تفسير سورة هود

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة هود من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت، قال : شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت. رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله ﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب﴿ ألر ﴾.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وقتادة إلا آية واحدة وهي ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار إلى قوله للذاكرين ﴾. وقال ابن عطية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى ﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ﴾، وقوله ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ إلى قوله ﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ قيل نزلت في عبد الله بن سلام، وقوله ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ الآية. قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون.
وأغراضها : ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.
وباتلائها بالتنويه بالقرآن.
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.
وإثبات الحشر.
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.
وخلق العوالم بعد أن لم تكن.
وأن مرجع الناس إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم ﴿ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾.
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم.
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.
ثم عرض باستئناس النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة.

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
الر تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نُظَرَائِهَا وَمَا سُورَةُ يُونُسَ بِبَعِيدٍ.
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ الْقَوْلُ فِي الِافْتِتَاحِ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ وَتَنْكِيرُهُ مُمَاثِلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مِنْ عِنْد الله فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ. فَ (كِتَابٌ) مُبْتَدَأٌ، سَوَّغَ الِابْتِدَاءُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ لِلنَّوْعِيَّةِ.
ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ خَبَرٌ وأُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةٌ لِ (كِتَابٍ)، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةً مُخَصَّصَةً، وَهِيَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أُحْكِمَتْ) هُوَ الْخَبَرُ. وَتَجْعَلَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ.
وَالْإِحْكَامُ: إِتْقَانُ الصُّنْعِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ سَالِمَةً مِنَ الْأَخْلَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِنَوْعِهَا، أَيْ جُعِلَتْ آيَاتُهُ كَامِلَةً فِي نَوْعِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ وَمِنْ أَخْلَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]. وَبِهَذَا الْمَعْنى تنبىء الْمُقَابَلَةُ
بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ.
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ: الْجُمَلُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِمَعَانِيهَا الْمُخْتَتَمَةِ بِفَوَاصِلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ جُمَلِ الْقُرْآنِ بِالْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٩]، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالتَّفْصِيلُ: التَّوْضِيحُ وَالْبَيَانُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَغَيْرِهِ بِمَا يُمَيِّزُهُ، فَصَارَ كِنَايَةً مَشْهُورَةً عَنِ الْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْمَعَانِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٥].
وَنَظِيرُهُ: الْفَرْقُ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْبَيَانِ فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا. وَعَنِ الْفَصْلِ فَسُمِّيَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الْفَرْقَانِ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخان: ٤].
و (ثمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِمَا فِي التَّفْصِيلِ مِنَ الِاهْتِمَامِ لَدَى النُّفُوسِ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَرْتَاحُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ.
ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَيْ مِنْ عِنْدِ الْمَوْصُوفِ بِإِبْدَاعِ الصُّنْعِ لِحِكْمَتِهِ، وَإِيضَاحِ التَّبْيِينِ لِقُوَّةِ عِلْمِهِ. وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِخَفَايَا الْأَشْيَاءِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَشْيَاءُ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا أَعَزَّ، فَالْحَكِيمُ مُقَابِلٌ لِ أُحْكِمَتْ، وَالْخَبِيرُ مُقَابِلٌ لِ فُصِّلَتْ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَعَلِّقَ الْعِلْمِ وَمُتَعَلِّقَ الْقُدْرَةِ إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَجْرِي إِلَّا عَلَى وِفْقِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْمُقَابَلَةِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَشَدُّ تَبَادُرًا فِيهِ لِلنَّاسِ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا مِنْ بليغ المزاوجة.
[٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
(أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي مَعْنَى أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: ١] مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مُحْكَمَةٍ وَمُفَصَّلَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا أُحْكِمَ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِيجَابِ عِبَادَةِ اللَّهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلَّهِ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ جَمِيعُ التَّفَاصِيلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ
315
الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِمُلَابَسَةِ اسْمِ اللَّهِ لِأَوَّلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١].
وَالْخِطَابُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الَّتِي بَعْدَهُ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:
١] وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [هود: ٣] الْآيَةَ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِهِ.
وَوُقُوعُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَقِبَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَضْمُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً وَذَلِكَ لِأَنَّ شَأْنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَا وَقَعَ بَعْدَهُ وَنَاشِئًا مِنْهُ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ هُوَ جَامِعُ عَمَلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِمَنْ آمَنَ وَأَطَاعَ، وَنَذِيرٌ لِمَنْ أَعْرَضَ وَعَصَى، وَذَلِكَ أَيْضًا جَامِعٌ لِلْأُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ الْعَقَائِدُ السَّمْعِيَّةُ، وَهَذَا عين الإحكام.
و (من) فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ إِنِّي نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لَكُمْ جَائِيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ النِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ لِمُقَابَلَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ طَلَبِ تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِطَرِيقِ النَّهْيِ وَطَلَبِ عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالنِّذَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَالْبِشَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الثَّانِي
316

[٣]

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣]
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: ٢] وَهُوَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ لَفْظِ التَّفْصِيلِ، فَهَذَا ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَإِرْشَادٌ لِوَسَائِلِ نَبْذِ عِبَادَةِ مَا عَدَا اللَّهَ تَعَالَى، وَدَلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْثَالٌ وَنُذُرٌ، فَالْمَقْصُودُ: تَقْسِيمُ التَّفْسِيرِ وَهُوَ وَجْهُ إِعَادَةِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ مَضَى، وَذَلِكَ النَّدَمُ.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنْ عَمَلِ ذَنْبٍ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يعود إِلَيْهِ.
و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَهَمُّ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا هُوَ مُسَمَّى التَّوْبَةِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ فِي نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَبَيَانٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْمَتَاعُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّمْتِيعِ لِمَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، أَيْ يُنْتَفَعُ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالْحَسَنُ: تَقْيِيدٌ لِنَوْعِ الْمَتَاعِ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ خَالِصًا مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ طَوِيلًا بَقَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَالْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ: الْإِبْقَاءُ، أَيِ الْحَيَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْصِلُهُمْ. وَوَصَفَهُ بِالْحُسْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ.
317
وَ (إِلى أَجَلٍ) مُتَعَلِّقٌ بِ يُمَتِّعْكُمْ وَهُوَ غَايَةٌ لِلتَّمْتِيعِ، وَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ لَهُ نِهَايَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَتَاعُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْأَجَلِ: أَجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهُوَ نِهَايَةُ حَيَاتِهِ، وَهَذَا وَعْدٌ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ بَاقِيَةٌ طُولَ الْحَيَاةِ.
وَجُمْلَةُ: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُمَتِّعْكُمْ. وَالْإِيتَاءُ:
الْإِعْطَاءُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَتَاعِ الْحَسَنِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ إِعْطَاءُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَالْفَضْلُ:
إِعْطَاءُ اَلْخَيْرِ. سُمِّيَ فَضْلًا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ فَاعِلَ اَلْخَيْرِ يَفْعَلُهُ بِمَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَصَارَ الْفَضْلُ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ اَلْخَيْرِ.
وَالْفَضْلُ الْأَوَّلُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِفَضْلِ اللَّهِ الْغَنِيِّ عَنِ النَّاسِ.
وَالْفَضْلُ الثَّانِي الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْمَتَاعِ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: وَيُؤْتِ اللَّهُ فَضْلَهُ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فِي عَمَلِهِ.
وَلَمَّا عُلِّقَ الْإِيتَاءُ بِالْفَضْلَيْنِ عُلِمَ أَنَّ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ الْمُجْزِيِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عُلِّقَ بِذِي فَضْلٍ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالتَّعْلِيلِ وَبِالتَّقْدِيرِ. وَضَبْطُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَعَ اخْتِلَافٍ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَزِيَادَةِ بَيَانٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ عَطْفٌ عَلَى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا جَاءَ تَفْسِيرًا لِ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: ١] وَهُوَ مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبَلِّغَهُ إِلَى النَّاسِ.
وَتَوَلَّوْا: أَصْلُهُ تَتَوَلَّوْا، حذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا.
318
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِ أَنِ وَبِكَوْنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا اسْمًا مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِقَصْدِ شِدَّةِ تَأْكِيدِ تَوَقُّعِ الْعَذَابِ.
وَتَنْكِيرُ يَوْمٍ لِلتَّهْوِيلِ، لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ لِلِاحْتِمَالِ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ، فَتَخْوِيفُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَنْكِيرُ يَوْمٍ صَالِحًا لِإِيقَاعِهِ مُقَابِلًا لِلْجَزَاءَيْنِ فِي قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، فَيُقَدِّرُ السَّامِعُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَيْنِ كَمَا رَجَوْتُ لَكُمْ إِنِ اسْتَغْفَرْتُمْ ثَوَابَيْنِ.
وَوَصْفُهُ بِالْكَبِيرِ لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِبَرِ الْكِبَرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ شِدَّةُ مَا يَقَعُ فِيهِ، أَعْنِي الْعَذَابَ، فَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْكِبَرِ مجَاز عَقْلِي.
[٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى قُدْرَتِهِ غَيْرَ مُنْفَلِتِينَ مِنْهُ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى تَوَلِّيكُمْ عَنْ أَمْرِهِ.
فَالْمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ الْعُرْفِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الِانْفِلَاتِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِيَّاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَنْسَبُ بِالْمَصِيرِ الدُّنْيَوِيِّ لِأَنَّهُ الْمُسَلَّمُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْمَصِيرُ الْأُخْرَوِيُّ فَلَوِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ قَوِيٌّ مُقْتَضٍ لِزِيَادَةٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَصْرُ إِذْ هُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُرْجَعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْهَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى غَيْرِهِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، أَيْ
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُجُوعِكُمْ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ أَلَيْسَ يُعَذِّبُكُمْ عذَابا كَبِيرا.
[٥]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
حَوْلَ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى إِعْلَامِهِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، فَقَدَّمَ لِذَلِكَ إِبْطَالَ وَهْمٍ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهُمْ فِي مُكْنَةٍ مِنْ إِخْفَاءِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ قَوْلُهُ:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِلَخْ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، جَمْعًا بَيْنَ إِخْبَارِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ إِبْطَالِ تَوَهُّمَاتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ نَشَأَ هَذَا الْكَلَامُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [هود: ٤] لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ أَيْضًا مَوْصُوفٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِ الْعِلْمِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ أَلا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِغَرَابَةِ أَمْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ وَلِلْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَضَمَائِرُ الْجَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: ٢] وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ لِلْمُفْرَدِ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: ٤].
320
وَالثَّنْيُ: الطَّيُّ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ. يُقَالُ: ثَنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، إِذَا جَعَلَهُ ثَانِيًا، يُقَالُ: هَذَا وَاحِدٌ فَاثْنِهِ، أَيْ كُنْ ثَانِيًا لَهُ، فَالَّذِي يَطْوِي الشَّيْءَ يَجْعَلُ أَحَدَ طَاقَيْهِ ثَانِيًا لِلَّذِي قَبْلَهُ فَثَنْيُ الصُّدُورِ: إِمَالَتُهَا وَحَنْيُهَا تَشْبِيهًا بِالطَّيِّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ الطَّأْطَأَةُ.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِجْرَاءَ عَلَى حَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِ مِنَ الثَّنْيِ وَالصُّدُورِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةٍ نَفْسِيَّةٍ بِهَيْئَةٍ حِسِّيَّةٍ.
فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ ذَلِكَ تَعْجِيبًا مِنْ جَهَالَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ كَانُوا يَقِيسُونَ صِفَاتَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِ النَّاسِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَحْجُبُونَهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَيُرْخِي السِّتْرَ عَلَيْهِ
وَيَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قَلْبِي؟ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ.
فَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَيْشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت: ٢٢، ٢٣].
وَجَمِيعُ أَخْطَاءِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ تَسْرِي إِلَى عُقُولِهِمْ مِنَ النَّظَرِ السَّقِيمِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، وَتَقْدِيرِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِمَقَادِيرَ مُتَعَارَفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَقِيَاسُ الْغَائِب على الشَّاهِد. وَقَدْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ فَرْقِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مَعْلُومَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ تَعْصِمُهُمْ عِنْدَ الْغَايَةِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ وَأَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ.
321
وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي: فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ إِضْمَارِهِمْ الْعَدَاوَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَمْوِيهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِحَالِ مَنْ يُثْنِي صَدْرَهُ لِيُخْفِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَهُ بِهِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ الْآيَةِ مَكِّيَّةً إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ بِمُصَانِعَيْنِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَأْوِيلُهَا بِإِرَادَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً. وَهَذَا نَقَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زَهْرَةَ وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ، أَيْ عَدَاوَةِ الدِّينِ، فَضَرَبَ اللَّهُ ثَنْيَ الصُّدُورِ مَثَلًا لِإِضْمَارِهِ بُغْضَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ لِقَصْدِ إِبْهَامِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمرَان: ١٧٣] قِيلَ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ.
وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَخْفُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ الْآيَةِ وَلَا اتِّسَاقَ الضَّمَائِرِ. فَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ تَنْطَبِقُ عَلَى صَنِيعِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِعْلُهُمْ هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ
دَعْوَةِ الْحَقِّ أَنْ لَا تَذْهَبَ بَاطِلًا حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا، فَإِنَّهَا تَلْفِتُ عُقُولَهُمْ إِلَى فَرْضِ صِدْقِهَا أَوِ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى دَفْعِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُثِيرُ حَقِيقَتَهَا وَيُشِيعُ دِرَاسَتَهَا. وَكَمْ مِنْ مُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ حَقٍّ مَا وَسِعَهُمْ إِلَّا التَّحَفُّزُ لِشَأْنِهَا وَالْإِفَاقَةُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَمِعُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ إِذْ أَخَذُوا يَتَدَبَّرُونَ وَسَائِلَ مُقَاوَمَتِهَا وَنَقْضِهَا وَالتَّفَهُّمِ فِي مَعَانِيهَا لِإِيجَادِ دَفْعِهَا، كَحَالِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ لِخِبَابِ بْنِ الْأَرَتِّ حِينَ تَقَاضَاهُ أَجْرَ سَيْفٍ صَنَعَهُ فَقَالَ لَهُ: لَا أَقْضِيَكَهُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِهِ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ. فَقَالَ الْعَاصِي لَهُ: إِذَا أَحْيَانِي اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِي فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ فَأَقْضِيكَ مِنْهُ. فَنَزَلَ
322
فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: ٧٧]. وَهَذَا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ لِمَعْنَى الْبَعْثِ وَتَوَهُّمِهِ أَنَّهُ يُعَادُ لِمَا كَانَ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ.
وَالِاسْتِخْفَاءُ: الِاخْتِفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ وَاسْتَأْخَرَ.
وَجُمْلَةُ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ إلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِتْمَامًا لِجُمْلَةِ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مُتَّصِلَةً بِهَا فَيَكُونُ حَرْفُ أَلا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ لزِيَادَة تَحْقِيق الْخَبَر، فَيَتَعَلَّقُ ظَرْفُ (حِينَ) بِفِعْلِ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ وَيَتَنَازَعُهُ مَعَ فِعْلِ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَتَكُونُ الْحَالَةُ الْمَوْصُوفَةُ حَالَةً وَاحِدَةً مُرَكَّبَةً مِنْ ثَنْيِ الصُّدُورِ وَاسْتِغْشَاءِ الثِّيَابِ.
وَالِاسْتِغْشَاءُ: التَّغَشِّي بِمَا يُغَشِّي، أَيْ يَسْتُرُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ:
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: ٧]، مثل اسْتَجَابَ.
وَزِيَادَةُ وَما يُعْلِنُونَ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عِلْمِهِ بِالْخَفِيَّاتِ دُونَ الظَّاهِرِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نَتِيجَةٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيْ يُعْلَمُ سِرَّهُمْ وَجَهْرَهُمْ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ فِي النُّفُوسِ وَهُوَ يَعْلَمُ الْجَهْرَ بِالْأَوْلَى.
فَذَاتُ الصُّدُورِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ عَلِيمٌ أَيِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الصُّدُورِ.
وَكَلِمَةُ (ذَاتِ) مُؤَنَّثُ (ذُو) يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الْأَنْفَال: ٤٣] وَقَوْلِهِ:
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١].
وَالصُّدُورُ مُرَادٌ بِهَا النُّفُوسُ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ بِالصَّدْرِ.
323
وَاخْتِيَارُ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ عَلِيمٌ لِاسْتِقْصَاءِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِكُلِّ مَا تَسَعُهُ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ فَتَقْصُرُ عَنْ أَلْفَاظٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ اسْتِيعَابِ مَا يَصْلُحُ مِنَ الْمُعَبِّرَاتِ لِتَحْصِيلِ تَقْرِيبِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ.
وَذَاتُ الصُّدُورِ: الْأَشْيَاءُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي النُّفُوسِ الَّتِي لَا تَعْدُوهَا. فأضيفت إِلَيْهَا.
324

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦]

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هود: ٥]. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، وَإِنَّمَا نُظِمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ تَفَنُّنًا لِإِفَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ بِ (مِنْ)، وَلِإِدْمَاجِ تَعْمِيمِ رِزْقِ اللَّهِ كُلَّ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ فِي أَثْنَاءِ إِفَادَةِ عُمُومِ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ كُلِّ دَابَّةٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُخِّرَ الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ لِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ رَازِقُ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا حِيلَةَ لَهَا فِي الِاكْتِسَابِ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ رَازِقًا لِلدَّوَابِّ قَضِيَّةٌ مِنَ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ عُمُومِ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ إِيَّاهَا دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا تَحْتَاجُهُ.
وَالدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ أَيْ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ.
وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى دَابَّةٍ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ التَّابِعِ لِعُمُومِ الذَّوَاتِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ رِزْقِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ رِزْقُها لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلِإِفَادَةِ تَرْكِيبِ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَلَمْ
5
يُهْمِلْهُ، لِأَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ وَالْمَحْقُوقِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ شَيْئًا، فَمَا أَفَادَ مَعْنَى اللُّزُومِ فَإِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُهُ بِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى صِفَاتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ ذَلِكَ لَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] وَقَوْلُهُ: حَقًّا عَلَيْنا [يُونُس: ١٠٣].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ رِزْقُ الدَّوَابِّ فِي ظَاهِرِ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْ أَصْحَابِ الدَّوَابِّ وَمَنْ يُرَبُّونَهَا، أَيْ رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. فَالْمُسْتَثْنَى هُوَ الْكَوْنُ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُطْلَقُ الْكَوْنِ مِمَّا يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ رَزَّاقٌ فَحَصْرُ الرِّزْقِ فِي الْكَوْنِ عَلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْعُرْفِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ مُسَبِّبٌ ذَلِكَ الرِّزْقَ وَمُقَدِّرُهُ.
وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْمُسْتَثْنَى، أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّ كُلِّ دَابَّةٍ وَمُسْتَوْدَعِهَا. فَلَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْحَصْرِ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهَا. وَالْمُسْتَوْدَعُ: مَحَلُّ الْإِيدَاعِ، وَالْإِيدَاعُ: الْوَضْعُ وَالدَّخَرُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ مُسْتَوْدَعُهَا فِي الرَّحِمِ قَبْلَ بُرُوزِهَا إِلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٨].
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينِ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اخْتِصَارٌ، أَيْ كُلُّ رِزْقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَيْ كِتَابَةٍ، فَالْكِتَابُ هُنَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: ٢٤]. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْدِيرِ الْعِلْمِ وَتَحْقِيقِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا وَلَا تَخَلُّفًا. كَمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ يُقْصَدُ مِنْهَا أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْأَمْرِ وَلَا يُنْقَصَ وَلَا يُبْطَلَ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ بِمَعْنَى: أَظْهَرَ، وَهُوَ تَخْيِيلٌ لِاسْتِعَارَةِ الْكِتَابِ لِلتَّقْدِيرِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَنْ يُطَالِعُهُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ
6

[٧]

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦]. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ عِلْمِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَاتِ قُدْرَتِهِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ،
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَازَمُهُ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسِعَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَجُمْلَةُ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَأَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَلَامِ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] الْمَسُوقَةِ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَغَيْرُ رَشِيقٍ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ مَحْسُوسًا وَلَا مُتَقَرِّرًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ هُوَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَبَعْضُهُ طَرَأَ عَلَيْهِ تَغْيِير بِخلق السَّمَوَات فَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِثْبَاتِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقَدْرَتِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [هود: ٦] إلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مخلوقا قبل السَّمَوَات وَكَانَ مُحِيطًا بِالْمَاءِ أَوْ حَاوِيًا لِلْمَاءِ. وَحَمْلُ الْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ ذَاتٌ مخلوقة فَوق السَّمَوَات هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَاءَ مَخْلُوق قبل السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَكَيْفِيَّتُهُ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ مِمَّا لَا قِبَلَ لِلْأَفْهَامِ بِهِ إِذِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ تَقْرِيبٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَرْشِ مُلْكَ اللَّهِ وَحُكْمَهُ تَمْثِيلًا بِعَرْشِ السُّلْطَانِ، أَيْ كَانَ مُلْكُ اللَّهِ قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مُلْكًا عَلَى الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْبَلْوُ: الِابْتِلَاءُ، أَيِ اخْتِبَارُ شَيْءٍ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ آثَارٍ خَلْقِهِ
7
تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَلْوِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَجَعْلُ الْبَلْوِ عِلّة لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ لِكَوْنِهِ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأَرْضِ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا الْخَلْقِ، ثُمَّ إِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ يَسْتَتْبِعُ خَلْقَ مَا جُعِلَتِ الْأَرْضُ عَامِرَةً بِهِ، وَاخْتِلَافُ أَعْمَالِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْخَلْقُ فَكَانَتْ مِنْ حِكْمَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَكَانَ التَّعْلِيلُ هُنَا بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ.
وأَيُّكُمْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْحَالِ اللَّازِمِ ذِكْرُهَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْخطاب فِي لِيَبْلُوَكُمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَبْلُوَ) إِلَى ضَمِيرِ الذَّوَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَمَامُ الْفَائِدَةِ فَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ حَالِ تَقَيُّدِ مُتَعَلِّقِ الِابْتِلَاءِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْلِيقِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ الْأَرْضِ صُدُورُ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ مِنْ شَرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِكْمَالًا لِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ إِلَخْ.
وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَالْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْعَجِيبَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ إِعَادَةُ خَلْقِ النَّاسِ. وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَوْلَا الْجَزَاءُ لَكَانَ هَذَا الْخَلْقُ عَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
8
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: ٣٨]. فَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ كَانَتِ الْحَالُ مَقَدَّرَةً مِنْ فَاعِلِ خَلَقَ أَيْ خَلَقَ ذَلِكَ مُقَدِّرًا أَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ، وَإِنْ حُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً.
وُوَجْهُ جَعْلِهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً إِفَادَةُ تَجَدُّدِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ كُلِّ إِخْبَارٍ بِالْبَعْثِ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَيَقُولَنَّ إِلَخْ، فَاللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَجَوَابُ (إِنَّ) مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ أَنْ يُحْذَفَ جَوَابُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِغَرَابَةِ صُدُورِهِ مِنَ الْعَاقِلِ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ الْقَوِيُّ وَالتَّنْزِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يُحِيلُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَقَدْ شَاهَدُوا آثَارَ بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَبْدَعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا سِحْرٌ عَلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ (قُلْتَ)، وَمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا السَّحَرَةُ لِخَصَائِصَ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: إِلَّا سَاحِرٌ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَفْهُومِ مِنْ ضَمِيرِ قُلْتَ أَيْ أَنَّهُ يَقُولُ كَلَامًا يَسْحَرُنَا بِذَلِكَ.
وَوَجْهُ جَعْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ سِحْرًا أَنَّ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَخُرَافَاتِهِمْ أَنَّ مِنْ وَسَائِلِ السِّحْرِ الْأَقْوَالَ الْمُسْتَحِيلَةَ وَالتَّكَاذِيبَ الْبُهْتَانِيَّةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ كُلَّمَا أُخْبِرُوا بِهِ لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ حُصُولِهِ بَلْهَ إِيمَانُهُمْ بِهِ.
ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ الْمَهْمُوزَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ الْمُجَرَّدِ، أَيْ بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ أَنَّهُ سَاحِرٌ
9

[٨]

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.
مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا وَصْفُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ وَتَهَكُّمِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِذَا خَبَّرَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَعْثِ وَأَنَّ شِرْكَهُمْ سَبَبٌ لِتَعْذِيبِهِمْ جَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا، وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بِعُقُوبَةِ الْعَذَابِ عَلَى الْإِشْرَاكِ اسْتَعْجَلُوهُ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ اسْتَفْهَمُوا عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ عَنْهُمُ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ ظَنًّا أَنَّ تَأَخُّرَهُ عَجْزٌ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَجُمْلَةُ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ جَوَابُ الْقَسَمِ مغنية من جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَالْأُمَّةُ: حَقِيقَتُهَا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا أَنَّهَا الْأَمَدُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ جِيلٌ فَأُطْلِقَتْ عَلَى مُطْلَقِ الْمُدَّةِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ.
ومَعْدُودَةٍ مَعْنَاهُ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُؤَجَّلَةٌ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَدِيدَةً لِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْعَدِّ وَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى التَّقْلِيلِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْعَدَدِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عَكْسِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، مِثْلُ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الْبَقَرَة: ٢١٢].
وَالْحَبْسُ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ مَكَانًا لَا يَتَجَاوَزُهُ. وَلِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا هُنَا، أَيْ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا وَيَحِلَّ بِنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.
10
أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ إِذْ يَقُولُونَ مَا يَحْبِسُ عَنَّا الْعَذَابَ، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ كَمَا تُفَصَّلُ الْمُحَاوَرَةُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ بِأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ
مُؤَخَّرٌ.
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْإِيمَاءِ بِأَنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ لَا شَكَّ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُوَقَّتُ بِوَقْتٍ.
وَالصَّرْفُ: الدَّفْعُ وَالْإِقْصَاءُ.
وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَالٌّ بِهِمْ حُلُولًا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ بِحَالٍ.
وَجُمْلَةُ وَحاقَ بِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ.
وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَهَذَا عَذَابُ الْقَتْلِ يَوْمَ بدر.
وَمَا صدق مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الْعَذَابُ، وَبَاءُ بِهِ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَذَابِ كَانَ سَبَبًا لِاسْتِهْزَائِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ كَانَ مِنْ أسِبَابِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيرُهُ إِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مخلصا.
11

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٩]

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود: ٨]. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ بَطِرُوا نِعْمَةَ التَّمْتِيعِ فَسَخِرُوا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالَةِ رَاسِخُونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِي غَيْرِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَجْرِي انْفِعَالَاتُهُمْ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ دُونَ رَجَاءٍ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالْبُؤْسِ وَتَصَرُّفَاتِ خَالِقِ النَّاسَ وَمُقَدِّرِ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَشَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ إِنْ حَلَّتْ بِهِمُ الضَّرَّاءُ بَعْدَ النِّعْمَةِ مَلَكَهُمُ الْيَأْسُ مِنَ الَخَيْرِ وَنَسُوا النِّعْمَةَ فَجَحَدُوهَا وَكَفَرُوا مُنْعِمَهَا، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ رَحْمَةٌ وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ نَزْعٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. فَتَعْرِيفُ (الْإِنْسَانِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَبِذَلِكَ اكْتَسَبَتِ الْجُمْلَةُ قُوَّةَ التَّذْيِيلِ. فَمِعْيَارُ الْعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود: ١١] كَمَا يَأْتِي، فَيَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ عُرْفِيًّا جَارِيًا
عَلَى اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ أَوِ النَّاسِ، وَلِأَن وصفي لَيَؤُسٌ كَفُورٌ يُنَاسِبَانِ الْمُشْرِكِينَ فَيَتَخَصَّصُ الْعَامُّ بِهِمْ.
وَقِيلَ التَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ مُرَادٌ مِنْهُ إِنْسَانٌ خَاصٌّ، فَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا حَلَّ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي النَّاسِ فِي هَذَا الْيَأْسِ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.
وَالْإِذَاقَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِيصَالِ الْإِدْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَاخْتِيرَتْ مَادَّةُ الْإِذَاقَةِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنْ إِدْرَاكِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَذُوقُ إِلَّا مَا يَشْتَهِيهِ.
وَالرَّحْمَةُ، أُرِيدَ بِهَا: رَحْمَةُ الدُّنْيَا. وَأُطْلِقَتْ عَلَى أَثَرِهَا وَهُوَ النِّعْمَةُ كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْمُرَادُ النِّعْمَةُ السَّابِقَةُ قَبْلَ نُزُولِ الضُّرِّ.
والنزع حَقِيقَته: خلق الثَّوْبِ عَنِ الْجَسَدِ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي سَلْبِ النِّعْمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (مِنْ) دُونَ (عَنْ) لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى السَّلْبِ وَالِافْتِكَاكِ، فَذِكْرُ (مِنْ) تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ.
وَجُمْلَة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجُرِّدَتْ مِنَ الِافْتِتَاحِ بِاللَّامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي خَبَرِ (إِنَّ). وَاسْتُغْنِيَ بِجَوَابِ الْقَسَمِ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ لَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى شَرْطٍ وَقَسَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ [هود: ٨] إِلَى آخِره.
واليؤوس وَالْكَفُورُ مِثَالَا مُبَالَغَةٍ فِي الْآيِسِ وَكَافِرِ النِّعْمَةِ، أَيْ جَاحِدِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَفُورِ: مُنْكِرُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَقْوَالٌ وَخَوَاطِرُ مِنَ السُّخْطِ عَلَى مَا انْتَابَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ قَطُّ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقِسْمِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ لَا مُبَالَغَةَ فِيهَا وَلَا تَغْلِيب.
[١٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٠]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا حَكَتْ حَالَةً ضِدَّ الْحَالَةِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ جُمْلَةُ قَسَمٍ وَشَرْطٍ وَجَوَابُ قَسَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهَا.
وَضَمِيرُ أَذَقْناهُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فَتَعْرِيفُهُ كَتَعْرِيفِ مَعَادِهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ.
13
وَالنَّعْمَاءُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْمَدِّ- النَّعْمَةُ وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّعْمَةِ أَشْهَرُ لِمُحَسِّنِ رَعْيِ النَّظِيرِ فِي زِنَةِ اللَّفْظَيْنِ النَّعْمَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْمُرَادُ هُنَا النِّعْمَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الضَّرَّاءِ.
وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَاخْتِيَارُ فِعْلِ الْإِذَاقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتِيَارُ فِعْلِ الْمَسِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِدْرَاكِ الضَّرَّاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ إِصَابَةَ الضَّرَّاءِ أَخَفُّ مِنْ إِصَابَةِ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ لُطْفَ اللَّهِ شَامِلٌ لِعِبَادِهِ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ.
وَجُعِلَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْقَوْلَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَبَجُّحٌ وَتَفَاخُرٌ، فَالَخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الِازْدِهَاءِ وَالْإِعْجَابِ، وَذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى زِيَادَةِ عَنِّي مُتَعَلِّقًا بِ ذَهَبَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تَذْهَبَ عَنْهُ السَّيِّئَاتُ غُرُورًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: ٥٠].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِ، وَ (فَرِحٌ وَفَخُورٌ) مِثَالَا مُبَالَغَةٍ، أَيْ لِشَدِيدِ الْفَرَحِ شَدِيدِ الْفَخْرِ. وَشِدَّةُ الْفَرَحِ: تَجَاوُزُهُ الْحَدَّ وَهُوَ الْبَطَرُ وَالْأَشَرُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: ٧٦].
وَالْفَخْرُ: تَبَاهِي الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ لِلنَّاسِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ بَعْدَ الْبَأْسَاءِ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الضَّرَّاءِ فَلَا يَتَفَكَّرُ فِي وُجُودِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَنَاقِلِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُخَالِفِ بَيْنَ أَسْبَابِهَا. وَفِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٨] وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ.
14

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١]

إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
احْتِرَاسٌ بِاسْتِثْنَاءٍ مِنَ (الْإِنْسَانِ). وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ صَبَرُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّ الصَّبْرَ مِنْ مُقَارَنَاتِ الْإِيمَانِ فَكَنَّيَ بِالَّذِينِ صَبَرُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُرَوِّضُ صَاحِبَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْهَوَى وَنَبْذِ مُعْتَادِ الضَّلَالَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: ٣].
وَمِنْ مَعَانِي الصَّبْرِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ هُنَا وَصْفُ (صَبَرُوا) دُونَ (آمَنُوا) لِأَنَّ الْمُرَادَ مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ فِي قَوْله: إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ [هود: ٩]. وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرٍ. وَقَدْ نُسِجَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُرُقِ الْحَذَرِ مِنْ صِفَتَيِ الْيَأْسِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَمِنْ صِفَتَيِ الْفَرَحِ وَالْفَخْرِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ وَصْفِهِمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَبِالصَّبْرِ وَعَمِلَ الصَّالِحَات تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥].
[١٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ- إِلَى قَوْله- يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: ٧، ٨] مَنْ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَيُشِير هَذَا التَّفْرِيعُ
15
إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِتَوْجِيهِ هَذَا التَّوَقُّعِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ لِتَكَرُّرِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ يَأْسًا قَدْ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ دُعَائِهِمْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ أُفِيدُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَالتَّوَقُّعُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحْذِيرٍ مِنْ شَأْنِهِ التَّبْلِيغُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَعَلَّكَ تَارِكٌ. وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّفْيِ لِلتَّحْذِيرِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْحَالَةِ حَدًّا يُوجِبُ تَوَقُّعَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ حَتَّى أَنَّ
الْمُتَكَلِّمَ يَسْتَفْهِمُ عَنْ حُصُولِهِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ هِمَّةِ الْمُخَاطَبِ وَإِلْهَابُ هِمَّتِهِ لِدَفْعِ الْفُتُورِ عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَجْوِيزُ تَرْكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغَ بَعْضِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا فِيهِ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارُهُمْ بِالْعَذَابِ وَإِعْلَامُهُمْ بِالْبَعْثِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الْأَعْرَاف: ٢٠٣].
وَالْمَعْنَى تَحْذِيرُهُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَرْكِهِ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ، فَالْخِطَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمُرَادٌ مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ عِلْمُ السَّامِعِينَ بِمَضْمُونِهِ.
وَضائِقٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ ضَاقَ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ (ضَيِّقٌ) هُنَا إِلَى ضائِقٌ لِمُرَاعَاةِ النَّظِيرِ مَعَ قَوْلِهِ: (تَارِكٌ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَصَاحَةً. وَلِأَنَّ ضائِقٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَمَكُّنِ وَصْفِ الضِّيقِ مِنْ صَدْرِهِ بِخِلَافِ ضَيِّقٍ، إِذْ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، إِيمَاء إِلَى أَنَّ أَقْصَى مَا يُتَوَهَّمُ تَوَقُّعُهُ فِي جَانِبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ ضِيقٌ قَلِيلٌ يَعْرِضُ لَهُ.
وَالضِّيقُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْغَمِّ وَالْأَسَفِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الِانْشِرَاحُ فِي الْفَرَحِ وَالْمَسَرَّةِ.
16
وضائِقٌ عَطْفٌ عَلَى تارِكٌ فَهُوَ وَفَاعِلُهُ جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنْ (لَعَلَّكَ) فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ.
وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا. وأَنْ يَقُولُوا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاء: ٣]، فَيَكُونُ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ لِاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ بِأَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، وَيَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: ٧]، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَحْبِسُ الْعَذَابَ عَنَّا، بِوَاسِطَةِ كَوْنِ ضائِقٌ دَاخِلًا فِي تَفْرِيعِ التَّحْذِيرِ عَلَى قَوْلَيْهِمُ السَّابِقَيْنِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالضَّمِيرِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُعْقِبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَكُونَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الذِّهْنِ، وَلِقَصْدِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى فَاعِلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ لِأَنَّهُ سَبَبُ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْ فَاعِلِهِ فَجِيءَ بِالضَّمِيرِ الْمُفَسِّرِ فِيمَا بَعْدُ لِمَا فِي لَفْظِ التَّفْسِيرِ مِنَ الطُّولِ، فَيَحْصُلُ بِذِكْرِهِ بُعْدٌ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَرْفُوعِهِ، فَلِذَلِكَ اخْتُصِرَ فِي ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ الِاهْتِمَامُ وَقَوِيَ الِاهْتِمَامُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِ فِي الذِّهْنِ.
وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا ضَمِيرَ بِهِ عَائِدًا إِلَى بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ. عَلَى أَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِ سَبَبٌ لِضِيقِ صَدْرِهِ، أَيْ لَا يَضِيقُ لَهُ صَدْرُكَ، وَجَعَلُوا أَنْ يَقُولُوا مَجْرُورًا بِلَامِ التَّعْلِيلِ مُقَدَّرَةً. وَعَلَيْهِ فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ. وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ضائِقٌ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ بِالْمَتِينِ.
ولَوْلا: لِلتَّحْضِيضِ، والكنز: المَال الْكُنُوز أَيِ الْمَخْبُوءُ.
وَإِنْزَالُهُ: إِتْيَانُهُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مُرَادٌ بِهِ تَجَدُّدُ هَذَا الْقَوْلِ وَتُكَرُّرُهُ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُمْ فِي
17
الْمَاضِي، وَبِقَرِينَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي ضِيقِ صَدْرِهِ لِأَنَّ التَّحْذِيرَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ.
وَمُرَادُهُمْ بِ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ أَنْ يَجِيءَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شَاهِدًا بِرِسَالَتِهِ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِإِعْرَاضِهِمْ وَيَتَنَازَلُ لِإِجَابَةِ مُقْتَرِحِ عِنَادِهِمْ، وَمِنْ قُصُورِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَدَى التَّأْيِيدِ الرَّبَّانِيِّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِهِ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ مِنْ مَقَالَتِهِمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَتْرُكْ إِبْلَاغَهُمْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ مِنْ مَقَالِهِمْ لِأَنَّكَ نَذِيرٌ لَا وَكِيلٌ عَلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ، حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَى يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ تَرْكُ دَعْوَتِهِمْ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لَا مُوَكَّلٌ بِإِيقَاعِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ بَلْ هُوَ لِلَّهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِرَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْتِي بِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْخَوَارِقِ فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ جَعَلُوا ذَلِكَ سَنَدًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ رَدًّا حَاصِلًا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْخِطَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ إِذْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ نَحْوِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا الْإِتْيَانَ بِمُعْجِزَاتٍ عَلَى وِفْقِ هَوَاهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ إِلَى هُنَا، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْقَصْرُ مِنْ إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَلَى إَلْجَائِهِمْ لِلْإِيمَانِ. وَمِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّ اللَّهَ وَكِيلٌ عَلَى قُلُوبِ
الْمُكَذِّبِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْكَلَامُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ لِيَكُونَ تَذْيِيلًا وَإِتْيَانًا لِلْغَرَضِ بِمَا هُوَ كَالدَّلِيلِ،
18
وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَكْرِ أُولَئِكَ، وَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى جَزَائِهِمْ وَأَنَّ اللَّهُ عَالِمٌ بِبَذْلِ النَّبِيءِ جُهْدَهُ فِي التَّبْلِيغ.
[١٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
أَمْ هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلِ) الَّتِي لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، إِلَّا أَنَّ (أَمْ) مُخْتَصَّةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ فَتُقَدَّرُ بَعْدَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَيَقُولُونَ افتراه.
والإضراب انتقالي فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا كَلَامٌ مُفْتَرًى، وَقَرَّعَهُمْ بِالْحُجَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِصَاحِبِهِ، فَهُوَ الْكَذِبُ عَنْ عَمْدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣].
وَجُمْلَةُ قُلْ فَأْتُوا جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَلَى مَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حِكَايَةُ الْمُحَاوِرَةِ بِصِيغَةِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ أَوْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: ٣٠]. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (افْتَرَاهُ) عَائِدٌ إِلَى النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢]. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْبَارِزِ الْمَنْصُوبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ:
بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢].
وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: جَلْبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِرْفَادِ مِنَ الْغَيْرِ أَمْ بِالِاخْتِرَاعِ مِنَ الْجَالِبِ وَهَذَا تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّحَدِّي.
19
وَتَحَدَّاهُمْ هُنَا بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ خِلَافَ مَا تَحَدَّاهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ التَّحَدِّي أَوَّلَ الْأَمْرِ بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ نُسِخَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَتَخَطَّى أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنْ قَالُوا إِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا بِسُورَةٍ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ هُنَا بِعَشْرِ سُوَرٍ لِأَنَّهُمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ هُنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِسُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ فَلَمَّا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي صِفَتِهَا أَكْثَرَ عَلَيْهِمْ عَدَدَهَا. وَمَا وَقَعَ مِنَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مُمَاثَلَتُهَا لِسُوَرِ الْقُرْآنِ فِي كَمَالِ الْمَعَانِي، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَمَعْنَى مُفْتَرَياتٍ أَنَّهَا مُفْتَرَيَاتُ الْمَعَانِي كَمَا تَزْعُمُونَ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ بِمِثْلِ قَصَصِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَاذِيبِهِمْ. وَهَذَا مِنْ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، فَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ مِثْلِهِ هِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتِهِ لَا فِي سَدَادِ مَعَانِيهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا دَلِيلُ عَلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ وَفَصَاحَتَهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عُلُوِّ مَعَانِيهِ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا. وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ لِعَمَلٍ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ مَجَازًا وَلَوْ بِدُونِ نِدَاءٍ.
وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ وَادْعُوا لِذَلِكَ. وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ إِنْ شِئْتُمْ حِينَ تَكُونُونَ قَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ فَلَكُمْ أَنْ تَدْعُوا مَنْ تَتَوَسَّمُونَ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ تَرْجُونَ أَنْ يَنْفَحَكُمْ بِتَأْيِيدِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ وَبِتَيْسِيرِ النَّاسِ لِيُعَاوِنُوكُمْ كَقَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: ٢٣].
ومِنْ دُونِ اللَّهِ وَصْفٌ لِ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَنُكْتَةُ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا عَمَّمَ لَهُمْ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِمَنِ
20
اسْتَطَاعُوا أَكَّدَ أَنَّهُمْ دُونَ اللَّهِ فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِكُلِّ مَنْ عَدَا اللَّهَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمُ افْتَراهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ. وُوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِافْتِرَاءُ يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا لَكَمَ لَا تَفْتَرُونَ أَنْتُمْ مِثْلَهُ فتنهض حجتكم.
[١٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ [هود: ١٣] أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لكم من تَدْعُو لَهُمْ فَأَنْتُمْ أَعْجَزُ مِنْهُمْ لِأَنَّكُمْ مَا تَدْعُونَهُمْ إِلَّا حِينَ تَشْعُرُونَ بِعَجْزِكُمْ دُونَ مُعَاوِنٍ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ عَجْزُ هَؤُلَاءِ مُوقِعًا فِي يَأْسِ الدَّاعِينَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَعَانِ فِيهِ، وَهِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْمُعَاوَنَةَ تَنْشَأُ عَنِ النِّدَاءِ إِلَى الْإِعَانَةِ غَالِبًا فَإِذَا انْتُدِبَ الْمُسْتَعَانُ بِهِ إِلَى الْإِعَانَةِ أَجَابَ النِّدَاءَ بِحُضُورِهِ فَسُمِّيَتِ اسْتِجَابَةً.
وَالْعِلْمُ: الِاعْتِقَادُ الْيَقِينُ، أَيْ فَأَيْقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أُنْزِلَ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ مُلَابِسًا لِعِلْمِ اللَّهِ. أَيْ لِأَثَرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ جَعْلُهُ بِهَذَا النَّظْمِ لِلْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَثَرٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ. وَقَدْ أَفَادَتْ (أَنَّمَا) الْحَصْرَ، أَيْ حَصْرَ أَحْوَالِ الْقُرْآنِ فِي حَالَةِ إِنْزَالِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّما أُنْزِلَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ بِطَلَبِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِعَانَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ.
وَالْفَاءُ فِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى فَاعْلَمُوا. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمِ تَأْخِيرِهِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة: ٩١] أَيْ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِعْلِ الْمَيْسِرِ. وَالْمَعْنَى: فَهَلْ تُسلِمُونَ بَعْدَ تَحَقُّقِكُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى دَوَامِ الْفِعْلِ وَثَبَاتِهِ. وَلَمْ يَقُلْ فَهَلْ تُسْلِمُونَ لِأَنَّ حَالَةَ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ تُكْسِبُ الْيَقِينَ بِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ فَتَقْتَضِي تَمَكُّنَهُ مِنَ النُّفُوسِ وَذَلِكَ التَّمَكُّنُ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَة الاسمية.
[١٥، ١٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ نَاشِئٌ عَنْ جُمْلَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: ١٤] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ تَفَرَّعَتْ عَلَى نُهُوضِ الْحُجَّةِ فَإِنْ كَانُوا طَالِبِينَ الْحَقَّ وَالْفَوْزَ فَقَدِ اسْتَتَبَّ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْإِسْلَامِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا يَطْلُبُونَ الْكِبْرِيَاءَ وَالسِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَيَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ فَهُمْ مُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ حُذِّرُوا مِنْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِالْمَتَاعِ الْعَاجِلِ وَأُعْلِمُوا بِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، أَعْنِي جُمْلَةَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إلَخْ... وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ تَمْهِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى بِوَارِقِ الْغُرُورِ وَمَزَالِقِ الذُّهُولِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ حَالَهُمْ كَانَ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِأَسْبَابِ مُكَابَرَتِهِمْ
وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِظَاهِرِ حُسْنِ
22
حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَحْسَبُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ فَأُوقِظُوا مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَفِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إِذْ حُصِرَ أَمْرُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: ١٨، ١٩].
فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ إِلَّا مَنَافِعَ الْحَيَاةِ وَزِينَتَهَا. وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَمَا آمَنَ إِلَّا لِذَلِكَ، فَمَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا فِي حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا النبيء قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الْأَحْزَاب: ٢٨، ٢٩] فَذَلِكَ فِي مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْحَيَاةِ وَزِينَتِهَا وَهُوَ تَرَفُ الْعَيْشِ وَزِينَةُ اللِّبَاسِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيه إِعْرَاضُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ التَّرَفِ وَتِلْكَ الزِّينَةِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَقْوَامُ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، أَيْ نَجْعَلُ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَافِيَةً وَمَعْنَى وَفَائِهَا أَنَّهَا غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ تَكَالِيفِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ نُقْصَانٍ فِي تَمَتُّعِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ
23
بِأَعْمَالِهِمْ وَهُوَ النُّقْصَانُ النَّاشِئُ عَنْ مُعَاكَسَةِ هَوَى النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ لذاتهم الَّتِي هيّأوها لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ تَتَهَيَّأُ لَهُمْ أَسْبَابُ التَّمَتُّعِ بِالدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ التَّهَيُّؤِ فَيَتْرُكُونَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ لِمُرَاعَاتِهِمْ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَذَّرَهُمْ مِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْمُرَاعَاةِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ نُوَفِّ بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى نُوَصِّلُ أَوْ نُبْلِغُ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ.
فَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ وَزِينَتَهَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ، فَالتَّوْفِيَةُ: عَدَمُ النَّقْصِ. وَعُلِّقَتْ بِالْأَعْمَالِ وَهِيَ الْمَسَاعِي. وَإِضَافَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ تُفِيدُ أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الَّتِي عَنَوْا بِهَا وَأَعَدُّوهَا لِصَالِحِهِمْ أَيْ نَتْرُكُهَا لَهُمْ كَمَا أَرَادُوا لَا نُدْخِلُ عَلَيْهِمْ نَقْصًا فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ التَّوْفِيَةُ مُتَفَاوِتَةٌ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرِكُ فِيهَا بَيْنَهُمْ هُوَ خَلُوُّهُمْ مِنْ كُلَفِ الْإِيمَانِ وَمَصَاعِبِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَى عِصْيَانِ الْهَوَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ نَتْرُكُهُمْ وَشَأْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا لَا يُجَازَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِجَزَاءِ سَلْبِ بَعْضِ النِّعَمِ عَنْهُمْ بَلْ يُتْرَكُونَ وَشَأْنَهُمْ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا. فَهَذَا كَالتَّكْمِلَةِ لِمَعْنَى جُمْلَةِ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، إِذِ الْبَخْسُ هُوَ الْحَطُّ مِنَ الشَّيْءِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ظُلْمًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَا رَآهُ الْأَشْعَرِيُّ أَنْ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ.
وَضَمِيرُ فِيها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَياةَ وَأَنْ يَعُودَ إِلَى (الْأَعْمَالِ).
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَلَكِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَرْبُطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَأُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ مَا يُذْكَرُ
24
بَعْدَ اخْتِيَارِهِ مِنَ الْحُكْمِ مِنْ أَجْلِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وإِلَّا النَّارُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْطَاهُ النَّاسُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَنَا.
وَالْحَبْطُ: الْبُطْلَانُ أَيِ الِانْعِدَامُ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا صَنَعُوا مَا عَمِلُوا، وَمِنَ الْإِحْسَان من الدُّنْيَا كَإِطْعَامِ الْعُفَاةِ وَنَحْوِهِ مِنْ مُوَاسَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ هُنَا بِ صَنَعُوا لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يُسَمَّى صَنِيعَةً.
وَضَمِيرُ فِيها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الدُّنْيا الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ صَنَعُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْآخِرَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ (بَطَلَ)، أَيِ انْعَدَمَ أَثَرُهُ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَظَّهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ لَا تَعْدُو ذَلِكَ. وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ فَارِسَ وَالرُّومَ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمُتْعَةِ «أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».
وَالْبَاطِلُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَذْهَبُ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا.
[١٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ. مَوْعِدُهُ
أُغْلِقَتْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهَا مِنْ جِهَةِ مَعَادِ الضَّمَائِرِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ جِهَةِ إِجْمَالِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَمَوْقِعِ الِاسْتِفْهَامِ،
25
وَمَوْقِعِ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يُلَخِّصْهُ أَحَدٌ مِثْلُهُ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي حِكَايَةِ بَعْضِهَا. وَالِاخْتِلَافُ فِي مَا صدق فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَفِي الْمُرَادِ مِنْ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَفِي الْمَعْنِيِّ بِ يَتْلُوهُ. وَفِي الْمُرَادِ مِنْ شاهِدٌ. وَفِي مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُوهُ. وَفِي مَعْنَى (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهُ، وَفِي مَعَادِ الضَّمِير الْمَجْرُورِ بِ (مِنْ). وَفِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابُ مُوسى. وَفِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَفِي مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ:
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ إلَخْ فَهَذِهِ مَفَاتِيحُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي مِنْ ذَلِكَ وَمِمَّا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا هُوَ أَوْضَحُ وَجْهًا وَأَقْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ شَبَهًا: أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: ١٣، ١٤] وَأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِتَقْرِيرِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَابْتِعَادِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ الضِّدِ عَلَى ضِدِّهِ فِي إِثْبَاتِ ضِدِّ حُكْمِهِ لَهُ، أَيْ إِنْ كَانَ حَالُ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ كَمَا وُصِفَ فَثَمَّ قَوْمٌ هُمْ بِعَكْسِ حَالِهِمْ قَدْ نَفَعَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالشَّوَاهِدُ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: ١٤]، أَيْ كَمَا أَسْلَمَ مَنْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْكُمْ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، أَيْ إِنْ كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ أَفَيُؤْمِنُ بِهِ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا عَلَى نَحْوِ نَظْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: ١٩] أَيْ أَنْتَ تُنْقِذُ مِنَ النَّارِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب.
وفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ لَا يُرَادُ بِهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ. فَكَلِمَةُ (مَنْ) هُنَا تَكُونُ كَالْمُعَرَّفِ
بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ صَادِقَةً عَلَى مَنْ تَحَقَّقَتْ لَهُ الصِّلَةُ، أَعْنِي أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا تَسْتَقِيمُ الْإِشَارَةُ. وَإِفْرَادُ ضَمَائِرِ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَذَلِكَ أَحَدُ اسْتِعْمَالَيْنِ. وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ:
26
أَفَمَنْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [١٤].
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا النَّصَارَى فَقَطْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي الْعَرَبِ وَيَعْرِفُ أَهْلُ مَكَّةَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَحَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ مِثْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِمَّنْ آمَنُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَدَلُّوا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ أَفْهَامِهِمْ وَلِوُضُوحِ دَلَالَةِ الْبَيِّنَةِ، فَأَصْحَابُهَا مُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةُ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَكَوْنُ النَّصَارَى عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا رَسُولًا صَادِقًا.
وَكَوْنُ الْيَهُودِ عَلَى بَيِّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِانْتِظَارِهِمْ رَسُولًا مُبَشَّرًا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي كُفْرِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ. فَالْمُرَادُ عَلَى بَيِّنَةٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: ١٤]، وَيُعَيِّنُهَا اللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَجَازِيًّا. وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ رَبِّهِ أَنَّهَا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَوِصَايَتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: ٨١] وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]. وَذَكَرَ كِتَابَ مُوسَى وَأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَيُقَوِّي أَنَّ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى.
وَفِعْلُ (يَتْلُوهُ) مُضَارِعُ التَّلْوِ وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَلَيْسَ مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ يَتْبَعُهُ. وَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّأْيِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِالْحَقِّ يَحْضُرُ وَرَاءَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُوهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.
27
وَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْهُ شَاهِدٌ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ لِإِعْجَازِهِ
الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ آتٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى رَبِّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شاهِدٌ أَيْ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ كَائِنٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ إِعْجَازُهُ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
ومِنْ قَبْلِهِ حَالٌ مِنْ كِتابُ مُوسى. وكِتابُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى شاهِدٌ مِنْهُ وَالْمُرَادُ تَلْوُهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقِ الِارْتِقَاءِ فَإِنَّ النَّصَارَى يَهْتَدُونَ بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى مَا فِي الْإِنْجِيلِ بِالتَّوْرَاةِ لِأَنَّهَا أَصْلُهُ وَفِيهَا بَيَانُهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا عُطِفَ كِتابُ مُوسى عَلَى شاهِدٌ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ يَتْلُوهُ قُيِّدَ كِتَابُ مُوسَى بِأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ. وَيَتْلُوهُ كِتَابُ مُوسَى حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّاهِدِ أَيْ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي النُّزُولِ. وَإِذَا كَانَ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى خَاصَّةً كَانَ لِذِكْرِ كِتابُ مُوسى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ كِتَابَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ كَامِلَةٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وإِماماً وَرَحْمَةً حَالَانِ ثَنَاءٌ عَلَى التَّوْرَاةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ يَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهَا فَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِجَزَاءِ الِاسْتِقَامَةِ إِذِ الْإِمَامُ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُعْمَلُ عَلَى مِثَالِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسُوا مِثْلَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: ٨٩].
وَإِقْحَامُ أُولئِكَ هُنَا يُشْبِهُ إِقْحَامَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ مُسَبَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُعَضَّدَةٍ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ.
28
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.
وَضَمِيرُ (بِهِ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ مِنْ تَقَدُّمِ ضَمِيرِهِ فِي قَوْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [هود: ١٣].
وَبِهِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ مَعَ قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: ١٣، ١٤] أَيْ يُؤْمِنُونَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يُؤْمِنُونَ) إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ وَإِرَادَةِ أَوْصَافِهَا مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣]، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ وَارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: ١٤] فَإِنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُؤَيَّدَةٍ بِشَاهِدٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَعْضُودَةٍ بِكِتَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ قَبْلِ بَيِّنَتِهِمْ.
وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: ١٠] فَاسْتَقَامَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ تَمَامُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَنْتَ لَا يَعُوزُكَ تَرْكِيبُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَأَوَّلَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ مِمَّا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَبَصَرُكَ فِيهَا حَدِيدٌ، وَبِيَدِكَ لِفَتْحِ مَغَالِقِهَا مَقَالِيدٌ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّضَ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: ١٤]، وَأَرَاهُمُ الْقُدْوَةَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، عَادَ فَحَذَّرَ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ بَيِّنَةِ رَبِّهِ وَشَوَاهِدِ رُسُلِهِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.
وَالْأَحْزَابُ: هُمْ جَمَاعَاتُ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَالْمُشْرِكُونَ حِزْبٌ، وَالْيَهُودُ حِزْبٌ، وَالنَّصَارَى حِزْبٌ، قَالَ تَعَالَى:
29
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ [ص: ١٢، ١٣].
وَالْبَاءُ فِي يَكْفُرْ بِهِ كَالْبَاءِ فِي يُؤْمِنُونَ بِهِ.
وَالْمَوْعِدُ: ظَرْفٌ لِلْوَعْدِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَصِيرِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ لِعَمَلٍ أَنْ يُعَيَّنَ بِهِ بِوَعْدٍ سَابِقٍ.
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَعْرِيضِيَّةً بِالْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَنَقْصَهُ، فَمِنْ لَوَازِمِهِ ذَمُّ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ مَظِنَّةٍ لِلتَّلَبُّسِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيُطْلَبُ مِنْهُ تَرْكُهُ وَيَكُونُ النَّهْيُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ
غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْكَفُّ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ [٢٣] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْذِيرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الامتراء فِي الْوَحْي لَمَا كَانَ لِتَفْرِيعِ ذَلِكَ عَلَى إِيتَاءِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْكِتَابَ مُلَازَمَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ التَّعْرِيضَ بِالَّذِينِ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ قَدَّمَ إِلَيْهِمُ احْتِجَاجَ سَبْقِ الْوَحْيِ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ نَظَرًا لِحَالِ الَّذِينَ اسْتُعْمِلَ النَّهْيُ كِنَايَةً عَنْ ذَمِّهِمْ فَإِنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمَزِيَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ.
30
وَضَمِيرَا الْغَيْبَةِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضمير افْتَراهُ [هود: ١٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ مِنْ أَنه لوضوح حَقِيقَته لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِي صِدْقِهِ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ مِنَ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَهِيَ مُرَادِفَةُ الِامْتِرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ. وَاخْتِيرَ النَّهْيُ عَلَى الْمِرْيَةِ دُونَ النَّهْيِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَزْمِ بِالْكَذِبِ بِالْأَوْلَى، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيَقِينِ بِكَذِبِ الْقُرْآنِ أَشَدُّ ذَمًّا وَشَنَاعَةً.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الشَّكُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَكًّا فِي ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَن حَقِيقَة القرآنية أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالشَّكُّ النَّاشِئُ عَلَى نُزُولِهِ شَكٌّ فِي مَجْمُوعِ حَقِيقَتِهِ. وَهَذَا مِثْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَقْدِير مُضَاف يؤول بِهِ إِلَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُرَادِ أَوْصَافُهَا.
وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْحَقِّ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ حَقٌّ غَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: حَاتِمٌ الْجَوَادُ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ناشيء عَلَى حُكْمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا طُلِبَ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ أَنَّ فِي طِبَاعِ أَكْثَرِ النَّاسِ تَغْلِيبُ الْهَوَى عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لم يُؤمنُوا.
31

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ مِنْ إِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- افْتَرَى الْقُرْآنَ وَنَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْجِيزُهُمْ عَنْ بُرْهَانٍ لِمَا زَعَمُوهُ، كَرَّ عَلَيْهِمْ أَنْ قَدْ وَضَّحَ أَنَّهُمُ الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ عِدَّةَ أَكَاذِيبَ، مِنْهَا نَفْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ.
فَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: ١٧] لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ النَّارَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ إِذْ نَسَبُوا الْقُرْآنَ إِلَى غَيْرِ مَنْ أَنْزَلَهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَاهُ، فَكَانُوا بَالِغِينَ غَايَةَ الظُّلْمِ حَتَّى لَقَدْ يُسْأَلُ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ أَظْلَمَ مِنْهُمْ سُؤال إِنْكَار يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدٌ أَظْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٤]، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧] فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ.
وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ هُوَ مَا وَضَعُوهُ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: ٢٨]. وَقَالَ تَعَالَى:
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [الْمَائِدَة: ١٠٣] أَيْ إِذْ يَقُولُونَ: أَمَرَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ اسْتِئْنَافٌ. وَتَصْدِيرُهَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ بِسَبَبِ مَا قَبْلَ اسْمِ
32
الْإِشَارَةِ مِنَ الْوَصْفِ، وَهَذَا أَشَدُّ الظُّلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَلِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى تَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ عُلِمَ أَنَّ عَرْضَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَرْضُ زَجْرٍ وَانْتِقَامٍ.
وَالْعَرْضُ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) أَفَادَ معنى الْإِحْضَار بإراءة.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ السَّبَبِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَعَطْفُ فِعْلِ (يَقُولُ) عَلَى فِعْلِ (يُعْرَضُونَ) الَّذِي هُوَ خَبَرٌ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُزْءِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ هُنَا ابْتِدَاءُ عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مَقْصُودٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَالْمَعْنَى أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ لِلْعِقَابِ وَيُعْلَنُ الْأَشْهَادُ بِأَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فَضْحًا لَهُمْ.
وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ بِمَعْنَى حَاضِرٍ، أَوْ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى الْمُخْبِرِ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ. وَهَؤُلَاءِ الْأَشْهَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَاسْتِحْضَارُهُمْ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى يَشْتَهِرَ مَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ حَالِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ شُهْرَتُهُمْ بِالسُّوءِ وَافْتِضَاحُهُمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي فِي الصِّلَةِ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ وَهُوَ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَشْهِيرُهُمْ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعْلَانِ هَذِهِ الصِّفَةِ التَّشْهِيرُ وَالْخِزْيُ لَا إِثْبَاتُ كَذِبِهِمْ لِأَنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْنَدْ الْعَرْضُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ وَأُسْنِدَ إِلَى ذَوَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْلِ الْأَشْهَادِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ يُنَاسِبُ مَقَامَ التَّشْهِيرِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ خِزْيًا وَتَحْقِيرًا
33
لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْأَشْهَادِ وُقُوعُ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٤] مُصَرَّحًا فِيهِ بِذَلِكَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٥].
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: (يَبْغُونَهَا) عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ الله لأنّ السَّبِيل يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَبْغُونَ أَنْ تَصِيرَ سَبِيلُ اللَّهِ عَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَنَّهُمْ
يُحَاوِلُونَ أَنْ يُصَيِّرُوهَا عَوْجَاءَ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتْبَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُمْ وَيَغْضَبُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ. وَهُنَا انْتَهَى كَلَامُ الْأَشْهَادِ لِأَنَّ نَظِيرَهُ الَّذِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٤] فِي قَوْلِهِ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الْآيَةَ انْتَهَى بِمَا يُمَاثِلُ آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاخْتُصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي الْأَعْرَافِ بِزِيَادَةِ (هُمْ) فِي قَوْلِهِ: هُمْ كافِرُونَ وَهُوَ تَوْكِيدٌ يُفِيدُ تَقَوِّي الْحُكْمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ تَسْجِيلِ إِنْكَارِهِمْ الْبَعْثَ وَتَقْرِيرِهِ إِشْعَارًا بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْمُنَاسِبِ فَحُكِيَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ لِمَا قِيلَ فِي شَأْنِ قَوْمٍ أُدْخِلُوا النَّارَ وَظَهَرَ عِقَابُهُمْ فَلَا غَرَضَ لِحِكَايَةِ مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَكِلَا الْمَقَالَتَيْنِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا يَحْكِي الْبَلِيغُ فِيمَا يَحْكِيهِ مَا لَهُ مُنَاسِبَةٌ لِمَقَامِ الْحِكَايَةِ.
[٢٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٠]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ الِاقْتِصَارِ فِي تَهْدِيدِهِمْ عَلَى وَصْفِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: هَلْ هُمْ سَالِمُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الدُّنْيَا، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَقْدِرَةِ اللَّهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعْجِيلَ عَذَابِهِمْ.
34
وَإِعَادَةُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨] لِتَقْرِيرِ فَائِدَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ السَّابِقِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِيهِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَتَى شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِمْهَالَهُمْ.
وَالْمُعْجِزُ هُنَا الَّذِي أَفْلَتَ مِمَّنْ يَرُومُ إِضْرَارَهُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤].
وَالْأَرْضُ: الدُّنْيَا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ لَوْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَوْضِعًا مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَعْصِمُونَ بِهِ. فَهَذَا نفي للملاجيء وَالْمَعَاقِلِ الَّتِي يَسْتَعْصِمُ فِيهَا الْهَارِبُ. وَعِنْدِي أَنَّ مُقَارَنَةَ (فِي الْأَرْضِ) بِ (مُعْجِزِينَ) جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْقُرْآنِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: ٣٢] وَلَعَلَّهُ مِمَّا جَرَى كَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُ إِيَاسِ بن قُبَيْصَةَ الطَّائِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَنْصَارُ، أَيْ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَجَمَعَ لَهُمْ نَفْيَ سَبَبَيْ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَادِرِ وَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ أَوْ مُعَارَضَةُ قَادِرٍ آخَرَ إِيَّاهُ يَمْنَعُهُ مِنْ تَسْلِيطِ عِقَابِهِ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَوْلِيَاءَ) لِمَا فِي الْوَلِيِّ هُنَا مِنْ مَعَانِي الْحَائِلِ وَالْمُبَاعِدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: ١١٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تَوَلَّوْهَا، أَيْ أَخْلَصُوا لَهَا الْمَحَبَّةَ وَالْعِبَادَةَ.
35
وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى نَفْيُ أَثَرِ هَذَا الْوَصْفِ، أَيْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ أَصْنَامُهُمْ وَآلِهَتُهُمْ.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَ (دُونِ) اسْمٌ غير ظرف، و (من) الْجَارَّةُ لِ (دُونِ) زَائِدَةٌ تُزَادُ فِي الظُّرُوفِ غير المتصرفة، و (من) الْجَارَّةُ لِ (أَوْلِيَاءَ) زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَالْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الْمُشْعِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا عَنْ عَجْزٍ.
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.
خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ خَبرا أوّلا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا ثَانِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ حَالًا وَجُمْلَةُ يُضاعَفُ خَبَرًا أَوَّلَ.
مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ حَالًا مِنْهُ فَتَكُونُ اسْتِطَاعَةُ السَّمْعِ
الْمَنْفِيَّةُ عَنْهُمْ مُسْتَعَارَةٌ لِكَرَاهِيَتِهِمْ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نُفِيَتْ الْإِطَاقَةُ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ أَرَادَ بِنَفْيِ إِطَاقَةِ الْوَدَاعَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ الْحُزْنِ مِنَ الْوَدَاعِ فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ غَيْرَ الْمُطَاقِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالِاسْتِطَاعَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
36
يَدْعُوهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَيُعْرِضُونَ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْمَعُوهُ. قَالَ تَعَالَى: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها
[الجاثية: ٨] وَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] لِأَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا وَوَعَوْا لَاهْتَدَوْا لَأَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَنَتَائِجِهَا فَسَمَاعُهُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاهْتِدَاءِ.
وَالْإِبْصَارُ الْمَنْفَيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ مَا كَانُوا يُوَجِّهُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى الْمَصْنُوعَاتِ تَوْجِيهَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا نَظَرَ الْغَافِلِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الدَّقَائِقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: وَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُبْصِرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْصِرُونَهَا وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْإِبْصَارِ غَيْرُ كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلُ الْفِكْرِ بِخِلَافِ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا لِ (أَوْلِيَاءَ)، وَسَوَّغَ كَوْنَهَا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا آلِهَةً لَهُمْ فِي حَالِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ السَّمْعَ وَلَا الْإِبْصَارَ.
وَإِعَادَةُ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْأَصْنَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اعْتَقَدُوهَا تَعْقِلُ، فَفِي هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ نَفْيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَنْهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الْكَوْنِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لِإِفَادَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنْ تَمَكُّنِ الْحَدَثِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ آكُدُ مِنْ: لَا يُعْجِزُونَ وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهُ.
وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ صِيَغِ أَفْعَالِ الْكَوْنِ إِذْ جَاءَ أَوَّلُهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ بِحَرْفِ (لَمْ) لَهُ مَعْنَى الْمُضِيِّ فَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ مِنْهَا إلّا تفننا.
37

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٢]

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
اسْتِئْنَافٌ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا تَأْكِيدٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨].
وَالْمَوْصُولُ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ الْمَعْرُوفُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ، أَيْ أَنْ بَلَغَكُمْ أَنَّ قَوْمًا خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمُ الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَخَسَارَةُ أَنْفُسِهِمْ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الِاهْتِدَاءِ، فَلَمَّا ضَلُّوا فَقَدْ خَسِرُوهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢].
وَالضَّلَالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ.
وَمَا كانُوا يَفْتَرُونَ
مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَحْقَاف: ٢٨].
وَفِي إِسْنَادِ الضَّلَالِ إِلَى الْأَصْنَامِ تَهَكُّمٌ عَلَى أَصْحَابِهَا. شُبِّهَتْ أَصْنَامُهُمْ بِمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لِيَلْحَقَ بِمَنِ اسْتَنْجَدَ بِهِ فَضَلَّ فِي طَرِيقِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ فَذْلَكَةٌ وَنَتِيجَةٌ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨] لِأَنَّ مَا جُمِعَ لَهُمْ مِنَ الزَّجِّ لِلْعُقُوبَةِ وَمِنِ افْتِضَاحِ أَمْرِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ النُّذُرِ وَعَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّهُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي الْآخِرَة.
و (لَا جَرَمَ) كَلِمَةُ جَزْمٍ وَيَقِينٍ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ (جَرَمَ) مُشْتَقٌّ مِمَّا تُنُوسِيَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَرْكِيبِهَا، وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ أَنْ
تَكُونَ (لَا) مِنْ أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَ (جَرَمَ) اسْمٌ بِمَعْنَى مَحَالَةَ أَيْ لَا مَحَالَةَ أَوْ بِمَعْنَى بُدَّ أَيْ لَا بُدَّ. ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَهَا أَنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا فَتَكُونُ (أَنَّ) مَعْمُولَةً لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا. وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَالتَّوْثِيقِ وَتُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْقَسَمِ فَيَجِيءُ بَعْدَهَا فِي مَا يَصْلُحُ لِجَوَابِ قَسَمٍ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ. قَالَهُ عَمْرو بن معديكرب لِأَبِي بَكْرٍ.
وَعَبَّرَ عَمَّا لَحِقَهُمْ مِنَ الضُّرِّ بِالْخَسَارَةِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّهُ ضُرٌّ أَصَابَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا
يَرْجُونَ الْمَنْفَعَةَ فَهُمْ مِثْلُ التُّجَّارِ الَّذِينَ أَصَابَتْهُمُ الْخَسَارَةُ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الرِّبْحَ.
وَإِنَّمَا كَانُوا أَخْسَرِينَ، أَيْ شَدِيدِي الْخَسَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ مَا افْتَرَقَ بَيْنَ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ. وَلِأَنَّهُمْ شَقَوْا مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَحْسَبُونَهُ سَعَادَةً قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْف: ١٠٣، ١٠٤] فَكَانُوا أَخْسَرِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَضَمِيرُ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْحَدَّ الْأَقْصَى فِي الْخَسَارَةِ، فَكَأَنَّهُمُ انفردوا بالأخسرية.
[٢٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْبَالِغِينَ أَقْصَى غَايَاتِ الْخَسَارَةِ ذَكَرَ مُقَابِلَهُمْ الَّذِينَ بَلَغُوا أَعْلَى دَرَجَاتِ السَّعَادَةِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ النُّفُوسَ تَشْرَئِبُّ عِنْدَ سَمَاعِ حُكْمِ الشَّيْءِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ ضِدِّهِ.
وَالْإِخْبَاتُ: الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، أَيْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ أَحْسَنَ طَاعَةٍ.
وَمُوقِعُ أُولئِكَ هُنَا مِثْلُ مَوْقِعِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَوْقِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي الْمَكَانِ هُوَ أَحَقُّ الْأَحْوَالِ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ الصَّاحِبِ عَلَى الْحَالِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ إِذِ الْأَمْكِنَةُ لَا تُقْصَدُ إِلَّا لِأَجْلِ الْحُلُولِ فِيهَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا قَبْلَهَا فَمَنْزِلَتُهَا مَنْزِلَةُ عَطْفِ الْبَيَانِ، وَلَا تُعْرَبُ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٢] فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فَعُدْ إِلَيْهِ وَزِدْ إِلَيْهِ مَا هُنَا.
[٢٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٤]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَبَيْنَ حَالِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ أُعْقِبَ بِبَيَانِ التَّنْظِيرِ بَيْنَ حَالَيْ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقَةِ تَمْثِيلِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَمٍّ وَمَدْحٍ.
فَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ وَتَحْصِيلٌ لَهُ وَلِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَاقَعَةِ سَبَبِهِ.
وَالْمَثَلُ، بِالتَّحْرِيكِ: الْحَالَةُ وَالصِّفَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٥]، أَيْ حَالَةُ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ تُشْبِهُ حَالَ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ مِنْ جِهَةٍ وَحَالَ الْبَصِيرِ السَّمِيعِ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ وَلَيْسَ اسْتِعَارَةً لِوُجُودِ كَافِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ مُفْرَدٌ لَا مُرَكَّبٌ.
وَالْفَرِيقَانِ هُمَا الْمَعْهُودَانِ فِي الذِّكْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَهَمَا فَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ وَفَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ قَدْ سَبَقَ مَا يُؤْذِنُ بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [هود: ١٨]. ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [هود:
٢٣] الْآيَةَ.
40
وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُفَارِقُ، أَيْ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ جَمَاعَةٍ أُخْرَى فِي عَمَلٍ أَوْ نِحْلَةٍ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨١].
شَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ الْوَاضِحَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِحَالِ الْأَعْمَى، وَشُبِّهُوا فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ بِحَالِ مَنْ هُوَ أَصَمُّ.
وَشَبَّهَ حَالَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْبَصَرِ، سَلِيمَ السَّمْعِ فَهُوَ فِي هُدًى وَيَقِينٍ مِنْ مُدْرَكَاتِهِ.
وَتَرْتِيبُ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا فِي الذِّكْرِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا تقدم ينبىء بِالْمُرَادِ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. وَالتَّرْتِيبُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ بالأعمى والأصم هُوَ الْفَرِيقُ الْمَقُولُ فِيهِمْ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [هود: ٢٠].
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَصَمِّ للْعَطْف على كَالْأَعْمى عَطَفَ أَحَدَ الْمُشَبَّهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمِيعِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْبَصِيرِ.
وَأَمَّا الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرِ فَهِيَ لِعِطْفِ التَّشْبِيهِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّشْرُ بَعْدَ اللَّفِّ. فَهِيَ لِعَطْفِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ بِهَا لِلتَّقْسِيمِ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَقَدْ يَظُنُّ النَّاظِرُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ تَرْكُ عَطْفِ صِفَةِ الْأَصَمِّ على صفة كَالْأَعْمى كَمَا لَمْ يُعْطَفْ نَظِيرَاهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨] ظَنًّا بِأَنَّ مَوْرِدَ الْآيَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ. وَذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ حَوَاشِي الْكَشَّافِ بِأَنَّ
41
الْعَطْفَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِ تَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا لِهَذَا التَّنْزِيلِ نُكْتَةً وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنه مُجَرّد استمال فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:
يَا لهف زيابة للحارب ال صَابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي الدَّاعِي إِلَى عَطْفِ صِفَةِ الْأَصَمِّ على صفة كَالْأَعْمى أَنَّهُ مَلْحُوظٌ فِيهِ أَنَّ لِفَرِيقِ الْكُفَّارِ حَالَيْنِ كُلُّ حَالٍ مِنْهُمَا جَدِيرٌ بِتَشْبِيهِهِ بِصِفَةٍ مِنْ تَيْنَكَ الصِّفَتَيْنِ عَلَى حِدَةٍ، فَهُمْ يُشَبِّهُونَ الْأَعْمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي طَرِيقُ إِدْرَاكِهَا الْبَصَرَ، ويشبهون الْأَصَمَّ فِي عَدَمِ فَهْمِ الْمَوَاعِظِ النَّافِعَةِ الَّتِي طَرِيق فهما السَّمْعُ، فَهُمْ فِي حَالَتَيْنِ كُلُّ حَالٍ مِنْهُمَا مُشَبَّهٌ بِهِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ تَشْبِيهَانِ مُفَرَّقَانِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
وَالَّذِي فِي الْآيَةِ تَشْبِيهُ مَعْقُولَيْنِ بِمَحْسُوسَيْنِ، وَاعْتِبَارُ كُلِّ حَالٍ مِنْ حَالَيْ فَرِيقِ الْكُفَّارِ لَا مَحِيدَ عَنْهُ لِأَنَّ حُصُولَ أَحَدِ الْحَالَيْنِ كَافٍ فِي جَرِّ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ بَلْهَ اجْتِمَاعُهُمَا، إِذِ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَنْفِيِّ.
وَأَمَّا الدَّاعِي إِلَى الْعَطْفِ فِي صِفَتَيِ الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِحَالِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ فَبِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَا فِي حَالِ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ تُشْبِهُ حَالَةَ مَجْمُوعِ صِفَتَيِ الْبَصِيرِ السَّمِيعِ، إِذِ الِاهْتِدَاءُ يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَتْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَانْتَفَتِ الْأُخْرَى لَمْ يَحْصُلْ الِاهْتِدَاءُ إِذِ الْأَمْرَانِ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ، فَهُمَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْكَوْنَ الدَّاعِيَ إِلَى عَطْفِ السَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ فِي تَشْبِيهِ حَالِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْمُزَاوَجَةُ فِي الْعِبَارَةِ لِتَكُونَ الْعِبَارَةُ عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مُمَاثِلَةً لِلْعِبَارَةِ عَنْ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْمُزَاوَجَةُ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى فَصَاحَتِهِ.
42
وَجُمْلَةُ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّفْضِيلِ وَالْمُفَضَّلِ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَعْلُومٌ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَالِهِمَا، وَالْمَثَلُ: الْحَالُ.
وَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ جُمْلَةَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامٌ وَإِنْكَارُ انْتِفَاءِ تَذَكُّرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تذكرُونَ» بتَشْديد الدَّال. وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مُخْرَجَيْهِمَا وَلِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْفِعْلِ.
وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ بِ الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ محسن الطباق.
[٢٥، ٢٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ وَوَصْفِ أَحْوَالِهِمْ وَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ إِلَى مَوْعِظَتِهِمْ بِمَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَاقَاهُ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قَبْلَهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ.
فَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْوَاوَ الِابْتِدَائِيَّةُ.
وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بلام الْقسم ولَقَدْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا غَفَلُوا عَنِ الْحَذَرِ مِمَّا بِقَوْمِ نُوحٍ مَعَ مُمَاثَلَةِ حَالِهِمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ رِسَالَتِهِ.
43
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْكِيٌّ بِفِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَحَلِّ حَالٍ، أَيْ قَائِلًا.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ وَهُوَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ، أَيْ بِمَعْنَى
الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ (أَنِّي نَذِيرٌ)، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالنِّذَارَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آلِ عِمْرَانَ [٣٣]. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [٥٩].
وَجُمْلَة أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَرْسَلْنا لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا تَفْسِيرًا لِ نَذِيرٌ لِمَا فِي نَذِيرٌ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٢، ٣] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ (أَنِّي) إِذَا اعْتُبِرَتْ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَيَجُوزُ جَعْلُ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ عَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْهَمْزَةِ- وَاسْمُهَا ضمير شَأْن محذوفا، أَيْ أَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعْلِيلٌ لِ نَذِيرٌ لِأَنَّ شَأْنَ النِّذَارَةِ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى النُّفُوسِ وَتُخْزِهِمْ فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِالتَّعْلِيلِ لِدَفْعِ حَرَجِ مَا يُلَاقُونَهُ.
وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْأَلِيمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ الْعَذَابُ بِالْأَلِيمِ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْعَذَابِ لَمَّا بَلَغَتِ الْغَايَةَ جُعِلَ زَمَانُهُ أَلِيمًا، أَيْ مُؤْلِمًا.
وَجُمْلَةُ أَخافُ عَلَيْكُمْ وَنَحْوُهَا مِثْلُ أَخْشَى عَلَيْكَ، تُسْتَعْمَلُ لِلتَّوَقُّعِ فِي الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْمَقْطُوعِ بِهِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا أَخْشَى عَلَيْهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا
فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْخَوْفِ مِنْهُ وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَخُوفِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيت لبيد.
44
(الْعَذَاب) هُنَا نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِنُزُولِهِ بِهِمْ وَلَكِنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِيمَانِ قَوْمِهِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ فِي التَّبْلِيغِ، فَعَلِمَ أَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتْرُكَ مَنْ عَصَوْهُ دُونَ عُقُوبَةٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كَلَامِهِ الْآتِي إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ [هود: ٣٣] عَلَى مَا يَأْتِي هُنَالِكَ. وَكَانَ الْعَذَابُ شَامِلًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا إِنْ بَقَوْا عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقْرِنُ الْوَعِيدَ بِالدَّعْوَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كَلَامِهِ الْآتِي وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: ٣٣]، وَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى أَذْهَانِ
قَوْمِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي كَلَامِهِمُ الْآتِي فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود: ٣٢]. وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا تُفِيدُهُمْ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الطوفان.
[٢٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
عَطَفَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ عَلَى فعل أَرْسَلْنا [هود: ٢٥] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ بَادَرُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: ٢٥] إِلَى آخِرِهِ. وَلَمْ تَقَعْ حِكَايَةُ ابْتِدَاءِ مُحَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدًا عَنِ الْفَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُحَاوَرَتِهِ إِيَّاهُمْ هُنَا لَمْ يَقَعْ بِلَفْظِ الْقَوْلِ فَلَمْ يُحْكَ جَوَابُهُمْ بِطَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
45
جَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فَقَدَّمُوا لِذَلِكَ مُقْدِمَاتٍ اسْتَخْلَصُوا مِنْهَا تَكْذِيبَهُ، وَتِلْكَ مُقْدِمَاتٌ بَاطِلَةٌ أَقَامُوهَا عَلَى مَا شَاعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي رَوَّجَهَا الْإِلْفُ وَالْعَادَةُ فَكَانُوا يُعِدِّونَ التَّفَاضُلَ بِالسُّؤْدُدِ وَهُوَ شَرَفٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ قِوَامُهُ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أَسْبَابَ السُّؤْدُدِ أَسْبَابًا مَادِّيَّةً جَسَدِيَّةً، فَيُسَوِّدُونَ أَصْحَابَ الْأَجْسَامِ الْبَهِجَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لِأَنَّهُمْ بِبَسَاطَةِ مَدَارِكِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ حُسْنَ الذَّوَاتِ، وَيُسَوِّدُونَ أَهْلَ الْغِنَى لِأَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي نَوَالِهِمْ، وَيُسَوِّدُونَ الْأَبْطَالَ لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهُمْ لِدِفَاعِ أَعْدَائِهِمْ. ثُمَّ هُمْ يَعْرِفُونَ أَصْحَابَ تِلْكَ الْخِلَالِ إِمَّا بِمُخَالَطَتِهِمْ وَإِمَّا بِمُخَالَطَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَإِذَا تَسَامَعُوا بِسَيِّدِ قَوْمٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ تَعَرَّفُوا أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْرَافِ وَالسَّادَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا لَمَّا رَأَوْا فِيهِ مِنْ مُوجِبَاتِ السِّيَادَةِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ مُلَائِمَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ إِذْ لَا عِنَايَةَ لَهُمْ بِالْجَانِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ.
فَلَمَّا دَعَاهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعْوَةً عَلِمُوا مِنْهَا أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا فَرَأَوُا الْأَسْبَابَ الْمَأْلُوفَةَ بَيْنَهُمْ لِلسُّؤْدُدِ مَفْقُودَةً مَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ فَجَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ بِسِيَادَةٍ
لِلْأُمَّةِ وَقِيَادَةٍ لَهَا.
وَهَؤُلَاء لقصود عُقُولِهِمْ وَضَعْفِ مَدَارِكِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا إِدْرَاكَ أَسْبَابِ الْكَمَالِ الْحَقِّ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ الْكَمَالَ مِنْ أَعْرَاضٍ تعرض للنَّاس بِالصَّدَقَةِ مِنْ سَعَةِ مَالٍ، أَوْ قُوَّةِ أَتْبَاعٍ، أَوْ عِزَّةِ قَبِيلَةٍ. وَتِلْكَ أَشْيَاءُ لَا يَطَّرِدُ أَثَرُهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا إِشْعَارٍ لَهَا بِكَمَالِ صَاحِبِهَا إِذْ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَقَلُّ النَّاسِ عُقُولًا، وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ مِثْلُ الْبَقَرَةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ لَبَنٍ، وَالشَّاةُ بِمَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ صُوفٍ، بَلْ غَالِبُ حَالِهَا أَنَّهَا بِضِدِّ ذَلِكَ.
وَرُبَّمَا تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ كَالْجِنِّ، أَوْ زِيَادَةِ خِلْقَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي عَمَلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِثْلِ جَمَالِ الصُّورَةِ وَكَمَالِ الْقَامَةِ، وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمَوْصُوفَاتِهَا لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَصَادِرَ كَمَالَاتٍ،
46
فَقَدْ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ كَالظِّبَاءِ وَالْمَهَا وَالطَّوَاوِيسِ، فَإِنِ ارْتَقَوْا عَلَى ذَلِكَ تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ وَإِجَادَةِ الرِّمَايَةِ وَالْمُجَالَدَةِ وَالشَّجَاعَةِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَنْ تُعَدَّ فِي أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَلَكِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّهَا آلَاتٌ لِإِنْقَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَكُونُ آلَاتٍ لِإِنْفَاذِ الْمَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ مِثْلَ شَجَاعَةِ أَهْلِ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالشُّطَّارِ، وَمِثْلَ الْقُوَّةِ عَلَى خَلْعِ الْأَبْوَابِ لِاقْتِحَامِ مَنَازِلِ الْآمِنِينَ.
وَإِنَّمَا الْكَمَالُ الْحَقُّ هُوَ زَكَاءُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةِ الْعَقْلِ، فَهُمَا السَّبَبُ الْمُطَّرِدُ لِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَهُمَا تَكُونُ الْقُوَى الْمُنَفِّذَةُ خَادِمَةً كَالشَّجَاعَةِ لِلْمُدَافِعِينَ عَنِ الْحَقِّ وَالْمُلْجِئِينَ لِلطُّغَاةِ عَلَى الْخُنُوعِ إِلَى الدِّينِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَغَيْبَةِ الصَّوَابِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْمَعْصُومِ، وَهُوَ مَقَامُ النُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ.
فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا قَصَّرُوا عَنْ إِدْرَاكِ أَسْبَابِ الْكَمَالِ وَتَطَلَّبُوا الْأَسْبَابَ مِنْ غَيْرِ مَكَانِهَا نَظَرُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مِنْ جِنْسِ غَيْرِ الْبَشَرِ، وَتَأَمَّلُوهُ وَأَتْبَاعَهُ فَلَمْ يَرَوْا فِي أَجْسَامِهِمْ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ مَنْ هُمْ أَجْمَلُ وُجُوهًا أَوْ أَطْوَلُ أَجْسَامًا.
مِنْ أجل ذَلِك أخطأوا الِاسْتِدْلَالَ فَقَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَأَسْنَدُوا الِاسْتِدْلَالَ إِلَى الرُّؤْيَةِ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اسْتِدْلَالَهُمْ ضَرُورِيًّا مِنَ الْمَحْسُوسِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ، أَيْ مَا نَرَاكَ غَيْرَ إِنْسَانٍ، وَهُوَ مُمَاثِلٌ لِلنَّاسِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمْ
جَوَارِحَ أَوْ قَوَائِمَ زَائِدَةً.
وَالْبَشَرُ- مُحَرَّكَةً-: الْإِنْسَانُ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا. قَالَ الرَّاغِبُ: «عَبَّرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِالْبَشَرِ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ بَشَرَتَهُ وَهِيَ جِلْدُهُ مِنَ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ» أَيْ وَالرِّيشُ. وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ
47
الْإِنْسَانِ فَيُطْلَقُ كَمَا يُطْلَقُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْأَكْثَرِ، وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ. وَقَدْ يُثَنَّى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧].
وَقَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فَجَعَلُوا أَتْبَاعَ النَّاسِ الْمَعْدُودِينَ فِي عَادَتِهِمْ أَرَاذِلَ مَحْقُورِينَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا مَيْزَةَ لَهُ عَلَى سَادَتِهِمُ الَّذِينَ يَلُوذُ بِهِمْ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَأَقْوِيَاؤُهُمْ. فَنَفَوْا عَنْهُ سَبَبَ السِّيَادَةِ مِنْ جِهَتَيْ ذَاتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ لِأَنَّهُمْ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهِمْ وَأَنَّهُ لَوْ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ لَاتَّبَعُوهُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ بَعْدَهُ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: ٢٩] الْآيَة.
والأرذال: جَمْعُ أَرْذَلَ الْمَجْعُولِ اسْمًا غَيْرَ صِفَةٍ كَذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ، أَوْ جَمْعُ رَذِيلٍ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَالرَّذِيلُ: الْمُحْتَقَرُ. وَأَرَادُوا أَنَّهُمْ مِنْ لَفِيفِ الْقَوْمِ غَيْرُ سَادَةٍ وَلَا أَثْرِيَاءَ. وَإِضَافَةُ (أَرَاذِلُ) إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَعْيِينِ الْقَبِيلَةِ، أَيْ أَرَاذِلُ قَوْمِنَا. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا أَرَاذِلُنَا لِحِكَايَةِ أَنَّ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَاءً إِلَى شُهْرَةِ أَتْبَاعِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَيْنَ قَوْمِهِمْ بِوَصْفِ الرَّذَالَةِ وَالْحَقَارَةِ، وَكَانَ أَتْبَاعُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ضُعَفَاءِ الْقَوْمِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ أَزْكِيَاءِ النُّفُوسِ مِمَّنْ سَبَقَ لَهُمُ الْهُدَى.
وبادِيَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ فِي آخِرِهِ- عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ بَدَا الْمَقْصُورِ إِذَا ظَهَرَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ لَمَّا تَحَرَّكَتْ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهُ وَزْنُ فَاعِلٍ وَقَعَتِ الْوَاوُ مُتَطَرِّفَةً إِثْرَ كَسْرَةٍ فَقُلِبَتْ يَاءً. وَالْمَعْنَى فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ دُونَ بَحْثٍ عَنْ خَفَايَاهُ وَدَقَائِقِهِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ- بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ- عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَدَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ الشَّيْءِ.
وَالْمَعْنَى: فِيمَا يَقَعُ أَوَّلَ الرَّأْيِ، أَيْ دُونَ إِعَادَةِ النَّظَرِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ التَّمْوِيهِ، وَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ.
وَالرَّأْيُ: نَظَرُ الْعَقْلِ، مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ رَأَى، كَمَا اسْتُعْمِلَ رَأَى بِمَعْنَى ظَنَّ وَعَلِمَ.
48
يَعْنُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ غَرَّتْهُمْ دَعْوَتُكَ فَتَسَرَّعُوا إِلَى مُتَابَعَتِكَ وَلَوْ أَعَادُوا النَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ لَعَلِمُوا أَنَّكَ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تتبع.
وانتصاب بادِيَ الرَّأْيِ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي وَقْتِ الرَّأْيِ دُونَ بَحْثٍ عَنْ خَفِيِّهِ، أَوْ فِي الرَّأْيِ الْأَوَّلِ دُونَ إِعَادَةِ نظر.
وَإِضَافَة بادِيَ إِلَى الرَّأْيِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: لَا يَلْبَثُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مُتَّبِعِيكَ رُشْدُهُمْ فَيُعِيدُوا التَّأَمُّلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَيُكْشَفَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ.
وَلَمَّا وَصَفُوا كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ بِمَا يَنْفِي سِيَادَةَ الْمَتْبُوعِ وَتَزْكِيَةَ التَّابِعِ جَمَعُوا الْوَصْفَ الشَّامِلَ لَهُمَا. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْمُفَرِّقَيْنِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعِهِ فَضْلٌ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَتَّى يَكُونَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَيِّدًا لَهُمْ وَيَكُونُ أَتْبَاعُهُ مُفَضَّلَيْنِ بِسِيَادَةِ مَتْبُوعِهِمْ.
وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُرَادُ هُنَا آثَارُهُ وَعَلَامَاتُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُرَى، فَجَعَلُوا عَدَمَ ظُهُورِ فَضْلٍ لَهُمْ عَلَيْهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ فَضْلِهِمْ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا تَخْفَى آثَارُهُ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ انْتِفَاءُ رُؤْيَتِهَا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهَا إِذْ لَوْ ثَبَتَتْ لَرُئِيَتْ.
وَجُمْلَةُ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ كُلِّهِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ الْمَنْفِيِّ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ إِيَّاهُمْ كَاذِبِينَ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ ثَبَتَ ضِدَّهُ، فَزَعَمُوا نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَاذِبًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَأَتْبَاعَهُ كَاذِبِينَ فِي دَعْوَى حُصُولِ الْيَقِينِ بِصِدْقِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُمُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَهَذَا الظَّنُّ الَّذِي زَعَمُوهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَاسْتُعْمَلَ الظَّنُّ هُنَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٤٦] وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَام.
49

