تفسير سورة هود

تفسير المنار
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير المنار المعروف بـتفسير المنار .
لمؤلفه محمد رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، خُوطِبَ بِهَا النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِ ذِكْرِهِمْ، وَلَا ذِكْرٍ لِأَمْرِهِ - تَعَالَى - لَهُ بِهِ، لِلْعِلْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، وَبِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ هَذَا.
(الر) تُقْرَأُ كَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةً لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا، فَيُقَالُ: أَلِفْ، لَامْ، رَا، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ، أَوْ لِلْقُرْآنِ (وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ الِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) : أَيْ هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ (كَمَا أَفَادَهُ
التَّنْوِينُ) جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاضِحَةَ الْمَعَانِي بَلِيغَةَ الدَّلَالَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهِيَ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعِ، وَالْقَصْرِ الْمُشَيَّدِ الرَّفِيعِ، فِي إِحْكَامِ الْبِنَاءِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْإِيوَاءِ مَعَ حُسْنِ الرِّوَاءِ، فَهِيَ لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا وَوُضُوحِهَا لَا تَقْبَلُ شَكًّا وَلَا تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : أَيْ جُعِلَتْ فُصُولًا مُتَفَرِّقَةً فِي سُوَرِهِ بِبَيَانِ حَقَائِقِ الْعَقَائِدِ،
4
وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَسَائِرِ مَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، كَمَا يُفْصَلُ الْوِشَاحُ أَوِ الْعِقْدُ بِالْفَرَائِدِ، فَالْإِحْكَامُ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ مَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ مُجْتَمِعَتَانِ، لَا نَوْعَانِ مِنْهُ مُتَفَرِّقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فُصِّلَتْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، كَمَا تَرَى فِي الْقَصَصِ الْقِصَارَ وَالطِّوَالَ، وَقَدْ أُبْهِمَا بِبِنَاءِ فِعْلَيْهِمَا لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بُيِّنَا بِجَعْلِهِمَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِمَا إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ كَامِلِ الْحِكْمَةِ هُوَ الَّذِي أَحْكَمَهَا، وَخَبِيرٍ تَامِّ الْخِبْرَةِ هُوَ الَّذِي فَصَّلَهَا، وَ ((لَدُنْ)) ظَرْفُ مَكَانٍ أَخَصُّ مِنْ ((عِنْدَ)) وَأَبْلَغُ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (كَعَضُدٍ) مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَرْفَيِ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ: (الْأُولَى) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ٢٢: ٥٢، (وَالثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ ((الْقِتَالِ)) : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ٤٧: ٢٠ الْآيَةَ.. (وَالثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (٣: ٧) وَوَجَدْتَ الْإِحْكَامَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا. وَقَدْ حَمَلَ الْمُقَلِّدُونَ الْمُحْكَمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمَنْسُوخَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، فَقَالُوا: سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَحِيحًا ; فَإِنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُرْفِ الْقُرْآنِ، بَلْ وُضِعَ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَالْآيَةُ الْأُولَى حُجَّةٌ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهَا غَيْرُ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَا كُلُّهَا وَلَا بَعْضُهَا ; لِأَن
َّ
إِنْزَالَ سُورَةٍ مَنْسُوخَةٍ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا مَعْنَى إِذًا لِنَفْيِهِ، وَحَمَلُوهُ فِي الثَّالِثَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُتَشَابَهَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِيهِمَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ اللُّغَةِ وَلِلْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْأَوَّلِ: الْمُحْكَمُ مَا أُحْكِمَ، الْمُرَادُ بِهِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ أَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّسْخِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ النَّسْخَ فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ التَّأْوِيلَ فَمُفَسَّرٌ، وَإِلَّا فَإِنْ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُرَادِ فَنَصٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ، وَإِذَا خَفِيَ لِعَارِضٍ أَيْ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَخَفِيٌّ،
5
وَإِنْ خَفِيَ لِنَفْسِهِ أَيْ لِنَفْسِ الصِّيغَةِ وَأُدْرِكَ عَقْلًا فَمُشْكِلٌ، أَوْ نَقْلًا فَمُجْمَلٌ، أَوْ لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا فَمُتَشَابِهٌ اهـ. وَقَالَ فِي الثَّانِي: الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ، وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ، اهـ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي.
وَقَالَ السَّيِّدُ فِي تَعْرِيفِ التَّأْوِيلِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ التَّرْجِيحُ، وَفِي الشَّرْعِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (٦: ٩٥) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا، اهـ. وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: الظَّاهِرُ مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً، وَالتَّأْوِيلُ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، فَإِنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ، أَوْ لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، اهـ.
هَذَا الِاصْطِلَاحُ الْمُفَصِّلُ لِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ فِيهِ مَا تَرَى - فِي كُتُبِ الْأُصُولِ - مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَمَذَاهِبَ وَجِدَالٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ عِنْدَ قِرَاءَاتِهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - بَلْ كَانُوا يَفْهَمُونَهَا بِمَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ الْمَحْضِ، فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ فَقَدْ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ عَشْرِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ، وَفِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْصِيلِ الْكِتَابِ، وَبَعْضٌ آخَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ، وَنَوْعٌ آخَرُ أَعَمُّ وَهُوَ (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِ الْمُكَلَّفِينَ، وَكُلُّهَا دَاخِلٌ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي حَرَّرْنَاهُ.
بَقِيَ عَلَيْنَا الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَهُوَ قَلِيلٌ مُخْتَصَرٌ، فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (قَالَ) : إِنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّ التَّفْصِيلَ فِيهَا هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ خَالَفَهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ) (٢٤) الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ هُودٍ (قَالَ) : فَكَانَ هَذَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُهُ مُحْكَمًا، انْتَهَى.
بِالْمَعْنَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ الْمُجْمَلُ، وَأَنَّ الْمُفَصَّلَ مَا يُقَابِلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِمَا. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَفُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ثُمَّ فُصِّلَتْ، قَالَ: فُسِّرَتْ، وَعَنْ قَتَادَةَ: أَحْكَمَهَا اللهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا اللهُ بِعِلْمِهِ، فَبَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ تَفْصِيلَ الْإِجْمَالِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: (الْأَوَّلُ) تَفْصِيلُ أُصُولِ الْعَقَائِدِ
5
وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ، (وَالثَّانِي) مَا يَعُمُّ تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْضًا.
(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)، هَذَا تَفْسِيرٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ بِهِ وَلَهُ الْآيَاتُ: أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، أَوْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَهَذَا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي قِصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّوْحِيدِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وَهُوَ تَبْلِيغٌ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مُبَيِّنٌ
لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ، وَهِيَ إِنْذَارُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَتَبْشِيرُ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى بِالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَدَّمَ الْإِنْذَارَ لِأَنَّ الْخِطَابَ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَنَظِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَسُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُبَلِّغُ هَذَا هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَأَنِ اسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أَيْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ - عَنْهُ وَعَنْ آيَاتِهِ - يَعْرِضُ لَكُمْ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، نَادِمِينَ مُنِيبِينَ مُصْلِحِينَ لِمَا أَفْسَدْتُمْ، مُسْتَدْرِكِينَ مَا قَصَّرْتُمْ، عَطَفَ التَّوْبَةَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَمَلِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الذَّنْبِ، وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ فِي قِصَّةِ كُلٍّ مِنْ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) الْمَتَاعُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَحَاجَةِ الْبُيُوتِ، وَالْإِمْتَاعُ وَالتَّمْتِيعُ: إِعْطَاءُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ تَمَتُّعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا، وَأَمَّا وَصْفُهُ - تَعَالَى - لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِ أَهْلِهَا بِهَا بِالْقَلِيلِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَنْبٍ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكُّبٍ عَنْ سُنَّتِهِ، يُمَتِّعْكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا مُرْضِيًا مُمْتَدًّا (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) عِنْدَهُ وَهُوَ الْعُمُرُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ فِي عِلْمِهِ، الْمَكْتُوبُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي عِبَادِهِ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِهْلَاكُكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَا بِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسَلْبِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُنَغِّصُهُ كُلُّ مَا يُنَغِّصُ حَيَاةَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِتَنْغِيصِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَسَلْبِ النِّعَمِ مِنْ أَهْلِهَا أَسْبَابًا تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً إِلَّا لِأَنَّهَا ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ، أَوْ مُزِيلَةٌ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْعَقْلِ أَوْ لِلصِّحَّةِ أَوْ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْمَالِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَفْسَدَةً بِإِصْرَارِ فَاعِلِيهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ يَنْدَمُ وَيُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَيُصْلِحُ مَا نَجَمَ مِنْ فَسَادِهَا بِالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لَهُ، امْتَنَعَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَزَالَ أَثَرُهُ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ مَا اشْتَرَطَ
وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤: ١٧) وَقَوْلِهِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥: ٣٩) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣: ١٣٥) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ (كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، يُهْلِكُهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (١٠٠ - ١٠٣) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ - تَعَالَى - كَامِلًا شَامِلًا.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللهُ - تَعَالَى - لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا ((سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ)) وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَدِيثِ ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ)) وَهُوَ صَحِيحٌ
8
أَيْضًا، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ - يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ - يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٧) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْذَارِ: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ:
(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أَيْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ.
قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ ; لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَصِفَتِهِمْ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، افْتُتِحَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِيَتَأَمَّلَهَا السَّامِعُ وَيَتَصَوَّرَهَا فِي صِفَتِهَا الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيْرَةِ وَالْعَجْزِ وَمُنْتَهَى الْجَهْلِ، يُقَالُ: ((ثَنَى الثَّوْبَ إِذَا عَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَطَوَاهُ، وَأَثْنَاءُ الثَّوْبِ أَطْوَاؤُهُ وَمَطَاوِيهِ، وَثَنَاهُ عَنْهُ لَوَاهُ وَحَوَّلَهُ، وَثَنَاهُ عَلَيْهِ أَطْبَقَهُ وَطَوَاهُ لِيُخْفِيَهُ فِيهِ، وَثَنَى عِنَانَهُ عَنِّي أَيْ تَحَوَّلَ وَأَعْرَضَ، وَثَنَى عِطْفَهُ أَيْ أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ تَكَبُّرًا، وَمِنْهُ فِي الْمُجَادِلِ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ٢٢: ٩ وَالِاسْتِخْفَاءُ مُحَاوَلَةُ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ:
9
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) (٤: ١٠٨) وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ التَّغَطِّي بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (٧١: ٧) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، ((أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ))، فَسَّرَ بَعْضُهُمْ ثَنْيَ الصُّدُورِ هُنَا بِالْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَالِاسْتِدْبَارِ لِلرَّسُولِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ثَنْيِ الْعِطْفِ وَالْجَانِبِ، وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِطَيِّهَا عَلَى مَا هُوَ مَكْنُونٌ فِيهَا مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ تَصْوِيرًا لِمَا كَانَ يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ بِتَنْكِيسِ الرَّأْسِ، وَثَنْيِ الصَّدْرِ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ، حَتَّى يَخْفَى فَاعِلُهُ بَيْنَ الْجَمْعِ، خَجَلًا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْقَرْعِ وَالصُّدَاعِ، فَالْمَعْنَى: أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْكَارِهِينَ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ يَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ وَيُنَكِّسُونَ رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ طَيَّ صُدُورِهِمْ عَلَى بُطُونِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنًى بَلِيغٌ وَوَاقِعٌ وَأَدْنَى إِلَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أَيْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَرَاهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْقَوَارِعِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، أَوْ لِيَسْتَخْفُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ الْمُظْهِرِ لِخِزْيِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، الْمُثْبِتِ لِعَجْزِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي كُلَّمَا تَلَوْتُ الْآيَةَ أَوْ سَمِعْتُهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ
مِمَّا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ مَا قَبْلَهُ فَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَنَى صَدْرَهُ لِكَيْ لَا يَرَاهُ فَنَزَلَتْ.
وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَسْتَغْشِي بِثَوْبِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يَقُولُ: يُطَأْطِئُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ، أَيْ أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ثَنْيَ صُدُورِهِمْ وَتَنْكِيسَ رُءُوسِهِمْ ; لِيَسْتَخْفُوا مِنَ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ظُهُورِ فَضِيحَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ فَيُغَطُّونَ بِهَا جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَخْلُونَ بِخَوَاطِرِهِمْ وَمَا يُبَيِّتُونَ مِنَ السُّوءِ وَالْمَكْرِ، فَإِنَّ رَبَّهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْهَا لَيْلًا، ثُمَّ مَا يُعْلِنُونَ نَهَارًا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَحْنُونَ صُدُورَهُمْ لِكَيْلَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى -، قَالَ - تَعَالَى -: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وَذَلِكَ أَخْفَى مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ إِذَا حَنَى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ، وَأَضْمَرَ هَمَّهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أَيْ إِنَّهُ
10
تَعَالَى - عَلِيمٌ مُحِيطٌ بِأَسْرَارِ الصُّدُورِ، وَخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (٤: ١٠٨).
وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ مَالَا يَظْهَرُ فِي مَعْنَاهَا وَلَا فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَصْدُقُ فِيهِمْ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - تُذَكِّرُهُمْ بِهِ رُؤْيَةُ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَقْتَضِي الْأَدَبُ السَّتْرَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ ثَوْبٌ وَلَا ظُلْمَةُ لَيْلٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قُرِأَ: ((أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ)) - بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِالتَّحْتِيَّةِ - مِنِ اثْنَوْنَى كَاحْلَوْلَى، وَكَذَا تَثْنَوِي كَتَرْعَوِي، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى كُلُّهَا شَاذَّةٌ لَا نُعْنَى بِنَقْلِهَا وَلَا بِتَوْجِيهِهَا.
11
أَوَّلُ الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْمَصَاحِفِ:
((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ))
بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ إِثْرَ بَيَانِ مَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ عِلْمِهِ بِهِ، وَبَيَّنَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا شُمُولَ قُدْرَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا يُهِمُّ النَّاسَ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِهِ، وَكِتَابَةِ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِمْ وَشُئُونِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمَكَانَ عَرْشِهِ قَبْلَ هَذَا مِنْ مُلْكِهِ، وَبَلَاءَ الْبَشَرِ خَاصَّةً بِذَلِكَ كُلِّهِ ; لِيُظْهِرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَبَعْثَهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَنَالُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْكَارَ كُفَّارِهِمْ لِهَذَا، قَالَ:
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) الدَّبُّ وَالدَّبِيبُ: الِانْتِقَالُ الْخَفِيفُ الْبَطِيءُ حَقِيقَةً كَدَبِيبِ الطِّفْلِ وَالشَّيْخِ الْمُسِنِّ وَالْعَقْرَبِ وَالْجَرَادِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ كَدَبِيبِ الْجَيْشِ، أَوْ مَجَازًا كَدَبِيبِ السُّكْرِ وَالسُّمِّ فِي الْجِسْمِ، وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ نَسَمَةٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ زَحْفًا أَوْ عَلَى قَوَائِمَ ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ، قَالَ - تَعَالَى -: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ) (٢٤: ٤٥) أَيْ مِمَّا تَعْلَمُونَ وَمِمَّا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِمَّا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمِمَّا يَسْبَحُ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَغَلَبَةُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عُرْفًا لَا لُغَةً. وَرِزْقُ الدَّابَّةِ غِذَاؤُهَا الَّذِي تَعِيشُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا عَلَى
اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِهِ، فَمِنْهَا الْجِنَّةُ الَّتِي لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ،
12
وَصِغَارُ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَضِخَامُ الْأَجْسَامِ، وَالْوُسْطَى بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَأَغْذِيَةُ كُلِّ نَوْعٍ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ نَبَاتِيَّةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ، وَقَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهَا خَلْقَهُ الْمُنَاسِبَ لِمَعِيشَتِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى تَحْصِيلِ غِذَائِهِ بِغَرِيزَتِهِ، فَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ خَرَاطِيمَ يَمُصُّ بِهَا غِذَاءَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَوْ دَمِ الْحَيَوَانِ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِنَّ خُرْطُومَ الْبَعُوضَةِ الدَّقِيقَ لَيَخْتَرِقُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْهُ مِنْ جُلُودِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ مَنَاقِيرَ تَلْتَقِطُ الْحُبُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَمْضُغُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ مَضْغًا، وَمَا يَبْلَعُ الْحَشَرَاتِ وَالطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ بَلْعًا، وَمَا لَهُ مَخَالِبُ يُمَزِّقُ بِهَا اللُّحُومَ، وَمَا لَهُ بَرَاثِنُ يَقْتُلُ بِهَا كِبَارَ الْجُسُومِ، وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ كُتُبٌ خَاصَّةٌ مِنْ قَدِيمَةٍ وَحَدِيثَةٍ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - حِكَمٌ فِي خَلْقِهَا وَغِذَائِهَا عَجِيبَةٌ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ أَمْرُ تَغَذِّي الْحَيَّاتِ وَالسَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ وَصِغَارِهَا، وَتَغَذِّي الْأَفَاعِي الْكُبْرَى وَسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مِنْ كِبَارِهَا، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهَا، أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ ذَرْعًا بِكَثْرَةِ أَحْيَائِهَا، أَوْ لَأَنْتَنَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَاتِهَا، وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَا وَبِحِكْمَتِهَا فَعَلَيْكَ بِالْمُصَنَّفَاتِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهَا، وَقَدْ فَتَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا لَكَ أَبْوَابَهَا، وَأَرْشَدَتْكَ إِلَى تِطْلَابِهَا.
وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ التَّعْبِيرُ عَنْ كَفَالَةِ اللهِ لِرِزْقِهَا بِقَوْلِهِ: عَلَى، وَمَا قِيلَ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوُجُوبِ مَعَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمَمْنُوعَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ ذِي حُكْمٍ أَوْ سُلْطَانٍ يُطَالِبُهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النِّظَامِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ الْعَامِّ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَنَفَّذَهُ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي خَلِيقَتِهِ، فَهُوَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ بِسُلْطَانِهِ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانِ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ.
وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ فِيهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ نَوْعٍ - مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ حَتَّى الْإِنْسَانِ - أَفْرَادٌ قَدْ تَضِيقُ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ حَتَّى يَقْضِيَ بَعْضُهُمْ جُوعًا، فَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ كَفَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَخْلُقَ لَهَا مَا تَغْتَذِي بِهِ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، سَوَاءٌ أَطَلَبَتْهُ بِبَاعِثِ غَرِيزَتِهَا أَوْ مَا يَهْدِيهَا إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ أَسْبَابِ
كَسْبِهَا أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنْ خَلْقِهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنْهَا الرِّزْقَ الَّذِي تَعِيشُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَخَّرَهُ لَهَا وَهَدَاهَا إِلَى طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ، كَمَا قَالَ: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) وَبِهَذَا تَعْلَمُ جَهْلَ بَعْضِ الْعِبَادِ وَالشُّعَرَاءِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْخَيَالِيِّينَ الْجَاهِلِينَ، الْمُتَوَاكِلِينَ غَيْرِ الْمُتَوَكِّلِينَ:
13
فَهَذَا الشَّاعِرُ أَحَقُّ بِصِفَةِ الْجُنُونِ مِمَّنْ يَصِفُهُمْ بِهَا، فَإِنَّ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ مِنْهُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ نَوْعُهُ بِالتَّجَارِبِ وَالِاخْتِبَارِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آثَارٌ، فَمَا هُمَا سِيَّانِ فِي ذَاتِهِمَا، وَلَا فِي آثَارِهِمَا وَنَتَائِجِهِمَا، وَإِنَّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ الْجَنِينِ فِي غِشَاوَتِهِ بِدَمِ حَيْضِ أُمِّهِ، غَيْرُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (٦٧: ١٥) وَبِغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْلِيفِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَحَدُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَذْكِيَاءِ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَثَرٍ مَوْضُوعٍ، وَيُسْتَحْسَنُ فِي مَوْضُوعِهِ خَيَالُ ابْنِ أُذَيْنَةَ الشَّاعِرِ الْمَخْدُوعِ:
جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ
جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ
لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الْإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي
أَسْعَى إِلَيْهِ فَيُعْيِينِي تَطَلُّبُهُ وَلَوْ أَقَمْتُ أَتَانِي لَا يُعْيِينِي
ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ صَدَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ يَوْمَ وَفَدَ عَلَى هِشَامٍ فَقَرَعَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَدِمَ هِشَامٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ بِجَائِزَتِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ (أَيِ الْمُفَسِّرُ) فِي مَعْنَاهُ قَوْلَ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَلْغَى أَمْرَ الْأَسْبَابِ جِدًّا إِذْ قَالَ:
مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ
أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا وَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ
وَقَفَّى عَلَيْهِ - أَعْنِي الْمُفَسِّرَ - بِقَوْلِهِ هُوَ: وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي الْوُثُوقُ بِاللهِ وَرَبْطُ الْقَلْبِ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَقٌّ وُضِعَ مَوْضِعَ الْبَاطِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا الشِّعْرَ أَوْغَلُ فِي الْجَهْلِ الْبَاطِلِ مِمَّا سَبَقَهُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الرِّزْقِ الْمَطْلُوبِ، لَا فِي الرِّزْقِ الْمَكْتُوبِ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ مَانِعًا مِنْ إِدْرَاكِهِ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ بِالْقُعُودِ وَالْكَسَلِ وَالتَّمَنِّي دُونَ الْعَمَلِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَيْلِهِ، فَيَكُونُ تَأْيِيدُ زَعْمِهِ أَوْ تَقْرِيبُهُ بِمَا يَنْبَغِي، بَلْ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْوُثُوقِ بِاللهِ وَرَبْطِ الْقَلْبِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِمَشِيئَتِهِ، مِنْ رَبْطِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ، وَتَأْيِيدِ الْبَاطِلِ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، فَالثِّقَةُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْإِيمَانُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُمَا وَمَوَاضِعِ تَعَلُّقِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَبِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَأَسْبَابِ الرِّزْقِ، أَنَّ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ إِلَّا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ وَحِكْمَتِهِ فِيهَا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالْجَهْلُ بِهَذَا مِمَّا أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ، وَأَضَاعَ جُلَّ مِلْكِهِمْ، وَجَعَلَ
جَمَاهِيرَهُمْ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ.
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) أَيْ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَيَعْلَمُ اللهُ مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ
14
تَسْتَقِرُّ وَتُقِيمُ، وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَكُونُ مُودَعَةً إِلَى حِينٍ، فَهُوَ يَرْزُقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنَ الْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (٦: ٩٨) فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فِي (ص ٥٣٢ و٥٣٣ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ فِي ((مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَمَاكِنُهَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، أَوِ الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَوْ مَسَاكِنُهَا مِنَ الْأَرْضِ حِينَ وُجِدَتْ، وَمَوْدَعُهَا مِنَ الْمَوَادِّ وَالْمَقَارِّ حِينَ كَانَتْ بَعْدُ بِالْقُوَّةِ (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَرْزَاقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا ثَابِتٌ مَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَلَوْحٍ مَحْفُوظٍ، كَتَبَ اللهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كُلَّهَا فَهُوَ عِنْدُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ٦: ٣٨ ثُمَّ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَهِيَ الْآيَةُ ٥٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) فَرَاجِعْهَا فِي (ص ٣٨١ ج ٧ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ).
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مِنْ أَيَّامِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا شَاءَ مِنَ الْأَطْوَارِ، لَا مِنْ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَتْ
بِهَذَا الْخَلْقِ لَا قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَدَّرَ أَيَّامُ اللهِ بِأَيَّامِهَا كَمَا تَوَهَّمَ الْغَافِلُونَ عَنْ هَذَا، وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢: ٤٧) وَقَوْلُهُ: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠: ٤) وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ أَنَّ أَيَّامَ غَيْرِ الْأَرْضِ مِنَ الدَّرَارِيِّ التَّابِعَةِ لِنِظَامِ شَمْسِنَا هَذِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي طُولِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا وَسُرْعَتِهَا فِي دَوَرَانِهَا، وَأَنَّ أَيَّامَ التَّكْوِينِ بِخَلْقِهِ مِنَ الدُّخَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّدِيمِ شُمُوسًا مُضِيئَةً، تَتْبَعُهَا كَوَاكِبُ مُنِيرَةٌ، يُقَدَّرُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ سِنِينِنَا، بَلْ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ ٧: ٥٤ وَيُونُسَ ١٠: ٣، وَذُكِرَ بَعْدَهَا اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرُهُ لِأَمْرِ مُلْكِهِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ بَعْدَهَا فِيهِمَا ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) أَيْ وَكَانَ سَرِيرُ مُلْكِهِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ آيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَرْشِ أَنَّهُ مَرْكَزُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَصْدَرُ التَّدْبِيرِ لَهُ، وَأَنَّ الْمُتَبَادِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ اسْتِعْمَالُهُمُ: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى مَلَكَ أَوِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْمُلْكِ لَهُ، وَ: ثُلَّ عَرْشُهُ بِمَعْنَى هَلَكَ وَزَالَ مُلْكُهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُرُوشَ مُلُوكِ الْبَشَرِ تَخْتَلِفُ مَادَّةً وَشَكْلًا، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَصُنْعِ أَيْدِي الْبَشَرِ، كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النِّظَامُ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ فِي عَالَمِنَا هَذَا، فَعَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ الْعَظِيمِ،
15
كَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْشِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ تَدْبِيرَهَا وَحُكْمَهَا الشُّورِيَّ (الدِّيمُقْرَاطِيَّ) كَانَ دُونَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ، وَرُبَّ عَرْشٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَعَرْشٍ مِنَ الْخَشَبِ، وَأَمَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ تَصْوِيرَهُ بِأَفْكَارِنَا، فَأَجْدِرْ بِنَا أَلَّا نَعْلَمَ كُنْهَ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَصُدُورَ تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ عَنْهُ، وَحَسْبُنَا أَنْ نَفْهَمَ الْكِتَابَةَ وَنَسْتَفِيدَ الْعِبْرَةَ، فَمَا أَجْهَلَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ بِأَقْيِسَتِهِمْ وَآرَائِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ! وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللهُ - مِنْ قَوْلِهِمُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فَنَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ دُونَ هَذَا الْعَرْشِ
مِنْ مَادَّةِ هَذَا الْخَلْقِ قَبْلَ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ هُوَ هَذَا الْمَاءُ، الَّذِي أَخْبَرَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، إِذْ قَالَ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً لَا فَتْقَ فِيهَا وَلَا انْفِصَالَ - وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ بِالسَّدِيمِ وَبِلُغَةِ الْقُرْآنِ بِالدُّخَانِ - فَفَتَقْنَاهُمَا بِفَصْلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مِنْهَا مَا هُوَ سَمَاءٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْضٌ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ، فِي الْمُقَابَلَةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْفَاعِلَ لِهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَبَدْئِهِ؟
فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَزَّلُ إِلَيْهِ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَالتَّكْوِينِ مِنْهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، لَا مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَنِّيِّينَ فِي الْمَاءِ وَالْعَرْشِ، مِمَّا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَالْعِبَارَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ ذَاتَ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ كَانَ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ الَّتِي نَرَاهَا رَاسِيَةً فِيهِ الْآنَ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ هُوَ دُونَ فَائِدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْعَرْشِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِرَبِّنَا وَبِحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ نَظَرِيَّاتِ عِلْمِ التَّكْوِينِ وَعِلْمِ الْحَيَاةِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ مِنَ التَّجَارِبِ فِيهَا، وَيُخَالِفُ أَتَمَّ الْمُخَالَفَةِ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْفَلَكِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْمُسَلَّمَةِ. وَبِهَذَا يُعَدُّ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ.
ثُمَّ عَلَّلَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَلْقَهُ لِمَا ذَكَرَ بِبَعْضِ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ:
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ بَلَاءً، أَيِ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا لَكُمْ،
16
فَيَظْهَرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ إِتْقَانًا لِمَا يَعْمَلُهُ، وَنَفْعًا لَهُ وَلِلنَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَجَعَلَكُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِإِبْرَازِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ حِكَمِ خَالِقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ فِيهِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِفْسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِ ; لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ هَذَا الْبَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦: ١٦٥) وَغَيْرِهِ: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) أَيْ وَتَاللهِ لَئِنْ قُلْتَ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ مِنْ وَحْيِ رَبِّهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِيَجْزِيَكُمْ رَبُّكُمْ بِعَمَلِكُمْ فِيمَا بَلَاكُمْ بِهِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٥٣: ٣١) فَإِنَّهُ مَا خَلَقَكُمْ سُدًى، وَلَا سَخَّرَ لَكُمْ هَذَا الْعَالَمَ وَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ عَبَثًا: (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ لَيُجِيبَنَّكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ قَائِلِينَ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ لِتُسَخِّرَنَا بِهِ لِطَاعَتِكَ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ تَسْحَرُ بِهِ الْعُقُولَ، وَتُسَخِّرُ بِهِ الضَّمَائِرَ وَالْقُلُوبَ، فَتُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَعَشِيرَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، مُعْتَقِدِينَ بِسُلْطَانِ بَلَاغَتِهِ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ ثُمَّ يُبْعَثُونَ وَيُجْزَوْنَ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَ، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) (٢٣: ٣٦).
(عِلَاوَةً فِي آيَاتِ التَّكْوِينِ وَمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ) :
إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ عَرْشَهُ مَعَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي بِضْعِ آيَاتٍ بَيَّنَ فِي كُلٍّ مِنْهَا شَأْنًا مَنْ شُئُونِهِ. فَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذَكَرَ سُنَنَهُ فِي إِغْشَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَطَلَبِهِ طَلَبًا حَثِيثًا، وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ هَذَا النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ بِدَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ شَمْسِهَا، وَدَوْرَانِ الْقَمَرِ حَوْلَ أَرْضِهِ. وَفِي آيَةِ " يُونُسَ " (٣) ذَكَرَ التَّدْبِيرَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَفِيعٍ ; إِذْ أَمْرُ الشُّفَعَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِهِ، ثُمَّ وَضَّحَهُ بِآيَةِ: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (١٠: ٥) وَتَقْدِيرَهُ ((مَنَازِلَ)) وَفِي آيَةِ " هُودٍ " (٧) ذِكْرُ مَا لِلْمَاءِ مِنَ الشَّأْنِ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ، وَلِهَذَا الْمَاءِ ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ، أَوْسَطُهَا السَّائِلُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ وَيُسْقَى بِهِ النَّبَاتُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي حَالِ اعْتِدَالِ الْحَرَارَةِ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِلَى دَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ صَارَ ثَلْجًا أَوْ جَلِيدًا، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ صَارَ بُخَارًا، فَإِذَا كَشَفَ سُمِّيَ ضَبَابًا وَسَدِيمًا، فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ سُمِّيَ دُخَانًا. وَفِي آيَةِ " الرَّعْدِ " (٢) جَمَعَ بَيْنَ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ وَتَفْصِيلِ الْآيَاتِ، وَآيَةُ " طه " (٥) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) (٢٠: ٦) وَآيَةُ الْفُرْقَانِ (٥٩) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ
بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (٦١) فَذِكْرُ الْبُرُوجِ تَفْصِيلٌ لِنِظَامِ الزَّمَانِ، وَآيَةُ الم السَّجْدَةِ (٤) نَفَى فِيهَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ أَوْ شَفِيعٌ، وَقَفَّى عَلَيْهَا بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنَ
17
السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ يَنْزِلُ مِنْهُ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا نَعُدُّهُ (٣٢: ٥) وَقَالَ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) (٥٧: ٤) إِلَخْ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَكَلَّفُوا تَفْسِيرَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَوْ تَأْوِيلَهُنَّ بِالْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ عِنْدَ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الْمُخَالِفَ لِلْقُرْآنِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْفَلَكِ الْأُورُبِّيَّ قَدْ نَقَضَ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْخَيَالِيَّةَ، بِالْأَدِلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ رِيَاضِيَّةٍ حِسَابِيَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ، وَمِنْ طَبِيعِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ كَتَحْلِيلِ النُّورِ وَسُرْعَتِهِ وَوَزْنِ الْحَرَارَةِ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْفَلَكِ الْحَدِيثِ وَمَبَاحِثِ التَّكْوِينِ قَرِيبٌ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، كَبُعْدِهِ عَمَّا يُخَالِفُ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْيُونَانِ.
وَأَزِيدُكَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي اصْطِلَاحِ الْهَيْئَةِ الْقَدِيمَةِ هِيَ مَرْكَزُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَيُحِيطُ بِهَا فَلَكُ الْقَمَرِ فَهُوَ سَمَاؤُهَا، وَيُحِيطُ بِهِ فَلَكُ عُطَارِدَ فَأَفْلَاكُ الزُّهْرَةِ فَالشَّمْسِ فَالْمِرِّيخِ فَالْمُشْتَرِي فَزُحَلَ فَفَلَكِ النُّجُومِ كُلِّهَا فَالْفَلَكِ الْأَطْلَسِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُقِ اللهُ إِلَّا أَرْضًا وَاحِدَةً فِي قَلْبِ تِسْعِ سَمَاوَاتٍ، وَالسَّمَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا سَمَا وَعَلَا، فَكُلُّ مَا فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ فَهُوَ سَمَاءٌ، وَنَقَلَ الرَّاغِبُ عَنْ بَعْضِهِمْ: كُلُّ سَمَاءٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دُونِهَا فَسَمَاءٌ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى فَوْقِهَا فَأَرْضٌ، إِلَّا السَّمَاءَ الْعُلْيَا فَإِنَّهَا سَمَاءٌ بِلَا أَرْضٍ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (٦٥: ١٢) وَالسَّبْعُ مِثْلٌ وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْعَصْرِيَّ بِسُنَنِ التَّكْوِينِ الْعَامَّةِ يَرْتَقِي فِي هَذِهِ الْأَجْيَالِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَ مَا يَنْكَشِفُ مِنْهَا لِلْعُلَمَاءِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْأُصُولِ قَدْ يَنْقُضُ بَعْضَ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُضْ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَصْلُ السَّدِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) وَأَصْلُ خَلْقِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لَا يَزَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتًا عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَادَّةِ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ خَرَابِ الْعَالَمِ الَّذِي تَرْجِعُ بِهِ هَذِهِ
الْأَجْرَامُ إِلَى مَادَّتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ٤٤) (: ١٠) وَعَبَّرَ عَنْهُ كَذَلِكَ بِالْغَمَامِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) (٢٥: ٢٥) وَقَوْلِهِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) (٢: ٢١٠) وَالْغَمَامُ فِي اللُّغَةِ السَّحَابُ الرَّقِيقُ، فَالدُّخَانُ وَالْغَمَامُ وَالْبُخَارُ وَالسَّدِيمُ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ اللَّطِيفَةِ (الْمَاءِ) قَالَ حُكَمَاؤُنَا: الْبُخَارُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مَائِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالدُّخَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَنَارِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالْغُبَارُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، اهـ. وَأَرَقُّهُ الْهَبَاءُ قَالَ - تَعَالَى -:
18
(إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (٥٦: ٤ - ٦) وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالدُّخَانِ عَنِ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ لِلْبُخَارِ وَالدُّخَّانِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ الْمَاءِ، وَالْأُوكْسُجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ النَّارِ، وَالِاسْمُ الْعُرْفِيُّ لِجِنْسِ هَذِهِ الْبَسَائِطِ (الْغَازُ)، وَالسَّدِيمُ فِي اللُّغَةِ: الْغَمَامُ وَالضَّبَابُ وَاخْتَارَهُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ عَلَى الدُّخَانِ وَغَيْرِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ التَّنْزِيلَ أَرْشَدَنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا عَرْشَهُ الْعَظِيمَ، إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا جَعَلَهُ مَصْدَرًا لَهُ مِنْ سُنَنِ التَّكْوِينِ وَأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، وَفِي آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَرْشَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ سُنَنِهِ وَنِعَمِهِ وَحِكَمِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ وَلَا شُعُوبُ الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ تَعْرِفُهَا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ إِلَّا فِي عَصْرِنَا هَذَا.
مِنْ ذَلِكَ أَصْلُ خَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢٢: ٥) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥٠: ٧) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٢٦: ٧) وَقَوْلِهِ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٣١: ١٠) فَالزَّوْجُ الْبَهِيجُ وَالْكَرِيمُ هُوَ الْمُنْبَتُ الْمُنْتَجُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (٥٣: ٤٥ و٤٦) وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ (٧٥: ٣٦ - ٣٩).
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا انْكَشَفَ لِلْبَشَرِ مِنْ عِلْمِ التَّكْوِينِ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَوِ الْمَنْشَأِ
الْأَوَّلِ لِلْخَلْقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا يُسَمَّى بِالْجَمَادِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَهُوَ اتِّحَادُ ذَرَّاتِهِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا فِي لُغَةِ الْعِلْمِ (بِالْإِلِكْتِرُونِ وَالْبُرُوتُونِ) فَهَلْ لِهَذَا مِنْ أَصْلٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟
قُلْتُ: نَعَمْ ; إِنْ هَذَانِ إِلَّا زَوْجَانِ مُنْتَجَانِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْصُرْ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بَلْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥١: ٤٩) وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا فِي الْعُمُومِ، وَأَدْهَشُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْفُهُومِ، وَأَعْظَمُ عِبْرَةً لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْعُلُومِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (٣٦: ٣٦) فَهُوَ يَشْمَلُ الْكَهْرَبَائِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا عُلِمَ وَمِمَّا قَدْ يُعْلَمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ، لَا يُعْقَلُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ لِيَخْطُرَ بِبَالِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا فِي خَلَدِ أَحَدٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْعَقْلِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ النُّورِ وَالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَلْقِ
19
وَسُنَنِ الْإِبْدَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْكَهْرَبَاءِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَأَظْهَرُهُ آيَةُ النُّورِ الْعُظْمَى فِي سُورَتِهِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٢٤: ٣٥) وَقَوْلُهُ فِي مَثَلِهِ مِنْهَا: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) (٢٤: ٣٥) وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ خَلَقَ (الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (٥٥: ١٥) أَوْ (مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (١٥: ٢٧) وَهِيَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَحَدِ أَيَّامِهَا كُتْلَةً نَارِيَّةً مُشْتَعِلَةٍ، وَرَاجِعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٣٤) فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ السُّنَنُ الْعَجِيبَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونَ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهَا أَسْبَقَ إِلَى مَا أَظْهَرَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ؟
قُلْنَا: أَوَّلًا - إِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، هُوَ إِيرَادُهَا فِي آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي السُّوَرِ مَمْزُوجَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَالْفَوَائِدِ لَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ سُورَةِ " يُونُسَ " الَّتِي صَدَرَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.
ثَانِيًا - إِنَّ هَذِهِ السُّنَنَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَقِيدَتَيِ: التَّوْحِيدِ، وَالْبَعْثِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ تُذْكَرَ مَعَهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
ثَالِثًا - إِنَّ الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْبَشَرَ بِكَسْبِهِمْ وَبَحْثِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَحْيُ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَيْهَا.
رَابِعًا - لَوْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ تَامٌّ لِجَمِيعِ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ لَتَعَذَّرَ فَهْمُهَا قَبْلَ تَحْصِيلِ مُقَدِّمَاتِهِ بِالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَكَانَتْ فِتْنَةً لِبَعْضِ مَنْ فَهِمَهَا بِالْجُمْلَةِ، وَإِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا وَاضِحَةً كَآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (٧: ٥٤) وَفِي غَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَهَا.
خَامِسًا - وَلَوْ لَمْ يَعْرِضْ لِلْحَضَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مَا وَقَفَ بِتَرَقِّي الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، لَسَبَقُوا إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بَعْدَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرْيِ عَلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْكَوْنِيَّةَ يَمُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوقِفُ سَيْرَهَا.
هَذَا، وَإِنَّ مُؤَلِّفَ هَذَا التَّفْسِيرِ الضَّعِيفَ قَدْ صَرَّحَ فِي مَقْصُورَتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي عَهْدِ طَلَبِ الْعِلْمِ بِطَرَابُلُسِ الشَّامِ، بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْأَزْوَاجِ مَصْدَرَ التَّكْوِينِ الْعَامِّ، وَأَشَارَ إِلَى شَوَاهِدِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ مُوَلِّدَاتِ الْفِكْرِ وَالْخَيَالِ فَقَالَ:
20
21
تَبَارَكَ الْبَارِئُ مُبْدِعُ الْوَرَى بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنَى
أَحْكَمَ رَبِّي مَا بَرَاهُ فَانْبَرَى مُسْتَحْصِفَ الْمَرِيرِ مَشْدُودَ الْعُرَى
أَنْشَأَ فِي الدُّخَانِ كُلَّ صُورَةٍ فَسَمَكَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ دَحَا
(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) الَّذِي أَنْشَأَ مِنْهُ كُلَّ حَيٍّ وَبَرَا
وَخَلَقَ الْأَشْيَاءَ أَزْوَاجًا وَمِنْ ذُرِّيَّةِ الزَّوْجَيْنِ يَذْرُو مَا يَشَا
ثُمَّتَ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ (ثُمَّ هَدَى)
فَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِقَدَرٍ لَا أُنُفٌ مُبْتَدَأٌ وَلَا سُدَى
فَابْعَثْ رَسُولَ الطَّرْفِ مِنْكَ رَائِدًا يَجُوبُ أَجْوَازَ الْبِحَارِ وَالْفَلَا
وَاسْرِ بِهِ لِلْأُفْقِ فِي مَرَاصِدٍ مِعْرَاجُهَا يُدْنِي إِلَيْكَ مَا نَأَى
وَسَرِّحِ الْفِكْرَ رَبِيئًا ثَانِيًا لِمَسْرَحِ الْأَرْوَاحِ يَسْعَى وَالنُّهَى
حَتَّى إِذَا جَاسَا خِلَالَ الدَّارِ مِنْ حِسٍّ إِلَى نَفْسٍ وَرَوْحٍ وَحِجَا
22
سَائِلْهُمَا هَلْ ثَمَّ مِنْ تَفَاوُتٍ أَوْ خَلَلٍ فِي الْبَدْءِ كَانَ أَوْ عَرَا
إِنِّي وَتِلْكَ مَظْهَرٌ لِلْحَقِّ فِي صِفَاتِهِ وَمَا تَسَمَّى مَنْ سُمَا
(فَلَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ) أَنْ يَجْرِي بِهَا (أَبْدَعَ مِمَّا كَانَ) قَبْلُ وَجَرَى
(ثُمَّ ارْجِعِ) الطَّرْفَ إِلَيْهَا (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ) خَاسِئًا حَسِيرًا قَدْ عَشَا
يَتْلُ عَلَيْكَ الْآيَ (صُنْعَ اللهِ) مَنْ (أَتْقَنَ كُلَّ) مَا رَأَيْتَ وَتَرَى
ثُمَّتَ يَتْلُ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) مِنْ سُنَنِ الْحَكِيمِ فِي هَذَا الْوَرَى
وَأَنَّهُنَّ سُنَنٌ ثَابِتَةٌ مِثْلَ نِظَامِ الشَّمْسِ فَاتْلُ (وَالضُّحَى)
قَامَ بِهِنَّ أَمْرُ كُلِّ عَالَمٍ فِي أَرْضِنَا وَفِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى
مَا ثَمَّ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا قَوْمٍ فَهُمْ فِيهَا سَوَى
نَاهِيكَ بِالْإِنْسَانِ فِي اجْتِمَاعِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا وَأَمَامًا وَوَرَا
يَجْرِي عَلَى حُكْمِ تَنَازُعِ الْبَقَا فِي أَرْجَحِ الْأَمْرَيْنِ نَشْأٌ وَارْتِقَا
كَرَاسِبِ الْإِبْلِيزِ وَالْإِبْرِيزِ إِذْ يَذْهَبُ طَافِي زَبَدِ الْمَاءِ جُفَا
وَسُنَّةُ النِّتَاجِ بِالزَّوَاجِ بَلْ كُلُّ تَوَلُّدٍ تَرَاهُ فِي الْوَرَى
يَظْهَرُ هَذَا فِي الْمَوَالِيدِ وَفِي الْ جَمَادِ وَالتَّفْكِيرِ رُبَّمَا بَدَا
فَاجْتَلِهِ فِي الْحَيَوَانِ نَاطِقًا وَأَعْجَمًا وَفِي النَّبَاتِ الْمُجْتَنَى
بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ بِجِسْمٍ نَبَتَتْ زَادَ بِهَا الْجِسْمُ امْتِدَادًا وَنَمَى
خَلِيَّةَ يُقْرَنُ فِي غُضُونِهَا نَوِيَّتَانِ تَنْثَنِي وَهْيَ زَكَا
وَالْكَهْرَبَا زَوْجَانِ إِمَّا اقْتَرَنَا تَأَلَّقَ الْبَرْقُ وَشِيكًا وَخَفَا
كَالزَّنْدِ وَالزَّنْدَةِ إِمَّا ازْدَوَجَا بِالِاقْتِدَاحِ أَنْتَجَا نَارَ الصَّلَى
وَالْمُعْصِرَاتُ عِنْدَمَا أَلْقَحَهَا الثَّـ ـائِبُ جَاءَتْ بِوَلِيدِهَا الْحَيَا
وَلَامَسَ الْبِحَارَ فِي سُكُونِهَا فَاعْتَلَجَ الْآذِيُّ فِيهَا وَطَغَا
وَالْمَاءُ وَالتُّرْبَةُ إِذْ تَقَارَنَا تَوَلَّدَتْ صُمُّ الصُّخُورِ وَالْحَصَى
وَافْتَرَشَ الْأَرْضَ الْحَيَا فَانْفَتَقَتْ عَنْ كُلِّ زَوْجٍ يُرْتَعَى وَيُجْتَنَى
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
23
هَذِهِ الْآيَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) إِلَخْ، وَهِيَ كُلُّهَا بَيَانٌ لِحَالِ النَّاسِ تِجَاهَ مَا بُلِّغُوهُ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ التَّوْحِيدُ - وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَذِيرًا وَبَشِيرًا وَمَا أَنْذَرَ وَبَشَّرَ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَالِ الْجَزَاءِ فِيهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِخَلْقِهِ - تَعَالَى - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِاخْتِبَارِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ قُصَارَى مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِإِنْذَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُ فَقَالَ: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الْآيَةُ شَرْطِيَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيهِ، وَالْأُمَّةُ هُنَا: الطَّائِفَةُ أَوِ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١٢: ٤٥) وَأَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الدِّينِ وَالْمِلَّةِ الْخَاصَّةِ وَالزَّمَنِ الْخَاصِّ. أَيْ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا وَمَحْدُودَةٍ فِي نِظَامِ تَقْدِيرِنَا وَسُنَّتِنَا فِي خَلْقِنَا، الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِنَا: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (١٣: ٣٨) أَوْ إِلَى أُمَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ
تُعَدُّ بِالسَّنَوَاتِ، أَوْ مَا دُونَهَا مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَيَّامِ (لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) يَعْنُونَ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُ هَذَا الْعَذَابَ مِنَ الْوُقُوعِ إِنْ كَانَ حَقًّا كَمَا يَقُولُ هَذَا النَّذِيرُ؟ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ إِنْكَارًا لَهُ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أَيْ أَلَا إِنَّ لَهُ يَوْمًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ إِذْ تَنْتَهِي الْأُمَّةُ الْمَعْدُودَةُ الْمَضْرُوبَةُ دُونَهُ، وَيَوْمَئِذٍ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ صَارِفٌ وَلَا يَحْبِسُهُ حَابِسٌ. (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وَسَيُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَلَا هُوَ يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يَنْجُونَ مِنْهُ، عَبَّرَ بِـ حَاقَ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْفَاعِلِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ بِفِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَمِرِّ لِلْإِيذَانِ بِعِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَهَذَا الْمَوْضُوعُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ (٢٨، ٤٥ - ٥٥) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ إِبْهَامِ هَذَا الْعَذَابِ بِمَا يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ مِنَ السُّوَرِ.
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِبَارِ اللهِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (٧) أَيْ لَئِنْ أَعْطَيْنَاهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ رَحْمَةً مِنَّا مُبْتَدَأَةً أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا، فَكَانَ مُغْتَبِطًا بِهَا، كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَالْوَلَدِ الْبَارِّ. (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ مِنْ مَرَضٍ وَعُسْرٍ وَفِتَنٍ وَمَوْتٍ. (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) أَيْ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَشَدِيدُ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَطُوعٌ لِلرَّجَاءِ مِنْ عَوْدَةِ
24
تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ يَتَمَتَّعُ بِهَا، فَضْلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْهَا، فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْيَأْسِ مِمَّا نُزِعَ مِنْهُ، وَالْكُفْرِ بِمَا بَقِيَ لَهُ لِحِرْمَانِهِ مِنْ فَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) النَّعْمَاءُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا - كَالنِّعْمَةِ بِالْكَسْرِ وَالنُّعْمَى بِالضَّمِّ - وَهِيَ مَا يُقَابَلُ بِالضَّرَّاءِ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلَمْ تَرِدِ النَّعْمَاءُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْإِذَاقَةُ أَخَصُّ
مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ كَشْفَ الضَّرَّاءِ السَّابِقَةِ وَإِحْلَالَ مَا هُوَ ضِدُّهَا مَحَلَّهَا، كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَزِيَادَةِ الْعَافِيَةِ وَالْقُوَّةِ السَّابِغَةِ، وَالْمَخْرَجِ مِنَ الْعُسْرِ وَالْفَقْرِ، إِلَى سَعَةِ الْغِنَى وَالْيُسْرِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ، إِلَى بُحْبُوحَةِ الْمَنَعَةِ وَالْعِزِّ. يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ مَنَحْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ الْيَئُوسَ الْكَفُورَ: نَعْمَاءَ، أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا وَنِعْمَتَهَا، بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بِاقْتِرَافِهِ لِأَسْبَابِهَا، إِثْرَ كَشْفِهَا وَإِزَالَتِهَا (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) أَيْ ذَهَبَ مَا كَانَ يَسُوءُنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالضَّرَّاءِ فَلَنْ تَعُودَ، فَمَا هِيَ إِلَّا سَحَابَةُ صَيْفٍ تَقَشَّعَتْ فَعَلَيَّ أَنْ أَنْسَاهَا بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أَيْ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَشَدِيدُ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ الَّذِي يُهَيِّجُهُ الْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ، وَمُبَالِغٌ بِالْفَخْرِ وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا، فَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهَا.
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحَالِهِمَا، وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ لِبَيَانِ حَالَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -:
(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَالَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ: الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ عِنْدَ زَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَفَرَحِ الْبَطَرِ وَعَظَمَةِ الْفَخْرِ بِهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا، يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ إِيمَانًا بِاللهِ وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) عِنْدَ كَشْفِهَا وَتَبْدِيلِ النَّعْمَاءِ بِهَا، مِنْ شُكْرِهِ - تَعَالَى - بِاسْتِعْمَالِ النِّعْمَةِ فِيمَا يُرْضِيهِ - تَعَالَى - مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) وَاسِعَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَمْحُو مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا وُفِّقُوا لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَشْمِيرٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بَارًّا لَا يَسْلَمُ فِي الضَّرَّاءِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ قَدْ يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَى أَوْ يُلَابِسُ بَعْضَ الْوِزْرِ، وَفِي حَالِ النَّعْمَاءِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الزَّهْوِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُغْفَرُ لَهُ بِصَبْرِهِ وَشُكْرِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى رَبِّهِ.
وَيُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرّ
دَعَانَا) (١٠: ١٢) إِلَخْ وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) (١٠: ١٢) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (٢٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ مَعَ تَفْسِيرِ: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ١٠: ٥٨
تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُكَرَّرَةَ بِالْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ الْبَلِيغَةِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَتِكَ لِمَا تُزَكِّي بِهِ نَفْسَكَ وَتُثَقِّفُ طِبَاعَهَا وَعَادَاتِهَا الضَّارَّةَ، وَالْجَامِعُ لِلْمُرَادِ هُنَا بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا، سُورَةُ: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (١٠٣: ١ - ٣).
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَمَوْضُوعِ دَعْوَتِهِ الْعَامَّةِ وَحَالِ النَّاسِ فِيهَا، وَبَيَانِ طِبَاعِهِمْ وَشُئُونِهِمُ الرَّدِيئَةِ إِلَّا مَا هَذَّبَتْهُ هِدَايَةُ الدِّينِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ خَاصَّةٌ بِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ، وَقَدْ بُدِئَتْ بِبَيَانِ غَمِّهِ وَحُزْنِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ وَيَلِيهِ تَحَدِّيهِ بِهِ الْمُثْبِتُ لِوَحْيِهِ.
