تفسير سورة البلد

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة البلد من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة البلد
أهداف سورة البلد
( سورة البلد مكية، وآياتها ٢٠ آية، نزلت بعد سورة ق )
وقد اشتملت السورة على تعظيم البلد الحرام، والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، وتكريم آدم وذريته، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة، في حمله وولادته ورسالته في الحياة وحسابه في الآخرة.
وجابهت السورة أحد المشركين، وكشفت سوء أفعاله، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله.
مع آيات السورة
١- لا أقسم بهذا البلد. أقسم الله عز وجل بمكة، وفيها البيت الحرام والكعبة، وعندها قبلة المسلمين، وفيها زمزم والمقام، والأمن والأمان.
قال تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس... ( المائدة : ٩٧ ). ومعنى قياما : قواما، أي يقوم عندها أمر الدين، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون، ويؤدون المناسك، ويشاهدون مهبط الوحي، ويصير الرجل أمنا بدخوله الحرم، قال تعالى : ومن دخله، كان آمنا... ( آل عمران : ٩٧ ).
وقد ذكر القرآن تكريم مكة في آيات كثيرة، فقد ولد بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ بها نزول الوحي، ومنها انبثق فجر الإسلام، وإليها يحج الناس.
قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أمّ القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير. ( الشورى : ٧ ).
٢- وأنت حلّ بهذا البلد. وأنت مقيم بهذا البلد، يكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي جعله خاتم المرسلين، وأرسله هداية للعالمين، وجعل مولده بمكة، وهذا الميلاد يزيد مكة شرفا وتعظيما حيث إن أفضل خلق الله يقيم بها ويحل بين شعابها، ويتنقل بين أماكنها داعيا إلى دين الله، حاملا وحي السماء، وهداية الناس.
٣- ووالد وما ولد. أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم عليه سبحانه، قال تعالى : ولقد كرّمنا بني آدم... ( الإسراء : ٧٠ ). وقيل : كل والد ومولود، ( والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والولد محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به )i.
٤- لقد خلقنا الإنسان في كبد. الكبد : المشقة والتعب، أي : أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة، فهو في مشقة متتابعة ( من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله، ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه، ثم ورود طوارق السراء، وبوارق الضراء، وعلائق التكاليف، وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت ثم إلى البعث، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرةii.
ونظير الآية قوله تعالى : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه. ( الانشقاق : ٦ )
وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ( الملك : ٢ ).
٥-١٠- أيحسب أن لن يقدر عليه أحد* يقول أهلكت مالا لبدا* أيحسب أن لم يره أحد* ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* وهديناه النّجدين. لبدا : كثيرا، النجدين : الطريقين، وهما طريقا الخير والشر.
روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، وهو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترا بقوته البدنية، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرةiii، وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإن معناها عام.
والمعنى :
أيظن ذلك الصنديد في قومه، المفتون بما أنعمنا عليه، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء، فتراه يجحد القيامة، ويتصرف تصرف القوي القادر، فيطغى ويبغي، ويبطش ويظلم، ويفسق ويفجر، دون أن يتحرج، وهذه صفات الإنسان الذي يتعرى قلبه من الإيمان.
ثم إنه إذا دعى للخير والبذل يقول : أهلكت مالا لبدا. وأنفقت شيئا كثيرا، فحسبي ما أنفقت وما بذلت أيحسب أن عين الله لا تراه، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر مما أنفقه، وتعلم أنه إنما أنفق رياء وسمعة، وطلبا للمحمدة بين الناس ؟
ثم بين الله جلائل نعمه على هذا الإنسان، وعلى كل إنسان فقال : ألم نجعل له عينين. يبصر بهما المرئيات، ولسانا وشفتين. ليعبر عما في نفسه، وليتمكن من الأكل والشراب، والنفخ والنطق، وهديناه النّجدين. ليختار أيهما شاء، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر، لأن الله منحه العقل والتفكير، والإرادة والاختيار، وميّزه على جميع المخلوقات، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة، والإنسان هو المتميز بالاختيار والحرية، ليكون سلوكه متسما بالمسئولية.
١١-١٣- فلا اقتحم العقبة* وما أدراك ما العقبة* فكّ رقبة. بعد أن بين الله جليل نعمه على الإنسان، وبخاصة الأغنياء، أخذ يحث أغنياء مكة على صلة الرحم، والعطف على المساكين، والمشاركة في عتق الرقاب، والتخفيف عن العبيد والإماء.
