تفسير سورة القارعة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي إحدى عشرة آية، وست وثلاثون كلمة، ومائة واثنان وخمسون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعلى ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت نعمه إيجاده جميع الورى ﴿ الرحيم ﴾ الذي يخص أولياءه بالتوفيق لما يحب ويرضى.

ولما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته بقوله تعالى :﴿ القارعة ﴾ أي : الصيحة، أو القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها، والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار، والأشياء الثابتة بالانتشار.
وقوله تعالى :﴿ ما القارعة ﴾ تهويل لشأنها، وهما مبتدأ وخبر، خبر القارعة، وأكد تعظيمها إعلاماً بأنه مهما خطر في بالك من عظمها فهي أعظم منه.
فقال تعالى :﴿ وما أدراك ﴾ أي : أعلمك ﴿ ما القارعة ﴾ أي : إنك لا تعرفها ؛ لأنك لم تعهد مثلها، وما الأولى مبتدأ، وما بعدها خبره، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدرى.
واختلف في ناصب ﴿ يوم ﴾ على وجهين : أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة، أي : تقرعهم يوم. وقيل تقديره : تأتي القارعة يوم ﴿ يكون الناس ﴾، والثاني أنه " اذكر " مقدّراً، فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى :﴿ كالفراش المبثوث ﴾ يجوز أن يكون خبراً للناقصة، وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي : يؤخذون ويحشرون شبه الفراش، شبههم في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار، والفراش طائر معروف. قال قتادة : الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقال الفراء : هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج، يقال : أطيش من فراشة. وأنشدوا :
فراشة الحلم فرعون العذاب وأن تطلب نداه فكلب دونه كلب
وفي أمثالهم : أضعف من فراشة، وأذل وأجهل. وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهنّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي ». وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى : منها الطيش الذي يلحقهم، وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار. قال جرير :
إنّ الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى
والمبثوث المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر :﴿ كأنهم جراد منتشر ﴾[ القمر : ٧ ]، فإن قيل : كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً ؛ لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث ؟ أجيب : بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع.
﴿ وتكون الجبال ﴾ على ما هي عليه من الشدّة والصلابة، وأنها صخور راسخة ﴿ كالعهن ﴾ أي : الصوف المصبوغ ألواناً ؛ لأنها ملوّنه قال تعالى :﴿ ومن الجبال جدد بيض وحمر ﴾ [ فاطر : ٢٧ ] أي : وغير ذلك ﴿ المنفوش ﴾ أي : المندوف المفرّق الأجزاء، فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور، كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ هباءً منبثاً ﴾ [ الواقعة : ٦ ] حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمّتا.
ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلاً لهم :﴿ فأمّا من ثقلت موازينه ﴾ أي : برجحان الحسنات، وفي الموازين قولان : أحدهما : أنه جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء. والثاني : قال ابن عباس : إنه جمع ميزان، له لسان وكفتان، لا يوزن فيه إلا الأعمال، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات، أو الأعمال أنفسها، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة، فتوضع في كفة الميزان، فإذا رجحت فالجنة له، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة، فيخف ميزانه، فيدخل النار.
وقيل : إنما توزن أعمال المؤمنين، فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار، فيقتص منه على قدرها، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾ [ الكهف : ١٠٥ ] ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل عليه السلام، يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل : موازين لكل حادثة ميزان، وقيل : الموازين الحجج والدلائل، قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة عندي لكل مخاصم ميزانه
﴿ فهو ﴾ أي : بسبب رجحان حسناته ﴿ في عيشة ﴾ أي : حياة يتقلب فيها. قال البقاعي : ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد العيش، ليفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة، وليست ذات ألوان كحياة الدنيا ﴿ راضية ﴾ أي : ذات رضا، أو مرضية ؛ لأنّ أمّه جنة عالية.
﴿ وأمّا من خفت ﴾ أي : طاشت ﴿ موازينه ﴾ أي : غلبت سيئاته، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا.
﴿ فأمّه ﴾ أي : التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض : أم ؛ لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ، وكذا المسكن ﴿ هاوية ﴾ أي : نار نازلة سافلة جدّاً، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً، فهو في عيشة ساخطة، فالآية من الاحتباك، ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، وذكر الأمّ ثانياً دليلاً على حذفها أوّلاً، والهاوية اسم من أسماء جهنم، وهي المهواة لا يدرك قعرها.
وقال قتادة : هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال : هوت أمّه. وقيل : أراد أمّ رأسه، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال : وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق، وثقله في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل، وخفته في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف.
﴿ وما أدراك ﴾ أي : وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك ﴿ ماهيه ﴾ أي : الهاوية، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت، وقرأ حمزة في الوصل بغير هاء بعد الياء التحتية، ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل : قال هنا :﴿ وما أدراك ماهيه ﴾ وقال أوّل السورة :﴿ وما أدراك ما القارعة ﴾، ولم يقل ما أدراك ما الهاوية ؟
أجيب : بأنّ كونها قارعة أمر محسوس، وكونها هاوية ليس كذلك، فظهر الفرق.
وقوله تعالى :﴿ نار حامية ﴾ خبر مبتدأ مضمر، أي : هي، أي : الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءًا من حرّ جهنم، قالوا : وإنها لكافية يا رسول الله ؟ قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلها مثل حرّها ».
Icon