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)، الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ جُمْلَةِ لَعَلَّ بِحَسَبِ مَوْقِعِهَا هُنَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ،
أَيْ أَفَتَارِكٌ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، مِمَّا يَشُقُّ سَمَاعُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ، وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ تُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ كَرَاهَةَ (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أَيْ هَلَّا أَعْطَاهُ رَبُّهُ كَنْزًا مِنْ لَدُنْهُ يُغْنِيهِ فِي نَفَقَتِهِ وَيَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالْكَنْزُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ الْمَالِ فِي الْأَرْضِ، عَبَّرُوا بِهِ عَمَّا يُنَالُ بِغَيْرِ كَسْبٍ، وَبِإِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ يَخُصُّهُ بِهِ (أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يُؤَيِّدُهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ " الْفُرْقَانِ ": (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أَنْزِلُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) (٢٥: ٧ و٨) أَيْ
26
إِنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ وَكِتْمَانَ بَعْضِ الْوَحْيِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَشَأْنُهُ أَنْ تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، بِحَسَبِ الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، فَهَلْ أَنْتَ مُجْتَرِحٌ لِهَذَا التَّرْكِ، أَوْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَعْرِضُ لَكَ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟ كَلَّا لَا تَفْعَلْهُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦: ١٢٧) وَقَوْلِهِ: (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧: ١ و٢) وَقَوْلِهِ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (١٨: ٦) وَقَوْلِهِ (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (٢٦: ١ - ٤) أَيْ لَعَلَّكَ قَاتِلُهَا غَمًّا وَانْتِحَارًا؟ أَيْ لَا تَفْعَلْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِنَادَهُمْ وَجُحُودَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَشِدَّةَ اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيمَا لَيْسَ أَمْرُهُ بِيَدِكَ، مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى ذَلِكَ لَوْلَا عِصْمَتُنَا إِيَّاكَ وَتَثْبِيتُنَا لَكَ، فَهَلْ تُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى تَبْخَعَ نَفْسَكَ؟ لَا لَا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَوْنِ الْإِرْشَادِ مَبْنِيًّا عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (١٧: ٧٤).
(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) فَعَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهُ وَتُنْذِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَإِنْ سَاءَهُمْ وَأَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِأُمُورِ
الْعِبَادِ وَالرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ، الَّذِي هُوَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢: ٢٧٢) وَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٨٨: ٢١ - ٢٢) وَ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (٥٠: ٤٥).
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَعَلَّ)) لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا رَجَاءٌ وَطَمَعٌ وَشَكٌّ. وَقَالُوا: إِنَّهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْقَطْعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ) وَقَالَ شَيْخُنَا إِنَّهَا لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ ; أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ لِلْفَلَاحِ بِالتَّقْوَى، وَحَقَّقْنَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِإِطْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَإِحْدَاثِ الرَّجَاءِ عِنْدَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَحَصَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَعَانِيَهَا فِي ثَلَاثٍ: ١ - التَّوَقُّعِ: وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ، وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. ٢ - التَّعْلِيلِ: قَالَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي فِرْعَوْنَ: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (٢٠: ٤٤) ٣ - الِاسْتِفْهَامِ: وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ (أَقُولُ) : وَإِذَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُهُ كَاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَنَا.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
27
أَيْ بَلْ أَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، لَا تَدَّعُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَإِنَّكُمْ أَهْلُ اللَّسَنِ وَالْبَيَانِ، وَالْمِرَانِ عَلَى الْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَفُنُونِ الشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعُمُرِ الطَّوِيلِ الَّذِي عِشْتُهُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فَأَنْتُمْ بِهِ أَجْدَرُ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَقَصَصِهِ عَنِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ مُفْتَرَيَاتٍ فَأَنْتُمْ عَلَى مِثْلِهَا أَقْدَرُ فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَصْدَقُكُمْ لِسَانًا لَمْ أَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ، فَكَيْفَ أَفْتَرِي عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ مَعَهُ وَالْبَنَاتِ لَهُ وَالشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَتَحْرِيمِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزَّرْعِ
وَالْأَنْعَامِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى وَضْعِهِ مِمَّنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْإِمْكَانِ، فَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِمَّنْ تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ لِيُسَاعِدُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ السُّوَرِ الْعَشْرِ، وَلْتَكُنْ مِثْلَهُ مُفْتَرَيَاتٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ، بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مِثْلِ مَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيعٍ دِينِيٍّ وَمَدَنِيٍّ وَسِيَاسِيٍّ، وَحِكَمٍ وَمَوَاعِظَ وَآدَابٍ وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنِ الْمَاضِي وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ عَلَى أَنَّهَا سَتَأْتِي، بِمِثْلِ هَذِهِ النُّظُمِ الْبَدِيعَةِ، وَالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ وَالْفَصَاحَةِ الْمُسْتَعْذَبَةِ فِي الْأَذْوَاقِ وَالْأَسْمَاعِ، وَالسُّلْطَانِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا كَانَ مَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ أَوَّلًا مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَّسِعُ لِكُلِّ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، أَوْ فَأْتُوا بِنَوْعٍ مِمَّا تَدَّعُونَ افْتِرَاءَهُ كَالْقَصَصِ فِي عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا وَهِدَايَتِهَا، مُكَرَّرًا كَتِكْرَارِهِ لِكُلِّ أَنْوَاعِهَا، هَذَا التَّكْرَارُ الَّذِي لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ، وَلَا تُمَلُّ إِعَادَتُهُ.
هَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ ٣٨ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي تِلْكَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَفِي هَذِهِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَقَدْ وَعَدْتُ فِي تَفْسِيرِهَا بِالْكَلَامِ عَلَى حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ عِنْدَمَا أَصِلُ إِلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ هَذِهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُبَيِّنَهَا هُنَاكَ مُجْمَلَةً لِئَلَّا تَخْتَرِمَنِي الْمَنِيَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنْتُهَا فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِعْجَازِ الْبَلَاغَةِ.
بَلْ سَبَقَ لِي أَنْ بَيَّنْتُ حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَاتِ التَّحَدِّي نُزُولًا، وَوَضَّحْتُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ الَّذِي عَقَدْتُهُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ وَهُوَ إِعْجَازُهُ بِأُسْلُوبِهِ وَنُظُمِهِ الْعَدِيدَةِ وَأَسَالِيبِهِ الْكَثِيرَةِ فِي سُوَرِهِ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ.
28
خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتِهِمُ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ، زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَحَدَّى فُصَحَاءَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ
لَمْ يَصِحَّ بِهِ نَقْلٌ، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ قَبْلَ أُخْرَى لَا يَقْتَضِي نُزُولَ جَمِيعِ آيَاتِهَا قَبْلَ جَمِيعِ آيَاتِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ فِي تَأَخُّرِ نُزُولِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَلَا يَصِحُّ بِالتَّحَكُّمِ الْمَحْضِ، فِيمَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّقْلِ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ التَّصَوُّرِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سُورَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ.
وَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنَ التَّأَمُّلِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُكَرَّرِ فِي سُوَرِهِ ; لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَطْلُبُوا مَعَانِيَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَلَى قِلَّتِهَا وَقِلَّةِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمِنْ مَدْلُولِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا وَحْدَهَا فِي مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَجُمَلِهَا، بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْفَنِّيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ وَأُصُولِهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَعْوَى الْإِعْجَازِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَسْبِقُ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ إِلَى أَعْلَى عِبَارَةٍ لَهُ وَأَبْلَغِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ مَا عَدَاهَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّابِقَ لَهَا قَدْ تَلَقَّاهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ، وَذَكَرْتُ مَثَلًا لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُعَدُّ كُلٌّ مِنْهَا فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَيَعْجِزُ عَنْهَا جَمِيعُ الْبُلَغَاءِ ثُمَّ بَيَّنْتُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ يُونُسَ أَنَّ الْقَامُوسَ الْأَعْظَمَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ هُوَ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعَشَرَاتِ وَالْمِئَاتِ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ وَقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا فِي قُلُوبِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ لَهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّنَاقُضِ أَوِ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا قَالَ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِعْجَازُ بِنَوْعَيْهِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ وَجْهَ وَصْفِهَا بِمُفْتَرَيَاتٍ
، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى بَسْطِ الْمَسْأَلَةِ وَفَاءً بِالْوَعْدِ فَأَقُولُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَرَاهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ تَبْلِيغِهِ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: (١) أَنَّهُ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَائِهِ أَنَّهُ كَلَامُهُ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْهُ آنِفًا.
(٢) أَنَّهُ افْتَرَى أَخْبَارَهُ الَّتِي يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ; إِذْ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ وَفِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ، وَقَدْ حَكَى الْأَمْرَيْنِ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ
29
الْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (٢٥: ٤ - ٦) فَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قِصَصُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي سَطَرُوهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَلِّي نَفْسَهَا عَنْ جَهْلِهَا بِالْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خُرَافَاتٌ وَأَكَاذِيبُ، فَالتَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ هُوَ الَّذِي يُفَنِّدُ هَاتَيْنِ التُّهْمَتَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْهَضِ حُجَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لَا جَدَلِيَّةٍ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْعَجْزِ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَنُّوا أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوَاحِدَةِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدَةٍ كَانَ أَعْجَزَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَضْلًا عَنْ عَشْرٍ، فَتَفْصُوا مِنْ هَذَا بِدَعْوَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ التَّحَدِّي مُتَّحِدًا مُطْلَقًا وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ وَمُقَيَّدٌ.
ذَلِكَ بِأَنَّ افْتِرَاءَ الْأَخْبَارِ الْمُدَّعَى فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ. وَهِيَ قِسْمَانِ: (١) قِصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَحَدَّى بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهَا غَيْبِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَفِي غَيْرِهِمَا. (٢) أَخْبَارُ التَّكْوِينِ ; كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ، لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحَدِّي بِهَا
تَحَدِّيًا خَاصًّا، وَلَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ الْوَارِدَةِ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ النِّعَمِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَوْ سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَجِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذِهِ كُلَّهَا قِسْمًا وَاحِدًا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: (١) وَعْدُ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَارَوْنَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ (٢) الْقِيَامَةُ وَبَعْثُ الْخَلْقِ وَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ.
فَأَخْبَارُ الْغَيْبِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ: (١) أَخْبَارُ الْآخِرَةِ. (٢) أَخْبَارُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا إِلَّا بِتَأْوِيلِهَا، أَيْ وُقُوعِ مَدْلُولِهَا. (٣) قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَهِيَ
30
أُمُورٌ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، وَهَاكَ كَلِمَةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، يُعْلَمُ بِهَا تَرْجِيحُ الثَّالِثِ الَّذِي سَمَّوْهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا.
فَأَمَّا آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّوَرِ مِنْ أَطْوَلِهَا إِلَى أَقْصَرِهَا الَّتِي هِيَ سُوَرُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ بِتَكَرُّرِهَا الْمَبْثُوثِ فِي مِئَاتِ الْمَوَاضِعِ مِنَ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَلَاغَةِ الدَّقِيقَةِ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ قِصَارَ الْمُفَصَّلِ الْمَكِّيَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا هِيَ: التِّينُ، وَالْعَادِيَاتُ، وَالْقَارِعَةُ وَالتَّكَاثُرُ، وَالْهُمَزَةُ، وَاللهَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلِهَا مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الضُّحَى، وَلَا يَظْهَرُ لِلتَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْهَا مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ.
وَأَمَّا آيَاتُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلْكَافِرِينَ بِالْخِذْلَانِ وَالْعَذَابِ، فَلَا يُوجَدُ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ صَرِيحٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِشَارَاتٌ فِي بَعْضِهَا (مِنْهَا) سُورَةُ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّادِق
لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْطَائِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَمِنْهُ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ الَّذِي كَانَ أَغْنِيَاءُ قَوْمِهِ يُعَيِّرُونَهُ بِهِ، وَالْوَعِيدُ الصَّادِقُ لِعَدُوِّهِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِي سَمَّاهُ أَبْتَرَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ الْقَاسِمِ، بِأَنَّهُ هُوَ الْأَبْتَرُ الَّذِي سَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ بِنَسْلِهِ وَغَيْرِ نَسْلِهِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ بَقَاءَ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذُرِّيَّتِهِ وَبِآثَارِ هِدَايَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ خُلَاصَةَ تَفْسِيرِهَا فِي بَحْثِ إِعْجَازِ السُّوَرِ الْقِصَارِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَمِنْهَا) سُورَةُ (اللهَبِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهَا خَبَرٌ بِهَلَاكِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا دُعَاءٌ فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَقَدْ صَدَقَ، فَقَدْ مَاتَ أَبُو لَهَبٍ شَرَّ مِيتَةٍ خَارِجَ مَكَّةَ وَبَقِيَ مُلْقًى حَتَّى تَفَسَّخَ وَأَنْتَنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِأَيَّامٍ، وَهِيَ أَوَّلُ انْتِقَامِ اللهِ مِنْ عُتَاةِ قُرَيْشٍ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (٤٤: ١٦) وَمِثْلُهَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ، وَقَدْ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَدَقَ بِقَتْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَشَرَّ قِتْلَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ (الْمُدَّثِّرِ) مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ وَعِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَدْ صَدَقَ وَوَقَعَ - فَهَذِهِ أَرْبَعُ سُوَرٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيهَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَدِّ الْعُتَاةِ الَّذِينَ بَارَزُوهُ الْعَدَاوَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ - مِمَّنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ - مِنَ الْوَعِيدِ لَهُ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ جُزْئِيَّاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ مُجْمَلَةٌ، لَا وَقَائِعُ فَاصِلَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ أَيْضًا.
31
وَمِنَ الْوَعِيدِ الْعَامِّ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجِنِّ مِنْ تَبْلِيغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّعْوَةَ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) (٧٢: ٢٤ و٢٥) إِلَخْ. وَهَذَا بَعْدَ الْوَعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (٧٢: ١٦).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلَا فِي أَوْسَطِهَا عَشْرُ سُوَرٍ نَاطِقَةٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ فَتَكُونَ هِيَ الْمُرَادَّةَ بِالتَّحَدِّي.
وَأَمَّا طِوَالُ الْمُفَصَّلِ فَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُبْهَمِ فِي سُوَرِ الذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ ; بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا،
ثُمَّ فِي سُوَرِ الْمُلْكِ وَالْقَلَمِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمَعَارِجِ، وَمَجْمُوعُ مَا فِيهِ يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ، إِنْ أُرِيدَ التَّحَدِّي بِهَا أَوْ دُخُولُهَا فِيمَا يُتَحَدَّى بِهَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْأَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِمَّا فَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَخْصِيصُ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ ; لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي سُوَرِهِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ لِذَاتِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ.
وَجْهُ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ:
وَأَمَّا قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ التَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ عَلَى أَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا مِنَ الْوُجُوهِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ مُعَارَضَتِهَا أَقْوَى حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُفْتَرَاةً مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَلَا مِمَّا أَعَانَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَصَوَّرُوا وَزَوَّرُوا، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مِثْلِهَا عَامٌّ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً مُسْتَهْدَفِينَ بِاتِّبَاعِهِ لِلْإِيذَاءِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَوْلَا الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَمَلٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَأَيُّ بَاعِثٍ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ مَعَهُ عَلَى تَزْوِيرِ كِتَابٍ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يُعَادُونَ بِهِ كُبَرَاءَ قَوْمِهِمْ وَعَصَبِيَّةَ أُمَّتِهِمْ بِمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ كَلِمَتَهَا وَيُضْعِفُونَهَا وَيُذِلُّونَهَا؟ ! وَكَيْفَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَاكِ، وَيُعَرِّضُ الْمُتَمَوِّلُ مِنْهُمْ مَالَهُ لِلزَّوَالِ لِتَأْيِيدِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ كُلُّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ وَسَائِرِ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا كَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَوَعْدِهَا وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُكَرَّرِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ فِي سُوَرِ النَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِنَّ أَنَّ مَوْضُوعَهَا وَقَائِعُ بَشَرِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ لَهَا رِوَايَاتٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ
32
وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، فَدَعْوَى افْتِرَائِهَا مِنْ أَصْلِهَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ عُرْضَةٌ لِضُرُوبٍ مِنَ الْخَطَأِ
اللَّفْظِيِّ، وَتِكْرَارُهُ مَزَلَّةٌ فِي مَدَاحِضِ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَطَلِ الْبَيَانِيِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَعَارِفِهِمْ وَمَا يَعْهَدُونَهُ بَيْنَهُمْ، لَا كَأُمُورِ الْغَيْبِ فِي غَيْرِ عَالَمِهِمْ، فَتَحَدِّيهِمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ جِنْسِهَا كَالتَّحَدِّي بِمُعَارَضَةِ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ لِمَقَامَاتِ بَدِيعِ الزَّمَانِ وَأَمْثَالِهِمَا، يُمْكِنُ لِأَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَحْكُمُوا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا فِي بَيَانِهِمَا وَحِكْمَتِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا.
وَقَدْ جَاءَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ مُكَرَّرَةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، تَبْتَدِئُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ، وَتَرْتَقِي فِي بَعْضِهَا إِلَى مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا، كَمَا تَرَاهُ فِي ((آلِ حمم)) مِنْ فُصِّلَتْ إِلَى الْأَحْقَافِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ وَ ((ق)) وَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ، وَفِي أَوَّلِ الْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ وَآخِرِ الْبُرُوجِ، فَهَذِهِ سُوَرٌ تَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا عِبَرٌ لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ قَصَصًا.
وَأَمَّا الْقِصَصُ فَقَدْ تَبْلُغُ فِي بَعْضِ سُورِهَا عَشَرَاتِ الْآيَاتِ كَيُونُسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحِجْرِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَتُعَدُّ فِي بَعْضِهَا بِالصَّفَحَاتِ لَا بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا مَا أَكْثَرَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ كَالْأَعْرَافِ وَمَرْيَمَ وَالنَّمْلِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا خَاتِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ كَيُوسُفَ
33
وَطه وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ، أَوْ فَاتِحَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَقْطَعٍ، كَهُودٍ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُورَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةٌ بِهِ وَبِقَوْمِهِ سُمِّيَتْ بِاسْمِهِ عَلَى تَكْرَارِهَا فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ سُورَةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةٌ بِقِصَّتِهِ. كَمَا أَنَّ سُورَتَيْ طه وَالْقَصَصِ فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحْدَهَا، عَلَى كَثْرَةِ تَكْرَارِهَا فِي غَيْرِهِمَا.
بَيْدَ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحَدِّي بِهَا كُلِّهَا، لَا بِالْقِصَصِ الَّتِي فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ سُوَرٍ وَلَا خَمْسٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ الْحَقِيقِيَّةُ وَسَطٌ بَيْنَ الطُّولِ وَالْمُفَصَّلِ، فَالْأُولَى مِنْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَآيَاتُهَا ٢٠٦، وَآيَاتُ الْقِصَصِ فِيهَا ١١٢ آيَةً، وَقَبْلَهَا قِصَّةُ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا وَخِتَامُهَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهَا فِيهِ سُورَةُ يُونُسَ، وَهِيَ ١٠٩ آيَاتٍ وَقَصَصُهَا ٢٣ آيَةً، وَتَتْلُوهَا سُورَةُ هُودٍ، وَآيَاتُهَا ١٢٣ أَكْثَرُهَا فِي الْقَصَصِ، وَهِيَ أَشْبَهُ السُّوَرِ بِهَا فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا وَتَحَدِّيهَا فِي إِبْطَالِ الِافْتِرَاءِ، وَالْمَأْثُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا مُتَمِّمَةً لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَجُمْلَةُ مَا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ مِنْ سُوَرِ الْقَصَصَ: الْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَمَرْيَمُ وَهِيَ ٩٨ آيَةً، وَطه وَهِيَ ١٣٥ وَالطَّوَاسِينُ: الشُّعَرَاءُ وَهِيَ ٢٢٧ وَالنَّمْلُ وَهِيَ ٩٣ وَالْقَصَصُ وَهِيَ ٨٨ وَآيَاتُهُمَا أَطْوَلُ مِنْ آيَاتِ
الشُّعَرَاءِ وَنَزَلْنَ مُتَعَاقِبَاتٍ. وَيَلِيهِنَّ سُورَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ ٥٥ آيَةً وَسُورَةُ ((ص)) وَهِيَ ٨٨ آيَةً وَقَدْ نَزَلَتَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ، فَهَذِهِ تِسْعُ سُوَرٍ، وَسُورَةُ هُودٍ هِيَ الْعَاشِرَةُ لَهُنَّ.
مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِ عِبَارَاتِهَا:
وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّوَرِ تَخْتَلِفُ أَنَاظِيمُ سُوَرِهَا فِي أَوْزَانِهَا وَفَوَاصِلِهَا، وَفِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ اتِّفَاقِهَا وَتَشَابُهِهَا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ الْبَيَانِيَّةِ، فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَالْقَصْرِ وَالْحَصْرِ، وَمَوَاضِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَصِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ وَالشَّرْطِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَدَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْعُمُومِ وَالتَّخْصِيصِ، وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْإِيجَازِ وَالتَّطْوِيلِ، وَالْحَذْفِ وَالتَّكْرِيرِ، وَفُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّعْبِيرِ، كَالِالْتِفَاتِ وَالتَّضْمِينِ، وَصِيَغِ الْأَفْعَالِ وَتَعْدِيَتِهَا، وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا، فَإِنَّ لِعِبَارَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ، مَا لَا يَقْرَبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، وَمِنْ شَأْنِ اخْتِلَافِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ أَنْ تَتَعَارَضَ وَتَتَنَاقَضَ بِتَعَدُّدِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ مِنْهُ، وَقَدْ عَرَضْتُ لِنُكَتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا فِي الْمُقَابَلَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا فِي قِصَصِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ غَيْرِهَا.
34
ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَغَمًا خَاصًّا بِهِ فِي التَّرْتِيلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ التَّأْثِيرِ، فَاسْتَمِعْ لِمُرَتِّلِ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ طه سَاعَةً (زَمَانِيَّةً لَا فَلَكِيَّةً) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ سَاعَةً ثَانِيَةً، وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَهَا وَهِيَ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَتَأَمَّلْ مَا تَجِدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ فِي سَمْعِكَ، مُتَدَبِّرًا مَا تَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْعِبْرَةِ فِي قَلْبِكَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ جَرِّبْ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الْقِصَصِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، كَهُودٍ وَالنَّمْلِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَالْقَمَرِ، تَجِدُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِجَالِ الْبَيَانِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
إِذَا فَطِنْتَ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ، بَدَا لَكَ أَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي جُمْلَةِ سُوَرِهَا، بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهَا، وَكُلِّ نَظْمٍ مِنْ
أَنَاظِيمِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْهَا، وَهَأَنَذَا قَدْ ذَكَرْتُ لَكَ عَشْرًا مِنْهَا مُخْتَلِفَاتٍ مُتَّفِقَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ غَيْرَ مُشْتَبِهَاتٍ، وَلَكِنْ حِكْمَةُ الْعَشْرِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى أَكْمَلِهَا فِي الْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنْهَا.
مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهَا الْعِلْمِيِّ:
إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ مِنَ الْإِعْجَازِ الصُّورِيِّ، لَأَشِعَّةٌ مِنْ ضِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، هِيَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، وَأَدَقُّ وَأَخْفَى، وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَجِيئُهَا عَلَى لِسَانِ كَهْلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ مُنْشِئًا وَلَا رَاوِيَةً وَلَا حَافِظًا، أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَأَمَّلْ مَا أَذْكُرُ بِهِ مِنْ مَزَايَاهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُتَشَعِّبَةِ، مِنْهَا:
(١) بَيَانُ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْعَامَّةِ.
(٢) بَيَانُ أَنَّ وَظِيفَةَ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ فِيمَا وَرَاءَ التَّبْلِيغِ نَفْعًا لِلنَّاسِ - لَا دِينِيًّا كَالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلَا دُنْيَوِيًّا كَالرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، وَلَا كَشْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ كَذَلِكَ - فَقَدْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ وَامْرَأَتُهُ وَامْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ الْكَافِرِينَ.
(٣) شُبْهَةُ الْأَقْوَامِ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِمْ سِحْرٌ، وَاقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَرَدُّهُمْ بِأَنَّ آيَاتِهِمْ مِنْ فِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مِنْ كَسْبِهِمْ بِقُدْرَتِهِمْ.
(٤) بَيَانُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ كَسْبِهِمُ الِاخْتِيَارِيِّ.
35
(٥) آيَاتُ اللهِ وَحُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَأْيِيدِ رُسُلِهِ، وَطُرُقِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحَدِّي، وَمَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ كَالْأَوْلَادِ لِإِبْرَاهِيمَ وَزَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ، وَمَا ابْتَلَى اللهُ - تَعَالَى - بِهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكَمَةِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (الرُّؤْيَا) وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ اصْطِفَائِهِ لَهُ، وَمِنْ إِدَارَتِهِ لِمُلْكِ مِصْرَ، وَقِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ.
(٦) نَصَائِحُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَوَاعِظُهُمُ الْخَاصَّةُ بِكُلِّ قَوْمٍ بِحَسَبِ حَالِهِمْ كَقَوْمِ نُوحٍ فِي غَوَايَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ، وَآلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي ثَرْوَتِهِمْ وَعُتُوِّهُمْ، وَقَوْمِ لُوطٍ فِي فُحْشِهِمْ، وَعَادٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَثَمُودَ فِي أَشَرِهِمْ وَبَطَرِهِمْ، وَمَدْيَنَ فِي تَطْفِيفِهِمْ وَإِخْسَارِهِمْ لِمَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَجُمُودِهِمْ.
(٧) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اسْتِعْدَادِ النَّاسِ النَّفْسِيِّ وَالْعَقْلِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَاسْتِكْبَارِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْآبَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ أَوَّلِ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءَ، وَفِي عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ.
(٨) مَا فِي قِصَصِ الْأَقْوَامِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ، وَالْمَوْضِعِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَحَالِ قَوْمِهِ مَعَهُ فِي خُنُوعِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ، وَفُنُونِهِمْ وَسِحْرِهِمْ، وَعُمْرَانِهِمْ وَعَظَمَةِ مُلْكِهِمْ، وَحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ فِي اسْتِعْبَادِهِ إِيَّاهُمْ وَظُلْمِهِ لَهُمْ، ثُمَّ فِي إِرْثِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِصَبْرِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، ثُمَّ فِي سَلْبِهَا مِنْهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَحَالِ عَادٍ قَوْمِ هُودٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَسْطَةِ خَلْقِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ فِي اسْتِعْمَارِهِمُ الْأَرْضَ وَنَحْتِهِمُ الْجِبَالَ وَاتِّخَاذِهِمْ مِنْهَا بُيُوتًا حَصِينَةً أَمِينَةً، وَمِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا جَمِيلَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ كُلِّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ فِي إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمْ يَنْجُ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ عَذَابِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَنْجِيَةِ رُسُلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ.
(٩) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الطِّبَاعِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ الْعَامِّ، وَمَا فِي خَلْقِهِ لِلْعَالَمِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَعَدَمِ مُحَابَاةِ الْأَفْرَادِ وَلَا الْأَقْوَامِ فِي نِعَمِ الدُّنْيَا وَنِقَمِهَا، وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ فِي الْآخِرَةِ ; فَقَدْ كَانَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُصَرِّحُونَ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ عَصَى اللهَ لَعَذَّبَهُ وَلَمَا كَانَ لَهُ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ أَوْ يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ - تَعَالَى - خِلَافًا لِتَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي جَعَلَتِ الرُّؤَسَاءَ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، أَوْ وُكَلَاءَ لِلرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَتَقْسِيمِ رِزْقِهِ.
(١٠) الِاحْتِجَاجُ بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَتُهُ مِنْ حَقِّيَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ.
36
فَقَدْ عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ كَانُوا خَيْرَ الْبَشَرِ، وَأَهْدَاهُمْ إِلَى أَصَحِّ الْعَقَائِدِ وَأَكْمَلِ الْفَضَائِلِ وَأَصْلَحِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ آثَارَهُمْ فِي الْهُدَى كَانَتْ أَجَلَّ الْآثَارِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ أَفْضَلَ قُدْوَةٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَعُلِمَ مِنْهَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى نِهَايَةِ بَقَاءِ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَكَانَتْ رِسَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً.
فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَدِيثًا مُفْتَرًى فَإِنَّ مُفْتَرِيَهُ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهِدَايَةً وَإِصْلَاحًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا رُسُلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - أَمْ لَا، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِاتِّبَاعِ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ لَهُ وَاهْتِدَائِهِمْ بِهَدْيِهِ، وَلَنْ يَكْشِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ إِلَّا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ، وَلَوْ مُفْتَرًى فِي صُورَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنَّ الِاحْتِذَاءَ وَالِاتِّبَاعَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالِابْتِدَاعِ، إِذَا كَانَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَلَكِنَّ افْتِرَاءَ الْأُمِّيِّ لِهَذِهِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مُحَالٌ أَيُّ مُحَالٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ، أَفَهَكَذَا يَكُونُ الِافْتِرَاءُ، وَالْحَدِيثُ الْمُفْتَرَى الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ الْعُقَلَاءَ حِرْصًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ الَّذِي كُنَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ؟ !.
ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَوِ الْمَعَارِفَ الَّتِي أَجْمَلْتُهَا فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ كُلِّيَّةٍ (وَيُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا وَالْمَزِيدُ عَلَيْهَا بِمَا قَدْ يَفْتَحُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمُتَدَبِّرِينَ لِكِتَابِهِ) مُتَفَرِّقَةً فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ، وَلَا نَجِدُ فِيهَا عَلَى تَكْرَارِهَا تَنَاقُضًا وَلَا تَعَارُضًا، وَلَا فِي عِبَارَاتِهَا اخْتِلَافًا وَلَا تَفَاوُتًا، عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَقَبْضٍ، وَمُسَاوَاةٍ وَبَسْطٍ، وَهَذَا مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ أَيْضًا وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّعَدُّدِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تُوجَدُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً فِي سُورَةٍ وَلَا سُورَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَأَحْرَى بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ وَكَلَامِهِمْ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فِي التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتِيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهَا، تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَزَايَا كُلِّهَا ; فَالتَّحَدِّي بِهَذِهِ السُّوَرِ تَوْسِيعٌ عَلَى الْمُنْكِرِينَ إِنْ تَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهَا لَا تَضْيِيقٌ
عَلَيْهِمْ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ مَا قَرَّرْتُهُ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ بِبَلَاغَتِهِ الَّتِي فَسَّرُوهَا بِمُطَابَقَةِ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ فَقَطْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ هُنَا لَمَا كَانَ لِلتَّحَدِّي بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ وَجْهٌ، بَلْ لَكَانَ مُشْكِلًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَجَلٌ عُلِمَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَرِدُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى قَوْلِنَا ; فَإِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ مَنْ يُكَلِّفُ شَاعِرًا أَنْ يَنْظِمَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً بِقَصِيدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنْ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ أَنْ يَنْظِمَهَا بِعِدَّةِ قَصَائِدَ مُخْتَلِفَةِ الرَّوِيِّ وَالْقَوَافِي. وَإِنِّي لَأَعْجَبُ لِدَهَاقِيِ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ حِكْمَةِ هَذَا الْعَدَدِ إِلَّا قَوْلَ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ انْتِهَاءٌ إِلَى آخِرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ؟.
37
وَإِنَّنِي أَجْزِمُ هُنَا - بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ التَّحَدِّي وَتَارِيخِ نُزُولِ سُوَرِهَا - أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ مُرَاعًى بِهَا التَّرْتِيبُ التَّارِيخِيُّ فِي مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهَا بِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِ سُورَتِهِ، فَسُورَةُ الطُّورِ الَّتِي فِيهَا: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (٥٢: ٣٣ و٣٤) وَهُوَ تَحَدٍّ بِجُمْلَتِهِ، قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ اللَّتَيْنِ تَحَدَّاهُمْ فِيهَا بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ. وَسُورَةُ الْإِسْرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَهُنَّ، وَفِيهَا ذِكْرُ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (١٧: ٨٨) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحَدِّيًا، وَكَانَ آخِرَ مَا نَزَلَ فِي التَّحَدِّي آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) وَهُوَ تَحَدٍّ لِلْمُرْتَابِينَ فِيمَا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ.
الْخُلَاصَةُ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الْمُعَانِدِينَ لَمْ يَجِدُوا شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ - بَعْدَ شُبْهَةِ السِّحْرِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَلْقَ رَوَاجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ بِلُغَتِهِمْ عَرَفُوهُ وَعَقَلُوهُ وَأَدْرَكُوا عُلُوَّهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ - إِلَّا زَعْمَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَمَا هُوَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي جُمْلَةِ مَزَايَاهُ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَعُلُومِهِ، وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْإِلَهِيِّ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ فَعَجَزُوا، وَبَقِيَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فِي قِصَصِهِ ; إِذِ ادَّعَى أَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ،
وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ وَيُلَقَّنُهَا لِئَلَّا يَنْسَاهَا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ خَاصَّةٌ مُوَجَّهَةٌ إِلَى قِصَصِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهِ الْكَثِيرَةِ، لَا يَدْحَضُهَا عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهَا الَّتِي حَصَرُوا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَلَا إِبْدَاعُ نَظْمِهَا وَلَا طَرَافَةُ أُسْلُوبِهَا أَيْضًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، أَيْ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَهَا إِذَا كَانَتْ جَامِعَةً لِمَزَايَاهَا الْمَعْنَوِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّا أَظْهَرَهَا فِي الْجُمَلِ الْعَشْرِ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ قَدْ كَانَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا، وَالسُّوَرُ الْمُفَصَّلَةُ فِيهَا الَّتِي تَمَّتْ عَشْرًا بِهَذِهِ السُّورَةِ (هُودٍ) وَكَلَّفَهُمْ دَعْوَةَ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى - لِيُظَاهِرُوهُمْ فَعَجَزُوا، وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَا مِنْ فُصَحَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَعَلَى غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّحَدِّي الظَّاهِرَةُ هُنَا.
وَلَهُ حِكْمَةٌ أُخْرَى بَاطِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى هِيَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا الْفَائِدَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوَجِّهُ الْأَنْظَارَ وَيَشْغَلُ الْأَفْكَارَ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِ مَا حَوَاهُ مِنْ حِكْمَةٍ وَعِرْفَانٍ، وَمَا لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ مِنْ تَأْثِيرٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْغَافِلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ إِعْجَازَهَا مَحْصُورٌ فِي فَصَاحَةِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَبَلَاغَةِ الْبَيَانِ، عَلَى مَا فِي دَلَالَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ
38
مِنَ الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَذْهَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، أَوِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ مُدَّعِي عِلْمِ الطِّبِّ عَلَى عِلْمِهِ بِكِتَابٍ أَلَّفَهُ فِيهِ يُعَالِجُ بِهِ الْمَرْضَى فَيَبْرَءُونَ. فَالْبَلَاغَةُ تَكُونُ بِالسَّلِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا تَظْهَرُ فَجْأَةً وَكَامِلَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِّ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللهِ - تَعَالَى -، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ عِلْمَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْيٌ بَرَزَ بِكَلَامٍ مُعْجِزٍ لِلْخَلْقِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آتَى هَذَا الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ مَا لَمْ يُؤْتِ أُولَئِكَ الْجَهَابِذَةَ الْأَقْوِيَاءَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَصَفَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يُحِيطُ
أَحَدٌ بِهِ عِلْمًا، وَأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.
وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْتُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ صَحِيحَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّى بِهِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ مَنْ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لِيُظَاهِرُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ الْمُمَاثِلَةِ لِسُوَرِ الْقُرْآنِ، مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وَتَعْبُدُونَ، وَهَوَاجِسِكُمُ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَكُمُ الشِّعْرَ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَقُرَنَائِكُمْ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَارِفِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ ذَلِكَ (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ، مُلَابِسًا لَهُ، مُبَيِّنًا لِمَا أَرَادَ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، لَا بِعِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ تَدَّعُونَ زُورًا أَنَّهُمْ أَعَانُوهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ عَلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، كَمَا قَالَ: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (٧: ٧) وَكَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هُودٍ (الْآيَةَ ٤٩) وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ (١٢: ١٠٢) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ (٢٨: ٤٤ - ٤٦) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) (٤: ١٦٦) وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢: ٢٦ و٢٧) إِلَخْ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ لَمْ يَكْسِبْ مِنْهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا.
الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ كَإِجَابَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ دَاحِضَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، مُثْبِتَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعُلُومِ الَّتِي فِيهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ
39
التَّحَدِّي بِمَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَحَضَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهَا وَ ((أَنَّمَا)) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ كَالْمَكْسُورَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ (وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ يُعْبَدُ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَعْجِزَ كُلُّ مَنْ عَدَاهُ عَنْ مِثْلِ مَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا ظَهَرَ بِهَذَا التَّحَدِّي عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ آلِهَتِكُمْ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَعَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَالِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ دَاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِهِ وَحَقِّيَّةِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مُذْعِنُونَ لِأَحْكَامِهِ؟ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ مَحِيصٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَقَدْ دُحِضَتْ شُبْهَتُكُمْ. وَانْقَطَعَتْ مَعَاذِيرُكُمْ، إِلَّا جُحُودَ الْعِنَادِ وَإِعْرَاضَ الِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْإِسْلَامِ وَالْإِذْعَانِ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا إِيقَاعَ الشِّقَاقِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٥: ٩١) أَيْ عَنْهُمَا بَعْدَ عِلْمِكُمْ بِهَذَا الرِّجْسِ وَالْمَخَازِي الَّتِي فِيهَا أَمْ لَا؟ وَأَيُّ إِنْسَانٍ يَمْلِكُ مَسْكَةً مِنْ عَقْلٍ وَشَرَفٍ لَا يَقُولُ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَسْلَمْنَا أَسْلَمْنَا، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا؟. (الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ) أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي لَكُمْ لِلتَّعْظِيمِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَاصٍّ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَا تَحَدَّيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مُفْتَرَيَاتٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِكَوْنِ أَخْبَارِهَا حَقًّا كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ - وَمَا هُمْ بِمُسْتَجِيبِينَ لَكُمْ لِعَجْزِهِمْ وَعَجْزِ مَنْ عَسَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ لِمُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْهِ - فَاثْبُتُوا عَلَى عِلْمِكُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ، وَازْدَادُوا بِهِ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ؟ أَيِ اثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الثَّانِي، وَلَكِنْ رَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.
40
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَحَقِّيَّةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَقْطَعُ أَلْسِنَةَ الْمُفْتَرِينَ وَيُبْطِلُ مَعَاذِيرَهُمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الصَّارِفَ النَّفْسِيَّ لَهُمْ عَنْهُ وَكَوْنَهُ شَرًّا لَهُمْ لَا خَيْرًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا شَهَوَاتُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَالْإِسْلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أَيْ مَنْ كَانَ كُلُّ حَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ أَدْنَى الْحَيَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ خُلِقَ لَهُمَا وَهِيَ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْوِقَاعُ، وَزِينَتُهَا مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيَاشِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، لَا يُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ اسْتِعْدَادًا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أَيْ نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا، وَافِيَةً تَامَّةً بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) وَهُمْ لَا يُنْقَصُونَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ نَتَائِجِ كَسْبِهِمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَرْزَاقِ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَالِ السَّبَبِيَّةِ، لَا عَلَى النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ، وَلَكِنْ لِهِدَايَةِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ: الْأَمَانَةِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ، وَاجْتِنَابِ الْخِيَانَةِ وَالزُّورِ وَالْغِشِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِأَهْلِهَا الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ فِيهَا، وَكَرَّرَ لَفْظَ ((فِيهَا)) لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فِي وَفَاءِ كَيْلِ الْجَزَاءِ وَفِي بَخْسِهِ، فَإِنَّهُ فِيهَا مَنُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ، وَأَمَّا جَزَاءُ الْآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُبَاشَرَةً: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١٨: ٤٩).
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارُ الْعَذَابِ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّارِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا كَالْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا ; فَإِنَّ الْعَمَلَ لَهَا إِنَّمَا هُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَأَعْمَالُ الْبَرِّ وَالْفَضَائِلِ (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) وَفَسَدَ
مَا صَنَعُوا مِمَّا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ
الرَّحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُرْبَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَغْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاعْتِزَازِ بِأُولِي الْقُرْبَى عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ كَالْحَبَطِ ; وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تُكْثِرَ الْأَنْعَامُ مِنْ بَعْضِ الْمَرَاعِي الَّتِي تَسْتَطِيبُهَا حَتَّى تَنْتَفِخَ وَتَفْسُدَ أَحْشَاؤُهَا، فَظَاهِرُ كَثْرَةِ الْأَكْلِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَبَبًا لِلضَّعْفِ، كَذَلِكَ مَا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ سُوءَ النِّيَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَا (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لَهُ وَلَا أَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِمَقَاصِدِهَا، وَالنَّتَائِجُ تَابِعَةٌ لِمُقَدِّمَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِمْ خَيْرٌ وَنِيَّةٌ حَسَنَةٌ يُجَازَوْنَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ - تَعَالَى - فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْإِجْمَالِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (١٧: ١٨ - ٢١) وَقَالَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الدِّينُ يُبِيحُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ غَيْرِ الضَّارَّةِ، وَيُبِيحُ الزِّينَةَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا خُيَلَاءٍ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ يَحْتَقِرُ الْمَوَاهِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَرُوحَانِيَّةٍ، فَيَجْعَلُ كُلَّ هَمِّهِ وَحَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي تَفْضُلُهُ بِهَا الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ، فَيَفْضُلُهُ الثَّوْرُ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَالْبَعِيرُ فِي كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَالْعُصْفُورُ فِي كَثْرَةِ السِّفَادِ، وَالطَّاوُسُ فِي زِينَةِ الْأَلْوَانِ وَلَمَعَانِ اللِّبَاسِ. وَمَنِ اخْتَبَرَ أَهْلَ أَمْصَارِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، عَلِمَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ مَا هُوَ مُفْسِدٌ لِصِحَّتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ حَتَّى نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، وَمَاحِقٌ لِثَرْوَتِهِمْ، وَمُضْعِفٌ لِأُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِضَاعَةُ آخِرَتِهِمْ، وَتَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ حُكُومَتَهُمْ
وَمَدَارِسَهُمْ لَا تُقِيمُ لِلتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَزْنًا، وَتَجْعَلُ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ اخْتِيَارِيَّةً لَا يُلْزَمُهَا أَحَدٌ مِنْ مُعَلِّمِيهَا وَلَا مِنْ تَلَامِيذِهَا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَخْتَلِفَ الرِّوَايَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ نَزَلَتَا فِي الْمُشْرِكِينَ أَمْ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمَا نَزَلَتَا مُنْفَرِدَتَيْنِ فِي طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ حَيْثُ لَا مُنَافِقُونَ وَلَا أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَوْضُوعُهُمَا عَامٌّ فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا يَعْمَلُونَ لِأَجْلِهَا.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَنْ يَهْتَدِي وَيَهْدِي بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ عَلَى جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ، أَوْ عِنَادٍ وَجُحُودٍ، فَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ عَلَى الْحُجَّةِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ هَادِيًا مُهْتَدِيًا بِهِ، فَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ; كَالْبُرْهَانِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالنُّصُوصِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، وَالْخَوَارِقِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَالتَّجَارِبِ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَالشَّهَادَاتِ فِي الْقَضَائِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ قَدْ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا تَرَى فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. وَكَانَتْ بَيِّنَاتُهُمْ قِسْمَيْنِ: حُجَجًا عَقْلِيَّةً، وَآيَاتٍ كَوْنِيَّةً، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَقْتَنِعْ بِبَيِّنَةِ الرَّسُولِ أَوْ يُكَابِرُهَا يَقُولُونَ: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) (١١: ٥٣) وَكَانَ مَنْ جَحَدَ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ بَعْدَ التَّحَدِّي وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ يُهْلَكُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَجِدُ هَذَا وَذَاكَ مُفَصَّلًا فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ:
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ٦: ٥٧ وَقَوْلِهِ: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٧: ١٠٥) فَالْأُولَى مَا عَلِمَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّهِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَبِإِظْهَارِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (٦: ٨٣) أَوْ مَا آتَاهُ مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَسْتَخْذِي لَهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَنْقَطِعُ بِهَا مُكَابَرَتُهُمْ.
وَكَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطْلِقُ الْبَيِّنَةَ تَارَةً عَلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً عَلَى آيَتِهِ الْكُبْرَى الْجَامِعَةِ لِلْبَرَاهِينِ الْكَثِيرَةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) (٦: ٥٧) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (٦: ١٥٥ - ١٥٧) فَهَذَا
43
السِّيَاقُ يُشْبِهُ سِيَاقَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.
وَفِي الْمُرَادِ بِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ فِيهَا وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَامٌّ قُوبِلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مَنْ لَا يُرِيدُونَ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نُورُ الْبَصِيرَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ مِنْ رَبِّهِ - فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩: ٢٢) (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) أَيْ وَيَتْبَعُ هَذَا النُّورَ الْفِطْرِيَّ وَالْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا مُذَكَّرًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَيُؤَيِّدُهُ نُورٌ آخَرُ غَيْبِيٌّ إِلَهِيٌّ مِنْهُ - تَعَالَى - يَشْهَدُ بِحَقِّيَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، الَّذِي هُوَ مَشْرِقُ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْبُرْهَانِ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) وَيَتْبَعُهُ وَيُؤَيِّدُهُ شَاهِدٌ آخَرُ جَاءَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَالَ كَوْنِهِ إِمَامًا مُتَّبَعًا فِي الْهُدَى وَالتَّشْرِيعِ، وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: شَهَادَةُ مَقَالٍ وَشَهَادَةُ حَالٍ ; فَالْأُولَى تَصْرِيحُهُ بِالْبِشَارَةِ
بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً فِي تَفْسِيرِ (٧: ١٥٧)، وَالثَّانِيَةُ مَا بَيْنَ رِسَالَةِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّشَابُهِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فِي كَمَالِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، الَّذِي عَرَفَ بِهِ حَقِّيَّةَ الْوَحْيِ الْعَامِّ الْأَخِيرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ، وَعَرَفَ تَأْيِيدَهُ بِالْوَحْيِ السَّابِقِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاتَّسَقَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْحُجَجِ الثَّلَاثِ فِي هِدَايَةِ دِينِهِ، كَمَنْ كَانَ يُرِيدُ مِنْ حَيَاتِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا النَّاقِصَةَ الْفَانِيَةَ وَزِينَتَهَا الْمُوَقَّتَةَ، مَحْرُومًا مِنَ الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ الْعَالِيَةِ، الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ؟ !.
(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيِّنَةِ الْوَهْبِيَّةِ،
44
وَشَهَادَةِ الْوَحْيِ لِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِيمَانَ مَعْرِفَةٍ وَإِذْعَانٍ، عَلَى عِلْمٍ بِمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) الَّذِينَ تَحَزَّبُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَزُعَمَاءِ قُرَيْشٍ لِلصَّدِّ عَنْهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيِّ وَآلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَالَّذِينَ سَيَتَحَزَّبُونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أَيْ فَإِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ هِيَ الدَّارُ الَّتِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ - تَعَالَى - آنِفًا (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) (١١: ١٦) وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَالْمَوْعِدُ اسْمُ مَكَانٍ (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أَيْ فَلَا تَكُنْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْعَاقِلُ فِي شَكٍّ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ، أَوْ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقُرْآنِ (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) إِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (مِنْ رَبِّكَ) وَخَالِقِكَ الَّذِي يُرَبِّيكَ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُكَ، وَيُوصِلُكَ إِلَى السَّعَادَةِ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) هَذَا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِاسْتِكْبَارِ زُعَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَتَقْلِيدِ مَرْءُوسِيهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِتَحْرِيفِهِمْ وَابْتِدَاعِهِمْ فِي دِينِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِـ - النَّاسِ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمِيعُ الْكُفَّارِ.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ كُلَّهُمْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا فِي عَهْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَأَنَّ فِعْلَ الْمُضَارِعِ لِبَيَانِ الْحَالِ الْوَاقِعِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ ((كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا عِلْمَهُ الْيَقِينِيَّ الضَّرُورِيَّ بِنُبُوَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ ٢٨، وَعَنْ صَالِحٍ فِي الْآيَةِ ٦٣، وَعَنْ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ ٨٨، وَيَكُونُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ مِنْهُ - تَعَالَى - الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ((الْبَيِّنَةَ)) الْقُرْآنُ، وَ ((الشَّاهِدَ)) جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَوْلُهُ: (وَيَتْلُوهُ) عَلَى هَذَا مِنَ التِّلَاوَةِ لَا مِنَ التُّلُوِّ وَالتَّبَعِيَّةِ، فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِهِ بِهِ، وَكَانَ يُعَارِضُهُ وَيُدَارِسُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ جَمِيعَ مَا نَزَلَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ رَمَضَانَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارَضَهُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ. وَفِي الشَّاهِدِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى ضَعِيفَةُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ ((مِنْهَا)) أَنَّهُ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ جِبْرِيلَ كَانَ يُحَفِّظُهُ الْقُرْآنَ أَنْ يُنْسَى مِنْهُ شَيْءٌ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ لِسَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ عَلِيٌّ
45
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَرْوِيهِ الشِّيعَةُ وَيُفَسِّرُونَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - سُئِلَ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ لِسَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَابَلَهُمْ خُصُومُهُمْ بِمِثْلِهَا فَقَالُوا: إِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالْهَوَى، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالْجَلَاءِ وَالضِّيَاءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، بَلْ يَحْتَاجُ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) إِلَى تَأْوِيلٍ مُتَكَلَّفٍ.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ السَّبْعُ بَيَانٌ لِحَالِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُدْمَجَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَبَدَأَ بِوَصْفِ الْأَوَّلِ فَقَالَ:
46
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فِي وَحْيِهِ وَأَقْوَالِهِ، أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَنْعَامِ (١) وَالْأَعْرَافِ (٢) وَيُونُسَ (٣) وَسَيَأْتِي فِي الْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَيُفَسَّرُ الِافْتِرَاءُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَأَظْهَرُهُ هُنَا اتِّخَاذُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ لَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَزَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، وَالْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُرُشَنَا ابْنُ اللهِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَكَذَا مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ بِتَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ دِينِهِ، لِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِهِ (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُحَاسَبَتِهِمْ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ)
الَّذِينَ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ ((الْأَشْهَادُ جَمْعُ شَاهِدٍ كَأَصْحَابٍ، أَوْ شَهِيدٍ كَأَشْرَافٍ)) (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَشْخَاصِهِمْ فَيَفْضَحُونَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْمَقْرُونَةِ بِاللَّعْنَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى خُرُوجِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ مُحِيطِ الرَّحْمَةِ، وَجُمْلَةُ اللَّعْنَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٤٠: ٥١ و٥٢) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ وَيَسْتُرَهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ الشَّهَادَةِ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ سُوَرِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهَا بِأَلْفَاظِهَا فِي فَهَارِسِهَا.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ الْمَلْعُونِينَ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ دِينُهُ الْقَيِّمُ وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أَيْ يَصِفُونَهَا بِالْعِوَجِ وَالِالْتِوَاءِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهَا، أَوْ يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَوْجَاءَ بِمُوَافَقَتِهَا لِأَهْوَائِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَإِبَاحَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِبَعْثٍ وَلَا جَزَاءٍ، وَإِنَّمَا الدِّينُ عِنْدَهُمْ رَابِطَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَشَعَائِرُ قَوْمِيَّةٌ، قَدْ يَتَعَصَّبُونَ لَهَا تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ، وَتَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، الْمُدَّعِينَ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا تَرَاهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَزِيَادَةُ - هُمْ - بَيْنَ الْمُتَبَدَّإِ وَالْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ (٤٥) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ.
(أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ اللهَ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَكُفْرِهِمْ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) وَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِهِ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ، وَلَا أَنْصَارُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَلَكِنْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَوْ عُوقِبُوا فِيهَا، لَا بِالزِّيَادَةِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي إِفْسَادِ كُفْرِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمْ، وَتَدْسِيَةِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يُضَاعَفُ)) مِنَ الْمُضَاعَفَةِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ ((يُضَعَّفُ)) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّضْعِيفِ. وَعَلَّلَ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ بِقَوْلِهِ: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ أَسْمَاعِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ إِصْغَاءً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَزُيِّنَ الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بَلْ كَانُوا (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (٦: ٢٦)، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهِمْ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦) (وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَلَوَازِمِهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ، صَارُوا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ وَالْهُدَى كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بِحَيْثُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ سَمَاعُ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةِ، وَمَا يُثْبِتُهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ
أَنَّهُمْ فَقَدُوا حَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَصَارُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِالْفِعْلِ ; بَلْ هُمْ كَمَا يَقُولُ أَمْثَالُهُمْ فِيمَا يُبْغِضُونَ: إِنَّنِي لَا أُطِيقُ رُؤْيَةَ فُلَانٍ، وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَتَذَكَّرْ أَوْ رَاجِعْ قَوْلَهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (١٠: ٤٢) إِلَخْ.
وَأَمْثَالُهُمْ مُشَاهَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَعْطَى رَجُلٌ مُؤْمِنٌ رَجُلًا مُتَفَرْنِجًا مِنْهُمْ كِتَابَ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) الَّذِي شَهِدَ لَهُ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِطَلَاوَةِ عِبَارَتِهِ
وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَمُوَافَقَةِ أُسْلُوبِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ لِذَوْقِ هَذَا الْعَصْرِ، ثُمَّ سَأَلَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ: كَيْفَ رَآهُ؟ ظَانًّا أَنَّهُ قَرَأَهُ كُلَّهُ بِشَغَفٍ وَأَنَّهُ سَيَشْكُرُ لَهُ هَدِيَّتَهُ، فَقَالَ: إِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقْرَأَ مِنْهُ صَفْحَةً وَاحِدَةً، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ كُتُبَ أَشْهَرِ الْمَلَاحِدَةِ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِلَذَّةٍ وَرَغْبَةٍ كَمَا يَقْرَأُ الْقِصَصَ (الرِّوَايَاتِ) الْغَرَامِيَّةَ! ! ! !
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّهُمْ دَسُّوهَا وَمَا زَكَّوْهَا فِي الدُّنْيَا فَفَقَدُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ وُجُودٍ لِمَنْ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، فَلَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) مِنَ اتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي سِيَاقِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (٧: ٤٤ و٤٥).
(لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) كَلِمَةُ لَا جَرَمَ تُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ لِمَا بَعْدَهَا ; قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَحُوِّلَتْ إِلَى مَعْنَى الْقَسَمِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى ((حَقًّا)) وَلِهَذَا تُجَابُ بِاللَّامِ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَأَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا. وَتَرَى مِثْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ، بِهَذَا وَصَفَ الْفَرِيقَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيَلِيهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خِيَارِهِ وَأَنْصَارِهِ - وَهُوَ:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ خَشَعُوا لَهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَانَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا زِلْزَالٌ وَلَا اضْطِرَابٌ. وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ قَصْدُ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنُّزُولُ فِيهِ، يَقُولُونَ: أَخْبَتَ الرَّجُلُ،
كَمَا يَقُولُونَ: أَنْجِدُوا أَسْهَلَ وَأَنَّهُمْ. وَيُقَالُ: أَخْبَتَ إِلَيْهِ وَأَخْبَتَ لَهُ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(٢٢: ٥٤) وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْمُخْبِتِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَسَطًا بَيْنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ (لَا يَزَالُونَ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فَعَلَهُ الرَّاغِبُ مِنَ التَّنْظِيرِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْبَتِي الْقُلُوبِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ فِيهِمْ: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٢: ٧٤) (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِالذَّاتِ الْخَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا.
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أَيْ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ اللَّذِينَ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمَا وَبَيَانُ حَالِهِمَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِابْتِلَائِهِ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَالصِّفَةُ الْحِسِّيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِحَالِهِمَا، كَمَثَلِ الْأَعْمَى الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ فِي خِلْقَتِهِ، وَالْأَصَمِّ الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، كَذَلِكَ فِي حِرْمَانِهِ مِنْ مَصَادِرِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ كَامِلُ حَاسَّتَيِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ كِلْتَيْهِمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ الْعِلْمَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ وَالتَّشْرِيعِ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِمَا يَرَى مِنَ الْأَكْوَانِ، وَهُمَا الْيَنْبُوعَانِ اللَّذَانِ يُفِيضَانِ الْعِلْمَ وَالْهُدَى عَلَى عَقْلِ الْإِنْسَانِ (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أَيْ هَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ صِفَةً وَحَالًا وَمَبْدَأً وَمَآلًا؟ كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ أَتَجْهَلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ هَذَا الْمَثَلَ الْحِسِّيَّ الْجَلِيَّ، أَوْ أَتَغْفُلُونَ عَنْهُ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ؟ أَيْ يَجِبُ أَنْ تَتَفَكَّرُوا فَتَتَذَكَّرُوا فَتَعْتَبِرُوا وَتَهْتَدُوا.
شَبَّهَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ أَوَّلًا بِالْأَعْمَى فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِ بَصَرِهِ فِيمَا يَفْضُلُ بِهِ بَصَرَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، مِنْ فَهْمِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَزِيدُهُ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهُدًى رُوحِيًّا، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِالْأَصَمِّ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ عَطْفِهِ عَلَى الْأَعْمَى لِيَتَأَمَّلَ الْعَاقِلُ كُلَّ تَشْبِيهٍ وَحْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (٢: ١٨) بِدُونِ عَطْفٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ: التَّهْوِيلُ بِجَمْعِهِمْ لِلنَّقَائِصِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَبْقَ فِي اسْتِعْدَادِهِمْ مَنْفَذٌ لِلْهُدَى، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ: (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (٢: ١٨) وَفِي الْآيَةِ: (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٢: ١٧١) وَمِنَ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ عَطْفُهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَتَرْكُهُ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ التَّوْزِيعَ، وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّشْبِيهَيْنِ الْمُتَضَامِنَيْنِ.
قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)
تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُلَاصَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُخْتَصَرَةً مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) (١٠: ٧١) إِلَخْ، وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا نُكْتَةَ هَذَا الْعَطْفِ فِيهَا، وَوَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَكَانَ مُتَمِّمًا وَشَاهِدًا لَهُ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (٧: ٥٩) وَأَشَرْتُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَامَّةً. وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا بِمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلِي فَنَقُولُ:
- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) قَالَ الْمُعْرِبُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي السُّورَةِ، أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي جُمْلَتِهِ لَا مَعَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا بُعِثَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَبَعْثِهِ نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ; لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ حَالَهُ مَعَهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَعَ أَقْوَامِهِمْ إِجْمَالًا
وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (سُنَّةَ مِنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (١٧: ٧٧) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى قَوْمِكَ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أُصُولِهِ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَخْ.
وَافْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ; لِإِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مَا كَانَ لِلْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي كَلَامِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِبَيَانِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يُذْعِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْإِرْسَالَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ:
(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، بَلِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَاتَّخَذُوا لَهُ الْأَنْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أَيْ شَدِيدِ الْأَلَمِ ; وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِالطُّوفَانِ، وُصِفَ بِالْأَلَمِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٧: ٥٩) أَيْ أَلَمُهُ وَهَوْلُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ نُوحٌ جَامِعًا لِمَعْنَى الْأَلَمِ وَمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ ; إِذِ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْمَعَانِيَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِهِ: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) (٢٣: ٢٣) وَمِثْلُهُ فِيهَا عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّقْوَى، كَمَا كَرَّرَ حِكَايَتَهُ عَنْهُمْ فِي الشُّعَرَاءِ، إِذِ التَّقْوَى مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ فَبَادَرَ الْمَلَأُ، أَيِ الْأَشْرَافُ وَالزُّعَمَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْجَوَابِ لِيَكُونَ الدَّهْمَاءُ تَبَعًا لَهُمْ كَعَادَتِهِمْ،
وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ هُنَا بِـ ((الْفَاءِ)) ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الرَّدِّ السَّرِيعِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَفْصُولًا وَهُوَ: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٧: ٦٠) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُرَاجَعَةِ يُقَالُ:.. قَالَ..... وَيُسَمَّى الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمَوْصُولَ بِالْفَاءِ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ بِمَا يُبْطِلُ دَعْوَتَهُ بِزَعْمِهِمْ، وَالْمَفْصُولُ لَيْسَ إِلَّا طَعْنًا وَتَخْطِئَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ لَا يُعْلَمُ مَتَى وَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ جَوَابًا مُتَّصِلًا بِالدَّعْوَةِ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ!
(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) فِي الْجِنْسِ، لَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْنَا تَكُونُ بِهَا نَذِيرًا لَنَا نُطِيعُكَ وَنَتَّبِعُكَ مُذْعِنِينَ لِنَبُّوتِكَ وَرِسَالَتِكَ (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) أَيْ أَرْدِيَاؤُنَا وَأَخِسَّاؤُنَا يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ أَوِ الْمَرْءُ بِضَمِّ الذَّالِ (كَضَخُمَ) فَهُوَ رَذْلٌ بِسُكُونِهَا (كَضَخْمٍ) وَجَمْعُهُ أَرْذُلٌ بِضَمِّ الذَّالِ، وَجَمْعُ
الْجَمْعِ أَرَاذِلُ أَوْ هُوَ جَمْعُ ((أَرْذَلَ)) بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (٢٥: ١١١) وَيَعْنُونَ بِهِمْ مَنْ دُونَ طَبَقَةِ الْأَشْرَافِ وَالْأَكَابِرِ كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إِذَا فَهِمُوهُ لِعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِمْ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) أَيْ اتَّبَعُوكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَيْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ، قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي بَاطِنِهِ، وَالْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِهِ، أَوْ فِي بَدْئِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ قَبْلَ تَكْرَارِ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِ وَتَوَالِيهِ، فَالْيَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَمْزَةٍ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي عُمَرَ بِالْهَمْزَةِ ((بَادِئَ)) وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْلَغُ لِاحْتِمَالِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) أَيْ وَمَا نَرَى لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَيْنَا أَدْنَى فَضْلٍ تَمْتَازُونَ بِهِ فِي جَمَاعَتِكُمْ، كَالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ يَحْمِلُنَا عَلَى اتِّبَاعِكُمْ وَالنُّزُولِ عَنْ جَاهِنَا وَامْتِيَازِنَا عَلَيْكُمْ بِالْجَاهِ وَالْمَالِ لِمُسَاوَاتِكُمْ (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) أَيْ بَلِ الْأَمْرُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّنَا نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ فِي جُمْلَتِكُمْ: الْمَتْبُوعُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّابِعُونَ فِي تَصْدِيقِهِ، فَهِيَ إِذًا ائْتِمَارٌ بِنَا تُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ تَقْلِبُوا الْحَقِيقَةَ فَتَجْعَلُوا الْفَاضِلَ مَفْضُولًا، وَالشَّرِيفَ مَشْرُوفًا
، وَقَدْ كَرَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالتَّكْذِيبِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالظَّنِّ.
أَجَابُوهُ بِأَرْبَعِ حُجَجٍ دَاحِضَةٍ: (الْأُولَى) أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَسَاوَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مِنْ طَبَقَتِهِمْ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي بَيْتِهِ وَفِي شَخْصِهِ، وَهَكَذَا كَانَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُنَافِي دَعْوَى تَفَوُّقِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِجَعْلِ أَحَدِهِمَا تَابِعًا طَائِعًا، وَالْآخَرِ مَتْبُوعًا مُطَاعًا ; لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ.
(وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرَاذِلُهُمْ فِي الطَّبَقَةِ وَالْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) لَا بِدَلِيلٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَبِهَذَا تَنْتَفِي الْمُسَاوَاةُ فَيَنْزِلُ هُوَ عَنْ رُتْبَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا إِلَى رُتْبَةِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الطَّبَقَاتِ السُّفْلَى، وَهَذَا مُرَجِّحٌ لِرَدِّ دَعْوَتِهِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُ.
(الثَّالِثَةُ) عَدَمُ رُؤْيَةِ فَضْلٍ لَهُ مَعَ جَمَاعَتِهِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ عَصَبِيَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ غَالِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ الْأَرَاذِلَ مِنْ مَقْعَدِهِمْ فِي السِّفْلَةِ، فَيَهُونُ عَلَى الْأَشْرَافِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ.
(الرَّابِعَةُ) أَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِضْرَابِ أَوْ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا ذَكَرُوا مِنَ التَّنَافِي وَالتَّعَارُضِ يُرَجِّحُونَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الدَّعْوَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ الْأَقْوَى لِرَدِّ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ أَخَّرُوهُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوهُ لَمَا بَقِيَ لِذِكْرِ تِلْكَ الْعِلَلِ الْأُخْرَى وَجْهٌ وَهِيَ وَجِيهَةٌ فِي نَظَرِهِمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ بَيَانِهَا، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ طَعْنٌ لَهُمْ عَلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشْرَكُوهُ فِيهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُجَابِهُوهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنَ الرَّذَالَةِ، وَنَحْنُ نَرَى مَلَاحِدَةَ هَذَا الْعَصْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حُجَجِهِمُ الدَّاحِضَةِ، وَغُرُورِهِمْ وَعَمَى
قُلُوبِهِمْ، لَا يَفْضُلُونَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا الْغُرُورَ بِفُنُونِ الْإِفْرِنْجِ وَقُوَّتِهِمْ، وَجَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى تَقْلِيدِ أَرَاذِلِهِمْ فِي شَرِّ رَذَائِلِهِمْ، وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ تَقْلِيدُ قَوْمِ نُوحٍ لِآبَائِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَالْبَلَاءُ عِنْدَنَا مِنْ فَسَادِ أُمَرَائِنَا وَبَاشَاوَاتِنَا وَأَغْنِيَائِنَا، فَهُمْ فِي مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ كَمَلَأِ نُوحٍ شَرُّ طَبَقَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَشَدُّهَا فَسَادًا وَإِفْسَادًا.
قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ دَحْضَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي رَدُّوا بِهَا عَلَيْهِ وَشُبُهَاتٍ أُخْرَى مِنْ لَوَازِمِهَا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ حِكَايَتِهَا بِالْعِلْمِ بِهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فَتَأَمَّلْهُ.
(قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) خَاطَبَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَقَبِ الْقَوْمِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ ((يَا قَوْمِي، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الرَّسْمِ مُرَاعَاةً لِلنُّطْقِ)) اسْتِعْطَافًا وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَكَلِمَةُ ((أَرَأَيْتُمْ)) تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ((١٠: ٥٠ و٥٩)) وَغَيْرِهَا، وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٧.
أَيْ أَخْبِرُونِي يَا قَوْمِيَ الْأَعِزَّاءَ مَا رَأْيُكُمْ وَقَوْلُكُمْ فِي حَالِي مَعَكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ
54
ظَاهِرَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ تَبَيَّنَ لِي بِهَا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِي وَكَسْبِيَ الْبَشَرِيِّ
الَّذِي تُشَارِكُونَنِي فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَتَعَالِيمُ الْوَحْيِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ رَحْمَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِمَنْ يَهْتَدِي بِهَا فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِعِبَادِهِ كُلِّهِمْ (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمِيَتْ)) بِالتَّخْفِيفِ كَخَفِيَتْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَمِثْلُهَا (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ) (٢٨: ٦٦) وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ فَحَجَبَهَا عَنْكُمْ جَهْلُكُمْ وَغُرُورُكُمْ وَجَاهُكُمْ فَلَمْ تَسْتَبِينُوا بِهَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِذْ جَعَلْتُمُونِي بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَالتَّعْبِيرُ (بِعُمِّيَتْ) مُخَفَّفَةً وَمُشَدَّدَةً أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِخَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَمَى الْمُقْتَضِي لِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْخَفَاءِ، وَيَجُوزُ عَوْدَةُ الضَّمِيرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِاقْتِضَاءِ خَفَائِهَا خَفَاءَ الرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الدَّلِيلِ مَعَ الْمَدْلُولِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِهَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَخَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللهِ لَكُمْ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِخَفَاءِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ خَاصَّةٌ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهِيَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ النَّبِيُّ أَنَّهُ نَبِيٌّ (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ إِيَّاهَا بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَارِهُونَ لَهَا إِنْكَارًا وَجُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا؟ أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِيمَانِ الْإِذْعَانِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهُوَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي دِينِ اللهِ - تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ فِي سَابِقِ تَارِيخِهِمْ - وَمَا لَا يَزَالُ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمْ - مِنَ التَّنْصِيرِ بِإِجْبَارِ الْأَقْوَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا امْتَازُوا بِهِ عَلَى أُمَمِ الشَّرْقِ فِي ظُلْمِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَدٌّ لِإِنْكَارِهِمْ لَهَا وَتَكْذِيبِهِ وَمَنْ مَعَهُ فِيهَا، وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمُ الْأُولَى فِي أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَيَدْفَعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْخُبْرِ (بِالضَّمِّ أَيِ الِاخْتِبَارِ) مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالرَّأْيِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، حَتَّى إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَيَأْتِي مِنَ الْإِصْلَاحِ لِقَوْمِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ فِي الْقُرُونِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَكُلُّ هَذَا فِي مُحِيطِ التَّفَاوُتِ الْعَادِيِّ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَفَوْقَهُمَا مَا اخْتَصَّ
اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا لَهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ.
(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) أَعَادَ نِدَاءَهُمْ بِقَوْلِهِ: ((وَيَا قَوْمِ)) اسْتِعْطَافًا وَتَكْرِيرًا لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَالًا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِيهِ عِنْدَهُمْ لِمَكَانَةِ حُبِّ الْمَالِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِزَازِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْمَالُ: مَا يُمْلَكُ وَيُقْتَنَى مِنْ نَقْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَجْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي عَلَى تَبْلِيغِهِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي
55
أَرْسَلَنِي بِهِ، وَكُلُّ رَسُولٍ بَعْدَهُ أُمِرَ أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ هَذَا، كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَحْكِيًّا عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَتَكَرَّرَ مِثْلُهُ بِأَمْرِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٤٢: ٢٣) فَهُوَ - أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ - مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ، لَكِنْ أَسْأَلُكُمْ مَوَدَّةَ أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ الَّتِي تُبَالِغُونَ فِيهَا وَتُقَاتِلُونَ لِأَجْلِهَا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَفْعٌ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ كَغَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاكَتْ فِي صُدُورِ قَوْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ تَكَلَّمَ بِهَا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا بِالَّذِي يَقَعُ مِنِّي طَرْدُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قُرْبِي وَجِوَارِي لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ، وَوَصْفِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْأَرَاذِلِ جَهْلًا مِنْكُمْ، فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَقَدْ يَكُونُونَ صَرَّحُوا بِذِكْرِ هَذَا اللَّازِمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْكُفَّارِ مِنْ جَمِيعِ أَقْوَامِ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَهَا هُنَا وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِهِمْ، وَتَكَرَّرَ مَعْنَاهَا فِي قَوْمِ خَاتَمِهِمْ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ الطَّرْدِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (٦: ٥٢) الْآيَةَ.
وَفِي مَعْنَاهَا قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي سُورَتِهِ (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) هَذَا تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِنَفْيِ الطَّرْدِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنْ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِهِمْ (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أَيْ تُسَفِّهُونَ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْجَهَالَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْحِلْمِ، أَوْ تَجْهَلُونَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الِامْتِيَازَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ الْمُطْغِي، وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ الْمُرْدِي، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٦: ١١١ - ١١٥) وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ تَتِمَّةُ الْآيَةِ (٦: ٥٢) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) كَرَّرَ هَذَا النِّدَاءَ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَالِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنِّي مَا أَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِي وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ الشَّدِيدَ بِعَدْلِ اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا تَكُنْ صِفَةُ مَنِ اقْتَرَفَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦: ٥٢) (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ مِنْهُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلٌ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ: أَتُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِكُمْ، أَوْ أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ؟.
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا)، وَلِهَذَا لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ فِيهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الَّتِي نَفَاهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نَفْسِهِ، هِيَ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ثُبُوتَهَا لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ نَفْيُهَا مُتَضَمِّنًا لِرَدِّ شُبْهَةِ حُجَّتِهِمُ الثَّالِثَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٥٠) وَنَخْتَصِرُ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا لِتَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ.
أَمَّا خَزَائِنُ اللهِ - تَعَالَى - فَالْمُرَادُ مِنْهَا أَنْوَاعُ رِزْقِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا عِبَادُهُ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهَا كَمَا قَالَ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (١٧: ١٠٠) وَالْمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ بِادِّعَائِي لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِنَّ عِنْدِي خَزَائِنَ رِزْقِ اللهِ - تَعَالَى - أَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ، بِحَيْثُ أُنْفِقَ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَنِي بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ أَنَا وَغَيْرِي مِنَ الْبَشَرِ فِي كَسْبِهَا سَوَاءٌ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ وَلَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَوَظَائِفِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاتَّبَعَ النَّاسُ الرُّسُلَ لِأَجْلِهَا، لَا لِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَأْهِيلِهَا لِلِقَائِهِ - تَعَالَى - وَمَثُوبَتِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِعِلْمِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمُ الْكَسْبِيُّ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَكَسْبِهِمْ، فَيُخْبِرُ بِهَا أَتْبَاعَهُ لِيَفْضُلُوا غَيْرَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَقُولَ لِقَوْمِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧: ١٨٨)
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ نَفْيَ ادِّعَائِهِ الْغَيْبَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ ظَنًّا، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَيَحْكُمَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السَّرَائِرَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ نَفَاهُمَا كِتَابُ اللهِ عَنْ رُسُلِهِ يُثْبِتُهُمَا مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لِمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيِّسِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِرَارًا.
وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا فَهُوَ دَاحِضٌ لِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ إِلَى الْبَشَرِ يَجِبُ أَنْ يَفْضُلَهُمْ وَيَمْتَازَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُفَصَّلَةٌ وَمُكَرَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ جُمْلَةَ مَا جَاءَ فِيهَا مَعَ شَوَاهِدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) فَرَاجِعْهَا فِي
(ص ٢٤٥ ج٨ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ).
57
(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) الِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزِّرَايَةِ، يُقَالُ: زَرَى عَلَى فُلَانٍ يَزْرِي زَرِيَّةً وَزِرَايَةً (بِالْكَسْرِ) إِذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَزْرَى بِهِ إِزْرَاءً تَهَاوَنَ بِهِ، أَيْ: وَلَا أَقُولُ فِي شَأْنِ الَّذِينَ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاحْتِقَارِ فَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُكُمْ لِفَقْرِهِمْ وَرَثَاثَتِهِمْ: (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا وَعَدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ مَا حَكَى الله عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (٤٦: ١١) وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.
(اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ) مِمَّا آتَاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، خِلَافًا لِمَا زَعَمْتُمْ مِنَ اتِّبَاعِي بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنِّي إِذَا قُلْتُ ذَلِكَ فِيهِمْ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، إِذْ أَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِي بِالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ غَيْرَ مَا أَعْلَمُهُ عَنْهُ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَظَالِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِهَضْمِ حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا قُلْتُ شَيْئًا مِمَّا نَفَيْتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، بِأَنِ ادَّعَيْتُ أَنِّي أَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ رِزْقِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، أَوْ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ. لَمِنْ زُمْرَةِ الظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لِاجْتِنَابِ مَا ذُكِرَ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ وَدَحْضُهُ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلَ الْمُعْتَرِفِ بِالْعَجْزِ، الْمُنْتَهِي بِهِ عَجْزُهُ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ:
قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِدَالُ: الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَدَلْتُ الْحَبْلَ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ، وَمِنْهُ الْجَدِيلُ (أَيِ الْحَبْلُ الْمَفْتُولُ) وَجَدَلْتُ الْبِنَاءَ أَحْكَمْتُهُ. وَدِرْعٌ مَجْدُولَةٌ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنْيَةِ، وَالْمِجْدَلُ (كَمِنْبَرٍ) الْقَصْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَمِنْهُ
58
الْجِدَالُ، فَكَأَنَّ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَفْتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى رَأْيِهِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي الْجِدَالِ الصِّرَاعُ وَإِسْقَاطُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ (بِالْفَتْحِ) الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ اهـ. وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِنْ كَانَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ اهـ، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.
(قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) أَيْ قَدْ خَاصَمْتَنَا وَحَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا وَاسْتَقْصَيْتَ فِيهِ فَلَمْ تَدَعْ لَنَا حُجَّةً إِلَّا دَحَضْتَهَا، حَتَّى مَلِلْنَا وَسَئِمْنَا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقُولُهُ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (٧١: ٥ و٦ إِلَخْ). وَقَوْلُهُ لَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) (١٠: ٧١ إِلَخْ) (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) مِنْ عَذَابِ اللهِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَيْنَا، الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٢٦) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنَا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لِلَّهِ وَبِيَدِهِ لَا أَمْلِكُهُ أَنَا، وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَأْتِيكُمْ بِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا شَكَّ فِيهِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَلَا فَائِتِينَ لَهُ إِنْ أَخَّرَهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، فَهُوَ مَتَى شَاءَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَنَفِيُ الْإِعْجَازِ مُؤَكَّدٌ بِالْبَاءِ.
(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) النُّصْحُ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاصِحُ الْعَسَلِ، لِخَالِصِهِ الْمُصَفَّى مِنْهُ، وَنَصَحَ لَهُ أَفْصَحُ مِنْ نَصَحَهُ، وَالْإِغْوَاءُ الْإِيقَاعُ فِي الْغِنَى وَهُوَ الْفَسَادُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ نُصْحِي لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِي لَهُ فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِمَا عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ نَفْعَ النُّصْحِ لَهُ شَرْطَانِ أَوْ طَرَفَانِ، هُمَا الْفَاعِلُ لِلنُّصْحِ وَالْقَابِلُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيُّ وَالْفَسَادُ، بِمُقَارَفَةِ أَسْبَابِهِ مِنَ الْغُرُورِ بِالْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْكِبْرِ، وَهُوَ غَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ الْمُتَكَبِّرِ لِمَنْ يَزْدَرِي مِنَ النَّاسِ، وَتَعَصُّبُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ الْمَالِنَةِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، فَمَعْنَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِإِغْوَائِهِمُ: اقْتِضَاءُ سُنَّتِهِ فِيهِمْ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْغَاوِينَ، لَا خَلْقُهُ لِلْغَوَايَةِ فِيهِمْ جُزَافًا أَنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا كَسْبٍ مِنْهُمْ لِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ مُقَدَّرَةً بِأَقْدَارِهَا، تَرْتَبِطُ أَسْبَابُهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ يُغْوِيَكُمْ بِيُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْغَيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا) (١٩: ٥٩) وَحُكِيَ عَنْ طِيِّءٍ قَوْلُهُمْ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا، إِذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا، وَأَصْلُ الْغَيِّ فَسَادُ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ سُوئِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ وَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ، وَالْقَرَائِنُ هِيَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْمَعَانِي عَلَى بَعْضٍ، وَمُوَافَقَةُ سُنَنِ اللهِ وَأَقْدَارِهِ شَرْطٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ فِي اخْتِلَافِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أَيْ هُوَ مَالِكُ أُمُورِكُمْ وَمُدَبِّرُهَا وَمُسَيِّرُهَا عَلَى سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَظْلِمُ أَحَدًا.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّذِي تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مُقْتَضَى لِاعْتِرَاضِهَا فِي وَسَطِهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَآيَتَيِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ سُورَتِهِ وَهُمَا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) (٣١: ١٤) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَبَعْدَهَا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) (١٦ إِلَخْ) وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ (٥٣ - ٥٥) ((مِنْ سُورَةِ طه ٢٠)) قَالُوا: إِنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ. وَلِلْجُمَلِ وَالْآيَاتِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي الْقُرْآنِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ يَقْتَضِيهَا تَلْوِينُ الْخِطَابِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَمَنْعِ السَّآمَةِ وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ فِي الِانْتِقَالِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ ; فَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ هُنَا أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ كَمَا زَعَمُوا، لِاسْتِغْرَابِهِمْ هَذَا السَّبْكَ فِي الْجِدَالِ وَالْقُوَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَأَنْ يَصُدَّهُمْ هَذَا عَنِ اسْتِمَاعٍ، فَيَكُونَ إِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ تَجْدِيدًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلِنَشَاطِهِمْ، وَأَعْظِمْ بِوَقْعِهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِرُ عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ
مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِصَّةِ، فَمَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ: لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مِنْ وِجْهَةِ الْأُسْلُوبِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَعْبِيرِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ بِـ ((يَقُولُونَ)) وَعَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِـ ((قُلْ)) الدَّالَّيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَأَبْعَدُ عَنْ سِيَاقٍ حُكِيَ كُلُّهُ بِفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ((قَالُوا: قَالَ)) وَهُوَ سِيَاقُ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أَيْ أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَى
هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، أَوْ يَقُولُ نُوحٌ: إِنَّهُ افْتَرَى هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضًا فَهُوَ إِجْرَامٌ عَظِيمٌ عَلَيَّ إِثْمُهُ وَعِقَابُهُ مِنْ دُونِكُمْ ; (إِذِ الْإِجْرَامُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الضَّارُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، مِنَ الْجُرْمِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدُوِّ صَلَاحِهِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى) وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّ هَذَا إِجْرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى اقْتِرَافِهِ (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَدْلَ أَنْ يَجْزِيَ كُلَّ امْرِئٍ بِعَمَلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (٢: ٢٨٦) وَتَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا هُنَا وَهُوَ: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (١٠: ٤١) وَقَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِمُ الْإِجْرَامُ هُنَا ; وَمِنْهُ - أَوْ أَشَدُّهُ - تَكْذِيبُهُ وَوَصْفُهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَسْتَخِفُّهُ السَّمْعُ، وَيَقْبَلُهُ الطَّبْعُ.
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)
هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي قَوْمِ نُوحٍ الْمُشْرِكِينَ، وَيَلِيهَا بَيَانُ تَنْفِيذِهِ (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أَيْ
أَوْحَى اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ مَا أَيْأَسَهُ مِنْ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ الْآنِ، غَيْرَ مَنْ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ مِنْهُمْ، فَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِيمَانِهِمْ دَائِمُونَ عَلَيْهِ: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ فَلَا يَشْتَدَّنَّ عَلَيْكَ الْبُؤْسُ وَالْحُزْنُ وَاحْتِمَالُ الْمَكَارِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَكَ وَلِمَنْ آمَنَ لَكَ، إِذْ كُنْتَ تَعْرِضُ لَهُ وَتَسْتَهْدِفُ لِسِهَامِهِ ; رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْآنِ مِنْ جِدَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَقَدْ آنَ زَمَنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) الْفُلْكُ: السَّفِينَةُ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِهِ هُنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، أَيْ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ الَّذِي سَنُنَجِّيكَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ فِيهِ حَالَ كَوْنِكَ مَلْحُوظًا وَمُرَاقَبًا بِأَعْيُنِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمَا يَلْزَمُهُ مَنْ حِفْظِنَا فِي كُلِّ آنٍ وَحَالِهِ، فَلَا يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمُلْهَمًا أَوْ مُعَلَّمًا بِوَحْيِنَا لَكَ كَيْفَ تَصْنَعُهُ، فَلَا يَعْرِضُ لَكَ فِي صِفَتِهِ خَطَأٌ، وَجَمَعَ الْأَعْيُنَ هُنَا لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَإِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ ((بِعَيْنِي وَوَحْيِي)) فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْعِنَايَةِ وَبِالْأَعْيُنِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، قَالَ - تَعَالَى - لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ٢٠: ٣٩ وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (٥٢: ٤٨) وَفِي الْأَسَاسِ: وَتَقُولُ لِمَنْ بَعَثْتَهُ وَاسْتَعْجَلْتَهُ: ((بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ)) أَيْ لَا تَلُوِ عَلَى شَيْءٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ اهـ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ بَلِ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَ تَأْوِيلًا صُرِفَ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ لِإِيهَامِهِ التَّشْبِيهَ، فَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ لِمَانِعٍ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ لَا تُرَاجِعْنِي فِي أَمْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَقَضَى عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ الْحَتْمُ بِالْإِغْرَاقِ، فَلَا تَأْخُذْكَ بِهِمْ رَأْفَةٌ وَلَا إِشْفَاقٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تُخَاطِبْنِي بَعْدُ فِي اسْتِعْجَالِ تَعْذِيبِهِمْ وَتَكْرَارِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا
إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَتِهِ: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (٧١: ٢٦ - ٢٨) أَيْ هَلَاكًا.
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أَيْ وَطَفِقَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) اسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَحِكُوا مِنْهُ وَتَنَادُرًا عَلَيْهِ لِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُ مُصَابٌ بِالْهَوَسِ وَالْجُنُونِ،
يُقَالُ: سَخِرَ مِنْ فُلَانٍ وَسَخِرَ بِهِ (كَتَعِبَ) أَيِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا (بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا) يَهْزَأُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فَيُجِيبُهُمْ أَنَّهُ يَصْنَعُ بَيْتًا يَجْرِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا وَلَا مُتَصَوَّرًا، وَقَلَّ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إِلَّا سَخِرُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ النَّجَاحُ فِيهِ: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) قَالَ مُجِيبًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا وَتَسْتَجْهِلُونَنَا الْيَوْمَ لِرُؤْيَتِكُمْ مِنَّا مَا لَا تَتَصَوَّرُونَ لَهُ فَائِدَةً: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) مِنَّا جَزَاءً وِفَاقًا، نَسْخَرُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ لِجَهْلِكُمْ، وَغَدًا لِمَا يَحِلُّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ بِمَا نَعْمَلُ وَبِمَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ عَمَلِنَا.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بَعْدَ تَمَامِهِ (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) أَيْ يُذِلُّهُ وَيَجْلِبُ لَهُ الْعَارَ وَالتَّبَارَ فِي الدُّنْيَا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَذَابُ الدُّنْيَا هَيِّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لِانْقِضَاءِ هَذَا وَزَوَالِهِ بِهَلَاكِكُمْ، وَبَقَاءِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ بِدَوَامِكُمْ.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ
وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) هَذَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ، وَيُقَابِلُ السُّخْرِيَةَ بِغَيْرِ ابْتِئَاسٍ وَلَا ضَجَرٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا بِهَلَاكِهِمْ ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ مَجَازٌ كَحَمِيَ الْوَطِيسُ، أَوْ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ عِنْدَ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالتَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ الْخَبْزُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. قِيلَ: إِنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ فِيهِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ حَوَّاءُ أُمُّ الْبَشَرِ وَأَنَّ تَنُّورَهَا بَقِيَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوثَقُ بِهِ، وَالْفَوْرُ وَالْفَوَرَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِارْتِفَاعِ الْقَوِيِّ، يُقَالُ فِي الْمَاءِ إِذَا نَبَعَ وَجَرَى، وَإِذَا غَلَا وَارْتَفَعَ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: فَارَتِ الْقِدْرُ، وَفَارَتْ فَوْرَاتُهَا، وَعَيْنٌ فَوَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَفَارَ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. وَمِنَ الْمَجَازِ: فَارَ الْغَضَبُ، وَأَخَافُ أَنْ تَفُورَ عَلَيَّ، وَقَالَ ذَلِكَ فِي فَوْرَةِ الْغَضَبِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْفَوْرُ شِدَّةُ الْغَلَيَانِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّارِ نَفْسِهَا إِذَا هَاجَتْ، وَفِي الْقَدْرِ وَفِي
الْغَضَبِ، نَحْوَ: وَهِيَ تَفُورُ ٦٧: ٧ ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اهـ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ فَوَرَانِ التَّنُّورِ هُنَا اشْتِدَادُ غَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، وَحُلُولُ وَقْتِ انْتِقَامِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ مَا أُرَاهَا إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللُّغَةِ أَنَّ التَّنُّورَ أُطْلِقَ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَنُّورِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَوَرَانِهِ هُنَا ظُهُورُ نُورِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مَوْعِدُهُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْ تَنُّورِ الْخَبْزِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِوَايَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ نَبْعِ مَاءِ الطُّوفَانِ مِنَ
الْأَرْضِ. وَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْآثَارِ وَلَا فِي أَمْثَالِهَا رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ إِنَّهُ الْأَقْرَبُ.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) قَرَأَ حَفْصٌ كَلِمَةَ ((كُلٍّ)) هُنَا بِالتَّنْوِينِ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ بِالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهَا، أَيْ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْعِدُ أَمْرِنَا قُلْنَا لِنُوحٍ حِينَئِذٍ: (احْمِلْ فِيهَا) أَيْ فِي الْفُلْكِ، وَهُوَ السَّفِينَةُ - مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْحَيَوَانِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى بَعْدَ غَرَقِ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فَتَتَنَاسَلَ وَيَبْقَى نَوْعُهَا عَلَى الْأَرْضِ: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أَيْ: وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَ بَيْتِكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَأَهْلُ بَيْتِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ نِسَاؤُهُ وَأَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ كُفَّارُهُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ كُفَّارٌ، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) وَإِلَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى وَلَدَهُ الَّذِي سَتُذْكَرُ قِصَّتُهُ قَرِيبًا (وَمَنْ آمَنَ) مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ - تَعَالَى - وَلَا رَسُولُهُ عَدَدَهُمْ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ مَرْدُودٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَمَلَهَا، وَلَا كَيْفَ جَمَعَهَا وَأَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ مُضْحِكَةٌ نُخَالِفُهَا، لَا يَنْبَغِي تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنَ الْعُمُرِ فِي نَقْلِهَا وَإِشْغَالِ الْقُرَّاءِ بِهَا.
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ وَالسَّفِينَةَ وَرَكِبَ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا، وَفِي السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِيهَا وَإِنْ جَلَسَ عَلَى ظَهْرِهَا وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ، قَرَأَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَجْرَاهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ بِإِمَالَةِ الرَّاءِ وَتَرْكِهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِجَرَتِ السَّفِينَةُ تَجْرِي مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ الْآتِي: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَأَجْرَى عَلَى إِرَادَةِ إِجْرَاءِ اللهِ - تَعَالَى - لَهَا. وَقَرَأُوا كُلُّهُمْ: (مُرْسَاهَا) بِضَمِّ الْمِيمِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي سَيُرْسِيهَا، وَرُسُوُّ السَّفِينَةِ وُقُوفُهَا، وَالْمَجْرَى وَالْمَرْسَى
يَجِيئَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ
وَمَكَانٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ أَمْرِهِمْ بِرُكُوبِ السَّفِينَةِ مَعَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً لَهُمْ بِحِفْظِهِ - تَعَالَى - لَهَا وَلَهُمْ، أَيْ: بَاسْمِ اللهِ جَرَيَانُهَا وَإِرْسَاؤُهَا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يَقُولُهَا عَلَى تَقْدِيرِ: ارْكَبُوا فِيهَا قَائِلِينَ بِاسْمِ اللهِ، أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ ((مَجْرَاهَا)) حِينَ تَجْرِي أَوْ حِينَ يُجْرِيهَا ((وَمُرْسَاهَا)) حِينَ يُرْسِيهَا، لَا بِحَوْلِنَا وَلَا قُوَّتِنَا (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: إِنَّهُ لَوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِعِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جَمِيعَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ وَحْدَهُمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ هَذِهِ السَّفِينَةَ لِنَجَاةِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ هَذَا الطُّوفَانِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا)) الْآيَةَ (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الْآيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ آيَةُ سُورَةِ الزُّمَرِ (٣٩: ٦٧) وَاللهُ أَعْلَمُ.
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) هَذَا تَصْوِيرٌ لِحَالِهَا فِي جَرْيِهَا بِهِمْ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ أَمَامَ الْقَارِئِ أَوِ السَّامِعِ، أَيْ تَجْرِي فِي أَثْنَاءِ مَوْجٍ يُشْبِهُ الْجِبَالَ فِي عُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامْتِدَادِهِ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ فِي ظَاهِرِ الْبَحْرِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنَ التَّمَوُّجِ وَالِارْتِفَاعِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ، وَاحِدُهُ مَوْجَةٌ وَجَمْعُهُ أَمْوَاجٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ الِاضْطِرَابُ وَمِنْهُ: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) (١٨: ٩٩)
وَمَنْ عَرَفَ مَا يَحْدُثُ فِي الْبِحَارِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْأَمْوَاجِ عِنْدَمَا تُهَيِّجُهَا الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ، رَأَى أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَصَفَ لِي بَعْضُهُمْ سَفَرَهُ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي زَمَنِ رِيَاحِ الصَّيْفِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَوْسِمِيَّةَ بِمَا مَعْنَاهُ: كُنْتُ أَرَى السَّفِينَةَ تَهْبِطُ بِنَا فِي غَوْرٍ عَمِيقٍ، كَوَادٍ سَحِيقٍ، نَرَى الْبَحْرَ مِنْ جَانِبَيْهِ كَجَبَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَكَادَانِ يُطْبِقَانِ عَلَيْهَا، فَإِذَا بِهَا قَدِ انْدَفَعَتْ إِلَى أَعْلَى الْمَوْجِ كَأَنَّهَا فِي شَاهِقِ جَبَلٍ تُرِيدُ أَنْ تَنْقَضَّ مِنْهُ، وَالْمَلَّاحُونَ يَرْبِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحِبَالِ عَلَى ظَهْرِهَا وَجَوَانِبِهَا، لِئَلَّا يَجْرُفَهُمْ مَا يُفِيضُ مِنَ الْمَوْجِ عَلَيْهَا، وَرَاجِعْ وَصْفَ الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (١٠: ٢٢) (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) عِنْدَ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ وَقَبْلَ جَرَيَانِهَا، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ خَبَرِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) أَيْ: مَكَانِ عُزْلَةٍ وَانْفِرَادٍ دُونَ أَهْلِهِ الَّذِينَ رَكِبُوا فِيهَا وَدُونَ الْكُفَّارِ (يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) أَيْ: مَعَ وَالِدِكَ وَأَهْلِكَ النَّاجِينَ (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: سَأَلْجَأُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ يَحْفَظُنِي مِنَ الْمَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ فَأَغْرَقَ (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أَيْ: لَا شَيْءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَصِيبِ يَعْصِمُ أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ أَمْرَ مَاءٍ يَرْتَفِعُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ كَالْمُعْتَادِ، فَيَتَّقِي الْحَازِمُ ضُرَّهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ انْتِقَامٍ عَامٍّ مِنْ أَشْرَارِ الْعِبَادِ، الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ
وَظَلَمُوا وَطَغَوْا فِي الْبِلَادِ، لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ فَهُوَ يَعْصِمُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَدِ اخْتَصَّ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مَنْ أَمَرَ بِحِمْلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) وَكَانَ قَدْ بَدَأَ يَرْتَفِعُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى حَالَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الْهَالِكِينَ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، حَتَّى كَانَ آخِرُ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ مِنْهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ، خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَاءُ بِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ)).
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. يَعْنِي: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَعَقَّبَهُ
الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ، وَمُوسَى لَيْسَ بِذَاكَ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُوسَى هَذَا، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ حُدُوثَ هَذَا الطُّوفَانِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (٥٤: ٩ - ١٦) وَإِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا الْمَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ السَّفِينَةُ كَمَا كَانَ عَرْشُ اللهِ عَلَى الْمَاءِ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الْأَرْضِيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرُ فِيمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الْخَطْبِ الْجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، أَوْجَزُ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغُهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي الْعَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.
(وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) أَيْ: وَصَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ الْأَعْلَى نِدَاءٌ خَاطَبَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ، بِأَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ: ((يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ)) كُلَّهُ الَّذِي عَلَيْكِ، أَوِ الَّذِي تَفَجَّرَ مِنْ بَاطِنِكِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بَحْرًا،
وَالْبَلْعُ: ازْدِرَادُ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ بِسُرْعَةٍ (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أَيْ: كُفِّي عَنِ الْإِمْطَارِ فَامْتُثِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ قِيلَ: كُنْ فَكَانَ (وَغِيضَ الْمَاءُ) أَيْ: غَارَ فِي الْأَرْضِ وَنَضَبَ بِابْتِلَاعِهَا لَهُ نُضُوبًا (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ: وَنَفَذَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَنَجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أَيْ: وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ رَاسِيَةً عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ هَلَاكًا وَسُحْقًا لَهُمْ، وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَقْدِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ١١: ٦٠ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ١١: ٦٨، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَبَلَ قَدْ غَمَرَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ فَوْقَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ السَّفِينَةُ كَانَ الْمَاءُ فَوْقَهُ رَقْرَاقًا وَبَدَأَ يَتَقَلَّصُ وَيَغِيضُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ.
قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. أَحَاطَتْ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِفَلْسَفَتِهَا الْفُنُونُ الثَّلَاثَةُ: الْمَعَانِي
67
وَالْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَقَامُ، لَا يُنَافِي بُلُوغَ كُلِّ آيَةٍ فِي مَوْضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا دَرَجَةَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ التَّفَاوُتِ الْمَعْهُودِ فِي كَلَامِ أَشْهَرِ الْبُلَغَاءِ كَأَبِي تَمَّامٍ وَالْمُتَنَبِّي، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ شُعَرَاءِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَمَا بَيْنَهُمَا، فَآيَاتُهُ كُلُّهَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الْمُعْجِزَةِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَرَاهُ فِي تَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ: ١٣ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ الْعِبْرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَصِ كُلِّهَا، وَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُكَتِ الْفُنُونِ فِيهَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَنْذَرَ الظَّالِمِينَ وَأَوْعَدَهُمُ الْهَلَاكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ - وَمِنْهُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كُلُّهَا مُعْجِزَةٌ فِي بَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّكَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَأْثِيرِ تَقْبِيحِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ نَوْعًا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ حَادِثَةَ الطُّوفَانِ أَكْبَرُ مَا حَدَثَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَظَاهِرِ سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا عِقَابٌ لِلظَّالِمِينَ، بَيْدَ أَنَّ إِعَادَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ تَصْوِيرِ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ بَارِزَةٌ فِي أَشَدِّ مَظَاهِرِ هَوْلِهَا، وَإِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي الْفَصْلِ فِيهَا، بِمَا تَتَلَاقَى فِيهَا نِهَايَتُهَا بِبِدَايَتِهَا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ النِّهَايَةِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ الَّذِي يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ مَذْمُومَةٍ شَرُّهَا الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، يُمَثِّلُ لَكَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ بِصُورَةِ تِمْثَالٍ مِنَ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالرِّجْسِ، لَا تَرَى مِثْلَهُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا تَرَاهُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْعِبَارَاتِ الرَّائِعَةِ فِي الْبَلَاغَةِ وَعُلُوِّ الْأَسْبَابِ، وَإِحْدَاثِهَا الرُّعْبَ فِي الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (٥٤: ١٨ - ٢١) وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي طَبَقَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّوَرِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (٦٩: ٤ - ٨؟ إِلَخْ). وَنَاهِيكَ بِمَا وَصَفَ بِهِ عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَأَصِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَلَاغَتَيْنِ: الْمَعْنَوِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَإِضْرَابُ الْمُثُلِ
لِجَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَأَهْلِ الْفُنُونِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلَاوَةِ الْأُولَى مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَحِكْمَةُ هَذِهِ الْمُبَالَغَاتِ فِي عِقَابِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّمَا هِيَ إِنْذَارُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ كَرَّرَ عُقُوبَةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَكَرَّرَ مَعَهَا: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤: ١٧) وَتَرَى الظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ غَافِلِينَ، وَتَرَى
68
الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَةِ عِبَارَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَلَا يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ عِبْرَتِهِ وَوَعْظِهِ، وَلَقَدْ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي أَهْلِ عَصْرِهِ:
وَالْأَرْضُ لِلطُّوفَانِ مُشْتَاقَةٌ لَعَلَّهَا مِنْ دَرَنٍ تُغْسَلُ
وَنَحْنُ نَقُولُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْعَلَاءِ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَقَدْ أَنْشَدَتْ قَوْلَ لَبِيدٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
قَالَتْ: رَحِمَ اللهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟
رُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِنَا أَبِي الْمَحَاسِنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَسَنَعْقِدُ فَصْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي عَصْرِنَا بِمَا نُورِدُهُ مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ،
أَحَدُهُمَا: بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَثَانِيهِمَا: اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، - وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ (٤٣) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ (٤٤) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ
69
بِأَبْلَغِ قَوَارِعِ التَّأْثِيرِ، فَكَانَ اتِّصَالُهَا بِهَا كَاتِّصَالِ الْمُوجَبِ بِالسَّالِبِ مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ، بِهِ الْبَرْقُ الَّذِي يَخْطِفُ الْأَبْصَارَ، وَالصَّاعِقَةُ الَّتِي تَمْحَقُ مَا تُصِيبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، فَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ تُصَوِّرُ لِقَارِئِهَا وَسَامِعِهَا نَكْبَةَ الطُّوفَانِ بِأَعْظَمِ الصُّوَرِ هَوْلًا وَرُعْبًا وَدَهْشًا تَطِيشُ لَهَا الْأَلْبَابُ، وَتَحَارُ فِي تَصَوُّرِ كَشْفِهَا وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا الْأَخْيِلَةُ وَالْأَفْكَارُ، فَتَتْلُوهَا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فَتَكُونُ الْفَاصِلَةَ بِكَشْفِ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ بِكَلِمَتَيْنِ وَجِيزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ، قُضِيَ بِهِمَا الْأَمْرُ بِنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (٤٥ - ٤٧) اللَّوَاتِي وُضِعْنَ بَعْدَهُمَا، لَضَاعَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَلَاغَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمَقْصُودَةِ عَنِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي كَانَتْ كَاشْتِعَالِ الْكَهْرَبَاءِ مُظْهِرًا لِسُرْعَةِ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِي كَشْفِ الْكَرْبِ، فَكَانَ مِنْهَا نُورٌ ظَهَرَتْ بِهِ رَحْمَتُهُ فِي إِنْجَاءِ السَّفِينَةِ وَأَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَصَاعِقَةٌ مَحَقَتْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ.
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ) فِي إِثْرِ نِدَائِهِ لِابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) هَذَا تَفْسِيرٌ لِـ ((نَادَى)) أَيْ فَكَانَ نِدَاؤُهُ أَنْ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هَذَا مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدَتْنِي بِنَجَاتِهِمْ إِذْ أَمَرْتَنِي بِحَمْلِهِمْ فِي السَّفِينَةِ (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْهُ (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ: أَحَقُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْحُكْمُ، وَأَحْسَنُهُمْ وَخَيْرُهُمْ حُكْمًا
كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥: ٥٠) وَقَالَ: (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ وَلَا الْمُحَابَاةُ، وَلَا الْحَيْفُ وَالظُّلْمُ، وَحُكْمُهُ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى مَا يُنَفِّذُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمُرَادُ نُوحٍ بِهَذَا أَنْ يُنْجِيَ ابْنَهُ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ، مُعَلِّلًا نَفْسَهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِقَوْلِهِ لَهُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ: ٤٣ فَالْمَعْقُولُ أَنَّ الدُّعَاءَ وَقَعَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ ابْنِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ.
(قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْلُكَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِإِنْجَائِهِمْ، وَفَسَّرَ هَذَا النَّفْيَ وَعَلَّلَهُ أَوْ وَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمَلٌ)) بِرَفْعِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، كَأَنَّهُ لِفَسَادِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلصَّلَاحِ وَالْتِزَامِهِ الْعَمَلَ غَيْرَ الصَّالِحِ نَفْسُ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ: عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَالْأَوَّلُ
70
أَبْلَغُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا يَعْمَلُ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَيُوجِبُ بَرَاءَةَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ) (٦٠: ٤) الْآيَةَ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْعَدِينَ - بَلْهَ الْأَقْرَبِينَ - كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٩: ٧١). وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ يَا نُوحُ عَنْهُ وَطَلَبَكَ لِنَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنًا، أَوْ كَانَ وَلَدَ غَيْرِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ ابْنَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ فَقَالَ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ٢٣: ٢٧ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَضَى اللهُ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (٧١: ٢٦) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا؟ وَلَكِنَّ امْرَأَتَهُ لَمْ تُذْكَرْ فِي قِصَّتِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَعَ امْرَأَةِ لُوطٍ فِي خِيَانَةِ زَوْجَيْهِمَا وَدُخُولِهِمَا النَّارَ، وَاسْتُثْنِيَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ النَّجَاةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّتِهِ؟
(قُلْنَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْكُفَّارِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ كُفْرُهُ فَكَرِهَهُ وَجَنَحَ لِلْإِيمَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ١١: ٣٦ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ النَّاجِينَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَهُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ، فَجَازَ فِي فَهْمِهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُمْ قَسِيمٌ لِقَوْمِهِ مِنْهُمْ، وَوَافَقَ هَذَا الْفَهْمَ وَقَوَّاهُ رَحْمَةُ الْأُبُوَّةِ فَسَأَلَ اللهَ - تَعَالَى -
أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا ظَنِّيًّا لَا يَلِيقُ بِنَبِيٍّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ رَبَّهُ عَاتَبَهُ - تَعَالَى - وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: فَلَا تَسْأَلْنِي فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَسَمَّى دُعَاءَهُ سُؤَالًا ; لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ الْوَعْدِ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ وَمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ نَجَاةِ وَلَدِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ((تَسْأَلَنَّ)) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً وَكَذَا نَافِعٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْيَاءِ.
وَهَذَا النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ جَائِزٌ فِي شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَا يَقْتَضِي تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا وَقَلْبَ نِظَامِ الْكَوْنِ لِأَجْلِ الدَّاعِي، وَلَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ،
71
وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَجْهُولِ مِنَ السُّنَنِ وَالنِّظَامِ، مَعَ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ أَنْ يُبْطِلَ - تَعَالَى - تَشْرِيعَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ إِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ
وَأَهْوَائِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ، وَأَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مَنْ يَسْأَلُونَ بَعْضَ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُمْ مَا نَهَى الله عَنْهُ نَبِيًّا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ يُعْطُونَهُمْ أَوْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يُعْطِ مِثْلَهُ لِرُسُلِهِ، بَلْ مَا عُدَّ طَلَبُهُ مِنْهُ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعْظُ هُنَا بِمَعُونَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤: ١٧) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَعْظِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٠: ٥٧) (ص ٣٢٨ ج ١١ ط الْهَيْئَةِ).
(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: إِنِّي أَعْتَصِمُ وَأَحْتَمِي بِكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ بَعْدَ الْآنِ مَا لَيْسَ لِي عِلْمٌ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لَائِقٌ (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) أَيْ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي سَوَّلَتْهُ لِي رَحْمَتِي الْأَبَوِيَّةُ، وَطَمَعِي بِرَحْمَتِكَ الرَّبَّانِيَّةِ (وَتَرْحَمْنِي) بِقَبُولِ تَوْبَتِي الصَّادِقَةِ وَرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فِيمَا حَاوَلْتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِنَجَاةِ أَوْلَادِي كُلِّهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ بِطَاعَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنِّي، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَوَّلُهَا) أَنَّ سُؤَالَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا سَأَلَهُ لِابْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالَفَ فِيهَا أَمْرَهُ أَوْ نَهْيَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَطَأً فِي اجْتِهَادِ رَأْيٍ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا اللهُ - تَعَالَى - ذَنْبًا لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَقَامِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، هَبَطَتْ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَمَا غُرِسَ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ إِلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَيَقَعُونَ فِيهِ أَحْيَانًا، لِيَشْعُرُوا بِحَاجَتِهِمْ إِلَى تَأْدِيبِ رَبِّهِمْ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ، بِمَا يَصْعَدُونَ بِهِ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْوِرَاثَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ، وَمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوِرَاثَةِ لَكَانَ جَمِيعُ وَلَدِ آدَمَ كَأَبِيهِمْ، غَايَةُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ تَقَعُ عَنِ النِّسْيَانِ وَضَعْفِ الْعَزْمِ، وَتَتْبَعُهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِبَاءُ الرَّبِّ، ثُمَّ لَكَانَ سَلَائِلُ أَبْنَاءِ نُوحٍ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَسْلَ الْبَشَرِ انْحَصَرَ فِيهِمْ، وَقَدْ دَلَّتِ
72
الْآيَةُ الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ فِيهِمُ
الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ وَأَيَّدَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ، بَلْ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ الْمَذْكُورُ هُنَا كَافِرًا هَالِكًا.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَجْزِي النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَنْسَابِهِمْ، وَلَا يُحَابِي أَحَدًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ فِي شَرْعِهِ وَحِكْمَتَهُ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، كَانَ مُذْنِبًا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، حَتَّى يَتُوبَ وَيُنِيبَ.
(رَابِعُهَا) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الشُّرَفَاءِ الْجَاهِلِينَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَعُلُوِّ الْأُلُوهِيَّةِ، الْجَاهِلِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمُ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الشَّاكِرِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ، وَإِنْ كَانُوا عُرَاةً مِمَّا كَسَا اللهُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالدِّينِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَسَبِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَظَّمَهُمْ وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بِمُحَابَاةِ اللهِ لَهُ لِأَجْلِهِمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيُهُ فِي إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَقَوْلِهِ لِبِنْتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمَسَاكِينُ يَعُدُّونَ أَعْدَى أَعْدَائِهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيَعُدُّونَ أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِمُ الْمُبْتَدِعِينَ الْخُرَافِيِّينَ الْمُشَعْوِذِينَ.
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ خَاتِمَةُ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّتِي تَلِيهَا
اسْتِدْلَالٌ بِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَرَدَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَيْهِ.
وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ آيَةِ: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) (٤٤) لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ
73
لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، إِمَّا مَعَ إِعَادَةِ الْقِيلِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ بِأَنْ يُقَالَ: ((يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)) وَلَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَسْأَلَةِ نُوحٍ وَوَلَدِهِ صَارَ مَانِعًا مِنَ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ وَمُقْتَضِيًا أَنْ تُذْكَرَ مَفْصُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنْ يُبْدَأَ بِفِعْلِ ((قِيلَ)) الْمَجْهُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ الْمَعْلُومُ.
(قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أَيْ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ لِنُوحٍ؛ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، وَإِقْلَاعِ السَّمَاءِ عَنْ إِمْطَارِهَا، وَابْتِلَاعِ الْأَرْضِ لِمَائِهَا، وَإِمْكَانِ السُّكْنَى وَالْعَمَلِ عَلَى ظَهْرِهَا: يَا نُوحُ اهْبِطْ مِنَ السَّفِينَةِ أَوْ مِنَ الْجُودِيِّ الَّذِي اسْتَوَتْ عَلَيْهِ إِلَى الصَّفْصَفِ الْمُسْتَوِي مِنْهَا، مُلَابِسًا أَوْ مُزَوَّدًا وَمُمَتَّعًا بِسَلَامٍ مِنْ عَظَمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِيهَا، (وَبَرَكَاتٍ) فِي الْمَعَايِشِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَائِضَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أَيْ: وَعَلَى مَنْ مَعَكَ الْآنَ فِي السَّفِينَةِ، وَعَلَى ذُرِّيَّاتٍ يَتَنَاسَلُونَ مِنْهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُونَ أُمَمًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُمْ مُمَتَّعُونَ بِهَذَا السَّلَامِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْبَرَكَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ لَفْظُ الْأُمَمِ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (٦: ٣٨) (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أَيْ: وَثَمَّ أُمَمٌ آخَرُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَرْزَاقِهَا وَبَرَكَاتِهَا دُونَ السَّلَامِ الرَّبَّانِيِّ، الْمَمْنُوحِ مِنَ الْأَلْطَافِ الرَّحْمَانِيِّ، لِسَلِيمِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ سَيُغْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِرَبِّهِمْ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى السَّلَامِ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، الَّتِي نَبْعَثُ بِهَا الْمُرْسَلِينَ، كَمَا وَقَعَ لَكَ مَعَ قَوْمِكَ الْأَوَّلِينَ.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا الْفَصِيحَةِ نَصًّا وَاقْتِضَاءً، الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الْآرَاءِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا، لَوْلَا كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا، حَتَّى مَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا الشَّرْعُ وَلَا الْعَقْلُ مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ مَجَامِعَ الْعِبْرَةِ فِيهَا.
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ الْمُفَصَّلَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ الْبَدِيعَ، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْمَاضِيَةِ (نُوحِيهَا إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مُتَمَّمًا وَمُفَصَّلًا لِمَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ قَبْلَهَا (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) الْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ مُبَيِّنًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ
74
يَعْلَمُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مَا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ يَعْلَمُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْفِيِّ هُنَا وَأَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ بِهِ لَكَذَّبُوهُ، وَلَنُقِلَ تَكْذِيبُهُمُ الْخَاصُّ لَهُ فِيهَا؛ كَمَا نُقِلَ تَكْذِيبُهُمْ الْعَامُّ لِلْقِصَصِ كُلِّهَا، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ افْتَرَاهَا، وَلَكِنَّ هَذَا طَعْنٌ مُفْتَعَلٌ فِي شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ تُحُدُّوا فِيهِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ الْخَاصُّ فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا - فَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ ظَاهِرَةً لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَتَمَّتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَأَقْوَامِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْمُتَّقُونَ، فَأَنْتُمُ النَّاجُونَ الْمُفْلِحُونَ، وَالْمُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْهَالِكُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ.
عِلَاوَاتُ التَّفْسِيرِ قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
الْعِلَاوَةُ الْأُولَى، الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ ٤٤
سَبَقَ لَنَا أَنْ قُلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ، وَمَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُدَبَاءِ الْفُنُونِ فِي التَّحَدِّي بِهِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ يَقِلُّ مَنْ يَفْقَهُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِفَقْدِ أَهْلِهِ مَلَكَتَيِ الْبَلَاغَةِ الذَّوْقِيَّةِ السَّلِيقِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الْفَنِّيَّةِ، بَلْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِإِدْرَاكِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ وَيُدْرِكُ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ جَزَمُوا بِوُقُوعِ الْعَجْزِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ حُذَّاقِ الْفَنَّانِينَ فِي الْوَشْيِ وَالتَّطْرِيزِ إِذَا رَأَوْا صُنْعَ قُدَمَاءِ الْهُنُودِ مِنْ أَهْلِ هُورَ وَكَشْمِيرَ وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُحَاكَاتِهِ، أَوِ الْمُصَوِّرِينَ إِذَا رَأَوْا أَدَقَّ صُوَرِ رَفَائِيلَ فِي تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ بِأَدَقِّ مَنَاظِرِ أَعْضَائِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمَلَامِحِ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَأَمَارَاتِ انْفِعَالَاتِهِ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَقَارِبَةُ: كَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ، وَالْغَضَبِ، وَنَظَرِ الْإِقْرَارِ، وَنَظَرِ الْإِنْكَارِ، وَنَظَرِ الشَّهْوَةِ، وَنَظَرِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَظَرِ الْإِعْجَابِ وَالْعَجَبِ، وَنَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ وَالْمُتَحَيِّرِ، فَقَدْ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُحَاكَاتِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا، بَلْ يَقُولُونَ بِإِمْكَانِهَا وَبِقُرْبِ وُقُوعِهَا بِالْفِعْلِ إِذَا وُجِدَتِ الدَّاعِيَةُ الْقَوِيَّةُ كَمَنْفَعَةٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ تَارِيخِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ حَدَثَتْ لَهُمْ أَعْظَمُ الدَّوَاعِي وَالْمَصَالِحِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَالتَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ فِي الْمُكَرَّرِ وَلَوْ مُفْتَرًى، فَأَيْقَنُوا بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا وَبِهِنَّ، وَلَوْ ظَاهَرَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ عَلَى كَثْرَةِ بُلَغَائِهِمْ وَفُصَحَائِهِمْ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ هَوَاجِسَ تُلَقِّنُهُمُ
75
الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَكَذَا آلِهَتُهُمُ الْقَادِرُونَ بِخَصَائِصِهِمُ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ بِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِزَعْمِهِمْ، قَدْ عَجَزُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ وَاضْطَرُّوا إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيِّ بِالْقِتَالِ، وَمَا أَعْقَبَهُمْ مِنْ خَسَارَةِ الْمَالِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، ثُمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ احْتِمَالُ الذُّلِّ
وَالنَّكَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ عَزَمُوا عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَاسْتَعَدُّوا لَهَا فَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ (وَقِيلَ يَاأَرْضُ) فَتَضَاءَلَتْ قُوَاهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
عَرَفَ بُلَغَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِنَةِ فِي فَصَاحَتِهَا اللَّفْظِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ بُلَغَاءُ الْفُنُونِ بَعْدَهُمْ مِنْهَا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِمَا لِلْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الصُّورِيِّ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَوَازِينِ الْفَنِّيَّةِ وَدَرَجَاتِ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَكَانَ أُولَئِكَ أَدَقَّ شُعُورًا بِمَا لِهَذَا الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْعُقُولِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْجَمَالِ الْبَدَنِيِّ فِي حِسَانِ النِّسَاءِ مَقَايِيسَ وَمَوَازِينَ لِتَنَاسُبِ الْأَعْضَاءِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَالْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهَا، وَأَمَّا الْجَمَالُ الْمَعْنَوِيُّ - وَهُوَ خِفَّةُ الرُّوحِ وَسُلْطَانُ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ - فَلَيْسَ لَهُ مِقْيَاسٌ وَلَا مِيزَانٌ عَشْرِيٌّ يُضْبَطُ بِهِ وَزْنُهُ أَوْ مِسَاحَتُهُ فَيُعْرَفُ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْجَمَّالُ الْأَعْلَى بِمَلَكَةٍ نَفْسِيَّةٍ، لَا بِأَوْزَانٍ صِنَاعِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الطَّيِّبُ فِي الْخَيْلِ:
إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
وَإِنَّمَا أَحْدَثَ الْقُرْآنُ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا أَحْدَثَ مِنَ الثَّوْرَةِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِانْقِلَابِ الْعَالَمِيِّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَتِهِ لَا الْأَوَّلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي بَابِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ فِي الثَّانِي لَيَشْغَلُ الْمُفَسِّرَ وَالْمُتَدَبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ الْخَاصِّ مِنْهُ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَلِهَذَا نَقْتَصِرُ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِنَا عَلَى مَا قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِاخْتِصَارٍ لَا يَشْغَلُ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا جَعَلْتُ مَا أَحْبَبْتُ بَيَانَهُ فِي بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَنِّيَّةِ عِلَاوَةً مِنْ هَذِهِ الْعِلَاوَاتِ، وَقَدْ أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِيهَا حَتَّى أَفْرَدَهَا بَعْضُهُمْ بِمُصَنَّفَاتٍ خَاصَّةٍ، وَتَكَلَّمَ صَاحِبُ (الطِّرَازِ فِي عُلُومِ الْإِعْجَازِ) عَلَيْهَا فِي ٢٥ صَفْحَةً، وَلَعَلَّهُ أَحْسَنُهُمْ فِيهَا كَلَامًا،
وَإِنْ كَانَ السَّكَّاكِيُّ هُوَ السَّابِقُ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً أَوْ وَسَطًا مِنْهُ أَنْقُلُ مِنْهَا هُنَا مَا لَخَّصَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي ((رُوحِ الْمَعَانِي)) مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَغَيْرِهِ بِتَصَرُّفٍ كَعَادَتِهِ قَالَ:
76
((وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ بَلَغَتْ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِعْجَازِ أَقَاصِيَهَا، وَاسْتَذَلَّتْ مَصَاقِعَ الْعَرَبِ فَسَفِعَتْ بِنَوَاصِيهَا، وَجَمَعَتْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَكَانَتْ مِنْ سَمْهَرِيِّ الْبَلَاغَةِ مَكَانَ السِّنَانِ.
((يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَصَدُوا أَنْ يُعَارِضُوا الْقُرْآنَ فَعَكَفُوا عَلَى لُبَابِ الْبُرِّ وَلُحُومِ الضَّأْنِ وَسُلَافِ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِتَصْفُوَ أَذْهَانُهُمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِيمَا قَصَدُوهُ وَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَرَكُوا مَا أَخَذُوا فِيهِ وَتَفَرَّقُوا.
وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ وَكَانَ - كَمَا فِي الْقَامُوسِ - فَصِيحًا بَلِيغًا، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْصَحُ أَهْلِ وَقْتِهِ، رَامَ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ فَنَظَمَ كَلَامًا وَجَعَلَهُ مُفَصَّلًا وَسَمَّاهُ سُوَرًا، فَاجْتَازَ يَوْمًا بِصَبِيٍّ يَقْرَؤُهَا فِي مَكْتَبٍ فَرَجَعَ وَمَحَا مَا عَمِلَ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ أَبَدًا وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَدْعِي أَلَّا يَكُونَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُعْجِزًا، لِمَا أَنَّ حَدَّ الْإِعْجَازِ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى قُدْرَتِهِ قَطْعًا، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ الطَّرَفُ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ، أَعْنِي: مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَجَاوُزُهَا إِيَّاهُ، وَالثَّانِي: مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ، أَعْنِي الْمَرَاتِبَ الْعَلِيَّةَ الَّتِي تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنْهَا أَيْضًا.
((وَمَعْنَى إِعْجَازِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِأَسْرِهَا، هُوَ كَوْنُهَا مِمَّا تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهَا فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ.
((وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضَ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ الْمَهَرَةُ الْمُتْقِنُونَ، وَتَرَكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِفَادَةً لِجَاهِلٍ، وَتَذْكِيرًا لِفَاضِلٍ غَافِلٍ، فَنَقُولُ:
جِهَاتُ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْأَرْبَعُ، أَوَّلُهَا جِهَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ:
ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ: مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُمَا مَرْجِعَا الْبَلَاغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ - وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الْقَرِينَةِ وَالتَّرْشِيحِ وَالتَّعْرِيضِ - فَهُوَ أَنَّهُ - عَزَّ سُلْطَانُهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا فَارْتَدَّ، وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ، وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا
77
وَعَدْنَاهُ مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ فَقُضِيَ، وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَوَتْ، وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى - بَنَى سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْمَأْمُورِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - لِكَمَالِ هَيْبَتِهِ مِنَ الْآمِرِ - الْعِصْيَانُ، وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ النَّافِذِ فِي تَكَوُّنِ الْمَقْصُودِ تَصْوِيرًا لِاقْتِدَارِهِ سُبْحَانَهُ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ - تَعَالَى - إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، وَلِمَشِيئَتِهِ فِيهَا تَغْيِيرًا وَتَبْدِيلًا، كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ قَدْ عَرَفُوهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِحُكْمِهِ، وَتَحَتَّمَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ، وَتَصَوَّرُوا مَزِيدَ اقْتِدَارِهِ، فَعَظُمَتْ مَهَابَتُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَضَرَبَتْ سُرَادِقَهَا فِي أَفْنِيَةِ ضَمَائِرِهِمْ، فَكَمَا يُلَوِّحُ لَهُمْ إِشَارَتَهُ - سُبْحَانَهُ - كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا، وَكَمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَمَّمًا، لَا تَلَقِّيَ لِإِشَارَتِهِ بِغَيْرِ الْإِمْضَاءِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَا لِأَمْرِهِ بِغَيْرِ الْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ.
((ثُمَّ بَنَى عَلَى مَجْمُوعِ التَّشْبِيهَيْنِ نَظْمَ الْكَلَامِ فَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: (قِيلَ) عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ هَذَا الْمَجَازِ خِطَابَ الْجَمَادِ وَهُوَ (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ حُصُولُ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْجَمَادِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ كَمَا تَرَى: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) مُخَاطِبًا لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُشَبَّهَ أَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمُرَادَ مِنْهُمَا
حُصُولُ أَمْرٍ، وَأُرِيدَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَعْنِي الْمَأْمُورَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعِصْيَانُ ادِّعَاءً بِقَرِينَةِ نِسْبَةِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ وَدُخُولِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيلًا. وَقَدْ يُقَالُ: أَرَادَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ هَهُنَا تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً فِي حَرْفِ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ بِتَعَلُّقِ النِّدَاءِ وَالْخِطَابِ بِالْمُنَادَى الْمُخَاطَبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يَحْسُنُ هَذَا التَّشْبِيهُ ابْتِدَاءً، بَلْ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الْحَمْلَ.
((ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغُئُورِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْبَلْعَ الَّذِي هُوَ إِعْمَالُ الْجَاذِبَةِ فِي الْمَطْعُومِ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ: جَعْلُ الْبَلْعِ مُسْتَعَارًا لِنَشْفِ الْأَرْضِ الْمَاءَ هُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ النَّشْفَ دَالٌّ عَلَى جَذْبٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِمَا عَلَيْهَا كَالْبَلْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ النَّشْفَ فِعْلُ الْأَرْضِ، وَالْغُئُورَ فِعْلُ الْمَاءِ مَعَ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ تَعَدِّيًا.
ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ لِلزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ فِي الْغِذَاءِ دُونَ الْمَاءِ.
((وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الِاسْتِعَارَةِ، يَكُونُ (ابْلَعِي)
78
اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ بِحَسْبَ اللَّفْظِ قَرِينَةً لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ فِي الْمَاءِ عَلَى حَدِّ مَا قَالُوا فِي: (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وَأَمَّا إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَلْعُ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْإِنْبَاتِ فِي: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ. وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ يُحْمَلُ مُسْتَعَارًا لِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ كَمَا فِي: نَطَقَتِ الْحَالُ، فَيُلْزِمُهُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلتَّشْبِيهِ الثَّانِي، وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي لَفْظِ (ابْلَعِي) بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ اسْتِعَارَةً لِغُئُورِ الْمَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ أَعْنِي كَوْنَهُ صُورَةَ أَمْرِ اسْتِعَارَةٍ أُخْرَى لِتَكْوِينِ الْمُرَادِ ; وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَمْرَ خِطَابِ تَرْشِيحٍ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْمُنَادَى، فَإِنَّ قَرِينَتَهَا
النِّدَاءُ وَمَا زَادَ عَلَى قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ يَكُونُ تَرْشِيحًا لَهَا. وَأَمَّا جَعْلُ النِّدَاءِ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً حَتَّى يَكُونَ خِطَابُ الْآمِرِ تَرْشِيحًا لَهَا فَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ.
((ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (مَاءَكِ) بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَاخْتَارَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِأَجْلِ التَّرْشِيحِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مَجَازًا لُغَوِيًّا فِي الْهَيْئَةِ الْإِضَافِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْمِلْكِيِّ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْخِطَابَ تَرْشِيحًا لِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخِطَابَ يَدُلُّ عَلَى صُلُوحِ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَمَا قِيلَ إِنَّ الْمَجَازَ عَقْلِيٌّ وَالْعِبَارَةَ مَصْرُوفَةٌ عَنِ الظَّاهِرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
((ثُمَّ اخْتَارَ لِاحْتِبَاسِ الْمَطَرِ الْإِقْلَاعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ مَا كَانَ مِنَ الْمَطَرِ أَوِ الْفِعْلِ، فَفِي (أَقْلِعِي) اسْتِعَارَةٌ بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ، وَكَذَا بِاعْتِبَارِ صِيغَتِهِ أَيْضًا، وَهِيَ مُبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمَ النَّافِذَ، وَالْخِطَابُ فِيهِ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مِثْلُ مَا مَرَّ فِي ابْلَعِي.
ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا) فَلَمْ يُصَرِّحْ - جَلَّ وَعَلَا - بِمَنْ غَاضَ الْمَاءَ، وَلَا بِمَنْ قَضَى الْأَمْرَ وَسَوَّى السَّفِينَةَ، وَقَالَ: بُعْدًا كَمَا لَمْ يُصَرِّحْ - سُبْحَانَهُ - بِقَائِلِ: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) فِي صَدْرِ الْآيَةِ سُلُوكًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ لِسَبِيلِ الْكِنَايَةِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَا يُكْتَنَهُ، قَهَّارٌ لَا يُغَالَبُ، فَلَا مَحَالَّ لِذَهَابِ الْوَهْمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قَائِلًا: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ)، وَلَا غَائِضًا مَا غَاضَ، وَلَا قَاضِيًا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ تَسْوِيَةَ السَّفِينَةِ وَإِقْرَارَهَا بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ.
((وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَيَّنَ لِفَاعِلٍ بِعَيْنِهِ اسْتَتْبَعَ لِذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُهُ وَيُبْنَى الْفِعْلُ لِمَفْعُولِهِ، أَوْ يُذْكَرَ مَا هُوَ أَثَرٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَيُسْنَدَ إِلَى ذَلِكَ الْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ الْفِعْلُ بِمَوْصُوفِهَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ فِي تَقْرِيرِ الْكِنَايَةِ
79
هُنَا: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ وَبِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَتَعْيِينِهِ لِفَاعِلِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذُكِرَ اللَّازِمُ وَأُرِيدَ الْمَلْزُومُ ; لِمَا أَنَّ (وَاسْتَوَتْ) غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ - كَـ (قِيلَ)، (وَغِيضَ).
((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - خَتَمَ الْكَلَامَ بِالتَّعْرِيضِ تَنْبِيهًا لِسَالِكِي مَسْلَكِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فِي
تَكْذِيبِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ لَا غَيْرَ، خَتَمَ إِظْهَارًا لِمَكَانِ السُّخْطِ وَلِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنَّ قِيَامَةَ الطُّوفَانِ وَتِلْكَ الصُّورَةِ الْهَائِلَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا لِظُلْمِهِمْ، كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَالْوَصْفُ بِالظُّلْمِ مَعَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُعْدَ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ الْقُرْبِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ وَيَكُونُ فِي الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمَعْقُولِ نَحْوُ: ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ٤: ١٦٧ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْهَلَاكِ مَجَازٌ.
((قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ: يُقَالُ: بَعُدَ بُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبُعُدًا بِالتَّحْرِيكِ إِذَا بَعُدَ بُعْدًا بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْهَلَاكِ وَخُصَّ بِدُعَاءِ السُّوءِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْقَامُوسِ بَيْنَ صِيغَتَيِ الْفِعْلِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قَالَ: الْبُعْدُ مَعْرُوفٌ وَالْمَوْتُ وَفِعْلُهُمَا كَكَرُمَ بُعْدًا وَبُعُدًا فَافْهَمْ.
((وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ أُعْطِيَتَا مَا يَعْقِلَانِ بِهِ الْأَمْرَ، فَقِيلَ لَهُمَا حَقِيقَةً مَا قِيلَ، وَأَنَّ الْقَائِلَ (بُعْدًا) نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَوَّلِ أَبْلَغُ.
بَلَاغَةُ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي:
((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي وَهُوَ النَّظَرُ فِي فَائِدَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيهَا، وَجِهَةِ كُلِّ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِيمَا بَيْنَ جُمَلِهَا، فَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتِيرَ (يَا) دُونَ سَائِرِ أَخَوَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُعْدِ الْمُنَادَى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقَامُ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ وَإِبْدَاءِ شَأْنِ الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَهُوَ تَبْعِيدُ الْمُنَادَى الْمُؤْذِنِ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَا أَرْضِ بِالْكَسْرِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى نَفْسِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَقْتَضِي تَشْرِيفًا لِلْأَرْضِ وَتَكْرِيمًا لَهَا فَتَرَكَ إِمْدَادًا لِلتَّهَاوُنِ، وَلَمْ يُقَلْ: يَا أَيَّتُهَا الْأَرْضُ! مَعَ كَثْرَتِهِ فِي نِدَاءِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، قَصْدًا إِلَى الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ تَكَلُّفِ التَّنْبِيهِ الْمُشْعِرِ بِالْغَفْلَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِمَا كَالْمُقِلَّةِ وَالْغَبْرَاءِ، وَكَالْمُضِلَّةِ وَالْخَضْرَاءِ ; لِكَوْنِهِمَا أَخْصَرَ وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَوْفَى بِالْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّ تَقَابُلَهُمَا إِنَّمَا اشْتَهَرَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ (ابْلَعِي) عَلَى ابْتَلِعِي ; لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ وَأَوْفَرَ تَجَانُسًا بِـ (أَقْلِعِي) ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ إِنِ اعْتُبِرَتْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَإِلَّا تَقَارَبَا
فِيهِ، بِخِلَافِ ابْتَلِعِي، وَقِيلَ: (مَاءَكِ) بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِكْثَارِ الْمُتَأَبِّي عَنْهَا مَقَامُ إِظْهَارِ الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي إِفْرَادِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ ابْلَعِي بِدُونِ الْمَفْعُولِ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ تَرْكُهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ تَعْمِيمِ الِابْتِلَاعِ لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مَقَامِ عَظَمَةِ الْآمِرِ الْمَهِيبِ وَكَمَالِ انْقِيَادِ الْمَأْمُورِ.
80
((وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَلْعُ الْمَاءِ وَحْدَهُ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِقْلَاعِ إِمْسَاكُ السَّمَاءِ عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ. فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ أَقْلِعِي اخْتِصَارًا وَاحْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ ذِكْرِ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ ; لِأَنَّ مَقَامَ الْكِبْرِيَاءِ وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي رُبَّمَا أَوْهَمَ إِمْكَانَ الْمُخَالَفَةِ، وَاخْتِيرَ وَغِيضَ عَلَى غُيِّضَ الْمُشَدِّدِ لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَقِيلَ: الْمَاءُ دُونَ مَاءِ طُوفَانِ السَّمَاءِ، وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَمْرِ نُوحٍ وَهُوَ إِنْجَازُ مَا وُعِدَ ; لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُغْنِي غَنَاءَ الْإِضَافَةِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَعْهُودِ.
((وَاخْتِيرَ وَاسْتَوَتْ عَلَى ((سُوِّيَتْ)) أَيْ أُقِرَّتْ مَعَ كَوْنِهِ أَنْسَبَ بِأَخَوَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ لِلْمَفْعُولِ، اعْتِبَارًا لِكَوْنِ الْفِعْلِ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِقْرَارِ - أَعْنِي الْجَرَيَانَ - مَنْسُوبًا إِلَى السَّفِينَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) مَعَ أَنَّ وَاسْتَوَتْ أَخْصَرُ مِنْ سُوِّيَتْ، وَاخْتِيرَ الْمَصْدَرُ أَعْنِي بُعْدًا عَلَى لِيَبْعُدَ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ الِاخْتِصَارِ فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْدًا وَحْدَهُ مَنْزِلَةَ: لِيَبْعُدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْهَلَاكِ بِذِكْرِ اللَّامِ، وَإِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَنْ مُقَيَّدَاتِهِ فِي قِمَامِ الْمُبَالَغَةِ يُفِيدُ تَنَاوُلَ كُلِّ نَوْعٍ. فَيَدْخُلُ فِيهِ ظُلْمُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ ظُلْمًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ إِلَيْهِمْ.
((هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْكِيبِ الْكَلِمِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ فَقِيلَ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي) (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ، وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا
حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى. قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ لِكَوْنِهَا الْأَصْلَ، نَظَرًا إِلَى كَوْنِ ابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا حَيْثُ فَارَ تَنُّورُهَا أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (وَغِيضَ الْمَاءُ) تَابِعًا لِأَمْرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لِاتِّصَالِهِ بِقِصَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَقُيِّدَ الْمَاءُ بِالنَّازِلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقًا: لِأَنَّ ابْتِلَاعَ الْأَرْضِ مَاءَهَا فُهِمْ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (ابْلَعِي مَاءَكِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمَخْصُوصَ بِالْأَرْضِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا عَلَى وَجْهِهَا فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَبِيلَيْنِ: الْأَرْضِيَّ وَالسَّمَائِيَّ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا نَبَعَ مِنْهَا فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَلِهَذَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَاءَ عَلَى مُطْلَقِهِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّ: وَغِيضَ الْمَاءُ إِخْبَارٌ عَنْ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي)، فَالتَّقْدِيرُ: قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ فَامْتَثَلَا الْأَمْرَ وَنَقَصَ الْمَاءُ.
81
((وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ، زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْغَيْضِ حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا كَانَتْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِهِ بِهَا بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَلِذَا جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ سَائِرِ الْمِيَاهِ سِوَى الَّذِي بِسَبَبِهِ صَارَتِ الْأَرْضُ مُهَيَّأَةً لِلْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَفَارَ التَّنُّورُ) (٤٠) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّوَغُّلُ فِي تَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَالتَّرْشِيحِ، وَلَوْ أُجْرِيَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا تَكُونُ كَالتَّجْرِيدِ، وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟
((هَذَا وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَاسْتَلْزَمَ تَعْمِيمَ ابْتِلَاعِ الْمِيَاهِ بِأَسْرِهَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ مِنْ مَقَامِ الْعَظَمَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْكَشْفِ بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ وَرَدُّ يَمِينٍ؟ إِذْ لَا مَعْهُودَ، وَالظَّاهِرُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَافِي التَّرْشِيحَ وَإِضَافَةَ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَاءِ مَنْزِلَةَ الْغِذَاءِ أَنْ تُجْعَلَ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْغِذَاءِ إِلَى الْمُغْتَذِي فِي النَّفْعِ وَالتَّقْوِيَةِ وَصَيْرُورَتِهِ جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّعْمِيمُ فَمَطْلُوبٌ وَحَاصِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ لِانْحِصَارِ
الْمَاءِ فِي الْأَرْضِيِّ وَالسَّمَائِيِّ وَقَدْ قُلْتُمْ بِنُضُوبِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ؟ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَغِيضَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ مَاءِ الطُّوفَانِ.
((هَذَا وَالْمُطَابِقُ تَفْسِيرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: فَالْتَقَى الْمَاءُ ٥٤: ١٢ أَيِ الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ، وَهَاهُنَا تَقَدَّمَ الْمَاءَانِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَاءَكِ) (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ: وَغِيضَ الْمَاءُ رَجَعَ إِلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ لِتَقَدُّمِهِمَا. ثُمَّ إِذَا جُعِلَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْلِعِي خَاصَّةً لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ عَلَى أَصْلِ الْقِصَّةِ، أَعْنِي: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي) كَيْفَ وَفِي إِيثَارِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ زَالَ كَوْنُهُ طُوفَانًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَاءِ غَيْرُ الْإِذْهَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَجْزَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْإِنْبَاعِ وَرَجَعَتْ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالنُّضُوبِ هَذَا الْمَعْنَى أَلْبَتَّةَ اهـ.
((وَزَعَمَ الطَّبَرَسِيُّ أَنَّ أَئِمَّةَ الْبَيْتِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ هُوَ مَا نَبَعَ وَفَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتُلِعَ وَغَاضَ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بِحَارًا وَأَنْهَارًا.
((وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ السَّكَّاكِيِّ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّتِهِ مَا فِيهِ.
((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَتْبَعَ - وَغِيضَ الْمَاءُ - مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ثُمَّ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمَقْصُودِ حَدِيثَ السَّفِينَةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي عَلِمْتَهُ.
82
مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ:
((هَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ فِي الْآيَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَلَاغَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لَطِيفٌ، وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبِينَةٌ لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ، وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وَجَدْتَ أَلْفَاظَهَا تُسَابِقُ مَعَانِيَهَا، وَمَعَانِيهَا تُسَابِقُ أَلْفَاظَهَا، فَمَا مِنْ لَفْظَةٍ فِيهَا تَسْبِقُ إِلَى أُذُنِكَ، إِلَّا وَمَعْنَاهَا أَسْبَقُ إِلَى قَلْبِكَ.
((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ
جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ عَلَى الْعَذَبَاتِ، سَلِسَةٌ عَلَى الْأَسَلَاتِ، كُلٌّ مِنْهَا كَالْمَاءِ فِي السَّلَاسَةِ، وَكَالْعَسَلِ فِي الْحَلَاوَةِ، وَكَالنَّسِيمِ فِي الرِّقَّةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - دَرُّ التَّنْزِيلِ مَاذَا جَمَعَتْ آيَاتُهُ!
وَعَلَى تَفَنُّنِ وَاصِفِيهِ بِحُسْنِهِ يَفْنَى الزَّمَانُ وَفِيهِ مَا لَمْ يُوصَفِ
((وَمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ حِيَاضٍ، وَزَهْرَةٌ مِنْ رِيَاضٍ.
مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ: ((وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الْأُصْبُعِ أَنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ مَعَ أَنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً، وَذَلِكَ: الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ فِي ابْلَعِي وَأَقْلِعِي، وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا، وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالْمَجَازُ فِي يَا سَمَاءُ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ يَا مَطَرَ السَّمَاءِ، وَالْإِشَارَةُ فِي (وَغِيضَ الْمَاءُ) فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَيَنْقُصُ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْإِرْدَافُ فِي (وَاسْتَوَتْ) وَالتَّمْثِيلُ فِي (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وَالتَّعْلِيلُ فَإِنَّ غَيْضَ الْمَاءِ عِلَّةٌ لِلِاسْتِوَاءِ، وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ، فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَ نَقْصِهِ، وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ عَدْلَهُ - تَعَالَى - يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَحُسْنُ النَّسَقِ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِيجَازُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَصَّ الْقِصَّةِ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، وَالتَّسْهِيمُ ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا، وَالتَّهْذِيبُ ; لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالتَّمْكِينُ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا، وَالِانْسِجَامُ، وَزَادَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي
83
الْأُصْبُعِ: الِاعْتِرَاضَ، وَزَادَ آخَرُونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّهَا كَكَلَامِ ابْنِ أَبِي الْأُصْبُعِ قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِأُصْبُعِ الِاعْتِرَاضِ.
((وَقَدْ أَلَّفَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ - أَعْلَى اللهُ تَعَالَى دَرَجَتَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ - رِسَالَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَمَعَ فِيهَا مَا ظَهَرَ لَهُ وَوَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَزَايَاهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ
مِائَةً وَخَمْسِينَ مَزِيَّةً، وَقَدْ تَطَلَّبْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِأَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ لَطَائِفِهَا فَلَمْ أَظْفَرْ بِهَا، وَكَأَنَّ طُوفَانَ الْحَوَادِثِ أَغْرَقَهَا، وَلَعَلَّ فِيمَا نَقَلْنَاهُ سَدَادًا مِنْ عَوَزٍ، وَاللهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) انْتَهَى.
الْعِلَاوَةُ الثَّانِيَةُ:
(حَادِثَةُ الطُّوفَانِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ)
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَحْدَاثَ التَّارِيخِ وَضَبْطَ وَقَائِعِهِ وَأَزْمِنَتِهَا وَأَمْكِنَتِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِصْلَاحِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، بِعَشْرِ جُمَلٍ جَامِعَةٍ لِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ الْمُتَفَرِّقَةِ.
وَبَيَّنَّا أَنَّ قِصَّةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي سَائِرِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مِنْ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ إِلَّا مَا فِيهِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْهَا، فَذُكِرَتْ فِي بَعْضِهَا بِآيَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بِآيَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ أَطْوَلُهَا وَأَجْمَعُهَا.
قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ:
وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ، فَهِيَ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَنْسَابِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَتَسَلْسُلِهَا فِي السِّنِينَ الْمَعْدُودَةِ، إِلَى أَنْ تَتَّصِلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَقْصُودِينَ بِالذَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا التَّارِيخُ نَقَضَهُ مِنْ أَسَاسِهِ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ وَمَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ الْإِنْسَانِ الْمُتَحَجِّرَةِ وَغَيْرِهَا.
فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ بَيَانُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي سَادِسِهَا خُلِقَ آدَمُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَفْصِيلٌ لِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ غَرَسَ جَنَّةً فِي عَدَنَ شَرْقًا وَوَضَعَ فِيهَا آدَمَ، وَفِي آخِرِهِ ذَكَرَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ
أَضْلَاعِ آدَمَ الْيُسْرَى، وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ خَبَرُ مَعْصِيَةِ آدَمَ بِأَكْلِهِ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ طَاعَةً لِامْرَأَتِهِ الَّتِي أَغْوَتْهَا الْحَيَّةُ وَحَمَلَتْهَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ تَنَاسُلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَفِي الْخَامِسِ مَوَالِيدُ آدَمَ
84
إِلَى نُوحٍ وَهُوَ الْبَطْنُ التَّاسِعُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَوِلَادَةِ نُوحٍ ١٠٥٦ سَنَةً مِنْهَا ٩٣٠ سَنَةً مُدَّةُ حَيَاةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاسْتَغْرَقَتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ مِنْ ٦ - ٩ فِي آخِرِ التَّاسِعِ مِنْهَا أَنَّ نُوحًا عَاشَ ٩٥٠ سَنَةً، وَفِي أَوَّلِ السَّادِسِ بَيَانُ سَبَبِ الطُّوفَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ بِأُسْلُوبِ تِلْكَ الْكُتُبِ الَّتِي تُشَبِّهُ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِنْسَانِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، أَوْ مَا تَكَرَّرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ (١: ٢٦ وَقَالَ اللهُ نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ و٢٧٠٠٠ فَخَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى) وَهَذَا مَا يَعْنِينَا فِي هَذَا السِّفْرِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ.
(٦: ٥ وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الْإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ ٦ فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ ٧ فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ الْإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الْإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ لِأَنِّي حَزِنْتُ عَلَيْهِمْ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ ٨ وَأَمَّا نُوحٌ فَوُجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ ٩ هَذِهِ. مَوَالِيدُ نُوحٍ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ ١٠ وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةَ بَنِينَ: سَامًا وَحَامًا وَيَافِثَ ١١ وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَامْتَلَأَتْ ظُلْمًا ١٢ وَرَأَى اللهُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الْأَرْضِ ١٣ فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي لِأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الْأَرْضِ ١٤ اصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جَفْرٍ إِلَخْ.
وَهَاهُنَا وَصَفَ طُولَ الْفُلْكِ وَعَرْضَهُ وَارْتِفَاعَهُ وَبَابَهُ فِي جَانِبِهِ وَطَبَقَاتِهِ الثَّلَاثَ، وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَعَهُ وَهُمُ امْرَأَتُهُ وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَأَزْوَاجُهُمْ الثَّلَاثُ، وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ وَتَحْتَ السَّمَاءِ يَهْلِكُ، وَقَدْ كَرَّرَ ذِكْرَ مَنْ يَدْخُلُ الْفُلْكَ، وَذَكَرَ تَارِيخَ دُخُولِ الْفُلْكِ مِنْ عُمُرِ نُوحٍ، وَمُدَّةَ الْمَطَرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَمِقْدَارَ ارْتِفَاعِ الْفُلْكِ فَوْقَ الْجِبَالِ وَهُوَ ١٥ ذِرَاعًا، وَبَقَاءَ الْمِيَاهِ عَلَى الْأَرْضِ ١٥٠ يَوْمًا.
كُلُّ ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ السَّادِسِ وَالسَّابِعِ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ رُجُوعَ الْمِيَاهِ عَنِ الْأَرْضِ بِالتَّدْرِيجِ، وَاسْتِقْرَارَ الْفُلْكِ عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ، وَمَا كَانَ مِنْ خُرُوجِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ السَّفِينَةِ (قَالَ) ٨: ٢٠ وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحَرِّقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ ٢١ فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَى، وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أَلْعَنُ الْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ،
85
وَلَا أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ ٢٢ مُدَّةُ كُلِّ أَيَّامِ الْأَرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لَا تَزَالُ).
وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مُبَارَكَةُ اللهِ لِنُوحٍ وَبَنِيهِ وَإِكْثَارُهُمْ لِيَمْلَئُوا الْأَرْضَ، وَتَأْمِينُهُمْ مِنْ عَوْدَةِ الطُّوفَانِ بِإِعْطَائِهِمْ مِيثَاقَهُ وَهُوَ قَوْسُ السَّحَابِ، بَلْ جَعَلَهَا أَمَانًا لِكُلِّ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ فِي أَبْنَاءِ نُوحٍ ٩، ١٩ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الْأَرْضِ) وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ لَعَنَ كَنْعَانَ بْنَ يَافِثَ وَجَعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ عَبِيدًا لِذُرِّيَّةٍ سَامٍ وَحَامٍ لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ جَدِّهِ نُوحٍ إِذْ تَعَرَّى وَهُوَ سَكْرَانُ.
هَذِهِ خُلَاصَةُ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا وَلَا أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ، وَلَا أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَافِرٌ غَرِقَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَا امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ كُفْرُهَا قَبْلَ الطُّوفَانِ فَغَرِقَتْ أَمْ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فِي أَنَّ سَبَبَ الطُّوفَانِ غَضَبُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِفَسَادِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَلَكِنْ بِأُسْلُوبِهِ الْمُشَبِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْسَانِ فِي صِفَاتِهِ الْبَاطِنَةِ كَصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ.
عُمُرُ نُوحٍ وَتَعْلِيلُ طُولِهِ كَأَعْمَارِ مَنْ قَبْلَهُ:
وَيُوَافِقُ الْقُرْآنَ سِفْرُ التَّكْوِينِ تَقْرِيبًا فِي عُمُرِ نُوحٍ وَهُوَ ٩٥٠ سَنَةً، وَلَكِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَدِ اشْتَبَهَ فِيهَا النَّاسُ مُنْذُ قُرُونٍ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ تَدْوِينِ التَّارِيخِ، كَمَا أَنَّ الْأَيَّامَ وَالسِّنِينَ فِي زَمَنِ التَّكْوِينِ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢: ٤٧) وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي أَعْمَارِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الطُّوفَانِ أَوْ قَبْلَ مَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ التَّارِيخِ لَا يُقَاسُ بِمَا
عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْعُمْرَانِ وَمَعِيشَةَ الْإِنْسَانِ الْفِطْرِيَّةَ كَانَتْ أَسْلَمَ لِلْأَبْدَانِ، وَأَقَلَّ تَوْلِيدًا لِلْأَمْرَاضِ، وَقَوْلُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
سِفْرُ التَّكْوِينِ لَيْسَ مِنْ تَوْرَاةِ مُوسَى: وَسِفْرُ التَّكْوِينِ هَذَا لَيْسَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ فَضْلًا عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ تَابُوتِ الْعَهْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَدْ فُقِدَتْ هِيَ وَالتَّابُوتُ بِحَرِيقِ الْهَيْكَلِ، وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْيَهُودِ قَدْ كُتِبَتْ كُلُّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ فِي سَنَةِ ٥٣٦ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَقُولُونَ إِنَّ عِزْرَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَجَمَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَيْهِ وَعَمَّ اتِّصَالُهَا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ جَبْرَ ضُومَطَ مُدَرِّسُ الْبَلَاغَةِ فِي الْجَامِعَةِ الْأَمْرِيكَانِيَّةِ بِبَيْرُوتَ أَلَّفَ رِسَالَةً رَجَّحَ فِيهَا أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ
86
مَأْثُورٌ عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمَّا نَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَثَرٌ تَارِيخِيٌّ قَدِيمٌ لَهُ قِيمَتُهُ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُهَا (كِتَابُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ).
الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ نُوحٍ:
وَأَمَّا مَا حَشَا الْمُفَسِّرُونَ بِهِ تَفَاسِيرَهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ. وَأَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صُنْعِ السَّفِينَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ الَّذِي رَفَعَتْهُ لِيَنْجُوَ فَغَرِقَ مَعَهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْكَرُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ إِحْيَاءِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَلَبِ الْحَوَارِيِّينَ لِحَامِ بْنِ نُوحٍ وَتَحْدِيثِهِ إِيَّاهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَطَبَقَاتِهَا وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَدُخُولِ الشَّيْطَانِ فِيهَا بِحِيلَةٍ احْتَالَ بِهَا عَلَى نُوحٍ، وَمِنْ وِلَادَةِ خِنْزِيرٍ وَخِنْزِيرَةٍ مِنْ ذَنَبِ الْفِيلِ، وَسِنَّوْرٍ وَسِنَّوْرَةٍ (قَطٍّ وَقِطَّةٍ) مِنْ مَنْخَرِ الْأَسَدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الْمُنَفِّرَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَيَحْيَى وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ يَغْلُو فِي التَّشَيُّعِ وَمَعَ ذَلِكَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. أَقُولُ: وَحَسْبُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ.
خَبَرُ الطُّوفَانِ فِي الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ:
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَوَارِيخِ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ ذِكْرٌ لِلطُّوفَانِ، مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِخَبَرِ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا قَلِيلًا، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَقْرَبُ الرِّوَايَاتِ إِلَيْهِ رِوَايَةُ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ الطُّوفَانُ فِي بِلَادِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُمْ بَرْهُوشَعُ وَيُوسُفُوسُ أَنَّ زَيْزَسْتُرُوسَ رَأَى فِي الْحُلْمِ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ أُوتِيرْتَ أَنَّ الْمِيَاهَ سَتَطْغَى وَتُغْرِقَ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَأَمَرَهُ بِبِنَاءِ سَفِينَةٍ يَعْتَصِمُ فِيهَا هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَخَاصَّةُ أَصْدِقَائِهِ فَفَعَلَ، وَهُوَ يُوَافِقُ سِفْرَ التَّكْوِينِ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ جِيلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ طَغَوْا فِيهَا وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ فَعَاقَبَهُمْ اللهُ بِالطُّوفَانِ، وَقَدْ عَثَرَ بَعْضُ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى أَلْوَاحٍ مِنَ الْآجُرِّ نُقِشَتْ فِيهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالْحُرُوفِ الْمِسْمَارِيَّةِ فِي عَصْرِ أَشُورَ بِانِيبَالَ مِنْ نَحْوِ ٦٦٠ سَنَةً قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ كِتَابَةٍ قَدِيمَةٍ مِنَ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَهِيَ أَقْدَمُ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ.
وَرَوَى الْيُونَانُ خَبَرًا عَنِ الطُّوفَانِ أَوْرَدَهُ أَفْلَاطُونُ، وَهُوَ أَنَّ كَهَنَةَ الْمِصْرِيِّينَ قَالُوا
87
لِسُولُونَ (الْحَكِيمِ الْيُونَانِيِّ) إِنَّ السَّمَاءَ أَرْسَلَتْ طُوفَانًا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَهَلَكَ الْبَشَرُ مِرَارًا بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لِلْجِيلِ الْجَدِيدِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ مَنْ قَبْلَهُ وَمَعَارِفِهِمْ.
وَأَوْرَدَ مَانِيتُونُ خَبَرَ طُوفَانٍ حَدَثَ بَعْدَ هَرْمَسَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ مِينَاسَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَقْدَمُ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ خَبَرُ طُوفَانٍ عَمَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا إِلَّا دُوكَالْيُونَ وَامْرَأَتَهُ بِيرَا فَقَدْ نَجَوْا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْفُرْسِ طُوفَانٌ أَغْرَقَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ بِمَا انْتَشَرَ فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ بِفِعْلِ (أَهْرَيْمَانَ) إِلَهِ الشَّرِّ، وَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطُّوفَانَ فَارَ أَوَّلًا مِنْ تَنُّورِ الْعَجُوزِ (زُولَ كُوفَهْ) إِذْ كَانَتْ تَخْبِزُ خُبْزَهَا فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمَجُوسَ أَنْكَرُوا عُمُومَ الطُّوفَانِ وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ، وَانْتَهَى إِلَى حُدُودِ كُرْدِسْتَانَ.
وَكَذَا قُدَمَاءُ الْهُنُودِ يُثْبِتُونَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي شَكْلٍ خُرَافِيٍّ، آخِرُهَا أَنَّ مَلِكَهُمْ نَجَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي سَفِينَةٍ عَظِيمَةٍ أَمَرَهُ بِصُنْعِهَا إِلَهُهُ فِشْنُو وَشَدَّهَا بِالدُّسُرِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى جَبَلِ جِيمَافَاتَ (حِمَلَايَا) وَلَكِنَّ الْبَرَاهِمَةَ كَالْمَجُوسِ يُنْكِرُونَ وُقُوعَ طُوفَانٍ عَامٍّ أَغْرَقَ
الْهِنْدَ كُلَّهَا. وَيُرْوَى تَعَدُّدُ الطُّوفَانِ عَنِ الْيَابَانِ وَالصِّينِ وَعَنِ الْبَرَازِيلِ وَالْمَكْسِيكِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عِقَابُ اللهِ لِلْبَشَرِ بِظُلْمِهِمْ وَشُرُورِهِمْ.