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٨]

قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، فَهَذِهِ لَمَّا وَقَعَتْ مُقَابِلًا لِكَلَامٍ مَحْكِيٍّ يُقَالُ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ
وَلَمْ تُعْطَفْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: ٢٧].
وَافْتِتَاحُ مُرَاجَعَتِهِ بِالنِّدَاءِ لِطَلَبِ إِقْبَالِ أَذْهَانِهِمْ لِوَعْيِ كَلَامِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتِيَارِ اسْتِحْضَارِهِمْ بِعُنْوَانِ قَوْمِهِ لِاسْتِنْزَالِ طَائِرِ نُفُورِهِمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ فَلَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا خَيْرًا.
وَإِذْ قَدْ كَانَ طَعْنُهُمْ فِي رِسَالَتِهِ مُدَلِّلًا بِأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا لَهُ مَزِيَّةً وَفَضْلًا، وَمَا رَأَوْا أَتْبَاعَهُ إِلَّا ضُعَفَاءَ قَوْمِهِمْ وَإِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ كَذِبِهِ وَضَلَالِ أَتْبَاعِهِ، سَلَكَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَسْلَكَ إِجْمَالٍ لِإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ ثُمَّ مَسْلَكَ تَفْصِيلٍ لِرَدِّ أَقْوَالِهِمْ، فَأَمَّا مَسْلَكُ الْإِجْمَالِ فَسَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْقَلْبِ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَرَوْا فِيهِ وَفِي أَتْبَاعِهِ مَا يَحْمِلُ عَلَى التَّصْدِيقِ بِرِسَالَتِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ مَنْعَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ مُتَابَعَتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْهَدْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
فَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتَ ذَا بُرْهَانٍ وَاضِحٍ، وَمُتَّصِفًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ بِالْهُدَى فَلَمْ تَظْهَرْ لَكُمُ الْحُجَّةُ وَلَا دَلَائِلُ الْهُدَى، فَهَلْ أُلْزِمُكُمْ أَنَا وَأَتْبَاعِي بِهَا، أَيْ بِالْإِذْعَانِ إِلَيْهَا وَالتَّصْدِيقِ
50
بِهَا إِنْ أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ قَبُولَهَا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا تَأَمُّلًا بَرِيئًا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَعَلِمُوا صدق دَعوته.
وأَ رَأَيْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ إِذَا كَانَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ غَيْرَ عَامِلٍ فِي مُفْرَدٍ فَهُوَ تَقْرِيرٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّادَّةِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتُمْ)، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ آئلا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَلَكِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي طَلَبِ مَنْ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ الْخَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٧].
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى قَوْله تَعَالَى فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُلْزِمُكُمُوها إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُكْرِهُكُمْ عَلَى قَبُولِهَا، فَعُلِّقَ الْإِلْزَامُ بِضَمِيرِ الْبَيِّنَةِ أَوِ الرَّحْمَةِ. وَالْمُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِقَبُولِهَا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ.
وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُعْجِزَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَتُهُ الطُّوفَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ مُعْجِزَاتٌ أُخْرَى لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لَا تَخْلُو مِنْ مُعْجِزَاتٍ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ نِعْمَةُ النُّبُوءَةِ وَالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، مَعَ مَا صَحِبَهَا مِنَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِهَا، فَعَطْفُ (الرَّحْمَةِ) عَلَى (الْبَيِّنَةِ) يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ إِذِ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُعِيدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعُمِّيَتْ أُعِيدَ عَلَى (الرَّحْمَةِ) لِأَنَّهَا أَعَمُّ.
وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (عُمِّيَتْ) وَهُوَ حَرْفٌ تَتَعَدَّى بِهِ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنَى الَخَفَاءِ، مِثْلُ: خَفِيَ عَلَيْكَ. وَلَمَّا كَانَ عُمِّيَ فِي مَعْنَى خَفِيَ عُدِّيَ بِ (عَلَى)، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيِ التَّمَكُّنِ، أَيْ قُوَّةِ مُلَازَمَةِ الْبَيِّنَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ.
51
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَهُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرَادَ بِهِ إِظْهَارَ رِفْقِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ.
وَمَعْنَى فَعُمِّيَتْ فَخَفِيَتْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، إِذْ شُبِّهَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْهَا الْمُخَاطَبُونَ كَالْعَمْيَاءِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي لِلْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى: الْخَفَاءِ عدي فعل (عميت) بِحَرْفِ (عَلَى) تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِي ضِدِّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء:
٥٩]، أَيْ آتَيْنَاهُمْ آيَةً وَاضِحَةً لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهَا لِأَنَّهَا آيَةٌ مَحْسُوسَةٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَحْدُهُمْ إِيَّاهَا ظُلْمًا فَقَالَ: فَظَلَمُوا بِها [الْإِسْرَاء: ٥٩].
وَمِنْ بَدِيعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ فِيهَا طِبَاقًا لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧]. فَقَابَلَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَهُمْ مُقَابَلَةً بِالْمَعْنَى وَاللَّفْظِ إِذْ جَعَلَ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ الْعَمَى.
وَعَطْفُ (عُمِّيَتْ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ إِيتَائِهِ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ وَبَيْنَ خَفَائِهَا عَلَيْهِمْ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ.
وَجُمْلَةُ أَنُلْزِمُكُمُوها سَادَّةُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ عُلِّقَ عَنِ الْعَمَلِ بِدُخُولِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فَعْلُ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَتَقْدِير الْكَلَام: قَالَ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ أَتَرَوْنَ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَكَانَ لَهُ
أَعْوَانٌ عَلَيْهِ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ فَأَرَادَ أَنْ لَا يُهْمِلَ ذِكْرَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّهُمْ أَنْصَارٌ لَهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَهِيبَ بِهِمْ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ تَحْقِيرِ الْآخَرِينَ إِيَّاهُمْ.
52
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِكْرَاهِهِمْ إِعْرَاضًا عَنِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ فَتَرَكَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي تَوَقُّعِ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.
وَالْكَارِهُ: الْمُبْغِضُ لِشَيْءٍ. وَعُدِّيَ بِاللَّامِ إِلَى مَفْعُولِهِ لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ تَعَلُّقِ الْكَرَاهِيَةِ بِالرَّحْمَةِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، أَيْ وَأَنْتُمْ مُبْغِضُونَ قَبُولَهَا لِأَجْلِ إِعْرَاضِكُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى كارِهُونَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِهِ بَعَثُهُمْ عَلَى إِعَادَةِ التَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ. وَتَخْفِيضُ نُفُوسِهِمْ. وَاسْتِنْزَالُهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَعْذِرَتَهُمْ بِمَا صَنَعُوا وَلَا الْعُدُولَ عَنْ تَكْرِير دعوتهم.
[٢٩]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٩]
وَيا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
إِعَادَةُ الْخِطَابِ بِ يَا قَوْمِ تَأْكِيدٌ لِمَا فِي الْخِطَابِ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَأَمَّا عَطْفُ النِّدَاءِ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ وَاحِدٌ وَشَأْنُ عَطْفِ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُنَادَى، كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
يَا ساهر الْبَرْق أيقظن رَاقِدَ السَّمُرِ لَعَلَّ بِالْجِزْعِ أَعْوَانًا عَلَى السَّهَرِ
ثُمَّ قَالَ:
وَيَا أَسِيرَةَ حِجْلَيْهَا أَرَى سَفَهًا حَمْلَ الْحُلِيِّ بِمَنْ أَعْيَا عَنِ النَّظَرِ
فَأَمَّا إِذَا اتَّحَدَ الْمُنَادَى فَالشَّأْنُ عَدَمُ الْعَطْفِ كَمَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٢- ٤٥] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
- إِلَى قَوْلِهِ- وَلِيًّا فَقَدْ تَكَرَّرَ النِّدَاءُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
53
فَتَعَيَّنَ هُنَا أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ مَقُولِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا مِنْ حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْهُ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّصَالِ النِّدَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَأَنَّ أَحَدَهَا لَا يُغْنِي عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْلِ لِأَنَّ النِّدَاءَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ فَجُمْلَتُهُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَطْفُهَا إِذَا عُطِفَتْ مُجَرَّدُ عَطْفٍ لَفْظِيٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفَنُّنًا عَرَبِيًّا فِي الْكَلَامِ عِنْدَ تَكَرُّرِ النِّدَاءِ اسْتِحْسَانًا لِلْمُخَالَفَةِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ. وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا قَرِيبًا فِي قِصَّةِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِصَّةِ
شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [٣٠- ٣٣] فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ثُمَّ قَالَ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: ٣٨- ٤١]. فَعَطَفَ (وَيَا قَوْمِ) تَارَةً وَتَرَكَ الْعَطْفَ أُخْرَى.
وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ فَقَدْ جَاءَ الْعَطْفُ وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا فِي اخْتِلَافِ وَصْفِ الْمُنَادَى مِنْ شِبْهِ التَّغَايُرِ كَقَوْلِ قَيْسٍ بْنِ عَاصِمٍ، وَقِيلَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَيَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةَ مَالِكٍ وَيَا ابْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ وَالْفَرَسِ الْوَرْدِ
فَقَوْلُهُ: (وَيَا بْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ) عَطْفُ نِدَاءٍ عَلَى نِدَاءٍ وَالْمُنَادَى بِهِمَا وَاحِدٌ.
لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُجْبِرُهُمْ عَلَى إِيمَانٍ يَكْرَهُونَهُ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيبِهِمْ مِنَ النَّظَرِ فِي نَزَاهَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْعًا دُنْيَوِيًّا بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مَالا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، فَمَاذَا يَتَّهِمُونَهُ حَتَّى يَقْطَعُونَ بِكَذِبِهِ.
54
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ مَالًا، وَالْمَالُ أَجْرٌ، نَشَأَ تَوَهُّمُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ جَزَاءً عَلَى الدَّعْوَةِ فَجَاءَ بِجُمْلَةِ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَالًا وأَجرِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ مَالًا وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ ثَوَابًا. وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى عَمَلٍ. وَيُسَمَّى ثَوَابُ اللَّهِ أَجْرًا لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى جملَة لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا كَالنَّتِيجَةِ لِمَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ نَفْيَ طَمَعِهِ فِي الْمُخَاطَبِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْذِي أَتْبَاعَهُ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ
آمَنُوا
لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُول من تَغْلِيظ قَوْمِهِ فِي تَعْرِيضِهِمْ لَهُ بِأَنْ يَطْرُدَهُمْ بِمَا أَنَّهُمْ لَا يُجَالِسُونَ أَمْثَالَهُمْ إِيذَانًا بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ يُوجِبُ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَطْرُدُهُمْ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: ٢٧] مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَا يُمَاثِلُونَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِ.
وَالطَّرْدُ: الْأَمْرُ بِالْبُعْدِ عَنْ مَكَانِ الْحُضُورِ تَحْقِيرًا أَوْ زَجْرًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢].
وَجُمْلَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِنَفِيَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَمُحَاسِبٌ مَنْ يَطْرُدُهُمْ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَنْتَصِرُ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ مَجَازِيَّةً، أَوْ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ دَعْوَتِي لِأَنِّي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى شَيْءٍ يَخُصُّنِي فَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِي كَمَنْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
55
حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ، وَاسْتَحْيَا أَحَدُهُمْ، وَأَعْرَضَ الثَّالِثُ «أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»
. وَتَأْكِيدُ الَخَبَرِ بِ (إِنَّ) إِنْ كَانَ اللِّقَاءُ حَقِيقَةً لِرَدِّ إِنْكَارِ قَوْمِهِ الْبَعْثَ، وَإِنْ كَانَ اللِّقَاءُ مَجَازًا فَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ اللِّقَاءِ. وَقَدْ زِيدَ هَذَا التَّأْكِيدُ تَأْكِيدًا بِجُمْلَةِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ ضِدُّ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ جملَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أَيْ لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ فَتَحْسَبُونَهُمْ لَا حَضْرَةَ لَهُمْ وَأَنْ لَا تَبِعَةَ فِي طَرْدِهِمْ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَجْهَلُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ تَجْهَلُونَ ذَلِكَ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: قَوْماً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَهْلَهُمْ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
[٣٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٠]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
إِعَادَةُ وَيا قَوْمِ مِثْلُ إِعَادَتِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالنَّصْرُ: إِعَانَةُ الْمُقَاوِمِ لِضِدٍّ أَوْ عَدُوٍّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ فَعُدِّيَ بِ (مِنْ) أَيْ مَنْ يُخَلِّصُنِي، أَيْ يُنْجِينِي مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّ طَرْدَهُمْ إِهَانَةٌ تُؤْذِيهِمْ بِلَا مُوجِبٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ إِهَانَةَ أَوْلِيَائِهِ.
وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى قَوْمِهِ فِي إِهْمَالِهِمُ التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَالْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ-.
وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ، تَتَذَكَّرُونَ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ «تَذَكَّرُونَ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَبِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَالتَّذَكُّرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فِي آخِرِ سُورَة الْأَعْرَاف [٢٠١].
[٣١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣١]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِمَا رَدَّ بِهِ مَقَالَةَ قَوْمِهِ إِجْمَالًا، فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى نَفْيِ نُبُوَّتِهِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ فَضْلًا غَيْرِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١١]، وَلِذَلِكَ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ من لَوَازِم النبوءة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ. وَالْقَوْلُ بِمَعْنَى الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا انْتِفَاؤُهُ فِي الْمَاضِي فَمَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ، أَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي مُضْمِرٌ ادِّعَاءَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ أَقُلْهُ.
وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهِيَ بَيْتٌ أَوْ مِشْكَاةٌ كَبِيرَةٌ يُجْعَلُ لَهَا بَابٌ، وَذَلِكَ لِخَزْنِ الْمَالِ أَوِ الطَّعَامِ، أَيْ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ. وَذِكْرُ الْخَزَائِنِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَتِ النِّعَمُ وَالْأَشْيَاءُ النَّافِعَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُدَّخَرُ فِي الْخَزَائِنِ، وَرَمَزَ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَإِضَافَةُ خَزائِنُ إِلَى اللَّهِ لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ بِهَا.
57
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فَنَفْيٌ لِشُبْهَةِ قَوْلِهِمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هود: ٢٧] وَلِذَلِكَ أَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ إِبْطَالُ دَعْوَى أُخْرَى أَلْصَقُوهَا بِهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِ (إِنَّ) لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَقُولُهُ قَائِلُهُ إِلَّا مُؤَكَّدًا لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِ لَوِ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ، فَلَمَّا نَفَاهُ نَفَى صِيغَةَ إِثْبَاتِهِ.
وَلَمَّا أَرَادَ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: ٢٧] أَبْطَلَهُ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيطِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا ضَعْفَهُمْ وَفَقْرَهُمْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ فَضْلِهِمْ، فَأَبْطَلَهُ بِأَنَّ ضَعْفَهُمْ لَيْسَ بِحَائِلٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الضَّعْفِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ فَقْرٍ وَقِلَّةٍ وَبَيْنَ الْحِرْمَانِ مَنْ نَوَالِ الْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَأَعَادَ مَعَهُ فِعْلَ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ، فَالْقَوْلُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ، وَهِيَ تَعْرِيضِيَّةٌ بالمخاطبين لأَنهم يضمون ذَلِكَ وَيُقَدِّرُونَهُ.
وَالِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزَّرْيِ وَهُوَ الِاحْتِقَارُ وَإِلْصَاقُ الْعَيْبِ، فَأَصْلُهُ: ازْتِرَاءٌ، قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا بَعْدَ الزَّايِ كَمَا قُلِبَتْ فِي الِازْدِيَادِ.
وَإِسْنَادُ الِازْدِرَاءِ إِلَى الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ سَبَبُ الِازْدِرَاءِ غَالِبًا، لِأَنَّ الِازْدِرَاءَ يَنْشَأُ عَنْ مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ النَّاظِرِ. وَنَظِيرُهُ إِسْنَادُ الْفَرَقِ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦] وَإِنَّمَا سَحَرُوا عُقُولَهُمْ وَلَكِنَّ الْأَعْيُنَ تَرَى حَرَكَاتِ السَّحَرَةِ فَتُؤْثِرُ رُؤْيَتُهَا عَلَى عُقُولِ الْمُبْصِرِينَ.
وَجِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ جعلُوا ضعف أَتْبَاعه نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَقْرِهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْخَيْر عَنْهُمْ فَاقْتَضَى دَوَامُ ذَلِكَ مَا دَامُوا ضُعَفَاءَ فُقَرَاءَ، فَلِسَانُ حَالِهِمْ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا خَيْرًا، فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.
58
وَجُمْلَةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ أَنْ يَقُولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.
وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَمَعْنَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ أَمْرَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى رَبِّهِمُ الَّذِي علم بِمَا أَوْدَعَهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالَّذِي وَفَّقَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، أَيْ فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَتَعْلِيقُهُ بِالنُّفُوسِ تَنْبِيهٌ لِقَوْمِهِ عَلَى غَلَطِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧] بِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْجُثْمَانِيِّ الدُّنْيَوِيِّ وَجَهِلُوا الْفَضَائِلَ
وَالْكِمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ وَالْعَطَايَا اللَّدُنِّيَّةَ الَّتِي اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا.
وَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ شِدَّةُ الْعِلْمِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِنَفْيِ أَنْ يَقُول: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.
وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ مُجَازَاةً لِلْقَوْلِ، أَيْ لَوْ قُلْتَ ذَلِكَ لَكُنْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَظْلِمُهُمْ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ حَقِيقَتِهِمْ، وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِاقْتِحَامِ الْقَوْلِ بِمَا لَا يصدق.
وَقَوله: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَبْلَغُ فِي إِثْبَاتِ الظُّلْمِ مِنْ: إِنِّي ظَالِمٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧].
وَأَكَّدَهُ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ: إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَحَرْفِ الْجَزَاءِ، تَحْقِيقًا لِظُلْمِ الَّذِينَ رَمَوُا الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّذَالَةِ وَسَلَبُوا الْفَضْلَ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّعْرِيضَ بِقَوْمِهِ فِي ذَلِكَ. وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ذِكْرُ مَوْقِفٍ آخَرَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ الْمُؤمنِينَ.
59

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٣]

قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)
فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصْلًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ بِالْقَوْلِ وَإِيرَادُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤]، وَيَكُونُ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٩٧].
وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ جَادَلَهُمْ فِيمَا هُوَ شَرٌّ فَعَبَّرَ عَنْ مُرَادِهِمْ بِلَفْظِ الْجِدَالِ الْمُوَجَّهِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧].
وَهَذَا قَوْلٌ وَقَعَ عَقِبَ مُجَادَلَتِهِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمُجَادَلَةَ كَانَتْ آخِرَ مُجَادَلَةٍ جَادَلَهَا قَوْمَهُ، وَأَنَّ ضَجَرَهُمْ وَسَآمَتَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ مُجَادَلَتِهِ حَصَلَ سَاعَتَئِذٍ فَقَالُوا قَوْلَهُمْ هَذَا، كَانَت كُلُّهَا مُجَادَلَاتٍ مَضَتْ. وَكَانَتِ الْمُجَادَلَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الَّتِي اسْتَفَزَّتِ امْتِعَاضِهِمْ مِنْ قَوَارِعِ جَدَلِهِ حَتَّى سَئِمُوا مِنْ تَزْيِيفِ مُعَارَضَتِهِمْ وَآرَائِهِمْ شَأْنَ الْمُبْطِلِ إِذَا دَمَغَتْهُ الْحُجَّةُ، وَلِذَلِكَ أَرَادُوا طَيَّ بِسَاطِ الْجِدَالِ، وَأَرَادُوا إِفْحَامَهُ بِأَنْ طَلَبُوا تَعْجِيلَ مَا تَوَعَّدَهُمْ مِنْ عَذَابٍ يَنْزِلُ بِهِمْ كَقَوْلِهِ آنِفًا: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦].
وَقَوْلُهُمْ: فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذَمُّرِ وَالتَّضْجِيرِ وَالتَّأْيِيسِ مِنْ الِاقْتِنَاعِ، أَجَابَهُمْ بِالْمُبَادَرَةِ لِبَيَانِ الْعَذَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْمَوْعِظَةِ فَبَادَرَ بِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَى بَيَانِ مُجَادَلَتِهِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: إِحْضَارُهُ. وَأَرَادُوا بِهِ تَعْجِيلَهُ وَعَدَمَ إِنْظَارِهِ.
و (مَا تَعِدُنا) مِصْدَاقُهُ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦].
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ قَصْرُ قَلْبٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ طَلَبِهِمْ، حَمَلَا لِكَلَامِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الَخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بِتَعَذُّرِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ كَاذِبًا وَهُمْ جَازِمُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَوَعَّدْهُمْ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ احْتِرَاسٌ رَاجِعٌ إِلَى حَمْلِ الْعَذَابِ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَا أَنْتُمْ بِنَاجِينَ وَفَالِتِينَ مِنَ الْوَعِيدِ، يُرِيدُ أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَعَلَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ لَهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ فَوَّضَهُ إِلَى الْمَشِيئَةِ أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يُوقِنُ بِنُزُولِهِ بِهِمْ فَيَكُونُ التَّعْلِيقُ بِ إِنْ شاءَ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُعَجَّلًا أَو مُؤَخرا.
[٣٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٤]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
عَطْفٌ عَلَى وَعْظِهِمْ بِحُلُولِ الْعَذَابِ وَتَوَقُّعِهِ بَيَانَ حَالِ مُجَادَلَتِهِ إِيَّاهُمُ الَّتِي امْتَعَضُوا مِنْهَا بِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ لِنَفْعِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ وَتَسْفِيهِ آرَائِهِمْ حَيْثُ كَرِهُوا مَا هُوَ نَفْعٌ لَهُمْ.
وَالنُّصْحُ: قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ يُرِيدُ صَاحِبُهُ صَلَاحَ الْمَعْمُولِ لِأَجْلِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ النَّافِعَةِ الْمُنْقِذَةِ مِنَ الْأَضْرَارِ. وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [٩١].
وَفِي الْحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ»
أَيِ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ لَهُمَا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُنَبَّأُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٩]. فَالْمُرَادُ بِالنُّصْحِ هُنَا هُوَ مَا سَمَّاهُ قَوْمُهُ بِالْجِدَالِ، أَيْ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى نُصْحًا، لِأَنَّ الْجِدَالَ يَكُونُ لِلْخَيْرِ
وَالشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
61
وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، فَجَوَابُهَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وَلَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ بُنِيَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ نَفْعِ النُّصْحِ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ فَجُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَأُتِيَ بِالشَّرْطِ قَيْدًا لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَهُوَ شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ دَلِيلِ جَوَابِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيقِ وَلَكِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى تَعْلِيقٍ، وَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ التَّقْيِيدُ أَصْلًا، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّرْطِ فِي الشُّرُوطِ الْمَفْرُوضَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ أَكَلْتِ، إِنْ شَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِي شَرْطٍ مُقَيِّدٍ لِشَرْطٍ آخَرَ. عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِذَا اجْتَمَعَ فِعْلَا الشَّرْطَيْنِ حَصَلَ مَضْمُونُ جَوَابِهِمَا. وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِنَا إِنْ تُذْعَرُوا تَجِدُوا مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانَهَا كَرَمُ
فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَكُلٌّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَقْصُودٌ التَّعْلِيقِ بِهِ. وَقَدْ حُذِفَ جَوَابُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْآخَرِ عَلَيْهِ.
وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ مُؤْذِنٌ بِعَزْمِهِ عَلَى تَجْدِيدِ النُّصْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ وَاجِبَهُ هُوَ الْبَلَاغُ وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ كَرَاهِيَةِ دَعْوَةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَبَبُهُ خِذْلَانُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَلَوْلَاهُ لَنَفَعَهُمْ نُصْحُهُ، وَلَكِنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَلَا مَدَى اسْتِمْرَارِ غَوَايَتِهِمْ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْأَمْرِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ اللَّامِ عَلَى مَفْعُولِ (نَصَحَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي بَرَاءَةَ
62
وَالْإِغْوَاءُ: جَعْلُ الشَّخْصِ ذَا غِوَايَةٍ، وَهِيَ الضَّلَالُ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ.
وَجُمْلَةُ هُوَ رَبُّكُمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَعْلِيمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ إِنْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللَّهِ، أَوْ لِتَذْكِيرِهِمْ بِذَلِكَ إِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرًا.
وَالتَّقْدِيمُ فِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَلَيْسَ لِلْقَصْرِ، لِأَنَّهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ أَصْلًا بَلْهَ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى غَيْرِهِ.
وَتَمَثَّلَتْ فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ صُورَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ تَفْكِيرِ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ الَّتِي رَانَ عَلَيْهَا الضَّلَالُ فَقَلَبَ أَفْكَارَهَا إِلَى اعْوِجَاجٍ فَظِيعٍ، وَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ يُثَقِّفْ عُقُولَهَا الْإِرْشَادُ الدِّينِيُّ فَغَلَبَ عَلَيْهَا الِانْسِيَاقُ وَرَاءَ دَاعِي الْهَوَى، وَامْتَلَكَهَا الْغُرُورُ بِظَنِّ الْخَطَأِ صَوَابًا، وَمُصَانَعَةِ مَنْ تُصَأْصِئُ عَيْنُ بَصِيرَتِهِ بِلَائِحٍ مِنَ النُّورِ، مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى إِغْمَاضِهَا وَعَدِمَتِ الْوَازِعَ النَّفْسَانِيَّ فَلَمْ تَعْبَأْ إِلَّا بِالصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ وَلَمْ تَهْتَمَّ إِلَّا بِاللَّذَّاتِ وَحُبِّ الذَّاتِ وَلَا تَزِنُ بِمِعْيَارِ النَّقْدِ الصَّحِيحِ خُلُوصَ النُّفُوسِ مِنْ دخل النقائص.
[٣٥]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْهَا فَقَدْ أَبْعَدَ، وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِنَظِيرِهَا السَّابِقِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ تَفَاصِيلَ الْقِصَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُونَ تَفَاصِيلٌ عَجِيبَةٌ تَدْعُو الْمُنْكِرِينَ إِلَى أَنْ يَتَذَكَّرُوا إِنْكَارَهُمْ وَيُعِيدُوا ذِكْرَهُ.
63
وَكَوْنُ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا حَصَلَ فِي زَمَنِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَام- وشاهدة بكتب بَنِي إِسْرَائِيلَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ وَبُعْدِ قَوْمِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مَنْ خَلْفِهِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَرْفُ أَمْ الْمُخْتَصُّ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ.
وَمَوْقِعُ الْإِنْكَارِ بَدِيعٌ لِتَضَمُّنِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وأَمْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ لِغَرَضٍ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ.
وَجُمْلَةُ قُلْ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِذَلِكَ إِذْ قَدْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تُغْنِ فِيهِمْ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَكَانَتْ
تَبِعَةُ افْتِرَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَتَقْدِيُمُ (عَلَيَّ) مُؤْذِنٌ بِالْقَصْرِ، أَيْ إِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُم فَلَمَّا ذَا تُكْثِرُونَ ادِّعَاءَ الِافْتِرَاءِ كَأَنَّكُمْ سَتُؤَاخَذُونَ بِتَبِعَتِهِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْرَاجِ لَهُمْ وَالْكَلَامِ الْمُنْصِفِ.
وَمَعْنَى جَعْلِ الِافْتِرَاءِ فِعْلًا لِلشَّرْطِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقَعَ الِافْتِرَاءُ كَقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَلَمَّا كَانَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ إِجْرَامًا عَدَلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالِافْتِرَاءِ مَعَ أَنَّهُ الْمُدَّعِي إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْإِجْرَامِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: فَعَلَيَّ إِجْرَامُ افْتِرَائِي.
وَذِكْرُ حَرْفِ (عَلَى) مَعَ الْإِجْرَامِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْإِجْرَامَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ مَادَّةُ الْإِجْرَامِ.
64
وَالْإِجْرَامُ: اكْتِسَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ الذَّنْبُ، فَهُوَ يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ لَا مَحَالَةَ.
وَجُمْلَةُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَتَأْيِيدُهُ بِمُقَابِلِهِ، أَيْ فَإِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُمْ كَمَا أَنَّ إِجْرَامَكُمْ لَا تَنَالُنِي مِنْهُ تَبِعَةٌ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ تَبِعَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ مَعْنَى لَا تَقْدِيرَ إِعْرَابٍ، وَالشَّيْءُ يُؤَكَّدُ بِضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٢، ٣].
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَوْجِيهٌ بَدِيعٌ وَهُوَ إِفَادَةُ تَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ الْقُرْآنَ فَإِنَّ افْتِرَاءَ الْقُرْآنِ دَعْوًى بَاطِلَةً ادَّعَوْهَا عَلَيْهِ فَهِيَ إِجْرَامٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ قَوْلِكُمُ الَّذِي تُجْرِمُونَهُ عليّ بَاطِلا.
[٣٦]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٦]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا [هود: ٣٢] أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ.
وَاسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ أَمْرُهُمْ خَطِيرٌ لِأَنَّهَا تَأْيِيسٌ لَهُ مِنْ إِيمَانِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِ كَمَا دَلَّ حَرْفُ لَنْ الْمُفِيدُ تَأْبِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ
وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِتَسْلِيَتِهِ بِجُمْلَةِ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّسْلِيَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ.
وَالِابْتِئَاسُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، أَيْ لَا تَحْزَنْ.
وَمَعْنَى الِافْتِعَالِ هُنَا التَّأَثُّرِ بِالْبُؤْسِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْخَبَر الْمَذْكُور. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ هُوَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَاعْتِرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى وَقْتِ أَنْ
أُوحِيَ إِلَيْهِ هَذَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [نوح: ٦، ٧].
وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِ قَدْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَدْ آمَنَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ يَقِينًا دُونَ الَّذين ترددوا.
[٣٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٧]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
لَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الِابْتِئَاسِ بِفِعْلِهِمْ مَعَ شِدَّةِ جُرْمِهِمْ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ يَنْتَصِرُ لَهُ، أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ لِتَهْيِئَةِ نَجَاتِهِ وَنَجَاةِ مَنْ قَدْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [الْقَمَر: ١٠، ١١] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَبْتَئِسْ [هود: ٣٦] وَهِيَ بِذَلِكَ دَاخِلَةٌ فِي الْمُوحَى بِهِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَوَحْيِنا، وَلِذَلِكَ فَنُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الْفُلْكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْبَشَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا يُوجَدُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ إِحْصَاءِ قُرُونِهَا.
وَالْفُلْكُ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْبَاءُ فِي بِأَعْيُنِنا لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (اصْنَعِ).
وَالْأَعْيُنُ اسْتِعَارَةٌ لِلْمُرَاقَبَةِ وَالْمُلَاحَظَةِ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي بِأَعْيُنِنا بِمَعْنَى الْمُثَنَّى، أَيْ بِعَيْنَيْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]. وَالْمُرَادُ الْكِنَايَةُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْخَطَأِ فِي الصُّنْعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ الَّذِي بِهِ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِبَاءِ الْمُلَابَسَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ بِالصُّنْعِ.
وَدَلَّ النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَلَى أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِ سَيَنْزِلُ بِهِمْ عِقَابٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُخَاطَبَةُ الَّتِي تَرْفَعُ عِقَابَهُمْ فَتَكُونُ لِنَفْعِهِمْ كَالشَّفَاعَةِ، وَطَلَبِ تَخْفِيفِ الْعِقَابِ لَا مُطْلَقَ الْمُخَاطَبَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا تَوْطِئَةٌ لِنَهْيِهِ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ فِي شَأْنِ ابْنِهِ الْكَافِرِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سُؤَالُ نَجَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّدُّ عَلَيْهِ حِينَ السُّؤَالِ أَلْطَفَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَقَعُ وَبَيَانٌ لِسَبَبِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثَالٌ لِتَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ إِذَا قَدَّمَ إِلَيْهِ من الْكَلَام مَا يُلَوِّحُ إِلَى جِنْسِ الْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُهُ لِتَعْيِينِهِ اسْتِشْرَافًا يُشْبِهُ اسْتِشْرَافَ السَّائِلِ عَنْ عين الْخَبَر.
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هود: ٣٧]، أَيْ أُوحِيَ إِلَيْهِ اصْنَعِ الْفُلْكَ، وَصَنَعَ الْفُلْكَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ صُنْعِهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ لِتَخْيِيلِ السَّامِعِ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِصَدَدِ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
٩] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤].
وَجُمْلَةُ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصْنَعُ.
67
وكُلَّما كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (كُلَّ) وَ (مَا) الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتَصَبَتْ (كُلَّ) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظَّرْفِيَّةَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ سَخِرُوا، وَهُوَ جَوَابُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: وَسَخِرَ مِنْهُ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي كُلِّ زَمَنِ مرورهم عَلَيْهِ.
و (لما) فِي (كُلَّمَا) مِنَ الْعُمُومِ مَعَ الظَّرْفِيَّةِ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلُ (إِذَا) فَاحْتَاجَتْ إِلَى جَوَابٍ وَهُوَ سَخِرُوا مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا حِكَايَةٌ لِمَا يُجِيبُ بِهِ سُخْرِيَتَهُمْ، أُجْرِيَتْ عَلَى طَرِيقَةِ
فِعْلِ الْقَوْلِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ سَخِرُوا تَتَضَمَّنُ أَقْوَالًا تَنْبَنِي عَنْ سُخْرِيَتِهِمْ أَوْ تُبِينُ عَنْ كَلَامٍ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ فِي عَمَلِ السَّفِينَةِ وَمِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِذْ كَانُوا حَوْلَهُ وَاثِقِينَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ جَمْعُهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ.
وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ بِاحْتِقَارٍ وَاسْتِحْمَاقٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠]، وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِ (مِنْ).
وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنْهُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ لَا يَأْتِي بِتَصْدِيقِ مُدَّعَاهُ.
وَسُخْرِيَةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْ سَفَهِ عُقُولِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَالسُّخْرِيَتَانِ مُقْتَرِنَتَانِ فِي الزَّمَنِ.
وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما تَسْخَرُونَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى السُّخْرِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ بَوْنٌ.
68
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨] فَيُفِيدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ السُّخْرِيَتَيْنِ، لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ الْمُعَلَّلَةَ أَحَقُّ مِنَ الْأُخْرَى، فَالْكُفَّارُ سَخِرُوا مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِعَمَلٍ يَجْهَلُونَ غَايَتَهُ، وَنُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَتْبَاعُهُ سَخِرُوا مِنَ الْكُفَّارِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فِي غُرُورٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أَيْ سَيَظْهَرُ مَنْ هُوَ الْأَحَقُّ بِأَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ.
وَفِي إِسْنَادِ (الْعِلْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ الضَّمِيرِ الْمُشَارِكِ بِأَنْ يُقَالَ: فَسَوْفَ نَعْلَمُ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْأَحَقُّ بِعِلْمِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُفِيدُ أَدَبًا شَرِيفًا بِأَنَّ الْوَاثِقَ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ لَا يُزَعْزِعُ ثِقَتَهُ مُقَابَلَةُ السُّفَهَاءِ أَعْمَالَهُ النَّافِعَةَ بِالسُّخْرِيَةِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَسْخَرُوا مِنَ السَّاخِرِينَ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ [١٩٢].
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابُ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ الْخَالِدُ فِي الْآخِرَةِ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَحُلُولُ الْعَذَابِ: حُصُولُهُ شَبَّهَ الْحُصُولَ بِحُلُولِ الْقَادِمِ إِلَى الْمَكَانِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَة.
[٤٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
حَتَّى غَايَةٌ لِ يَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨] أَيْ يَصْنَعُهُ إِلَى زَمَنِ مَجِيءِ أَمْرِنَا، فَ إِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِجَوَابٍ. وَهُوَ جُمْلَةُ قُلْنَا احْمِلْ.
69
وَجَعَلَ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا فِي حَرْفِ الشَّرْطِ مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَظْمٌ بَدِيعٌ بِإِيجَازِهِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالْأَمْرُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَمْرَ التَّكْوِينِ بِالطُّوفَانِ، وَيَحْتَمِلُ الشَّأْنَ وَهُوَ حَادِثُ الْغَرَقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ بِأَنَّهُ فَوْقَ مَا يَعْرِفُونَ.
وَمَجِيءُ الْأَمْرِ: حُصُولُهُ.
وَالْفَوَرَانُ: غَلَيَانُ الْقِدْرِ، وَيُطْلِقُ عَلَى نَبْعِ الْمَاءِ بِشِدَّةٍ، تَشْبِيهًا بِفَوَرَانِ مَاءٍ فِي الْقِدْرِ إِذَا غَلِيَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: ١٢]. وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُمْ إِسْنَادُهُ إِلَى التَّنُّورِ، فَإِنَّ التَّنُّورَ هُوَ الْمَوْقِدُ الَّذِي يَنْضَجُ فِيهِ الْخُبْزُ، فَكَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّنُّورِ، بَلَغَتْ نِسْبَةُ أَقْوَالٍ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي قَبُولُهُ. وَمِنْهَا مَا لَهُ وَجْهٌ وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ.
فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّنُّورَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَجَعَلَ الْفَوَرَانَ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنْ أَحَدِ التَّنَانِيرِ وَأَنَّهُ عَلَامَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا فَارَ الْمَاءُ مِنْ تَنُّورِهِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأَ الطُّوفَانِ فَرَكِبَ الْفُلْكَ وَأَرْكَبَ مَنْ مَعَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ التَّنُّورَ عَلَى الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ فَفَسَّرَهُ بِسَطْحِ الْأَرْضِ، أَيْ فَارَ الْمَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ بِسَطْحِ الْأَرْضِ كَفُوَّهَةِ التَّنُّورِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَعْلَى الْأَرْضِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ فارَ والتَّنُّورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ لِاشْتِدَادِ الْحَالِ، كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ. وَقَعَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فِي
70
تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: وَأَنْشَدَ الطَّبَرْسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ. وَهُوَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا وَنَفْثَأُهَا عَنَّا إِذَا قِدْرُهَا غَلَى
يُرِيدُ بِالْقِدْرِ الْحَرْبَ، وَنَفْثَأُهَا، أَيْ نُسَكِّنُهَا، يُقَالُ: فَثَأَ الْقِدْرُ إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهَا بِصَبِّ الْمَاءِ فِيهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَفارَ التَّنُّورُ مَثَلٌ لِبُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَقْصَى مَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَامْتَلَأَ الصَّاعُ، وَفَاضَتِ الْكَأْسُ وَتَفَاقَمَ.
وَالتَّنُّورُ: مَحْفِلُ الْوَادِي، أَيْ ضَفَّتُهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ طَمَا الْوَادِي مِنْ قَبِيلِ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. وَالْمَعْنَى: بِأَنَّ نَفَاذَ أَمْرِنَا فِيهِمْ وَبَلَغُوا مِنْ طُولِ مُدَّةِ الْكُفْرِ مَبْلَغًا لَا يُغْتَفَرُ لَهُمْ بَعْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥].
وَالتَّنُّورُ: اسْمٌ لِمَوْقِدِ النَّارِ لِلْخُبْزِ. وَزَعَمَهُ. اللَّيْثُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ، أَيْ كَالصَّابُونِ وَالسَّمُّورِ. وَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: كَلَامُ اللَّيْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيٌّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَعُّولٌ مِنْ تَنَرَ وَلَا نَعْرِفُ تَنَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نُونٌ قَبْلَ رَاءٍ فَإِنَّ نَرْجِسَ مُعَرَّبٌ أَيْضًا. وَقَدْ عُدَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَنَظَمَهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ دُرَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَزْنُهُ فَعَّولٌ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، قَالَ: وَزْنُهُ تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ (أَيْ فَالتَّاءُ زَايِدَةٌ) وَأَصْلُهُ تَنُوُورٌ بِوَاوَيْنِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى هَمْزَةً لِانْضِمَامِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ثُمَّ شُدِّدَتِ النُّونُ عِوَضًا عَمَّا حُذِفَ أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ: تَقَضَّى الْبَازِيُّ بِمَعْنَى تَقَضَّضَ.
71
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ.
وَالزَّوْجُ: شَيْءٌ يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ فِي حَالِةٍ. وَأَصْلُهُ اسْمٌ لِمَا يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ زَوْجًا لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجٌ للْآخر. وَالْمرَاد ب زَوْجَيْنِ هُنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنَ النَّوْعِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَةُ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ، أَيِ احْمِلْ فِيهَا مِنْ أَزْوَاجِ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ.
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، واثْنَيْنِ مَفْعُولُ احْمِلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ زَوْجَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٣]. وَلِئَلَّا يَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْ نَوْعٍ لِتَضِيقَ السَّفِينَةُ وَتَثْقُلَ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَيَكُونُ تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَكُونُ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ احْمِلْ، وَيَكُونُ اثْنَيْنِ صِفَةً لِ زَوْجَيْنِ أَيْ لَا تَزِدْ عَلَى اثْنَيْنِ.
وَأَهْلُ الرَّجُلِ قَرَابَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَزَوْجُهُ أَوَّلُ مَنْ يُبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْأَهْلِ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٩]، وَقَالَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمرَان: ١٢١] أَيْ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.
ومَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ مَنْ مَضَى قَوْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ وَعِيدُهُ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ، يَعْنِي إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهلك كَافِرًا. ، وَمَا صدق هَذَا إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَابْنُهُ مِنْهَا الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- امْرَأَتَانِ.
وَعُدِّيَ سَبَقَ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ سَبَقَ مَعْنَى: حَكَمَ، كَمَا عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٧١] لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِالْتِزَامِ النَّافِعِ.
72
وَ (مَنْ آمَنَ) كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِيلِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْقِصَّةِ فِي قِلَّةِ الصَّالِحِينَ. قِيلَ: كَانَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَكَانَ مُعْظَمُ حُمُولَةِ السَّفِينَةِ من الْحَيَوَان.
[٤١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: ٤٠] أَيْ قُلْنَا لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ ارْكَبُوا.
وَضَمِيرُ فِيها لَمَفْهُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ السَّفِينَةِ كَقَوْلِهِ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ
[الْقَمَر: ١٣] أَيْ سَفِينَةٍ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ ارْكَبُوا بِ (فِي) جَرْيًا عَلَى الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ إِذَا عَلَاهَا.
وَأَمَّا رُكُوبُ الْفلك فيعدّى ب (فِي) لِأَنَّ إِطْلَاقَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا هُوَ جُلُوسٌ وَاسْتِقْرَارٌ فَلَا يُقَالُ: رَكِبَ السَّفِينَةَ، فَأَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرُّكُوبِ الْحَقِيقِيِّ وَالرُّكُوبِ الْمُشَابِهِ لَهُ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ.
وَالْبَاء فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ارْكَبُوا أَيْ مُلَابِسِينَ لِاسْمِ اللَّهِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْقَوْلِ لِقَائِلِهِ، أَيْ قَائِلِينَ:
بِاسْمِ اللَّهِ.
ومَجْراها وَمُرْساها- بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ فِيهِمَا- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهُمَا مَصْدَرَا، أَجْرَى السَّفِينَةَ إِذَا جَعَلَهَا جَارِيَةً، أَيْ سَيَّرَهَا بِسُرْعَةٍ، وَأَرْسَاهَا إِذَا جَعَلَهَا رَاسِيَةً، أَيْ وَاقِفَةً عَلَى الشاطئ. يُقَال: رما إِذَا ثَبَتَ فِي الْمَكَانِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ «مَجْرَاهَا» فَقَطْ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مَفْعَلٌ لِلْمَصْدَرِ أَوِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ. وَأَمَّا مُرْساها- فَبِضَمِّ الْمِيمِ- مِثْلَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: مَرْسَاهَا- بِفَتْحِ الْمِيمِ-. وَالْعُدُولُ عَنِ الْفَتْحِ فِي مُرْساها فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْقِيَاسِ مُمَاثِلُ (مَجْرَاهَا) وَجْهُهُ دَفْعُ اللَّبْسِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِاسْمِ الْمَرْسَى الَّذِي هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِرُسُوِّ السُّفُنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْراها وَمُرْساها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالنِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، أَيْ وَقْتَ إِجْرَائِهَا وَوَقْتَ إِرْسَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَهُوَ رَأْيُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالرُّكُوبِ الْمُقَيَّدِ بِالْمُلَابَسَةِ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي التَّعْلِيلِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَأَكَّدَ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ تَحْقِيقًا لِأَتْبَاعِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنَ الْغَرَقِ.
[٤٢، ٤٣]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٤٢ الى ٤٣]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَا إِلَى اعْتِرَاضِهَا هُنَا ذِكْرُ (مُجْرَاهَا) إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ وَصْفًا لِعِظَمِ الْيَوْمِ وَعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَيْسِيرِ نَجَاتِهِمْ.
وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ.
وَعَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: ٩].
وَالْمَوْجُ: مَا يَرْتَفِعُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ، وَتَشْبِيهُهُ بِالْجِبَالِ فِي ضَخَامَتِهِ. وَذَلِكَ إِمَّا لِكَثْرَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تَعْلُو الْمَاءَ وَإِمَّا لِدَفْعِ دَفَقَاتِ الْمَاءِ
74
الْوَارِدَةِ مِنَ السُّيُولِ وَالْتِقَاءِ الْأَوْدِيَةِ الْمَاءَ السَّابِقَ لَهَا، فَإِنَّ حَادِثَ الطُّوفَانِ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ مِثْلِ زَلَازِلَ تَفَجَّرَتْ بِهَا مِيَاهُ الْأَرْضِ وَأَمْطَارٌ جَمَّةٌ تَلْتَقِي سُيُولُهَا مَعَ مِيَاهِ الْعُيُونِ فَتَخْتَلِطُ وَتَجْتَمِعُ وَتَصُبُّ فِي الْمَاءِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهَا حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ إِغْرَاقَ أَهْلِهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣).
عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَنادى عَلَى أَعْلَقِ الْجُمَلِ بِهَا اتِّصَالًا وَهِيَ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: ٤١] لِأَنَّ نِدَاءَهُ ابْنَهُ كَانَ قَبْلَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، إِذْ يَتَعَذَّرُ إِيقَافُهَا بَعْدَ جَرْيِهَا لِأَنَّ الرَّاكِبِينَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُسْتَقِرِّينَ فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ.
وَابْنُ نُوحٍ هَذَا هُوَ ابْنٌ رَابِعٌ فِي أَبْنَائِهِ مِنْ زَوْجٍ ثَانِيَةٍ لِنُوحٍ كَانَ اسْمُهَا (وَاعِلَةَ) غَرِقَتْ، وَأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ. قِيلَ كَانَ اسْمُ ابْنِهِ (يَامَا) وَقِيلَ اسْمُهُ (كَنْعَانُ) وَهُوَ غَيْرُ كَنْعَانَ بْنِ حَامٍ جَدِّ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ ذِكْرَ هَذَا الِابْنِ وَقَضِيَّةِ غَرَقِهِ وَهَلْ كَانَ ذَا زَوْجَةٍ أَوْ كَانَ عَزَبًا.
وَجُمْلَةُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ حَالٌ مِنِ ابْنَهُ. وَالْمَعْزِلُ: مَكَانُ الْعُزْلَةِ أَيِ الِانْفِرَادِ، أَيْ فِي مَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ لَمْ يُؤْمِنْ بِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمْ يُصَدِّقْ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ارْتَدَّ فَأَنْكَرَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ فَكَفَرَ بِذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ الرَّسُولَ.
75
وَجُمْلَةُ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَادَى وَهِيَ إِرْشَادٌ لَهُ وَرِفْقٌ بِهِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ ارْكَبْ مَعَنا لِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُ عَنِ الرُّكُوبِ يَجْعَلُهُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ إِذْ لَا يَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الرُّكُوبِ إِلَّا أَثَرًا لِتَكْذِيبِهِ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ. فَقَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ارْكَبْ مَعَنا كِنَايَةٌ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقَةِ الْعَرْضِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَدْ زَادَ ابْنَهُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ بِالطُّوفَانِ قَوْلُهُ مُتَهَكِّمًا سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.
و (بنيّ) تَصْغِيرُ (ابْنٍ) مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَتَصْغِيرُهُ هُنَا تَصْغِيرُ شَفَقَةٍ بِحَيْثُ يُجْعَلُ كَالصَّغِيرِ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. فَأَصْلُهُ بُنَيْو، لِأَنَّ أَصْلَ ابْنٍ بَنْو، فَلَمَّا حَذَفُوا مِنْهُ الْوَاوَ لِثِقَلِهَا فِي آخِرِ كَلِمَةٍ ثُلَاثِيَّةٍ نَقَصَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَعَوَّضُوهُ هَمْزَةَ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ، وَمَهْمَا عَادَتْ لَهُ الْوَاوُ الْمَحْذُوفَةُ لِزَوَالِ دَاعِي الْحَذْفِ طُرِحَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ إِضَافَةُ الْمُصَغَّرِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَزِمَ كَسْرُ الْوَاوِ لِيَصِيرَ بُنَيْوِي، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَاوُ بَيْنَ عَدُوَّتَيْهَا الْيَاءَيْنِ قُلِبَتْ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي يَاءِ التَّصْغِيرِ فَصَارَ بُنَيَّي بِيَاءَيْنِ فِي آخِرِهِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَادَى الْمُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ يَجُوزُ حَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ صَارَ بُنَيَّ- بِكَسْرِ الْيَاءِ مُشَدَّدَةً- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بُنَيَّ بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا يَجُوزُ فَتْحُهَا فِي النِّدَاءِ، أَصله يَا بُنَيِّيَ بِيَاءَيْنِ أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ وَهِيَ يَاءُ التَّصْغِيرِ مَعَ لَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي أَصْلُهَا الْوَاوُ ثُمَّ اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ الْأَصْلِيَّةُ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ سَآوِي وَجُمْلَةُ قالَ لَا عاصِمَ لِوُقُوعِهِمَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ أعالي الْجبَال. و (آوي) :
أَنْزِلُ، وَمَصْدَرُهُ: الْأُوِيُّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ-.
76
وَجُمْلَةُ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ إِمَّا صِفَةٌ لِ (جَبَلٍ) أَيْ جَبَلٍ عَال، وإمّا استيناف بَيَانِيٌّ، لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السّلام- يسْأَل لماذَا يَأْوِي إِلَى جَبَلٍ إِذِ ابْنُهُ قَدْ سَمِعَهُ حِينَ يُنْذِرُ النَّاسَ بِطُوفَانٍ عَظِيمٍ فَظَنَّ الِابْنُ أَنَّ أَرْفَعَ الْجِبَالِ لَا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ، وَأَنَّ أَبَاهُ مَا أَرَادَ إِلَّا بُلُوغ المَاء إِلَى غَالِبَ الْمُرْتَفَعَاتِ دُونَ الْجِبَالِ الشَّامِخَاتِ.
وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مَأْمُورِهِ
وَهُوَ الطُّوفَانُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ.
وَاسْتِثْنَاءُ مَنْ رَحِمَ مِنْ مَفْعُولٍ يَتَضَمَّنُهُ (عَاصِمَ) إِذِ الْعَاصِمُ يَقْتَضِي مَعْصُومًا وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَرَادَ بِ مَنْ رَحِمَ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ النَّجَاةَ مِنَ الْغَرَقِ بِرَحْمَتِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُظْهِرُهُ الْوَحْيُ بِصُنْعِ الْفُلْكِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِ.
وَالْمَوْجُ: اسْمُ جَمْعِ مَوْجَةٍ، وَهِيَ: مَقَادِيرُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ تَتَصَاعَدُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ مِنَ اضْطِرَابِ الْمَاءِ بِسَبَبِ شِدَّةِ رِيَاحٍ، أَوْ تَزَايُدِ مِيَاهٍ تَنْصَبُّ فِيهِ، وَيُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَ مَاؤُهُ. وَقَالُوا: مَاجَ الْقَوْمُ، تَشْبِيهًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ وَاضْطِرَابِهِمْ بِاضْطِرَابِ الْبَحْرِ.
وَحَيْلُولَةُ الْمَوْجِ بَيْنَهُمَا فِي آخِرِ الْمُحَاوَرَةِ يُشِيرُ إِلَى سُرْعَةِ فَيَضَانِ الْمَاءِ فِي حِينِ الْمُحَاوَلَةِ.
وَأَفَادَ قَوْلُهُ: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ أَنَّهُ غَرِقَ وَغَرِقَ مَعَهُ مَنْ تَوَعَّدَهُ بِالْغَرَقِ، فَهُوَ إيجاز بديع.
77

