
نزلت بمكة بعد البروج وهي ثمان آيات، وأربع وثلاثون كلمة، ومائة وخمسة أحرف، لا يوجد سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدأت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «وَالتِّينِ» أي الجبل الذي عليه دمشق المنبثق بأشجار التين من الفواكه الطيبة الخالصة من الشوائب المنقصة لا عجم فيها تشبه فواكه الجنة مغذ سريع الهضم طيب الرائحة مبارك في بقعة مباركة قال تعالى (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية ٧١ من سورة الأنبياء في ج ٢ «وَالزَّيْتُونِ ١» الجبل الذي عليه البيت المقدس المتفطر بأشجار الزيتونوقد بينا لك البرهان القاطع والحجة الواضحة فما عليك إلا أن تصدق به وتعمل لأجله ليحكم لك بالحسنى من ربك الكريم القوي المتين «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ٨» صنعا وتدبيرا وعدلا وإذا كان كذلك، فكيف تتوهمون أنه لا يعيدكم بعد الموت وأن لا حساب ولا عقاب ولا جزاء ولا ثواب لا بل لا بد لكم من ذلك وأن الله سيحكم على كل بما يستحقه حكما عدلا وقضاء مبرما وهذا الاستفهام تقريري وجوابه بلى إنه أقضى القاضين وإنه قادر على ما يريده. جاء عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من قرأ والتين فليقل