وقد بدأت الآيات بالحث والتحريض على اقتحام العقبة، ثم استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل، ثم أجاب بأنها فك رقبة، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه، والمشاركة في نقله من عالم الأرقاء إلى عالم الأحرار.
١٤- أو إطعام في يوم ذي مسبغة. أو إطعام جائع في أيام عوز ومجاعة.
١٥- يتيما ذا مقربة. إطعام يتيم في يوم المجاعة وبخاصة إذا كان قريبا.
١٦- أو مسكينا ذا متربة. أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره.
١٧- ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. أي : جمع إلى الصفات المتقدمة الإيمان الصادق والصبر الجميل، وحث الناس عليه والوصية به، والتواصي بالرحمة والعطف.
ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين. وكذلك التواصي بالمرحمة، فهو أمر زائد على المرحمة، ويتمثل في إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة، عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه، لأن الإسلام دين جماعة، ومنهج أمة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا.
١٨- أولئك أصحاب الميمنة. أولئك الذين يقتحمون العقبة، كما وصفها القرآن وحددها، هم أصحاب الميمنة، وأهل الحظ والسعادة، وهم أصحاب اليمين الفائزون.
١٩- والذين كفروا بآياتنا. وجحدوا دلائل قدرتنا، وأنكروا آيات الله العظام، من بعث وحساب، ونشور وجزاء، وكذّبوا بآيات القرآن. هم أصحاب المشئمة. هم أصحاب الشمال، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران.
٢٠- عليهم نار موصدة. يصلون نارا مطبقة عليهم، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها، وسيخلدون فيها.
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني، وفي التصور الإيماني، تعرض في هذه السورة القصيرة، بهذه القوة وبهذا الوضوح، وهذه هي خاصية التعبير القرآني الفريد.
***
مقاصد السورة
١- القسم بمكة وبالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بيانا لفضله.
٢- بيان ما ابتلى به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب.
٣- اغترار الإنسان بقوته.
٤- تعداد أنعم الله على الإنسان، كالعين واللسان والعقل والفكر.
٥- بيان سبيل النجاة الموصلة إلى السعادة.
٦- الكفران بالآيات سبيل الشقاء.

ابتلاء الإنسان بالتعب، واغتراره بقوته وماله.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لا أقسم بهذا البلد ١ وأنت حلّ بهذا البلد ٢ ووالد وما ولد ٣ لقد خلقنا الإنسان في كبد ٤ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ٥ يقول أهلكت مالا لبدا ٦ أيحسب أن لم يره أحد ٧ ألم نجعل له عينين ٨ ولسانا وشفتين ٩ وهديناه النّجدين ١٠ ﴾
المفردات :
لا أقسم : أقسم، و ( لا ) مزيدة.
بهذا البلد : بمكة المكرمة.
التفسير :
١- لا أقسم بهذا البلد.
لا مزيدة، والمعنى : أقسم بهذا البلد، وهي مكة أمّ القرى، وبها بيت الحرام والكعبة المشرّفة، وهي قبلة المسلمين.
قال تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره.. ( البقرة : ١٥٠ ).
وقد أمر الله بالحج والطواف بالبيت العتيق، وهو أول بيت وضع للناس، بناه إبراهيم وساعده إسماعيل، ودعا إبراهيم ربه أن يبعث فيهم رسولا منهم.
قال تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنك أنت العزيز الحكيم. ( البقرة : ١٢٩ ).
المفردات :
حل بهذا البلد : حلال لك ما تصنع به يومئذ.
التفسير :
٢- وأنت حل بهذا البلد.
وأنت يا محمد يا خاتم الرسل، مقيم بهذا البلد، مما يزيد من قيمته وأهميته، فهو من أحب البلاد إلى الله، وبه الكعبة والقبلة، وبه أيضا محمد صلى الله عليه وسلم، صاحب الرسالة الأخيرة للبشرية.
