ﰡ
أسباب إنزال القرآن
سورة البينة فيها القرار الحاسم والقول الفصل في أمور أربعة: وهي علة إنزال القرآن وهو التكليف، وبيان أن ما جاء به النبي هو الحق الثابت، والفصل في شأن الكفار، من المشركين وأهل الكتاب، وجزاء أهل الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وجزاء الباقين على الكفر وماتوا على ذلك. وليس هناك عذر لمن كفر بعد بيان القرآن وإقامة الحجة القاطعة فيه بالأدلة الكونية والتنزيلية، وهذا ما تضمنته هذه السورة المكية في قول جمهور المفسرين:
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [البينة: ٩٨/ ١- ٨].
(٢) الحجة الظاهرة.
(٣) طاهرة من الزور والبهتان والباطل.
(٤) مستقيمة لا عوج فيها.
(٥) مائلين عن الباطل.
(٦) دين الملة المستقيمة.
(٧) الخلق.
(٨) جنات إقامة دائمة. والعدن: الإقامة والدوام.
وقد احترم القرآن ما كانوا عليه في الماضي، إذ لا بيان ولا حجة ظاهرة. لذا افتتحت سورة البينة بهذا الإنذار. لم يكن الذين جحدوا رسالة القرآن والنبي العربي الهاشمي، من اليهود والنصارى، وعبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب وغيرهم، منفكين عن الكفر والضلال، مفارقين كفرهم الموروث، منتهين عما هم عليه من الاعتقاد، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي القرآن الكريم، ورسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ففي القرآن والرسالة النبوية: بيان الجهالة والضلالة، والدعوة إلى الإيمان.
والمراد من تلك البينة أو الحجة: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، يقرأ عليهم ما تتضمنه صحف القرآن، المطهرة من الخلط والكذب، والشبهات والضلال، والتحريف واللّبس. والتي فيها الحق الصريح، وفيها، أي سورة البينة أحكام كتب قيمة، أي قائمة معتدلة، آخذة للناس بالعدل، أي فيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، والصلاح والرشاد، والحكمة والهدى. والمراد من الآية: ما كان هؤلاء القوم ليتركوا سدى. والبينة: القصة البينة والجليلة. وفِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) فيه حذف مضاف، تقديره: فيها أحكام كتب قيمة، تقوم بالحق والعدل.
ثم ذم الله تعالى المخالفين بقوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.. أي لا داعي للأسف، فإن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يتفرقوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من
ثم وبخهم الله على انحرافهم عن جوهر الدين: وهو إخلاص العبادة لله، فقال:
وَما أُمِرُوا أي انهم تفرقوا واختلفوا، مع أنهم لم يؤمروا في جميع كتب الله إلا بعبادة الله وحده، عبادة خالصة، لا يشركون به شيئا، يخلصون العبادة لله تعالى، مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، ويؤدون الصلاة على الوجه الأتم الذي أراده الله، ويؤتون الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس كل عام، وذلك هو دين الملة القويمة.
ثم وجه الله تعالى الوعيد للكفار، وأصدر الوعد للمؤمنين. إن جزاء الذين كفروا بالله، وخالفوا كتب الله من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين الوثنيين هو نار جهنم المستعرة، يصيرون إليها، ماكثين فيها على الدوام، وهم شر الخليقة مصيرا، لتركهم الحق حسدا وبغيا. ولم يقل: (أبدا) لأن رحمة الله أزيد من غضبه، وقال: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لإفادة النفي والإثبات، أي هم دون غيرهم.
وإن الذين آمنوا بقلوبهم بربهم، وصدقوا بكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، هم خير الخليقة، حالا ومآلا.
وجزاؤهم يوم القيامة عند خالقهم على ما قدموا من حسن الاعتقاد وصلاح العمل:
جنات إقامة دائمة (بساتين) تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، رضي الله عنهم لإطاعتهم أوامره وقبولهم شرائعه، ورضوا عنه، بما تفضل الله عليهم من حسن الثواب والجنان، وتحقيق المطالب والآمال والأحلام.
وقوله تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ فيه حذف مضاف تقديره: سكنى جنات أو دخول جنات.