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤٤]

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
لَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: ٤٣] وُقُوعَ الْغَرَقِ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ كَمَا عَلِمْتَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى انْتِهَاءِ الطُّوفَانِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَفْعُولِ هُنَا اخْتِصَارٌ لِظُهُورِ فَاعِلِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَالْقَوْلُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَخِطَابُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِطَرِيقَةِ النِّدَاءِ وَبِالْأَمْرِ اسْتِعَارَةٌ لِتَعَلُّقِ أَمْرِ التَّكْوِينِ بِكَيْفِيَّاتِ أَفْعَالٍ فِي ذَاتَيْهِمَا وَانْفِعَالِهِمَا بِذَلِكَ كَمَا يُخَاطَبُ الْعَاقِلُ بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَيَقْبَلُهُ امْتِثَالًا وَخَشْيَةً. فَالِاسْتِعَارَةُ هُنَا فِي حَرْفِ النِّدَاءِ وَهِي تبعيّة.
والبلغ حَقِيقَتُهُ اجْتِيَازُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى الْحَلْقِ بِدُونِ اسْتِقْرَارٍ فِي الْفَمِ. وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِإِدْخَالِ الشَّيْءِ فِي بَاطِنِ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، وَمَعْنَى بَلْعِ الْأَرْضِ مَاءَهَا: دُخُولُهُ فِي بَاطِنِهَا بِسُرْعَةٍ كَسُرْعَةِ ازْدِرَادِ الْبَالِعِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ جَفَافُ الْأَرْضِ بِحَرَارَةِ شَمْسٍ أَوْ رِيَاحٍ بَلْ كَانَ بِعَمَلٍ أَرْضِيٍّ عَاجِلٍ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ زَلَازِلَ وَخَسْفًا انْشَقَّتْ بِهِ طَبَقَةُ الْأَرْضِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ حَتَّى غَارَتِ الْمِيَاهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ.
وَإِضَافَةُ الْماءُ إِلَى (الْأَرْضِ) لِأَدْنَى مُلَابسَة لكَونه فِي وَجْهِهَا.
وَإِقْلَاعُ السَّمَاءِ مُسْتَعَارٌ لِكَفِّ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِذَا كَفَّ نُزُولُ الْمَطَرِ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَاءَ الَّذِي غَارَ فِي الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْبَلْعِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ لِغَيْضِ الْمَاءِ.
وَفِي قِرَانِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، وَفِي مُقَابَلَةِ (ابْلَعِي) بِ أَقْلِعِي مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ.
78
وغِيضَ الْماءُ مُغْنٍ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى كَوْنِ السَّمَاءِ أَقْلَعَتْ وَالْأَرْضِ بَلَعَتْ، وَبُنِيَ فِعْلُ غِيضَ الْماءُ لِلنَّائِبِ لِمِثْلِ مَا بُنِيَ فُعِلَ وَقِيلَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِ الْغَيْضِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ لَهُ حَقِيقَةً لِأَن حُصُوله حُصُول مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبٍ وَالْغَيْضُ: نُضُوبُهُ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمُرَادُ: الْمَاءُ الَّذِي نَشَأَ بِالطُّوفَانِ زَائِدًا عَلَى بِحَارِ الْأَرْضِ وَأَوْدِيَتِهَا. وَقَضَاءُ الْأَمْرِ:
إِتْمَامُهُ. وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالِاسْتِوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ.
وَالْجُودِيُّ: اسْمُ جَبَلٍ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَأَرْمِينَا، يُقَالُ لَهُ الْيَوْمَ (أَرَارَاطُ). وَحِكْمَةُ إِرْسَائِهَا عَلَى جَبَلٍ أَنَّ جَانِبَ الْجَبَلِ أَمْكَنُ لِاسْتِقْرَارِ السَّفِينَةِ عِنْدَ نُزُولِ الرَّاكِبِينَ لأنّها تخف عِنْد مَا يَنْزِلُ مُعْظَمُهُمْ فَإِذَا مَالَتِ اسْتَنَدَتْ إِلَى جَانِبِ الْجَبَلِ.
وبُعْداً مَصْدَرُ (بَعُدَ) عَلَى مِثَالِ كَرُمَ وَفَرِحَ، مَنْصُوبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، كَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِثْلَ: تَبًّا لَهُ، وَسُحْقًا، وَسُقْيًا، وَرَعْيًا، وَشُكْرًا. وَالْبُعْدُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْقِيرِ بِلَازِمِ كَرَاهِيَةِ الشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ: بَعُدَ أَوْ نَحْوُهُ لِمَنْ فُقِدَ، إِذَا كَانَ مَكْرُوهًا كَمَا هُنَا. وَيُقَالُ: نَفْيُ الْبُعْدِ لِلْمَرْغُوبِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ، فَيُقَالُ لِلْمَيِّتِ الْعَزِيزِ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:
يَقُولُونَ لَا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونِي وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَحْجَمِ:
إِخْوَتِي لَا تَبْعُدُوا أَبَدًا وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعُدُوا
وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ (بَعِدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْبُعْدِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْهَلَاك وَالْمَوْت، و (بعد) الْمَضْمُومُ الْعَيْنِ فِي الْبُعْدِ الْحَقِيقِيِّ.
وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَغَرِقُوا. وَالْقَائِلُ (بُعْدًا) قَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ جَرْيًا
عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ
79
الْمُؤْمِنُونَ تَحْقِيرًا لِلْكُفَّارِ وَتَشَفِّيًا مِنْهُمْ وَاسْتِرَاحَةً، فَبُنِيَ فِعْلُ وَقِيلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ قَائِلِهِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نُكَتًا مِمَّا أَتَيْنَا عَلَى أَكْثَرِهِ «وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي وَالنُّكَتِ اسْتَفْصَحَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هَذِهِ الْآيَةَ ورقصوا لَهَا رؤوسهم لَا لِتَجَانُسِ الْكَلِمَتَيْنِ ابْلَعِي وأَقْلِعِي وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِي الْكَلَامَ مِنْ حُسْنٍ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي هِيَ اللُّبُّ وَمَا عَدَاهَا قُشُورٌ» اه.
وَقَدْ تَصَدَّى السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لِبَيَانِ بَعْضِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، تَقْفِيَةً عَلَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِيمَا نَرَى فَقَالَ:
«وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ، مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي... (١) وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ. أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ... فَنَقُولُ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنًى أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا... وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ... وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ.. وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا وَعَدْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ.. وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ.. وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ بِالْمَأْمُورِ... وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ.. وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ... كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ...
ثُمَّ بَنَى عَلَى تَشْبِيهِهِ هَذَا نَظْمُ الْكَلَامِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قِيلَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ الْوَاقِعِ بِسَبَبِهَا قَوْلُ الْقَائِلِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الْمَجَازِ الْخِطَابَ لِلْجَمَادِ... فَقَالَ: يَا أَرْضُ- وَيا سَماءُ... ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغَوْرِ الْمَاءِ فِي الأَرْض البلغ.. لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ، ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ... تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي)... ثُمَّ أَمَرَ عَلَى
_________
(١) النكت مَوَاضِع كَلَام اختصرناه
80
سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، ثُمَّ قَالَ ماءَكِ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ وَاخْتَارَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِأَجْلِ التَّرْشِيحِ. ثُمَّ اخْتَارَ لِاحْتِبَاسِ الْمَطَرِ الْإِقْلَاعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ مَا كَانَ، ثُمَّ أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ قَائِلًا أَقْلِعِي لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْلَعِي، ثُمَّ قَالَ: وَغِيضَ الْماءُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ. وَقِيلَ بُعْداً فَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْ غَاضَ الْمَاءَ، وَلَا بِمَنْ قَضَى الْأَمْرَ وَسَوَّى السَّفِينَةَ وَقَالَ بُعْداً، كَمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِقَائِلِ يَا أَرْضُ وَيَا سَماءُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، سُلُوكًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ لِسَبِيلِ الْكِنَايَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَا يُكْتَنَهُ قَهَّارٍ لَا يُغَالَبُ، فَلَا مَجَالَ لِذَهَابِ الْوَهْمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قَائِلًا يَا أَرْضُ وَيَا سَماءُ، وَلَا غَائِضًا مَا غَاضَ، وَلَا قَاضِيًا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ تَسْوِيَةُ السَّفِينَةِ وَإِقْرَارُهَا بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ وَإِقْرَارِهِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالتَّعْرِيضِ تَنْبِيهًا لِسَالِكِي مَسْلَكِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ لَا غَيْرَ خَتْمَ إِظْهَارٍ لِمَكَانِ السُّخْطِ وَلِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّ قِيَامَةَ الطُّوفَانِ وَتِلْكَ الصُّورَةَ الْهَائِلَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لِظُلْمِهِمْ.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُوَ النَّظَرُ فِي إِفَادَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيهَا، وَجِهَةُ كُلِّ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِيمَا بَيْنَ جُمَلِهَا، لِذَلِكَ أَنَّهُ اخْتِيرَ يَا دُونَ سَائِرِ أَخَوَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُعْدِ الْمُنَادَى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقَامُ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ.. وَهُوَ تَبْعِيدُ الْمُنَادَى الْمُؤْذِنُ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ...
وَاخْتِيرَ ابْلَعِي عَلَى ابْتَلِعِي لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَلِمَجِيءِ حَظِّ التَّجَانُسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْلِعِي أَوْفَرَ. وَقِيلَ ماءَكِ بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ لِمَا كَانَ فِي الْجَمْعِ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِكْثَارِ الْمُتَأَتِّي عَنْهَا مَقَامُ إِظْهَارِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ.. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ ابْلَعِي بِدُونِ الْمَفْعُولِ أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ تَرْكَهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ تَعْمِيمِ الِابْتِلَاعِ
81
لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مقَام ولأرود أَمر الَّذِي هُوَ مَقَامُ عَظَمَةٍ وَكِبْرِيَاءٍ.
ثُمَّ إِذْ بَيَّنَ الْمُرَادَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ مَعَ أَقْلِعِي احْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي أَنْ لَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ..
وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَمْرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِيَبْعَدِ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْداً مَنْزِلَةَ لِيَبْعَدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ مَعَ (بُعْدًا) الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبُعْدَ يَحِقُّ لَهُمْ.
ثُمَّ أَطْلَقَ الظُّلْمَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ نَوْعٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى
فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ، فَقِيلَ:
يَا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ.
ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ وَابْتُدِئَ بِهِ لِابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا، وَنُزُولِهَا لِذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى، ثُمَّ أَتْبَعَهَا قَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ لِاتِّصَالِهِ بِغَيْضِيَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ، وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ أُنْجِزَ الْمَوْعُودُ.. ثُمَّ أَتْبَعَهُ حَدِيثُ السَّفِينَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِمَا خُتِمَتْ...
82
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لِطَيْفٌ وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبَيَّنَةٌ، لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ. وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وجدت ألفاظها تطابق مَعَانِيهَا ومعانيها تطابق أَلْفَاظَهَا.
وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ، سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ على العذبات، سلسلة عَلَى الْأَسَلَاتِ... ». هَذِهِ نِهَايَةُ كَلَام الْمِفْتَاح.
[٤٥- ٤٧]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٧]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
مَوْقِعُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ نِدَاءَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا كَانَ بَعْدَ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ نِدَاءً دَعَاهُ إِلَيْهِ دَاعِيَ الشَّفَقَةِ فَأَرَادَ بِهِ نَفْعَ ابْنِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ نَجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ إِلَّا لِلَّذِينَ يَرْكَبُونَ السَّفِينَةَ، وَلِأَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا ابْنَهُ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَأَبَى وَجَرَتِ السَّفِينَةُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى نَجَاتِهِ فَكَيْفَ
يَسْأَلُهَا مِنَ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا وَقَعَ قَبْلَ غَرَقِ النَّاسِ، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يُنَجِّيَ ابْنَهُ مِنَ الْغَرَقِ.
83
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غَرَقِ مَنْ غَرِقُوا، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لِابْنِهِ وَأَنْ لَا يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ.
وَالنِّدَاءُ هَنَا نِدَاءُ دُعَاءٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَصْدُرُ بِالنِّدَاءِ غَالِبًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَشْرِيفٌ لِنُوحٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى رَأْفَةِ اللَّهِ بِهِ وَأَنَّ نَهْيَهُ الْوَارِدَ بَعْدَهُ نَهْيُ عِتَابٍ.
وَجُمْلَةُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا تُعْطَفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا لَمْ يُعْطَفِ الْبَيَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: ٣، ٤]، وَخُولِفَ ذَلِكَ هُنَا. وَوَجَّهَ فِي «الْكَشَّافِ» اقْتِرَانَهُ بِالْفَاءِ بِأَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ مِثْلَ فِعْلِ (قُمْتُمْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلنِّدَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ نَادَى مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى إِرَادَةِ النِّدَاءِ، أَيْ أَرَادَ نِدَاءَ رَبِّهِ فَأَعْقَبَ إِرَادَتَهُ بِإِصْدَارِ النِّدَاءِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ النِّدَاءَ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: ٤٠] فَلَمْ يَطُلْ تَرَدُّدُهُ لَمَّا غَلَبَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَ عَلَى نِدَاءِ، رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِاعْتِذَارَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. فَقَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاعْتِذَارِ وَالتَّمْهِيدِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالًا لَا يَدْرِي قَبُولَهُ وَلَكِنَّهُ اقْتَحَمَهُ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَهُ عُذْرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ. وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٧] إِذْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِهِ قَدْ سَبَقَ
84
مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرٌ بِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ. وَهَذَا الْمَوْصُولُ مُتَعَيِّنٌ لِكَوْنِهِ صَادِقًا عَلَى ابْنِهِ إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهِ
طَلَبَ مِنْهُ رُكُوبَ السَّفِينَةِ وَأَبَى، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ ظَالِمٌ، أَيْ كَافِرٌ، وَأَنَّهُ مُغْرَقٌ، فَكَانَ عَدَمُ رُكُوبِهِ السَّفِينَةَ وَغَرَقُهُ أَمَارَةً أَنَّهُ كَافِرٌ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَجْهَلُ أَنَّ ابْنَهُ كَافِرٌ، وَلِذَلِكَ فَسُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَكِنَّهُ يَطْمَعُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِ بِهِ، فَسُؤَالُهُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَخْذٌ بِأَقْصَى دَوَاعِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِابْنِهِ.
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَا رَادَّ لِمَا حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ، وَأَنَّهُ لَا دَالَّةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ مَقَامُ تَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ مَا لَيْسَ بِمُحَالٍ.
وَقَدْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ تَقَرَّرَ فِي شَرْعِهِ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لِلْكَافِرِينَ، فَكَانَ حَالُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام- كَحال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»
قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ للنبيء وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ١١٣] الْآيَةَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ تَعْرِيضٌ بِالْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأَدُّبِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَسْئُولِ اسْتِغْنَاءً بِعِلْمِ الْمَسْئُولِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَسْأَلُكَ أَمْ أَتْرُكُ، كَقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ أَنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
وَمَعْنَى أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أَشَدُّهُمْ حُكْمًا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ يَتَعَلَّقُ بِمَاهِيَّةِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ أَنَّ حكمه لَا يجوز وَأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَلَكِنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّ قَرَابَةَ الدِّينِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ هِيَ الْقَرَابَةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
85
قَالَ النَّابِغَةُ يُخَاطِبُ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة:
٥٦].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ لِغَرَابَتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فَ (إِنَّ) فِيهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ.
وعَمَلٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ- مَصْدَرٌ أَخْبَرَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَبِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ (عَمَلٌ). وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ عَمَلٌ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَبِنَصْبِ غَيْرُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ (عَمِلَ). وَمَعْنَى الْعَمَلِ غَيْرِ الصَّالِحِ الْكُفْرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْكُفْرِ (عَمَلٌ) لِأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي عَمَلِ صَاحِبِهِ كَامْتِنَاعِ ابْنِ نُوحٍ مِنَ الرُّكُوبِ الدَّالِّ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِوَعِيدِ الطُّوفَانِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ نَهْيَ عِتَابٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ بِسَبَبِ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، سَقَطَ مَا مَهَّدَ بِهِ لِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ، فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَسْأَلَهُ وَأَنْ يَتَدَبَّرَ مَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ مِنَ اللَّهِ.
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَلَا تَسْأَلَنِّي» - بِتَشْدِيدِ النُّونِ- وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ وَنُونُ الْوِقَايَةِ أُدْغِمَتَا. وَأَثْبَتَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. أَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ فَقَرَأَ «فَلَا تسألنّ» - بنُون مشدة مَفْتُوحَةٍ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ
86
«فَلَا تَسْأَلْنِ» - بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً- عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمُعَدَّى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَأَكْثَرُهُمْ حَذَفَ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو.
ثُمَّ إِنْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ كَانَ نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، نَهْيَ تَنْزِيهٍ لِأَمْثَالِهِ لِأَن دَرَجَة النبوءة تَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى سُؤَالِ رَبِّهِ سُؤْلًا لَا يَعْلَمُ إِجَابَتَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٣] وَقَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبإ: ٣٨]، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمَغْفِرَةَ لِابْنِهِ طَلَبًا تَخْصِيصَهُ مِنَ الْعُمُومِ. وَكَانَ نَهْيُهُ نَهْيَ لَوْمٍ وَعِتَابٍ حَيْثُ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ رَبِّهِ جَوَازَ ذَلِكَ.
وَكَانَ قَوْلُهُ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مُحْتَمِلًا لِظَاهِرِهِ، وَمُحْتَمِلًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعِلْمِ بِضِدِّهِ، أَيْ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ قَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إِلَى آخِرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمَسْئُولِ كَانَ النَّهْيُ فِي قَوْله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نَهْيًا عَنِ الْإِلْحَاحِ أَوِ الْعَوْدِ إِلَى سُؤَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُجَرَّدَ تَمْهِيدٍ لِلسُّؤَالِ لِاخْتِبَارِ حَالِ إِقْبَالِ اللَّهِ عَلَى سُؤَالِهِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَسْئَلْنِ نَهْيًا عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالسُّؤَالِ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ بِكَلَامِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَنْزِيهُهُ عَنْ تَعْرِيضِ سُؤَالِهِ لِلرَّدِّ.
وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مَوْعِظَةٌ عَلَى تَرْكِ التَّثَبُّتِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ.
وَالْجَهْلُ فِيهِ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
87
فَأَجَابَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَ رَبِّهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَصُّلِ مِمَّا سَأَلَ فَاسْتَعَاذَ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِنْ كَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرَادَ بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ التَّعْرِيضَ بِالسُّؤَالِ فَهُوَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ فَالِاسْتِعَاذَةُ تَتَعَلَّقُ بِتَبِعَةِ ذَلِكَ أَوْ بِالْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَرَادَ التَّمْهِيدَ لِلسُّؤَالِ فَالِاسْتِعَاذَةُ ظَاهِرَةٌ، أَيِ الِانْكِفَافُ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالسُّؤَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ ابْتِدَاءٌ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِطَلَبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ كَانَ أَهْلًا لِلرَّحْمَةِ.
وَقَدْ سَلَكَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسْلَكَ كَوْنِ سُؤَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سُؤَالًا لِإِنْجَاءِ ابْنِهِ مِنَ الْغَرَقِ فَاعْتَرَضَتْهُمْ سُبُلٌ وَعْرَةٌ مُتَنَائِيَةٌ، وَلَقُوا عَنَاءً فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا، وَالْآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا، وَلَعَلَّنَا سَلَكْنَا الْجَادَّةَ فِي تَفْسِيرهَا.
[٤٨]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤٨]
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرَبِّهُ، فَإِنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٧] إِلَى آخِرِهِ خَاطَبَهُ رَبُّهُ إِتْمَامًا لِلْمُحَاوَرَةِ بِمَا يُسَكِّنُ جَأْشَهُ.
وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ يَا نُوحُ اهْبِطْ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ لِيَجِيءَ عَلَى وَتِيرَةِ حِكَايَةِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ
ابْلَعِي
... وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤] فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْبِنَاءِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِشَارَةِ إِلَى جُزْءِ الْقِصَّةِ، كَمَا حَصَلَ بِالْفَصْلِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ جُزْءُ الْمُحَاوَرَةِ.
88
وَنِدَاءُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلتَّنْوِيهِ بِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ.
وَالْهُبُوطُ: النُّزُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١].
وَالْمُرَادُ: النُّزُولُ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ.
وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ، وَهُوَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ الْوَدَاعِ أَيْضًا، يَقُولُونَ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَخِطَابُهُ بِالسَّلَامِ حِينَئِذٍ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ كَانَ كَافِلًا لَهُ النَّجَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [الْقَمَر: ١٣، ١٤].
وَأَصْلُ السَّلَامِ: السَّلَامَةُ، فَاسْتُعْمِلَ عِنْدَ اللِّقَاءِ إِيذَانًا بِتَأْمِينِ الْمَرْءِ مُلَاقِيَهُ وَأَنَّهُ لَا يُضْمِرُ لَهُ سُوءًا، ثُمَّ شَاعَ فَصَارَ قَوْلًا عِنْدَ اللِّقَاءِ لِلْإِكْرَامِ. وَبِذَلِك نهى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: اهْبِطْ بِسَلامٍ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الْحجر: ٤٦] فَإِنَّ السَّلَامَ ظَاهِرٌ فِي التَّحِيَّةِ لِتَقْيِيدِهِ بِ (آمِنِينَ). وَلَوْ كَانَ السَّلَامُ مُرَادًا بِهِ السَّلَامَةُ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِ (آمَنِينَ) تَوْكِيدًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
ومِنَّا تَأْكِيدٌ لِتَوْجِيهِ السَّلَامِ إِلَيْهِ لِأَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْمَعْنى: بِسَلام ناشىء مِنْ عِنْدِنَا، كَقَوْلِهِ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذَا التَّأْكِيدُ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ فَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الَّذِي لَا تُذْكَرُ مَعَهُ (مِنْ).
وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيِ اهْبِطْ مَصْحُوبًا بِسَلَامٍ مِنَّا. وَمُصَاحَبَةُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ مُصَاحِبَةٌ مَجَازِيَّةٌ.
89
وَالْبَرَكَاتُ: الْخَيْرَاتُ النَّامِيَةُ، وَاحِدَتُهَا بَرَكَةٌ، وَهِيَ مِنْ كَلِمَاتِ التَّحِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدُّعَاءِ.
وَلَمَّا كَانَ الدَّاعُونَ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِدُعَاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَصُدُورُ هَذَا الدُّعَاءِ مِنْ لَدُنْهِ قَائِمٌ مَقَامَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ فَهُوَ إِفَاضَةُ بَرَكَاتٍ عَلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيمُهُمْ وَتَأْمِينُهُمْ وَالْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ.
وَ (عَلَيْكَ) يَتَعَلَّقُ (بِسَلَامٍ) وَ (بَرَكَاتٍ) وَكَذَلِكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ.
وَالْأُمَمُ: جَمْعُ أُمَّةٍ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي يَجْمَعُهَا نَسَبٌ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ. يُقَالُ: أُمَّةُ الْعَرَبِ، أَوْ لُغَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ التُّرْكِ، أَوْ مَوْطِنٌ مِثْلَ أُمَّةِ أَمْرِيكَا، أَوْ دِينٌ مِثْلَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَ أُمَمٍ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكُونُ بَعْدَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَلَيْسَ الَّذِينَ رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ أُمَمًا لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ لِقَوْلِهِ: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ٤٠].
وَتَنْكِيرُ أُمَمٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعْمِيمَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ.
وَ (مِنْ) فِي مِمَّنْ مَعَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (مَنْ) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى الَّذِينَ رَكِبُوا مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السَّفِينَةِ. وَمِنْهُمْ أَبْنَاؤُهُ الثَّلَاثَةُ. فَالْكَلَامُ بِشَارَةٌ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ مِنْهُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً يَكُونُونَ مَحَلَّ كَرَامَتِهِ وَبَرَكَاتِهِ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنْ يَجْعَلَ مِنْهُمْ أُمَمًا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
وَهَذَا النَّظْمُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ نُوحًا بِالسَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ وَشَرَكَ مَعَهُ فِيهِمَا أُمَمًا نَاشِئِينَ مِمَّنْ هُمْ مَعَهُ، وَفِيهِمُ النَّاشِئُونَ مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ مَعَهُ أَبْنَاءَهُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ نَسْلُهُ مِنْ بَعْدِهِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ مَعَهُ يَشْمَلُهُمُ السَّلَام والبركات بادىء بَدْء قَبْلَ نَسْلِهِمْ إِذْ عُنْوِنَ عَنْهُمْ بِوَصْفِ مَعِيَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ كَرَامَتِهِمْ. وَإِذْ كَانَ التَّنْوِيهُ بِالنَّاشِئِينَ
90
عَنْهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اخْتِصَاصَهُمْ بِالْكَرَامَةِ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ نَاشِئِينَ عَنْ فِئَةٍ مُكَرَّمَةٍ بِمُصَاحَبَةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَحَصَلَ تَنْوِيهُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصُحْبَتِهِ وَنَسْلِهِمْ بِطَرِيقِ إِيجَازٍ بَدِيعٍ.
وَجُمْلَةُ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ إِلَخْ، عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهَا تَبْيِينٌ لِمَا أَفَادَهُ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْ أُمَمٍ آخَرِينَ. وَهَذِهِ الْوَاو تسمى استينافية وَأَصْلُهَا الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَبَعْضُهُمْ يُرْجِعُهَا إِلَى الْوَاوِ الزَّائِدَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الَّذِينَ أُغْرِقُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ جَدِّهِمْ، فَأُشْعِرُوا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَنْبَأَ اللَّهُ نُوحًا بِأَنَّهُ سَيُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: ٣] أَيْ وَكَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ غَيْرَ شَاكِرِينَ لِلنِّعْمَةِ.
وَإِطْلَاقُ الْمَسِّ عَلَى الْإِصَابَةِ الْقَوِيَّةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
فِي الْأَنْعَامِ [١٧].
وَذِكْرُ مِنَّا مَعَ يَمَسُّهُمْ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِ بِسَلامٍ مِنَّا لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يُصِيبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُوَ إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ بِالرِّضَى أَوِ الْغَضَبِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ تُرَتَّبِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ عَلَى أَسْبَابِهَا، إِذْ مِنْ حَقِّ النَّاسِ أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي الْحَوَادِثِ وَيَتَوَسَّمُوا فِي جَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُمْ بِدَلَالَةِ الْكَائِنَاتِ عِنْدَ انْقِطَاعِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ يُبَيِّنُونَ لَهُمْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ وَيَكِلُونَ إِلَيْهِمُ النَّظَرَ فِي وَضْعِ الْمَدْلُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَاتِهَا. وَمِثَالُهُ مَا هُنَا فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُمَتِّعُ أُمَمًا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا يصنعون.
91

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤٩]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
اسْتِئْنَافٌ أُرِيدَ مِنْهُ الامتنان على النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّسْلِيَةُ.
فَالِامْتِنَانُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها.
وَالْمَوْعِظَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِلَخْ.
وَالتَّسْلِيَةُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقِصَّةُ.
وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ. وَأَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْأَخْبَارُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ. فَهَذِهِ الْأَنْبَاءُ مُغَيَّبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنْ مُجْمَلَاتِهَا، وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الزَّمن الغابر نبيء يُقَالُ لَهُ: نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَصَابَ قَوْمَهُ طُوفَانٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ غَيْبٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَدَّعُوا عِلْمَهُ. عَلَى أَنَّ فِيهَا مَا هُوَ غَيْبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ نُوحٍ الرَّابِعِ وَعِصْيَانِهِ أَبَاهُ وَإِصَابَتِهِ بِالْغَرَقِ، وَمِثْلَ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ هُبُوطِهِ مِنَ السَّفِينَةِ، وَمِثْلَ سُخْرِيَةِ قَوْمِهِ بِهِ وَهُوَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَمَا دَارَ بَيْنَ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ أهل الْكتاب.
وَجُمْلَة مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ- ونُوحِيها- وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَخْبَارٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ بَعْضُهَا خَبَرٌ وَبَعْضُهَا حَالٌ. وَضَمِيرُ أَنْتَ تَصْرِيحٌ بِالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: تَعْلَمُها لِتَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ.
92
وَعَطْفُ وَلا قَوْمُكَ مِنَ التَّرَقِّي، لِأَنَّ فِي قَوْمِهِ مَنْ خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَثِيرًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِمَّا إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِمَّا إِلَى الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَمْثَالِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا، وَإِمَّا إِلَى تِلْكَ بِتَأْوِيلِ النَّبَأِ، فَيَكُونُ التَّذْكِيرُ بَعْدَ التَّأْنِيثِ شَبِيهًا بِالِالْتِفَاتِ.
وَوَجْهُ تَفْرِيعِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِيهَا قِيَاسَ حَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى حَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، فَكَمَا صَبَرَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ. وَخَبَرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسْتَفَادٌ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مُقَاوَمَةِ قَوْمِهِ وَمِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّبَاتَ مَعَ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةِ مِنْ مُسَمَّى الصَّبْرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ عِلَّةٌ لِلصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيِ اصْبِرْ لِأَنَّ دَاعِيَ الصَّبْرِ قَائِمٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ تَكُونُ لِلْمُتَّقِينَ، فَسَتَكُونُ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ.
وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الَّتِي تَعْقُبُ حَالَةً أُخْرَى. وَقَدْ شَاعَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعاقِبَةُ لِلْجِنْسِ.
وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، فَيَقْتَضِي مِلْكَ الْمُتَّقِينَ لِجِنْسِ الْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ لَهُمْ لَا تَفُوتُهُمْ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَن أضدادهم.
93

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٢]