وقيل : المعنى : وأنت حلال بهذا البلد الأمين الذي جعل الله فيه البيت الحرام، مثابة للناس وأمنا، ومن دخله كان آمنا، وحرّم الله فيه صيد البر، وحرّم فيه العدوان على شجر الحرم، وجعله منطقة سلام وأمان، ومع هذا فإن أهل مكة يستحلون العدوان عليك، ويتهمونك بالسحر والكذب والجنون، ويؤذونك أنت وأصحابك، حتى يضطروهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة المنورة بعد ذلك.
وقيل : المعنى : إن الله سيفتح لك مكة ويجعلك حرّا في التصرف في أهلها، ويحلّ لك اقتحامها ساعة من نهار، ويحل لك التصرف في أهلها بعد الفتح.
المفردات :
والد وما ولد : آدم وجميع ذريته، أو الصالحين منهم، أو إبراهيم وإسماعيل الوالد، والولد محمد صلى الله عليه وسلم.
التفسير :
٣- ووالد وما ولد.
أقسم بكل والد وبما ولده، حيث يتم توالد الحياة وإبداعها بين الأصول والفروع، من الشجر والحيوان والإنسان.
وقيل : القسم بآدم وذريته.
وقيل : القسم بإبراهيم وإسماعيل وهما الجدّان البعيدان لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالولد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تولد رسالته التي هي خاتمة الرسالات، وفيها خلاص البشرية.
المفردات :
لقد خلقنا الإنسان في كبد : جواب القسم. والكبد : النصب والمشقة ومكابدة الشدائد.
التفسير :
٤- لقد خلقنا الإنسان في كبد.
وهذا هوا جواب القسم.
أي : لقد خلقنا الإنسان في مشقة ومعاناة طويلة، حيث يمر بمراحل في بطن أمه، وبمراحل متعددة في انتقاله من الطفولة إلى الفتوّة، إلى الشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة، ثم المرض والموت وحياة القبر والبعث والحساب، والميزان والصراط، والجنة أو النار.
والكبد : المشقة والجهد والمعاناة التي يمر بها الإنسان في حياة الدنيا، وحياة الآخرة.
وإذا سأل سائل وقال : لماذا أقسم الله بمكة وبحياة النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولكل والد وما ولد، على أنه خلق الإنسان في كبد ومشقة ومعاناة ؟
كان الجواب : نزلت هذه الآيات والمؤمنون بمكة يتعرضون للأذى والاضطهاد، ويقاسون صنوف التعذيب والآلام، فكأن القرآن يقول :
تلك ضريبة الحياة، وهي الكبد والمشقة، ولأن تكون المشقة في أمر عظيم، هو نشر رسالة وإحياء دعوة أفضل من أن تكون في سبيل عرض من أعراض الدنيا.
وطعم الموت في شيء حقير كطعم الموت في شيء عظيم
التفسير :
٥- أيحسب أن لن يقدر عليه أحد.
كثيرا ما يأخذ الإنسان الغرور بقوته أو ماله، أو حسبه أو نسبه، مع أن الإنسان خلق ضعيفا، وإن بعوضة تلسعه فربما أصيب بالحمى، وإن جرثومة تتدسس إلى كيانه لتهدّ بنيانه وتقوض أركانه، لقد أراح الله الحيوانات من الفكر وحساب المستقبل، أما الإنسان فإنه يعيش في المستقبل أكثر مما يعيش في الواقع، وهو في مسيرته بين الضعف والقوة.
قال تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء... ( الروم : ٥٤ ).
وقال تعالى : وخلق الإنسان ضعيفا. ( النساء : ٢٨ ).
وقد ذكر في أسباب النزول أن الآية نزلت في أحد كفار قريش الأشدّاء، فقد افتخر بقوته وادعى أنه قادر على الانتصار على عدد من زبانية جهنم. والآية مع ذلك عامة في كل مغرور بعافيته أو ماله أو جاهه، حين يظن أن الله تعالى لن يقدر عليه.
المفردات :
أهلكت مالا لبدا : كثيرا في المكرمات مباهاة وتعاظما.
التفسير :
٦- يقول أهلكت مالا لبدا.
لقد أنفق أموالا كثيرة في نزواته وشهواته وملذاته، فإذا دعي إلى خير أو مساعدة في معروف، يقول : لقد أنفقت أموالا كثيرة.
التفسير :
٧- أيحسب أن لم يره أحد.