الْعِلَاوَةُ الثَّالِثَةُ:
(هَلْ كَانَ الطُّوفَانُ عَامًّا أَمْ خَاصًّا؟)
نَصُّ التَّوْرَاةِ - أَوْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا مُهْلِكًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ مِنْ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ: سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِيهِ خَبَرُهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ١٨: ٥١ أَمَّا قَوْلُهُ فِي نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ وَأَهْلِهِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ٣٧: ٧٧ فَالْحَصْرُ فِيهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضَافِيًّا، أَيِ الْبَاقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (٧١: ٢٦) فَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ هَذِهِ الْكُرَةُ كُلُّهَا، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ وَفِي أَخْبَارِهِمْ أَنْ تُذْكَرَ الْأَرْضُ وَيُرَادَ بِهَا أَرْضُهُمْ وَوَطَنُهُمْ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ١٠: ٧٨ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، وَقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) (١٧: ٧٦) فَالْمُرَادُ بِهَا مَكَّةُ، وَقَوْلُهُ:
88
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ١٧: ٤ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ وَطَنَهُمْ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ.
وَلَكِنْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ تَدُلُّ - بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ وَالتَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي زَمَنِ نُوحٍ إِلَّا قَوْمُهُ، وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالطُّوفَانِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ فِيهَا غَيْرُ ذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا لَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْيَابِسَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَغِيرَةً لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ وَبِوُجُودِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُلَمَاءَ التَّكْوِينِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجِيَّةِ) يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الشَّمْسِ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً، ثُمَّ صَارَتْ كُرَةً مَائِيَّةً، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهَا الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ (ص ٦٦٦) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ
: فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ:
جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ نَابِلْسَ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ:
وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي ٤ شَوَّالٍ سَنَةَ ١٣١٧ هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ: أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا قَوْمُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ، وَأَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ ((وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)).
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (٧١: ٢٦) وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) (٣٧: ٧٧) وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (١١: ٤٣) قَالُوا: هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ - سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ،
89
وَاسْتَنَدُوا إِلَى حِكَايَاتٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى أَهْلِ الصِّينِ، وَرَغِبْتُمْ مِنَّا بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ كَشْفَ الْغِطَاءِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ، وَالْإِفَادَةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى عُمُومِ الطُّوفَانِ، وَلَا عَلَى عُمُومِ رِسَالَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ سَنَدِهِ - فَهُوَ آحَادٌ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَالْمَطْلُوبُ فِي تَقْرِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الْيَقِينُ لَا الظَّنُّ، إِذْ عُدَّ اعْتِقَادُهَا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينَ.
وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُ وَمُرِيدُ الِاطِّلَاعِ فَلَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنَ الظَّنِّ مَا تُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ثِقَتُهُ بِالرَّاوِي أَوِ الْمُؤَرِّخِ أَوْ صَاحِبِ الرَّأْيِ، وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ حَدِّ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَا تُتَّخَذُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى مُعْتَقَدٍ دِينِيٍّ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ فِي نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعُ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَوْضُوعُ خِلَافٍ بَيْنِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَعَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ الْأَرْضِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأَصْدَافِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ.
فَظُهُورُهَا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ صَعِدَ إِلَيْهَا مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ، وَيَزْعُمُ غَالِبُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، وَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ يَطُولُ شَرْحُهَا - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَ قَضِيَّةَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِالدِّينِ أَلَّا يَنْفِيَ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّ سَنَدُهَا وَيَنْصَرِفُ عَنْهَا إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَقْطَعُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ الْمُرَادِ، وَالْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ طَوِيلٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ، وَعِلْمٍ غَزِيرٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عُلُومٍ شَتَّى عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَمَنْ هَذَى بِرَأْيِهِ بِدُونِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ فَهُوَ مُجَازِفٌ لَا يُسْمَعُ لَهُ قَوْلٌ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِبَثِّ جَهَالَاتِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ)) اهـ.
(أَقُولُ) : خُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا شَامِلًا لِقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأَرْضِ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ الْأَرْضَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْأَصْدَافِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ فِي قُلَلِ الْجِبَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الطُّوفَانِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَكَوُّنِ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، فَإِنَّ صُعُودَ الْمَاءِ إِلَى الْجِبَالِ
90
أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ
يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ. فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا.
الْعِلَاوَةُ الرَّابِعَةُ:
(فِي غَضَبِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعِقَابِهِمْ بِبَعْضِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِمُنَاسَبَةِ الْقِصَّةِ) بَيَّنَّا أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَذَابًا عَاقَبَ اللهُ بِهِ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ سِفْرِ التَّكْوِينِ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَخْبَارِ الطُّوفَانِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ قَدْ جَاءَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا.
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَاقَبَ غَيْرَ قَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا عَمَّهُمْ وَشَمَلَهُمُ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَشْهَرِهِمْ فِي التَّارِيخِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢٩: ٤٠) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ عِقَابِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ هَذِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي عَمَّهَا الْفَسَادُ وَأَنْذَرَهَا الرُّسُلُ وُقُوعَهُ فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَيُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٧: ١٥) وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [٢٨: ٥٨ و٥٩] وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - لَمْ يُغْرِقْهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنَّمَا أَغْرَقَ مَنْ خَرَجُوا مَعَهُ لِإِعَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ.
وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا دَعْوَتُهُ هُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ.
وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَا يُهْلِكُهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ
فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهَا الْعَامُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي يُهْلَكُ بِهَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عَمَّهُمُ الْكُفْرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
91
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ)).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَأُمَّةِ الْإِجَابَةِ - خَاصَّةً بِالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ لَا عَامًّا لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعُمُّ أَفْرَادَ مَنْ يَقَعُ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦: ٦٥) وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَاقِعَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَشْكَالٍ لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ بَشَرٍ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ وَهِيَ عَذَابُ الطَّيَّارَاتِ الْجَوِّيَّةِ، وَالْأَلْغَامِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْغَوَّاصَاتِ الْبَحْرِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ الْأَقْوَامِ إِلَى شِيَعٍ فِي الْعَدَاوَاتِ فَوْقَ الْمَعْهُودِ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
كَذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِثْلَ مَا عُذِّبَ بِهِ الْأَقْوَامُ الْأَوَّلُونَ الْمُجْرِمُونَ الظَّالِمُونَ، مِنَ الطُّوفَانِ الْخَاصِّ وَخَسْفِ الْأَرْضِ وَحُسْبَانِ النَّارِ مِنَ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ، وَشِدَّةِ الْقَيْظِ الْمُحْرِقِ لِلنَّبَاتِ الْقَاتِلِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ فَكَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا فِي صَيْفِ عَامِنَا هَذَا (١٣٥٣ هـ - ١٩٣٤ م) فِي أَمْرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ وَلَا سِيَّمَا إِنْكِلْتِرَةُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَالْفُرْسُ وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَخُسِفَتْ بَعْضُ الْأَرْضِ بِالزَّلَازِلِ فِي الْهِنْدِ، وَحَدَثَ فِي مِصْرَ وَسُورِيَّةَ وَالْعِرَاقِ وَشَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ شَيْءٌ مِنَ الْجُوعِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَنَقْصِ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَا يَزَالُ الْقَيْظُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ.
وَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُجِيرَ مِصْرَ مِنْ طُغْيَانٍ فِي النِّيلِ كَطُغْيَانِ بَعْضِ أَنْهَارِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ أَخِيرًا وَفَرَنْسَةَ قَبْلَهُمَا، عِقَابًا لَنَا بِظُلْمِ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِنَا وَفِسْقِ الْفَاسِقِينَ مِنْ دَهْمَائِنَا، اللهُمَّ قَدْ كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُكَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَمَنْ يَدْعُوكَ وَحْدَكَ فِي السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ، اللهُمَّ،
وَلَا تُهْلِكْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَأَدِمْ لَنَا هَذَا النِّيلَ رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْ مِنْهُ عُقُوبَةً لِلْأُمَّةِ.
اعْتِبَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ وَتَوْبَتُهُمْ رَجَاءَ رَفْعِهَا:
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِذَا وَقَعَ عَذَابٌ مِثْلُ هَذَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ اللهَ - تَعَالَى - فَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، كَمَا كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يُوصُونَهُمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ وَاسْتِغْفَارَهُ مِنَ الذُّنُوبِ - وَلَا سِيَّمَا الظُّلْمُ وَالْفِسْقُ - مِنْ أَسْبَابِ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَالرِّزْقِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ١١: ٣
92
ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي سُورَتِهِ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (٧١: ١٠ - ١٢) وَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ رِجَالِ الدِّينِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ أَنْ يُذَكِّرُوا النَّاسَ بِغَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِفِسْقِهِمْ وَظُلْمِهِمْ عِنْدَمَا اشْتَدَّ الْقَيْظُ وَمُنِعَ الْمَطَرُ وَاحْتَرَقَتِ الزُّرُوعُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْعَامِّ، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٦: ٤٣ و٤٤) أَيْ: خَائِبُونَ مُتَحَسِّرُونَ أَوْ يَائِسُونَ.
وَقَالَ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٨: ٣٢ و٣٣) فَلَمَّا أُخْرِجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ، حَتَّى كَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ وَاسْتَعْطَفَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطَمْئِنَةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (١٦: ١١٢ و١١٣) وَمَا جَعَلَ اللهُ هَذَا مَثَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، حَتَّى كَانَتْ أَغْنَى عَوَاصِمِ الْأَرْضِ وَقُرَاهَا كَلَنْدَنَ وَبَارِيسَ ذَاقَتْ أَلَمَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (٩: ١٢٦).
الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِالنَّوَازِلِ:
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَكْثَرَ الظَّالِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَادِّيُّونَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ كَانَ عَامًّا هَلَكَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ نَجَا فِي السَّفِينَةِ، أَوْ خَاصًّا بِقَوْمِ نُوحٍ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ حَدَثَ بِأَسْبَابٍ طَبِيعِيَّةٍ كَمَا حَدَثَ فِي هَذَا الْعَامِ فِي مَوَاضِعَ فِي فَرَنْسَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أُورُبَّةَ وَفِي الْيَابَانِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ فَأَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَأَتْلَفَ مِنَ الْمَبَانِي وَالْمَزَارِعِ مَا قُدِّرَتْ قِيمَتُهُ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطُّوفَانَ الْعَامَّ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْأَرْضِ بَعْدُ، فَإِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ إِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا - عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا - لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِتَكْوِينِ الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ أَكْثَرُهَا مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ ثُمَّ صَارَ يَتَقَلَّصُ
93
وَتَتَّسِعُ الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِهَذَا الرَّأْيِ، فَفِي كِتَابِ الْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْمُورَ كَانَ مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ بِدَلِيلِ مَا يُوجَدُ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ مِنَ الْأَصْدَافِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ.
وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ كَقَحْطِ الْمَطَرِ وَانْحِبَاسِهِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ وَغُئُورِهَا، وَشِدَّةِ صَخْدِ الشَّمْسِ وَرَمْضَائِهَا، وَقَدِ اشْتَدَّ هَذَا فِي أَكْثَرِ بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ وَأَمْرِيكَةَ، فَاحْتَرَقَ جُلُّ زَرْعِهِمُ الصَّيْفِيُّ وَهَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، بَلْ مَاتَ بِهِ أُلُوفٌ، مِنْهُمْ مِئَاتٌ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ نِيُويُورْكَ وَحْدَهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثُغُورِ الْعَالَمِ، فَأَكْثَرُ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَامِ فِي سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - بَيْنَ حَرِيقٍ وَغَرِيقٍ جَزَاءً بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ بِمَا أَسْرَفُوا بَعْدَهَا فِي الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ وَإِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْفَاقِ مَا زَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبٍ شَرٍّ مِنْهَا، وَبِاشْتِدَادِ ظُلْمِهِمْ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمُ الرَّسْمِيَّةِ وَغَيْرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا يَعْتَبِرُ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ فَيَتُوبُوا
مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهَا عَذَابٌ وَلَا نُذُرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ فَأَمْرُهُمْ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْعَالَمِ فَلَا يُسْنِدُونَ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَّا مَا يَجْهَلُونَ لَهُ سَبَبًا مِنْ نِظَامِ الطَّبِيعَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ مَشِيئَةٌ وَحِكْمَةٌ غَيْرَ سَبَبِهِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَتَبَدَّلُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ صَلَاحًا وَفَسَادًا، بَلْ يَعُدُّ الْمَادِّيُّونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِنِظَامِ الْأَسْبَابِ بُرْهَانًا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، وَعَلَى جَهْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَقِّي الْعُلُومِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّ الْمُسْتَحْوِذَ عَلَى عُقُولِهِمْ هُوَ مَا يُسَمُّونَهُ ((نَظَرِيَّةَ الْمِيكَانِيكِيَّةِ)) وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ كَآلَةٍ كَبِيرَةٍ تُدَارُ بِقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ فَيَتَحَرَّكُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِحَرَكَةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِلْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لَهَا كُلِّهَا عِلْمٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَنَقُولُ لَهُمْ: مَنْ أَوْجَدَ الْقُوَّةَ وَمَنْ يُحَرِّكُهَا وَيَحْفَظُ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِيهَا؟ !
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْعَالَمِ سَبَبًا، وَإِنَّ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَوَامِيسَ وَسُنَنًا، وَإِنَّهَا عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، فَصَحِيحٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةُ، وَأَوَّلُهَا آيَاتُ الْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّتِي يَفْهَمُهَا الْجَمَاهِيرُ بِضِدِّ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَصَائِبِ وَالنِّقَمِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ٨: ٢٥ وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ١٧: ٢٠ أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ.
وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، أَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَصَائِبِ مَشِيئَةً خَاصَّةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً كَقَوْلِهِ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٠: ٤١) وَقَوْلِهِ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢: ٣٠) فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ فِي الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ
94
قَوْلُهُ: (مَثَلَ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣: ١١٧) الصِّرُّ بِالْكَسْرِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ أَوِ الْحَرُّ الشَّدِيدُ، وَفِي مَعْنَاهُ مِثْلُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ جَنَّاتِهِمْ بِظُلْمِهِمْ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ عِقَابٌ خَفِيٌّ، وَلَهُ فِيهِمْ لُطْفٌ خَفِيٌّ، فَنَسْأَلُهُ اللُّطْفَ بِنَا.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُنْفِذُهُ بِإِبْطَالِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَلَكِنْ بِالتَّرْجِيحِ أَوْ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَهَا كَمَا قَالَ: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى ٢٠: ٤٠ وَلِلَّهِ دَرُّ صَرِيعِ الْغَوَانِي حَيْثُ قَالَ: وَتَوْفِيقُ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (١٠: ٢٣) [فِي ص ٢٨٠ ج ١١ ط الْهَيْئَةِ].
قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي ثَمَانِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ هُنَا فِي إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا سِيَاقٌ وَأُسْلُوبٌ وَنَظْمٌ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَسَتَأْتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِأُسْلُوبٍ وَنَظْمٍ وَسِيَاقٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي سُورَتَيِ: ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَ ((الْأَحْقَافِ)) بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَذُكِرَ عِقَابُ قَوْمِهِ (عَادٍ) فِي سُوَرِ: فُصِّلَتْ وَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ هُودًا أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ لِأَوَّلِ أُمَّةٍ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ الْأَبِ الثَّانِي لِلْبَشَرِ، وَبِهَذَا يَكُونُ أَوَّلُ رَسُولٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَرَبِيًّا، وَآخِرُ رَسُولٍ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ عَرَبِيًّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ.
95
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْمَهُ دَعْوَةَ رَبِّهِ.
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَى قَوْمِهِ) (٢٥) أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ الْأُولَى أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَالْقَوْمِيَّةِ هُودًا (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لِلنَّاسِ رَبُّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِرَافِكُمْ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أَيْ: مَا أَنْتُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ ((إِلَّا مُفْتَرُونَ)) كَذِبًا عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ شُرَكَاءَ، وَتَسْمِيَتِهِمْ شُفَعَاءَ، تَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ أَوْ بِقُبُورِهِمْ أَوْ بِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَرْجُونَ النَّفْعَ وَكَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بِجَاهِهِمْ عِنْدَهُ.
(يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَالْمُرَادُ: إِنِّي نَاصِحٌ مُخْلِصٌ أَمِينٌ فِي هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا فَتَتَّهِمُونِي بِطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِي (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أَيْ: مَا أَجْرِي الَّذِي أَرْجُوهُ عَلَى تَبْلِيغِكُمْ إِيَّاهُ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي خَلَقَنِي عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْوَثَنِيَّةِ، الَّتِي ابْتَدَعَهَا قَوْمُ نُوحٍ بِتَصْوِيرِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ لِحِفْظِ ذِكْرَاهُمْ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ تَعْظِيمَ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فَعِبَادَتَهَا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) مَا يُقَالُ لَكُمْ فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَأَنَّ الْأَخَ لَا يَغُشُّ إِخْوَتَهُ، وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِغَضَبِ قَوْمِهِ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُ.
- (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ بِلَفْظِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) هَذَا الْجَزَاءُ الْأَوَّلُ لِلْأَمْرِ قَبْلَهُ، وَالسَّمَاءُ هُنَا الْمَطَرُ أَوِ السَّحَابُ الْمُمْطِرُ، وَإِرْسَالُهُ إِمْطَارُهُ، وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدُّرُورِ، وَأَصْلُهُ كَثْرَةُ دَرِّ اللَّبَنِ، يُقَالُ: دَرَّتِ الشَّاةُ تَدَرْدُرًا وَدُرُورًا فَهِيَ دَارٌّ (بِغَيْرِ هَاءٍ). أَيْ كَثُرَ فَيْضُ لَبَنِهَا، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ التَّعْبِيرِ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَثْرَةِ النَّافِعَةِ ; فَإِنَّ بَعْضَهُ قَدْ يَكُونُ ضَارًّا وَقَدْ يَكُونُ عَذَابًا، وَكَانَتْ بِلَادُهُمُ الْأَحْقَافُ (جَمْعُ حِقْفٍ وَهُوَ الرَّمْلُ الْمَائِلُ) شَدِيدَةَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَطَرِ لِزَرْعِهَا وَشَجَرِهَا؛ لِأَنَّ الرَّمْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْجَفَافُ إِذَا قَلَّ الْمَطَرُ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ اللهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ الثَّلَاثَ سِنِينَ فَأَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ وَقَحَطَتْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَكِنْ يَدُلُّ
عَلَى شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَطَرِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَادِرَةَ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ اسْتَبْشَرُوا إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُ سَحَابٌ يُمْطِرُهُمْ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٤٦: ٢٤ و٢٥)، (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) هَذَا الْجَزَاءُ الثَّانِي لِلْأَمْرِ، وَهُوَ مِمَّا كَانُوا يَطْلُبُونَهُ وَيُعْنَوْنَ بِهِ وَيَفْخَرُونَ عَلَى النَّاسِ، إِذْ كَانُوا قَدْ بُسِطَ لَهُمْ فِي الْأَجْسَامِ وَأُعْطُوا الْقُوَّةَ فِيهَا كَمَا تَرَاهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
96
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (٤١: ١٥ و١٦) وَقَوْلِهِ: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (٢٦: ١٣٠) فَيَا لَيْتَ دُوَلَ أُورُبَّةَ الْمُسْتَكْبِرَةَ بِقُوَّتِهَا الَّتِي يُهَدِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَعْتَبِرُ بِهَذَا. وَإِنِّي وَهُمْ أَشَدُّ مِنْ قَوْمِ عَادٍ كُنُوزًا؟
(وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أَيْ لَا تَنْصَرِفُوا مُعْرِضِينَ عَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ الْمَعِيشَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ وَهِيَ جَزَاءُ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْحَقِّ.
قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي رَدِّ قَوْمِهِ لِلدَّعْوَةِ وَجُحُودِهِمْ لِلْبَيِّنَةِ، وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْذَارِهِ لَهُمْ. (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ نَاهِضَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، أَوْ تَرْكًا صَادِرًا عَنْ قَوْلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ وَأَنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنَا (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِمُتَّبِعِينَ لَكَ اتِّبَاعَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ بِرِسَالَتِكَ الَّتِي لَا بَيِّنَةَ لَكَ عَلَيْهَا، وَمَا قَوْلُهُمْ هَذَا إِلَّا جُحُودٌ وَعِنَادٌ، فَإِنَّ حُجَّتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوَافِقَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) أَيْ: مَا نَجِدُ مِنْ قَوْلٍ نَقُولُهُ فِيكَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا أَصَابَكَ بِجُنُونٍ أَوْ خَبَلٍ - وَهُوَ الْهَوَجُ وَالْبَلَهُ - لِإِنْكَارِكَ لَهَا وَصَدِّكَ إِيَّانَا عَنْهَا (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) هَذَا بَدْءُ جَوَابٍ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ مَسَائِلَ:
97
الْأُولَى: الْبَرَاءَةُ مِنْ شِرْكِهِمْ أَوْ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا. (الثَّانِيَةُ) : إِشْهَادُ اللهِ عَلَى ذَلِكَ لِثِقَتِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ فِيهِ - وَإِشْهَادُهُ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ أَيْضًا لِإِعْلَامِهِمْ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ وَبِمَا يَزْعُمُونَ مِنْ قُدْرَةِ شُرَكَائِهِمْ عَلَى إِيذَائِهِ. (الثَّالِثَةُ) : قَوْلُهُ: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) أَيْ فَأَجْمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْكَيْدِ لِلْإِيقَاعِ بِي ثُمَّ لَا تُمْهِلُونِي، وَلَا تُؤَخِّرُوا الْفَتْكَ بِي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، أَيْ أَنَّهُ لَا يَخَافُهُمْ وَلَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ. وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي تَلْقِينِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ تَقْرِيرِ عَجْزِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) (٧: ١٩٥) وَمِثْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ١٠: ٧١ وَقَدْ قَدَّمَ نُوحٌ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَأَخَّرَهُ هُودٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ (الرَّابِعَةُ).
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُمْ وَمِنْ آلِهَتِهِمْ، يَقُولُ: إِنِّي وَكَّلْتُ أَمْرَ حِفْظِي وَخِذْلَانِكُمْ إِلَى
اللهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ إِذْ هُوَ رُبِّيَ وَرَبُّكُمْ، أَيْ: مَالِكُ أَمْرِي وَأُمُورِكُمُ، الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (مَا مِنْ دَابَّةٍ) تَدِبُّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أَيْ: مُسَخِّرُهَا وَمُتَصَرِّفٌ فِيهَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ - وَهُوَ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرَّأْسِ - تَمْثِيلٌ لِتَصَرُّفِ الْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ الَّذِي لَا مَهْرَبَ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ، وَتَقَدَّمَتِ الْجُمْلَةُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْعَفًا بِالنَّاصِيَةِ) (٩٦: ١٥) أَيْ: لَنَأْخُذَنَّ بِهَا أَخْذَ الْقَاهِرِ الْمُؤَدِّبِ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ الْفَرَسِ لِيُلْجِمَهُ أَوْ يَرْكَبَهُ، وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ الرَّجُلِ لِيَلْطِمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ اهـ. (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لَا يُسَلِّطُ أَهْلَ الْبَاطِلِ مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ رُسُلِهِ وَمُتَّبِعِيهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَلَا يُضَيِّعُ حَقًّا، وَلَا يَفُوتُهُ ظَالِمٌ.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ وَلَمْ تَنْتَهُوا بِنَهْيِي لَكُمْ عَنِ التَّوَلِّي، وَلَمْ تُطِيعُوا أَمْرِي لَكُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ الْإِشْرَاكِ بِهِ (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أَيْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَلَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْكُمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) إِذَا هُوَ أَهْلَكَكُمْ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ (وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) مَا مِنَ الضَّرَرِ بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (٣٩: ٧) وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا أَنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَ رَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أَيْ: قَائِمٌ وَرَقِيبٌ عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ وَالْبَقَاءِ، عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ سُنَّتُهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَالْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ لِقَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ، (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) عَذَابُنَا أَوْ وَقْتُهُ (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنَّا خَاصَّةٍ بِهِمْ. مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَارِضِ الَّذِي يُصِيبُ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ نُوحٍ لِوَلَدِهِ: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (٤٣) (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) أَعَادَ فِعْلَ التَّنْجِيَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ (مِنَّا) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ (مِنْ) الدَّاخِلَةِ عَلَى الْعَذَابِ. أَيْ: وَإِنَّمَا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ شَدِيدِ الْغِلْظَةِ، فَظِيعٍ شَدِيدِ الْفَظَاعَةِ، غَيْرِ مَعْهُودٍ فِي الْعَالَمِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، الَّتِي لَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وَبِقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٥٤: ١٩ و٢٠) وَقَوْلِهِ فِي وَصْفِ هَذِهِ الرِّيحِ الْعَاتِيَةِ: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (٦٩: ٧ و٨).
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ) أَيْ: كَفَرُوا بِجِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ بِجُحُودِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنْهَا، أَنَّثَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةً إِلَى آثَارِهِمْ، وَالْجُحُودُ بِالْآيَاتِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عِنَادًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أَيْ: عَصَوْا جِنْسَهُمْ بِعِصْيَانِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ ; فَإِنَّ عِصْيَانَ الْوَاحِدِ عِصْيَانٌ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ، إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْضِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا، بِادِّعَاءِ
أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ بَشَرًا (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أَيْ وَاتَّبَعَ سَوَادُهُمْ وَدَهْمَاؤُهُمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ
الْمُسْتَبِدِّينَ فِيهِمْ بِالْقَهْرِ، فَالْجَبَّارُ الْقَاهِرُ الَّذِي يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ بِالْقَهْرِ وَالْإِذْلَالِ، أَوْ مَنْ يَجْبُرُ نَقْصَ نَفْسِهِ بِالْكِبْرِ وَدَعْوَى الْعَظَمَةِ، وَالْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي يَأْبَى الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ بَقَايَا الْمُلُوكِ الْجَبَّارِينَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ؟
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) إِتْبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: لُحُوقُهُ بِهِ وَإِدْرَاكُهُ إِيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ، أَيْ لَحِقَتْ بِهِمْ لَعْنَةٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَكَانَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكَ آثَارَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ بَلَّغَهُ الرُّسُلُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَبَرَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَتَتْبَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يَلْعَنُ الْأَشْهَادُ الظَّالِمِينَ أَمْثَالَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللهِ: لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) هَذِهِ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، أَيْ: كَفَرُوا نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لِرُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا، يُقَالُ: كَفَرَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَمَعْنَى مَادَّةِ الْكُفْرِ فِي الْأَصْلِ التَّغْطِيَةُ، (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ مِنَ الرَّحْمَةِ حِكَايَةً لِبَدْئِهِ، وَتَسْجِيلًا لِدَوَامِهِ، كَرَّرَ أَلَا الْمُنَبِّهَةَ لِمَا بَعْدَهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَكَرَّرَ اسْمَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِـ قَوْمِ هُودٍ لِيُفِيدَ السَّامِعَ بِالتَّكْرِيرِ تَقْرِيرَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِللَّعْنَةِ وَالْإِبْعَادِ وَسَبَبِهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ لِرَدِّ الدَّعْوَةِ الْمُعَقِّبَةِ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى ضِدِّهِ مِنْ شَقَاءٍ وَنِقْمَةٍ.
قِصَّةُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
هُوَ النَّبِيُّ الرَّسُولُ الثَّانِي مِنَ الْعَرَبِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّتِهِ فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا مَسَاكِنَ قَبِيلَتِهِ ثَمُودَ وَهِيَ: الْحِجْرُ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهَاهِيَ ذِي قَدْ ذُكِرَتْ هُنَا فِي ثَمَانِي آيَاتٍ تُضَاهِي تِلْكَ السَّبْعَ، وَسَتَجِيءُ فِي ١٩ آيَةً مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَقْصَرَ مِنْ آيَاتِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، ثُمَّ
فِي تِسْعٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ تُنَاهِزُ آيَاتِ الْأَعْرَافِ، ثُمَّ فِي تِسْعٍ مِنْ سُورَةِ الْقَمَرِ قِصَارٍ، وَذُكِرَتْ قَبْلَهُنَّ فِي خَمْسٍ مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ، وَبَعْدَهُنَّ فِي خَمْسٍ مِنْ سُورَةِ الشَّمْسِ، وَثَلَاثٍ مِنْ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ، وَثِنْتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَلَا يُغْنِي عَنْهَا غَيْرُهَا.
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ وَرَدِّهِمْ لَهَا وَاحْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ.
- وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - هَذَا نَصُّ مَا تَقَدَّمَ فِي تَبْلِيغِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: - هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ - أَيْ هُوَ بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِخَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ مِنْهَا مُبَاشَرَةً، ثُمَّ يُخْلَقُ كُلٌّ مِنْكُمْ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ فِي الرَّحِمِ إِلَى عَلَقَةٍ فَمُضْغَةٍ فَهَيْكَلٍ عَظْمِيٍّ يُحِيطُ بِهِ لَحْمٌ هِيَ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ الْغَالِبُ إِمَّا نَبَاتٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِمَّا لَحْمٌ يَرْجِعُ إِلَى النَّبَاتِ فِي طَوْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ - وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا - أَيْ: وَجَعَلَكُمْ عُمَّارًا فِيهَا مِنَ الْعُمْرَانِ، فَقَدْ كَانُوا زُرَّاعًا وَصُنَّاعًا وَبَنَّائِينَ: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ١٥: ٨٢ وَقِيلَ: مِنَ الْعُمُرِ، أَيْ أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا،
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِعْمَارُ فِي عَصْرِنَا بِمَعْنَى اسْتِيلَاءِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَاسْتِثْمَارِهَا وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا لِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْشِئُ لِخَلْقِكُمْ وَالْمُمِدُّكُمْ بِأَسْبَابِ الْعُمْرَانِ وَالنِّعَمِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَعْبُدُوا فِيهَا غَيْرَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ كُلِّهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ - أَيْ: فَاسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا أَشْرَكْتُمْ وَمَا أَجْرَمْتُمْ، ثُمَّ تُوبُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ ذَنْبٌ أَوْ خَطَأٌ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي دَعْوَةِ هُودٍ قَرِيبًا وَفِي دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ السُّورَةِ - إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ - قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ،
مُجِيبٌ لِدُعَاءِ مَنْ دَعَاهُ مُؤْمِنًا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: - وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ٢: ١٨٦ فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا الْمُفَصَّلُ هُنَالِكَ.
- قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا - أَيْ: قَدْ كُنْتَ مَوْضِعَ رَجَائِنَا لِمُهِمَّاتِ أُمُورِنَا، لِمَا لَكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي بَيْتِكَ وَفِي صِفَاتِكَ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، قَبْلَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ دِينِنَا بِمَا تَزْعُمُ مِنْ بُطْلَانِهِ فَانْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ - أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا -؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا وَاسْتَمَرَّ فِينَا لَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ أَحَدٌ؟ فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ، وَلَوْ قَالُوا: مَا عَبَدَ آبَاؤُنَا لَمَا أَفَادَ هَذَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةٌ مُصَوِّرَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي صُورَةِ الْحَاضِرَةِ - وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ - أَيْ: وَإِنَّا لَوَاقِعُونَ فِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ الشُّفَعَاءِ لَنَا عِنْدَهُ الْمُقَرِّبِينَ لَنَا إِلَيْهِ، وَلَا بِتَعْظِيمِ مَا وَضَعَهُ آبَاؤُنَا لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ، لَا نَدْرِي مُرَادَكَ وَغَرَضَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلرَّيْبِ وَسُوءِ الظَّنِّ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّيْبُ: الظَّنُّ وَالشَّكُّ، وَرَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي إِذَا جَعَلَكَ شَاكًّا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَابَنِي مِنْ فُلَانٍ أَمْرٌ يَرِيبُنِي رَيْبًا: إِذَا اسْتَيْقَنْتُ مِنْهُ الرِّيبَةَ، فَإِذَا أَسَأْتَ بِهِ الظَّنَّ
وَلَمْ تَسْتَيْقِنْ مِنْهُ الرِّيبَةَ، قُلْتَ: أَرَابَنِي مِنْهُ أَمَرٌ هُوَ فِيهِ إِرَابَةٌ، وَأَرَابَنِي فُلَانٌ إِرَابَةً فَهُوَ مُرِيبٌ: إِذَا بَلَغَكَ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ تَوَهَّمْتَهُ اهـ.
- قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً - تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ ٢٨ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: - رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ - أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِي مَعَكُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ قَطْعِيَّةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَوَهَبَنِي رَحْمَةً خَاصَّةً مِنْهُ جَعَلَنِي بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَيْكُمْ - فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ - بِكِتْمَانِ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا يَسُوءُكُمْ مِنْ بُطْلَانِ عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمْ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ وَيَدْفَعُ عَنِّي عِقَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَنْ لَا أُبَالِي بِفَقْدِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَلَا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ شَكٍّ وَارْتِيَابٍ فِي أَمْرِي - فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ - أَيْ مَا تَزِيدُونَنِي بِحِرْصِي عَلَى رَجَائِكُمْ فِيَّ وَاتِّقَاءِ سُوءِ ظَنِّكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ، غَيْرَ إِيقَاعٍ فِي الْخُسْرَانِ بِإِيثَارِ مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتِرَاءِ رِضَاكُمْ بِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى -، أَوْ غَيْرِ إِيقَاعٍ فِي الْهَلَاكِ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَخَسَّرَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: أَهْلَكَهُ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَخَسَّرْتُ فُلَانًا بِالتَّثْقِيلِ أَبْعَدْتُهُ، وَخَسَّرْتُهُ: نَسَبْتُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ، مِثْلَ كَذَّبْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، مِثْلُهُ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْجُمْلَةِ: فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ إِلَّا خَسَارًا. انْتَهَى... وَلَعَلَّ مُرَادَهُمَا: مَا تَزِيدُونَنِي بِقَوْلِكُمْ إِلَّا عِلْمًا بِخَسَارِكُمْ بِاسْتِبْدَالِ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ.
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيِّنَةِ اللهِ لِصَالِحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ آيَتُهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَإِنْذَارِهِمُ الْهَلَاكَ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا هُمْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ.
- وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً - أَيِ: النَّاقَةُ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِهِ بِجَعْلِهَا مُمْتَازَةً دُونَ الْإِبِلِ بِمَا تَرَوْنَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَكْلِهَا وَشُرْبِهَا، أُشِيرَ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا لَكُمْ آيَةً مِنْهُ بَيِّنَةً دَالَّةً عَلَى هَلَاكِكُمْ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيهَا - فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ - مِمَّا فِيهَا مِنَ الْمَرَاعِي لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ بِمَنْعٍ - وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ - أَيْ: لَا يَمَسَّهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ بِأَذًى فَيَأْخُذَكُمْ كُلَّكُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَسِّكُمْ إِيَّاهَا بِعُقْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْإِنْذَارُ بِنَصِّهِ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧: ٧٣ وَكُلٌّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ حَقٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ هُنَالِكَ عَلَى هَذِهِ النَّاقَةِ وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ (فَيُرَاجَعُ فِي ص ٤٤٧ و٤٥٠ مِنْ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
- فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ - يَقُولُونَ: عَقَرَ النَّاقَةَ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَ قَوَائِمَهَا لَهُ أَوْ نَحْرَهَا، أَيْ فَقَتَلُوا النَّاقَةَ عَقِبَ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ لَهُ وَلَا مُبَالِينَ بِالْوَعِيدِ، فَضَرَبَ لَهُمْ صَالِحٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَوْعِدًا يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فِي وَطَنِهِمْ كَمَا كَانُوا فِي مَعَايِشِهِمْ - ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ - أَيْ: وَعْدٌ مِنَ اللهِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، وَكَذَّبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: كَذَّبَ فُلَانًا حَدِيثًا وَكَذَّبَهُ الْحَدِيثَ أَيْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْوَعْدُ خَبَرٌ مَوْقُوتٌ،
كَأَنَّ الْوَاعِدَ قَالَ لِلْمَوْعُودِ: إِنَّنِي أَفِي بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ وَفَى فَقَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبٌ مَصْدَرًا، وَلَهُ نَظَائِرُ كَالْمَفْتُونِ وَالْمَجْلُودِ وَمِنْهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ
٦٨: ٦ - فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَاُ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ - أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بِإِنْجَازِ وَعْدِنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ ذُلِّهِ وَنَكَالِهِ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ مِنَ الْوُجُودِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَلَعْنَةِ الْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَصْلُ التَّعْبِيرِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، فَفَصَلَ بَيْنَ (مِنْ) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، وَ (مِنْ) الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِدُونِ إِعَادَةِ فِعْلِ التَّنْجِيَةِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ هُنَاكَ، وَقُدِّرَ هُنَا اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِهِ بِقُرْبِ مِثْلِهِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (٥٨) فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَاءِ - فَلَمَّا - وَتِلْكَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَاءُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ بِالْفَاءَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَوَاقِعِهَا مِنْ أَمْرِ الْإِنْذَارِ فَالْوَعِيدِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْمُخَالِفَةِ فَتَحْدِيدِ مَوْعِدِ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِخْبَارِ بِإِنْجَازِهِ وَوُقُوعِهِ - فَمَا كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الشَّمْسِ: - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ٩١: ١٣ و١٤ وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا.
فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ هَذِهِ الدِّقَّةَ الْغَرِيبَةَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ وَالْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ فِي الْعَطْفِ، فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ أَلْبَتَّةَ، وَلِيَعْذُرَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا إِذَا جَعَلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إِعْجَازُهُ الْعِلْمِيُّ مِنْ وُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ أَعْلَى.
- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ - إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ بِقَوْمِكَ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، الْعَزِيزُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: - يَوْمِئِذٍ - بِجَرِّ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: - لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ - ٧٠: ١١.
- وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ - الْأَخْذُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ
فِي الْمَعَانِي كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَفِي الْإِهْلَاكِ، وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَيْحَةُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِقَوْمِ صَالِحٍ فَأَحْدَثَتْ رَجْفَةً فِي الْقُلُوبِ وَزَلْزَلَةً فِي الْأَرْضِ، وَصُعِقَ بِهَا جَمِيعُ الْقَوْمِ - فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَصْعُوقِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، شُبِّهُوا بِالطَّيْرِ فِي لُصُوقِهَا بِالْأَرْضِ. يُقَالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ وَالْأَرْنَبُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) جُثُومًا، وَهُوَ كَالْبُرُوكِ مِنَ الْبَعِيرِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - ٧: ٨٧ إِلَخْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا
آيَةُ (٤٤) سُورَةِ الذَّارِيَاتِ حَيْثُ قَالَ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ - وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ آيَةُ ١٧ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ - وَبَيَّنَّا مَعْنَى الصَّاعِقَةِ الَّذِي عُرِفَ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي نَوْعَيِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ فَيُرَاجَعُ فِي (ص ٤٥١ و٤٥٢ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ قَالَ: إِنَّ " الصَّيْحَةَ " صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
- كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا - هُوَ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ (كَرَضِيَ) إِذَا أَقَامَ فِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَعَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا ألْبَتَّةَ - أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ - تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قَوْمِ هُودٍ، وَفِي ثَمُودَ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مَشْهُورَتَانِ: تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِمَعْنَى الْحَيِّ أَوِ الْقَوْمِ، وَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا.
إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - فِي ٢٤ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي وَطَنِهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بَيَانِ إِمَامَتِهِ وَكَوْنِ مِلَّتِهِ أَسَاسَ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى خَاتَمِهِمْ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَتِهِ بِوَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيلَ فَإِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَمَا وَعَدَهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِإِسْمَاعِيلَ وَقَوْمِهِ الْعَرَبِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِسْكَانِهِ هُنَالِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِإِسْحَاقَ وَإِخْبَارِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ.
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ خَاصَّةٌ بِبِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
- وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى - خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا: ٢٥ أَوْ عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى قِصَّةِ هُودٍ لِتَمَاثُلِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِمْ، فَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَسَبْعَةُ أَمْلَاكٍ مَعَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ. وَسَتُذْكَرُ الْبُشْرَى بَعْدَ التَّحِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ: - قَالُوا سَلَامًا - أَيْ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا، أَوْ ذَكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ - قَالَ سَلَامٌ - أَيْ: أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ مِنَ النَّصْبِ ; فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، أَيْ عَلَى عَادَتِهِ وَدَأْبِهِ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ - فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ - أَيْ: مَا مَكَثَ وَمَا أَبْطَأَ
عَنْ مَجِيئِهِ إِيَّاهُمْ بِعِجْلٍ سَمِينٍ حَنِيذٍ: أَيْ مَشْوِيٍّ بِالرَّضْفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَحْمِيَّةُ - وَالْمَشْوِيُّ عَلَيْهَا يَكُونُ أَنْظَفُ مِنَ الْمَشْوِيِّ عَلَى النَّارِ وَأَلَذُّ طَعْمًا، وَقَدِ اهْتَدَى الْبَشَرُ إِلَى شَيِّ اللَّحْمِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى الْحِجَارَةِ الْمَحْمِيَّةِ بِحَرِّ الشَّمْسِ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ لِطَبْخِهِ بِالنَّارِ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ بَعْدَ السَّلَامِ: - فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ - ٥١: ١٦ و٢٧ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ بِدُونِ مُهْلَةٍ كَأَنَّهُ كَانَ مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يَجِيءُ مِنَ الضَّيْفِ، أَوْ شُوِيَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرَيُّثٍ.
- فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ - أَيْ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ كَمَا يَمُدُّ الْآكِلُ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ - نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً - نَكِرَ الشَّيْءَ (كَعَلِمَ وَتَعِبَ) وَأَنْكَرَهُ ضِدُّ عَرَفَهُ، أَيْ نَكِرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَوَجَدَهُ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ مِنَ الضَّيْفِ، فَإِنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامِ الْمُضِيفِ إِلَّا لِرِيبَةٍ أَوْ قَصْدٍ سَيِّءٍ، وَأَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْهُمْ وَفَزَعًا، أَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ وَأَضْمَرَهُ إِذْ شَعَرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بَشَرًا، أَوْ أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ وَالْوَجْسِ (كَالْوَعْدِ) الصَّوْتِ الْخَفِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْتَرِي النَّفْسَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْخَوَاطِرِ عِنْدَ الْفَزَعِ - قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ - أَيْ: قَالُوا وَقَدْ عَلِمُوا مَا يُسَاوِرُ نَفْسَهُ مِنَ الْوَجْسِ: لَا تَخَفْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُ بِكَ سُوءًا، وَإِنَّمَا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَلُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ مَكَانُهُ مِنْ مُهَاجَرِهِ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِهِ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ صَارَحَهُمْ بِخَوْفِهِ وَوَجَلِهِ مِنْهُمْ، فَطَمْأَنُوهُ بِأَنَّهُمْ مُبَشِّرُونَ لَهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ١٥: ٥٣ وَكَذَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ - قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ٥١: ٢٨ وَفِيهَا أَنَّهُ بَعْدَ الْبِشَارَةِ لَهُ سَأَلَهُمْ عَنْ خَطْبِهِمْ وَمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ فَأَخْبَرُوهُ فَجَادَلَهُمْ فِيهِ كَمَا يُذْكَرُ هُنَا مُجْمَلًا.
- وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ - وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَائِمَةً أَيْ: وَاقِفَةً -
وَلَعَلَّ قِيَامَهَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ - فَضَحِكَتْ. قِيلَ: تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَتْ وَسَمِعَتْ، وَقِيلَ: سُرُورٌ بِالْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ أَوْ بِقُرْبِ عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ لِكَرَاهَتِهَا لِسِيرَتِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَقِيلَ: تَعَجُّبًا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْوَلَدِ، وَهَذَا يَكُونُ أَوْلَى إِنْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ قَبْلَ الضَّحِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَعْدَهُ لِعَطْفِهَا عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَهُوَ - فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ - وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَلَا مُقْتَضَى وَلَا مُصَوِّغَ لَهُ ; لِأَنَّ لِضَحِكِهَا أَسْبَابٌ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا وَزَادَ غَيْرُنَا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ بِشَارَتَهَا كَانَتْ بِالتَّبَعِ لِبِشَارَةِ بَعْلِهَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُوَرِ: الْحِجْرِ، وَالصَّافَّاتِ، وَالذَّارِيَاتِ خَاصًّا بِهِ، أَيْ بَشَّرْنَاهَا بِالتَّبَعِ لِتَبْشِيرِهِ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، يَعْنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ لِإِسْحَاقَ وَلَدٌ أَيْضًا. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ (يَعْقُوبَ) مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تُفَسِّرُهُ قَرِينَةُ الْكَلَامِ كَوَهَبْنَاهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، كَمَا قَالَ: - وَوَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ - ٦: ٨٤ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ.
- قَالَتْ يَا وَيْلَتَا - أَصْلُهَا يَا وَيْلِي (كَمَا قَالَ: يَا عَجَبًا بَدَلَ: يَا عَجَبِي) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَمَا يَفْجَأُ الْإِنْسَانَ أَمْرٌ مُهِمٌّ مِنْ بَلِيَّةٍ أَوْ فَجِيعَةٍ أَوْ فَضِيحَةٍ تَعَجُّبًا مِنْهُ أَوِ اسْتِكْبَارًا لَهُ أَوْ شَكْوَى مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النِّسَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَنِسَاءِ مِصْرَ يَقُلْنَ: " يَا دَهْوَتِي " - أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ - عَقِيمٌ لَا يَلِدُ مِثْلُهَا - وَهَذَا بَعْلِي - وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ - كَمَا تَرَوْنَ - شَيْخًا - كَبِيرًا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ - إِنَّ هَذَا - الَّذِي بَشَّرْتُمُونَا بِهِ، - لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَنَّ زَوْجَهُ سَارَةَ هَذِهِ كَانَتِ ابْنَةَ تِسْعِينَ سَنَةً وَمِثْلُهَا لَا يَلِدُ، بَلِ الْغَالِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ فَيَبْطُلُ اسْتِعْدَادُهَا لِلْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عَقِيمًا كَمَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ. فَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْمُعَمِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ لَهُ فِي سِنِّ الْمِائَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ. وَقَدْ حَدَّثَتْنَا صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَجُلٍ تُرْكِيٍّ مِنْهُمْ اسْمُهُ (زَارُو أَغَا) مَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ (١٣٥٣ هـ) عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا. ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ فِي الْعِرَاقِ قَرِيبٍ مِنْ عُمْرِهِ لَا يَزَالُ حَيًّا وَقَدْ وُلِدَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ سُورِيٍّ مِنْ مَجْدَلِ زَوِينَ التَّابِعِ لِقَضَاءِ صُورَ اسْمُهُ: السَّيِّدُ حُسَيْن هَاشِم عُمْرُهُ ١٢٥ سَنَةً بِشَهَادَةِ الْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمُخْتَارِ بَلْدَتِهِ، وَهُوَ لَا يَزَالُ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ جَيِّدَ الصِّحَّةِ قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَوَّلًا وَهُوَ فِي سَنِّ الْعِشْرِينَ، وَثَانِيًا وَهُوَ فِي الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ، رُزِقَ مِنَ الْأُولَى ١٤ وَلَدًا مِنْهُمْ ١٢ ذَكَرًا وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَلَدًا وَاحِدًا، وَيَعِيشُ عِيشَةً فِطْرِيَّةً إِسْلَامِيَّةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَارَّةَ عَلِمَتْ مِنْ حَالِ بَعْلِهَا أَنَّهُ بَعْدَ وِلَادَةِ هَاجَرَ لِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ
أَوْ بَعِيدٍ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ كَمَا يُعْتَقَدُ أَنَّ مِثْلَهُ فِي تِلْكَ السِّنِّ لَا يُولَدُ لَهُ، فَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْمَلَائِكَةِ: - أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ - ١٥: ٥٤ وَيَكْفِي فِي خَرْقِ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيلِهَا هِيَ وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا عَلَيْهَا.
- قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ - هَذَا الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِاسْتِفْهَامِهَا التَّعَجُّبِيِّ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَعْجَبِي مِنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - ٣٦: ٨٢ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعَجَبُ مِنْ وُقُوعِ مَا يُخَالِفُ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِعُ السُّنَنِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابَ هُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا وَاقِعَةً يَجْعَلُهَا مِنْ آيَاتِهِ ; لِحِكْمَةٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي عِبَادِهِ: - رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ - هَذِهِ جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ اسْتُجِيبَتْ، فَمَعْنَاهُ الَّذِي فَسَّرَهُ الزَّمَانُ إِلَى الْآنِ: رَحْمَةُ اللهِ الْخَاصَّةُ وَبَرَكَاتُهُ الْكَثِيرَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، تَتَّصِلُ وَتَتَسَلْسَلُ فِي نَسْلِكُمْ وَذُرِّيَّتِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا مَحَلَّ لِلْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - أَنْ يَهَبَ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ الْوَلَدَ مِنْكُمَا فِي كِبَرِكُمَا وَشَيْخُوخَتِكُمَا، فَمَا هِيَ بِأَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ وَقَدْ نَجَّاهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ الظَّالِمِينَ، وَآوَاهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.
وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَاتُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ، إِرْثٌ أَوْ تَجْدِيدٌ لِمَا هَبَطَ بِهِ نُوحٌ مِنَ السَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْهِ " وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَهُ " كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (٤٨) - إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ - إِنَّهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - مُسْتَوْجِبٌ لِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ، حَقِيقٌ بِأَسْنَى غَايَاتِ الْمَجْدِ، وَبِتَأْثِيلِهِمَا لِأَهْلِ الْبَيْتِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَأَصْلُ الْمَجْدِ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقَعَ إِبِلٌ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةِ الْمَرْعَى، يُقَالُ: مَجَدَتْ تَمْجُدُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) مَجْدًا وَمُجَادَةً، وَأَمْجَدَهَا الرَّاعِي، وَالْمَجْدُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَنْسَابِ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ سَعَةِ كَرَمِ آبَائِهِ وَكَثْرَةِ نَوَالِهِمْ، وَوَصَفَ اللهُ كِتَابَهُ بِالْمَجِيدِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ لِسَعَةِ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، وَسَعَةِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاءَ الصَّلَاةِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ أُمَّتَهُ عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنَ الصَّلَاةِ.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ
(٧٥) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦).
- فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ - أَيْ: فَمَا سُرِّيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَانْكَشَفَ مَا رَاعَهُ مِنَ الْخِيفَةِ وَالرُّعْبِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ،
108
وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بِالْوَلَدِ وَاتِّصَالِ النَّسْلِ، أَخَذَ يُجَادِلُ رُسُلَنَا فِيمَا أَرْسَلْنَاهُمْ بِهِ مِنْ عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ، جُعِلَتْ مُجَادَلَتُهُمْ وَمُرَاجَعَتُهُمْ مُجَادَلَةً لَهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: - يُجَادِلُنَا - دُونَ (جَادَلَنَا) - وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ، " لَمَّا " أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا - لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالِ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، أَوْ لِتَقْدِيرِ مَاضٍ قَبْلَهُ كَالَّذِي قُلْنَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لِنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ٢٩: ٣١ و٣٢.
- إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَاهٌ مُنِيبٌ - هَذَا تَعْلِيلٌ لِمُجَادَلَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا لَا يُحِبُّ الْمُعَاجَلَةَ بِالْعِقَابِ، كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِمَّا يَسُوءُ وَيُؤْلِمُ، مُنِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ فِي الْآيَةِ (٩: ١١٤).
وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا الْمُجْمَلَةُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَجُعِلَتْ فِيهِ مُجَادَلَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ لَا لِرُسُلِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ أَنَّ الرَّبَّ ظَهَرَ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَظَهَرَ لَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَذُكِرَ خَبَرُ ضِيَافَتِهِ لَهُمْ بِالْعِجْلِ وَخُبْزِ الْمِلَّةِ وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا وَبَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ سَارَةَ سَمِعَتْ فَضَحِكَتْ وَتَعَجَّبَتْ، وَعَلَّلَتْ تَعَجُّبَهَا بِكِبَرِهَا وَانْقِطَاعِ عَادَةِ النِّسَاءِ عَنْهَا (١٣ فَقَالَ الرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟) إِلَخْ.