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
عَطْفٌ عَلَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥]، فَعَطَفَ وَإِلى عادٍ عَلَى إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥]، وَعَطَفَ أَخاهُمْ على نُوحاً [هود: ٢٥]، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. وَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لِأَنَّ الْجَارَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَقَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ لِيُحْضَرَ ذِكْرُ عَادٍ مَرَّتَيْنِ بِلَفْظِهِ ثُمَّ بِضَمِيرِهِ.
وَوَصْفُ (هُودٍ) بِأَنَّهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ نَسَبِهِمْ كَمَا يُقَالُ: يَا أَخَا الْعَرَبِ، أَيْ يَا عَرَبِيُّ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ وَهُودٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ قالَ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِي أَرْسَلْنا [هود: ٢٥].
وَوَجْهُ التَّصْرِيحِ بِفِعْلِ الْقَوْلِ لِأَنَّ فِعْلَ (أَرْسَلْنَا) مَحْذُوفٌ، فَلَوْ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا كَمَا بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: ٢٥] لَكَانَ بَيَانًا لِمَعْدُومٍ وَهُوَ غَيْرُ جَلِيٍّ.
وَافْتِتَاحُ دَعْوَتِهِ بِنِدَاءِ قَوْمِهِ لِاسْتِرْعَاءِ أَسْمَاعِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقِي إِلَيْهِمْ.
94
وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اعْبُدُوا أَوْ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ.
والإتيان بِالْحَال الاستقصاد إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَا إِلَهَ لَهُمْ غَيْرُهُ، أَوْ فِي حَالِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَهُمْ غَيْرُهُ. وَذَلِكَ تَشْنِيعٌ لِلشِّرْكِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ تَوْبِيخٌ وَإِنْكَارٌ. فَهِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَيْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِي ادِّعَاءِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ كَانَ قَالَهَا مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ تَكْرِيرٌ لِلْأَهَمِّيَّةِ، يُقْصَدُ بِهِ تَهْوِيلُ الْأَمْرِ وَاسْتِرْعَاءُ السَّمْعِ اهْتِمَامًا بِمَا يَسْتَسْمِعُونَهُ، وَالنِّدَاءُ هُوَ الرَّابِطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَقُولَةً فِي وَقْتٍ غَيْرِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، فَكَوْنُهَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ظَاهِرٌ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِير لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي فَطَرَنِي دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى الْإِرْشَادِ أَجْرًا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُ يَسُوقُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ، لِأَنَّ إِظْهَارَ الْمُتَكَلِّمِ عِلْمَهُ
بِالْأَسْبَابِ يُكْسِبُ كَلَامَهُ عَلَى الْمُسَبِّبَاتِ قُوَّةً وَتَحْقِيقًا.
وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَاطِفَةً اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَنْ عَدَمِ تَعَقُّلِهِمْ، أَيْ تَأَمُّلِهِمْ فِي دَلَالَةِ حَالِهِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يُبَلِّغُ وَنُصْحِهِ لَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ. وَالْعَقْلُ: الْعِلْمُ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَيا قَوْمِ مِثْلَ نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- آنِفًا.
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا مَضَى مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ عَقِيدَةِ الشّرك، لِأَن الاسْتِغْفَار اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الِاعْتِرَافَ
95
بِوُجُودِهِ وَيَسْتَلْزِمُ اعْتِرَافَ الْمُسْتَغْفِرِ بِذَنْبٍ فِي جَانِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ قَبْلَ مَجِيءِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهِمْ غَيْرَ ذَنْبِ الْإِشْرَاكِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرْعٌ مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا ذَنْبُ الْإِشْرَاكِ فَهُوَ مُتَقَرِّرٌ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ جَمِيعِهَا فَكَانَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ جَامِعًا لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصْرِيحًا وَتَكْنِيَةً.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ. وَفِي مَاهِيَّةِ التَّوْبَةِ الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنب فيؤول إِلَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْإِقْلَاعِ أَهَمُّ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ.
ويُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ مِنِ اسْتَغْفِرُوا.
وَالْإِرْسَالُ: بَعْثٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَأَطْلَقَ الْإِرْسَالَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فَشُبِّهَ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ مِنْ مَكَانِ الْمُرْسِلِ إِلَى الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ.
وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَصْدَرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ»
. ومِدْراراً حَالٌ مِنَ السَّمَاءِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدُّرُورِ وَهُوَ الصَّبُّ، أَيْ غَزِيرًا. جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِمْدَادَهُمْ بِالْمَطَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَتْ عَادٌ أَهْلَ زَرْعٍ وَكُرُومٍ فَكَانُوا بِحَاجَةٍ إِلَى الْمَاءِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ السِّدَادَ لِخَزْنِ الْمَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ فَتَنَاقَصَ نَسْلُهُمْ وَرِزْقُهُمْ جَزَاءً عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُودًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ وَعْدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ دِيَارهمْ من حضر موت إِلَى الْأَحْقَافِ مُدُنًا وَحُلَلًا وَقِبَابًا.
وَكَانُوا أَيْضًا مُعْجَبِينَ بِقُوَّةِ أُمَّتِهِمْ وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥] فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ جَزَاءً عَلَى تَرْكِ الشِّرْكِ زِيَادَةَ قُوَّتِهِمْ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَسِعَةِ
96
الْأَرْزَاقِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ يَجْعَلُهَا فِي غِنًى عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى وَقَادِرَةً عَلَى حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا وَيَجْعَلُ أُمَمًا كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَيْهَا.
وإِلى قُوَّتِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَزِدْكُمْ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِ إِلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَضُمُّ. وَهَذَا وَعْدٌ لَهُمْ بِصَلَاحِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ تَحْذِيرًا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ.
وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ.
ومُجْرِمِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَتَوَلَّوْا أَيْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِجْرَامِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
[٥٣- ٥٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.
مُحَاوَرَةٌ مِنْهُمْ لِهُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِجَوَابٍ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْعَاطِفِ.
وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالنِّدَاءِ يُشِيرُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَنَبَّهَ لَهُ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ لِغَفْلَتِهِ فَنَادَوْهُ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ تَوْبِيخُهُ وَلَوْمُهُ فَيَكُونُ كِنَايَةً ثَانِيَةً، أَوِ اسْتِعْمَالُ النِّدَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بُهْتَانٌ لِأَنَّهُ أَتَاهُمْ بِمُعْجِزَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود: ٥٩] وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ لَمْ يَذْكُرْ آيَةً مُعَيَّنَةً لِهُودٍ- عَلَيْهِ
97
السَّلَامُ-.
وَلَعَلَّ آيَتَهُ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ عِنْدَ بِعْثَتِهِ بِوَفْرَةِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَوْلَادِ وَاطِّرَادِ الْخِصْبِ وَفْرَةً مُطَّرِدَةً لَا تَنَالُهُمْ فِي خِلَالِهَا نَكْبَةٌ وَلَا مُصِيبَةٌ بِحَيْثُ كَانَتْ خَارِقَةً لِعَادَةِ النِّعْمَةِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ»
الْحَدِيثَ.
وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَكُنْ طِبْقًا لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ. وَلَمْ يَجْعَلُوا وَما نَحْنُ بِتارِكِي مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ.
وعَنْ فِي عَنْ قَوْلِكَ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ لَا نَتْرُكُهَا تَرْكًا صَادِرًا عَنْ قَوْلِكَ، كَقَوْلِهِ:
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْف: ٨٢]. وَالْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عِلَّةً لِتَرْكِهِمْ آلِهَتَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ لِلسَّامِعِ وَمَنْ مَعَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَاذَا تَعُدُّونَ دَعْوَتَهُ فِيكُمْ، أَيْ نَقُولُ إِنَّكَ مَمْسُوسٌ مِنْ بَعْضِ آلِهَتِنَا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْآلِهَةِ تَهْدِيدًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّى لَهُ جَمِيعُ الْآلِهَةِ لَدَكُّوهُ دَكًّا.
وَالِاعْتِرَاءُ: النُّزُولُ وَالْإِصَابَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَصَابَكَ بِسُوءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُ بِمَسٍّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ بِدَعْوَةِ رَفْضِ عِبَادَتِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى انْتِظَامِ الْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ نَوْعِ مَا يَصْدُرُ عَنِ السُّفِسْطَائِيِّينَ، فَجَعَلُوهُ مَجْنُونًا وَجَعَلُوا سَبَبَ جُنُونِهِ مَسًّا مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلِمَ يَتَفَطَّنُوا إِلَى دَخَلِ كَلَامِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْآلِهَةَ كَيْفَ تَكُونُ سَبَبًا فِي إِثَارَةِ ثَائِرٍ عَلَيْهَا.
98
وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَقُولِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ.
قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦).
لَمَّا جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِرَفْضِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَبِجَحْدِ آيَاتِهِ وَبِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى مُلَازَمَةِ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَبِالتَّنْوِيهِ بِتَصَرُّفِ آلِهَتِهِمْ أَجَابَهُمْ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَابَرُوا وَجَحَدُوا آيَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ أُشْهِدُ اللَّهَ إِنْشَاءٌ لِإِشْهَادِ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْشَاءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي
الْخَلْقِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ قَصْدِ إِعْلَامِ السَّامِعِ بِمَا يُضْمِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى صِيَغِ الْعُقُودِ إِنْشَاءً بِلَفْظِ الْخَبَرِ. ثُمَّ حَمَّلَهُمْ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ شُرَكَائِهِمْ مُبَادَرَةً بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ أَتَوْا بِهِ اسْتِطْرَادًا، فَلِذَلِكَ كَانَ تَعَرُّضُهُ لِإِبْطَالِهِ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَجُمْلَةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا [هود: ٥٧] بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ فَإِنْ تَوَلَّوْا إِلَى آخِرِهَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَيَأْتِي. وَمَعْنَى إِشْهَادِهِ فَيُرَادُ مِنْ شُرَكَائِهِمْ تَحْقِيقُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ عَلَى أَمْرٍ جَازِمٍ قَدْ أَوْجَبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَتَى فِي إِشْهَادِهِمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِزَاجَةَ إِنْشَاءِ الْإِشْهَادِ دُونَ رَائِحَةِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا يشركونه.
وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْأَصْنَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمُؤَكَّدِ فِي
99
قَوْلِهِ:
فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَلَمَّا كَانَتِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَقْتَضِي اعْتِقَادَ عَجْزِهَا عَنْ إِلْحَاقِ إِضْرَارٍ بِهِ فَرَّعَ عَلَى الْبَرَاءَةِ جُمْلَةَ فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِقَوْمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ خِطَابُهُ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ، فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَكِيدُوهُ. وَأَدْخَلَ فِي ضَمِيرِ الْكَائِدِينَ أَصْنَامَهُمْ مُجَارَاةً لِاعْتِقَادِهِمْ وَاسْتِقْصَاءً لِتَعْجِيزِهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ وَأَصْنَامُكُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْأَمْرُ بِ (كِيدُونِي) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ لِقَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات: ٣٩]. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ:
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدُوهُ ثُمَّ ارْتَقَى فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيزِ وَالِاحْتِقَارِ فَنَهَاهُمْ عَنِ التَّأْخِيرِ بِكَيْدِهِمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِأَصْنَامِهِمْ وَبِهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي تَوَكَّلْتُ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ فَكِيدُونِي وَهُوَ التَّعْجِيزُ وَالِاحْتِقَارُ. يَعْنِي:
أَنَّهُ وَاثِقٌ بِعَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، فَهَذَا مَعْنًى دِينِيٌّ قَدِيمٌ.
وَأُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِدْلَالًا عَلَى صِحَّةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ ضُرِّهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَالِكُهُمْ جَمِيعًا يَدْفَعُ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فِي مَحَلِّ صِفَةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ حَالٍ
مِنْهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا مِثْلُ الْغَرَضِ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ.
وَالنَّاصِيَةُ: مَا انْسَدَلَ عَلَى الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ. وَالْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلتَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْإِنْسَانِ مِنْ نَاصِيَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ بِيَدِ آخِذِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ انْفِلَاتًا. وَإِنَّمَا كَانَ تَمْثِيلًا لِأَنَّ دَوَابَّ كَثِيرَةً لَا نَوَاصِيَ لَهَا فَلَا يَلْتَئِمُ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ مَعَ عُمُومِ مَا مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مَثَلًا
100
صَارَ بِمَنْزِلَةِ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِالنَّوْعِ الْمَقْصُودِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالِكُ الْقَاهِرُ لِجَمِيعِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَوْنُهُ مَالِكًا لِلْكُلِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْجِزَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ تَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِتَوَكُّلِي عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِإِجْرَاءِ أَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالتَّأْيِيدِ لِرُسُلِهِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الِاتِّصَافُ الرَّاسِخُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارٌ لِلْفِعْلِ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ يُشَبَّهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّوَاءِ. قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: ٤٣]. فَلَا جَرَمَ لَا يُسْلِمُ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ للظّالمين.
[٥٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤]. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَوْجَبَهُ قَصْدُ الْمُبَادَرَةِ بِإِبْطَالِ بَاطِلِهِمْ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤] بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، فَهُوَ مُضَارِعٌ، وَهُوَ خِطَابُ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِجْرَاءِ الضَّمَائِرِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
101
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَالْوَاوُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَكُونُ كالاعتراض فِي إِجْرَاء الْقِصَّةِ لِقَصْدِ الْعِبْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [هود: ٣٥] الْآيَةَ. خَاطَبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَالْفَاءُ الْأُولَى لِتَفْرِيعِ الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقُولَ قَوْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ الْمُحْتَمَلِ مَعْنَيَيْنِ غَيْرِ مُتَخَالِفَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ، وَلِأَجَلِهِ جَاءَ فِعْلُ تَوَلَّوْا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨].
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٠].
وَجُعِلَ جَوَابُ شَرْطِ التَّوَلِّي قَوْلَهُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَعَ أَنَّ الْإِبْلَاغَ سَابِقٌ عَلَى التَّوَلِّي الْمَجْعُولِ شَرْطًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ لَازِمُ ذَلِكَ الْإِبْلَاغِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ تَبِعَةِ تَوَلِّيهِمْ عَنْهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جُرْمِهِمْ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ من كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أُرْسِلَ بِهِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِقِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْذَارِ بِتَبِعَةِ التَّوَلِّي عَلَيْهِمْ وَنُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أَيْ يُزِيلُكُمْ وَيُخْلِفُكُمْ بِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا يَتَوَلَّوْنَ عَنْ رَسُولِهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨].
وَارْتِفَاعُ يَسْتَخْلِفُ فِي قِرَاءَةِ الْكَافَّةِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَابِ مُجَازٌ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْجَزْمُ. وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ هُنَا أَرْجَحَ لِإِعْطَاءِ الْفِعْلِ حُكْمَ الْكَلَامِ
102
الْمُسْتَأْنَفِ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ لَا تَبَعًا لِلْجَوَابِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ إِخْبَارُهُمْ لِإِنْذَارِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً وَالْمُرَادُ لَا تَضُرُّونَ اللَّهَ بِتَوَلِّيكُمْ شَيْئًا وشَيْئاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ تَضُرُّونَهُ الْمَنْفِيِّ.
وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَنْكِيرِ لَفْظِ الشَّيْءِ غَالِبًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعُمُومِ بِنَفْيِ الضُّرِّ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ فَاللَّهُ يُلْحِقُ بِكُمُ الِاسْتِئْصَالُ، وَهُوَ
أَعْظَمُ الضُّرِّ، وَلَا تَضُرُّونَهُ أَقَلَّ ضُرٍّ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْمُقَارَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ الْمُضِرَّ بِعَدُّوِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ بَعْضَ الضُّرِّ مِنْ جَرَّاءِ الْمُقَارَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، فَمُوقِعُ إِنَّ فِيهَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَالْحَفِيظُ: أَصْلُهُ مُبَالَغَةُ الْحَافِظِ، وَهُوَ الَّذِي يضع الْمَحْفُوظ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيْرُ حَافِظِهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقُدْرَة والقهر.
[٥٨]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: جاءَ أَمْرُنا بِمَعْنَى اقْتِرَابِ الْمَجِيءِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْأَمْرُ أُطْلِقَ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينٍ، أَيْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيءُ أَثَرِ أَمْرِنَا، وَهُوَ الْعَذَابُ، أَيِ الرِّيحُ الْعَظِيمُ.
وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَكَيْفِيَّةُ إِنْجَاءِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْبَاءُ فِي بِرَحْمَةٍ مِنَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَكَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهِمْ سَبَبًا فِي نَجَاتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لِشَمِلَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ فَكَانَ نِقْمَةً لِلْكَافِرِينَ وَبَلْوًى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.
وَالتَّقْدِيرُ وَأَيْضًا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْغَلِيظُ. فَفِي هَذَا مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى إِنْجَاءٍ ثَانٍ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ نَجَّيْناهُمْ عَلَى نَجَّيْنا، وَهَذَانِ الْإِنْجَاءَانِ يُقَابِلَانِ جَمْعَ الْعَذَابَيْنِ لِعَادٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: ٦٠]. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِنْجَاءِ وَحُذِفَ السَّبَبُ عَكْسُ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِظُهُورِ أَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: ٥٩].
وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الْخَشِنُ ضِدُّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ. وَاسْتَعْمَلَ الْمَاضِي فِي وَنَجَّيْناهُمْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الْوَعْد بِوُقُوعِهِ.
[٥٩، ٦٠]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٩ إِلَى ٦٠]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
الْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الْأَعْرَاف: ١٠١]
104
وَكَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]، وَهُوَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ عَقِبَ الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَأْتِي بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْأُمَّةِ.
وعادٌ بَيَانٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ جَحَدُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ التَّمْهِيدِ بِالْأَجْرَامِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَمْعِ الْعَذَابَيْنِ لَهُمْ.
وَالْجَحْدُ: الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ، مِثْلَ إِنْكَارِ الْوَاقِعَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُودًا أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ فَأَنْكَرُوا دَلَالَتَهَا. وَعُدِّيَ جَحَدُوا بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَفَرُوا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قِيلَ: جَحَدُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ وَكَفَرُوا بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْل: ١٤].
وَجَمَعَ الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، وَهُوَ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يُنَاطَ الْجُرْمُ بِعِصْيَانِ جِنْسِ الرُّسُلِ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ هُودًا لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِشَخْصِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: ٥٣]، فَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بِأَمْرِ تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣].
وَمَعْنَى اتِّبَاعِ الْأَمْرِ: طَاعَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَالِاتِّبَاعُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِمَا يُمْلَى عَلَى الْمُتَّبِعِ،
لِأَنَّ الْأَمَرَ يُشْبِهُ الْهَادِيَ لِلسَّائِرِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُمْتَثِلَ يُشْبِهُ الْمُتَّبِعَ لِلسَّائِرِ.
105
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ. وَالْعَنِيدُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُعَانَدَةِ. يُقَالُ: عَنَدَ- مُثَلَّثُ النُّونِ- إِذَا طَغَى، وَمَنْ كَانَ خُلُقُهُ التَّجَبُّرُ، وَالْعُنُودُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى بَاطِلٍ، فَدَلَّ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَ الْجَبَابِرَةِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَطَاعُوا دُعَاةَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ.
وكُلِّ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنْ أُرِيدَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ قَوْمِهِمْ فَالْعُمُومُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ جِنْسُ الْجَبَابِرَةِ فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٢٧].
وَإِتْبَاعُ اللَّعْنَةِ إِيَّاهُمْ مُسْتَعَارٌ لِإِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ إِصَابَةً عَاجِلَةً دُونَ تَأْخِيرٍ كَمَا يُتْبَعُ الْمَاشِي بِمَنْ يَلْحَقُهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ حُسْنًا مَا فِيهَا من الْمُشَاركَة وَمن مُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَلْعُونِينَ فَأُتْبِعُوا بِاللَّعْنَةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ اتَّبَعُوا لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسْنَدِ الْفِعْلُ إِلَى اللَّعْنَةِ مَعَ اسْتِيفَائِهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِتْبَاعَهَا لَهُمْ كَانَ بِأَمْرٍ فَاعِلٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا تَبِعَتْهُمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ.
وَاللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ بِإِهَانَةٍ وَتَحْقِيرٍ.
وَقَرَنَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ تَهْوِينِ أَمْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَعْنَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَرِثُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَهَابُهُ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَهْوِيلِ الْخَبَرِ وَمُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إِنَّ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِجُمْلَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ عَادًا.
106
وَعُدِّيَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَصَوْا فِي مُقَابَلَةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ نِعْمَةُ رَبِّهِمْ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكُفْرِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ.
وَجُمْلَةُ أَلا بُعْداً لِعادٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمٍّ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً عِنْدَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤].
وقَوْمِ هُودٍ بَيَانٌ لِ (عَادٍ) أَوْ وَصْفٌ لِ (عَادٍ) بِاعْتِبَارِ مَا فِي لَفْظِ قَوْمِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي الذَّمِّ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ رَسُولِهِمْ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ ذِكْرُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ عَادٍ أُخْرَى وَهُمْ إِرَمُ كَمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ عَادٌ غَيْرُ قَوْمِ هُودٍ وَهُمْ إِرَمُ، قَالَ تَعَالَى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الْفجْر: ٦، ٧].
[٦١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦١]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً- إِلَى قَوْلِهِ- غَيْرُهُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: ٥٠] إِلَخْ.
وَذِكْرُ ثَمُودَ وَصَالِحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَثَمُودُ: اسْمُ جَدٍّ سُمِّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ.
وَجُمْلَةُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَفْيِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَا يَدَّعُونَ لِأَصْنَامِهِمْ خَلْقًا وَلَا رِزْقًا، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ نَاهِضَةً وَاضِحَةً.
107
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْإِحْدَاثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فِي الْأَنْعَامِ [٦].
وَجَعَلَ الْخَبَرَيْنِ عَنِ الضَّمِيرِ فِعْلَيْنِ دُونَ: هُوَ مُنْشِئُكُمْ وَمُسْتَعْمِرُكُمْ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ يُنْشِئْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا هُوَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِرْكُمْ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَالْإِنْشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ خَلْقُ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ إِنْشَاءَهُ إِنْشَاءٌ لِنَسْلِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ تَعَلُّقُ خَلْقِهِمْ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَرْسٍ وَزَرْعٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٤٦- ١٤٨] أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ جِبَالِ الْأَرْضِ بُيُوتًا وَيَبْنُونَ فِي الْأَرْضِ قُصُورًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الْأَعْرَاف: ٧٤]،
فَكَانَتْ لَهُمْ مَنَافِعُ مِنَ الْأَرْضِ تُنَاسِبُ نِعْمَةَ إِنْشَائِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَلِأَجْلِ مَنَافِعِهِمْ فِي الْأَرْضِ قُيِّدَتْ نِعْمَةُ الْخَلْقِ بِأَنَّهَا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي أُنْشِئُوا مِنْهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها.
وَالِاسْتِعْمَارُ: الْإِعْمَارُ، أَي جعلكُمْ عامرينها، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي اسْتَبْقَى وَاسْتَفَاقَ. وَمَعْنَى الْإِعْمَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ تَعْمِيرًا لِلْأَرْضِ حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَمْرُ الْأَرْضِ.
وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ النِّعَمِ أَمْرَهُمْ بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبِ مغْفرَة أجرامهم، والإقلاع عمّا لَا يَرْضَاهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ. وَمِنْ تَفَنُّنِ الْأُسْلُوبِ أَنْ جعلت هَذِه النعم علّة لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِطَرِيقِ جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً أَيْضًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ.
وَعُطِفَ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ بِحَرْفِ التَّرَاخِي لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: ٥١] فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
108
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ جُرْمُهُمْ مِمَّا يُقْبَلُ الاسْتِغْفَار عَنهُ، فأجيبوا بأنّ اللَّهَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ بِتَعْلِيلٍ.
وَحَرْفُ إِنَّ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي تَعْظِيمِ جُرْمِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي قَبُولِ اسْتِغْفَارِهِ.
وَالْقُرْبُ: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلرَّأْفَةِ وَالْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْبُعْدَ يُسْتَعَارُ لِلْجَفَاءِ وَالْإِعْرَاضِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ الْأَضْبَطِ:
تَبَاعَدَ عَنِّي مِطْحَلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا
فَكَذَلِكَ يُسْتَعَارُ ضِدُّهُ لِضِدِّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٦]. وَالْمُجِيبُ هُنَا: مُجِيبُ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ. وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ:
إِعْطَاء السَّائِل مسؤوله.
[٦٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦٢]
قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)
هَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ الْبَلِيغَةِ الْوَجِيزَةِ الْمَلْأَى إِرْشَادًا وَهَدْيًا. وَهُوَ جَوَابٌ مَلِيءٌ بِالضَّلَالِ وَالْمُكَابَرَةِ وَضَعْفِ الْحُجَّةِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ أَوِ الْمَلَامِ وَالتَّنْبِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود: ٥٣]. وَقَرِينَةُ التَّوْبِيخِ هُنَا أَظْهَرُ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ بِخَيْبَةِ رَجَائِهِمْ فِيهِ فَهُوَ تَعْنِيفٌ.
وقَدْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ.
109
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مَرْجُوًّا لِدَلَالَةِ فِعْلِ الرَّجَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَرَقُّبُ الْخَيْرِ، أَيْ مَرْجُوًّا لِلْخَيْرِ، أَيْ وَالْآنَ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ خَيْرِكَ. وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ شَرًّا، وَإِنَّمَا خَاطَبُوهُ بِمِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ بُعِثَ فِيهِمْ وَهُوَ شَابٌّ (كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) أَيْ كُنْتَ مَرْجُوًّا لِخِصَالِ السِّيَادَةِ وَحِمَايَةِ الْعَشِيرَةِ وَنُصْرَةِ آلِهَتِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَبْلَ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْنِيفِ، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ أَيْضًا جُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ.
وَعَبَّرُوا عَنْ أَصْنَامِهِمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي زَعْمِهِمِ اقْتِدَاءً بِآبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْإِنْكَارَ اتِّجَاهًا فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرُوا يَأْسَهُمْ مِنْ صَلَاحِ حَالِهِ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي صِدْقِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ وَزَادُوا ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ النُّكَتِ هُنَا إِثْبَاتُ نُونِ (إِنَّ) مَعَ نُونِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ إِظْهَارٍ لِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَالْإِظْهَارُ ضَرْبٌ مِنَ التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٩] مِنْ قَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا لِأَنَّ الْحِكَايَةَ فِيهَا عَنْ أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي دَرَجَاتِ التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَة خطاب لوَاحِد، فَكَانَ تَدْعُونا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ هِيَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَقَعْ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ نُونَاتٍ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَالِكَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي (تَدْعُونَنَا) فَلَوْ جَاءَ (إِنَّنَا) لَاجْتَمَعَ أَرْبَعُ نُونَاتٍ.
110
وَالْمُرِيبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَرَابَ إِذَا أُوقِعَ فِي الرَّيْبِ، يُقَالُ: رَابَهُ وَأَرَابَهُ بِمَعْنًى،
وَوَصْفُ الشَّكِّ بِذَلِكَ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِمْ: جدّ جدّه.
[٦٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦٣]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ قالَ وَهُوَ الشَّأْنُ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَابْتِدَاءُ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ إِلَى مَا سَيَقُولُهُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ.
وَخَاطَبَهُمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نوح.
وَالْكَلَام فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً كَالْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُوجِبِ تَقْدِيمِ مِنْهُ عَلَى رَحْمَةً هُنَا، وَتَأْخِيرِ مِنْ عِنْدِهِ [هود: ٢٨] عَن رَحْمَةً [هود: ٢٨] فِي قِصَّةِ نُوحٍ السَّابِقَةِ.
فَالْجَوَابُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفَنُّنِ بِعَدَمِ الْتِزَامِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي إِعَادَةِ الْكَلَامِ الْمُتَمَاثِلِ، هُوَ أَيْضًا أَسْعَدُ بِالْبَيَانِ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَدَفْعِ اللَّبْسِ. فَلَمَّا كَانَ مَجْرُورُ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ ظَرْفًا وَهُوَ (عِنْدَ) كَانَ صَرِيحًا فِي وَصْفِ الرَّحْمَةِ بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ الرَّبَّانِيِّ بِهَا وَبِمَنْ أُوتِيَهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمَجْرُورُ هُنَا ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقَعَ عَقِبَ فِعْلِ آتانِي لِيَكُونَ تَقْيِيدُ الْإِيتَاءِ بِأَنَّهُ من الله مشير إِلَى إِيتَاءٍ خَاصٍّ ذِي عِنَايَةٍ بِالْمُؤْتَى إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ كَوْنُهُ مِنَ
111
اللَّهِ تَحْصِيلًا لِمَا أُفِيدَ مِنْ إِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِيتَاءً خَاصًّا، وَلَوْ أُوقِعَ مِنْهُ عَقِبَ رَحْمَةً لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ ذَلِكَ عِوَضٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، أَيْ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَآتَانِي رَحْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مَرْيَم: ٢١] أَيْ وَرَحْمَتَنَا لَهُمْ، أَيْ لِنَعِظَهُمْ وَنَرْحَمَهُمْ.
وَجُمْلَةُ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ.
وَالْمَعْنَى إِلْزَامٌ وَجَدَلٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُم تنكرون نبوءتي توبّخونني عَلَى دَعْوَتِكُمْ فَأَنَا مُؤْمِنٌ بِأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَفَتَرُونَ أَنِّي أَعْدِلُ عَنْ يَقِينِي إِلَى شَكِّكُمْ، وَكَيْفَ تَتَوَقَّعُونَ مِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ يَقِينِي بِذَلِكَ يَجْعَلُنِي خَائِفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ وَلَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي.
وَالْكَلَامُ على قَوْله: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ
[هود: ٣٠] فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَفَرَّعَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ جُمْلَةَ: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أَيْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ فَمَا دُعَاؤُكُمْ إِيَّايَ إِلَّا سَعْيٌ فِي خُسْرَانِي.
وَالْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ حُدُوثُ حَالٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، أَيْ فَمَا يَحْدُثُ لِي إِنِ اتَّبَعَتْكُمْ وَعَصَيْتُ اللَّهَ إِلَّا الْخُسْرَانُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: ٦]، أَيْ كُنْتُ أَدْعُوهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ فَلَمَّا كَرَرْتُ دَعْوَتَهُمْ زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَفَرُّوا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ فَزَادُوا فِي الْفِرَارِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ هُنَالِكَ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا مِنْ فِرَارٍ، وَلَقِيلَ هُنَا: فَمَا تَزِيدُونَنِي إِلَّا مِنْ تَخْسِيرٍ.
وَالتَّخْسِيرُ، مَصْدَرُ خَسِرَ، إِذَا جعله خاسرا.
112

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٦٤ إِلَى ٦٥]

وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود: ٦٢] فَأَتَاهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تُزِيلُ الشَّكَّ.
وَإِعَادَةُ وَيا قَوْمِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود: ٣٠].
وَالْإِشَارَةُ بِهَذِهِ إِلَى النَّاقَةِ حِينَ شَاهَدُوا انْفِلَاقَ الصَّخْرَةِ عَنْهَا.
وَإِضَافَةُ النَّاقَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ.
وآيَةً ولَكُمْ حَالَانِ مِنْ نَاقَةٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْحَالِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَسَتَجِيءُ قِصَّةٌ فِي إِعْرَابِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧٢].
وَأَوْصَاهُمْ بِتَجَنُّبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا لِتَوَقُّعِهِ أَنَّهُمْ يَتَصَدَّوْنَ لَهَا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي عِنَادِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَقْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالدَّارُ: الْبَلَدُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٨]، وَذَلِكَ التَّأْجِيلُ اسْتِقْصَاءٌ لَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ.
وَالْمَكْذُوبُ: الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الْكَاذِبُ. يُقَالُ: كَذَبَ الْخَبَرَ، إِذَا اخْتَلَقَهُ

[٦٦- ٦٨]

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٦٦ الى ٦٨]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ هُودٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا مَحْذُوفٌ.
وَعَطْفُ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ عَلَى مُتَعَلِّقِ نَجَّيْنا الْمَحْذُوفِ، أَيْ نَجَّيْنَا صَالِحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَمِنَ الْخِزْيِ الْمُكَيَّفِ بِهِ الْعَذَابُ فَإِنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ بَعْضُهَا أَخْزَى مِنْ بَعْضٍ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعَطْفِ عَطْفُ مِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ لَا عَطْفُ إِنْجَاءٍ عَلَى إِنْجَاءٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْمُتَعَلِّقَ وَلَمْ يَعْطِفِ الْفِعْلَ، كَمَا عَطَفَ فِي قِصَّةِ عَادٍ نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨] لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْجَاءٌ مِنْ عَذَابٍ مُغَايِرٍ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَتَنْوِينُ يَوْمِئِذٍ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ إِذْ جَاءَ أَمْرُنَا.
وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ، وَهُوَ ذُلُّ الْعَذَابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مُعْتَرِضَةٌ.
وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ ثَمُودَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ، أَيْ لِظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ الشِّرْكِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَيْضًا.
وَالصَّيْحَةُ: الصَّاعِقَةُ أَصَابَتْهُمْ.
وَمَعْنَى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا.
وَتَقَدَّمَ شُعَيْبٌ فِي الْأَعْرَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَلَا إِنَّ ثَمُودًا» - بِالتَّنْوِينِ- عَلَى اعْتِبَارِ ثَمُودٍ اسْمِ جَدِّ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، بِدُونِ تَنْوِينٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ اسْمًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ.
وَهُمَا طَرِيقَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ الْمُسَمَّاةِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْدَادِ الْأَعْلَيْنَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤].
[٦٩- ٧٣]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥].
115
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِه القصّة هود: الْمَوْعِظَةُ بِمَصِيرِ قَوْمِ لُوطٍ إِذْ عَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مُجَادَلَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَقُدِّمَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِذَلِكَ وَلِلتَّنْوِيهِ بِمَقَامِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ، وَلِذَلِكَ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْحِكَايَةِ فِي الْقَصَصِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا نَحْوَ وَإِلى عادٍ [هود: ٥٠] إِلَخْ.
وَالرُّسُلُ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: ١].
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ. لِلتَّبْشِيرِ وَالْبِشَارَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥]. هَذِهِ الْبُشْرَى هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ لِأَنَّ بِشَارَةَ زَوْجِهِ بِابْنٍ بِشَارَةٌ لَهُ أَيْضًا.
وَالْبَاءُ فِي بِالْبُشْرى لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِأَجْلِ الْبُشْرَى فَهِيَ مُصَاحِبَةٌ لَهُمْ كَمُصَاحَبَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا.
وَجُمْلَةُ قالُوا سَلاماً فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِلْبُشْرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْبُشْرَى، وَإِنَّ مَا اعْتُرِضَ بَيْنَهَا حِكَايَةُ أَحْوَالٍ، وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٤].
وسَلاماً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَقَعَ بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمْنَا سَلَامًا.
وسَلامٌ الْمَرْفُوعُ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَمْرِي سَلَامٌ، أَيْ لَكُمْ، مِثْلَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَرَفْعُ الْمَصْدَرِ أَبْلَغُ مِنْ نَصْبِهِ، لِأَنَّ الرّفع فِيهِ تناسي مَعْنَى الْفِعْلِ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. وَلِذَلِكَ خَالَفَ بَيْنَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَدَّ السَّلَامَ بِعِبَارَةٍ أَحْسَنَ مِنْ عِبَارَةِ الرُّسُلِ زِيَادَةً فِي الْإِكْرَامِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَيَّا الْخَلِيلُ بِأَحْسَنِ مِمَّا حُيِّيَ بِهِ، أَيْ نَظَرًا إِلَى الْأَدَبِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ لَنَا فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النِّسَاء: ٨٦]،
116
فَحُكِيَ ذَلِكَ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَدَاءً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْكَلْدَانِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قالَ سَلامٌ- بِفَتْحِ السِّينِ وَبِأَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخلف: قالَ سَلامٌ- بِكَسْرِ السِّينِ وَبِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ اسْمُ الْمُسَالَمَةِ. وَسُمِّيَتْ بِهِ التَّحِيَّةُ كَمَا سُمِّيَتْ بِمُرَادِفِهِ (سَلَامٌ) فَهُوَ مِنْ بَابِ اتِّحَادِ وَزْنِ فَعَّالٍ وَفِعْلٍ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلَ: حَرَامٌ وَحَرْمٌ، وَحَلَالٌ وَحَلٌّ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما لَبِثَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْقِيبِ إِسْرَاعًا فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَتَعْجِيلِ الْقِرَى سُنَّةٌ عَرَبِيَّةٌ: ظَنَّهُمْ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَاسًا فَبَادَرَ إِلَى قِرَاهِمْ.
وَاللُّبْثُ فِي الْمَكَانِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ عَنْهُ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ. وأَنْ جاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ لَبِثَ، أَيْ فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ مَجِيئُهُ مُصَاحِبًا لَهُ، أَيْ بَلْ عَجَّلَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ فَاعِلِ لَبِثَ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيُقَدَّرُ جَارٌّ لِ جاءَ.
وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ بِأَنْ جَاءَ بِهِ. وَانْتِفَاءُ اللُّبْثِ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَجَلِ.
وَالْحَنِيذُ: الْمَشْوِيُّ، وَهُوَ المحنوذ. وَالشَّيْء أَسْرَعُ مِنَ الطَّبْخِ، فَهُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَعْجِيلِ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ.
وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَشَدُّ فِي عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ (لَا تَتَنَاوَلُهُ).
وَيُقَالُ: نَكِرَ الشَّيْءَ إِذَا أَنْكَرَهُ أَيْ كَرِهَهُ.
وَإِنَّمَا نَكِرَهُمْ لِأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ إِمْسَاكَهُمْ عَنِ الْأَكْلِ لِأَجْلِ التَّبَرُّؤِ مِنْ طَعَامِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ فِي عَادَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا كَانَ النَّازِلُ بِالْبَيْتِ يُضْمِرُ شَرًّا لِمُضِيفِهِ، لِأَنَّ أَكْلَ طَعَامِ الْقِرَى كَالْعَهْدِ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ، فَإِذَا انْكَفَّ أَحَدٌ عَنْ تَنَاوُلِ الْإِحْسَانِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمُسَالَمَةَ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ كَفُورًا لِلْإِحْسَانِ.
117
وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُ نَكِرَهُمْ بِ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، أَيْ أَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْهُمْ وَأَضْمَرَ ذَلِكَ. وَمَصْدَرُهُ الْإِيجَاسُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ شَرًّا لَهُ، أَيْ حَسِبَهُمْ قُطَّاعًا، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْدَهُ.
وَجُمْلَةُ قالُوا لَا تَخَفْ مَفْصُولَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الْجَوَابَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ظَهَرَ أَثَرُهَا عَلَى مَلَامِحِهِ، فَكَانَ ظُهُورُ أَثَرِهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إِنِّي خِفْتُ مِنْكُمْ، وَلِذَلِكَ أَجَابُوا مَا فِي نَفْسِهِ بِقَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحْكَى بِهَا الْمُحَاوَرَاتُ، أَوْ هُوَ جَوَابُ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، أَيْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي خِفْتُ مِنْكُمْ، كَمَا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٥٢] قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. وَمِنْ شَأْنِ النَّاسِ إِذَا امْتَنَعَ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِ طَعَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: لَعَلَّكَ غَادِرٌ أَوْ عَدُوٌّ، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْوَافِدِ: أَحَرْبٌ أَمْ سِلْمٌ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ مُكَاشَفَةً مِنْهُمْ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنَةٌ لِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ.
وَالْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ كَرَامَةُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَصُدُورُهُمْ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أُرْسِلْنا أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ، إِيجَازًا لِظُهُورِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَعَبَّرَ عَنِ الْأَقْوَامِ الْمُرَادِ عَذَابُهُمْ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ قَوْمِ لُوطٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ اسْمٌ يَجْمَعُهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى نَسَبٍ بَلْ كَانُوا خَلِيطًا مِنْ فَصَائِلَ عُرِفُوا بِأَسْمَاءِ قُرَاهُمْ، وَأَشْهَرُهَا سَدُومُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَوْجَسَ، لِأَنَّ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَتْ حَاضِرَةً تُقَدِّمُ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ كَعَادَةِ الْعَرَبِ مِنْ بَعْدِهِمْ أَنَّ رَبَّةَ الْمَنْزِلِ تَكُونُ خَادِمَةَ الْقَوْمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَالْعَرُوسُ خَادِمُهُمْ»
. وَقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ التَّمِيمِيُّ:
118
يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالِ الْقَوْمِ وَالْغُرَبَا
وَقَدِ اخْتُصِرَتِ الْقِصَّةُ هُنَا اخْتِصَارًا بَدِيعًا لِوُقُوعِهَا فِي خِلَالِ الْحِوَارِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحِكَايَةُ ذَلِكَ الْحِوَارِ اقْتَضَتْ إِتْمَامَهُ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ. وَأَمَّا الْبُشْرَى فَقَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [٢٨] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا اقْتَضَى تَرْتِيبُ الْمُحَاوَرَةِ تَقْدِيمَ جُمْلَةِ قالُوا لَا تَخَفْ حُكِيَتْ قِصَّةُ الْبُشْرَى وَمَا تَبِعَهَا مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بِطَرِيقَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ تَصْلُحُ لِلْقَبْلِيَّةِ وَلِلْمُقَارَنَةِ وَلِلْبَعْدِيَّةِ، وَهِيَ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ.
وَإِنَّمَا ضَحِكَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِغُلَامٍ، وَكَانَ ضَحِكُهَا ضَحِكَ تَعَجُّبٍ وَاسْتِبْعَادٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي التّوراة فِي الْإِصْلَاح الثَّامِنِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ سَارَّةُ امْرَأَتُكَ؟ فَقَالَ: هَا هِيَ فِي الْخَيْمَةِ.
فَقَالُوا: يَكُونُ لِسَارَّةَ امْرَأَتِكَ ابْنٌ، وَكَانَتْ سَارَّةُ سَامِعَةً فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَضَحِكَتْ سَارَّةُ فِي بَاطِنِهَا قَائِلَةً: أَفَبِالْحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ؟ فَقَالَ الربّ: لماذَا ضَحِكَتْ سَارَّةُ؟ فَأَنْكَرَتْ سَارَّةُ قَائِلَةً لَمْ أَضْحَكْ، لِأَنَّهَا خَافَتْ، قَالَ: لَا بَلْ ضَحِكْتِ»
.
وَتَفْرِيعُ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ على جملَة فَضَحِكَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ لِأَنَّهَا مَا ضَحِكَتْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ بَشَّرَهَا الْمَلَائِكَةُ بِابْنٍ، فَلَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ بَشَّرُوهَا بِابْنِ الِابْنِ زِيَادَةً فِي الْبُشْرَى. وَالتَّعْجِيبُ بِأَنْ يُولَدَ لَهَا ابْنٌ وَيَعِيشَ وَتَعِيشَ هِيَ حَتَّى يُولَدَ لِابْنِهَا ابْنٌ. وَذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْعَجَبِ لِأَنَّ شَأْنَ أَبْنَاءِ الشُّيُوخِ أَنْ يَكُونُوا مَهْزُولِينَ لَا يَعِيشُونَ غَالِبًا إِلَّا مَعْلُولَيْنِ، وَلَا يُولَدُ لَهُمْ فِي الْأَكْثَرِ وَلِأَنَّ شَأْنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يُولَدُ لَهُمْ أَنْ لَا يُدْرِكُوا يَفْعَ أَوْلَادِهِمْ بَلْهُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ.
وَلَمَّا بَشَّرُوهَا بِذَلِكَ صَرَّحَتْ بِتَعَجُّبِهَا الَّذِي كَتَمَتْهُ بِالضَّحِكِ، فَقَالَتْ:
119
يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، فَجُمْلَةُ قالَتْ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ.
وَ (يَعْقُوبُ) مُبْتَدَأٌ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ الْحَالِ.
وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ يَعْقُوبَ بِفَتْحَةٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ عَطْفٌ عَلَى إِسْحاقَ. وَفُصِلَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وَخَطْبُهُ سَهْلٌ وَإِنِ اسْتَعْظَمَهُ ظَاهِرِيَّةُ النُّحَاةِ كَأَبِي حَيَّانَ بِقِيَاسِ حَرْفِ الْعَطْفِ النَّائِبِ هُنَا مَنَابَ الْجَارِّ عَلَى الْجَارِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ إِذْ كَوْنُ لَفْظٍ بِمَعْنَى لَفْظٍ لَا يَقْتَضِي إِعْطَاءَهُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَالنِّدَاءُ فِي يَا وَيْلَتى اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَنْزِيلِ الْوَيْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ حَتَّى تُنَادَى، كَأَنَّهَا تَقُولُ: يَا وَيْلَتِي احْضُرْ هُنَا فَهَذَا مَوْضِعُكَ.
وَالْوَيْلَةُ: الْحَادِثَةُ الْفَظِيعَةُ وَالْفَضِيحَةُ. وَلَعَلَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْوَيْلِ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ، يُقَالُ: يَا وَيْلَتِي.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَة يَا وَيْلَتى - بِفَتْحَةٍ مُشْبَعَةٍ فِي آخِرِهِ بِأَلْفٍ-. وَالْأَلِفُ الَّتِي فِي آخر يَا وَيْلَتى هُنَا يَجُوزُ كَوْنُهَا عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَلِفُ الِاسْتِغَاثَةِ الْوَاقِعَةِ خَلَفًا عَنْ لَامِ الِاسْتِغَاثَةِ. وَأَصِلُهُ: يَا لِوَيْلَةَ. وَأَكْثَرُ مَا تَجِيءُ هَذِهِ الْأَلِفُ فِي التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ عَجِبَ، نَحْوَ: يَا عَجَبًا، وَبِاسْمِ شَيْءٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، نَحْوَ: يَا عُشْبًا.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِإِمَالَةٍ وَلَمْ يُقْرَأْ بِالْإِمَالَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُتِبَ بِصُورَةِ الْيَاءِ عَلَى أَصْلِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ. وَجُمْلَةُ أَنَا عَجُوزٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّعَجُّبِ.
وَالْبَعْلُ: الزَّوْجُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣١]، فَانْظُرْهُ.
120
وَزَادَتْ تَقْرِيرَ التَّعَجُّبِ بِجُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً فِي أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ لِتَحْقِيقِ بُشْرَاهُمْ.
وَجُمْلَةُ هَذَا بَعْلِي مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى هَذَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ بَعْلِي، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَهُوَ كَمَا تَرَى. وَانْتَصَبَ شَيْخاً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُبَيِّنَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِشَارَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ- بِرَفْعِ شَيْخٍ- عَلَى أَنَّ (بَعْلِي) بَيَانٌ مِنْ (هَذَا) وَ (شَيْخٌ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَقَدْ جَرَتْ عَلَى هَذِه الْقِرَاءَة النادرة لَطِيفَةٌ وَهِيَ: مَا أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْجَلِيل سَالم أَبُو حَاجِبٍ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ دُعِيَ عِنْدَ بَعْضِ الْأَعْيَانِ فِي بَغْدَادَ إِلَى مَأْدُبَةٍ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ غَنَّتْ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارِ جَارِيَةٌ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ بِبَيْتَيْنِ:
وَقَالُوا لَهَا هَذَا حَبِيبُكِ مُعْرِضٌ... فَقَالَتْ: أَلَا إِعْرَاضُهُ أَهْوَنُ الْخَطْبِ
فَمَا هِيَ إِلَّا نَظْرَةٌ وَابْتِسَامَةٌ فَتَصْطَكُّ رِجْلَاهُ وَيَسْقُطُ لِلْجَنْبِ
فَطَرِبَ كُلُّ مَنْ بِالْمَجْلِسِ إِلَّا أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ: مَا لَكَ لَمْ يُطْرِبْكَ هَذَا؟.
فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَعْذُورٌ يَحْسَبُنِي لَحَنْتُ فِي أَنْ قُلْتُ: مُعْرِضٌ- بِالرَّفْعِ- وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ «وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ» فَطَرِبَ الْمُبَرِّدُ لِهَذَا الْجَوَابِ (١).
وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهَا بِجُمْلَةِ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهَا لِأَنَّهُ تَعَجُّبٌ مُرَادٌ مِنْهُ الِاسْتِبْعَادُ. وأَمْرِ اللَّهِ هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ، أَيْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ
_________
(١) رَأَيْت هَذِه النادرة فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب «الْكِنَايَات» لأبي الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ طبع السَّعَادَة بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٣٢٦ واحسبها دخيلة فِيهِ.
121
قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَاتِ. وَجَوَابُهُمْ جَارٍ عَلَى ثِقَتِهِمْ بِأَنَّ خبرهم حق منبىء عَنْ أَمْرِ الله.
وَجُمْلَة رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ تَعَجُّبِهَا، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي قُوَّةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: لَا عَجَبَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ إِعْطَاءَكِ الْوَلَدَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَبَرَكَةٌ، فَلَا عَجَبَ فِي تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِهَا وَأَنْتُمْ أَهْلٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ فَلَا عَجَبَ فِي وُقُوعِهَا عِنْدَكُمْ.
وُوَجْهُ تَعْلِيلِ نَفْيِ الْعَجَبِ بِهَذَا أَنَّ التَّعَجُّبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صُدُورِ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَخْصِيصِ اللَّهِ بِهِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَامْرَأَتَهُ فَكَانَ قَوْلهم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ مُفِيدًا تَعْلِيلَ انْتِفَاءِ الْعَجَبَيْنِ.
وَتَعْرِيفُ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ حُضُورٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَاضِرُ بَينهم الَّذِي جرفى فِيهِ هَذَا التَّحَاوُرُ، أَيْ بَيْتُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْمَعْنَى أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ اخْتِصَاصًا لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ تَعْلِيلٌ لِتَوَجُّهِ رَحْمَتِهِ وَبَرَكَاتِهِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْمَدُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَبِأَنَّهُ مَجِيدٌ، أَيْ عَظِيمُ الشَّأْنِ لَا حَدَّ لِنِعَمِهِ فَلَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا وَلَدًا، وَفِي اخْتِيَارِ وَصْفِ الْحَمِيدِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كِنَايَةٌ عَنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ
السّلام- وَأَهله.
122