أيظن أن عين الله لا تراه، وتعلم سرّه ونجواه، وتطلع على السر وما هو أخفى من السّر، فالله خبير بالإنسان وما في داخله، وهو عليم بما توسوس به نفسه، وهو خبير بالبواعث التي حملته على إنفاق هذا المال، وهو سبحانه سيحاسبه يوم القيامة على الرياء والنفاق، وعدم إخلاص النية للخالق الرقيب الحسيب.
وهناك آراء للمفسرين في تفسير الآيتين السابقتين من بينها ما يأتي :
١- يقول هذا المغرور بقوته، وهو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي، أو الوليد بن المغيرة، أو أضرابهما : لقد أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد وفي إيذاء أتباعه، وفي غير ذلك من الوجوه التي كان أهل الجاهلية يظنونها خيرا، وما هي إلا شر محض.
والمال اللّبد : هو المال الكثير الذي تلبّد، والتصق بعضه ببعض لكثرته، وهو جمع لبدة، وهي ما تلبد أي تجمع والتصق بعضه ببعض.
أيحسب أن لم يره أحد.
أي : أيظن هذا الجاهل المغرور حين أنفق المال الكثير في المعاصي والسيئات، أن الله تعالى لم يطّلع عليه، إنه سبحانه مطلع على كل شيء، وسيحاسبه على ذلك حسابا عسيرا.
٢- وقيل : المراد بالآيتين الأغنياء البخلاء المراءون الذين يكنزون أموالهم ولا ينفقونها إلا على شهواتهم، وفي توفير لذّاتهم، وإذا حملوا على عمل من أعمال الخير قالوا : إننا ننفق أموالا كثيرة في أعمال أخرى. أفيحسب هؤلاء أن عين الله لا تراهم، وأن سرائرهم وضمائرهم ليست مكشوفة أمام الله سبحانه وتعالىiv.
ثم ذكر الله تعالى أنواع نعمه على الإنسان ليتعظ ويعتبر. فقال :
٨- ألم نجعل له عينين.
ألم يتأمل في خلق الله له حيث جعل له عينين يقرأ بهما، ويرى بهما : ويتأمل بهما في ملكوت السماوات والأرض، ويرى بهما النور والظلام، وبياض النهار وظلام الليل، وحركة الشمس والقمر، وألوان الخلائق وأوصافها، وأحاط العينين بغطاء به رموش تقفل عند النوم، وعند الرغبة في غض البصر.
٩- ولسانا وشفتين.
أي : جعل الله للإنسان لسانا يتكلم به، ويقرأ القرآن، ويعبّر عن نفسه، ويقدم النصيحة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وجعل اللسان داخل شفتين لضبط الكلام وللنطق بما هو نافع، وحبس اللسان عن اللهو والباطل.
المفردات :
النجدين : طريقي الخير والشر.
١٠- وهديناه النّجدين.
بينا له طريق الخير والشر، والهدى والضلال، ليختار الخير والهدى، ويتجنب الشر والضلال.
والنّجد : الطريق المرتفع، فكلاهما طريق وعر صعب، الخير والشر، يحتاج الإنسان إلى همة وعزيمة وإرادة ليختار الطريق ويثابر عليه.
( وليس سلوك طريق الشر بأهون من سلوك طريق الخير، بل الغالب أن يكون طريق الشر أشق وأصعب وأحوج إلى الجهد )v.
فطريق الخير متفق مع الفطرة، مع الهداية، مع طاعة الرحمان، مع الانسجام مع هذا الكون الذي خضع لله وسجد له وسبّح بحمده، وكذلك المؤمن يسبّح بحمد الله، وهناك العصاة والمردة والخارجون على طاعة الله، حيث يستحقون غضب الله في الدنيا، ويستحقون العقاب في الآخرة.
قال تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء. ( الحج : ١٨ ).
تلك منن الله علينا، ومن هذه المنن أن جعل الهداية والإيمان، والاستقامة والعفة والنزاهة، وفعل المأمورات واجتناب المنهيات، عن إرادة الإنسان واختياره، وربط الثواب والعقاب بالطاعة أو المعصية، فكل عامل يجزي ثمرة ما زرع في دنياه، ومن جدّ وجد، ومن زرع حصد.
جهات الخير والبر
﴿ فلا اقتحم العقبة ١١ وما أدراك ما العقبة ١٢ فكّ رقبة ١٣ أو إطعام في يوم ذي مسبغة ١٤ يتيما ذا مقربة ١٥ أو مسكينا ذا متربة ١٦ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ١٧ أولئك أصحاب الميمنة ١٨ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة ١٩ علبهم نار موصدة ٢٠ ﴾
المفردات :
اقتحم الشيء : دخل فيه بشدة.