ثُمَّ قَالَ: ٢٢ وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ (يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ) مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ (أَيْ: قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ) وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ ٢٣ فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ
وَقَالَ: أَفَهَلَكَ الْبَارُّ مَعَ الْأَثِيمِ ٢٤ عَسَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَمْسُونَ بَارًا فِي الْمَدِينَةِ، أَفَتُهْلِكُ الْمَكَانَ وَلَا تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْخَمْسِينَ بَارًّا الَّذِينَ فِيهِ؟ (٢٦ فَقَالَ الرَّبُّ: إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ) ثُمَّ كَلَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ هَذَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ فِي عَشَرَةٍ، وَالرَّبُّ يَعِدُهُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا يُهْلِكُ الْقَوْمَ (ثُمَّ قَالَ) ٣٣ وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَكَانِهِ " اهـ
فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ الْوَجِيزَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُنَزِّهَةِ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعِبَارَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ فِي تَشْبِيهِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَتَطْوِيلِهَا غَيْرِ الْمُفِيدِ!
- يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا - بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ فِي أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَالِاسْتِرْحَامِ لَهُمْ: - إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: إِنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ فِيهِمْ قَدْ قُضِيَ بِمَجِيءِ أَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ - وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ - بِجِدَالٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَهُوَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ.
109
فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كَمَا يَشَاءُونَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ٣٩: ٣٤ و٤٢: ٢٢ هُوَ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَرُدُّ لَهُمْ طَلَبًا وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُرِيدُ مَا لَا يُرِيدُونَهُ! يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخُلُقِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ جَدُّهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟
قِصَّةُ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ:
فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ لُوطًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنُ هَارُونَ أَخِي إِبْرَاهِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِمَا (أُورَ الْكَلْدَانِيِّينَ) فِي الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَسَكَنَ إِبْرَاهِيمُ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلُوطٌ فِي مُدُنِ دَائِرَةِ الْأُرْدُنِّ، وَقَاعِدَتُهَا سَدُومُ، وَيَلِيهَا عَمُّورَةُ فَصَوْغَرُ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا اتِّقَاءَ اخْتِلَافِ رُعْيَانِهِمَا وَإِيقَاعِهِمَا فِي الْخُصُومَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْآخَرِينَ (أَيِ الْعَمِّ وَابْنِ أَخِيهِ) وَكَانَ لُوطٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- فِي سَدُومَ، وَيَظُنُّ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْبَاحِثِينَ أَنَّ بُحَيْرَةَ لُوطٍ قَدْ غُمِرَ مَوْضِعُهَا بَعْدَ الْخَسْفِ فَلَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ بِالضَّبْطِ.
وَقِيلَ إِنَّهُ عُثِرَ عَلَى آثَارِهَا فِي هَذَا الْعَهْدِ.
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي إِهْرَاعِ قَوْمِ لُوطٍ إِلَيْهِ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَى ضَيْفِهِ وَسُوءِ حَالِهِ مَعَهُمْ - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا - بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ - سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا -
أَيْ: وَقَعَ فِيمَا سَاءَهُ وَغَمَّهُ بِمَجِيئِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعُهُ أَيْ عَجَزَ عَنِ احْتِمَالِ ضِيَافَتِهِمْ، فَذَرْعُ الْإِنْسَانِ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ الَّتِي يَحْمِلُهَا بِمَشَقَّةٍ ; ذَلِكَ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنَ اعْتِدَاءِ قَوْمِهِ عَلَيْهِمْ كَعَادَتِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ بِشَكْلِ غِلْمَانٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ - وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ - شَدِيدُ الْأَذَى، مَرْهُوبُ الشَّذَى، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَصْبِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيِ الشَّدُّ فَهُوَ بِمَعْنَى مَعْصُوبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَاصِبٍ، وَالْعَصَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَطْنَابُ الْمَفَاصِلِ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الرَّأْسُ.
- وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ - أَيْ جَاءُوهُ يُهَرْوِلُونَ مُتَهَيِّجَةٌ أَعْصَابُهُمْ، كَأَنَّ سَائِقًا يَسُوقُهُمْ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: هُرِعَ وَأُهْرِعَ بِالْبِنَاءِ فِيهِمَا لِلْمَفْعُولِ إِذَا أُعْجِلَ عَلَى الْإِسْرَاعِ، أَيْ حُمِلَ عَلَى الْعَجَلِ بِهِ اهـ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَكُونُ الْإِهْرَاعُ إِلَّا إِسْرَاعًا مَعَ رِعْدَةٍ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَضَبٍ، أَوْ حُمَّى اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ شَهْوَةٍ
شَدِيدَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْعَدْوِ: - وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ - وَمِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَجِيءِ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَشَرُّهَا أَفْظَعُ الْفَاحِشَةِ وَأَنْكَرُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَضْعِيَّةِ، وَهِيَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَمُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا فِي أَنْدِيَتِهِمْ كَأَنَّهَا مِنَ الْفَضَائِلِ يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهَا وَيَتَبَارَوْنَ فِيهَا، كَمَا حَكَى الله عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ رَمْيِهِمْ بِالْفَاحِشَةِ: - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ - ٢٩: ٢٩ فَمَاذَا فَعَلَ لُوطٌ وَلِمَ وَاجَهَهُمْ وَعَارَضَهُمْ؟ - قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ - فَتَزَوَّجُوهُنَّ، قِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَأَنَّهُ سَمَحَ بِتَزْوِيجِهِمْ بِهِنَّ بَعْدَ امْتِنَاعٍ لِصَرْفِهِمْ عَنْ أَضْيَافِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَ قَوْمِهِ فِي جُمْلَتِهِنَّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ فِي قَوْمِهِ كَالْوَالِدِ فِي عَشِيرَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ نِسَاؤُهُمُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ وَغَيْرُهُنَّ مِنَ الْمُعَدَّاتِ لِلزَّوَاجِ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِالزَّوَاجِ أَطْهَرُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِرِجْسِ اللِّوَاطِ ; فَإِنَّهُ يَكْبَحُ جِمَاحَ الشَّهْوَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الطُّهْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَقُولُ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ: إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّذِي هَاجَتْ فِيهِ شَهْوَتُهُمْ وَاشْتَدَّ شَبَقُهُمْ أَنْ يَأْتُوا نِسَاءَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ لِمَنْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هَاجَتْهُ فِيهَا رُؤْيَتُهَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَضَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُجْرِمِينَ بَنَاتَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ كَمَا يَشَاءُونَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (١٩: ٨) وَفِيهِ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَيِّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَا يَصِحُّ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَطْهَرُ لَهُمْ، فَغَسْلُ الدَّمِ بِالْبَوْلِ لَيْسَ مِنَ الطَّهَارَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى هَذَا الْفِعْلِ، بَلِ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَكْبَرُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِيثَارًا لِلتَّجَمُّلِ الشَّخْصِيِّ، وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ قَوْلِهِ لَهُمْ بَعْدَهُ - فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي -
فَإِنَّ الزِّنَا لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى بَلْ هُوَ هَدْمٌ لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَأَجْمِعُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ بَيْنَ تَقْوَى
اللهِ بِاجْتِنَابِ الْفَاحِشَةِ، وَبَيْنَ حِفْظِ كَرَامَتِي وَعَدَمِ إِذْلَالِي وَامْتِهَانِي بِفَضِيحَتِي فِي ضَيْفِي، فَإِنَّ فَضِيحَةَ الضَّيْفِ فَضِيحَةٌ لِلْمُضِيفِ وَإِهَانَةٌ لَهُ. وَلَفْظُ الضَّيْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ: - أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ - ذُو رُشْدٍ يَعْقِلُ هَذَا فَيُرْشِدَكُمْ إِلَيْهِ؟
- قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ - فَإِنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْنَا فِي دِينِكَ، أَوْ يَعْنُونَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ الذُّكُورِ مُسْتَشْهِدِينَ بِعِلْمِهِ بِهِ تَهَكُّمًا، أَوِ الْحَقُّ هُنَا الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَاجَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فِي تَزَوُّجِهِنَّ فَتَصْرِفَنَا بِعَرْضِهِنَّ عَلَيْنَا عَمَّا نُرِيدُهُ، أَوْ لَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي لَنَا فِي نِسَائِنَا اللَّوَاتِي تُسَمِّيهِنَّ بَنَاتَكَ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَعَهُنَّ، فَلَا مَعْنَى لِعَرْضِكَ إِيَّاهُنَّ عَلَيْنَا لِصَرْفِنَا عَمَّا نُرِيدُهُ - وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ - مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالذُّكْرَانِ، وَأَنَّنَا لَا نُؤْثِرَ عَلَيْهِ شَيْئًا. أَيْ: تَعْرِفُ ذَلِكَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَا تَرْتَابُ فِيهِ، فَلِمَ تُحَاوِلُ صَدَّنَا عَنْهُ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ فَمَاذَا فَعَلَ؟. - قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً - أَيْ: قَالَ لُوطٌ لِأَضْيَافِهِ حِينَئِذٍ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً تُقَاتِلُ مَعِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَتَدْفَعُ لَقَاتَلْتُهُمْ، أَوْ أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَلْقَاهُمْ بِهَا، أَوْ قَالَ هَذَا لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَوْ قَوِيتُ عَلَيْكُمْ بِنَفْسِي - أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - مِنْ أَصْحَابِ الْعَصَبِيَّاتِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يَحْمُونَ اللَّاجِئِينَ وَيُجِيرُونَ الْمُسْتَجِيرِينَ (كَزُعَمَاءِ الْعَرَبِ) تَمَنَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فَيَعْتَزُّ بِهِمْ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ قَوْمَهُ بِمَعْنَى أَهْلِ جِوَارِهِ وَوَطَنِهِ الْجَدِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَرِيبٌ جَاءَ مَعَ عَمِّهِ مِنْ أَوْرِ الْكَلْدَانِيِّينَ فِي الْعِرَاقِ.
وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَقَدْ رَأَوْا شِدَّةَ كَرْبِهِ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ حَالُهُ وَهُوَ:
قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ.
- قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ - مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَرْسَلَنَا لِتَنْجِيَتِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ - لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ - بِسُوءٍ فِي نَفْسِكَ وَلَا فِينَا، وَحِينَئِذٍ طَمَسَ اللهُ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ لُوطًا وَلَا مَنْ مَعَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: - وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ - ٥٤: ٣٧ فَانْقَلَبُوا عُمْيَانًا يَتَخَبَّطُونَ: - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ - أَيْ: فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْقُرَى مَصْحُوبًا بِأَهْلِكَ بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ تَكْفِي لِتَجَاوُزِ حُدُودِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. وَالسُّرِيُّ (بِالضَّمِّ) وَالْإِسْرَاءِ فِي اللَّيْلِ كَالسَّيْرِ فِي النَّهَارِ، قُرِئَ (أَسْرِ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا مِنْهُمَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: - فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - ٥١: ٣٥ و٣٦، - وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ - إِلَى مَا وَرَاءَهُ لِئَلَّا يَرَى الْعَذَابَ فَيُصِيبَهُ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ - وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ - ١٥: ٦٥ وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: - إِلَّا امْرَأَتَكَ - وَكَانَتْ كَافِرَةً خَائِنَةً ضِلْعُهَا مَعَ الْقَوْمِ - إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ - أَيْ مَقْضِيٌّ هَذَا عَلَيْهَا فَهُوَ وَاقِعٌ لَابُدَّ مِنْهُ، قُرِئَ " امْرَأَتَكَ " بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ، - إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ - أَيْ: مَوْعِدَ عَذَابِهِمْ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَنْتَهِي بِشُرُوقِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ١٥: ٧٣ وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِسْرَاءِ بِبَقِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا قُلْنَا: -
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ - أَيْ: مَوْعِدٍ قَرِيبٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْجُو فِيهَا بِأَهْلِكَ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَجَوَابٌ عَنِ اسْتِعْجَالِ لُوطٍ لِهَلَاكِهِمْ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُجْتَمِعِينَ فِيهِ فِي مَسَاكِنِهِمْ فَلَا يَلْفِتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
- فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا - أَيْ: عَذَابُنَا أَوْ مَوْعِدُهُ - جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا - أَيْ: قَلَبْنَا أَرْضَ هَا أَوْ قُرَاهَا كُلَّهَا وَخَسَفْنَا بِهَا الْأَرْضَ، وَسُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَسْفِ الْأَرْضِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ أَنْ يُحْدَثَ تَحْتَهَا فَرَاغٌ بِقَدْرِهَا، بِسَبَبِ تَحَوُّلِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي فِي جَوْفِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَنْقَلِبَ مَا فَوْقَهُ إِمَّا مُسْتَوِيًا وَإِمَّا مَائِلًا إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِنْ كَانَ الْفَرَاغُ تَحْتَهُ أَوْسَعَ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ عَالِيهَا سَافِلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا؛ أَنَّ مَا كَانَ سَطْحًا لَهَا هَبَطَ وَغَارَ فَكَانَ سَافِلَهَا وَحَلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْيَابِسَةِ الْمُجَاوِرَةِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ أَنَّ قُرَى لُوطٍ الَّتِي خُسِفَ بِهَا تَحْتَ الْمَاءِ الْمَعْرُوفِ بِبَحْرِ لُوطٍ أَوْ بُحَيْرَةِ لُوطٍ، وَقِيلَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ أَنَّ الْبَاحِثِينَ عَثَرُوا عَلَى بَعْضِ آثَارِهَا كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا - أَيْ: قَبْلَ الْقَلْبِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُصِيبَ الشُّذَّاذَ الْمُتَفَرِّقِينَ مِنْ أَهْلِهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ - لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ - ٥١: ٣٣ فَالْمُرَادُ إِذًا حِجَارَةٌ مِنْ مُسْتَنْقَعٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُهَا حَجَرٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْلُ الْحِجَارَةِ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ، وَالْمَعْقُولُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الرَّاغِبِ: السِّجِّيلُ: حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ أَصْلُهُ
فَارِسِيٌّ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَصْلُهُ سِجِّينٌ فَأُبْدِلَتْ نُونُهُ لَامًا. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنْ صَحَّ يَكُونُ مِنْ بُرْكَانٍ مِنَ الْبَرَاكِينِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَطَرِ يَحْصُلُ عَادَةً بِإِرْسَالِ اللهِ إِعْصَارًا مِنَ الرِّيحِ يَحْمِلُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ أَوِ الْأَنْهَارِ فَتُلْقِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِتَدْبِيرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْضِ - مَنْضُودٍ - أَيْ مُتَرَاكِبٍ بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ يَقَعُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ - مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ - لَهَا سُومَةٌ، أَيْ عَلَامَةٌ خَاصَّةٌ فِي عِلْمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَيْ أَمْطَرْنَاهَا خَاصَّةً بِهَا لَا تُصِيبُ غَيْرَ أَهْلِهَا، أَوْ هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَوَّمْتُ فُلَانًا فِي مَالِي أَوْ فِي الْأَمْرِ إِذَا حَكَّمْتُهُ فِيهِ وَخَلَّيْتُهُ وَمَا يُرِيدُ، لَا تُثْنَى لَهُ يَدٌ فِي تَصَرُّفِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى الْآنَ مِنْ مُرَاجَعَةِ مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهَا فِي
إِهْلَاكِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّتِي أَمَدَّ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ - مُسَوِّمِينَ - ٣: ١٢٥ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْرِفِينَ أَنَّ هَذَا التَّسْوِيمَ كَانَ حِسِّيًّا بِخُطُوطٍ فِي أَلْوَانِهَا، وَأَمْثَالِ الْخَوَاتِيمِ عَلَيْهَا، أَوْ بِأَسْمَاءِ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ وَلَا نَصَّ، وَمَا قُلْنَاهُ مَفْهُومٌ مِنَ اللَّفْظِ، وَمَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ.
- وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ - أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الْقُرَى أَوِ الْأَرْضُ الَّتِي حَلَّ بِهَا الْعَذَابُ الْمُخْزِي بِمَكَانٍ بَعِيدِ الْمَسَافَةِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِكَ وَالتَّمَّارِي بِنُذُرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلْ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ وَاقِعَةٌ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقَيْنِ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرَنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ١٥: ٧٣ - ٧٦ أَيْ فِي طَرِيقٍ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِهِمْ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ٣٧: ١٣٧ و١٣٨ قَالَ الْجَلَالَ: - وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ - عَلَى آثَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي أَسْفَارِكُمْ - مُصْبِحِينَ - أَيْ: وَقْتَ الصَّبَاحِ، يَعْنِي بِالنَّهَارِ - وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - مَا حَلَّ بِهِمْ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ. انْتَهَى.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِفَةِ الظَّالِمِينَ وَكَوْنِ الْعُقُوبَةِ آيَةً مُرَادَةً لَا مُصَادِفَةً، يَجْعَلُ الْعِبَارَةَ عِبْرَةً لِكُلِّ الْأَقْوَامِ الظَّالِمَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَكَثْرَتِهِ وَعُمُومِهِ وَمَا دُونَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ نَزَلَتْ بِهِمْ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، أَوْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَقَدَّمَ هَذَا مَنْ قَدَّمَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَخَّرَ مَا قُلْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُؤَيِّدُهُ شَوَاهِدُ الْقُرْآنِ.
وَفِي خُرَافَاتِ الْمُفَسِّرِينَ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَلَعَهَا مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ بِجَنَاحِهِ، وَصَعِدَ بِهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ الْكِلَابِ وَالدَّجَاجِ فِيهَا، ثُمَّ قَلَبَهَا قَلْبًا مُسْتَوِيًا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهَذَا تَصَوُّرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ مُتَصَوِّرِهِ أَنَّ
114
الْأَجْرَامَ الْمَأْهُولَةَ بِالسُّكَّانِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَبْقَوْنَ أَحْيَاءً. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا فِيهَا، أَنَّ الطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدَ الَّتِي
تُحَلِّقُ فِي الْجَوِّ تَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَخِفُّ ضَغْطُ الْهَوَاءِ وَيَسْتَحِيلُ حَيَاةُ النَّاسِ فِيهَا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ أَنْوَاعًا مِنْهَا يَضَعُونَ فِيهَا مِنْ أُوكْسِجِينِ الْهَوَاءِ مَا يَكْفِي اسْتِنْشَاقُهُ وَتَنَفُّسُهُ لِلْحَيَاةِ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَصْعَدُونَ فِيهَا، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِلَى مَا يَكُونُ لِلتَّصْعِيدِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مِنْ عُسْرِ التَّنَفُّسِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ٦: ١٢٥.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ: (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لِقَبُولِ الرِّوَايَةِ فِي أَمْرٍ جَاءَ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ اللهُ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ مِنْ عُمْرَانٍ وَخَرَابٍ، أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ لَا شُذُوذَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ اللهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِيهَا أَنَّ عَدَدَ أَهْلِهَا كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَبِلَادُ فِلَسْطِينَ كُلُّهَا لَا تَسَعُ هَذَا الْعَدَدَ فَأَيْنَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَايِينُ يَسْكُنُونَ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْأَرْبَعِ؟
وَهَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُشَوَّهَةُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عِنْدَ بَاثِّيهَا مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ فِي تَوْرَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُ مَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ بِلُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْمِهِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ بِصُورَةِ رَجُلَيْنِ ضَرَبَا بِالْعَمَى جَمِيعَ قَوْمِهِ وَقَالَا لَهُ: أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ أَخْرِجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّنَا مُهْلِكَانِ أَهْلَ هَذَا الْمَكَانِ ; إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ) فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الْآخِذِينَ بَنَاتَهُ وَقَالَ قُومُوا وَاخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ لِأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ، وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلَاكَانِ يُعَجِّلَانِ لُوطًا قَائِلِينَ: قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلَّا تَهْلَكُ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَاهُ وَدَفَعَاهُ إِلَى
مَدِينَةٍ اسْمُهَا صَوْغَرُ وَوَعَدَاهُ بِعَدَمِ إِهْلَاكِهَا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَبِنْتَاهُ، وَأَمَرَاهُ بِأَلَّا يَنْظُرَ وَرَاءَهُ (ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صَوْغَرَ فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُّورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُلِبَتْ تِلْكَ الْمُدُنُ وَكُلُّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتُ الْأَرْضِ، وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ، وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى
115
الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ الدَّائِرَةِ، وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ الْأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ الْأَتُونِ).
وَمُقْتَضَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا ابْنَتَانِ لَهُ. وَقَدْ خَتَمَ الْفَصْلَ بِمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ كَغَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَتَيْ لُوطٍ النَّاجِيَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا، وَأَنَّهُمَا أَسْكَرَتَا أَبَاهُمَا بِالْخَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَبَاتَتَا مَعَهُ فَحَمَلَتَا مِنْهُ، وَوَلَدَتَا أَوْلَادًا وَبَقِيَ نَسْلُهُمَا مِنْهُ مُتَسَلْسِلًا. يَقُولُ الْكَاتِبُ: (إِلَى الْيَوْمِ) وَهُمُ الْمُوَابِيُّونَ وَبَنُو عَمُونَ! فَمَنْ كُتَبَ هَذَا وَمَتَى كَتَبَهُ؟ هَذَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، وَكُلُّ مَا خَالَفَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ.
قِصَّةُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ قَوْمِهِ:
تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْآيَةِ ٨٥ - ٩٣، وَهَا هِيَ ذِي نُسِّقَتْ هُنَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ آيَةً مِنَ الْآيَةِ ٨٤ - ٩٥، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالتَّعَارُضِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَسَبِهِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَتُرَاجَعَ فِي (ص ٤٦٨ - ٤٧١ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ).
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ
أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦).
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ شُعَيْبٍ قَوْمَهُ الدَّعْوَةَ وَهِيَ: الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَشَدِّ الرَّذَائِلِ فُشُوًّا فِيهِمْ، وَالْأَمْرُ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي تُقَابِلُهَا.
- وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا - مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِثْلُهُ، أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا - قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ
116
وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ - مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فَيُعْبَدُ، وَهَذَا مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَالَ: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فِيمَا تَكِيلُونَ وَمَا تَزِنُونَ مِنَ الْمَبِيعَاتِ كَمَا هِيَ عَادَتُكُمْ، وَكَانُوا تُجَّارًا مُطَفِّفِينَ - إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - ٨٣: ٢ و٣ أَيْ: يُنْقِصُونَ، - إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ - أَيْ بِثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ فِي الرِّزْقِ، يَجِبُ أَنْ تَرْفَعَ أَنْفُسَكُمْ عَنْ دَنَاءَةِ بَخْسِ حُقُوقِ النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، بِمَا تُنْقِصُونَ مِنَ الْمَبِيعِ لَهُمْ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ.
وَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْغِنَى وَالسَّعَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ شُكْرُهَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ النُّقْصَانِ - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ - أَيْ: عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِكُمْ إِذَا أَنْتُمْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ بِاللهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَكَفْرِكُمْ بِنِعَمِهِ بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْيَوْمُ يَصْدُقُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ.
- وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ - لَا يَنْسَيَنَّ الْقَارِئُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ تَكْرَارِ النِّدَاءِ بِلَقَبِ " قَوْمِي " مِنَ الِاسْتِعْطَافِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْوَاجِبِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لِتَأْكِيدِهِ، وَتَنْبِيهٌ لِكَوْنِ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لِلنَّقْصِ لَا يَكْفِي لِتَحَرِّي الْحَقِّ، بَلْ يَجِبُ مَعَهُ تَحَرِّي الْإِيفَاءِ بِالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَإِنْ كَانَتِ الثِّقَةُ
بِهِ لَا تَحْصُلُ أَوْ لَا تُتَيَقَّنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ، فَهِيَ قَدْ تَدْخُلُ فِي بَابِ " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ". وَتَعَمُّدُهَا فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ لِلنَّاسِ سَخَاءٌ فَهُوَ فَضِيلَةٌ مَنْدُوبٌ، وَفِي الِاكْتِيَالِ أَوِ الْوَزْنِ عَلَيْهِمْ طَمَعٌ فَهُوَ رَذِيلَةٌ مَحْظُورٌ - وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ - هَذَا أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَهُ، فَإِنَّ الْبَخْسَ يَشْمَلُ النَّقْصَ وَالْعَيْبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: بَخَسَهُ - مِنْ بَابِ نَفَعَ - حَقَّهُ وَبَخَسَهُ مَالَهُ وَبَخَسَهُ عِلْمَهُ وَفَضْلَهُ. وَالْأَشْيَاءُ جَمْعُ شَيْءٍ وَهُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَجَمْعُهُ يَشْمَلُ مَا لِلْأَفْرَادِ وَمَا لِلْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ وَمَحْدُودٍ بِحُدُودِ الْحِسِّيَّةِ وَمِنْ حُقُوقٍ مَادِّيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا وَبَيَّنَّا الْعِبْرَةَ فِيهِ بِتَعَامُلِ أَهْلِ الشَّرْقِ مَعَ أَهْلِ الْغَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (٧: ٨٥) فَتُرَاجَعْ فِي (ص ٤٧٢ وَمَا بَعْدَهَا ج٨ ط الْهَيْئَةِ).
- وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - أَيْ: وَلَا تُفْسِدُوا فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَعَمِّدِينَ لِلْإِفْسَادِ، يُقَالُ: عَثِيَ يَعْثَى (كَرَضِيَ يَرْضَى) عِثِيًّا بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - وَعَثَا يَعْثُو (كَغَزَا يَغْزُو) عُثُوًّا بِضَمَّتَيْنِ وَالتَّشْدِيدُ أَيْضًا - أَفْسَدَ، وَهَذَا نَهْيٌ آخَرُ عَامٌّ يَشْمَلُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، كَقَطْعِ الطُّرُقِ وَتَهْدِيدِ الْأَمْنِ وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ، وَقَيْدِهِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا هُوَ إِفْسَادٌ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِصْلَاحُ أَوْ دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، كَالَّذِي يَقَعُ فِي الْحَرْبِ مِنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ، أَوْ فَتْحِ سُدُودِ الْأَنْهَارِ، أَوْ إِحْرَاقِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالنَّارِ، وَمِنْهُ خَرْقُ الْخَضِرِ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي كَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ لِمَنْعِ الْمَلِكِ الظَّالِمِ الَّذِي وَرَاءَهُمْ
117
مِنْ أَخْذِهَا إِذَا أَعْجَبَتْهُ. وَالْإِفْسَادُ: تَعْطِيلٌ يَشْمَلُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا، وَصِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَهَا، وَأُمُورَ الدِّينِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ فَاشِيَّةٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
- بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ - أَيْ: مَا يَبْقَى لَكُمْ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ مِنَ الرِّبْحِ الْحَلَالِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا تَأْخُذُونَهُ بِالتَّطْفِيفِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَرَامِ، أَوْ - بَقِيَّةُ اللهِ - الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رِزْقُ اللهِ، وَمُجَاهِدٌ: طَاعَةُ اللهِ، وَالرَّبِيعُ: وَصِيَّةُ اللهِ، وَالْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَةُ اللهِ، وَقَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللهِ - إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - بِهِ حَقَّ الْإِيمَانُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنْ دَنَاءَةِ الطَّمَعِ، وَيُحَلِّيهَا بِفَضِيلَةِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ - وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ - فَأَحْفَظُكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ أَوْ أُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَلِيمٌ وَنَاصِحٌ أَمِينٌ.
قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠).
هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي مُنَاقَشَةِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ بِالْآرَاءِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمْوَالِ.
- قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا - قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ " صَلَوَاتُكَ " بِالْجَمْعِ وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " صَلَاتُكَ " بِالْإِفْرَادِ،
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالصَّلَاةُ تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِمَا تُكْسِبُهُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَنْ نَهَى نَفْسَهُ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَنْهَى غَيْرَهُ، يَعْنُونَ: أَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا تَقْتَضِي بِتَأْثِيرِهَا فِي نَفْسِكَ أَنْ تَحْمِلَنَا عَلَى تَرْكِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ بِهَا، وَتَشَفُّعًا عِنْدَهُ بِجَاهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَحْتَلُّهَا، أَوِ الْأَوْلِيَاءِ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَاهُمْ، وَمَا أَنْتَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَجْدَرُ بِاتِّبَاعِهِمْ - أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - مِنْ تَنْمِيَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ
، وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَسْبِ مِنَ النَّاسِ بِمَا نَسْتَطِيعُ مِنْ حَذْقٍ وَاحْتِيَالٍ، وَخَدِيعَةٍ وَاهْتِبَالٍ، وَهُوَ حَجْرٌ عَلَى حُرِّيَّتِنَا، وَتَحَكُّمٌ فِي ذَكَائِنَا؟ رَدُّوا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ دَعْوَتَهُ مِنْ جَانِبِهَا الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ نَشْرًا مُرَتَّبًا عَلَى لَفٍّ، وَنَقْضًا لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ وَعَطْفٍ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلُوهُ بِمَا يُشِيرُ إِلَى هَذَا النَّقْضِ، فَقَالُوا بِقَصْدِ التَّعْرِيضِ وَالتَّنْدِيدِ: - إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ - الْحَلِيمُ: الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِي أَنَّاتِهِ وَتَرَوِّيهِ فَلَا يَتَعَجَّلُ بِأَمْرٍ قَبْلَ الثِّقَةِ مِنْ صِحَّتِهِ، وَالرَّشِيدُ: الرَّاسِخُ فِي هِدَايَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا اسْتَبَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَوَصَفَهُ بِهِمَا وَصْفًا مُؤَكَّدًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَ " إِنَّ " وَ " اللَّامِ " فِي تَعْلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، كِلَاهُمَا صَرِيحٌ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنَ اتِّصَافِهِ بِضِدِّهِمَا، وَهُوَ الْجَهَالَةُ وَالسَّفَهُ فِي الرَّأْيِ، وَالْغَوَايَةُ فِي الْفِعْلِ بِهَوَسِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: يَقُولُونَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ. - قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي - أَيْ: يَا قَوْمِيَ الَّذِينَ أَنَا مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي، وَأُحِبُّ لَهُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، أَخْبِرُونِي عَنْ شَأْنِي وَشَأْنِكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَكَانَ وَحْيًا مِنْهُ لَا رَأْيًا مِنِّي - وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا - فِي كَثْرَتِهِ وَفِي صِفَتِهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ بِالْحَلَالِ بِدُونِ تَطْفِيفِ مِكْيَالٍ وَلَا مِيزَانٍ، وَلَا بَخْسٍ لِحَقِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَنَا مُجَرِّبٌ فِي الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، لَا فَقِيرٌ مُعْدِمٌ أَخْتَرِعُ الْآرَاءَ النَّظَرِيَّةَ فِيمَا لَيْسَ لِي خِبْرَةٌ بِهِ، أَيْ: أَرَأَيْتُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، مَاذَا أَفْعَلُ وَمَاذَا أَقُولُ لَكُمْ غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ عَنْ نُبُوَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَتَجَارِبِ غِنًى مَالِيَّةٍ؟ هَلْ يَسَعُنِي الْكِتْمَانُ أَوِ التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ؟ - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - أَيْ وَإِنَّنِي عَلَى بَيِّنَتِي وَنِعْمَتِي، مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي ذَلِكَ مَائِلًا إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مُؤْثِرًا لِنَفْسِي عَلَيْكُمْ، بَلْ أَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِهِ قَبْلَكُمْ. وَأَصْلُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ أَوْ حَالِهِ، وَأَنْ يُقَالَ: خَالَفَهُ فِي الشَّيْءِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُوَلٍّ عَنْهُ تَارِكٌ لَهُ قِيلَ: خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، قِيلَ: خَالَفَهُ عَنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَضْمِينُ الْفِعْلِ مَعْنَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ أَوْ عَنْهُ، أَوِ الرَّغْبَةُ فِيهِ أَوْ عَنْهُ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - ٢٤: ٦٣ أَيْ: يُخَالِفُونَ الرَّسُولَ رَاغِبِينَ عَنْ أَمْرِهِ مَائِلِينَ عَنْهُ - إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ - أَيْ: مَا أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ الْعَامَّ فِيمَا آمُرُ بِهِ وَفِيمَا
أَنْهَى عَنْهُ مَادُمْتُ أَسْتَطِيعُهُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَيْسَ لِي هَوًى وَلَا مَنْفَعَةٌ شَخْصِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِي فِيهِمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فَعَلْتُهُ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ شَأْنٌ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ أَحَدَ حُقُوقٍ ثَلَاثَةٍ - أَهَمُّهَا وَأَعْلَاهَا حَقُّ اللهِ - تَعَالَى -، وَثَانِيهَا حَقُّ النَّفْسِ، وَثَالِثُهَا حَقُّ النَّاسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَيْتُكُمْ. وَ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، وَقِيلَ: خَبَرِيَّةٌ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ أَوْ إِصْلَاحُ مَا اسْتَطَعْتُهُ فَحُذِفَ الْمُضَافُ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِعَقْلِهِ وَرَوِيَّتِهِ وَلِرُشْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ إِبْطَالٌ لِتَهَكُّمِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِلَقَبِ الْحَلِيمِ الرَّشِيدِ، وَالنَّبِيُّ فَوْقَ ذَلِكَ - وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ - التَّوْفِيقُ ضِدُّ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي إِصَابَةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَسَعْيٍ حَسَنٍ، فَإِنَّ حُصُولَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَسْبُ الْعَامِلِ وَطَلَبُهُ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَثَانِيهُمَا مُوَافَقَةُ الْأَسْبَابِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا النَّجَاحُ فِي كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، وَتَسْخِيرُهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَالْمَعْنَى: وَمَا تَوْفِيقِي لِإِصَابَةِ ذَلِكَ فِيمَا أَسْتَطِيعُهُ مِنْهُ إِلَّا بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ، وَأَعْلَاهَا مَا خَصَّنِي بِهِ دُونَكُمْ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ - فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَنِي مِنْ تَبْلِيغِكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، لَا عَلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي - وَإِلَيْهِ أُنِيبُ - أَيْ وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ أَرْجِعُ فِي كُلِّ مَا نَابَنِي مِنَ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِي فِي الْآخِرَةِ، فَأَنَا لَا أَرْجُو مِنْكُمْ أَجْرًا، وَلَا أَخَافُ مِنْكُمْ ضَرًّا.
- وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ - وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْرِمَنَّكُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ جُرْمِ الذَّنَبِ وَالْمَالِ بِمَعْنَى كَسْبِهِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّهَا مِنْ أَجْرَمَتْهُ الذَّنْبُ إِذَا جَعَلَتْهُ جَارِمًا لَهُ. فَجَرَمَهُ وَأَجْرَمَهُ
كَكَسِبَهُ هُوَ وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى الثُّلَاثِيُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ كَالرُّبَاعِيِّ.
وَالشِّقَاقُ: شِدَّةُ الْخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ أَحَدُ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي شِقٍّ وَجَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْآخَرُ، أَيْ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ وَتَكْسِبَنَّكُمْ مُشَاقَّتُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لِي أَنْ تُفْضِيَ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى إِصَابَتِكُمْ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَبْلَكُمْ: قَوْمَ نُوحٍ أَوْ هُودٍ أَوْ صَالِحٍ مِنْ عَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ - وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا إِجْرَامًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي: بَعِيدٍ، وَقَرِيبٍ، وَقَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِوُرُودِهَا عَلَى وَزْنِ الْمَصَادِرِ كَالصَّهِيلِ وَالشَّهِيقِ وَنَحْوِهِمَا. وَقُدِّرَ لِبَعِيدٍ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، وَقَدَّرَ غَيْرُهُ: وَمَا إِهْلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ. إِلَخْ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ.
- وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ - أَيِ اطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي
بِتَرْكِهِمَا، ثُمَّ تَتُوبُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ - إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: عَظِيمُ الرَّحْمَةِ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ بِمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، كَثِيرُ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ، وَالْمَوَدَّةُ فِي اللُّغَةِ عَطْفُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامُ بِالْفِعْلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا، وَتَسَاهَلَ أَوْ غَلَطَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْمَحَبَّةِ، وَهَذَا وَعْدٌ قُفِّيَ بِهِ عَلَى الْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَرَكَ لَهُمُ الْخِيَارَ فِيمَا يُرَجِّحُونَهُ مِنْهُمَا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ عَلَى فِعْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ - تَعَالَى - مِنْ أَسْبَابِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مُكَرَّرًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِيَانِ فِعْلَ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ اللَّذَيْنِ هُمَا سَبَبُ الْعُمْرَانِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَغْفِرَةِ اللهِ وَمَثُوُبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُمَا هُنَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الرَّحْمَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَارْجِعْ إِلَى مَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ فَائِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ و٥٢ و٦١ وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْبَلَاغَةَ وَالتَّفَنُّنَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ.
قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ تَحَوُّلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَنْ مُجَادَلَتِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمُقَابَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِقُرْبِ الْوَعِيدِ، وَنُزُولِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْعَتِيدِ.
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ - حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٧٩) أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ أَخَصُّ مِنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ الْعَمِيقُ الْمُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، أَيْ: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَرْمِي مِمَّا وَرَاءَ ظَوَاهِرِ أَقْوَالِكَ مِنْ بَوَاطِنِهَا وَتَأْوِيلِهَا؛ كَبُطْلَانِ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا وَقُبْحِ حَرِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِنَا، وَعَذَابٍ مُحِيطٍ يُبِيدُنَا، وَإِصَابَتِنَا بِمِثْلِ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَنْ قَبْلَنَا، كَأَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِكَ وَتَصَرُّفِكَ أَوْ تَصَرُّفِ رَبِّكَ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ تَشَاءُ أَوْ يَشَاءُ لِأَجْلِكَ، - وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا - لَا حَوْلَ لَكَ وَلَا قُوَّةَ تَمْتَنِعُ بِهَا مِنَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَبْطِشَ
بِكَ، وَأَنْتَ عَلَى ضَعْفِكَ تُنْذِرُنَا الْعَذَابَ الْمُحِيطَ الَّذِي لَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ - وَلَوْلَا رَهْطُكَ - أَيْ: عَشِيرَتُكَ الْأَقْرَبُونَ - وَالرَّهْطُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ أَوِ الْعَشَرَةِ - لَرَجَمْنَاكَ - لَقَتَلْنَاكَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تُدْفَنَ فِيهَا - وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - أَيْ بِذِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ عَلَيْنَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَجْمِكَ، وَإِنَّمَا نُعِزُّ رَهْطَكَ وَنُكْرِمُهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا الَّذِي نَبَذْتَهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ، وَأَهَنْتَهُ وَدَعَوْتَنَا إِلَى تَرْكِهِ لِبُطْلَانِهِ وَفَسَادِهِ فِي زَعْمِكَ.
- قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ - هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: أَرَهْطِي أَعَزُّ وَأَكْرَمُ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ - وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا - أَيْ أَشْرَكْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ اللَّقَّا الَّذِي يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ لِهَوَانِهِ عَلَى نَابِذِهِ وَعَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيُنْسَى حَتَّى لَا يُحْسَبَ لَهُ حِسَابٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَهُ بِظَهْرٍ وَظِهْرِيًّا وَاتَّخَذَهُ ظِهْرِيًّا بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ، أَيْ نَسْيًا مَنْسِيًّا لَا يُذْكَرُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَكَسْرُ الظَّاءِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي النَّسَبِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَلَا عَجَبَ مِنْ حَالِهِمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ، لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ فَيَرْجُوهُ إِذَا أَحْسَنُوا، وَيَخَافُوهُ إِذَا أَسَاءُوا، أَوْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِسَاءَةِ وَيَتَسَابَقُوا إِلَى الْإِحْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ - إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ - عِلْمًا فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ وَيَجْزِيكُمْ بِهِ، وَأَمَّا رَهْطِي فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
- وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ - هَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مِنْ وَاثِقٍ بِقُوَّتِهِ بِرَبِّهِ، عَلَى انْفِرَادِهِ فِي شَخْصِهِ، وَضَعْفِ قَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَإِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُ بِقُوَّتِهِمْ، أَيِ اعْمَلُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ عَلَى مُنْتَهَى تَمَكُّنِكُمْ فِي قُوَّتِكُمْ وَعَصَبِيَّتِكُمْ (مِنْ مَكُنَ مَكَانَةً كَضَخُمَ ضَخَامَةً - إِذَا تَمَكَّنَ كُلَّ التَّمَكُّنِ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ) أَوَ عَلَى مَكَانِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، إِذْ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ (كَمَقَامٍ وَمَقَامَةٍ) - إِنِّي عَامِلٌ - عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا أَوْ وَهَبَنِيهَا رَبِّي مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَمْرِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ - سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ - هَذَا
تَصْرِيحٌ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ التَّلْمِيحِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَطَاعِ لِلتَّعْجِيزِ،
وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ٦: ١٣٥ إِذِ الْمُرَادُ هُنَالِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ " سَوْفَ " سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَقَطْعُهَا هُنَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ ; لِاقْتِضَاءِ تَهْدِيدِ الْكَفَّارِ إِيَّاهُ بِالرَّجْمِ، أَنْ يُبَالِغَ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَإِظْهَارِ عَزَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْحَقِّ.
وَتَقْدِيرُهُمَا: فَإِنْ قُلْتُمْ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِكَ؟ أَقُلْ لَكُمْ: - سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ - وَيُذِلُّهُ. أَنَا أَمْ أَنْتُمْ، - وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ - فِي قَوْلِهِ وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ مِنِّي وَمِنْكُمْ؟ وَقَدْ كَانُوا أَنْذَرُوهُ غَيْرَ الرَّجْمِ الَّذِي وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ: أَنْذَرُوهُ إِنْذَارًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا - ٧: ٨٨ إِلَخْ. فَهُوَ يُعَرِّضُ بِكَذِبِهِمْ فِي كُلِّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ هُنَا وَهُنَاكَ، مُوقِنًا بِوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ اللهِ بِهِ - وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ - وَانْتَظِرُوا مُرَاقِبِينَ لِمَا سَيَقَعُ إِنِّي مَعَكُمْ مُرَاقِبٌ مُنْتَظِرٌ لَهُ، رَقِيبٌ هُنَا بِمَعْنَى مُرَاقِبٍ، كَعَشِيرٍ بِمَعْنَى مُعَاشِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
- وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا - بِعَذَابِهِمُ الَّذِي أَنْذَرُوهُ - نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا - خَاصَّةً بِهِمْ دُونَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ قَرِيبًا - وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - أَيْ أَخَذَتْهُمْ صَيْحَةُ الْعَذَابِ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ فَأَصْبَحُوا كُلُّهُمْ مَيِّتِينَ بَارِكِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ، مُكَبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ.
- كَأَنْ لَمْ يَغْنُوا فِيهَا - أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ - أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ - أَيْ هَلَاكًا لَهُمْ وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَبُعْدِ الْهَلَاكِ وَاللَّعْنَةِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِهَا ثَمُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الصَّيْحَةُ كَمَا فِي الْآيَةِ ٦٧ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَوَّلًا: فِي قَوْمِ لُوطٍ (١٥: ٧٣) وَذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّتِهِمْ هُنَا، وَثَانِيًا: فِي أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَهُوَ ثَمُودُ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ - ١٥: ٨٣ وَكَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِمْ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ -
٢٣: ٤١ وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ - ٥٤: ٣١ وَتَقَدَّمَ فِي عَذَابِ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ " أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " كَمَا فِي آيَتَيْ (٧: ٧٨ و٩١) وَمِثْلُهُمَا آيَةٌ (١٥٥) فِي السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي مَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - ٢٩: ٣٧ إِلَخْ. وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: " حم السَّجْدَةِ " فِي ثَمُودَ: - فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - ٤١: ١٧ وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ - ٥١: ٤٤ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّيْحَةِ صَوْتُ الصَّاعِقَةِ، وَفِي (٢: ٥٥ و٤: ١٥٣) أَنَّ الصَّاعِقَةَ أَخَذَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى: أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحْيَاهُمْ عَقِبَهَا: وَالرَّجْفَةُ: هِيَ الْهِزَّةُ وَالِاضْطِرَابَةُ الشَّدِيدَةُ، وَهِيَ تَصْدُقُ بِاضْطِرَابِ أَبْدَانِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ كَأَرْضِهِمْ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ صَاعِقَةً ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ ; فَرُجِفُوا أَوْ رُجِفَتْ أَرْضُهُمْ وَزُلْزِلَتْ مِنْ شِدَّتِهَا وَخَرُّوا مَيِّتِينَ، فَكَانَتْ صَاعِقَتُهُمْ أَشَدَّ مِنْ صَاعِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِأَنَّ هَذِهِ تَرْبِيَةٌ لِقَوْمِ نَبِيٍّ فِي حَضْرَتِهِ، وَتِلْكَ صَاعِقَةٌ كَانَتْ عَذَابَ خِزْيٍ وَهَوَانٍ لِمُشْرِكِينَ ظَالِمِينَ مُعَانِدِينَ أَنْجَى اللهُ نَبِيَّ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الصَّيْحَةَ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ كَانَتْ صَيْحَةً مِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ وَلَا نَصَّ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ الصَّوَاعِقِ مِرَارًا آخِرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَلَاكِ ثَمُودَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَمِنْ دَقِيقِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ مَدْيَنَ هُنَا: - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا - إِلَخْ. فَعَطَفَ " لَمَّا " عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ هُودٍ، وَلَكِنَّهُ عَطَفَهَا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ (٦٦) وَقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ. وَوَجْهُ هَذَا الْأَخِيرِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَاءَتَا عَقِبَ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَحُلُولِ مَوْعِدِهِ فَعُطِفَتَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ. وَأَمَّا عَطْفُ مِثْلِهِمَا فِي قَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْعَطْفِ الْمُطْلَقِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْآيَةِ وَعِيدٌ بِالْعَذَابِ،
وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ وَعِيدٌ مُسَوَّفٌ فِيهِ مَقْرُونٌ بِالِارْتِقَابِ لَا الِاقْتِرَابُ، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ عَلَيْهِ الْفَاءُ الَّتِي تُفِيدُ التَّعْقِيبَ بِدُونِ انْفِصَالٍ، فَهَلْ تُصَادِفُ مِثْلَ هَذِهِ الدَّقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ؟.
(خَتْمُ قِصَصِ الرُّسُلِ بِآيَاتٍ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) :
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩).
حِكْمَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، هِيَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ اللَّعْنَةُ وَالْهَلَاكُ كَكُفَّارِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الظَّالِمِينَ، وَلَكِنَّ عَذَابَ الْخِزْيِ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمَّا كَانَ إِرْسَالُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى إِرْسَالِ شُعَيْبٍ إِلَى مَدْيَنَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي نَوْعِهِ الْمُشْتَرِكِ مَعَ إِرْسَالِ صَالِحٍ وَهُودٍ - عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ - وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى - ٩٦ وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ اخْتِلَافِهِ عَمَّا قَبْلَهُ فَرَاجِعْهُ.
- وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - أَيْ بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمَعْدُودَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمُفَصَّلَةِ فِي غَيْرِهَا (وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ)، - وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - أَيْ وَبُرْهَانٍ وَاضِحِ الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ فِي مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هِيَ الْعَصَا لِأَنَّهَا أَكْبَرُ آيَاتِهِ، وَعَطَفَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَكِنَّ اللهَ قَالَ: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ٤٣: ٤٨
- إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ - بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَلَأَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ وَزُعَمَاؤُهُمْ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالِاسْتِشَارَةِ فِي دَوْلَتِهِ الَّذِينَ يَسْأَلُهُمْ رَأْيَهُمْ فِي مُوسَى وَغَيْرِهِ، وَيَعْهَدُ إِلَيْهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَتَقَرَّرُ مِنَ الْأُمُورِ
كَمَسْأَلَةِ السَّحَرَةِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ قَوْمُهُ فِي مَقَامِ الِاتِّبَاعِ لَهُ فِي الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ دُونَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ - فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ - فِي كُلِّ مَا قَرَّرَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِمُوسَى، وَجَمْعِ السَّحَرَةِ لِإِبْطَالِ مُعْجِزَتِهِ، وَمِنْ قَتْلِ السَّحَرَةِ لِإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَمِنْ تَشْدِيدِ الظُّلْمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي قِصَّتِهِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى - وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - أَيْ: مَا شَأْنُهُ وَتَصَرُّفُهُ بِذِي رُشْدٍ وَهَدْيٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فِي غُرُورِهِ بِنَفْسِهِ وَكَفْرِهِ بِرَبِّهِ وَطُغْيَانِهِ فِي حُكْمِهِ، وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ الْجَوَابُ.
- يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَيْ يَتَقَدَّمُهُمْ وَيَكُونُونَ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا كَانُوا تَابِعِينَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا - فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ - أَيْ: فَيُورِدُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ مَعَهُ، أَيْ: يُدْخِلُهُمْ إِيَّاهَا، فَالْإِيرَادُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ كَمَا اسْتُعْمِلَ الْوُرُودُ بِمَعْنَى الدُّخُولِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِإِغْرَائِهِ إِيَّاهُمْ قَدْ جَعَلَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ آلَهُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا مُنْذُ مَاتُوا صَبَاحًا وَمَسَاءً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ - ٤٠: ٤٥ و٤٦.
- وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - هِيَ لِأَنَّ وَارِدَ الْمَاءِ يَرِدُهُ لِتَبْرِيدِ كَبِدِهِ وَإِطْفَاءِ غَلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظَّمَأِ، وَوَارِدُ النَّارِ يَحْتَرِقُ فِيهَا احْتِرَاقًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَيْبَةِ.
الْوُرُودُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بُلُوغُ الْمَاءِ وَمُوَافَاتُهُ فِي مَوْرَدِهِ مِنْ نَهَرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوِرْدِ بِالْكَسْرِ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: وَرَدَ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ الْمَاءَ يَرِدُهُ وِرْدًا فَهُوَ وَارِدٌ وَالْمَاءُ مَوْرُودٌ، أَوْرَدَهُ إِيَّاهُ إِيرَادًا جَعَلَهُ يَرِدُهُ، وَمِنْهُ وُرُودُ جَهَنَّمَ بِمَعْنَى دُخُولِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ. وَقَالَ: الْوُرُودُ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَوْرَادٍ، فِي هُودٍ قَوْلُهُ: - وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - ٩٨ وَفِي مَرْيَمَ: - وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا - ١٩: ٧١ وَوَرَدَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: - حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ - ٢١: ٩٨ وَوَرَدَ فِي مَرْيَمَ أَيْضًا: - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - ١٩: ٨٦ وَكَانَ يَقُولُ: وَاللهِ لَيَرِدَنَّ جَهَنَّمَ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا -
١٩: ٧٢.
- وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً - أَيْ: وَأُلْحِقَتْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةٌ أَتْبَعَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: - وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ - ٢٨: ٤٢ وَقَالَ هُنَا: - وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَيْ وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعْنَةً أُخْرَى، فَهُمْ يُلْعَنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ رِفْدًا ; تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقَالَ: - بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - الرِّفْدُ (بِالْكَسْرِ) فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْعَطَاءُ وَالْعَوْنُ: يُقَالُ: رَفَدَهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) أَعَانَهُ وَأَعْطَاهُ، وَأَرْفَدَهُ مِثْلُهُ، أَوْ جَعَلَ لَهُ رِفْدًا يَتَنَاوَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَرَفَدَهُ وَأَرْفَدُهُ كَسَقَاهُ وَأَسْقَاهُ، - وَبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - أَيِ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى هَذِهِ اللَّعْنَةَ الَّتِي أُتْبِعُوهَا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ، الْقَدَحُ وَبِالْكَسْرِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ، هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعَامِّ بِالْخَاصِّ مُنَاسِبٌ لِلْوِرْدِ الْمَوْرُودِ قَبْلَهُ. أَيْ بِئْسَ مَا يُسْقَوْنَهُ فِي النَّارِ عِنْدَمَا يَرِدُونَهَا ذَلِكَ الشَّرَابُ الَّذِي يُسْقَوْنَهُ فِيهَا، وَهُوَ مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: - وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ - ٤٧: ١٥.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ فَرَاعِنَةٌ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيَسْتَخِفُّونَهُمْ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ وَيَذِلُّونَ لَهُمْ ذُلَّ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْحِمَارِ لِرَاكِبِهِ، وَالْحَيَوَانِ لِمَالِكِهِ، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا شَيْئًا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَرُشْدِهِ، وَتَجْهِيلِهِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، مَعَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: - وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - ٩٧ وَبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَإِتْبَاعِهِمْ لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ سَيَقُودُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا قَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَفْقَهُوا قَوْلَ اللهِ - تَعَالَى - لِرَسُولِهِ فِي آيَةِ مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ - وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ - ٦٠: ١٢ وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ " إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ).
(الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ) :
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِمَا فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَيَتْلُوهَا الْعِبْرَةُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى - أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ، أَيْ أَهَمُّ أَخْبَارِهَا، وَأَطْوَارُ اجْتِمَاعِهَا فِي الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - نَقُصُّهُ عَلَيْكَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَتْلُوَهُ الْمُؤْمِنُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، لِلْإِنْذَارِ بِهِ تَبْلِيغًا عَنَّا، فَهُوَ مَقْصُوصٌ مِنْ لَدُنَّا بِكَلَامِنَا - مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ - أَيْ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى مَا لَهُ بَقَايَا مَائِلَةٌ وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ فِي الْأَرْضِ، كَقُرَى قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْهَا مَا عَفَا وَدَرَسَتْ آثَارُهُ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ كَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ.
- وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ - أَيْ: وَمَا كَانَ إِهْلَاكُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِصْرَارِهِمْ حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، بِحَيْثُ لَوْ بَقُوا زَمَنًا آخَرَ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ظُلْمًا وَفُجُورًا وَفَسَادًا، كَمَا قَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا - ٧١: ٢٧ وَقَدْ بَالَغَ رُسُلُهُمْ فِي وَعْظِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، فَمَا زَادَهُمْ نُصْحُهُمْ لَهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا، وَأَنْذَرُوهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ اسْتِكْبَارًا، وَاتَّكَلُوا عَلَى دَفْعِ آلِهَتِهِمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِنْ هُوَ نَزَلَ بِهِمْ - فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: فَمَا نَفَعَتْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَهَا، وَيَطْلُبُونَ مِنْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ الضُّرَّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ -
تَعَالَى - لَمَّا جَاءَ عَذَابُ رَبِّكَ تَصْدِيقًا لِنُذُرِ رُسُلِهِ - وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ - أَيْ: هَلَاكٍ وَتَخْسِيرٍ وَتَدْمِيرٍ، وَهُوَ مِنَ التِّبَابِ أَيِ الْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ: يُقَالُ: تَبَّبَهُ
تَتْبِيبًا، أَيْ: أَهْلَكَهُ، وَتَبَّ فُلَانٌ وَتَبَّتْ يَدُهُ، أَيْ خَسِرَ أَوْ هَلَكَ " وَتَبًّا لَهُ " فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ، وَمَعْنَى زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا؛ أَنَّهُمْ بِاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ ظَنًّا أَنَّهُمُ يَنْتَقِمُونَ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِرَسُولِهِمْ: - إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ - ١١: ٥٤.
- وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ - أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِالْعَذَابِ وَعَلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَخْذُ رَبِّكَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي حَالِ تَلَبُّسِهَا بِالظُّلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ قَوْمٍ - إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ - أَيْ وَجِيعٌ قَاسٍ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَنَاصَ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلتَّشْبِيهِ فِيمَا قَبْلَهَا.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مَعَ ظُلْمِهِمْ مَغْرُورِينَ بِدِينٍ يَتَحَلَّوْنَ بِلَقَبِهِ، وَلَا يَحْسَبُونَ حِسَابًا لِإِمْلَاءِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِدْرَاجِهِ.
(الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ) :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
هَذِهِ الْبِضْعُ الْآيَاتِ فِي الْعِبْرَةِ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ لِلْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ.
- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ - أَيْ: فِي ذَلِكَ الَّذِي قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَمَا قَفَّى عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامِ سُنَنِهِ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، يَعْتَبِرُ بِهَا فَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ مَنْ عَذَّبَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا كَأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَمَا كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ الْعَامُّ إِنَّمَا نَزَلَ بِمَنْ أَجْمَعَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فَتِلْكَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَقْوَامِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ فِي جُمْلَتِهَا مَا دَامَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، إِذْ كَانَ يُخْرِجُ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَتَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِظُلْمِهِمْ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ نَجَاتُهُمْ فِيهَا بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْخَائِفَ هُنَا.
قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْخَائِفِ: يَعْتَبِرُ بِهَا لِعِلْمِهِ أَنَّ مَا حَاقَ بِهِمْ أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ - أَوْ يَنْزَجِرُ لَهُ عَنْ مُوجِبَاتِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ مُخْتَارٍ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ وَأَحَالَ فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَمْ يَقُلْ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَجَعَلَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ لِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ اتَّفَقَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا لِذُنُوبِ الْمُهْلَكِينَ بِهَا. اهـ.
أَقُولُ: ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِبْرَةِ بِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، أَنَّ كُفَّارَ الْمَادِّيِّينَ وَمَلَاحِدَةَ الْمِلِّيِّينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ
عَنْ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ فِي عَصْرِهِ، يَقُولُونَ: إِنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ بِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ لَا بِإِرَادَةِ اللهِ وَاخْتِيَارِهِ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُمْ هَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَنْ هَلَكُوا بِالرِّيحِ وَبِالصَّاعِقَةِ وَبِخَسْفِ الْأَرْضِ، وَقُلْتُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنَّ حُدُوثَ الْمَصَائِبِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَافَقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحْدَثَ الْأَسْبَابَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِحِكْمَتِهِ لِأَجْلِ عِقَابِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ إِيَّاهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ مَوْعِدَهَا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّحْدِيدِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رُسُلٌ يُطْلِعُهُمْ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِهِ لِيُنْذِرُوا النَّاسَ بِهِ اكْتِفَاءً بِإِنْذَارِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ٢٦: ٢٢٧.
- ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ - أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ - فَكَانَ ذِكْرُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ - يَوْمٌ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، أَيْ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَفِي جَعْلِ جَمْعِ النَّاسِ لَهُ (بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ) صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُبَالَغَةٌ، كَانَتْ
129
بِهَا الْجُمْلَةُ هُنَا أَبْلَغَ مِنْ جُمْلَةِ: - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ - ٦٤: ٩ فِي إِثْبَاتِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ تِلْكَ سِيقَتْ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ التَّغَابُنِ، أَيْ غَبْنُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ الْجَمْعِ لَهُ فِي ذَاتِهِ لِتَصْوِيرِ هَوْلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: - وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - يَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّعْبِيرُ الْوَجِيزُ الْبَلِيغُ مَثَلًا تُوصَفُ بِهِ الْمَجَامِعُ الْحَافِلَةُ بِكَثْرَةِ النَّاسِ، أَوِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يَكْثُرُ مَنْ يَشْهَدُهَا مِنْهُمْ.
- وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ - أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا لِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ عَنْ تَقْدِيرِنَا لَهَا بِحِكْمَتِنَا، وَهُوَ انْقِضَاءُ عُمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْدُودٌ مَحْدُودُ النِّهَايَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يُطْلِعْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
- يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ - أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُعَيَّنُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ مِنَ الْأَنْفُسِ النَّاطِقَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ يَوْمُهُ الْخَاصُّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِيهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: - يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا - ٧٨: ٣٨ وَقَالَ: - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا - ٢٠: ١٠٨ و١٠٩ وَقَالَ فِي الْكُفَّارِ: - هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ - ٧٧: ٣٥ ٣٦ وَقَالَ: - الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ - ٣٦: ٦٥ إِلَخْ.
وَفُسِّرَتْ كَلِمَةُ (يَوْمَ) فِي الْآيَةِ بِالْوَقْتِ الْمُطْلِقِ، أَيْ: غَيْرِ الْمَحْدُودِ ; لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْيَوْمِ الْمَحْدُودِ الْمَوْصُوفِ بِمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ يَأْتِي. وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْهَرَبَ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ ظَرْفًا لِلْيَوْمِ، فَقَالُوا: الْمَعْنَى يَوْمَ يَأْتِي جَزَاؤُهُ أَوْ هَوْلُهُ، أَوِ اللهُ - تَعَالَى -، وَاسْتَشْهَدُوا لِلْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: - هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ - ٢: ٢١٠ وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا نَصٌّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِ جَعْلِ يَوْمَ بِمَعْنَى وَقْتٍ أَوْ حِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يَأْتِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَهُوَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ مَا تَقُولُ. وَنَفْيُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - يُفَسِّرُ لَنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لَهُ مُطْلَقًا وَالْمُثْبِتَةِ لَهُ مُطْلَقًا.
- فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - أَيْ: فَمِنَ الْأَنْفُسِ الْمُكَلَّفَةِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهِ، شَقِيٌّ مُسْتَحِقٌّ لِوَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِمَا وُعِدَ بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، وَأَمَّا مَنْ تَسْتَوِي حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَغْلِبُ سَيِّئَاتُهُمْ مِنْهُمْ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا فِي النَّارِ عِقَابًا مَوْقُوتًا ثُمَّ
130
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ مِنْ فَرِيقِ السُّعَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالسُّعَدَاءُ دَرَجَاتٌ، وَالْأَشْقِيَاءُ دَرَكَاتٌ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى
شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: " بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَحَدِيثُ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ " فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلَ؟ قَالَ: " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَقَرَأَ: - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - ٩٢: ٥ إِلَخْ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ أَوْ جَهِلَهُ الْكَثِيرُونَ عَلَى ظُهُورِهِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا يَعْمَلُهُ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ اللهُ الْمُسْتَقْبَلَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَمِنْهُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَكِتَابَتِهِ لِلْمَقَادِيرِ، وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَنَا مَا نَعْلَمُ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُيَسَّرٌ لَهُ وَمُسَهَّلٌ عَلَيْهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ سَعَادَةِ الْجَنَّةِ وَشَقَاوَةِ النَّارِ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ مَا يُوَجِّهُهَا بِهِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ:
- فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا - أَيِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَشْقِيَاءِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِالتَّقْلِيدِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَفِي النَّارِ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَثْوَاهُمْ، - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - مِنْ ضِيقِ أَنْفَاسِهِمْ، وَحَرَجِ صُدُورِهِمْ، وَشِدَّةِ كُرُوبِهِمْ، فَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: صَوْتَانِ يَخْرُجَانِ مِنَ الصَّدْرِ عِنْدَ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْحُزْنِ فِي بُكَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ وَالشَّهِيقُ رَدُّهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
بِعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرِجُ
وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ: فَالزَّفِيرُ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:
الشَّهِيقُ طُولُ الزَّفِيرِ وَهُوَ رَدُّ النَّفْسِ، وَالزَّفِيرُ مَدُّهُ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّهِيقُ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، شَهِقَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، شَهِيقًا وَشُهَاقًا: رَدَّدَ الْبُكَاءَ فِي صَدْرِهِ اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ إِذَا امْتَدَّ وَاشْتَدَّ فَسُمِعَ صَوْتُهُ كَانَ زَفِيرًا، وَأَنَّ النَّشِيجَ فِي الْبُكَاءِ إِذَا اشْتَدَّ تَرَدُّدُهُ فِي الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ بِهِ الصَّوْتُ سُمِّيَ شَهِيقًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الشُّهُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ.
وَمَا أَبْلَغَ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى يَصِفُ كَرْبَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِدَّةِ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَعْمِرِينَ الظَّالِمِينَ: وَسَرَى الْأَلَمُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ سَرَيَانَ الِاعْتِقَادِ فِي مَدَارِكِهِمْ، وَهُمْ مِنْ تِذْكَارِ الْمَاضِي وَمُرَاقَبَةِ الْحَاضِرِ يَتَنَفَّسُونَ الصُّعَدَاءَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ التَّنَفُّسُ زَفِيرًا بَلْ نَفِيرًا عَامًّا، بَلْ يَكُونُ صَاخَّةً تُمَزِّقُ مَنْ أَصَمَّهُ الطَّمَعُ.
- خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ - أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُكْثَ بَقَاءٍ وَخُلُودٍ، لَا يَبْرَحُونَهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ الَّتِي تُظِلُّهُمْ وَالْأَرْضِ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا التَّعْبِيرَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالُوا: الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِهَمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ وَتَزُولُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَمَاءُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ فَوْقَهُمْ، وَأَرْضُهُمْ مَا هُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ جَنَّةٍ أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ - أَيْ: أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ الدَّائِمَ هُوَ الْمُعَدُّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْجَهُولِ الظَّالِمَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ ظُلْمَةُ خَطِيئَاتِهَا وَفَسَادُ أَخْلَاقِهَا - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي هَذَا النِّظَامِ فِي طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ إِنَّمَا وُضِعَ بِمَشِيئَتِهِ، وَسَيَبْقَى فِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ عُهِدَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْيِيدِ تَأْيِيدِهَا بِمَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فَقَطْ لَا لِإِفَادَةِ عَدَمِ عُمُومِهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - ٧: ١٨٨ أَيْ لَا أَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقُدْرَتِي وَإِرَادَتِي إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمِثْلُهُ فِي (١٠: ٤٩) مَعَ تَقْدِيمِ الضَّرِّ. وَقَوْلُهُ: - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى
إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - ٨٧: ٦ و٧ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرِئُهُ إِيَّاهُ بِقُدْرَتِهِ، وَعَصَمَهُ أَلَّا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا بِمُقْتَضَى الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ، فَهُوَ لَا يَقَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ - إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - فَهُوَ إِنْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِخْلَافًا لِشَيْءٍ مِنْ وَعْدِهِ وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ كَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - ٦: ١٢٨
وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَوَعَدْنَا بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَجْعَلُهُ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ لِتَبْقَى سِلْسِلَةُ التَّفْسِيرِ هُنَا مُتَّصِلَةً.
- وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - أَيْ دَائِمًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) إِذَا قَطَعَهُ أَوْ كَسَرَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ - وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّذْيِيلِ وَمَا قَبْلَهُ عَظِيمٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْجَزَاءَيْنِ مِنْهُ - تَعَالَى - وَمُقَيَّدٌ دَوَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَيَّلَ هَذَا بِأَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ دَائِمٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِثْلَهُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ لَمَا كَانَ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِالْحُسْنَى وَبِأَحْسَنِ مِمَّا عَمِلُوا، وَبِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَبِأَنَّهُ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَلَمْ يَعُدْ بِزِيَادَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَلْ كَرَّرَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا، وَبِأَنَّ السَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، دَعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ سَبْقِهَا لِغَضَبِهِ. وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الشَّدِيدَ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً لِأَهْلِهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا فِي سِنِينَ أَوْ أَشْهُرٍ مَعْدُودَةٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ لَوْ كَانُوا خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ إِذَنْ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى نِيَّتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدِينَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الْعَزْمُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، لِمَا عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْوَاقِعِ مِنْ إِيمَانِ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَكْثَرِ الْعَرَبِ لَمَّا زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ نَوَى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا، وَالْمَعْقُولُ فِي تَعْلِيلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الدَّائِمَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ..... وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
- فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ - هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ، وَإِنْذَارُ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَمْرُ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَلَا تَكُنْ فِي أَدْنَى شَكٍّ
وَامْتِرَاءٍ مِمَّا يَعْبُدُ قَوْمُكَ هَؤُلَاءِ فِي عَاقِبَتِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، فَالنَّهْيُ تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْذَارٌ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَجَزَاءَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: - مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ - فَهُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَمَا قَالَ أَقْوَامُ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ: - وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ - أَيْ: وَإِنَّا لَمُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَافِيًا تَامًّا لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا وَفَّيْنَا آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، إِلَّا وَيُوَفِّيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ جَزَاءً تَامًّا وَافِيًا لَا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَوَجَاهَةٍ فَهُوَ مَتَاعٌ
عَاجِلٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَضِيَ، وَلَا يُحْتَجَّنَّ بِهِ عَلَى رِضَى اللهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِمْ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَائِلِهِمْ: - وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا - ١٨: ٣٦ وَعَنْ آخَرَ: - وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى - ٤١: ٥٠ فَإِنَّ الْحُسْنَى عِنْدَ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا بَلَّغَهُمْ عَنْهُ مِنْ مَوْجَاتِ الرَّحْمَةِ عِنْدَهُ بِفَضْلِهِ.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَقِيَّةِ الْعِبْرَةِ بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ وَأَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ذَكَّرَ اللهُ قَوْمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأُمَّتَهُ أَوَّلًا بِأَقْوَامِ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ وَالْجُحُودُ فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَوَفَّاهُمُ اللهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَسَيُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَذَكَّرَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكُتَّابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَلِمَتُهُ فِي تَأْخِيرِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَثَلَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْكِتَابِ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ. قَالَ:
- وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ - أَيْ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
وَتَنَازُعًا عَلَى الرِّيَاسَةِ، فَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تَنْتَحِلُ مَذْهَبًا وَتُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُوتُوا الْكُتَّابَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ إِنْزَالِ اللهِ الْكُتُبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْآيَةِ (٢: ٢١٣) الْجَامِعَةِ - وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ - أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْبُغَاةِ الْمُثِيرِينَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى هِدَايَتِهِ، كَمَا أَهْلَكَ
الَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الرُّسُلِ جُحُودًا وَعِنَادًا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِنْظَارُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي (١٠: ١٩) ثُمَّ فُسِّرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - ١٠: ٩٣ وَمِثْلُهُ فِي (٤٥: ١٧) وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١١٨ هُنَا - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي قَوْمِ مُوسَى وَكِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ لَمُرْتَكِسُونَ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ كِتَابِهِمْ مُوقِعٍ فِي الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالسِّيَاقِ، وَمَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ - (فُصِّلَتْ) - بِنَصِّهَا، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الشُّورَى مَا يُفَسِّرُ الْإِجْمَالَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُفَصِّلُهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الْبَشَرِ فِيهِ وَحُكْمِهِ - تَعَالَى - هُوَ فِي الِاخْتِلَافِ قَالَ: - شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - ٤٢: ١٣ و١٤ فَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ تَفْسِيرٌ لِآيَتَيْ هُودٍ وَحم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) فَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ فُقِدَتْ فِي إِحْرَاقِ الْبَابِلِيِّينَ لِهَيْكَلِ سُلَيْمَانَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - ٣: ٤٨ فَهُوَ لَمْ يَأْخُذِ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عَزْرَا كَتَبَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يُخَالِفُونَهُ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِهِمْ وَفِي شَرْعِهِمْ إِلَى مَذَاهِبَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا أَشَدَّ اخْتِلَافًا فِي كُتُبِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنَ الْغَفْلَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ أَنْ يُفَسِّرُوا الْكِتَابَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّورَى مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَصِفُوا الَّذِينَ أُورِثُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أُورِثُوهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى وَبِعِيسَى لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ أُورِثُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ وَرِثَ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَمَنْ أَسَاءَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ - ٣٥: ٣٢ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُجْمَلَتَيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ حَمَلُوا عَلَيْهِمَا الْآيَةَ الْمُفَصَّلَةَ وَجَعَلُوا تَفْسِيرَهُنَّ وَاحِدًا.
- وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ - أَيْ: وَإِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَاللهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَظْلِمُ مِنْهُمْ أَحَدًا، - إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ التَّوْفِيَةِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ " وَإِنْ " بِتَخْفِيفِ النُّونِ مَعَ إِعْمَالِهَا عَمَلَ الثَّقِيلَةِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ، وَ " لَمَا " بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ لَامَهَا مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ أَوْ فَارِقَةٌ وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَسَمِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ " لَمَّا " وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ فَهِيَ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، قَالَهُ الْجَلَالُ.
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ.
هَذَا السِّيَاقُ تَفْصِيلٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ: مَنْ جَحَدُوا فَأُهْلِكُوا. وَمَنْ آمَنُوا ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمُلَ إِيمَانُهُ، وَمَا بَعْدَهُمَا تَفْصِيلٌ لَهُمَا.
- فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ - أَيْ: كَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَاسْتَقِمْ مِثْلَ مَا أَمَرْنَاكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَيِ الْزَمِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَاتِّقَاءِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، - وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - أَيْ: وَلْيَسْتَقِمْ مَعَكَ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ - وَلَا تَطْغَوْا - فِيهِ بِتَجَاوُزِ حُدُودِهِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ،
كُلٌّ مِنْهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ، وَعَلَى اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِيهَا - إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - بَصِيرٌ بِعَمَلِكُمْ يُبْصِرُ بِهِ وَيَرَاهُ وَيُحِيطُ بِهِ عِلْمًا فَيَجْزِيكُمْ بِهِ. يُقَالُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى وَمِنْهُ - فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ - ٢٨: ١١.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ سُورَةِ الشُّورَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: - فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ - ٤٢: ١٥ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ فِي عُصُورِهِمْ، قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الَّذِي ابْتُدِعَ مِنْ بُعْدِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، وَأَنْ يُخَاطِبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا يَتَبَرَّأُ بِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْ إِثَارَتِهِ بِحُجَجِ الْجِدَالِ، وَاكْتَفَى فِي سُورَةِ هُودٍ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي يُورِثُ الِاخْتِلَافَ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ كَافَّةً، لَا بِحَالِ قَوْمِ مُوسَى وَمَنْ أُورِثُوا الْكِتَابَ خَاصَّةً، فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ.
وَقَدْ أَوْجَزَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَصْفِ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلِاسْتِقَامَةِ فِي الْعَقَائِدِ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ - وَالْأَعْمَالِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ كَمَا أُنْزِلَ، وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ مُفَوِّتٍ لِلْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، (كَذَا قَالَ) ثُمَّ قَالَ: " وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ وَانْحِرَافٍ بِنَحْوِ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ " اهـ.
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ يَنْقُضُ بَعْضَهُ. فَأَحَقُّ النُّصُوصِ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ نُصُوصُ الْعَقَائِدِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ
- تَعَالَى - وَعَالَمِ الْغَيْبِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ تَحْكِيمُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهَا مَثَارَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ فِي الْأُمَّةِ، الَّذِي نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ مِنْ سِيَاقِ سُورَةِ الشُّورَى، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَرَكَ الْبَيْضَاوِيُّ بَابَهُ مَفْتُوحًا بِزَعْمِهِ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي الْعَقَائِدِ وَسَطٌ بَيْنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَيَعْنِي بِهِ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ لِأَنَّهُ مِنْ أَسَاطِينِ نُظَّارِهِ، وَحَجَّتُهُ قَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الْخَوْضِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِيمَا دَوْنَ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، طُغْيَانٌ مِنَ الْعَقْلِ وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِهِ وَقَدْ نُهِيَ
137
عَنْهُ، لَا صِيَانَةً لَهُ، فَإِنَّ أَكْبَرَ نُظَّارِ الْبَشَرِ وَفَلَاسِفَتِهِمْ عُقُولًا قَدْ عَجَزُوا إِلَى الْيَوْمِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْفُسِ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى الْحَشَرَاتِ كَالنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، وَلَمَّا خَرَجُوا عَنْ هَدْيِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَحَمْلَةِ الْآثَارِ زَاغُوا فَكَانُوا - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ - ٣٠: ٣٢ سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّعْطِيلِ، وَبَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّشْبِيهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي حَيْرَةِ النَّفْيِ الْمَحْضِ هَرَبًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الذَّبْذَبَةِ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ النُّصُوصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَسَطًا، فَهُمْ يَتَأَوَّلُونَ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَحُبَّهُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُنَفِّرَةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، يَتَأَوَّلُونَهَا هَرَبًا مِنَ التَّشْبِيهِ بِزَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا مِنْ تَأْوِيلٍ لَهَا إِلَّا وَهُوَ بِأَلْفَاظٍ بَشَرِيَّةٍ مِثْلِهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا إِيثَارٌ لِمَا اخْتَارُوهُ فِي وَصْفِهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَرَضِيَهُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُؤَوِّلُونَ صِفَاتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْبَشَرِ تَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - لَيْسَ كَعِلْمِنَا فِي اسْتِعْدَادِهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا فِي صُورَتِهَا فِي النَّفْسِ - فَكَيْفَ إِذَا قُلْنَا فِي الدِّمَاغِ - وَلَا فِي انْقِسَامِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ يَنْقَسِمَانِ إِلَى بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ، وَلَا قُدْرَتُهُ - تَعَالَى - وَمَشِيئَتُهُ فِي كُنْهِهِمَا وَتَعَلُّقِهِمَا بِالْأَشْيَاءِ كَقُدْرَتِنَا
وَمَشِيئَتِنَا، فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَكَمَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَقَدْ قَالُوا فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهَا حَقٌّ بِلَا كَيْفٍ. فَلِمَ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِهَا؟ !. وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: لَوْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ الَّذِي عَنَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا شَيْءٌ يَقْتَضِيهِ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوِ النَّظَرِيِّ، الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ، لَمَا وَقَعَ فِيهِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَمَصْلَحَةً، حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِ الْفِرَقِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْمِلَّةِ بِتَأْوِيلِ أَرْكَانِ الدِّينِ حَتَّى الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَسَاغَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلَا أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَعْلَمُ بِالدِّينِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ كُلِّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، وَبِذَلِكَ دُونَ سِوَاهُ نَجْتَنِبُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعَهُمْ
138
مِنِ اجْتِنَابِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، الَّذِي أَوْعَدَ اللهُ أَهْلَهُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِهِ الْمُفَرِّقِينَ وَالْمُتَفَرِّقِينَ.
وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ كِتَابِ اللهِ وَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، بِدُونِ تَحَكُّمٍ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَلَا يُخِلُّ بِالدِّينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِقَطْعِ أُخُوَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ - ٤: ٥٩ الْآيَةَ.
هَذَا؛ وَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِقَامَةِ لَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يُرْتَقَى بِهِ لِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ بِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: - قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا - ١٠: ٨٩ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا - ٤١: ٣٠ الْآيَاتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ
عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: " قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " فَالِاسْتِقَامَةُ عَيْنُ الْكَرَامَةِ كَمَا قَالُوا.
قَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ الزُّعْبِيُّ الْجِيلَانِيُّ لِعَمِّ وَالِدِي السَّيِّدِ أَحْمَدَ أَبِي الْكَمَالِ وَهُوَ زَوْجُ عَمَّتِهِ: يَا سَيِّدِي إِنَّكَ صَحِبْتَ الشَّيْخَ مَحْمُودًا الرَّافِعِيَّ، وَإِنِّي أَرَى أَتْبَاعَهُ يَذْكُرُونَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الْكَرَامَاتِ فَأَرْجُو أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا رَأَيْتَ مِنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ مِنْهُ كَرَامَةً وَاحِدَةً هِيَ الِاسْتِقَامَةُ. أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ هَذَا الْخَبَرَ، وَقَالَ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أُصَدِّقُ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ، فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ نَقَّادَةً وَسَيِّئَ الظَّنِّ بِمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّلَاحِ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَذِبٌ كَمَا عَهِدَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مُعَاصِرِيهِ وَبَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَاخْتُبِرَ الْتِزَامُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ لِلصِّدْقِ بِطُولِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْنِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى صِغَرِ شَأْنِهَا لِأَنَّ أُولَى الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْبُيُوتَاتِ الْقَدِيمَةِ أَمْسَى قَلِيلًا فِي بَعْضِهَا وَخَلَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْضَاوِيُّ قَالَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ: إِنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، فَمَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِقِلَّةِ مَنْ يَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا أَوْ بُلُوغِ الْكَمَالِ فِيهَا، لَا لِعُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفْنَا مِنْ شَرْعِهِ عُسْرًا - يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ - ٢: ١٨٥.
139
- وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ: وَلَا تَسْتَنِدُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ قَوْمِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَتَجْعَلُوهُمْ رُكْنًا لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِمْ فَتُقِرُّونَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَتُوَالُونَهُمْ فِي سِيَاسَتِكُمُ الْحَرْبِيَّةِ أَوْ أَعْمَالِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، فَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَالرُّكُونُ مِنْ رُكْنِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - ١١: ٨٠ وَالسَّنَدُ بِمَعْنَى الرُّكْنِ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: سَنَدَ إِلَى الشَّيْءِ (كَرَكَنَ إِلَيْهِ) وَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، وَفَسَّرَهُ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ بِالتَّبَعِ لِلْجَوْهَرِيِّ بِالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ وَالسُّكُونِ لَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَعَمِّ كَعَادَتِهِمْ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّونَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيرِهِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ لِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَذَوْقِهِ وَحُسْنِ تَعْبِيرِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا مُتَحَرِّفًا إِلَى شُيُوخِ الْمَذْهَبِ (الْمُعْتَزِلَةِ) أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةِ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَشُيُوخُ الْمَذْهَبِ يُخْطِئُونَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفِئَةُ الرِّوَايَاتِ تُخْطِئُ فِي اعْتِمَادِ الْأَسَانِيدِ الضَّعِيفَةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَرُوَاةُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ أَحْيَانًا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ بِلَازِمِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْمَجَازِ فِي بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الرُّكُونَ " بَعْضُهُمْ بِالْمَيْلِ وَالسُّكُونِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مِنْ تَسَاهُلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي مَادَّتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّسَاهُلِ وَيُؤَيِّدُ مَا حَقَّقْنَاهُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ تَبَعًا لِلصِّحَاحِ: رَكَنَ إِلَيْهِ كَنَصَرَ رُكُونًا: مَالَ وَسَكَنَ، وَالرُّكْنَ بِالضَّمِّ الْجَانِبُ الْأَقْوَى (زَادَ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ وَالْعِزُّ وَالْمَنَعَةُ اهـ. وَمِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الرُّكُونَ فِيهَا مِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْءِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانُ أَقْوَى مِنَ السُّكُونِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ: أَيِ الْمَيْلُ وَالسُّكُونُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالِاعْتِمَادُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الرُّكُونِ وَلَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَقْوَاهَا آخِرُهَا. قَالَ فِي اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ: وَرُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى، وَالرُّكْنُ النَّاحِيَةُ الْقَوِيَّةُ وَمَا تَقْوَى بِهِ مِنْ مُلْكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ - ٥١: ٣٩ وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: تَعَالَى: - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ - ٢٨: ٤٠ أَيْ أَخَذْنَاهُ وَرُكْنَهُ الَّذِي تَوَلَّى بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّكُونِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا عَنَيْتُ بِتَحْقِيقِهِ لِمَا جَاءُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدِ الَّذِي لَا تَرْضَاهُ الْآيَةُ، كَمَا فَعَلُوا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِقَامَةِ إِذَا تَجَاوَزُوا بِهِمَا سَمَاحَةَ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيُسْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ دِينَهُ يُسْرًا لَا عُسْرَ فِيهِ، وَسَمْحًا لَا حَرَجَ عَلَى مُتَّبِعِيهِ.
فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ " الَّذِينَ ظَلَمُوا " بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَكَى أَنَّ الْمُوَفَّقَ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ،
140
فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى ظُلْمٍ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ؟ اهـ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ مَنْ مَالَ مَيْلًا يَسِيرًا إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ظُلْمٌ قَلِيلٌ أَيُّ ظُلْمٍ كَانَ، وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الْآيَةِ فَرِيقُ الظَّالِمِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ، فَهُمْ " كَالَّذِينِ كَفَرُوا " فِي الْآيَات
الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، لَا كُلَّ فَرْدٍ مِنَ النَّاسِ وَقَعَ مِنْهُ كَفْرٌ فِي الْمَاضِي وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - ٢: ٦ وَالْمُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِـ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَمَا عَبَّرَ عَنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ (٣٧ و٦٧ و٩٤) وَعَبَّرَ عَنْهُمْ فِيهَا بِـ الظَّالِمِينَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: - وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - ٤٤ فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْوَصْفِ وَالتَّعْبِيرِ بِـ " الَّذِينَ " وَصِلَتِهِ، فَإِنَّهُمَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْأَقْوَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - مَعْنَاهُ: فَتُصِيبُكُمْ النَّارُ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، بِسَبَبِ رُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ بِوِلَايَتِهِمْ وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي شُئُونِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، لِأَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ ظُلْمٌ، - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - ٥: ٥١ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بِالْمُشْرِكِينَ، إِذِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُ فِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَامٌّ فِي مَوْضُوعِهَا، فَوِلَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَوِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا خِلَافَ فِي هَذَا وَهُوَ مَنْصُوصٌ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، فَيَشْمَلُ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِهَا الَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا وَسِيَاقِهَا وَحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مَعَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
- وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - أَيْ: وَمَا لَكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُ اللهِ مِنْ أَنْصَارٍ يَتَوَلَّوْنَكُمْ: - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَلَا بِنَصْرِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ يَكُونُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَنْصُرُ الظَّالِمِينَ كَمَا قَالَ: - وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - بَلْ تَكُونُ غَايَتُكُمُ الْحِرْمَانَ مِمَّا وَعَدَ اللهُ رُسُلَهُ وَمَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرِهِ الْخَاصِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِـ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُمْ إِنْ رَكَنُوا إِلَى أَعْدَائِهِ
141
وَأَعْدَائِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِبْعَادِ نَصْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ اللهِ اقْتَضَتْ عِقَابَهُمْ بِالنَّارِ، وَمَا قُلْتُهُ أَقْرَبُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ وَاتِّخَاذِ وَلِيجَةٍ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ، وَعَنِ اتِّخَاذِ الْمُؤْمِنِينَ بِطَانَةً مِنْ دُونِهِمْ، وَقَدِ اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ وَسَائِلَ كَثِيرَةً لِاسْتِمَالَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُرَجِّحُ لَهُ اجْتِهَادُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا - ١٧: ٧٤ و٧٥ يَعْنِي لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ بِالْعِصْمَةِ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الرُّكُونِ، كَأَنْ تُصَدِّقَهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الِاعْتِمَادِ، إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِاسْتِمَالَتِهِمْ، كَمَا فَعَلْتَ مَعَ الْأَعْمَى، وَلَكِنَّ تَثْبِيتَنَا إِيَّاكَ عَصَمَكَ مِنْ مُقَارَبَةِ أَقَلِّ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الْأَقَلَّ، فَالْآيَةُ الْأُولَى نَصٌّ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَكَنَ أَقَلَّ الرُّكُونِ وَلَا قَارَبَ أَنْ يَرْكَنَ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ (فَرْضًا) لَعَاقَبَهُ اللهُ عِقَابًا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ مَعًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ لَا تَصِلُ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ إِلَى مَبَادِئِهَا، فَضْلًا عَنْ أَوْسَاطِهَا أَوْ غَايَاتِهَا.
وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الرُّكُونِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلَ الْيَسِيرَ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُهُ كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُقَلِّدُوهُ، لَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهُ عَلَى قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْوَعِيدِ عَلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ بَشَرٌ اتِّقَاءَهُ إِلَّا بِعِصْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا سَتَرَى فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ، أَمَا وَالْحَقُّ مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَجَعْلُهُ رُكْنًا شَدِيدًا لِلرَّاكِنِ، فَأَجْدَرُ بِقَلِيلِهِ أَنْ يُتَعَذَّرَ اجْتِنَابُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْبَشَرِ إِلَّا بِالْعِصْمَةِ وَالتَّثْبِيتِ الْخَاصِّ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَنْهَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَيْلِ الْيَسِيرِ إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ؟
لَمْ يَكُنْ مَيْلُ النَّفْسِ الطَّبْعِيُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَرْحَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ وَلَا الْبِرُّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الْخَاصُّ بِالْوِلَايَةِ لَهُمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَا مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ لِأَجْلِ الظُّلْمِ. وَلَمَّا فَعَلَ
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَعْلَتَهُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْوِلَايَةِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْهَا إِلَى صِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا تَأَوَّلَهَا، أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَوَدَّةِ فِيهَا وَقَالَ: - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - ٦٠: ٩ وَأَذِنَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ لِغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَا تَنْسَ
142
مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ - ٢٨: ٥٦ فِي حِرْصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي كَفَلَهُ فِي صِغَرِهِ، وَكَانَ يَحْمِيهِ وَيُنَاضِلُ عَنْهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاذْكُرْ قَوْلَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لَهُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ: " كَلَّا وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ " إِلَخْ.
بَلْ لَمْ تَكُنِ الثِّقَةُ بِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَعْمَالِ مِنَ الرُّكُونِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ وَثِقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِمُشْرِكٍ مِنْ بَنِي الدَّيْلِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى الرَّاحِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هَاجَرَا عَلَيْهِمَا لِيُوَافِيَهُمَا بِهِمَا فِي الْغَارِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ يَبْحَثُونَ عَنْهُمَا، وَقَدْ جَعَلُوا لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِمَا قَدْرَ دِيَتِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي اسْتِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكَافِرِ فِي الْحَرْبِ لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَهَا فِي التَّلْخِيصِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الِاسْتِعَانَةَ كَانَتْ مَمْنُوعَةً ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا أَقْرَبُهَا وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ تَرْكُنُوا بِضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَنَجْدٍ. وَبَعْضُهُمْ قَرَأَهَا وَقَرَأَ فَتَمَسَّكُمْ بِكَسْرِ تَائِهِمَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ.
(نَمُوذَجٌ مِنْ قُصُورِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَلَطِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ) :
(١) الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ وَالْمُعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا:
رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٣١٠ هـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالرُّكُونِ إِلَى الشِّرْكِ (وَهُوَ أَقْوَى مَا رُوِيَ فِيهَا) وَرُوِيَ عَنْهُ تَفْسِيرُهُ بِالْمَيْلِ وَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - وَلَا تَرْكَنُوا - لَا تَذْهَبُوا، وَهُوَ لَيْسَ تَفْسِيرًا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا يَظْهَرُ الْمُرَادُ الشَّرْعِيُّ مِنْهُ إِلَّا بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ إِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِإِرَادَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ
(الرُّكُونَ " بِالطَّاعَةِ أَوِ الْمَوَدَّةِ أَوْ الِاصْطِنَاعِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ (وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِأَحَدِ اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ) وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَصْلَتَانِ إِذَا صَلَحَتَا لِلْعَبْدِ صَلَحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْرِهِ: الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظُّلْمِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الْآيَتَيْنِ لَا تَفْسِيرٌ لَهُمَا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَعْنِي لَا تَلْحَقُوا بِالشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ. وَأَخَذَ ابْنُ جَرِيرٍ خُلَاصَةَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَلَا تَمِيلُوا أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَتَرْضَوْا عَنْ أَعْمَالِهِمْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بِفِعْلِكُمْ إِلَخْ.
وَمَا قَالَهُ وَرَوَاهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا كَانَتْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ
143
إِلَّا كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ وَجِيزَةٌ ذُكِرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ لَا يُقْصَدُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي لُغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ مِثْلَهُ كُلٌّ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُمَا يَعْتَمِدَانِ عَلَى الْمَأْثُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
(٢) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٣٧٠ هـ فِي تَفْسِيرِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) : وَالرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ: هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ وَمُؤَانَسَتِهِمْ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - ٦: ٦٨ انْتَهَى. وَقَدْ أَبْعَدَ كُلَّ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَقِيهٌ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا مُفَسِّرٌ عَامٌّ.
(٣) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٢٨ هـ فِي كَشَّافِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَزِيَارَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ، وَمَدِّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: - وَلَا تَرْكَنُوا - فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ، وَقَوْلُهُ: - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَذَكَرَ بَعْدَهُ حِكَايَةَ صَلَاةِ الْمُوَفَّقِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي قَرَأَ الْآيَةَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتْ، وَمَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَعَظَهَا لِلزُّهْرِيِّ أَحَدُ إِخْوَانِهِ مِنْ عُبَّادِ السَّلَفِ وَزُهَّادِهِمْ.
أَقُولُ: كُلُّ مَا أَدْغَمَهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ اجْتِرَاحُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الرُّكُونِ الْحَقِيرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ مُرَادًا مِنْهَا وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ
إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِيمَانِ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَظَنَّةَ الِانْقِطَاعِ لِظَلَمَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا زِيَارَتُهُمْ وَمُصَاحَبَتُهُمْ وَمُجَالَسَتُهُمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ فَلَمْ يَكُونُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، بَلْ كَانَ زِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزِيُّهُمْ وَاحِدًا وَعَادَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَاحِدَةً، إِلَّا مَا كَانَ قَبِيحًا نَهَى عَنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ مَعَهُمْ مَشْرُوعَةً زَادَهَا الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ فَضَائِلِ الْمُعَاشَرَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ضُعَفَاءَ فِي مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ أَقْوِيَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَازِمًا عَلَى الزَّحْفِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْفَصْلُ فِيهَا فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَبَرُّوهُمْ وَيُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّينِ.... أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ وَيَنْصُرُوهُمْ.
144
(٤) وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٤٣ هـ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
(الْأُولَى) الرُّكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قِيلَ فِي الَّذِينَ ظُلِمُوا إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَقَالُوا: أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ وَلَا يُرْكَنُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ. قَالَ اللهُ فِي الْأَوَّلِ: - وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ - ٦٨: ٩ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ فِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ: - وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا - ٦: ٦٨ الْآيَةَ. وَقَالَ حَكِيمٌ:
عَلَى الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكَلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى، وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْيِ بِحَالِ الِاضْطِرَارِ اهـ.
وَقَدْ أَصَابَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالْمَأْثُورَ دُونَ فِقْهِ الْآيَةِ.
وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٧١ هـ فِي تَفْسِيرِهِ جَامِعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَنَقَلَ كَلَامَهُ بِدُونِ عَزْوٍ إِلَيْهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
(٥) وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَضْلُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ الشِّيعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٦١ هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَجْمَعِ الْبَيَانِ:
(اللُّغَةُ) الرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالْإِنْصَاتِ وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، نَقِيضُهُ النُّفُورُ. (وَالْمَعْنَى) ثُمَّ نَهَى اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَنِ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ وَالْمَيْلِ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: لَا تُدَاهِنُوا عَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الدُّخُولُ مَعَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَإِظْهَارُ الرِّضَاءِ بِفِعْلِهِمْ أَوْ إِظْهَارُ مُوَالَاتِهِمْ.
فَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ أَوْ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ فَجَائِزٌ عَنِ الْقَاضِي. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الرُّكُونَ: الْمَوَدَّةُ وَالنَّصِيحَةُ وَالطَّاعَةُ. انْتَهَى.
وَهُوَ لَمْ يَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا عِبَارَةً عَنْ أُسْتَاذِهِمُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَرِوَايَةَ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
(٦) وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٠٦ هـ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ:
145
الرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَنَقِيضُهُ النُّفُورُ عَنْهُ.... قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ، وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَابُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الظَّالِمِ فِي نَفْسِهِ " اهـ.
قَدْ تَبِعَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ خَصْمَهُ الْمُعْتَزِلِيَّ (الزَّمَخْشَرِيَّ) فَأَسَاءَ التَّقْلِيدَ، وَاخْتَصَرَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ وَمَا أَفَادَ، بَلْ زَادَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارَ لِطُلَّابِ الْمَنَافِعِ وَدَرْءِ الْمَضَارِّ مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَخْرَجَ مُدَاخَلَتَهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جَرِيمَةِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، وَهَلْ يُدَاخِلُهُمْ أَحَدٌ إِلَّا لِهَذَا؟
(٧) وَقَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ اللهِ عُمَر الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٨٥ هـ - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - فَلَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - بِرُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا
كَانَ الرُّكُونُ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ، ثُمَّ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ، ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ، وَخِطَابُ الرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَالتَّثْبِيتُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الزَّوَالَ عَنْهَا بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ ظُلْمٌ فِي نَفْسِهِ اهـ.
(٨) قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٧٠١ هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَدَارِكِ التَّنْزِيلِ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - ١١: ١١٣ وَلَا تَمِيلُوا، قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللهُ -: هَذَا خِطَابٌ لِأَتْبَاعِ الْكَفَرَةِ، أَيْ: لَا تَرْكَنُوا إِلَى الْقَادَةِ وَالْكُبَرَاءِ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - وَقِيلَ: الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تَلْحَقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، وَعَنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ. فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى مَنْ ظَلَمَ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ! ! وَعَنِ الْحَسَنِ: جَعَلَ اللهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ: - وَلَا تَطْغَوْا - وَلَا تَرْكَنُوا -. وَقَالَ سُفْيَانُ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللهُ فِي أَرْضِهِ " وَلَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ: أَيُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: يَمُوتُ؟ قَالَ: دَعْهُ يَمُوتُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ -
146
أَيْ فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَأَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَمَعْنَاهُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْهُ غَيْرُهُ - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - ثُمَّ لَا يَنْصُرُكُمْ هُوَ ; لِأَنَّهُ حَكَمَ بِتَعْذِيبِكُمْ، وَمَعْنَى " ثُمَّ " الِاسْتِبْعَادُ، أَيِ النُّصْرَةُ مِنَ اللهِ مُسْتَبْعَدَةٌ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرُ مَا قُلِّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
(٩) وَقَالَ أَبُو السعُودِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي دَوْلَةِ الرُّومِ الْعُثْمَانِيَّةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٩٨٣ هـ، فِي تَفْسِيرِهِ (إِرْشَادِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ) :- وَلَا تَرْكَنُوا - أَيْ تَمِيلُوا أَدْنَى مَيْلٍ - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَدَارُ النَّهْيِ هُوَ الظُّلْمُ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنْ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ، إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ
إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَمَسَّكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّارُ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مَسَاسِ النَّارِ هَكَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ مَيْلًا عَظِيمًا، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُلْقِي شَرَاشِرَهُ عَلَى مُؤَانَسَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، وَيَبْتَهِجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى زَهْرَتِهِمُ الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ طَفِيفٌ، وَمِنْ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ خَفِيفٌ، بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ - ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - ٢٢: ٧٣ وَخِطَابُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّثْبِيتِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرَ مَا قَلَّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيَّ وَتَكَلَّفَ.
(١٠) وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأَلُوسِيُّ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةِ فِي بَغْدَادَ - بَعْدَ أَنْ كَانَ شَافِعِيًّا - فِي تَفْسِيرِهِ رُوحِ الْمَعَانِي:
- وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ لَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَفَسَّرَ الْمَيْلَ بِمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِمْ بِالْمَحَبَّةِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُفَسَّرُ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا مُطْلَقًا. قِيلَ: وَلِإِرَادَةِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ، وَيَشْمَلُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مُدَاهَنَتَهُمْ، وَتَرْكَ التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَتَعْظِيمَ ذِكْرِهِمْ. وَمُجَالَسَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَا الْقِيَامُ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَدَارُ النَّهْيِ عَلَى الظُّلْمِ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ مَثَلًا، وَتَعْقَّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، - فَتَمَسَّكُمْ - أَيْ فَتُصِيبَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْفَاءُ الْوَاقِعَةُ
147
فِي جَوَابِ النَّهْيِ - النَّارُ - وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَإِلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي - وَمَا أَصْعَبَهُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ بَلْ فِي غَالِبِ الْأَعَاصِيرِ مِنْ تَفْسِيرٍ - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مِسَاسِ النَّاسِ النَّارُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ كُلَّ الْمَيْلِ، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُتْعِبُ قَلْبَهُ وَقَالَبَهُ فِي إِدْخَالِ
السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَنْهِضُ الرَّجْلَ وَالْخَيْلَ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ، وَيَتَهَيَّجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، غَافِلًا عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، ذَاهِلًا عَنْ مُنْتَهَى مَا هُنَالِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا لَا مِنَ الرَّاكِنِينَ إِلَيْهِمْ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِسُفْيَانَ: إِنِّي أَخِيطُ لِلظَّلَمَةِ فَهَلْ أُعَدُّ مِنْ أَعْوَانِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، أَنْتَ مِنْهُمْ، وَالَّذِي يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ مِنْ أَعْوَانِهِمْ اهـ.
مَنْ تَأَمَّلَ أَقْوَالَ مَنْ بَعْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَلَّدُوهُ فِيمَا فَسَّرَ بِهِ الرُّكُونَ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكُونِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنَ الْبِنَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَعْنَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِالَّذِينِ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ مَا هُوَ غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَقْوَامِ كَالْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - ٢: ٦ مَعْنَاهُ: جَمَاعَةُ الْكَافِرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ لَا مَنْ وَقَعَ مِنْهُمْ كُفْرٌ مَا إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ.
(١١) أَخْتِمُ هَذِهِ النُّقُولَ بِمَا أَوْرَدَهُ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان نَائِبُ مَلِكِ بَهُوبَالَ (الْهِنْدِ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٣٠٧ هـ وَفِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ) الَّذِي أَوْدَعَهُ تَفْسِيرَ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيِّ الْمُسَمَّى (بِفَتْحِ الْقَدِيرِ) وَزَادَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ مُغْنِيًا عَنْ أَصْلِهِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرَانِ عَلَى تَخْطِئَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَأَوْرَدَا بَعْضَ مَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ مُخَالِفًا لَهُ، مِمَّا نَقَلْنَاهُ وَزْنًا عَلَيْهِ، وَانْفَرَدْنَا بِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ دُونَهُمْ وَدُونَهُمَا، ثُمَّ انْفَرَدَا بِالْبَحْثِ الْآتِى بِنَصِّهِ قَالَ:
" وَقَدِ اخْتَلَفَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ خَاصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقِيلَ: خَاصَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بـ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الظَّلَمَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
148
(فَإِنْ قُلْتَ) : وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْبَالِغَةُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، حَتَّى وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: " أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا رَأْسُهُ كَالزَّبِيبَةِ " وَوَرَدَ وُجُوبُ طَاعَتِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمُ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الظُّلْمِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَفَعَلُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ، مِمَّا لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ إِلَى الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ لَهُمْ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ الدُّخُولُ فِيهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجِهَادُ، وَأَخْذُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةُ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
" وَبِالْجُمْلَةِ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَ تَحْتَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَابُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لِتَوَاتُرِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِهِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: - أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ - ٤: ٥٩ بَلْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ مَنَعُوا مَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِلرَّعَايَا، كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ " أَعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ " وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ: " وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ وَضَرَبَ ظَهْرَكَ " فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ، فَمُجَرَّدُ هَذِهِ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ هِيَ مَيْلٌ وَسُكُونٌ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَيْلَ وَالسُّكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ مَالَ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ شَرْعًا كَالطَّاعَةِ أَوِ التَّقِيَّةِ، وَمَخَافَةِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَيْلٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى بِأَفْعَالِهِمْ اهـ.
(قُلْتُ) : أَمَّا الطَّاعَةُ عَلَى عُمُومِهَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَهِيَ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَيْهَا، مُخَصَّصَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْهُ بِأَدِلَّتِهَا الَّتِي قَدَّمْنَا
الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَلَا رَيْبَ، فَكُلُّ مَنْ أَمَرُوهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ كَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِمَا وُكِلَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ جَائِزٌ لَهُ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْأَمْرِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ مَعَ ضَعْفِ الْمَأْمُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا وَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَطَتُهُمْ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، مَعَ كَرَاهَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ
149
وَعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهَا لَهُمْ، وَكَرَاهَةِ الْمُوَاصَلَةِ لَهُمْ لَوْلَا جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ خَافِيَةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنِ ابْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ فِيهِ ظُلْمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، فَإِنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ " فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي "، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَلْيَقُ بِهِ. يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَوِّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَأَعِنَّا عَلَيْهِ اهـ.
تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ: إِنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي فَتَحَ بَابَهُ وَدَخَلَهُ هَذَانِ الْمُجَدِّدَانِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفَتْحِ الْبَيَانِ) كَانَ اسْتِدْرَاكًا ضَرُورِيًّا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جُمْهُورُ مَنْ قَبْلَهُمَا فَاقْتَصَرُوا وَقَصَرُوا، لَوْلَاهُ لَمَا كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا عَلَى سَبْقِهِمَا لَمْ يَسْلَمَا مِنْ تَقْصِيرٍ، وَلَمْ يَأْتِيَا بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ تَحْرِيرٍ، وَأَوْرَدَا الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى بِدُونِ تَخْرِيجٍ وَلَا تَدْقِيقٍ.
أَهَمُّ مَا فِي الْبَحْثِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى التَّحْرِيرِ، مَسْأَلَةُ طَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ
الظَّالِمِينَ وَإِنْ تَفَاقَمَ ظُلْمُهُمْ فَسَلَبُوا الْأَمْوَالَ، وَضَرَبُوا ظُهُورَ الرِّجَالِ، مَا دَامُوا لَا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ (هُوَ بِالْفَتْحِ: الظَّاهِرُ الْمَكْشُوفُ) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَذْهَبُ الزَّيْدِيَّةِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَإِجْمَالُهُ لَا يَنْجَلِي إِلَّا بِبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْرِيرُهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ ٠ أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَظْرِ مَا دُونَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ مِنْ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي تَقْبِيحِ الظُّلْمِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى سُلْطَةِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي طَاعَتِهِمْ يُقَابِلُهُ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ وُجُوبِ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ عَامَّةً، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالْأُمَرَاءِ خَاصَّةً، وَوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُسْتَطَعْ فَبِاللِّسَانِ، وَكَوْنِ إِنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِمَا قَبْلَهُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ،
150
وَمِنْهُ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ، فَإِنْكَارُهُمْ لَهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِهِ.