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٦]

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
التَّعْرِيفُ فِي الرَّوْعُ وَفِي الْبُشْرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ آنِفًا، فَالرَّوْعُ: مُرَادِفُ الْخِيفَةِ.
وَقَوْلُهُ: يُجادِلُنا هُوَ جَوَاب فَلَمَّا صِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ كَقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨]. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُحَاوَرَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ:
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧].
وَقَوْلُهُ: فِي قَوْمِ لُوطٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ. وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَالْمُرَادُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعَيِّنُهُ الْمَقَامُ، كَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُهَا.
وَالْمُجَادَلَةُ هُنَا: دُعَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ سَأَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ الْعَفْوَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ خَشْيَةَ إِهْلَاكِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ.
وَقَدْ تَكُونُ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ. وَعُدِّيَتْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جِدَالِ الْمَلَائِكَةِ التَّعَرُّضُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِصَرْفِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ.
وَالْحَلِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ وَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَاحْتِمَالَ الْأَذَى.
وَالْأَوَّاهُ أَصْلُهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَهُوَ قَوْلُ: أَوِّهِ. وَأَوِّهِ: اسْمُ فِعْلٍ نَائِبٍ مَنَابَ أَتَوَجَّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِهُمُومِ النَّاسِ.
وَالْمُنِيبُ مَنْ أَنَابَ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ. وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ، أَيْ مُحَاسِبٌ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْهُ.
وَحَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَتَرْكِهِ.
وَجُمْلَةُ يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَقُولُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَوْ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ
السَّلَامُ- فَإِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: أَمْرُ رَبِّكَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ.
وَأمر اللَّهِ قَضَاؤُهُ، أَيْ أَمر تكوينه.
[٧٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧٧]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود:
٧٠]. فَالتَّقْدِيرُ: فَفَارَقُوا إِبْرَاهِيمَ وَذَهَبُوا إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا، فَحَذَفَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ إِيجَازًا قُرْآنِيًّا بَدِيعًا.
وَقَدْ جَاءُوا لُوطًا كَمَا جَاءُوا إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَظَنَّهُمْ نَاسًا وَخَشِيَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ قَوْمُهُ بِعَادَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، فَلِذَلِكَ سِيءَ بِهِمْ.
وَمَعْنَى ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ضَاقَ ذَرْعَهُ بِسَبَبِهِمْ، أَيْ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ فَحَوَّلَ الْإِسْنَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ تَمْيِيزًا لِأَنَّ إِسْنَادَ الضِّيقِ إِلَى صَاحِبِ الذَّرْعِ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالذَّرْعُ: مَدُّ الذِّرَاعِ فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ. وَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْبَعِيرِ فَهُوَ مَدُّ ذِرَاعَيْهِ فِي السَّيْرِ عَلَى قَدْرِ سَعَةِ خُطْوَتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ضَاقَ ذَرْعًا
124
تَمْثِيلًا بِحَالِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُرِيدُ مَدَّ ذِرَاعِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَدَّهَا كَمَا يُرِيدُ فَيَكُونُ ذَرْعُهُ أَضْيَقَ مِنْ مُعْتَادِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِحَالِ الْبَعِيرِ الْمُثْقَلِ بِالْحِمْلِ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَدَّ ذِرَاعَيْهِ كَمَا اعْتَادَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِحَالِ مَنْ لَمْ يَجِدْ حِيلَةً فِي أَمر يُرِيد علمه؟
بِحَالِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ مَدَّ ذِرَاعِهِ كَمَا يَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يُنَاجِي الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ.
وَالْعَصِيبُ: الشَّدِيدُ فِيمَا لَا يُرْضِي. يُقَالُ: يَوْمٌ عَصِيبٌ إِذَا حَدَثَ فِيهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَوْ أَحْوَالِ الْجَوِّ كَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ. وَهُوَ بِزِنَةِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: اعْصَوْصَبَ الشَّرُّ اشْتَدَّ. قَالُوا: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِكَ:
عَصَبْتَ الشَّيْءَ إِذَا شَدَدْتَهُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّة يُفِيد الشدّة وَالضَّغْطَ، يُقَالُ: عَصَبَ الشَّيْءَ إِذَا لَوَاهُ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ. وَيُقَالُ: عَصَبَتْهُمُ السُّنُونُ إِذَا أَجَاعَتْهُمْ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى فِعْلٍ مُجَرَّدٍ
لِوَصْفِ الْيَوْمِ بِعَصِيبٍ. وَأَرَادَ: أَنَّهُ سَيَكُونُ عَصِيبًا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ السَّيِّئَةِ وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ نَهَارًا.
وَمِنْ بَدِيعِ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَسْبِقُ إِلَى نَفْسِ الْكَارِهِ لِلْأَمْرِ أَنْ يُسَاءَ بِهِ وَيَتَطَلَّبُ الْمُخَلِّصَ مِنْهُ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا، ثُمَّ يُصْدِرُ تَعْبِيرًا عَنِ الْمَعَانِي وَتَرْتِيبًا عَنْهُ كَلَامًا يُرِيحُ بِهِ نَفْسَهُ.
وَتَصْلُحُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْ تَكُونَ مِثَالًا لِإِنْشَاءِ الْمُنْشِئِ إِنْشَاءَهُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الْحُصُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هَذَا أَصْلُ الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ تَكُنْ فِي الْكَلَامِ دَوَاعِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَدَوَاعِي الْحَذف وَالزِّيَادَة.
125

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧٨]

وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
أَيْ جَاءَهُ بَعْضُ قَوْمِهِ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْمَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَجِيءِ دأبهم وَقد تمالؤوا عَلَى مِثْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ فَسَيَعْقُبُهُ مَجِيءُ بَعْضٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَهَذَا مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيلَةِ إِذا فعله بَعْضهَا، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بن وَعْلَةَ الْجَرْمِيِّ:
قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَةَ أَخِي فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
ويُهْرَعُونَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ- فَسَّرُوهُ بِالْمَشْيِ الشَّبِيهِ بِمَشْيِ الْمَدْفُوعِ، وَهُوَ بَيْنَ الْخَبَبِ وَالْجَمْزِ، فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَشْيُ الْأَسِيرِ الَّذِي يُسْرَعُ بِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ الْهَرْعَ هُوَ دَفْعُ الْمَاشِي حِينَ مَشْيِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ تُنُوسِيَ، وَبَقِيَ أَهْرَعَ بِمَعْنَى سَارَ سَيْرًا كَسَيْرِ الْمَدْفُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتَزَمُوا فِيهَا صِيغَةَ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُسْنَدَةٌ إِلَى فَاعِلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. وَفَسَّرَهُ فِي «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» بِأَنَّهُ الِارْتِعَادُ مِنْ غَضَبٍ أَوْ خَوْفٍ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَجُمْلَةُ يُهْرَعُونَ حَالٌ.
وَقَدْ طَوَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْغَرَض الَّذِي جاؤوا لِأَجْلِهِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَقَدْ صَارَتْ لَهُمْ دَأْبًا لَا يَسْعَوْنَ إِلَّا لِأَجْلِهِ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ غَرَضَهُمْ مِنْ مَجِيئِهِمْ، فَهُوَ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَمَّا تَلَقَّاهُمْ بِهِ.
وَبَادَرَهُمْ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ تَرْقِيقٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَصَلُّبَهُمْ فِي عَادَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود: ٧٩]، كَمَا سَيَأْتِي.
126
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى بَناتِي. وبَناتِي بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذُوهُنَّ.
وَجُمْلَةُ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَرْضِ. وَمَعْنَى هُنَّ أَطْهَرُ أَنَّهُنَّ حَلَالٌ لَكُمْ يَحُلْنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ قُصِدَ بِهِ قُوَّةُ الطَّهَارَةِ.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمْعٍ، إِذْ بُيِّنَ بِقَولِهِ: بَناتِي.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ابْنَتَانِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَنَاتِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُنَّ كَبَنَاتِي. وَأَرَادَ نِسَاءً مِنْ قَوْمِهِ بِعَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ جَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِهِنَّ لِقَوْمِهِ إِذْ قَالَ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا عِنْدَهُ كَثِيرُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ النِّسَاءُ فَتَزَوَّجُوهُنَّ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحَامِلِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتِ صُلْبِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ قَتَادَةَ. وَإِذْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ابْنَتَانِ صَارَ الْجَمْعُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاثْنَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤].
وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ.
وَتَعْتَرِضُ هَذَا الْمَحْمَلَ عَقَبَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَكَيْفَ تَكْفِيهِمْ بِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ؟!.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ بَناتِي عَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَكَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ هَذِهِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْبَنَاتِ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ تَزْوِيجًا لَمْ يَكْفِينَ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَزْوِيجٍ فَمَا هُوَ؟.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْقَوْم الَّذين جاؤوه بِقَدْرِ عَدَدِ بَنَاتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعَ بَنَاتِهِ حَتَّى مِنْ قَوْمِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ
127
لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي بَنَاتِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصرفا بِوَصْف النبوءة بِالْوَحْيِ لِلْمَصْلَحَةِ
أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِبَاحَةُ تَمْلِيكِ الْأَبِ بَنَاتِهِ إِذَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ شُرَكَاءَ فِي مِلْكِ بَنَاتِهِ كَانَ اسْتِمْتَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَلَالًا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ الْبِغَاءُ مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ.
وَأَمَّا لَحَاقُ النَّسَبِ فِي أَوْلَادِ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالَّذِي تَلِيطُهُ أُمُّهُ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَغَايَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْأَوْلَادُ بِآبَاءٍ فَيَكُونُوا لَاحِقِينَ بِأُمَّهَاتِهِمْ مثل ابْن الزِّنَى وَوَلَدِ اللِّعَانِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّحْلِيلُ مُبَاحًا ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَهُوَ مِمَّا يُشْرَعُ شَرْعًا مُؤَقَّتًا مِثْلَ مَا شُرِعَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُحَرَّمًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَدِ اشْتَغَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ تَحْرِيرِ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ تَزْوِيجِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ فُضُولٌ.
وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أَنْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَاتَّقُوا اللَّهَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا تُخْزُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. وَأَثْبَتَهَا أَبُو عَمْرٍو.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالْمَذَلَّةُ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَرَادَ مَذَلَّتَهُ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. جَعَلَ الضَّيْفَ كَالظَّرْفِ، أَيْ لَا تَجْعَلُونِي مَخْزِيًّا عِنْدَ ضَيْفِي إِذْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى فِي ضِيَافَتِي، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِوَارٌ عِنْدِ رَبِّ الْمَنْزِلِ، فَإِذَا لَحِقَتِ الضَّيْفَ إِهَانَةٌ كَانَتْ عَارًا عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ.
وَالضَّيْفٌ: الضَّائِفُ، أَيِ النَّازِلُ فِي مَنْزِلِ أَحَدٍ نُزُولًا غَيْرَ دَائِمٍ، لِأَجْلِ مُرُورٍ فِي سَفَرٍ أَوْ إِجَابَةِ دَعْوَةٍ.
128
وَأَصْلُ ضَيْفٍ مَصْدَرُ فِعْلِ ضَافَ يَضِيفُ، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ، وَعَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ غَيْرِ الْمَصْدَرِ فَيُجْمَعُ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا وَقَدْ ظَنَّ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا مَارِّينَ بِبَيْتِهِ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالطَّعَامِ وَالْمَبِيتِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ إِهَانَةَ الضَّيْفِ مَسَبَّةٌ لَا
يَفْعَلُهَا إِلَّا أَهْلُ السَّفَاهَةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ بِمَعْنَى بَعْضُكُمْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَمَالُؤَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَانْعِدَامِ رَجُلٍ رَشِيدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهَذَا إِغْرَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّعَقُّلِ لِيَظْهَرَ فِيهِمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ إِلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ فَيَنْهَاهُمْ، فَإِنَّ ظُهُورَ الرَّشِيدِ فِي الْفِئَةِ الضَّالَّةِ يَفْتَحُ بَابَ الرَّشَادِ لَهُمْ. وَبِالْعَكْسِ تَمَالُؤُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَزِيدُهُمْ ضراوة بِهِ.
[٧٩، ٨٠]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٠]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
ولَقَدْ عَلِمْتَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ يَعْلَمُ. فَأُكِّدَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَعْلَمُ لِأَنَّ حَالَهُ فِي عَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خُلُقَهُمْ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا رَغْبَةٌ فِي بَنَاتِكَ وَإِنَّكَ تَعْلَمُ مُرَادَنَا.
129
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦٥].
وَمَا الْأُولَى نَافِيَةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَمَا الثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ.
وَالْحَقُّ: مَا يَحِقُّ، أَيْ يَجِبُ لِأَحَدٍ أَوْ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَيُقَالُ: مَا لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، بِمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالشَّيْءِ وَعَنِ التَّجَافِي عَنْهُ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ لَمْ أَرَ مثله، وَقد تحيّر الْمُفَسِّرُونَ فِي تَقْرِيرِهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ رَغْبَةٌ.
وَجَوَابُهُ بِ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً جَوَابُ يَائِسٍ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ.
ولَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي، وَهَذَا أَقْصَى مَا أَمْكَنَهُ فِي تَغْيِيرِ هَذَا الْمُنْكَرِ.
وَالْبَاءُ فِي بِكُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ عَلَيْكُمْ. يُقَالُ: مَا لِي بِهِ قُوَّةٌ وَمَا لِي بِهِ طَاقَةٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ [الْبَقَرَة: ٢٤٩].
وَيَقُولُونَ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ، أَيْ قُدْرَةٌ أَوْ حِيلَةٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: لَيْتَ لِي قُوَّةً أَدْفَعُكُمْ بِهَا، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُوَّةَ أَنْصَارٍ لِأَنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ.
وَمَعْنَى أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَوْ أَعْتَصِمُ بِمَا فِيهِ مَنَعَةٌ، أَيْ بِمَكَانٍ أَوْ ذِي سُلْطَانٍ يَمْنَعُنِي مِنْكُمْ.
وَالرُّكْنُ: الشِّقُّ مِنَ الْجَبَلِ المتّصل بِالْأَرْضِ.
130

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٨١]

قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
هَذَا كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَاشَفُوهُ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذْ قَدْ كَانُوا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَكَانُوا حَاضِرِي الْمُجَادَلَةِ حَكَى كَلَامَهُمْ بِمِثْلِ مَا تُحْكَى بِهِ الْمُحَاوَرَاتُ فَجَاءَ قَوْلُهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى نَحْوِ مَا حُكِيَ قَوْلُ: لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْلُ قَوْمِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي كَلَّمُوا بِهِ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَ بِلُوطٍ تَوَقُّعُ أَذَى ضَيْفِهِ مَبْلَغَ الْجَزَعِ وَنَفَادَ الْحِيلَةِ جَاءَهُ نَصْرُ اللَّهِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رُسُلِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا [يُوسُف: ١١٠].
وَابْتَدَأَ الْمَلَائِكَةُ خِطَابَهُمْ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالتَّعْرِيفِ بِأَنْفُسِهِمْ لِتَعْجِيلِ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ عَلِمَ أَنَّهُمْ مَا نَزَلُوا إِلَّا لِإِظْهَارِ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: ٨]. ثُمَّ أَلْحَقُوا هَذَا التَّعْرِيفَ بِالْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ. وَجِيءَ بِحَرْفِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَاطَبُوهُ بِمَا يُزِيلُ الشَّكَّ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَنْ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَرَجَعُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَلَوْ أَزَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ التَّشَكُّلَ بِالْأَجْسَادِ الْبَشَرِيَّةِ فَأَخْفَاهُمْ عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ لَحَسِبُوا أَنَّ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْفَاهُمْ فَكَانُوا يُؤْذُونَ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وَلَمْ يَقُولُوا لَنْ يَنَالُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَعْلَمُوا لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مَا كَانَ يَشُكُّ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَنَالُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَخْشَى سَوْرَتَهُمْ أَنْ يَتَّهِمُوهُ بِأَنَّهُ أَخْفَاهُمْ.
وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ أَعْمَى أَبْصَارَ الْمُرَاوِدِينَ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ
131
ضَيْفِهِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ ضَيْفَ لُوطٍ سَحَرَةٌ فَانْصَرَفُوا. وَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [٣٧]
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ.
وَجُمْلَةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ فَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِالسُّرَى عَلَى جُمْلَةِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ لِمَا فِي حَرْفِ لَنْ مِنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ. فَلَمَّا رَأَى ابْتِدَاءَ سَلَامَتِهِ مِنْهُمْ بِانْصِرَافِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَبِنَجَاتِهِ، فَذَلِكَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَ (أَسْرِ) أَمْرٌ بِالسُّرَى- بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَصْرِ-. وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِلسَّيْرِ فِي اللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَفِعْلُهُ: سَرَى يُقَالُ بِدُونِ هَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: أَسْرَى بِالْهَمْزَةِ.
قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ- عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ سَرَى. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْرَى.
وَقَدْ جَمَعُوهُ فِي الْأَمْرِ مَعَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إِذَا سَرَى بِهِمْ فَقَدْ سَرَى بِنَفْسِهِ إِذْ لَوْ بَعَثَ أَهْلَهُ وَبَقِيَ هُوَ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَسْرِ بِهِمْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَذْهَبْتُ زَيْدًا وَبَيْنَ ذَهَبْتُ بِهِ.
وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-: الْجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالِالْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِمُغَادَرَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ التَّقَصِّي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْهِجْرَةِ غَضَبًا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ التَّعَلُّقَ بِالْوَطَنِ وَلَوْ تَعَلُّقَ الرُّؤْيَةَ. وَكَانَ تَعْيِينُ اللَّيْلِ لِلْخُرُوجِ كَيْلَا يُلَاقِي مُمَانَعَةً مِنْ قَوْمِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِهِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ دِفَاعُهُمْ.
132
وَ (إِلَّا امْرَأَتَكَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَهْلِكَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِكَ وَذَلِكَ كَلَامٌ مُوجَبٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْرِ بِهَا، أُرِيدَ أَنْ لَا يُعْلِمَهَا بِخُرُوجِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُخْلِصَةً لِقَوْمِهَا فَتُخْبِرُهُمْ عَنْ زَوْجِهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِرَفْعِ- امْرَأَتَكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدٌ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. قِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُمْ ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَنَّتْ إِلَى قَوْمِهَا فَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الِالْتِفَاتِ فَامْتَثَلُوا وَلَمْ تَمْتَثِلِ امْرَأَتُهُ لِلنَّهْيِ فَالْتَفَتَتْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَّا امْرَأَتَكَ
تَلْتَفِتُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَهُمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: مَا يُصِيبُهُمْ، فاستعمال فعل المضيء لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ، أَوْ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١].
وَجُمْلَةُ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُطِعَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا اهْتِمَامًا وَتَهْوِيلًا.
وَالْمَوْعِدُ: وَقْتُ الْوَعْدِ. وَالْوَعْدُ أَعَمُّ مِنَ الْوَعِيدِ فَيُطْلَقُ عَلَى تَعْيِينِ الشَّرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَوْعِدِ هُنَا مَوْعِدُ الْعَذَاب الَّذِي عمله لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِمَّا بِوَحْيٍ سَابِقٍ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ طَوَتْهُ الْآيَةُ هُنَا إِيجَازًا، وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ صَحَّ تَعْرِيفُ الْوَعْدِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ صَدَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا عَن سُؤال بِجَيْش فِي نَفْسِهِ مِنِ اسْتِبْطَاءِ نُزُولِ الْعَذَابِ.
133
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي مَثَلِهِ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ إِرْخَاءً لِلْعِنَانِ مَعَ الْمُخَاطَبِ الْمُقَرَّرِ لِيَعْرِفَ خَطَأَهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي أوّل اللَّيْل.
[٨٢، ٨٣]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٨٢ إِلَى ٨٣]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.
وَقَوْلُهُ: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ تَعَودُ الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَجْرُورَةُ بِالْإِضَافَةِ وَبِحَرْفِ (عَلَى) عَلَى الْقَرْيَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ السِّيَاقِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَرْيَةَ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمِ انْقِلَابَ خَسْفٍ حَتَّى صَارَ عَالِيَ الْبُيُوتِ سَافِلًا، أَيْ وَسَافِلُهَا عَالِيًا، وَذَلِكَ مِنَ انْقِلَابِ الْأَرْضِ بِهِمْ.
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ جَعْلِ الْعَالِي سَافِلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْإِهَانَةِ.
وَالسِّجِّيلُ: فُسِّرَ بِوَادٍ نَارٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ: سِجِّيلٌ بِاللَّامِ، وَسَجِّينٌ بِالنُّونِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ بِحِجَارَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ سِجِّيلِ جَهَنَّمَ، كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَجِلْدُهَا مِنْ أَطُومِ الْبَيْتِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنَ السَّمَاءِ. وَلَعَلَّ الْخَسْفَ فَجَّرَ مِنَ الْأَرْضِ بَرَاكِينَ قَذَفَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَةَ مَعَادِنٍ مُحْرِقَةٍ كَالْكِبْرِيتِ، أَوْ لَعَلَّ بُرْكَانًا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مُدُنِهِمُ انْفَجَرَ بِاضْطِرَابَاتٍ أَرْضِيَّةٍ ثُمَّ زَالَ مِنْ ذَلِكَ
134
الْمَكَانِ بِحَوَادِثَ تَعَاقَبَتْ فِي الْقُرُونِ، أَوْ طَمَى عَلَيْهِ الْبَحْرُ وَبَقِيَ أَثَرُ الْبَحْرِ عَلَيْهَا حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بُحَيْرَةَ لُوطٍ أَوِ الْبَحْرَ الْمَيِّتَ.
وَقِيلَ: سِجِّيلٌ مُعَرَّبُ (سَنْكَ جِيلَ) عَنِ الْفَارِسِيَّةِ أَيْ حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ.
وَالْمَنْضُودُ: الْمَوْضُوعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ مُتَتَالِيَةٌ فِي النُّزُولِ لَيْسَ بَيْنَهَا فَتْرَةٌ. وَالْمُرَادُ وَصْفُ الْحِجَارَةِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ سِجِّيلٍ، أُجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَى سِجِّيلٍ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى وَصْفِ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهُ.
وَالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي لَهَا سِيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَالْعَلَامَاتُ تُوضَعُ لِأَغْرَاضٍ، مِنْهَا عَدَمُ الِاشْتِبَاهِ، وَمِنْهَا سُهُولَةُ الْإِحْضَارِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمُعَدَّةِ الْمُهَيَّئَةِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ مِنْ لَوَازِمَ التَّوْسِيمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّ تَسْوِيمَهَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ تَقْدِيرُهُ إِيَّاهَا لَهُمْ.
وَضَمِيرُ وَما هِيَ يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمَجْرُورَةُ قَبْلَهُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا تِلْكَ الْقرْيَة بِبَعِيد من الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْعَرَبِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا فَيَنْظُرُ مَصِيرَهَا، فَالْمُرَادُ الْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ. وَيَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْحِجَارَةِ، أَيْ وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ بِبَعِيدٍ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِهَا. وَالْبُعْدُ بِمَعْنَى تَعَذُّرِ الْحُصُولِ وَنَفْيِهِ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَجُرِّدَ بَعِيدٍ عَنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ الْحِجَارَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ لَفْظًا، وَمَعَ كَوْنِ بَعِيدٍ هُنَا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَالشَّأْنُ أَنْ يُطَابِقَ مَوْصُوفَهُ فِي تَأْنِيثِهِ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يُجْرُونَ فَعِيلًا الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إِذَا جَرَى عَلَى مُؤَنَّثٍ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [٥٦] إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب:
٦٣] وَقَوْلِهِ: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨]. وَقِيلَ:
135
إِنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مَرْيَم: ٢٨] مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَيْ بَاغِيَةٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَعُولٌ بَغُويٌ فَوَقَعَ إِبْدَالٌ وَإِدْغَامٌ. وَتَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِشَيْء بعيد عَن الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مُعَادِ ضمير هِيَ.
[٨٤- ٨٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٨٤ إِلَى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قَوْلُهُ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً- إِلَى قَوْلِهِ- مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: ٦١] إِلَخْ.
أَمَرَهُمْ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مِنْ إِصْلَاحِ الْعُقُولِ وَالْفِكْرِ.
وَثَالِثُهَا: صَلَاحُ الْأَعْمَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِي الْعَالَمِ بِأَنْ لَا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ.
وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: وَهُوَ شَيْءٌ مِنْ صَلَاحِ الْعَمَلِ خُصَّ بِالنَّهْيِ لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَيْهِ كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ حَتَّى نَسُوا مَا فِيهِ مِنْ قُبْحٍ وَفَسَادٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَفُّ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ.
فَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّلَاحِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَظْلَمَةٍ كَانَتْ مُتَفَشِّيَةً فِيهِمْ، وَهِيَ خِيَانَةُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ
136
الْأَعْرَافِ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ خَصْلَتَيِ السَّرِقَةِ وَالْغَدْرِ، لِأَنَّ الْمُكْتَالَ مُسْتَرْسِلٌ مُسْتَسْلِمٌ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَعَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فَعَزَّزَهُ بِالْأَمْرِ بِضِدِّهِ وَهُوَ إِيفَاؤُهُمَا.
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أَنَّكُمْ بِخَيْرٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ رُؤْيَتَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ شُكْرُهَا. وَالْبَاءُ فِي بِخَيْرٍ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالْخَيْرُ: حُسْنُ الْحَالَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨٠].
وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ هُنَا لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ فِي غِنًى عَنْ هَذَا التَّطْفِيفِ بِمَا أُوتِيتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي قُبْحَ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي نَظَرِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَيَقْطَعُ مِنْهُمُ الْعُذْرَ فِي ارْتِكَابِهِ. وَهَذَا حَثٌّ عَلَى وَسِيلَةِ بَقَاءِ النِّعْمَةِ.
ثُمَّ ارْتَقَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يَحِلُّ بِهِمْ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا. وَلِصُلُوحِيَّتِهِ لِلْأَمْرَيْنِ أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَعِصْيَانِ وَاهِبِهَا.
ومُحِيطٍ وصف ل يَوْمٍ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ مُحِيطٌ عَذَابُهُ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ إِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَيْهِ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي جُمْلَةِ وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّنْبِيهِ لِمَضْمُونِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْأَمْرُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ نَقْصِهِمَا.
وَالشَّيْءُ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩]. لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيفَاءِ بِطَلَبِ حُصُولِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْقِسْطِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهُوَ مُتَعَلق ب أَوْفُوا فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِيفَاءَ
137
يُلَابِسُهُ الْقِسْطُ، أَيِ الْعَدْلُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ ظُلْمٌ وَجُورٌ وَهُوَ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ.
وَالْقِسْطُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨].
وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ. وَتَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُفَسَّرًا. وَذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ تَذْيِيلٌ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. لِأَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ فِي أَشْيَائِهِمْ، وَتَعْدِيَةُ تَبْخَسُوا إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِاعْتِبَارِهِ ضِدَّ أَعْطَى فَهُوَ مِنْ بَابِ كَسَا.
وَالْعَثْيُ- بِالْيَاءِ- مِنْ بَابِ سَعَى وَرَمَى وَرَضِيَ، وَبِالْوَاوِ كَدَعَا، هُوَ: الْفَسَادُ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا مِثْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ.
وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ كُلِّهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْمِيمُ أَمَاكِنِ الْفَسَادِ.
وَالْفَسَادُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١].
وَقَدْ حَصَلَ النَّهْيُ عَنِ الْأَعَمِّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْعَامِّ، وَبِهِ حَصَلَتْ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ:
بِالْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ الْخَاصِّ، ثُمَّ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِ التَّعْمِيمِ الْأَعَمِّ بِتَعْمِيمِ الْمَكَانِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِهِ بِالْمُؤَكِّدِ اللَّفْظِيِّ.
وَسَلَكَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْفَسَادِ مَسْلَكَ التَّدَرُّجِ فَابْتَدَأَهُ بنهيهم عَن نوح مِنَ الْفَسَادِ فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَهُوَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى لِلْفَسَادِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكْمَةِ فِي تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ بِقَبُولِ الْإِرْشَادِ وَالْكَمَالِ.
138
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ غَايَةُ الْمُفْسِدِ مِنَ الْإِفْسَادِ اجْتِلَابَ مَا فِيهِ نَفْعٌ عَاجِلٌ لَهُ مِنْ نَوَالِ مَا يُحِبُّهُ أَعْقَبَ شُعَيْبٌ مَوْعِظَتَهُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَهُوَ النَّفْعُ الْبَاقِي هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الْمَتَاعِ العاجل.
وَلَفظ بَقِيَّتُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مِنْهَا: الدَّوَامُ، وَمُؤْذِنَةٌ بِضِدِّهِ وَهُوَ الزَّوَالُ، فَأَفَادَتْ أَنَّ مَا يَقْتَرِفُونَهُ مَتَاعٌ زَائِلٌ، وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَظٌّ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ، وَبَقَاؤُهُ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ دُنْيَوِيًّا فَلِأَنَّ الْكسْب الْحَلَال ناشىء عَنِ اسْتِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ فِطْرِيٍّ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ تَرَاضٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَلَا يَحْنَقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى آخِذِهِ فَيُعَادِيهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهِ الدَّوَائِرَ فَبِتَجَنُّبِ ذَلِكَ تَبْقَى الْأُمَّةُ فِي أَمْنٍ مِنْ تَوَثُّبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنَ الْأَمْوَالَ بِالدِّمَاءِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
فَكَمَا أَنَّ إِهْرَاقَ الدِّمَاءِ بِدُونِ حَقٍّ يُفْضِي إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي بَيْنَ الْأُمَّةِ فَكَذَلِكَ انْتِزَاعُ الْأَمْوَالِ بِدُونِ وَجْهِهَا يُفْضِي إِلَى التَّوَاثُبِ وَالتَّثَاوُرِ فَتَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلِابْتِزَازِ وَالزَّوَالِ. وَأَيْضًا فَلِأَنَّ نَوَالَهَا بِدُونِ رِضَى اللَّهِ عَنْ وَسَائِلِ أَخْذِهَا كُفْرَانٌ لِلَّهِ يُعَرِّضُ إِلَى تَسْلِيطِ عِقَابِهِ بِسَلْبِهَا مِنْ أَصْحَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا».
وَأَمَّا كَوْنُهُ أُخْرَوِيًّا فَلِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ عَنْهَا مُقَارَنٌ لِلْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَلَى تَرْكِهَا، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مَرْيَم: ٧٦].
عَلَى أَنَّ لفظ (الْبَقِيَّة) يحْتَمل مَعْنًى آخَرَ مِنَ الْفَضْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْخَيْرِ
وَالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَّا مَا يَحْتَفِظُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ النَّفَائِسُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَتِ (الْبَقِيَّةُ) عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمُبَارَكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ [الْبَقَرَة: ٢٤٨]،
139
وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [هود: ١١٦] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ أَوْ رُوَيْشِدٌ الطَّائِيُّ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتٌ
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: الْمَعْنَى ثُمَّ يَأْتِينِي خِيَارُكُمْ وَأَمَاثِلُكُمْ يُقِيمُونَ الْمَعْذِرَةَ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ:
فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَهْلٍ، أَيْ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ.
وَفِي كَلِمَةِ (الْبَقِيَّةِ) مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ عِنْدَ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ: ابْقُوا عَلَيْنَا، وَيَقُولُونَ «الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى:
قَالُوا الْبَقِيَّةَ- وَالْهِنْدِيُّ يَحْصُدُهُمْ وَلَا بَقِيَّةَ إِلَّا الثَّارُ- وَانْكَشَفُوا
وَقَالَ مِسْوَرُ بْنُ زِيَادَةَ الْحَارِثِيُّ:
أُذَكَّرُ بِالْبُقْيَا عَلَى مَنْ أَصَابَنِي وَبُقْيَايَ أَنِّي جَاهِدٌ غَيْرُ مُؤْتَلِي
وَالْمَعْنَى إِبْقَاءُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَنَجَاتُكُمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ الْعَاجِلَةِ السَّيِّئَةِ الْعَاقِبَةَ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ الِاسْتِئْصَالِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَالِحَةٌ هُنَا.
وَلَعَلَّ كَلَامَ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِهَا فَحَكَاهُ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ.
وَإِضَافَةُ (بَقِيَّةٍ) إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا جَمْعًا وَتَفْرِيقًا إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَيَمُّنٍ. وَهِيَ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ مِنْ فَضْلِهِ أَوْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَفَاسِدَهُمْ وَيَرْتَكِبُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرًا لَهُمْ، فَمَوْقِعُ الشَّرْطِ هُوَ كَوْنُ الْبَقِيَّةِ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا تَكُونُ الْبَقِيَّةُ خَيْرًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
140
وَجَاءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الِاتِّصَافِ بِالْفِعْلِ فِي زَمَانِ الْحَالِ تَقْرِيبًا لِإِيمَانِهِمْ بِإِظْهَارِ الْحِرْصِ عَلَى حُصُولِهِ فِي الْحَالِ وَاسْتِعْجَالًا بِإِيمَانِهِمْ لِئَلَّا يَفْجَأَهُمُ الْعَذَابُ فَيَفُوتُ التَّدَارُكُ.
وَجُمْلَةُ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اعْبُدُوا وَنَظَائِرِهِ، أَيِ
افْعَلُوا ذَلِكَ بِاخْتِيَارِكُمْ لِأَنَّهُ لِصَلَاحِكُمْ وَلَسْتُ مُكْرِهِكُمْ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالْحَفِيظُ: الْمُجْبِرُ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٧]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ لِئَلَّا يَشْمَئِزُّوا مِنَ الْأَمْرِ. وَهَذَا اسْتِقْصَاءٌ فِي التَّرْغِيبِ وَحسن الْجِدَال.
[٨٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٨٧]
قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
كَانَتِ الصَّلَاةُ مِنْ عِمَادِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَكَانَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُلْحِدُونَ قد تمالؤوا فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى إِنْكَارِهَا وَالِاسْتِهْزَاءِ بِفَاعِلِهَا أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣]، فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَخَصَّ أَعْمَالِهِ الْمُخَالِفَةِ لِمُعْتَادِهِمْ جَعَلُوهَا الْمُشِيرَةَ عَلَيْهِ بِمَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أُمُورٍ مُخَالِفَةٍ لِمُعْتَادِهِمْ- بِنَاءً عَلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ فِي مُخَالَفَةِ الْمُعْتَادِ- قَصْدًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِ وَالسُّخْرِيَةِ عَلَيْهِ تَكْذِيبًا لَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَإِسْنَادُ الْأَمْرِ إِلَى الصَّلَوَاتِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَأْمُرُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ صَلَاتَهُ تَأْمُرُهُ بِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ، أَيْ تَأْمُرُهُ بِأَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى تَرْكِ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. إِذْ مَعْنَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِعَمَلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَشْيَاءَ.
141
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمَعْبُودَاتِ. وَمَعْنَى تَرَكِهَا تَرْكُ عِبَادَتِهَا كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَعْبُدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ: أَنْ نَتْرُكَ مِثْلَ عِبَادَةِ آبَائِنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَصَلَوَاتُكَ» بِصِيغَةِ جَمْعِ صَلَاةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ «أَصَلَاتُكَ» بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ.
وأَوْ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا لِتَقْسِيمِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَّجِرُ فَلَا يُطَفِّفُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ. فَقَوْلُهُ: أَنْ نَفْعَلَ عَطْفٌ عَلَى مَا يَعْبُدُ آباؤُنا، أَيْ أَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ فِي أَمْوَالِنَا فَنَكُونَ طَوْعَ أَمْرِكَ نَفْعَلُ مَا تَأْمُرُنَا بِفِعْلِهِ وَنَتْرُكُ مَا تَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْجَمْعِ، كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَجَعَلُوهُ عَطْفًا عَلَى نَتْرُكَ فَتَوَجَّسُوا عَدَمَ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَتَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْآخَرُ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَحَدُهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَالْآخَرُ عَلَى تَأْوِيلِ فِعْلِ تَأْمُرُكَ وَكِلَاهُمَا تَكَلُّفٌ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُ فَصَارُوا إِلَى صَرْفِ أَوْ عَنْ مُتَعَارَفِ مَعْنَاهَا وَقَدْ كَانُوا فِي سَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ. وَسَكَتَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِثْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ». وَأَوْمَأَ الْبَغَوِيُّ وَالنَّسَفِيُّ إِلَى مَا صَرَّحْنَا بِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ اسْتِئْنَافُ تَهَكُّمٍ آخَرَ. وَقَدْ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَلَامِ الْقَسَمِ، وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي جُمْلَةِ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَاشْتَمَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ.
وَالْحَلِيمُ، زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ: ذُو الْحِلْمِ أَيِ الْعَقْلِ، وَالرَّشِيدُ: الْحَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي المَال.
142

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٨٨]

قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقِصَّةِ صَالِحٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.
وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ الْحَسَنِ هُنَا مِثْلُ الْمُرَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي كَلَامِ نُوحٍ وَكَلَامِ صَالِحٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهُوَ نعْمَة النبوءة، وَإِنَّمَا عَبَّرَ شُعَيْبٌ- عَلَيْهِ السّلام- عَن النبوءة بِالرِّزْقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا [هود: ٨٧] لِأَنَّ الْأَمْوَالَ أَرْزَاقٌ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي. وَالتَّقْدِيرُ: مَاذَا يَسَعُكُمْ فِي تَكْذِيبِي، أَوْ مَاذَا يُنْجِيكُمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِي، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ عَلَى فَرْضِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، أَيْ فَالْحَزْمُ أَنْ تَأْخُذُوا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، أَوْ فَالْحَزْمُ أَنْ تَنْظُرُوا فِي كُنْهِ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لِصَلَاحِكُمْ.
وَمَعْنَى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ من التّابعين فَمن بَعْدِهِمْ: مَا أُرِيدُ مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ أَنْ أَمْنَعَكُمْ أَفْعَالًا وَأَنَا أَفْعَلُهَا، أَيْ لَمْ أَكُنْ لِأَنْهَاكُمْ عَنْ شَيْءٍ وَأَنَا أَفْعَلُهُ. وَبَيَّنَ فِي «الْكَشَّافِ» إِفَادَةَ التَّرْكِيبِ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ «يُقَالُ: خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ... وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا» اه.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِضِدِّ حَالِهِ، فَإِذَا ذُكِرَتْ فِي غَرَضٍ دَلَّتْ عَلَى الِاتِّصَافِ بِضِدِّهِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بِذِكْرِ اسْمِ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ
143
بِهِ الْخِلَافُ مَدْخُولًا لِحَرْفِ إِلى الدَّالِ عَلَى الِانْتِهَاءِ إِلَى شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ لِتَضْمِينِ أُخالِفَكُمْ مَعْنَى السَّعْيِ إِلَى شَيْءٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُخالِفَكُمْ، وَيَكُونُ أَنْ أُخالِفَكُمْ مَفْعُولَ أُرِيدُ.
فَقَوْلُهُ: أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ أَيْ أَنْ أَفْعَلَ خِلَافَ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا بِأَنْ أَصْرِفَكُمْ عَنْهَا وَأَنَا أَصِيرُ إِلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَمْرًا يَعُمُّ الْأُمَّةَ وَإِيَّاهُ وَذَلِكَ شَأْنُ الشَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ خِطَابَ الْأُمَّةِ يَشْمَلُ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَفِي هَذَا إِظْهَارُ أَنَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ يَنْهَى أَيْضًا نَفْسَهُ عَنْهُ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِي النَّهْيِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى أَنَّ شَأْنَهُ لَيْسَ شَأْنَ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ أَعْمَالٍ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، لِأَنَّ مثل ذَلِك ينبىء بِعَدَمِ النُّصْحِ فِيمَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، إِذْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ النُّصْحَ وَالْخَيْرَ فِي ذَلِكَ لَاخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْمِي التَّوْبِيخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: ٤٤] أَيْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ كِتَابَ الشَّرِيعَةِ الْعَامَّةِ لَكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَتَعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَوْلَى بِجَلْبِ الْخَيْرِ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمُعَاكَسَةُ وَالْمُنَازَعَةُ إِمَّا لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنْ مَلَامِحِ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوهُ سَاعِيًا إِلَى التَّمَلُّكِ عَلَيْهِمْ وَالتَّجَبُّرِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ نُفُوسِهِمْ خَوَاطِرَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ تَهْجِسَ فِيهَا.
وَهَذَا الْمَحْمَلُ فِي الْآيَةِ يَسْمَحُ بِهِ اسْتِعْمَالُ التَّرْكِيبِ وَمَقَاصِدُ الرُّسُلِ وَهُوَ أَشْمَلُ لِلْمَعَانِي مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي قَصْرُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ قَوْلَ قَوْمِهِ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا [هود: ٨٧]، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ أَنَّهُ مَا قَصَدَ إِلَّا مُخَالَفَتَهُمْ وَتَخْطِئَتَهُمْ وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَكَانَ مُقْتَضَى إِبْطَالِ ظِنَّتِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ أَنْ يُرِيدَ مُجَرَّدَ مُخَالَفَتِهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبِهِ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.
144
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ أَنَّهُ مَا يُرِيدُ مُجَرَّدَ الْمُخَالَفَةِ كَشَأْنِ الْمُنْتَقِدِينَ الْمُتَقَعِّرِينَ وَلَكِنْ يُخَالِفُهُمْ لِمَقْصِدٍ سَامٍ وَهُوَ إِرَادَةُ إِصْلَاحِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا جَاءَ وَفْدُ فَزَارَة إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: «أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ
حَابِسٍ، وَقَالَ عُمَرُ: أَمِّرْ فُلَانًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَى خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى خِلَافِكَ»
. فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَقِدِينَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَنْتَقِدُ الشَّيْءَ وَيَقِفُ عِنْدَ حَدِّ النَّقْدِ دُونَ ارْتِقَاءٍ إِلَى بَيَانِ مَا يُصْلِحُ الْمَنْقُودَ. وَقِسْمٌ يَنْتَقِدُ لِيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِبَيَانِ مَا يُصْلِحُ خَطَأَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُرِيدُ وَكَذَلِكَ أَنْ أُخالِفَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِ أُرِيدُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أُرِيدُ إِلَى النَّهْيِ لِأَجْلِ أَنْ أُخَالِفَكُمْ، أَيْ لِمَحَبَّةِ خِلَافِكُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِرَادَةِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مُجْمَلٌ فِيمَا يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ مِنْ أَضْدَادِ الْمَنْفِيِّ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ الضِّدَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُهُ هُوَ الْإِصْلَاحُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ اسْتِطَاعَتِهِ بِتَحْصِيلِ الْإِصْلَاحِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ.
وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ أَوِ السَّمَوْأَلِ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ عَمَلِهِ وَكَانَ فِي بَيَانِهِ مَا يَجُرُّ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَعْقَبَهُ بِإِرْجَاعِ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فَسَمَّى إِرَادَتَهُ الْإِصْلَاحَ تَوْفِيقًا وَجَعَلَهُ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَجُمْلَةُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُرِيدُ.
145
وَالتَّوْفِيقُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَفْقًا لِآخَرَ، أَيْ طِبْقًا لَهُ، وَلِذَلِكَ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ والدّاعية إِلَى الطَّاعَةِ.
وَجُمْلَة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: تَوْفِيقِي لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا كَالْجُزْءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُسَوِّغُ مَجِيءَ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَالتَّوَكُّلُ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالْإِنَابَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: ٧٥].
[٨٩، ٩٠]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٨٩ إِلَى ٩٠]
وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النُّكْتَةِ فِي إِعَادَةِ النِّدَاءِ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ لِمُخَاطَبٍ مُتَّحِدٍ قَرِيبًا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا فِي أَوَّلِ الْعُقُودِ [٢]، أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ.
وَالشِّقَاقُ: مَصْدَرٌ شَاقَّهُ إِذَا عَادَاهُ. وَقَدْ مَضَتْ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فِي أَوَّلِ الْأَنْفَالِ [١٣].
وَالْمَعْنَى: لَا تَجُرُّ إِلَيْكُمْ عَدَاوَتُكُمْ إِيَّايَ إِصَابَتَكُمْ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَنْهَى الشِّقَاقَ أَنْ يُجَرَّ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ
146
نَهْيُهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا الشِّقَاقَ سَبَبًا لِلْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ، فَيُوقِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِهِ بِإِعْرَاضِهِمْ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ.
وَلَقَدْ كَانَ فَضْحُ سُوءِ نَوَايَاهُمُ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ عَقِبَ إِظْهَارِ حُسْنِ نِيَّتِهِ مِمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨] مُصَادِفًا مَحَزَّ جَوْدَةِ الْخَطَابَةِ إِذْ رَمَاهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِضِدِّ مَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ:
أَنْ يُصِيبَكُمْ وَالْوَاوُ رَابِطَةُ الْجُمْلَةِ. وَلِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَتِهَا إِذِ اعْتُبِرَ قُرْبُ زَمَانِهِمْ بِالْمُخَاطِبِينَ كَأَنَّهُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْبُعْدِ بُعْدُ الزَّمَنِ وَالْمَكَانِ وَالنَّسَبِ، فَزَمَنُ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرُ بَعِيدٍ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالدِّيَارُ قَرِيبَةٌ مِنْ دِيَارِهِمْ، إِذْ مَنَازِلُ مَدْيَنَ عِنْدَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ مُجَاوِرَةٌ مَعَانٍ مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ، وَدِيَارُ قَوْمِ لُوطٍ بِنَاحِيَةٍ الْأُرْدُنِّ إِلَى الْبَحْرِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهُوَ جَدُّ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ، مُتَزَوِّجًا بِابْنَةِ لُوطٍ.
وَجُمْلَةُ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ تَعْلِيل الْأَمر بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا
يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَجَاءِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا وَتَابُوا.
وَتَفَنَّنَ فِي إِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ مَرَّةً وَإِلَى ضَمِيرِ قَوْمِهِ أُخْرَى لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ كَيْلَا يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلِلتَّشَرُّفِ بِانْتِسَابِهِ إِلَى مَخْلُوقِيَّتِهِ.
وَالرَّحِيمُ تَقَدَّمَ.
147
وَالْوَدُودُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْوُدِّ وَهُوَ الْمَحَبَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٩]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بالتّوبة.
[٩١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٩١]
قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)
وَالْفِقْه: الْفَهْمُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨]، وَقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥].
وَمُرَادُهُمْ مِنْ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصْدَ الْمُبَاهَتَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] وَقَوْلِهِ عَنِ الْيَهُودِ:
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الْبَقَرَة: ٨٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا نَتَعَقَّلُهُ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ كَالْمُحَالِ لِمُخَالَفَتِهِ مَا يَأْلَفُونَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَدَمَ فَهْمِ كَلَامِهِ لِأَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ مِقْوَالًا فصيحا، وَوَصفه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَقُولُ مَا لَا نُصَدِّقُ بِهِ. وَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِإِدَانَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَيْهِ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أَيْ وَإِنَّكَ فِينَا لَضَعِيفٌ، أَيْ غَيْرُ ذِي قُوَّةٍ وَلَا مَنَعَةٍ. فَالْمُرَادُ الضَّعْفُ عَنِ الْمُدَافَعَةِ إِذَا رَامُوا أَذَاهُ وَذَلِكَ مِمَّا يُرَى لِأَنَّهُ تُرَى دَلَائِلُهُ وَسِمَاتُهُ.
وَذِكْرُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: ٢٧] بِحَيْثُ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ
148
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَبْصَارِهِمْ فَصَرَّحُوا بِفِعْلِ الرُّؤْيَة. وأكّدوه ب (إنّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُبَالَغَةً فِي تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ
مَنْ يَجْهَلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِيهِ، أَوْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِ حَجَلَ بْنِ نَضْلَةَ:
إِنْ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحٌ وَمِنْ فَسَادِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الضَّعِيفِ بِفَاقِدِ الْبَصَرِ وَأَنَّهُ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ فَرَكَّبُوا مِنْهُ أَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أَعْمَى، وَتَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى فَرْضِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ الْعَمَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَوْهَامٍ. وَلَمْ يُعْرَفْ مِنَ الْأَثَرِ وَلَا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ مَا فِيهِ أَنَّ شُعَيْبًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أَعْمَى.
وَعَطَفُوا عَلَى هَذَا قَوْلَهُمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِمَّا مُهِّدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ، أَيْ لَا يَصُدُّنَا عَنْ رَجْمِكَ شَيْءٌ إِلَّا مَكَانُ رَهْطِكَ فِينَا، لِأَنَّكَ أَوْجَبْتَ رَجْمَكَ بِطَعْنِكَ فِي دِينِنَا.
وَالرَّهْطُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى رَجُلٍ أُرِيدَ بِهِ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ كَثِيرًا، فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الرَّهْطِ الَّذِي أَصْلُهُ الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا قَوْمَكَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ قَدْ نَبَذُوهُ. وَكَانَ رَهْطُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ خَاصَّةٍ أَهْلِ دِينِ قَوْمِهِ فَلِذَلِكَ وَقَّرُوهُمْ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْ قَرِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ مَا يُؤْذِيهِ لِقَرَابَتِهِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَصَرَهُ رَهْطُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْصُرُونَ مَنْ سَخِطَهُ أَهْلُ دِينِهِمْ. عَلَى أَنَّ قَرَابَتَهُ مَا هُمْ إِلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ لَا يُخْشَى بَأْسُهُمْ وَلَكِنَّ الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لِقَرَابَتِهِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُخْلِصِينَ لِدِينِهِمْ.
فَالْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ لَوْلا يُقَدَّرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَقَوْلُهُ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [هود: ٩٢]، فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا وَإِنَّمَا عِزَّةُ الرَّجُلِ بِحُمَاتِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ وُجُودَ رَهْطِهِ الْمَانِعِ مِنْ رَجْمِهِ وُجُودٌ خَاصٌّ وَهُوَ وُجُودُ التَّكْرِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا رَهْطُكَ مُكَرَّمُونَ عِنْدَنَا لَرَجَمْنَاكَ.
149
وَالرَّجْمُ: الْقَتْلُ بِالْحِجَارَةِ رَمْيًا، وَهُوَ قِتْلَةُ حَقَارَةٍ وَخِزْيٍ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَنْ يَخْلَعُ دِينَهُ الرَّجْمُ فِي عَوَائِدِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى كَوْنُهُ قَوِيًّا فِي نُفُوسِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ كَفَّهُمْ عَنْ رَجْمِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ مَا كَانَ إِلَّا لِأَجْلِ إِكْرَامِهِمْ رَهْطَهُ لَا لِلْخَوْفِ مِنْهُمْ.
وَإِنَّمَا عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ أَنَّ حَقَّ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنْ تُفْصَلَ وَلَا
تُعْطَفَ لِأَنَّهَا مَعَ إِفَادَتِهَا تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ أَفَادَتْ أَيْضًا حُكْمًا يَخُصُّ الْمُخَاطَبَ فَكَانَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَدِيرَةً بِأَنْ تُعْطَفَ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ أَحْوَالَهُ مِثْلَ جُمْلَةِ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَالْجُمَلِ بعْدهَا.
والعزة: الْقَوْم وَالشِّدَّةُ وَالْغَلَبَةُ. وَالْعَزِيزُ: وَصْفٌ مِنْهُ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْوَقْعِ عَلَى النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَة: ١٢٨]، أَيْ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَعْنَى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أَنَّكَ لَا يُعْجِزُنَا قَتْلُكَ وَلَا يَشْتَدُّ عَلَى نُفُوسِنَا، أَيْ لِأَنَّكَ هَيِّنٌ عَلَيْنَا وَمُحَقَّرٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ لَكَ مَنْ يَنْصُرُكَ مِنَّا. وَعِزَّةُ الْمَرْءِ عَلَى قَبِيلَةٍ لَا تَكُونُ غَلَبَةَ ذَاتِهِ إِذْ لَا يَغْلِبُ وَاحِدٌ جَمَاعَةً، وَإِنَّمَا عِزَّتُهُ بِقَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ فَمَعْنَى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ غَلَبَتَنَا.
وَقَصْدُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْذِيرُهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُخَالَفَةِ رَهْطِهِ بِأَنَّهُمْ يُوشِكُ أَنْ يَخْلَعُوهُ وَيُبِيحُوا لَهُمْ رَجْمَهُ. وَهَذِهِ مَعَانٍ جِدُّ دَقِيقَةٍ وَإِيجَازٌ جِدُّ بَدِيعٍ.
وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بِمُفِيدٍ تَخْصِيصًا وَلَا تقويا.
150

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٩٢]

قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)
لَمَّا أَرَادُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي وَجَّهُوهُ إِلَيْهِ تَحْذِيرَهُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُخَالَفَةِ دِينِهِمْ، أَجَابَهُمْ بِمَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُعَوِّلًا عَلَى عِزَّةِ رَهْطِهِ وَلَكِنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ مِنْ كُلِّ عَزِيزٍ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَضْمُونَ هَذَا الْخَبَرِ وَلَيْسَ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا رَهْطِي أَغْلَبُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تُعَامِلُونِي بِأَنِّي غَيْرُ عَزِيزٍ عَلَيْكُمْ وَلَا بِأَنَّ قَرَابَتِي فِئَةٌ قَلِيلَةٌ لَا تُعْجِزُكُمْ لَوْ شِئْتُمْ رَجْمِي.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ لِكَلَامِهِ وَأَنَّهُ مُتَبَصِّرٌ فِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيِ اللَّهُ أَعَزُّ مِنْ رَهْطِي، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَازِهِ بِاللَّهِ لَا بِرَهْطِهِ فَلَا يُرِيبُهُ عَدَمُ عِزَّةِ رَهْطِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَعِزَّتُهُ بِعِزَّةِ مُرْسِلِهِ.
وَجُمْلَةُ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيِ اللَّهُ أَعَزُّ فِي حَالِ أَنَّكُمْ نَسِيتُمْ ذَلِكَ. وَالِاتِّخَاذُ: الْجَعْلُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٤].
وَالظِّهْرِيُّ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- نِسْبَةٌ إِلَى الظَّهْرِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ، وَالتَّغْيِيرَاتُ فِي الْكَلِمِ لِأَجْلِ النِّسْبَةِ كَثِيرَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالظِّهْرِيِّ الْكِنَايَةُ عَنِ النِّسْيَانِ، أَوِ الِاسْتِعَارَةُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَوْضُوعَ بِالْوَرَاءِ يُنْسَى لِقِلَّةِ مُشَاهَدَتِهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ الشَّيْءَ الْمَجْعُولَ خَلْفَ الظَّهْرِ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ ظِهْرِيًّا حَالًا مُؤَكِّدَةً لِلظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: وَراءَكُمْ إِغْرَاقًا فِي مَعْنَى النِّسْيَانِ لِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالْأَصْنَامِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَوْ عَنْ مُلَاحَظَةِ صِفَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ تَعْلِيلٌ لِمَفْهُومِ جُمْلَةِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ تَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ وَاسْتِنْصَارُهُ بِهِ.
وَالْمُحِيطُ: الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ فَاعِلُ الْإِحَاطَةِ. وَأَصْلُ الْإِحَاطَةِ: حِصَارُ شَيْءٍ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ مِثْلَ إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ وَالسُّورِ بِالْبَلْدَةِ وَالسُّوَارِ بِالْمِعْصَمِ. وَفِي «الْمَقَامَاتِ الْحَرِيرِيَّةِ» :
«وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ أَخْلَاطُ الزُّمَرِ، إِحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ، وَالْأَكْمَامِ بِالثَّمَرِ». وَيُطْلَقُ مَجَازًا فِي قَوْلِهِمْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكَذَا، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، بِمَعْنَى عِلْمِ كُلِّ مَا يَتَضَمَّنُ أَنْ يُعْلَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَحُذِفَ التَّمْيِيزُ وَأُسْنِدَتِ الْإِحَاطَةُ إِلَى الْعَالِمِ بِمَعْنَى: إِحَاطَةِ عِلْمِهِ، أَيْ شُمُولِ عِلْمِهِ لِجَمِيعِ مَا يُعْلَمُ فِي غَرَضٍ مَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الْجِنّ: ٢٨] أَيْ عِلْمُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَالْمُرَادُ إِحَاطَةُ عِلْمِهِ.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَا عَلِمَهُ من أَعْمَالهم.
[٩٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٩٣]
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
. عَطَفَ نِدَاءً عَلَى نِدَاءٍ زِيَادَةً فِي التَّنْبِيهِ، وَالْمَقْصُودُ عَطْفُ مَا بَعْدَ النِّدَاءِ الثَّانِي عَلَى مَا بَعْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ.
وَجُمْلَةُ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ. وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَكَانَتِكُمْ، أَيْ حَالُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، أَيِ اعْمَلُوا مَا تُحِبُّونَ أَنْ تَعْمَلُوهُ بِي.
وَجُمْلَةُ إِنِّي عامِلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَلَمْ يَقْرِنْ حَرْفَ سَوْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَاءِ وَقُرِنَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْفَاءِ فَجُمْلَةُ سَوْفَ تَعْلَمُونَ هُنَا جُعِلَتْ مُسْتَأْنَفَةًِِِِ
اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا إِذْ لَمَّا فَاتَحَهُمْ بِالتَّهْدِيدِ كَانَ ذَلِك ينشىء سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يَنْشَأُ عَلَى هَذَا التَّهْدِيدِ فيجاب بالتهديد ب سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَلِكَوْنِهِ كَذَلِكَ كَانَ مُسَاوِيًا لِلتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ الْوَاقِعِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْمَآلِ، وَلَكِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَشْأَةِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ عَنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا فَفِي خِطَابِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْمَهَ مِنَ الشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْخِطَابِ الْمَأْمُور بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ جَرْيًا عَلَى مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللِّينِ لَهُمْ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩]. وَكَذَلِكَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَعْمُولَيْ تَعْلَمُونَ فَهُوَ هُنَا غَلِيظٌ شَدِيدٌ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَهُوَ هُنَالِكَ لَيِّنٌ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ [الْأَنْعَام: ١٣٥].
ومَنْ اسْتِفْهَامٌ مُعَلَّقٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، أَيْ تَعْلَمُونَ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ.
وَالْعَذَابُ: خِزْيٌ لِأَنَّهُ إِهَانَةٌ.
وَالِارْتِقَابُ: التَّرَقُّبُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ رَقَبَهُ إِذَا انْتَظَرَهُ.
وَالرَّقِيبُ هُنَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ رَاقِبٌ، أَيْ كُلٌّ يَرْتَقِبُ مَا يُجَازِيهِ اللَّهُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا أَو مكذّبا.
[٩٤، ٩٥]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
عُطِفَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً [هود: ٥٩] بِالْوَاوِ فِيهِمَا وَعُطِفَ نَظِيرَاهُمَا فِي قِصَّةِ ثَمُودٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً [هود:
٦٦] وَفِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هود: ٨٢] لِأَنَّ قِصَّتَيْ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ كَانَ فِيهِمَا تَعْيِينُ أَجَلِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ النَّبِيئَانِ
153
قَوْمَهُمَا فَفِي قِصَّةِ ثَمُودَ فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: ٦٥]، وَفِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: ٨١] فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا تَرْقُبُ السَّامِعِ
لِمَا حَلَّ بِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْعِدِ فَكَانَ الْمَوْقِعُ لِلْفَاءِ لِتَفْرِيعِ مَا حَلَّ بِهِمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِهِ. وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ تَعْيِينٌ لِمَوْعِدِ الْعَذَابِ وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ فِيهِمَا مُجْمَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ [هود: ٥٧]، وَقَوْلُهُ: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: ٩٣].
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى جاءَ أَمْرُنا إِلَى قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً فِي قِصَّةِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:
٤٤].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ انْقِرَاضُ مَدْيَنَ بِانْقِرَاضِ ثَمُودَ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ التَّمَاثُلُ فِي سَبَبِ عِقَابِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ عَذَابُ الصَّيْحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الِاسْتِطْرَادَ بِذَمِّ ثَمُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ جُرْأَةً فِي مُنَاوَأَةِ رُسُلِ اللَّهِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاخْتِتَامِ الْكَلَامِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ نَاسَبَ أَنْ يُعَادَ ذِكْرُ أَشَدِّهَا كُفْرًا وَعِنَادًا فَشَبَّهَ هَلَكَ مَدْيَنَ بِهَلَكِهِمْ.
وَالِاسْتِطْرَادُ فَنٌّ مِنَ الْبَدِيعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي الِاسْتِطْرَادِ بِالْهِجَاءِ بِالْحَارِثِ أَخِي أَبِي جَهْلٍ:
إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً الَّذِي حَدَّثْتِنِي فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
154

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٩٦ إِلَى ٩٧]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)
عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ. وَعُقِّبَتْ قِصَّةُ مَدْيَنَ بِذِكْرِ بَعْثَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقُرْبِ مَا بَيْنَ زَمَنَيْهِمَا، وَلِشِدَّةِ الصِّلَة بَين النبيئين فَإِنَّ مُوسَى بُعِثَ فِي حَيَاةِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَقَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ شُعَيْبٍ.
وتأكيد الْخَبَر ب (قد) مِثْلَ تَأْكِيدِ خَبَرِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥].
وَالْبَاءُ فِي بِآياتِنا لِلْمُصَاحَبَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْآيَاتِ كَانَ مُصَاحِبًا لِزَمَنِ الْإِرْسَالِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُدَّةُ دَعْوَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ.
وَالسُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ الْمُبِينُ، أَيِ الْمُظْهِرُ صِدْقَ الْجَائِي بِهِ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ
التَّأْيِيدُ الْإِلَهِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذكر فِرْعَوْن وملإه فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَعُقِّبَ ذِكْرُ إِرْسَالِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذِكْرِ اتِّبَاعِ الْمَلَإِ أَمْرَ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ حَصَلَ بِأَثَرِ الْإِرْسَالِ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَمَرَهُمْ بِتَكْذِيبِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ فِرْعَوْنَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الضَّمِيرِ وَالْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَالْإِعْلَانِ بِذَمِّهِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الرُّشْدِ عَنْ أَمْرِهِ.
وَجُمْلَةُ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ حَالٌ مِنْ فِرْعَوْنَ.
وَالرَّشِيدُ: فَعِيلٌ مِنْ رَشَدَ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَفَرِحَ، إِذَا اتَّصَفَ بِإِصَابَةِ الصَّوَابِ. يُقَالُ:
أَرْشَدَكَ اللَّهُ. وَأُجْرِيَ وَصْفُ رَشِيدٍ عَلَى الْأَمْرِ مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَإِنَّمَا الرَّشِيدُ الْآمِرُ مُبَالَغَةً فِي اشْتِمَالِ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِي انْتِفَاءُ الرُّشْدِ فَكَأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَوْصُوفُ
بِعَدَمِ الرُّشْدِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَمْرَ فِرْعَوْنَ سَفَهٌ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ. وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ وَصْفِ أَمْرِهِ بِالسَّفِيهِ إِلَى نَفْيِ الرُّشْدِ عَنْهُ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الِاقْتِدَاءَ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا لَيْسَ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى سَدَادِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُتَّبَعَ فَمَاذَا غرّهم باتباعه.
[٩٨، ٩٩]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٩٨ إِلَى ٩٩]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
جُمْلَةُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فِرْعَوْنَ [هود: ٩٧] الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
وَالْإِيرَادُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَارِدًا، أَيْ قَاصِدًا الْمَاءَ، وَالَّذِي يُورِدُهُمْ هُوَ الْفَارِطُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفَرْطُ.
وَالْوِرْدُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-: الْمَاءُ الْمَوْرُودُ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مفعول، مثل دبح. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ اسْتِعَارَةُ الْإِيرَادِ إِلَى التَّقَدُّمِ بِالنَّاسِ إِلَى الْعَذَابِ، وَهِيَ تَهَكُّمِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِيرَادَ يَكُونُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ وَأَمَّا التَّقَدُّمُ بِقَوْمِهِ إِلَى النَّارِ فَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ.
ويَقْدُمُ مُضَارِعُ قَدَمَ- بِفَتْحِ الدَّالِ- بِمَعْنَى تَقَدَّمَ الْمُتَعَدِّي إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا غَيْرَهُ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فَأَوْرَدَهُمُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِيرَادِ وَإِلَّا
فَقَرِينَةُ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْمَاضِي:
156
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالضَّمِيرُ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ الْمَحْذُوفِ هُوَ الرَّابِطُ وَهُوَ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الشَّرابُ [الْكَهْف: ٢٩]، لِأَنَّ الْوِرْدَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا.
وَالْإِتْبَاعُ: الْإِلْحَاقُ.
وَاللَّعْنَةُ: هِيَ لَعْنَةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
ويَوْمَ الْقِيامَةِ مُتَعَلق ب فَاتَّبَعُوا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ الْأُولَى قُيِّدَتْ بِالْمَجْرُورِ بِحَرْفِ فِي الظَّرْفِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْإِتْبَاعَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِلَعْنَةٍ أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ اللَّعْنَةِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ، أَيْ بِئْسَ الرِّفْدُ هِيَ.
وَالرِّفْدُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، أَيْ مَا يُرْفَدُ بِهِ.
أَيْ يُعْطَى. يُقَالُ: رَفَدَهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا يُعِينُهُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ.
وَفِي حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ إِيجَازٌ لِيَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا لِإِحْدَى اللَّعْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا بَئِيسٌ.
وَإِطْلَاقُ الرِّفْدِ عَلَى اللَّعْنَةِ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَالْمَرْفُودُ: حَقِيقَتُهُ الْمُعْطَى شَيْئًا. وَوُصِفَ الرِّفْدُ بِالْمَرْفُودِ لِأَنَّ كِلْتَا اللَّعْنَتَيْنِ مَعْضُودَةٌ بِالْأُخْرَى، فَشُبِّهَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَهِيَ مَرْفُودَةٌ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْمَرْفُودُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ رفد.
157

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٠٠ إِلَى ١٠١]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
اسْتِئْنَافٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْأَنْبَاءِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ كُلِّهِ مِنَ الْقَصَصِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا بَعْدَهَا.
وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤] فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. وَجُمْلَةُ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْقَصَصَ مَضَى لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ هَذَا الْقَصَصِ الْبَلِيغِ.
وَجُمْلَةُ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ مُعْتَرِضَةٌ. حَالٌ مِنَ الْقُرى.
وقائِمٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَحَصِيدٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْهَا زَرْعٌ قَائِمٌ وَزَرْعٌ حَصِيدٌ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَالْقَائِمُ: الزَّرْعُ الْمُسْتَقِلُّ عَلَى سُوقِهِ. وَالْحَصِيدُ: الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَكِلَاهُمَا مُشَبَّهٌ بِهِ لِلْبَاقِي مِنَ الْقُرَى وَالْعَافِي. وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ مَا كَانَ مِنَ الْقُرَى الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قُرًى قَائِمًا بَعْضُهَا كَآثَارِ بَلَدِ فِرْعَوْنَ كَالْأَهْرَامِ وَبَلْهُوبَةَ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْهَوْلِ) وَهَيْكَلِ الْكَرْنَكِ بِمِصْرَ، وَمِثْلَ آثَارِ نِينَوَى بَلَدِ قَوْمِ يُونُسَ، وَأَنْطَاكِيَّةَ قَرْيَةِ الْمُرْسَلِينَ الثَّلَاثَةِ، وَصَنْعَاءَ بَلَدِ قَوْمِ تُبَّعٍ، وَقُرًى بَائِدَةٍ مِثْلَ دِيَارِ عَادٍ، وَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَرْيَةِ مَدْيَنَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقُرَى الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَاصَّةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاعْتِبَارُ.
158
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي ظَلَمْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرى بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ إِذْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ.
وَفَرَّعَ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَنْفُسِهِمِ انْتِفَاءَ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ التَّرَتُّبُ وَالتَّفْرِيعُ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَنْفُسَهُمْ مَظْهَرُهُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِلْخَلَاصِ مِنْ طَوَارِقِ الْحَدَثَانِ وَلِتَكُونَ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانُوا فِي أَمْنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بَأْسٌ فِي الدُّنْيَا اعْتِمَادًا عَلَى دَفْعِ أَصْنَامِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الضِّدُّ مُضَادًّا لِتَأْمِيلِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيعِ التَّعْرِيضُ بِتَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْعِ الْأَصْنَامِ، فَقَدْ أَيْقَنَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الْأُمَمَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَيْفَ وَهَؤُلَاءِ اقْتَبَسُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا
شَاهَدُوا آثَارَهُ، فَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ.
وَجُمْلَةُ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ عِلَاوَةً وَارْتِقَاءً عَلَى عَدَمِ نَفْعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُهُمْ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ عَنْهُمْ فَحَسْبُ وَلَكِنَّهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا وَخُسْرَانًا، أَيْ زَادَتْهُمْ أَسْبَابَ الْخُسْرَانِ.
وَالتَّتْبِيبُ: مَصْدَرُ تَبَبَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي التِّبَابِ وَهُوَ الْخَسَارَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْفِعْل المقيّد ب لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ.
وَوَجْهُ زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا حِينَئِذٍ أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الطَّمَعِ فِي إِنْقَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ حَالَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ التَّوْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُشَارِكَةِ فِي الصِّفَةِ دُونَ قَيْدِهَا، أَيْ زَادُوهُمْ تَتْبِيبًا قَبْلَ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ زَادَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ فِيهَا انْصِرَافًا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ
159
الرُّسُلِ وَزَادَهُمْ تَأْمِيلُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ كَانَتْ خُرَافَاتُ الْأَصْنَامِ وَمَنَاقِبُهَا الْبَاطِلَةُ مُغْرِيَةً لَهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالضَّلَالِ وَانْحِطَاطِ الْأَخْلَاقِ وَفَسَادِ التَّفْكِيرِ جُرْأَةً عَلَى رُسُلِ اللَّهِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ الْمُسْتَوْجِبُ حُلُولَ عَذَابه بهم.
[١٠٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٠٢]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
الْإِشَارَة إِلَى الْمَذْكُورَة مِنِ اسْتِئْصَالِ تِلْكَ الْقُرَى. وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَخْذُ رَبِّكَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ الَّذِي أَخَذْنَا بِهِ تِلْكَ الْقُرَى أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى.
وَالتَّشْبِيهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْعَاقِبَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجه الشّبه.
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
بَيَانٌ لِلتَّعْرِيضِ وَتَصْرِيحٌ بَعْدَ تَلْوِيحٍ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبك فَاحْذَرُوهُ وحذروا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي هَذَا تَخْلُصٌ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِمَدْحِهِمْ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَيَعْتَبِرُ بِالْعِبْرِ كَقَوْلِهِ:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣].
160
وَجَعَلَ عَذَابَ الدُّنْيَا آيَةً دَالَّةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرَى الظَّالِمَةَ تَوَعَّدَهَا اللَّهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: ٤٧] فَلَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ الدُّنْيَا كَانَ تَحَقُّقُهُ أَمَارَةً عَلَى تَحَقُّقِ الْعَذَابِ الْآخَرِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى أنّ المتكلّم يبتدىء كَلَامًا لِأَجْلِ وَصفه.
وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى الْآخِرَة لأنّ مَا صدقهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُرَاعَاةٌ لِمَعْنَى الْآخِرَةِ.
وَاللَّامُ فِي مَجْمُوعٌ لَهُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَجْمُوعٌ النَّاسُ لِأَجْلِهِ.
وَمَجِيءُ الْخَبَرِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ، أَيْ ثَابِتٌ جَمْعُ اللَّهِ النَّاسَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ تَعَلُّقِ الْجَمْعِ بِالنَّاسِ وَتَمَكُّنِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْيَوْمِ حَتَّى لُقِّبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: ٩].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ لِلْيَوْمِ بِأَنَّهُ يُشْهَدُ. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْفَاعِلِ إِذِ الْمُرَادُ يَشْهَدُهُ الشَّاهِدُونَ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى شَاهِدِينَ مُعَيَّنِينَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهُ شُهُودًا خَاصًّا وَهُوَ شُهُودُ الشَّيْءِ الْمَهُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ مَرْئِيًّا رُؤْيَةً خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى الْمُحَقَّقِ أَيْ مَشْهُودٌ بِوُقُوعِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَقٌّ مَشْهُودٌ، أَيْ عَلَيْهِ شُهُودٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ، وَاضِحٌ لِلْعَيَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى كَثِيرِ الشَّاهِدِينَ إِيَّاهُ لِشُهْرَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، كَقَوْلِ أُمِّ قَيْسٍ الضَّبِيَّةِ:
161
تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمُ وَنَجَا بِرَأْسِ طمرّة ولجام
وَمَشْهَدٌ قَدْ كَفَيْتُ النَّاطِقِينَ بِهِ فِي مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ
فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النِّسَاء: ٤١، ٤٢] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَبَيْنَ جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: ١٠٥] إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُسْتَدِلِّينَ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهِ فِي حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ يَغِيظُ اللَّهَ تعَالَى فَيُعَجِّلُهُ لَهُمْ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى أَجَلٍ حَدَّدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا حَدَّدَ آجَالَ الْأَحْيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وَالْأَجَلُ: أَصْلُهُ الْمُدَّةُ الْمُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ اللَّامِ، كَمَا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٤].
وَالْمَعْدُودُ: أَصْلُهُ الْمَحْسُوبُ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَضْبُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ يَلْزَمُهُ التَّعَيُّنُ، أَوْ كِنَايَةً عَن الْقرب.
162

[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٨]

يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ تَفْصِيلٌ لِمَدْلُولِ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: ١٠٣] الْآيَةَ، وَبَيَّنَتْ عَظَمَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ تَبَعًا لذَلِك التَّفْصِيل. فالقصد الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَتَمْهِيدٌ لَهُ أَفْصَحَ عَنْ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ اقْتَضَاهُ وَضْعُ الِاسْتِطْرَادِ بِتَعْظِيمِ هَوْلِ الْيَوْمِ فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِتَنَاسُبِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ، وَالظُّرُوفُ صَالِحَةٌ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ كَصَلَاحِيَّةِ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ وَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ.
ويَوْمَ مِنْ قَوْله: يَوْمَ يَأْتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (حِينَ) أَوْ (سَاعَةَ)، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ
شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فِي لفظ (يَوْم) و (لَيْلَة) تَوَسُّعًا بِإِطْلَاقِهِمَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ زَمَانِهِمَا إِذْ لَا يَخْلُو الزَّمَانُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي نَهَارٍ أَوْ فِي لَيْلٍ فَذَلِكَ يَوْمٌ أَوْ لَيْلَة فَإِذا أطلقها هَذَا الْإِطْلَاقَ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُمَا إِلَّا مَعْنَى (حِينَ) دُونَ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ وَلَا بِنَهَارٍ وَلَا لَيْلٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَ النَّابِغَةَ:
تَخَيَّرْنَ مِنْ أَنْهَارِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ فَأَضَافَ (أَنْهَارَ) جَمْعَ نَهَارٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَرُوِيَ: مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ.
وَقَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيْرِ:
كَأَنَّ الْقَلْبَ لَيْلَةَ قِيلَ: يُغْدَى... بِلَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ أَوْ يُرَاحُ
163
أَرَادَ سَاعَةَ، قِيلَ: يُغْدَى بِلَيْلَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغْدَى أَوْ يُرَاحُ، فَلَمْ يُرَاقِبْ مَا يُنَاسِبُ لَفْظَ لَيْلَةَ مِنَ الرَّوَاحِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ مَعْنَاهُ حِينَ يَأْتِي، وَضَمِيرُ (يَأْتِي) عَائِدٌ إِلَى يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: ١٠٣] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ وُقُوعُهُ وَحُلُولُهُ كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ [الزخرف: ٦٦].
فَقَوله: يَوْمَ يَأْتِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى فِعْلِهَا لِلْغَرَضِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ حِينِ يَحُلُّ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ. وَالضَّمِيرُ فِي بِإِذْنِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ضمير نُؤَخِّرُهُ [هود: ١٠٤]. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٨]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا حَقُّ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
ونَفْسٌ يَعُمُّ جَمِيعَ النُّفُوسِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَشَمَلَ النُّفُوسَ الْبَرَّةَ وَالْفَاجِرَةَ، وَشَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِ وَكَلَامَ الْمُجَادِلِ عَنْ نَفْسِهِ. وَفُصِّلَ عُمُومُ النُّفُوسِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: ١٠٣]، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّسْجِ لِأَجْلِ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ شِبْهِ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: ١٠٤] إِلَى قَوْلِهِ: بِإِذْنِهِ وَذَلِكَ نَسِيجٌ بَدِيعٌ.
وَالشَّقِيُّ: فَعِيلٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ شَقِيَ، إِذَا تَلَبَّسَ بِالشَّقَاءِ وَالشَّقَاوَةِ، أَيْ سُوءِ الْحَالَةِ
وَشَرِّهَا وَمَا يُنَافِرُ طَبْعَ الْمُتَّصِفِ بِهَا.
وَالسَّعِيدُ: ضِدَّ الشَّقِيِّ، وَهُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالسَّعَادَةِ الَّتِي هِيَ الْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الْخَيِّرَةُ الْمُلَائِمَةُ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا. وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ هُوَ فِي عَذَابٍ وَشِدَّةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي نِعْمَةٍ وَرَخَاءٍ.
164
وَالشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ مِنَ الْمَوَاهِي الْمَقُولَةِ بِالتَّشْكِيكِ فَكِلْتَاهُمَا مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ تَفْصِيلُهُ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إِلَى آخِرِهِ.
وَالزَّفِيرُ: إِخْرَاجُ الْأَنْفَاسِ بِدَفْعٍ وَشِدَّةٍ بِسَبَبِ ضَغْطِ التَّنَفُّسِ. وَالشَّهِيقُ: عَكْسُهُ وَهُوَ اجْتِلَابُ الْهَوَاءِ إِلَى الصَّدْرِ بِشِدَّةٍ لِقُوَّةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّنَفُّسِ.
وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي جَهَنَّمَ الزَّفِيرَ وَالشَّهِيقَ تَنْفِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَصِيرِ إِلَى النَّارِ لِمَا فِي ذِكْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنَ التَّشْوِيهِ بِهِمْ وَذَلِكَ أَخْوَفُ لَهُمْ مِنَ الْأَلَمِ.
وَمَعْنَى مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ التَّأْيِيدُ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَإِلَّا فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَعْرُوفَةَ تَضْمَحِلُّ يَوْمَئِذٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيم: ٤٨] أَوْ يُرَادُ سَمَاوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا.
وإِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَزْمَانِ الَّتِي عَمَّهَا الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: مَا دامَتِ أَيْ إِلَّا الْأَزْمَانُ الَّتِي شَاءَ اللَّهُ فِيهَا عَدَمَ خُلُودِهِمْ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْخَالِدِينَ تَبَعًا لِلْأَزْمَانِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى غَالِبِ إِطْلَاقِ مَا الْمَوْصُولَةِ أَنَّهَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ لِأَنَّ مَا تُطْلَقُ عَلَى الْعَاقِلِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣]. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَرَاتِبُ فِي طُولِ الْمُدَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ ثُمَّ يُعْفَى عَنْهُ، مِثْلَ أَهْلِ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمُ الْجُهَنَّمِيُّونَ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمُ الْخَالِدُونَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكُفَّارُ
. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئ عَن الِاسْتِئْنَاف، لِأَنَّ إِجْمَالَ الْمُسْتَثْنَى يُنْشِئُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: مَا هُوَ تَعْيِينُ الْمُسْتَثْنى أَو لماذَا لَمْ يَكُنِ الْخُلُودُ عَامًّا. وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي الْوَاقِعُ فِي جَانِبِ الَّذِينَ سُعِدُوا فَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
165
أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ التَّائِبِينَ فِي الْعَذَابِ إِلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ بِدُونِ شَفَاعَةٍ، أَوْ بِشَفَاعَةٍ كَمَا
فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «يَدْخُلُ نَاسٌ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا صَارُوا كَالْحُمَمَةِ أُخْرِجُوا وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْجُهَنَّمِيُّونَ»
. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنْ تَوَهُّمُ اسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ ذَلِكَ النَّعِيمَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وُقُوعُ الْمَشِيئَةِ بَلْ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَوْ تَعَلَّقَتِ الْمَشِيئَةُ لَوَقَعَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ دَلَّتِ الْوُعُودُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ إِذَا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ كَانُوا خَالِدِينَ فِيهَا فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ نَعِيمُهَا.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
وَالْمَجْذُوذُ: الْمَقْطُوعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُعِدُوا- بِفَتْحِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَاصِرًا لَا مَفْعُولَ لَهُ لَكِنَّهُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْقَاصِرِ مُعَامَلَةَ الْمُتَعَدِّي فِي مَعْنَى فُعِلَ بِهِ مَا صَيَّرَهُ صَاحِبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: جُنَّ فُلَانٌ، إِذَا فُعِلَ بِهِ مَا صَارَ بِهِ ذَا جُنُونٍ فَ سُعِدُوا بِمَعْنَى أُسْعِدُوا.
وَقِيلَ: سَعِدَ مُتَعَدٍّ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ، يَقُولُونَ: سَعِدَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَسْعَدَهُ. وَخَرَجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أُسْعِدُوا، فَحُذِفَ هَمْزُ الزِّيَادَةِ كَمَا قَالُوا مَجْنُوبٌ (بِمُوَحَّدَةٍ فِي آخِرِهِ)، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رجل مَسْعُود.
166

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٠٩]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّهَا تُكْسِبُ سَامِعَهَا يَقِينًا بِبَاطِلِ مَا عَلَيْهِ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَبِخَيْبَةِ مَا أَمَّلُوهُ فِيهِمْ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّ سَابِقَ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ يُؤْذِنُ بِسُوءِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَ السَّامِعِ أَنْ يَشُكَّ فِي سُوءِ الشِّرْكِ وَفَسَادِهِ.
وَالْخِطَابُ فِي نَحْوِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ يَقْصِدُ بِهِ أَيَّ سامع لَا سامع معيّن سَوَاءٌ كَانَ
مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُعَيَّنًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيكون فَلا تَكُ مَقْصُودًا بِهِ مُجَرَّدُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ كَلِمَةِ: لَا شَكَّ، وَلَا مَحَالَةَ، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ، وَنَحْوَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون تثبيتا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَا تَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّكَ لَقِيتَ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ التَّكْذِيبِ مِثْلَ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ مِنْ أُمَمِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُتَوَارِثِينَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ.
وَالْمِرْيَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-: الشَّكُّ. وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهَا عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ أَوْ تَفَاعَلَ وَافْتَعَلَ.
وَلَمْ يَجِئْ عَلَى وَزْنٍ مُجَرَّدٍ لأنّ أصل المُرَاد الْمُجَادَلَةُ وَالْمُدَافَعَةُ مُسْتَعَارًا مِنْ مَرَيْتُ الشَّاةَ إِذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا يُجَارَى وَلَا يُمَارَى. وَفِي الْقُرْآنِ أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى
[النَّجْم: ١٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الِامْتِرَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ
167
وَمَا فِي قَوْله: مِمَّا يَعْبُدُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ عَنَاهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا فِي نَحْوِ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَهُوَ مِمَّا أُلْهِمْتُ إِلَيْهِ وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١].
وَمَعْنَى الشَّكِّ فِي عِبَادَتِهِمْ لَيْسَ إِلَّا الشَّكُّ فِي شَأْنِهَا، لِأَنَّ عِبَادَتهم مَعْلُومَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ مِرْيَتِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ الشَّكِّ فِيمَا قَدْ يَعْتَرِيهِ مِنَ الشَّكِّ مِنْ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ يَتْرُكُهُمْ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُسْتَأْنَفَةٌ، تَعْلِيلًا لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ عِلَّةً أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دِينُهُمْ عَيْنَ دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ عِقَابًا عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْتُمْ تُوقِنُونَ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ سَيَكُونُ مُمَاثِلًا لِجَزَاءِ أَسْلَافِهِمْ،
لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَمَاثِلَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا كَما يَعْبُدُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْمَصَادِرِ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. التَّقْدِيرُ: إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ.
وَالْآبَاءُ: أُطْلِقَ عَلَى الْأَسْلَافِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَدْنَانِيِّيِنَ كَانَتْ أُمُّهُمْ جُرْهُمِيَّةً، وَهِيَ امْرَأَةُ إِسْمَاعِيلَ، وَجُرْهُمْ مِنْ إِخْوَةِ ثَمُودَ، وَثَمُودُ إِخْوَةٌ لَعَادٍ، وَلِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ أُمُّهُمْ خُزَاعِيَّةً وَهِيَ زَوْجُ قُصَيٍّ. وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ أَتَاهُمْ بِهَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ جَدُّ خُزَاعَةَ.
وَعَبَّرَ عَنْ عِبَادَةِ الْآبَاءِ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ، أَيْ إِلَّا كَمَا اعْتَادَ آبَاؤُهُمْ عِبَادَتَهُمْ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْمُضِيِّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ،
168
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ، تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُمْ سَلَفُهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَعَلَى أَنَّهُمُ اقْتَدَوْا بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْلُولُ، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَعْنَى كَافِ التَّشْبِيهِ لِذَلِكَ. فَالْمَعْنَى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَفَّيْنَا أَسْلَافَهُمْ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِكْمَالُ الشَّيْءِ غَيْرِ مَنْقُوصٍ.
وَالنَّصِيبُ: أَصْلُهُ الْحَظُّ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ (مُوَفُّوهُمْ) وَ (نَصِيبَهُمْ) هُنَا اسْتِعْمَالًا تَهَكُّمِيًّا كَأَنَّ لَهُمْ عَطَاءً يَسْأَلُونَهُ فَوُفُّوهُ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِتَحْقِيقِ التَّوْفِيَةِ زِيَادَةً فِي التَّهَكُّمِ، لِأَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الْمَوْعُودِ بِالْعَطَاءِ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُ الْوَعْدُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ.
وَالْمُرَادُ نَصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ كَمَا اسْتَأْصَلَ الْأُمَمَ السَّابِقَة ببركة
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. [١١٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاض لتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَأْسَ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْمِكَ عَلَيْكَ،
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: ١٠٩].
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّثْبِيتِ فَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢].
وَقَوْلُهُ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ اخْتِلَافُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ فِي تَقْرِيرِ بَعْضِهَا وَإِبْطَالِ بَعْضٍ، وَفِي إِظْهَارِ بَعْضِهَا
169
وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ مِثْلَ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَفِي تَأْوِيلِ الْبَعْضِ عَلَى هَوَاهُمْ، وَفِي إِلْحَاقِ أَشْيَاءَ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٧٩].
فَهَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ فَيَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بَيْنَ مُثْبِتٍ وَنَافٍ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِأَنْوَاعِهِ وَأَحْوَالِهِ يَرْجِعُ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ.
فَجُمِعَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي جَمْعًا بَدِيعًا فِي تَعْدِيَةِ الِاخْتِلَافِ بِحَرْفِ (فِي) الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ كَالْمُلَابَسَةِ، أَيْ فَاخْتُلِفَ اخْتِلَافًا يُلَابِسُهُ، أَيْ يُلَابِسُ الْكِتَابَ.
وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِبَيَانِ الْمُخْتَلِفِينَ وَلَا بِذَمِّهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمُ الْمَذْمُومَ وَهُمُ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى إِدْخَالِ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْهُمُ الْمَحْمُودَ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ عَلَى الْمُبَدِّلِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ [الْمَائِدَة: ٦٦] وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود: ١١١]، بَلْ كَانَ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ.
بُنِيَ فِعْلُ (اخْتُلِفَ) لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ إِلَّا فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ لَا فِي فَاعِلِهِ.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةٍ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: ١٠٩] وَيَكُونُ الِاعْتِرَاضُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] أَيْ وَلَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أَيْ لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ، فَأَهْلَكَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُخَالِفِينَ وَنَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ هُوَ نَائِبُ فَاعِلِ (قُضِيَ). وَالتَّقْدِيرُ: لَوَقَعَ الْعَذَابُ بَيْنَهُمْ، أَيْ فِيهِمْ.
170
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي جَمَاعَةً مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ. وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ مُتَعَلِّقًا بِ (قُضِيَ)، أَيْ لِحُكْمٍ بَيْنَهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُصِيبِ مِنَ الْمُخْطِئِ فِي أَحْكَامِ
الْكِتَابِ فَيَكُونُ تَحْذِيرًا مِنَ الِاخْتِلَافِ، أَيْ أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَمْهَلَ اللَّهُ الْمُخْتَلِفِينَ فَتَرَكَهُمْ فِي شَكٍّ. وَلَيْسَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فَيُوقِفَهُمْ عَلَى تَمْيِيزِ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالْحَذَرِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمْ بَقِيتُمْ فِي شَكٍّ وَلَحِقَكُمْ جَزَاءُ أَعْمَالِكُمْ.
والكلمة هِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةُ وَسُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ. وَهِيَ أَنَّهُ وَكَلَّ النَّاسَ إِلَى إِرْشَادِ الرُّسُلِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ، ثُمَّ إِلَى بَذْلِ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَالسَّعْيِ إِلَى الِاتِّفَاقِ وَنَبْذِ الْخِلَافِ بِصَرْفِ الْأَفْهَامِ السَّدِيدَةِ إِلَى الْمَعَانِي، وَبِالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالتَّبَصُّرِ فِي الْحَقِّ، وَالْإِنْصَافِ فِي الْجَدَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَجْعَلُوا الْحَقَّ غَايَتَهُمْ وَالِاجْتِهَادَ دَأْبَهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ هِيَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالِاهْتِدَاءَ إِلَى الْحَقِّ مُصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَا لِلَّهِ. وَتَمَامُ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَبْذُلُوا اجْتِهَادَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى زِيَادَةِ تَعَقُّلِهِمْ وَتَفْكِيرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٥] وَقَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٧].
وَوَصَفَهَا بِالسَّبْقِ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ، بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهَا، وَبِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى سُنَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلُ.
وَمَعْنَى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ قَضَاءُ اسْتِئْصَالِ الْمُبْطِلِ وَاسْتِبْقَاءِ الْمُحِقِّ، كَمَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُكَذِّبِينَ، وَلَكِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ خِلَافَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْأُمَّةِ كِتَابَهَا.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُخْتَلِفِينَ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
171
وَمُتَعَلِّقُ الْقَضَاءِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، أَيْ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السَّجْدَة: ٢٥].
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: ١٠٩] فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مَا يَعْبُدُونَ [هود: ١٠٩] الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَفِي شَكٍّ مِنْ تَوْفِيَةِ نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَيَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا، فَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى
يَوْمَ مِنْ قَوْله: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: ١٠٥] إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، أَيْ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُهُ، أَيْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ، أَيِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ.
أَمَّا ضَمِيرُ مِنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكِتَابِ، أَيْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ عَلَى شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ فِي كِتَابِهِمْ، أَيْ دُونَ عِلْمٍ يُوجِبُ الْيَقِينَ مِثْلَ اسْتِقْرَاءِ عُلَمَائِنَا لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ يُوجِبُ الظَّنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الْيَقِينِ، كَظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَلَغَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الصَّحِيحَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْكِتَابِ لَا يُعَدُّ اخْتِلَافًا فِي الْكِتَابِ إِذِ الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنَاطُ الذَّمِّ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ لَا فِي التَّفْرِيعِ مِنْ أَدِلَّتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ [هود:
١٠٠].
وَالْمُرِيبُ: الْمُوقِعُ فِي الشَّكِّ، وَوَصْفُ الشَّكِّ بِذَلِكَ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشعر شَاعِر.
172