العقبة : الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها، والمراد بها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، ومن يسوّل له فعل الشر من شياطين الإنس والجن.
التفسير :
١١- فلا اقتحم العقبة.
هلاّ عمل الإنسان –الذي أنعم الله عليه بالنظر والسمع واللسان والعقل- على اقتحام عقبة الآخرة، والانتقال إلى دائرة الناجين الداخلين الجنة.
التفسير :
١٢- وما أدراك ما العقبة.
وما أخبرك ما شأنها وعظيم أمرها، والمراد أنها شيء عظيم يستحق أن يسعى الإنسان إلى فعله، والمشاركة في أعمال الخير وهي تفسير لاقتحام العقبة.
المفردات :
فك رقبة : عتقها، أو المعاونة عليه، أو عمل الخير ليعتق رقبته من النار.
التفسير :
١٣- فكّ رقبة.
أي : إن العقبة التي يجتازها الإنسان لينتقل من أهل النار إلى أهل الجنة، تتمثل في فعل الأمور الآتية : فك رقبة، أي إعتاق الرقيق، أو المساعدة في تحريره لينتقل من العبودية إلى الحرية، وقد حثّ القرآن على تحرير الأرقاء، وكذلك السّنة المطهرة، كما حثّ الإسلام على الإحسان إلى الأرقاء، وإكرامهم وحسن معاملتهم، فهم مثلنا من بني آدم.
قال صلى الله عليه وسلم :( إخوانكم خولكم ( خدمكم ) جعلهم الله تحت أيديهم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يضرب الوجه ولا يقبّح )vi.
المفردات :
مسبغة : مجاعة.
التفسير :
١٤- أو إطعام في يوم ذي مسبغة.
أو تقديم الطعام للجائع المكروب المجهد، وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم :( من أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة ). ويقول صلى الله عليه وسلم :( من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان ) أي : الجائع المجهد. رواه الحاكم وصححه.
والمراد تقديم الطعام والمعونة للفقراء والمحتاجين عند المجاعة والبؤس والحاجة.
المفردات :
مقربة : قرابة في النسب، تقول : فلان من ذوي قرابتي، ومن أهل مقربتي، إذا كان قريبك نسبا.
التفسير :
١٥- يتيما ذا مقربة.
أي : أطعم في أيام جوع وقحط يتيما فقد أباه، وله صلة قرابة، فإطعامه له ثوابان أو أجران : أجر الإطعام، وأجر صلة الرحم وإكرام اليتيم.
وقد وصّى القرآن الكريم باليتيم، وأمر بالمحافظة على ماله، وأمر برعايته وتثمير أمواله، ومخالطته بالمعروف، وحذّر القرآن من أكل مال اليتيم.
كما جاء في السنة المطهرة الحثّ على إكرام اليتيم والعطف عليه، حتى ينشأ كريما عالي الهمة، نافعا لأسرته ولأمّته.
المفردات :
المتربة : الفقر، تقول : ترب الرجل، إذا افتقر وأترب، إذا كثر ماله حتى صار كالتراب.
التفسير :
١٦- أو مسكينا ذا متربة.
أو أطعم بماله ومعونته مسكينا التصقت بطنه بالتراب من شدة حاجته، فعاونه وساعده، ويسر له أسباب المعونة والمساعدة، حتى يقف على قدميه ويتكسّب بيديه، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
والخلاصة : إن الله أنعم على الإنسان بالنعم، فهلاّ شكر الله، واقتحم عقبة الآخرة وأهوالها بالمساهمة في عتق الرقيق، أو إطعام اليتيم القريب، أو إطعام المسكين المجهد، إن هذه الأعمال ثوابها جليل في الآخرة، تبعد صاحبها من النار، وتيسّر له دخول الجنة.
المفردات :
تواصوا بالصبر : نصح بعضهم بعضا به.
التفسير :
١٧- ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
إن الأعمال السابقة لا بد لقبولها من أن يكون فاعلها من المؤمنين بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ومن الذين تواصوا بالصبر، وحث بعضهم بعضا على الصبر، وتواصوا بالرحمة والعطف، ومد يد المساعدة للمحتاجين، ونلمح أن المؤمن مطالب بالصبر، ومطالب بالحث عليه، وتوصية الآخرين به.
قال تعالى : والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. ( العصر : ١-٣ ).
إن الإيمان نصفان : نصف صبر، ونصف شكر.
ومن سمة الأمة المؤمنة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعروف : التواصي بالصبر، وطول النفس في الجهاد والكفاح، والصبر على الحلال، والبعد عن الحرام، ومن التواصي بالمرحمة إنشاء الجمعيات الخيرية لإعانة المحتاجين، وكفالة اليتامى وتشغيلهم وتعليمهم، وحث الناس على التراحم.
قال صلى الله عليه وسلم :( مثل المسمين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى )vii.
وقال صلى الله عليه وسلم :( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كسا عريانا كساه الله من السندس الأخضر يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )viii.
المفردات :
الميمنة : طريق النجاة والسعادة.
التفسير :
١٨- أولئك أصحاب الميمنة.
أولئك الذين آمنوا وأعتقوا الرقاب، أو أطعموا اليتامى الأقارب لهم، أو أطعموا المساكين المحتاجين، هؤلاء أصحاب الميمنة، أي أصحاب اليمين في الجنة، كما مرّ في سورة الواقعة أن الناس يوم القيامة ثلاثة فرق :
١- السابقون.
٢- أصحاب اليمين.
٣- أصحاب الشمال.
قال تعالى : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين* في سدر مخضود* وطلح منضود* وظل ممدود* وماء مسكوب* وفاكهة كثيرة* لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة* إنّا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكارا* عربا أترابا* لأصحاب اليمين. ( الواقعة : ٢٧-٣٨ ).
المفردات :
المشأمة : طريق الشقاء.
التفسير :
١٩- والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة.
الذين كفروا بآيات الله الكونية، في خلق الكون والسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، وكفروا بآيات الله التشريعية التي أنزلها على رسله، لدعوة الناس إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، هؤلاء هم أصحاب الشمال الذين يدخلون جهنم، ويعذبون فيها بأشد ألوان العذاب.
قال تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال* في سموم وحميم* وظل من يحموم* لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين* وكانوا يصرّون على الحنث العظيم* وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون* أو آباؤنا الأوّلون* قل إن الأولين والآخرين* لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم. ( الواقعة : ٤١-٥٠ ).
المفردات :
مؤصدة : مغلقة ومطبقة.
التفسير :
٢٠- عليهم نار موصدة.
أي : عليهم نار مغلقة، لا يستطيعون الفكاك عنها، ولا الخروج منها، وهم خالدون في النار خلودا أبديا سرمديا.
وجاء في تفسير ابن كثير :
عليهم نار موصدة.
أي : مطبقة عليهم، فلا محيد لهم عنها، ولا مخرج لهم منها.
قال ابن عباس : مؤصدة. مغلقة الأبواب.
وقال مجاهد : أوصد الباب : أغلقه.
وقال الضحاك : مؤصدة. حيط لا باب له.
وقال قتادة : مؤصدة. مطبقة، فلا ضوء فيها ولا فرج، ولا خروج منها آخر الأبد.
اللهم أجرنا من النار ومن عذاب النار، آمين.
i تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ٣٠/٩٣.
ii انظر تفسير النيسابوري للسورة ٣٠/٩٣.
iii انظر تفسير النسفي ٤/٢٦٧.
iv تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده ص ٩٦ مطبعة الشعب.
v تفسير جزء عمّ للشيخ محمد يحيى الدين عبد الحميد.
vi إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم :
رواه أبو داود في الأدب ( ٥١٥٨ ) والترمذي في البر والصلة ( ١٩٤٥ ) وابن ماجة في الأدب ( ٣٦٩٠ ) وأحمد في مسنده ( ٢٠٩٠٠ ) من حديث جندب بن جنادة بلفظ :( إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يديه... ) الحديث.
vii ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم :
البخاري في الأدب ( ٦٠١١ )، ومسلم في البر والصلة والآداب ( ٢٥٨٦ )، وأحمد ( ١٧٦٣٢، ١٧٦٤٨ ) من حديث النعمان ابن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ).
viii من نفّس عن مؤمن كربة من كرب :
رواه مسلم في الذكر ( ٢٦٩٩ ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).
Icon