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١١]

وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
تَذْيِيلٌ لِلْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَ (إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ إِنَّ الثَّقِيلَةِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي بكر عَن عَاص، وَأُعْمِلَتْ فِي اسْمِهَا فَانْتَصَبَ بَعْدَهَا. وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةُ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ يَكْثُرُ إِعْمَالُهَا وَيَكْثُرُ إِهْمَالُهَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (إِنَّ) مُشَدَّدَةً عَلَى الْأَصْلِ.
وبتنوين كُلًّا عوض عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلَّهُمْ، أَيْ كُلَّ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ، وَمِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَ (لَمَا) مُخَفَّفَةٌ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، فَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (مَا) لَامُ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى خَبَرِ- إِنَّ. وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَ (مَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ اللَّامَيْنِ دَفْعًا لِكَرَاهَةِ تَوَالِي مِثْلَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ- مِنْ (لَمَّا).
فَعِنْدَ مَنْ قَرَأَ (إِن) مخفّفة وشدّة الْمِيمَ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تَكُونُ (إِنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَمَّا مَنْ شَدَّدَ النُّونَ (إِنَّ) وَشَدَّدَ الْمِيمَ مِنْ (لَمَّا) وَهُمُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ فَتَوْجِيهُ قِرَاءَتِهِمْ وَقِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ مَا قَالَه الْقُرَّاء: إِنَّهَا بِمَعْنَى (لمن مَا) فَحذف إِحْدَى الْمِيمَاتِ الثَّلَاثِ، يُرِيدُ أَنَّ (لَمَّا) لَيْسَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي صُورَتِهَا كَصُورَةِ حَرْفِ (لَمَّا) فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ (لِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ صُورَةَ النُّطْقِ بِهَا) وَإِنَّمَا هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَامِ الِابْتِدَاءِ وَ (مِنَ) الْجَارَّةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى كَثْرَةِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ أَبِي حَيَّةَ النَّمِرِيِّ:
173
وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
أَيْ نُكْثِرُ ضَرْبَ الْكَبْشِ، أَيْ أَمِيرِ جَيْشِ الْعَدُوِّ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَاقِي مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَة: ١٦] الْآيَةَ. فَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ مَا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، فَلَمَّا قُلِبَتْ نُونُ (مِنْ) مِيمًا لِإِدْغَامِهَا فِي مِيمِ (مَا) اجْتَمَعَ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ الْمِيمُ الْأُولَى تَخْفِيفًا وَهِيَ مِيمُ (مِنْ) لِوُجُودِ دَلِيلٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمِيمُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ نُونُ (مِنْ) فَصَارَ (لَمَّا).
وَلَامُ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لَامُ قَسَمٍ.
وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ مِنْ إِلْحَاقِ الْجَزَاءِ عَنْ عَمَلِهِ بِهِ.
وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ لَلَاقُونَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَعْمَالَهُمْ حَقَّقَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُسَامِحْ فِيهِ. فَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْفَرَّاءِ وَتَبِعَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَنَصْرُ الشِّيرَازِيُّ النَّحْوِيُّ (١) وَمَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ. وَقَدْ أَنْهَاهَا أَبُو شَامَةَ فِي «شَرْحِ مَنْظُومَةِ الشَّاطِبِيِّ» إِلَى سِتَّةِ وُجُوهٍ وَأَنْهَاهَا غَيْرُهُ إِلَى ثَمَانِيَةِ وُجُوهٍ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ تَوْفِيَةِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ فِيهَا سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّوْكِيدَاتِ، أَوَّلُهَا: كَلِمَةُ
(إِنَّ) وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ، وَثَانِيهَا (كَلُّ) وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ، وَثَالِثُهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ)، وَرَابِعُهَا حَرْفُ (مَا) إِذَا جَعَلْنَاهُ مَوْصُولًا عَلَى قَوْلِ
_________
(١) هُوَ نصر بن عَليّ بن مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ الْفَسَوِي الْفَارِسِي الْمَعْرُوف بِأبي مَرْيَم، خطيب شيراز. لَهُ «تَفْسِير الْقُرْآن»، و «شرح إِيضَاح أبي عَليّ الْفَارِسِي». كَانَ حَيا سنة ٥٦٥.
174
الْفَرَّاءِ، وَخَامِسُهَا الْقَسَمُ الْمُضْمَرُ، وَسَادِسُهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، وَسَابِعُهَا النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ.
وَتَوْفِيَةُ أَعْمَالِهِمْ بِمَعْنَى تَوْفِيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، أَيْ إِعْطَاءُ الْجَزَاءِ وَافِيًا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَمِنَ السُّوءِ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اسْتِئْنَافٌ وَتَعْلِيلٌ لِلتَّوْفِيَةِ لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِأَعْمَالِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ جَزَائِهِمْ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُطَابِقًا لِلْعَمَلِ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ. وَذَلِكَ مُحَقّق التوفية.
[١١٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ.
تَرَتَّبَ عَنِ التَّسْلِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [هود:
١١٠] وَعَنِ التَّثْبِيتِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] الْحَضُّ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ قَوِيمٍ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقَامَةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، دَوَامًا جِمَاعُهُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ وَالْحَذَرُ مِنْ تَغْيِيرِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَطَفَ على أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِهِ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الِاسْتِقَامَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ مِنْ دَوَاعِي الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ بِنُهُوضِ فِرَقٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى تَبْدِيلِهِ لِمُجَارَاةِ أَهْوَائِهِمْ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأُمَّةِ عَمْدًا إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِهَا إِنْ هُوَ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافُهَا عَلَى أَحْكَامِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»
، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ حَائِلًا دُونَ ذَلِكَ، إِذِ الِاسْتِقَامَةُ هِيَ الْعَمَلُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا قِيدَ شِبْرٍ. وَمُتَعَلِّقُهَا الْعَمَلُ بِالشَّرِيعَةِ
175
بَعْدَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي عَمْرَةَ الثَّقَفِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»
فَجَعَلَ الِاسْتِقَامَةَ شَيْئًا بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَوُجِّهَ الْأَمر إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنويها بِشَأْنِهِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَما أُمِرْتَ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ الْمُتَلَقِّي لِلْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ ابْتِدَاءً. وَهَذَا تَنْوِيهٌ لَهُ بِمَقَامِ رِسَالَتِهِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِخِطَابِ أُمَّتِهِ بِذَلِكَ بِقَوْلُهُ: وَمَنْ تابَ مَعَكَ. وَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنِ (اسْتَقِمْ). وَمَعْنَى تَشْبِيهُ الِاسْتِقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِمَا أُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِ الِاسْتِقَامَةِ مِمْثَالَةً لِسَائِرِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُجْمَلِ بِالْمُفَصَّلِ فِي تَفْصِيلِهِ بِأَنْ يَكُونَ طِبْقَهُ. ويؤول هَذَا الْمَعْنَى إِلَى أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَعْنَى (عَلَى) كَمَا يُقَالُ: كُنْ كَمَا أَنْتَ.
أَيْ لَا تَتَغَيَّرْ، وَلْتُشْبِهْ أَحْوَالُكَ الْمُسْتَقْبَلَةُ حَالَتَكَ هَذِهِ.
وَمَنْ تابَ عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي أُمِرْتَ. وَمُصَحِّحُ الْعَطْفِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْفَصْلُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
وَمَنْ تابَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، ومَعَكَ حَالٌ مِنْ تابَ وَلَيْسَ متعلّقا ب تابَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أُصُولَ الصَّلَاحِ الدِّينِيِّ وَفُرُوعِهِ لِقَوْلِهِ: كَما أُمِرْتَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا».
وَسُئِلَ عَمَّا فِي هُودٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ
176
وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ وَمَنْ تابَ مَعَكَ.
وَالطُّغْيَانُ أَصْلُهُ التَّعَاظُمُ وَالْجَرَاءَةُ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥]. وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَرَاءَةُ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:
٨١]. فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ كِتَابِهِ كَمَا نَهَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ شَمِلَ الطُّغْيَانُ أُصُولَ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ جَامِعًا لِأَحْوَالِ مَصَادِرِ الْفَسَادِ مِنْ نَفْسِ الْمُفْسِدِ وَبَقِيَ مَا يُخْشَى
عَلَيْهِ مِنْ عَدْوَى فَسَادِ خَلِيطِهِ فَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: ١١٣].
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: جَعَلَ اللَّهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ وَلا تَطْغَوْا وَلا تَرْكَنُوا [هود:
١١٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اسْتِئْنَافٌ لِتَحْذِيرِ مَنْ أَخْفَى الطُّغْيَانَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ بَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِدَلَالَةِ مَادَّتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْبَيِّنِ وَدَلَالَةِ صِيغَتِهِ على قوته.
[١١٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)
الرُّكُونُ: الْمَيْلُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَفِعْلُهُ كَعَلِمَ. وَلَعَلَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكْنِ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْجنب، لأنّ المائل يُدْنِي جَنْبَهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُمَالِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ
لِلْمُوَافِقِ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ نَهَاهُمْ عَنِ التَّقَارُبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يُضِلُّوهُمْ وَيُزِلُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.
والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ الْمُحَقَّقَةِ أَوِ الْمَظْنُونَةِ.
وَالْمَسُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠١]، وَالْمُرَادُ: نَارُ الْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حَالٌ، أَيْ لَا تَجِدُونَ مَنْ يَسْعَى لِمَا يَنْفَعُكُمْ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ وَلَا تَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُكُمْ، أَيْ مِنْ يُخَفِّفُ عَنْكُمْ مَسَّ عَذَابِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلِيَاءَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْحُمَاةِ وَالْحَائِلِينَ.
وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَطْغَوْا [هود: ١١٢] وَقَوْلُهُ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَصْلَيِ الدِّينِ، وَهُمَا: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُ الْحَسَنِ: «جَعَلَ اللَّهُ الدَّين بَين لائين وَلا تَطْغَوْا، وَلَا تركنوا».
[١١٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى خطاب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى جَمِيعِ
178
الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ مَعَهُ مَا يُنَاسِبُ الْأَوْقَاتَ الْمُعَيَّنَةَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ الْآتِي.
وَطَرَفُ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ، فَالتَّثْنِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ.
والنَّهارِ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ نَهَارًا لِأَنَّ الضِّيَاءَ يَنْهَرُ فِيهِ، أَيْ يَبْرُزُ كَمَا يَبْرُزُ النَّهْرُ.
وَالْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ إِيقَاعُ الْعَمَلِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَالطَّرَفَانِ ظَرْفَانِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَصَلَاةٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ الْعَصْرُ وَقِيلَ الْمَغْرِبُ.
وَالزُّلَفُ: جَمْعُ زُلْفَةٍ مِثْلَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ أُخْتِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمَّا لَمْ تُعَيَّنِ الصَّلَوَاتُ الْمَأْمُورُ بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الزَّمَانِ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَلًا فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمُتَوَاتِرُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ هِيَ الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَوَّلَ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَصْبَحَ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَآخِرَ أَعْمَالِهِ إِذَا أَمْسَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ لِتَكُونَ السَّيِّئَاتُ الْحَاصِلَةُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَمْحُوَّةً بِالْحَسَنَاتِ الْحَافَّةِ بِهَا. وَهَذَا مُشِيرٌ إِلَى حِكْمَةِ كَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِلْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ تَعَرُّضِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُمَا بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْوُجُوبِ فِي الْمَذْكُورِ فِيهَا.
179
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ،
وَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وإِنَّ فِيهِ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّفْرِيعِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْلِيلُ مُشْعِرٌ بِعُمُومِ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْلُولِ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ الْجَمْعِ بِاللَّامِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَإِذْهَابُ السَّيِّئَاتِ يَشْمَلُ إِذْهَابَ وُقُوعِهَا بِأَنْ يَصِيرَ انْسِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ سَهْلًا وَهَيِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا. وَيَشْمَلُ أَيْضًا مَحْوَ إِثْمِهَا إِذَا وَقَعَتْ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
وَمَحْمَلُ السَّيِّئَاتِ هُنَا عَلَى السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّمَمِ حَمْلًا لِمُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: ٣٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النِّسَاء: ٣١]، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ أَنَّ اجْتِنَابَ الْفَوَاحِشِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ أَوْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَسَنَاتِ يُذْهِبُ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣١].
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةَ حرَام فَأتى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذكرت ذَلِكَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونُ أَنْ أَمَسَّهَا وَهَا أَنَا ذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
180
شَيْئًا فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأَتْبَعَهُ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ:
لَا، بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَضَعَّفَهُمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ دُونَ بَقِيَّةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: (فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ) فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي فَهَذِهِ الْآيَةُ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] قَبْلَهَا وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ
[هود: ١١٥] بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَجَّحُوا أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصّلوات وَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا لِيُعْلِمَهُ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فيؤوّل قَوْلُ الرَّاوِي: فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شُمُولُ عُمُومِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِقَضِيَّةِ السَّائِلِ وَلِجَمِيعِ مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ إِصَابَةِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْفَوَاحِشِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ: فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَلَمْ يَقُولَا: فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أَيْ تَذْكِرَةٌ لِلَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَذَّكَّرَ وَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ طَلَبِ الرُّشْدِ وَالْخَيْرِ، وَهَذَا أَفَادَ الْعُمُومَ نَصًّا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢].
181

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٥]

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] الْآيَاتِ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّثْبِيتِ مِنْ جَرَّاءِ تَأْخِيرِ عِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوا.
وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ لَا تَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ وَمُخَالِفَةٍ لِهَوَى كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ الصَّبْرُ عَلَى الْجَمِيعِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ.
وَتَوْجِيهُ الْخطاب إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهٌ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأُمَّتُهُ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ:
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالتَّفْرِيعِ الْمُقْتَضِي جَمْعَهُمَا أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِينَ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ لِلتَّفْرِيعِ مَوْقِعٌ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مَجْلُوبٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَسُمِّيَ الثَّوَابُ أَجْرًا لِوُقُوعِهِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ وَمَوْعُودًا بِهِ فَأشبه الْأجر.
[١١٦]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
هَذَا قَوِيُّ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: ١٠٢] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا دَعَا إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ الِاسْتِطْرَادِيُّ فِي مَعَانٍ مُتَمَاسِكَةٍ.
وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَنَهَوْا قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ لَمَّا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ. وَذَلِكَ إِرْشَادٌ إِلَى وُجُوبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ
182
يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَالْآيَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذِ الْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالْأُمَمِ مِنْ قَبِلِكُمْ إِذْ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَأَسْرَفُوا فِي غَلْوَائِهِمْ حَتَّى حَلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ تَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ كَانَ حَالُكُمْ كَحَالِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أُتِيَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّهُ فِي مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّينَهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا كَمَا كَانُوا فَيُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ وَلَا تَطْغَوْا وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الظَّالِمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي فِي الْآيَةِ لِتَفَنُّنِ فَوَائِدِهِ وَدَقَائِقِهِ وَاسْتِقْلَالِ أَغْرَاضِهِ مَعَ كَونهَا آئلة إِلَى غَرَضٍ يُعَمِّمُهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ كَرَدِّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا ظُهُورِ قَصْدٍ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»
. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا). وَتَحْضِيضُ الْفَائِتِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَحْذِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَالْعِبْرَةُ بِمَا أَصَابَهُمْ.
وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ.
وَالْبَقِيَّةُ: الْفَضْلُ وَالْخَيْرُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْفَضْلِ الْبَقِيَّةُ كِنَايَةً غَلَبَتْ فَسَارَتْ مَسْرَى الْأَمْثَالِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّطُ فِيهِ.
وَبَقِيَّةُ النَّاسِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ، قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ:
183
وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا». فَمِنْ هُنَالِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فِي صِفَاتِ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِي فُلَانٍ بَقِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أُولُو فَضْلٍ وَدِينٍ وَعِلْمٍ
بِالشَّرِيعَةِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ وَلَكِنْ أُرِيدَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَحَمَلَةُ الشَّرَائِعِ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
وَالْفساد: الْمعاصِي وَاخْتِلَاف الْأَحْوَالِ، فَنَهْيُهُمْ يَرْدَعُهُمْ عَنِ الِاسْتِهْتَارِ فِي الْمَعَاصِي فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَهْنُ وَالِانْحِلَالُ كَمَا حَلَّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ. وَفِي هَذَا تنويه بأصحاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَدعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى آمَنَ كُلُّهُمْ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ بَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَيُعَلِّمُونَ الدِّينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: ١١٠].
وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِك ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «بِقْيَةٍ» - بِكَسْرِ الْبَاءِ- الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ- فَهِيَ لُغَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْهَيْئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَخَيُّلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ.
وإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ أُولُوا بَقِيَّةٍ وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقُرُونِ إِذِ الْقُرُونُ الَّذِينَ فِيهِمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي حُكْمِ الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْضِيضِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقُرُونِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ فَهْمِ الَّذِينَ يَنْعَى عَلَيْهِمْ فُقْدَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يُسْتَثْنَى إِذْ كُلُّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَى التَّحْضِيضِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَدِمُوا أُولِي بَقِيَّةٍ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرُونِ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ كَانَ الْمُوَقَّعُ لِلِاسْتِدْرَاكِ
184
لِرَفْعِ هَذَا الْإِيهَامِ، فَصَارَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُنْقَطِعًا، وَعَلَامَةُ انْقِطَاعِهِ انْتِصَابُهُ لِأَنَّ نَصْبَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَنْصُوبٍ أَمَارَةً عَلَى اعْتِبَارِ الِانْقِطَاعِ إِذْ هُوَ الْأَفْصَحُ. وَهَلْ يَجِيءُ أَفْصَحُ كَلَامٍ إِلَّا عَلَى أَفْصَحِ إِعْرَابٍ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا اتِّصَالُهُ لَجَاءَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا بَيَانِيَّةٌ، بَيَانٌ لِلْقَلِيلِ لِأَنَّ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقُرُونِ هُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَفِي الْبَيَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَهْيَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ هُوَ سَبَبُ إِنْجَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ لِأَنَّ النَّهْيَ سَبَبُ السَّبَبِ إِذِ النَّهْيُ يُسَبِّبُ الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعَاصِي الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّجَاةِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: فَكَانُوا يَتُوبُونَ وَيُقْلِعُونَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيَنْجُونَ مِنْ مَسِّ النَّارِ الَّذِي لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ وُجُودِ قَلِيلٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ وَتَبْيِينٌ لِإِجْمَالِهِ. وَالْمَعْنَى: وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَنْتَهُوا هُمْ وَلَا قَوْمُهُمْ وَاتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٣٤] تَفْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ.
وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ.
وَاتِّبَاعُ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ هُوَ الِانْقِطَاعُ لَهُ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الْمُتَّبِعِ عَلَى مَتْبُوعِهِ.
وَأُتْرِفُوا: أُعْطُوا التَّرَفَ، وَهُوَ السَّعَةُ وَالنَّعِيمُ الَّذِي سَهَّلَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْرَفَهُمْ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ.
185
وكانُوا مُجْرِمِينَ أَيْ فِي اتِّبَاعِ التَّرَفِ فَلَمْ يَكُونُوا شَاكِرِينَ، وَذَلِكَ يُحَقِّقُ مَعْنَى الِاتِّبَاعَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالتَّرَفِ مَعَ الشُّكْرِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ بَلْ هُوَ تَمَحُّضٌ وَانْقِطَاعٌ دُونَ شَوْبِهِ بِغَيْرِهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ آخَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ هَلَاكُ الْمُجْرِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [هود: ١١٧].
[١١٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٧]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ [هود: ١١٦] لما يُؤذنهُ بِهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مِنْ تَعَرُّضِ الْمُجْرِمِينَ لِحُلُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ بِنَاءً عَلَى وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ نُزُولَ الْعَذَابِ مِمَّنْ نَزَلَ بِهِ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُمْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْهَلَاكَ بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وَصِيغَةُ وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ انْتِفَاءِ الْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، وَقَوْلِهِ: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ الْعُقُودِ [١١٦] فَارْجِعْ إِلَى ذَيْنِكَ الْمَوْضِعَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْقُرى أَهْلُهَا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسل كَقَوْلِه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢].
وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ رَبُّكَ أَيْ لَمَّا يُهْلِكِ النَّاسَ إِهْلَاكًا مُتَلَبِّسًا بِظُلْمٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ حَالٌ مِنَ الْقُرى أَيْ لَا يَقَعُ إِهْلَاكُ اللَّهِ ظَالِمًا لِقَوْمٍ مُصْلِحِينَ.
وَالْمُصْلِحُونَ مُقَابِلُ الْمُفْسِدِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ- وَقَوْلِهِ- وَكانُوا مُجْرِمِينَ [هود: ١١٦]، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ وَلَكِنْ يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [الْقَصَص: ٥٩].
وَالْمُرَادُ: الْإِهْلَاكُ الْعَاجِلُ الْحَالُّ بِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ حُلُولِ أَمْثَالِهِ دُونَ الْإِهْلَاكِ الْمَكْتُوبِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ فَنَاءُ أُمَّةٍ وَقِيَامُ أُخْرَى فِي مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ حَسَبَ سنَن مَعْلُومَة.
[١١٨، ١١٩]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١١٨ إِلَى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
لَمَّا كَانَ النَّعْيُ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ فِيهِمْ مَنْ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فَاتَّبَعُوا الْإِجْرَامَ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُصْلِحِينَ لَمَا أُهْلِكُوا، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ قَدْ يُثِيرُ تَوَهُّمَ أَنَّ تَعَاصِيَ الْأُمَمِ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ خُرُوجٌ عَنْ قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَرْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْحَقِّ مُسْتَمِرَّةً عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا.
وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي أُقِيمَ عَلَيْهَا نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ نِظَامُ عُقُولِ الْبَشَرِ قَابِلًا لِلتَّطَوُّحِ بِهِمْ فِي مَسْلَكِ الضَّلَالَةِ أَوْ فِي مَسْلَكِ الْهُدَى عَلَى مَبْلَغِ اسْتِقَامَةِ التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ حُجُبِ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْعُقُولَ صَالِحَةً لِذَلِكَ جَعَلَ مِنْهَا قَبُولَ الْحَقِّ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْعُقُولِ مِنْ عَوَارِضِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالِ وَهِيَ الْفِطْرَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً،
187
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣]. لَمْ يَدَّخِرْهُمْ إِرْشَادًا أَوْ نُصْحًا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ وَدُعَاةِ الْخَيْرِ وَمُلَقِّنِيهِ
مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنَ النَّاسِ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى إِلْهَامٍ مُتَّحِدٍ لَا تَعْدُوهُ كَمَا خَلَقَ إِدْرَاكَ الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ عَلَى نِظَامٍ لَا تَتَخَطَّاهُ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ، فَنَجِدُ حَالَ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ فِي زَمَنِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَحَالِهِمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ هَذَا النِّظَامَ فِي الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَى بِإِقَامَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَسَاعِي الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ الْمَخْلُوطَةِ، لِيَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْخَالِصَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَلَوْ خُلِقَ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مُقْتَضِيًا ثَوَابَ النَّعِيمِ وَلَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَضِيًا عِقَابَ الْجَحِيمِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَشَرَ عَلَى نِظَامٍ مِنْ شَأْنِهِ طَرَيَانُ الِاخْتِلَافِ بَينهم فِي الْأُخوة، وَمِنْهَا أَمْرُ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَهَمُّهَا وَأَعْظَمُهَا لِيَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي مَدَارِجِ الِارْتِقَاءِ وَيَسْمُوا إِلَى مَرَاتِبِ الزُّلْفَى فَتَتَمَيَّزُ أَفْرَادُ هَذَا النَّوْعِ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْحَيَاةِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاحِدُ بِأَلْفٍ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: ٣٧].
وَهَذَا وَجْهُ مُنَاسِبَةِ عَطْفِ جُمْلَةِ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى جُمْلَتَيْ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ.
وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يُسَاوِي مَضْمُونَ جَوَابِ الشَّرْطِ فَحُذِفَ إِيجَازًا. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلَهُمْ كَذَلِكَ.
وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّحَدُوا فِي أَمْرٍ مِنْ عَظَائِمِ أُمُورِ الْحَيَاةِ كَالْمَوْطِنِ وَاللُّغَةِ وَالنَّسَبِ وَالدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣]. فَتُفَسَّرُ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَتُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَكْوِينِهَا كَمَا يُقَالُ: الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ.
188
وَمَعْنَى كَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مِنْ حَيْثُ الدِّينِ الْخَالِصِ.
وَفُهِمَ مِنْ شَرْطِ (لَوْ) أَنَّ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الدِّينِ مُنْتَفِيَةٌ، أَيْ مُنْتَفٍ دَوَامُهَا عَلَى الْوَحْدَةِ فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ وُجِدُوا فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ مُتَّفِقِينَ فَلَمْ يَلْبَثُوا حَتَّى طَرَأَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ ابْنَيْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الْبَقَرَة: ٢١٣] وَقَوْلِهِ: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٩] فَعُلِمَ أَنَّ النَّاسَ
قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا مَضَى فَلَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا يدْرِي هَل يؤول أَمْرُهُمْ إِلَى الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ دَائِمٌ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ.
وَلَمَّا أَشْعَرَ الِاخْتِلَافُ بِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالِاخْتِلَافَ، عَقَّبَ عُمُومَ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، أَيْ فَعَصَمَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُخَالِفِ خَارِجًا عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ مُتَّبِعِيهِ، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ قَصْمُهُ وَبَذْلُ الْوُسْعِ فِي إِزَالَتِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِالْإِرْشَادِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُنْجِعْ ذَلِكَ فَبِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ الْعَرَبِ الَّذِينَ جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَكَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- فِي قِتَالِ الْحُرَوْرِيِّةِ الَّذِينَ كَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ.
وَأَمَّا تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فَهُوَ تَأْكِيدٌ بِمَضْمُونِ وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الِاخْتِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: مُخْتَلِفِينَ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ
189
لَمَّا خَلَقَهُمْ عَلَى جِبِلَّةٍ قَاضِيَةٍ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَالنَّزَعَاتِ وَكَانَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الْجِبِلَّةِ وَعَالِمًا بِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا كَانَ الِاخْتِلَافُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِخَلْقِهِمْ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الْقَصْرُ عَلَيْهَا بَلْ يَكْفِي أَنَّهَا غَايَةُ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَكُونُ مَعَهَا غَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى فَلَا يُنَافِي مَا هُنَا قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] لِأَنَّ الْقَصْرَ هُنَالِكَ إِضَافِيٌّ، أَيْ إِلَّا بِحَالَةِ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُوا، وَالْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُنَافِي وُجُودَ أَحْوَالٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا قَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ مَارَسَ أَسَالِيبَ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ بَلْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُوجِبُ الْحَيْرَةَ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يوذن بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا لَا رَحْمَةَ لَهُمْ فِيهِ، فَهُوَ اخْتِلَافٌ مُضَادٌّ لِلرَّحْمَةِ، وَضِدُّ النِّعْمَةِ النِّقْمَةُ فَهُوَ اخْتِلَافٌ أَوْجَبَ الِانْتِقَامَ.
وَتَمَامُ كَلِمَةِ الرَّبِّ مَجَازٌ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَقُّقِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٥]، فَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ نَصِيبُ جَهَنَّمَ.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ. فَكَلِمَةُ اللَّهِ: تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَتُهُ. أَطْلَقَ عَلَيْهَا كَلِمَةُ مَجَازًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي صُدُورِ كَلِمَةِ (كُنْ) وَهِيَ أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٥].
وَجُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْسِيرٌ لِلْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ. وَذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ.
190
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ كَلَامًا خَاطَبَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ فَيَكُونُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْسِيرًا لِ كَلِمَةُ.
ومِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تَبْعِيضٌ، أَيْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِشُمُولِ تَثْنِيَةِ كِلَا النَّوْعَيْنِ لَا لِشُمُولِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِمُنَافَاتِهِ لِمَعْنَى التَّبْعِيضِ الَّذِي أفادته مَنْ.
[١٢٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
هَذَا تَذْيِيلٌ وَحَوْصَلَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى وَأَنْبَاءِ الرُّسُلِ...
فَجُمْلَةُ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ إِلَى آخِرِهَا عَطْفُ الْإِخْبَارِ عَلَى الْإِخْبَارِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةً. وَهَذَا تَهْيِئَةٌ لِاخْتِتَامِ السُّورَةِ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا سِيقَ فِيهَا مِنَ الْقَصَص والمواعظ.
وانتصف كُلًّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ نَقُصُّ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ لِيَأْتِيَ بَيَانُهُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ أَرْسَخَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَتَنْوِينُ كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ نَبَأٍ عَنِ الرُّسُلِ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بَيَانٌ لِلتَّنْوِينِ الَّذِي لَحِقَ (كُلًّا). وَمَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بَدَلٌ مِنْ كُلًّا.
وَالْقَصَصُ يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [٣].
وَالتَّثْبِيتُ: حَقِيقَتُهُ التَّسْكِينُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ يَنْتَفِي الِاضْطِرَابُ وَالتَّزَلْزُلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٦]، وَقَوْلِهِ:
191
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١٢]، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠].
وَالْفُؤَادُ: أُطْلِقَ عَلَى الْإِدْرَاكِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَتَثْبِيتُ فُؤَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةُ يَقِينِهِ وَمَعْلُومَاتِهِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُعَادُ ذِكْرُهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ أُمَمِهِمْ مَعَهُمْ يَزِيدُهُ تَذَكُّرًا وَعِلْمًا بِأَنَّ حَالَهُ جَارٍ عَلَى سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَازْدَادَ تَذَكُّرًا بِأَنَّ عَاقِبَتَهُ النَّصْرُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَتَجَدُّدُ تَسْلِيَةٍ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَذَلِكَ يَزِيدُهُ صَبْرًا. وَالصَّبْرُ: تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ.
وَأَنَّ تَمَاثُلَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ تِلْقَاءَ دَعْوَةِ أَنْبِيَائِهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْعُصُورِ يَزِيدُهُ عِلْمًا بِأَنَّ مَرَاتِبَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَنَّ قَبُولَ الْهُدَى هُوَ مُنْتَهَى ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ شَأْنٌ قَدِيمٌ، وَهِيَ مِنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا النِّظَامُ الْبَشَرِيُّ، فَلَا يُحْزِنُهُ مُخَالَفَةُ قَوْمِهِ عَلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ عِلْمًا بِسُمُوِّ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ قَبِلُوا هُدَاهُ، وَاعْتَصَمُوا مِنْ دِينِهِ بِعُرَاهُ، فَجَاءَهُ فِي مِثْلِ قِصَّةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَالْإِشَارَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي هذِهِ قِيلَ إِلَى السُّورَةِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَتْ أَوْفَى بِأَنْبَاءِ الرُّسُلِ مِنَ السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَهَا وَبِهَذَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: ١١٦- ١١٩]. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنه لم يجىء مِثْلَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَتَأَمَّلْ.
192
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِ الْحَقُّ تَأْمِينُ الرَّسُولِ مِنِ اخْتِلَافِ أُمَّتِهِ فِي كِتَابِهِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ:
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ [هود: ١١٦] الْمُفْهِمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسُوا بِتِلْكَ
الْمَثَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا.
وَتَعْرِيفُهُ إِشَارَةٌ إِلَى حق مَعْهُود للنبيء إِمَّا بِأَنْ كَانَ يَتَطَلَّبُهُ، أَوْ يَسْأَلُ رَبَّهُ.
وَالْمَوْعِظَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا يَصُدُّ الْمَرْءَ عَنْ عَمَلٍ مُضِرٍّ.
وَالذِّكْرَى: مُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ بِمَا يَنْفَعُ. فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا وَيَتَبَصَّرُوا فِي أَحْوَالِهَا. وَتَنْكِيرُ مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى للتعظيم.
[١٢١، ١٢٢]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ [هود: ١٢٠] الْآيَةَ، لِأَنَّهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ بِأَنْ يُخَاطِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا خِطَابُ الْآيِسِ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرَى الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِإِعْرَاضِهِمْ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ تَأَلُّبُهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَمُقَاوَمَتُهُمُ الْحَقَّ. فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ عَدِيلًا لِقَوْلِهِ:
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: ١٢٠]. وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْمُور أَن بقوله عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ هُوَ نَظِيرُ مَا حُكِيَ عَنْ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ آنِفًا.
وَضَمَائِرُ إِنَّا عامِلُونَ وإِنَّا مُنْتَظِرُونَ للنبيء وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.
وَفِي أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ التَّفْوِيضُ إِلَى رَأْسِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يَقْطَعَ أَمْرًا عَنْ أُمَّتِهِ ثِقَةً بِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ فِعْلَهُ.
كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ وَطَالِبِينَ رَدَّ سَبَايَاهُمْ وَغَنَائِمِهِمُ «اخْتَارُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ السَّبْيَ أَوِ الْأَمْوَالَ»
. فَلَمَّا اخْتَارُوا السَّبْيَ رَجَعَ السَّبْيُ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْتَشِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ يُطَيِّبُ ذَلِكَ لِهَوَازِنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِّهِ فِي أَوَّلِ مَا يَجِيءُ مِنَ السَّبي، فَقَالَ الْمُؤمنِينَ: طَيَّبْنَا ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، كَمَا يُقَالُ فِي الْوَعِيدِ: سَوف ترى.
[١٢٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
كَلَامٌ جَامع وَهُوَ تذييل لِلسُّورَةِ مُؤْذِنٌ بِخِتَامِهَا، فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ، أَوْ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مِلْكُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ، أَيْ لِلَّهِ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا كَلَامٌ يَجْمَعُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا وُعِدُوا مِنَ النَّعِيمِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا تُوُعِّدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ يَمْلِكُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَإِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ
194
بِفَسَادِ آرَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ.
وَمَعْنَى إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ: أَنَّ أَمْرَ التَّدْبِيرِ وَالنَّصْرِ وَالْخِذْلَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ حَسَبَ النَّاسُ وَهَيَّأُوا فَطَالَمَا كَانَتِ الْأُمُورُ حَاصِلَةً عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَعَدَّ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِدُّ، وَكَثِيرًا مَا اعْتَزَّ الْعَزِيزُ بِعِزَّتِهِ فَلَقِيَ الْخِذْلَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُسْتَضْعَفُونَ بِمَحَلِّ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى أُولِي الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْأُمُورَ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِ كُلُّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَرَأَ مَنْ عَدَا نَافِعًا يُرْجَعُ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ النَّائِبِ، أَيْ يُرْجِعُ كُلُّ ذِي أَمْرٍ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ (الْأَمْرُ) هُوَ فَاعِلُ الرُّجُوعِ، أَيْ يَرْجِعُ هُوَ إِلَى اللَّهِ.
وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالرُّجُوعُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَجْزِ النَّاسِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ حَسَبَ رَغَبَاتِهِمْ بِهَيْئَةِ مُتَنَاوِلِ شَيْءٍ لِلتَّصَرُّفِ بِهِ ثُمَّ عَدِمَ اسْتِطَاعَتَهُ التَّصَرُّفَ بِهِ فَيُرْجِعُهُ إِلَى الْحَرِيِّ بِالتَّصَرُّفِ بِهِ، أَوْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ خُضُوعِ الْأُمُورِ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ دُونَ تَصَرُّفِ الْمُحَاوِلِينَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِهَيْئَةِ الْمُتَجَوِّلِ الْبَاحِثِ عَنْ مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ بِهِ ثُمَّ إِيوَائِهِ إِلَى الْمَقَرِّ اللَّائِقِ بِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ رَمَزَ إِلَيْهَا بِفِعْلِ يُرْجَعُ وَتَعْدِيَتُهُ بِ إِلَيْهِ.
وتفريع أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَلَى رُجُوعِ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُعْبَدَ وَأَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مُهِمٍّ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّخْطِئَةِ لِلَّذِينِ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ وَنَفْعِهَا. ويتضمّن أَمر النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ.
195
وَالْمُرَادُ أَنْ يَعْبُدَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَبِقَرِينَةِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ كُلُّ أَمْرٍ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ وَلَا مِنَ التَّوَكُّلِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوبِ سَبَبِ تَخْصِيصِهِ بِهِمَا.
وَجُمْلَةُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَذْلَكَةٌ جَامِعَةٌ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْوَاوُ فِيهِ كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ عَدَمَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَيِّ عَمَلٍ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ وَصْفُ الْغَافِلِ بِالْعَمَلِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِالذَّوَاتِ نَحْوَ: بِغَافِلٍ عَنْكُمْ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عَلَى الْعَمَلِ جَزَاءً.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ «عَمَّا تَعْمَلُونَ» - بِتَاءٍ فوقية- خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ تَسْلِيَة للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
196

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٢- سُورَةُ يُوسُفَ
الِاسْمُ الْوَحِيدُ لِهَذِهِ السُّورَةِ اسْمُ سُورَةِ يُوسُفَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِ «الْإِصَابَةِ» فِي تَرْجَمَةِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ الزُّرَقِيِّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا رَافِعِ بْنَ مَالِكٍ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِسُورَةِ يُوسُفَ، يَعْنِي بَعْدَ أَن بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا قَصَّتْ قِصَّةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كُلَّهَا، وَلَمْ تُذْكَرْ قِصَّتُهُ فِي غَيْرِهَا. وَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي غَيْرِهَا إِلَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَافِرٍ.
وَفِي هَذَا الِاسْمِ تَمَيُّزٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ الَرَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ مِنْ أَوَّلِهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَهُوَ وَاهٍ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ هُودٍ، وَقَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَلَمْ تذكر قصَّة نبيء فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْإِطْنَابِ.
197
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ فِي الْأَمْصَارِ.
مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ
رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ:
أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ زَمَانًا، فَقَالُوا (أَيِ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ) :
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سُورَة يُوسُف: ١، ٢] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
فَأَهَمُّ أَغْرَاضِهَا: بَيَانُ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ إِخْوَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ مِنْ نَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَفِيهَا إِثْبَاتُ أَنَّ بَعْضَ الْمَرَائِي قَدْ يَكُونُ إِنْبَاءً بِأَمْرٍ مُغَيَّبٍ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ النُّبُوءَاتِ وَهُوَ مِنْ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَشْرِقِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [سُورَة يُوسُف: ٤] الْآيَاتِ.
وَأَنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا عِلْمٌ يَهَبُهُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ.
وَتَحَاسُدُ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ.
وَلُطْفُ اللَّهِ بِمَنْ يَصْطَفِيهِ مِنْ عباده.
وَالْعبْرَة بِحَسب الْعَوَاقِبِ، وَالْوَفَاءِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالتَّوْبَةِ.
وَسُكْنَى إِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ بِأَرْضِ مصر.
وتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَهُ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ آلِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
وَقد لَقِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِهِ أَشَدَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بُعَدَاءِ كَفَّارِ قَوْمِهِ، مِثْلَ عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ، وَالنَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ،
198
وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَإِنَّ وَقْعَ أَذَى الْأَقَارِبِ فِي النُّفُوسِ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ أَذَى الْبُعَدَاءِ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [سُورَة يُوسُف: ٧].
وفيهَا الْعبْرَة بصبر الْأَنْبِيَاء مثل يَعْقُوب ويوسف- عَلَيْهِم السَّلَامُ- عَلَى الْبَلْوَى. وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ.
وَفِيهَا الْعِبْرَةُ بِهِجْرَة قوم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَلَّ بِهِ كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلُهُ، وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُرَيْشًا يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ تبعا لهجرة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا مِنْ عِبَرِ تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ وَقَوَانِينِهَا وَنِظَامِ حُكُومَاتِهَا وَعُقُوبَاتِهَا وَتِجَارَتِهَا. وَاسْتِرْقَاقُ الصَّبِيِّ اللَّقِيطِ. وَاسْتِرْقَاقُ السَّارِقِ، وَأَحْوَالُ الْمَسَاجِينِ. وَمُرَاقَبَةُ الْمَكَايِيلِ.
وَإِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أُسْلُوبًا خَاصًّا مِنْ أَسَالِيبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْإِعْجَازُ فِي أُسْلُوبِ الْقَصَصِ الَّذِي كَانَ خَاصَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ يَعْجَبُونَ مِمَّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ أَقَاصِيصِ الْعَجَمِ وَالرُّومِ، فَقَدْ كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ يَفْتِنُونَ قُرَيْشًا بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِ الْأُمَمِ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ النَّضْرُ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْحِيرَةِ فَتَعَلَّمَ أَحَادِيثَ (رُسْتُمَ) وَ (اسْفَنْدَيَارَ) مِنْ أَبْطَالِ فَارِسٍ، فَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا بِذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَنَا وَاللَّهِ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهَلُمَّ أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ بِأَخْبَارِ الْفُرْسِ، فَكَانَ مَا فِي بَعْضُهَا مِنَ التَّطْوِيلِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْفُرْسِ يُمَوِّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ
199
Icon