وَحَسْبُنَا هُنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - ٥: ١٠٥ الْآيَةَ، فَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسٍ (أَبِي حَازِمٍ) قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْآيَةِ - أَلَا وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: " إِنَّ النَّاسَ "... وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللهُ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ٥: ٧٨ قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ أَطْرًا " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: قَالَ: " كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَّكُمُ اللهُ كَمَا لَعَنَهُمْ " اهـ.
أَطَرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ: عَطَفَهُ وَثَنَاهُ، وَقَصَرَهُ عَلَيْهِ حَبَسَهُ وَأَمْسَكَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ (وَبَابُهُمَا ضَرَبَ).
وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الشَّرْعِ هِيَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَنُوَّابِهِمْ مِنَ السَّلَاطِينِ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالْوُلَاةِ، وَكُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، دُونَ الْمَحْظُورِ. وَأَمَّا طَاعَةُ الْمُتَغَلِّبِينَ فَهِيَ لِلضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ تُرَجِّحُ مَفْسَدَتَهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَخُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ السِّبْطِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى يَزِيدَ الظَّالِمِ الْفَاسِقِ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ مَا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ الْكَافِيَةَ، بَلْ خَذَلَهُ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ
151
مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَفَرَّ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَالِكٍ مَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ تَرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مَعَ وُلَاتِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (مَرَاتِبُ الْإِجْمَاعِ) : وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْإِمَامَ الْوَاجِبُ إِمَامَتُهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فَرْضٌ، وَالْقِتَالُ دُونَهُ فَرْضٌ، وَخِدْمَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجِبَةٌ، وَأَحْكَامُهُ وَأَحْكَامُ مَنْ وَلَّى نَافِذَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ مُدُنِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ إِمَامٍ قُرَشِيٍّ غَيْرِ عَدْلٍ أَوْ مُتَغَلِّبٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ إِلَخْ. وَأَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا
وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ مَا نَصُّهُ:
قَوْلُهُ: " عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ " أَيْ: نَصُّ آيَةٍ، أَوْ خَبَرٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ. انْتَهَى.
" قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي الْوِلَايَةِ، فَلَا يُنَازِعُهُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ، وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِيمَا عَدَا الْوِلَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوِلَايَةِ نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، وَيَتَوَصَّلَ إِلَى تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعِهِ بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ.
" قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا يَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى.
152
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمُ السَّيْفَ وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنَ السَّلَفِ
الصَّالِحِ مِنَ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - بَاغٍ عَلَى الْخَمِيرِ السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالَاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كُلُّ جُلْمُودٍ. انْتَهَى مَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.
هَذَا وَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ " هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ لُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَإِمَامِهِمُ الَّذِي بَايَعُوهُ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ، أَخَصُّ مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، وَقَدْ قَالُوا فِي مَعْنَى مَوْتِهِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً: إِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِإِمَامٍ يَلْتَزِمُهَا مَعَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْفَوْضَى لَا أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا اهـ.
وَكُلُّ هَذَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْفِئَاتِ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ بِشَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَتَفْرِيقِ شَمْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ ظَالِمًا، فَإِنْ كَفَّ الْإِمَامُ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ بِالْعَزْلِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ مَحَلُّ ثِقَةِ الْأُمَّةِ، الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الرَّأْيَ الْعَامَّ فِيهَا، الَّذِينَ عَنَاهُمْ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: " فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زُغْتُ فَقَوِّمُونِي ".
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
153
هَذَا أَمْرٌ بِأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَبِأَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ، اللَّذَيْنِ يُسْتَعَانُ بِهِمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى أُولِي الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا.
- وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - خَصَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمُغَذِّيَةِ لِلْإِيمَانِ وَالْمُعِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَيْ: أَدِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيمِ وَأَدِمْهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، طَرَفُ الشَّيْءِ وَالزَّمَنِ النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ وَنِهَايَتُهُ، فَطَرَفَا النَّهَارِ هُنَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ أَوِ الْغُدُوُّ وَالْعَشِيُّ، وَقَدْ أَمَرَنَا - تَعَالَى - فِي التَّنْزِيلِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ فِيهِمَا: - وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ - أَيْ: وَفِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ بِالضَّمِّ كَقُرَبٍ جَمْعُ قُرْبَةٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ، وَقَالُوا: الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةُ مِنَ النَّهَارِ، وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِنَ اللَّيْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ وَالْغَدَاةُ (أَيِ الْفَجْرُ) وَزُلَفُ اللَّيْلِ الْعَتَمَةُ (أَيِ الْعَشَاءُ)، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ فِي زُلَفِ اللَّيْلِ هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ " وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ فَيُبْحَثُ عَمَّنْ رَفَعَهُ، وَأَدْخَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ; إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى وَقْتُهَا طَرَفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَائِفَةٌ وَنَاحِيَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَفْصِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ طَرَفٌ ثَالِثٌ، وَاللَّفْظُ هَنَا مُثَنَّى، وَفِي سُورَةِ طه: - وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى - ٢٠: ١٣٠ فَجَمَعَ الْأَطْرَافَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُمَا وَقْتَا صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ - تَعَالَى - وَتَسْبِيحَهُ الْمُطْلَقَ فِيهَا عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا، وَالْآيَةُ الصَّرِيحَةُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - ٣٠: ١٧ و١٤٨ تُمْسُونَ تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، نَقَلَهُ فِي الْمِصْبَاحِ عَنِ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِثْلَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ سَبَبُهُ اشْتِرَاكُ الْوَقْتَيْنِ بِاتِّصَالِ آخِرِ الْمَسَاءِ بِأَوَّلِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ حَيْثُ يَخْتَلِطُ النُّورُ بِالظَّلَامِ، فَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الْعَتَمَةِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَزُولُ عِنْدَهَا الشَّفَقُ، وَهُوَ آخِرُ أَثَرٍ لِنُورِ النَّهَارِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ - ١٧: ٧٨ الْآيَةَ، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ
زَوَالُهَا، أَيْ أَقِمْهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا هَذَا وَفِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، مُنْتَهِيًا إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ ظُلْمَتِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَائَيْنِ، وَأَقِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ.
154
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ - الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ قَبْلَهَا مُبَيِّنٌ لِحِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ.
وَمَعْنَاهَا: أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا، مَا يَمْحُو مِنْهَا تَأْثِيرَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَإِفْسَادِهَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْحَسَنَاتِ فِيهَا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - وَلَا غَرْوَ، فَالصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ، وَأَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْمُكَفِّرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْحَسَنَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى التُّرُوكِ فَإِنَّهَا عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَمِنْهُ: - إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا - ٤: ٣١ وَفِي الْحَدِيثِ: " وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " - ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصَايَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى هُنَا لَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ الَّذِينَ يُرَاقِبُونَ اللهَ وَلَا يَنْسَوْنَهُ.
وَقَدْ فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ، وَأَيَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ كَفَّارَتِهَا فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - إِلَخْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: " هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْهُمْ - أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ: إِنَّنِي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، قَبَّلْتُهَا وَلَزِمْتُهَا وَلَمْ أَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَوْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللهِ بَصَرَهُ فَقَالَ: " رُدُّوهُ عَلَيَّ " فَرَدُّوهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - الْآيَةَ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً " وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ
مَغْزَاهُ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِهَا بِأَبِي الْيَسَرِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِمْ فِيَّ حَدَّ اللهِ - مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: " أَيْنَ الرَّجُلُ "؟ قَالَ: أَنَا ذَا، قَالَ: " أَتْمَمْتَ الْوُضُوءَ وَصَلَّيْتَ مَعَنَا آنِفًا "؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَإِنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ " وَالْمُرَادُ: خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ الَّتِي طَلَبْتَ تَكْفِيرَهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي تَكْفِيرِهَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْوُضُوءُ التَّامُّ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَابَ الرَّجُلُ تَوْبَةً نَصُوحًا؛ بِدَلِيلِ طَلَبِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ
155
وَالْكَبَائِرَ إِلَّا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا أَوِ اسْتِحْلَالُ أَهْلِهَا مِنْهَا إِنْ أَمْكَنَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الْحَسَنَاتِ لِلصَّغَائِرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْبَةُ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، وَيَقُولُ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ يُكَفِّرُ مَا هُوَ ضِدُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَتَكْفِيرِ الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ بِالْإِحْسَانِ إِلَخْ.
وَالْآيَاتُ فِي تَكْفِيرِ السُّوءِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُعَيَّنَةِ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الثَّانِي كَفَارَّاتُ الظِّهَارِ وَمُحْرِمَاتُ الْإِحْرَامِ وَالْحِنْثُ بِالْأَيْمَانِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّوْبَةُ، فَذُنُوبُهَا عَارِضَةٌ لَيْسَ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ تَكْرَارُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمُدَنِّسَةِ لِلنَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَهَذِهِ لَا يُطَهِّرُهَا مِنْهَا وَيُزَكِّيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِهِ، وَإِزَالَةِ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَبِجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ بِعِصْيَانِهِ، وَشَرَحَ الْغَزَّالِيُّ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ: عِلْمٍ، وَحَالٍ، وَعَمَلٍ، كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَالْعِلْمُ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ يُوجِبُ الْحَالَ، أَيْ يُحْدِثُهُ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَأَلَمُ النَّفْسِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ وَتَكْفِيرُهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى مُوجَزًا.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى التَّوْبَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، مِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى تَوْبَةِ آدَمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ، وَمِنْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ - ٤: ١٧ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ،
وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٦: ٥٤ وَسَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - ١٦: ١١٩ وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه: - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى - ٢٠: ٨٢ وَنَاهِيكَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ التَّوْبَةِ مِنْ آيَاتِ التَّوْبَةِ، وَلَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَفِيهَا أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ.
- وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - (٣) أَيْ وَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَمَا نُهِيتَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا حَتَّى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا - ٢٠: ١٣٢ وَاسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ
156
وَالْإِصْلَاحِ، وَانْتِظَارِ عَاقِبَتِهَا مِنَ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا جَزَاءَ لَهُ إِلَّا الْإِحْسَانُ، - فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - فِي أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنَّ لِلْجَزَاءِ فِي أُمُورِ الْأُمَمِ آجَالًا وَأَقْدَارًا يَجِبُ الصَّبْرُ فِي انْتِظَارِهَا، وَعَدَمُ اسْتِعْجَالِهَا قَبْلَ أَوَانِهَا.
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ سُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ قِصَصَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، جَاءَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْذَارِ قَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ، وَاجْتِنَابِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، قَالَ: - فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - " لَوْلَا " تَحْضِيضِيَّةٌ بِمَعْنَى: هَلَّا، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ وَالْأَقْوَامُ، وَالْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ: " الْجِيلُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُونَ " أَقُولُ: ثُمَّ اشْتُهِرَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهِ، وَمِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْخِيَارِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ، قِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يُنْفِقُونَ فِي الْعَادَةِ أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُمْ وَأَقْرَبَهُ
157
إِلَى التَّلَفِ وَالْفَسَادِ أَوَّلًا وَيَسْتَبْقُونَ الْأَجْوَدَ فَالْأَجْوَدَ، وَنَقُولُ: لِأَنَّ الْأَحْيَاءَ يَهْلِكُ مِنْهُمْ الْأَضْعَفُ فَالْأَضْعَفُ أَوَّلًا وَيَبْقَى الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، وَمِنْ هَذَا مَا يُعْرَفُ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَهُوَ إِفْضَاءُ تَنَازُعِ الْأَحْيَاءِ إِلَى بَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ - ١٣: ١٧ وَمِنْ ثَمَّ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْخِيَارِ بِالْبَقِيَّةِ، يَقُولُونَ: فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي النَّاسِ بَقَايَا، وَبِهَذَا فُسِّرَتِ الْآيَةُ.
وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا كَانَ - أَيْ وُجِدَ - مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنَ النَّهْيِ وَالرَّأْيِ وَالصَّلَاحِ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ، فَيَحُولُ نَهْيُهُمْ إِيَّاهُمْ دُونَ هَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا أَلَّا نُهْلِكَ قَوْمًا إِلَّا إِذَا عَمَّ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ، كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ - أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ الْأَخْيَارِ، النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الْآمِرِينَ
بِالْمَعْرُوفِ، وَلَكِنْ كَانَ هُنَالِكَ قَلِيلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ مَعَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا مَنْبُوذِينَ لَا يُقْبَلُ نَهْيُهُمْ وَأَمْرُهُمْ، مُهَدَّدِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، بَعْدَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ - وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ - مَا أُتْرِفُوا فِيهِ - أَيْ: مَا رَزَقْنَاهُمْ وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ فَبَطَرُوا.
يُقَالُ: أَتْرَفَتْهُ النِّعْمَةُ أَيْ أَبْطَرَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ، وَالْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ فِي الْمَرَحِ وَخِفَّةِ النَّشَاطِ وَالْفَرَحِ - وَكَانُوا مُجْرِمِينَ - أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِجْرَامِ الَّذِي وَلَّدَهُ التَّرَفُ رَاسِخِينَ فِيهِ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَخَّرُ لِعُقُولِهِمْ فِي تَرْجِيحِ مَا أَعْطَوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ.
رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُولُو بَقِيَّةٍ وَأَحْلَامٍ " وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْأَحْلَامَ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ الرَّشِيدَةَ كَافِيَةٌ لِفَهْمِ مَا فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، لَوْ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هِدَايَتِهَا الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ، وَالتَّفَنُّنُ فِي أَنْوَاعِهِ، بَدَلًا مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَشُكْرِ اللهِ الْمُنْعِمِ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِتْرَافُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْرَافِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالظُّلْمُ وَالْإِجْرَامُ يَظْهَرُ فِي الْكُبَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَيَسْرِي بِالتَّقْلِيدِ فِي الدَّهْمَاءِ، فَيَكُونُ سَبَبَ الْهَلَاكِ بِاسْتِئْصَالٍ، أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا - ١٧: ١٦.
فَهَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، وَلَا تُغْنِي عَنْ شُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَذِهِ السُّنَّةِ وَمُحَاوَلَةِ اتِّقَائِهَا لَهَا، فَحُكَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ وَالْأَحْلَامِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ سَيَهْلِكُونَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ، بَلْ تَكُونُ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ - ٦: ٦٥ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ، أَنَّ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ مِنْ شُعُوبِنَا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ
فِي الْإِسْرَافِ فِيهِ دُونَ مَا بِهِ يَرْجُو الْإِفْرِنْجُ اتِّقَاءَ الْهَلَاكِ مِنْ فَسَادِهِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْحَرْبِيَّةُ وَفُنُونُ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ فِسْقُ الْإِتْرَافِ يُهْلِكُ الْأُمَمَ الْقَوِيَّةَ، فَكَيْفَ تَبْقَى مَعَ اتِّبَاعِهِ وَفَسَادِهِ الْأُمَمُ الضَّعِيفَةُ؟ وَكَيْفَ يَزُولُ وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَالزُّعَمَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْكُتَّابُ وَالْخُطَبَاءُ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الظَّاهِرُونَ، وَالنَّاهُونَ عَنْ فَسَادِهِمُ الْأَقَلُّونَ الْخَامِلُونَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ وَمَا يَحُولُ دُونَهُ بِقَوْلِهِ:
- وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ وَسُنَّتِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِ أَهْلِهَا مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ. مُجْتَنِبِينَ لِلْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ الْعَدِيدَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَنْ - يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ - يَقَعُ فِيهَا - مَعَ تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ - وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - فِي أَعْمَالِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ، وَأَحْكَامِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ، فَلَا يَبْخَسُونَ الْحُقُوقَ كَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَلَا يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ كَقَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَبْطِشُونَ بِالنَّاسِ بَطْشَ الْجَبَّارِينَ كَقَوْمِ هُودٍ، وَلَا يُذَلُّونَ لِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَسْتَعْبِدُ الضُّعَفَاءَ، كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ - بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى الشِّرْكِ الْإِفْسَادَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ الظُّلْمُ الْمُدَمِّرُ لِلْعُمْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهَا بِظُلْمٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ مُصْلِحِينَ فِي حِلِّ أَعْمَالِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ لِلنَّاسِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى جَرِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَتَنْكِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذَا لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - ٣١: ١٣ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُصْلِحِينَ ظُلْمٌ فَلِذَلِكَ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ الْمُعَبِّرَ عَنْ تَجَارِبِ النَّاسِ، وَهُوَ
أَنَّ الْأُمَمَ تَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ، وَلَا تَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ، وَالْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِمَّا شَأْنُ صَاحِبِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَكُونُ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ مَجَازًا، وَمِنْ أَرْكَانِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ جَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَاضِحًا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَعْضُهَا خَفِيًّا يُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْهَبَ الذِّهْنُ وَالْفِكْرُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْبُلَغَاءُ.
- وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، الْآسِفُ عَلَى إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَاتِّبَاعِ هِدَايَتِهِ - لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَالْفِطْرَةِ لَا رَأْيَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ، وَإِذَنْ لَمَا كَانُوا هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسَمَّى بِالْبَشَرِ وَبِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، بَلْ لَكَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالنَّحْلِ أَوِ النَّمْلِ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ كَالْمَلَائِكَةِ مَفْطُورِينَ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَطَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ كَاسِبِينَ لِلْعِلْمِ لَا مُلْهَمِينَ، وَعَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى بَعْضٍ، لَا مَجْبُورِينَ وَلَا مُضْطَرِّينَ، وَجَعَلَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَسْبِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ كَانُوا فِي طَوْرِ الطُّفُولَةِ النَّوْعِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ السَّاذَجِ أُمَّةً وَاحِدَةً لَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ كَثُرُوا وَدَخَلُوا فِي طَوْرِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَظَهَرَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فَاخْتَلَفُوا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا - ١٠: ١٩ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّبَعِ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ - وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - مِنْهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، إِذِ الظَّنِّيُّ لَا يُكَلَّفُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُهُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ وَحْدَةِ الْبَشَرِ فَاخْتِلَافِهِمْ فَبَعْثَةِ النَّبِيِّينَ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَعَهُمْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي
الْآيَةِ (٢: ٢١٣) وَتَفْسِيرِهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، - وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ - أَيْ وَلِذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ، خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَشُعُورِهِمْ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَظْهَرًا لِأَسْرَارِ خَلْقِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ وَسُنَنِهِ فِي الْأَحْيَاءِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْمُمَكَّنَاتِ، وَبِهَذَا كَانُوا خُلَفَاءَ الْأَرْضِ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - ٢: ٣١ وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ فَيَخْتَلِفُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - ١٠٥ وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْقَوْلَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ أَشْهَبُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. انْتَهَى. أَيْ كَانَ الِاخْتِلَافُ سَبَبَ دُخُولِ كُلٍّ مِنَ الدَّارَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقْدِيمُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمَعْقُولُ الْمَشْرُوعُ عَكْسُهُ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يُقَالَ: فَرِيقٌ اتَّفَقُوا فِي الدِّينِ فَجَعَلُوا كِتَابَ اللهِ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَرَحِمَهُمُ اللهُ بِوِقَايَتِهِمْ مِنْ شَرِّ الِاخْتِلَافِ وَغَوَائِلِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَفَرِيقٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَذَاقُوا عِقَابَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْقَبَهُمْ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ: - وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ - الَّتِي قَالَهَا فِي غَيْرِ الْمُهْتَدِينَ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - أَيْ مِنْ عَالَمَيْ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كُتُبَهُ لِهِدَايَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، فَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: - وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ - ٣٢: ١٣ الْآيَةَ، فَهَذَا فَرِيقُ السَّعِيرِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَزَاءُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ.
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ فِي بَيَانِ مَا أَفَادَتْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْبَاءِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَمَا تُفِيدُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغَهُ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ لَهُ لَا لَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ، قَالَ - تَعَالَى -:
- وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ - أَيْ: وَكُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَنُحَدِّثُكَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهِ وَاسْتِقْصَائِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْقَصِّ فِي الْأَصْلِ تَتَبُّعُ أَثَرِ الشَّيْءِ لِلْإِحَاطَةِ بِهِ، وَمِنْهُ: - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ - ٢٨: ١١ ثُمَّ قِيلَ: قَصَّ خَبَرَهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي اسْتَقْصَاهُ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْأَنْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ الصَّحِيحَةِ فِي صُوَرِهَا الْكَلَامِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا الْبَيَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ فَوَائِدِهَا الْعِلْمِيَّةِ، وَعِبَرِهَا وَمَوَاعِظِهَا النَّفْسِيَّةِ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا، كَالَّتِي تَرَاهَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَعُدُّونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَأَمْثَالِهِ - مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - أَيْ: نَقُصُّ مِنْهَا عَلَيْكَ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ نُقَوِّيهِ وَنَجْعَلُهُ رَاسِخًا فِي ثَبَاتِهِ كَالْجَبَلِ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ،
وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ بِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَقْوَامِ، وَمَا قَاسَاهُ رُسُلُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ فَصَبَرُوا صَبْرَ الْكِرَامِ - وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ - أَيْ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْأَنْبَاءِ الْمُقْتَصَّةِ عَلَيْكَ، بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ أَصْلِ دِينِ اللهِ وَأَرْكَانِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّقَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ - وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ عِقَابِ اللهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ مَا فِيهَا مِنْ عَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَنَصْرُهُ - تَعَالَى - لِمَنْ نَصَرَهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ، فَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا يَشْمَلُ مَنْ كَانُوا آمَنُوا بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى آمَنُوا بَعْدُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، مَا يُنَاسِبُ إِعْجَازَ تِلْكَ الْقِصَصِ الَّتِي جُمِعَتْ فَوَائِدُهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
- وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ - أَيْ فَبَشِّرْ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ، وَقُلْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يَتَّعِظُونَ: اعْمَلُوا عَلَى مَا فِي مَكَانَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ وَإِيذَاءِ الدَّاعِي وَالْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ: فَسَوْفَ تَلْقَوْنَ جَزَاءَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْعِقَابِ وَالْخِذْلَانِ - إِنَّا عَامِلُونَ - عَلَى مَكَانَتِنَا مِنَ الثَّبَاتِ
عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ - وَانْتَظِرُوا - بِنَا مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنْ انْتِهَاءِ أَمْرِنَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا تَتَحَدَّثُونَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ - ٥٢: ٣٠ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - إِنَّا مُنْتَظِرُونَ - مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ،
وَإِتْمَامِ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَعُقَابِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
- وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - أَيْ: وَلَهُ وَحْدُهُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَعَنْ عِلْمِهِمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، مِمَّا تَنْتَظِرُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَكَ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَمِمَّا يَنْتَظِرُونَ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، الْعَالِمُ بِمَا سَيَقَعُ مِنْهُ وَبِوَقْتِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ - وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ - فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (يَرْجِعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ - فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ - أَيْ: وَإِذَا كَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كُلُّ أَمْرٍ، فَاعْبُدْهُ كَمَا أُمِرْتَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ عِبَادَةٍ شَخْصِيَّةٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْكَ، وَمِنْ عِبَادَةٍ مُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ لِغَيْرِكَ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِيُتِمَّ لَكَ وَعَلَيْكَ مَا وَعَدَكَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ اسْتِطَاعَتُكَ، فَالتَّوَكُّلُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَطَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِهِمَا مِنَ التَّمَنِّي الْكَاذِبِ وَالْآمَالِ الْخَادِعَةِ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ - وَهِيَ مَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ - لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ الَّذِي يَكْمُلُ بِهِ التَّوْحِيدُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ - وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - جَمِيعًا، مَا تَعْمَلُهُ أَنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَابَرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَهُوَ يُوَفِّيكُمْ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لَكُمْ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: " يَعْمَلُونَ " بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ التَّفْصِيلِيُّ وَيَلِيهِ خُلَاصَتُهُ الْإِجْمَالِيَّةُ)
163
الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ) :
هَذِهِ السُّورَةُ أَشْبَهُ بِسُورَةِ يُونُسَ الَّتِي قَبْلَهَا، فِي أُسْلُوبِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي خُلَاصَتِهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحُجَجِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ، وَمُنَاسِبَةٌ لَهَا فِي بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ وَالْمَقْطَعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ - وَلَكِنْ فِي تِلْكَ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ مَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ، وَفِي هَذِهِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَا أُجْمِلَ فِي تِلْكَ ; لِهَذَا نَخْتَصِرُ فِي خُلَاصَتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ فِيمَا عَدَا قَصَصِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَاقِبَةِ الْأَقْوَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَنَقُولُ:
(الْبَابُ الْأَوَّلُ) :
(فِي تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ وَسُنَنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الظُّلْمِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) :
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ)
(١) تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ:
هُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَعْنِي عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمَ عِبَادَةِ شَيْءٍ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُ، كَمَا تَرَاهُ بَعْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِهِ - تَعَالَى - لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: - أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ - وَمِثْلُهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ (٢٦) مِنْهَا، وَفِي مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ هُودٌ فِي الْآيَةِ (٥٠) وَصَالِحٌ فِي الْآيَةِ (٦١) وَشُعَيْبٌ فِي الْآيَةِ: - قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - ٨٤.
وَأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُونَهُ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ عَقَائِدَهُمُ الْمَشُوبَةَ بِالْوَثَنِيَّةِ مِنْ تَقَالِيدِ آبَائِهِمُ الْجَاهِلِينَ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِبَادَةُ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، نَهَوْهُمْ بِهَا عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَهِيَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ
164
وَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ، وَالنَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ لِتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ تَعْظِيمًا تَعَبُّدِيًّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ كَمَا يَرَوْنَ تَفْسِيرَهَا فِي مِثْلِ الْجَلَالَيْنِ، وَأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَالنُّذُورَ وَتَقْرِيبَ الْقَرَابِينِ لَهُمْ لَا يُنَافِي دِينَ اللهِ وَتَوْحِيدَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالصَّوَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ وَكَوْكَبٍ، أَوْ بَشَرٍ: وَلِيٍّ أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ مَلَكٍ، إِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا تَعَبُّدِيًّا ابْتِغَاءَ نَفْعٍ أَوْ كَشْفِ ضُرٍّ فِي غَيْرِ الْعَادَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَعِبَادَةُ الْمَلَكِ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ كَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْوَثَنِ وَالصَّنَمِ بِغَيْرِ فَرْقٍ ; إِذْ كُلُّ مَا عَدَا اللهَ فَهُوَ عَبْدٌ وَمِلْكٌ لِلَّهِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ وَلَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَا لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ زُلْفَى إِلَى اللهِ، بَلْ يَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَا سِوَى الْعَادَاتِ الْعَامَّةِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ عِبَادَةً كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ وَهِيَ أَعْلَمُ بِلُغَتِهَا، وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ.
(٢) تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ
: الْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُشُوعِ الْخَاصِّ بِالْإِيمَانِ بِالسُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ، وَالرَّبُّ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ لِعِبَادِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِذَاتِهِ، وَمُقْتَضَى حِكْمَتُهُ وَنِظَامُ سُنَنِهِ، وَتَسْخِيرُهُ الْأَسْبَابَ لِمَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَكَانَ أَكْثَرُ
مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ وَطَلَبًا لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ تُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ ; إِذِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلرَّبِّ وَحْدَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
تَأَمَّلْ كَيْفَ خَاطَبَ اللهُ أُمَّةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَقِبَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لِيُمَتِّعَهُمْ مَتَاعًا حَسَنًا وَيُؤْتِيَ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ (٥٢) وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ (٩٠) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَيَّنَ لِنَبِيِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ ٦ و٧ أَنَّهُ - مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا -، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ أَخْبَرَ نُوحٌ وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ قَوْمَهُ وَهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الشِّرْكَ بِالْغُلُوِّ
165
فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ فِي الْآيَةِ (٣١) بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ فَيَقْدِرُ عَلَى رِزْقِهِمْ أَوْ نَفْعِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ مَلَكٌ يَتَصَرَّفُ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلُوا، إِذْ صَارُوا يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ وَالْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ بِزَعْمِهِمْ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَةِ (٥٠) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٨٨) وَمِنْ سُورَةِ يُونُسَ (١٠: ٤٩).
ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ هُودٍ آيَةَ: - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ - ٥٦ إِلَخْ، وَفِي مَعْنَاهُ تَوَكُّلُ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ (٨٨) ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِأَمْرِ نَبِيِّنَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ - عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: - وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ - ١٢٣ فَجَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَهِيَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَهُوَ أَعْلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَنُعَزِّزُ هَذِهِ الشَّوَاهِدَ بِمَا يَأْتِي عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَلَا سِيَّمَا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْهُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِهِ - تَعَالَى -) :
فِي السُّورَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْأَفْعَالِ: الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْوَكِيلُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْحَفِيظُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الرَّقِيبُ الْوَدُودُ الْبَصِيرُ، فَمِنْهَا مَا وُصِفَ بِهِ - تَعَالَى - مُفْرَدًا، وَمَا وُصِفَ بِهِ مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهِ، وَمَا اتَّصَلَ بِمُتَعَلِّقِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَتَمَّ الْمُنَاسِبَةَ لِمَوْضُوعِهِ فِي مَوْضِعِهِ، مِمَّا يَذَّكَّرُ الْمُتَدَبِّرُ لَهُ بِتَدْبِيرِهِ - تَعَالَى - لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَيَزِيدُهُ إِيمَانًا بِمَعْرِفَةِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ لِلْمُحْسِنِينَ، وَتَرْبِيَتِهِ وَعِقَابِهِ لِلْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِكَ تَدَبُّرُ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ - تَعَالَى - بِمَا تُسِرُّ وَتُعْلِنُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: - أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - فَلَا تَغْفَلَنَّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيُّهَا التَّالِي لِلْقُرْآنِ أَوِ الْمُسْتَمِعُ لَهُ فَيَفُوتُكَ مِنَ الْعِرْفَانِ وَغِذَاءِ الْإِيمَانِ، مَا أَنْتَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ، الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ لِفَلَاحِكَ وَسَعَادَتِكَ، فَإِنَّ تَأَمُّلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ بَيَانِ شُئُونِهِ - تَعَالَى - فِي الْعِبَادِ، أَقْوَى تَفْقِيهًا فِي الدِّينِ وَتَكْمِيلًا لِلْعِرْفَانِ مِنْ تَكْرَارِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ مِرَارًا كَثِيرَةً كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُرْتَاضُونَ، وَمُقَلِّدَتُهُمُ الْمُرْتَزَقُونَ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُتَأَوِّلُونَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ - ٦: ٩١ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ هَنَا مُبْتَدَأٌ لِجُمْلَةٍ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ حُذِفَ خَبَرُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ٦: ٩١ إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: قُلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَهُوَ لَيْسَ اسْمًا مُفْرَدًا يُكَرَّرُ تَعَبُّدًا.
وَمِثْلُهُ تَأَوُّلُهُمْ لِحَدِيثِ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللهُ اللهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ
166
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَالْمَعْنَى - حَتَّى لَا يُقَالَ: اللهُ فَعَلَ كَذَا، اللهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا مَثَلًا، لِذَهَابِ الْإِيمَانِ بِهِ - تَعَالَى -، وَالِاسْمُ الْمُفْرَدُ فِي ذِكْرِهِمْ يُكَرِّرُونَهُ بِالسُّكُونِ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى جُمْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَصْرُ التَّوَجُّهِ وَجَمْعُ الْهِمَّةِ بِمَا جَرَّبَهُ الرِّيَاضِيُّونَ، وَجَهِلَهُ الْمُقَلِّدُونَ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: آيَاتُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ) :
(وَفِيهِ أَرْبَعَةُ شَوَاهِدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ) :
الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلْإِلَهِ الْوَاحِدِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا - ٣ إِلَخْ. فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَبَّ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَمَا يُفَضِّلُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَخُلُقٍ، وَأَنَّ الْوَسِيلَةَ لِهَذَا وَذَاكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ آيَاتِ هِدَايَتِهِ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ شَخْصِيٌّ فِي إِعْطَاءِ هَذَا وَلَا ذَاكَ بِتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ، فَيُدْعَى مَنْ دُونَهُ أَوْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ فِي طَلَبِهِ، وَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا فِي هَذَا شَاهَدَ تَأْثِيرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَازْدَادَ إِيمَانًا بِرَبِّهِ، وَشَاهَدَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّوَّابِينَ، وَضِدُّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّهُ يَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مَتَاعًا فِي هَمٍّ وَاصِبٍ، وَتَنْغِيصٍ دَائِبٍ ; لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْرَاضِ فِي الْيَدِ.
وَلِهَذَا كَانَ رُسُلُ اللهِ الْأَوَّلُونَ يَأْمُرُونَ أَقْوَامَهُمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ (٥٢) مِنْ قِصَّةِ هُودٍ، وَقَدْ جَعَلَ جَزَاءَهُ إِرْسَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لَهُمْ، إِذْ كَانَ هَذَانَ أَهَمَّ مَا يَطْلُبُهُ قَوْمُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْهُ بِآلِهَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ (٦١) مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ، وَقَدْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فَضْلِهِ - تَعَالَى - عَلَى قَوْمِهِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَاسْتِعْمَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْآيَةُ (٩٠) مِنْ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا - ٦ الْآيَةَ. أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِ رِزْقِ هَوَامِّهَا وَأَنْعَامِهَا وَطَيْرِهَا وَوَحْشِهَا وَإِنْسِهَا وَجِنِّهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الرِّزْقِ لَهَا، وَلَا فِي إِيصَالِهِ إِلَيْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا وَسَاطَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا،
فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَنْ خَلْقِهِ غَيْرُ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُكَلَّفِينَ.
167
الشَّاهِدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ بَعْدَهَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَضْمُونِهَا: - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ - ٧ الْآيَةَ، أَيْ: خَلَقَهُمَا وَمَا كَانَ يُوجَدُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمَزْعُومِينَ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمُ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، كَمَا كَانَ غَنِيًّا عَنْهُمْ عِنْدَ بَدْءِ التَّكْوِينِ، وَرَاجِعْ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، تَرَ فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا يَرْبَأُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسِيطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ كَمَا وَصَفَهُ خَالِقُهُ الْقَوِيُّ الْقَدِيرُ.
الشَّاهِدُ الرَّابِعُ: الْآيَاتُ (٩ و١٠ و١١) فِي بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيمَا يُذِيقُهُمْ رَبُّهُمْ بِحِكْمَتِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَارِ الْبَلَاءِ، وَأَصْنَافِهِمْ فِيهَا مِنْ يَائِسٍ كَفُورٍ، وَفَرِحٍ فَخُورٍ، وَصَبُورٍ شَكُورٍ، فَبِهَذَا التَّقْسِيمِ الْمَشْهُودِ الْمَخْبُورِ، تَعْرِفُ تَوْحِيدَ اللهِ - تَعَالَى - وَفَضْلَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَجَدَارَتَهُمْ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ وَسِيطٌ فِي نِعَمِهِ وَتَكْرِيمِهِ لَهُمْ.
(الْبَابُ الثَّانِي) :
(فِي الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ " الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ " وَإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، وَفِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ) :
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا بِذِكْرِ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، وَإِحْكَامِ آيَاتِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، إِعْلَامًا بِأَنَّ إِحْكَامَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ، وَتَفْصِيلَهَا مَرْفُوعٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَدِقَّةِ الْخِبْرَةِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ - ١٢ يَعْنِي: أَنَّ حَالَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ الْمُقْتَرِحِينَ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ أَمْرُهُ إِلَيْكَ، حَالُ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ تَرْكُ بَعْضِ مَا يَنْقُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ، وَضِيقِ صَدْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يُوحَى إِلَيْكَ، وَلَا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ، إِنَّمَا أَنْتَ رَسُولٌ وَظِيفَتُكَ التَّبْلِيغُ وَالْإِنْذَارُ، لَا الْإِتْيَانُ بِالْآيَاتِ، وَلَا الْوَكَالَةُ عَلَيْهِمْ فَتُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الرَّدُّ فِي الْآيَةِ (١٣) عَلَى قَوْلِهِمُ: " افْتَرَاهُ " بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ لِمُظَاهَرَتِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَعْنَى هَذَا التَّحَدِّي بِالْعَشْرِ الْمُفْتَرَيَاتِ بَعْدَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي تَفَاسِيرِ الْأَوَّلِينَ وَلَا الْآخِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ السُّوَرِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى قِصَصِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ فِي إِعْجَازِ هَذِهِ الْقِصَصِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأَسَالِيبِ وَالنُّظُمِ وَالْعِلْمِ مَا لَيْسَ
168
فِي غَيْرِهَا، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا عَشْرًا، وَمَا فِي الْعَشْرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِصْلَاحِ، فَرَاجِعْهُ (فِي ص ٢٧ - ٣٩ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ).
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ: - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ - ١٤ وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِ مَعْنَى إِنْزَالِهِ بِعِلْمِ اللهِ وَكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى مَا فَسَّرْنَا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ: - تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا - ٤٩ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَى رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَنْ لَامْتَنَعَ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَلَارْتَدَّ مَنْ كَانَ آمَنَ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ - ١٠٠ الْآيَةَ.
وَفِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ قِصَصِ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهَا وَحْيًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ كَوْنِهَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَانِيهُمَا: مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ فِي بَيَانِ التَّحَدِّي بِالْعَشْرِ السُّوَرِ مِنْ عَشْرِ جِهَاتٍ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - ١٢٠ الْآيَةَ. وَهِيَ فِي مَوْضُوعِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ فَوَائِدِ قِصَصِ الرُّسُلِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ فِي فَوَائِدِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْأُمَمِ وَإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَإِنْجَاءِ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ فِي فَوَائِدِهَا الْخَاصَّةِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ وَتَأْيِيدِ دَعَوْتِهِ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ.
فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا فِي السُّورَةِ خَاصًّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - دَالًّا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَعْنَى كُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ.
(الْبَابُ الثَّالِثُ) :
(فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَفِيهِ سِتَّةُ فَصُولٍ) :
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) :
بُدِئَتِ السُّورَةُ بِدَعْوَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى الْآيَةِ (٢٤) وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأُصُولِ دِينِ اللهِ (الْإِسْلَامِ) عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ (٢: ٦٢) وَسَأَذْكُرُهَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ التَّالِي لِهَذَا، وَمُتَضَمِّنَةٌ لِإِعْجَازِ
169
الْقُرْآنِ بِقِسْمَيْهِ: اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ بِفَضْلِ اللهِ وَإِلْهَامِهِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي سَائِرِ التَّفَاسِيرِ، ثُمَّ خُتِمَتْ بِمِثْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَوَائِلُهَا مِنَ الْآيَةِ (١٠٠ إِلَى ١٢٣) فَالْتَقَى قُطْرَاهَا وَاحْتَبَكَ طَرَفَاهَا، فَأَحَاطَا بِالْقِصَصِ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُؤَيِّدَةً لَهُمَا، وَذُكِرَ فِي أَثْنَائِهَا بُرْهَانٌ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ الْآيَةُ: - تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ - ٤٩ إِلَخْ. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ هَذَا بِالذِّكْرِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ وَالتَّأْثِيرِ بِبَلَاغَتِهِ الْمُمْتَازَةِ، وَإِلَّا فَسَائِرُ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ وَدَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ (١٠٠) وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، فَيَسْهُلُ عَلَى الْمُتَفَقِّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُرَاجِعَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَضْمُومَةً إِلَى كَلَامِنَا الْمُفَصَّلِ فِي إِعْجَازِهِ بِقِسْمَيْهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ (ص ٢٧ - ٤٠ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ) - وَأَنْ يَتَأَمَّلَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَالْآيَاتِ الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ آخِرِهَا، لِيُحِيطَ بِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ عُلُومِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا.
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا مُفَصَّلَةً فِي السُّورَةِ فَيَرَاهَا فِي الْفُصُولِ التَّالِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَفِي الْأَبْوَابِ الَّتِي بَعْدَهَا وَيَفْقَهُ سِرَّ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - ١١: ١ وَجَعْلَهُ عُنْوَانًا لَهَا.
(الْفَصْلُ الثَّانِي) :
(فِي الْهِدَايَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ فِي قَصَصِ السُّورَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ) :
قَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنَ الْعِلْمِيِّ الَّذِي فَصَّلَهُ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَتَكْرَارِهَا أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ فِيهِ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ كُلِّيَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، فَرَاجِعْهَا أَيُّهَا الْمُتَدَبِّرُ الْمُتَفَقِّهُ فِي الصَّفْحَةِ ٣٤ - ٣٧ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَتَأَمَّلْهَا إِجْمَالًا، ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا فِي الْفُصُولِ التَّالِيَةِ.
وَأَمَّا أُصُولُ الدِّينِ فَهِيَ الْمُجْمَلَةُ فِي قَوْلِ اللهِ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - ٢: ٦٢. (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) الْإِيمَانُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ شَوَاهِدَهُ مِنْ قَصَصِ السُّورَةِ كُلِّهَا.
(الْأَصْلُ الثَّانِي) الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ عَلَى
170
أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ. وَقَدْ ذُكِرَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الدَّالِّ عَلَى كُلِّ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْبَشَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
(الْأَوَّلِ) قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ قِسْمَيِ الْيَئُوسِ الْكَفُورِ، وَالْفَرِحِ الْفَخُورِ مِنَ النَّاسِ: - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - الْآيَةَ.
(الثَّانِي) قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ: - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - ٢٣. وَفِي مَعْنَاهَا الْإِحْسَانُ فِي قَوْلِهِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - ٧ وَقَوْلُهُ: - إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ - ١١٤.
وَأَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الْمُفَصَّلَةُ فَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَنَذْكُرُ مَا هُنَا مِنْ أُصُولِهَا فِي الْبَابِ الْخَامِسِ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) :
(فِي وَظِيفَةِ الرُّسُلِ الْأَسَاسِيَّةِ وَصِفَاتِهِمْ وَبَيِّنَاتِهِمْ وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عَقِيدَةً) :
(الْأُولَى: وَظِيفَةُ الرُّسُلِ الْأَسَاسِيَّةُ) هِيَ مَا بَعَثَهُمُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ بِإِنْذَارِ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ وَعَصَى، وَتَبْشِيرِ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ فَآمَنَ وَاهْتَدَى، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: - إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - ٢ وَقَوْلُهُ لَهُ: - إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - ١٢ وَمِثْلُ هَذَا الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ أَوَّلُ رُسُلِهِ إِلَى الْأَقْوَامِ الْمُشْرِكَةِ: - إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - ٢٥ وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ - ٥٧.
وَمَوْضُوعُ التَّبْلِيغِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ آنِفًا، وَعَلَيْهَا مَدَارُ سَعَادَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُلُّهَا مُبْطِلَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - وَسَائِطُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ بِجَاهِهِمْ، وَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ مِنْ جَلَبَ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ بِشَفَاعَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَهُ، أَوْ بِتَصَرُّفِهِمْ فِي خَلْقِهِ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، إِلَّا مَا جَعَلَهُ مِنْ آيَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِمْ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، كَإِبْرَاءِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَائِهِ لِلْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ لَهُ، بِأَنْ دَعَاهُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ بَشَرٌ مُرْسَلُونَ)، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ
171
الْبَشَرِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، دُونَ شُئُونِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ مَا خَصَّ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ هِدَايَةَ أَحَدٍ إِلَى الدِّينِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ هِدَايَتَهُمْ خَاصَّةٌ بِالتَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَحِكَايَةُ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَاضِحَةٌ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَ (مِنْهَا) فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا عَلِمْتَ مِنْ آيَاتِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا
أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - ١٢ وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: - وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ - ٣١ وَتَقَدَّمَ مَا فِي مَعْنَاهُ عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى.
(وَمِنْهَا) فِي احْتِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا - ٢٧ وَقَدْ قَالَ مِثْلَ هَذَا سَائِرُ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بَعْدَهُ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الرُّسُلُ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بِأَنْ يَكُونُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ، لَمَا احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ كَمَا يَدَّعِي الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ عَمَّا جَاءُوا بِهِ مَعَ دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ هُمْ وَبَعْضُ مَنْ وَصَفُوا بِالصَّلَاحِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ، وَيُشْقُونَ وَيُسْعِدُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ: أَحْيَاؤُهُمْ وَأَمْوَاتُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ حَيَاةً مَادِّيَّةً بَدَنِيَّةً يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَ مَنْ يَدْعُوهُمْ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ، وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ دُعَاءَهُمْ فِيهَا، وَقَدْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي خَارِجِهَا، يُخَالِفُونَ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَاتِ فِي التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَآيَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ الْبَرْزَخِيَّةِ، فَيَقِيسُونَ عَلَيْهَا بِأَهْوَائِهِمْ حَيَاةَ أَوْلِيَائِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ، وَحَسْبُنَا هُنَا التَّذْكِيرُ بِمَا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّنَا أَنْ يَرُدَّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوهُ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ: - قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا - ١٧: ٩٣؟
(الثَّالِثَةُ: بَيِّنَاتُهُمْ وَآيَاتُهُمْ) مَا مِنْ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ إِلَّا وَجَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ مِنْ حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ، وَكَانَتْ تَشْتَبِهُ عَلَى عَامَّتِهِمُ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ بِالسِّحْرِ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَهُ، وَيَرَوْنَهُ مِنَ الدَّجَّالِينَ وَالْمُرْتَزِقَةِ،
172
وَكَانَ الْمُهْتَدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْهِدَايَةِ الْخَلْقِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ.
بَيَّنَتْ لَنَا هَذِهِ السُّورَةُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ كَانَ يَحْتَجُّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ تَحَدَّى قَوْمَهُ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ كَمَا تَحَدَّى مُوسَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَكَمَا تَحَدَّى مُحَمَّدٌ قَوْمَهُ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ مَعَهُمْ، وَمَنِ اسْتَطَاعُوا لِيُظَاهِرُوهُمْ عَلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ فِي مَزَايَا إِعْجَازِهِ الْعَامَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهُ، وَمَزَايَا إِعْجَازِهِ الْمُكَرَّرَةِ فِي عَشْرِ سُوَرٍ مِمَّا ادَّعَوُا افْتِرَاءَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي الْآيَةِ (١٣) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْآيَةِ (١٤) قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ: - أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ١٧.
ثُمَّ قَالَ فِي حُجَّةِ نُوحٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ - ٢٨ الْآيَةَ، وَحَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ أَنَّهُمْ - قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - ٥٣ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: - وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ - ٥٩ الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً - ٦٣ الْآيَةَ، وَذَكَرَ بَعْدَهَا آيَتَهُ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ بِهَا فَقَالَ: - وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً - ٦٤ إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا - ٨٨ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ - ٩٦ و٩٧ الْآيَةَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَكَسْبِهِمْ، وَلَا فِي حُدُودِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، فَآيَةُ خَاتَمِهِمُ الْكُبْرَى - وَهِيَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ - وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاجِزًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَعَجْزُهُ قَبْلَهَا أَظْهَرُ، وَنَاقَةُ صَالِحٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَسْبِهِ، وَلَمَّا رَأَى مُوسَى آيَتَهُ الْكُبْرَى وَهِيَ الْعَصَا إِذْ أَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، وَلَّى مُدْبِرًا خَائِفًا مِنْهَا، كَمَا تَرَى فِي سُورَتَيِ النَّمْلِ وَالْقَصَصِ.
وَأَمَّا آيَاتُ عِيسَى الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ فِعْلُهَا فَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا كَانَتْ بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِرَادَتِهِ، وَفِي رَسَائِلِ الْأَنَاجِيلِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللهَ - تَعَالَى - وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ بِطَلَبِهَا لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَقَدْ قَالَ الْيَهُودُ إِنَّهَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَأَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ يُورِدُونَ عَلَيْهَا شُبُهَاتٍ مِنْ غَرَائِبِ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَحْيِ
173
الْمُحَمَّدِيِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّ آيَاتِ مُوسَى كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا مَظْهَرًا، وَأَدَلَّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَأْيِيدِهِ لَهُ، لِإِيمَانِ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ السِّحْرِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِمُوسَى كَمَا كَانَتْ تِلْكَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِعِيسَى إِذِ اتَّخَذُوهُ بِهَا إِلَهًا، فَالَّذِينَ فُتِنُوا وَضَلُّوا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ الصُّورِيَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْحَقِيقِيِّ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَلَايِينَ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِاسْتِخْدَامِهِمْ لِلْجِنِّ، وَسَدَنَةِ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَوَظِيفَةَ رِسَالَاتِهِمْ.
(الْخَامِسَةُ: حُجَّةُ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِإِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ وَعَدَمِ طَلَبِ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِمْ) :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا هُنَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ - ٢٩ وَتَقَدَّمَ عَنْهُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِلَفْظِ الْأَجْرِ (وَمِنْهَا) عَنْ هُودٍ: - يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ - ٥١، وَرَاجِعْ مِثْلَ هَذَا عَنِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (٢٦: ١٠٩ و١٢٧ و١٤٥ و١٦٤ و١٨٠).
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِدَّةِ سُوَرٍ: الْأَنْعَامِ (٦: ٩٠) وَيُوسُفَ (١٢: ١٠٤) وَالشُّورَى (٤٢: ٢٣) وَنَصُّ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ تَبْشِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِرَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ: - ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ - وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا الْبَتَّةَ، سُنَّةَ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِكُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْمَدُونَهُ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ لِتَعَصُّبِهِمْ لِأَنْسَابِهِمْ، وَيُفَسِّرُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - ٣٤، ٧٤.
وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ جَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، وَفَسَّرُوا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبِي بِمَوَدَّةِ قَرَابَتِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصُّوهَا بِابْنِ عَمِّهِ عَلِيٍّ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، دُونَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَائِرِ ذُرِّيَّةِ أَعْمَامِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَاقِبِ وَدَوَاوِينِ الشِّعْرِ، وَجَعَلُوهُ عَهْدًا مِنَ اللهِ عَاهَدَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعِرَاقِ فِي عَصْرِهِ عَبْدُ الْبَاقِي الْعُمْرِيُّ:
وَعَهْدُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لِمَنْ بِهِ الْوَلَا قَدْ وَجَبَا
وَهَذَا التَّأَمُّلُ تَحْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ وَطَعْنٌ شَنِيعٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْرَاجِهِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَمِيعِ رُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِهِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ،
174
لَا يَسْأَلُونَ عَلَيْهِ أَجْرًا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِأُولِي قُرْبَاهُمْ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِطَلَبِ الْأَجْرِ لِأُولِي قُرْبَاهُ، (وَحَاشَاهُ) وَهَلْ يَسْعَى جَمِيعُ طُلَّابِ الدُّنْيَا إِلَّا لِذُرِّيَّاتِهِمْ؟ وَلِلتَّنَزُّهِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - الصَّدَقَةَ عَلَى آلِ رَسُولِهِ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَمَنْ كَانَ يُوَالِيهِمْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ إِخْوَتِهِمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَهُمْ، وَمُوَالَاةُ عَلِيٍّ وَآلِهِ وَاجِبَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّحْرِيفِ لِلْقُرْآنِ بِبَاطِلِ التَّأْوِيلِ لِلْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ اللَّاتِي هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ.
(السَّادِسَةُ: عِصْمَتُهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا) :
مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ - ١٢ الْآيَةَ.
الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا لَا يُبَلِّغُهُ، (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا - ٢٩ الْآيَةَ، وَالنَّفْيُ فِيهَا لِلشَّأْنِ، أَيْ: مَا كَانَ طَرْدُهُمْ مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنْ نَبِيٍّ مِثْلِي، فَأَنَا مَعْصُومٌ مِنْ إِجَابَتِكُمْ إِلَيْهِ فَلَا تَطْمَعُنَّ فِيهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ (٣٠) الَّتِي بَعْدَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِ الطَّرْدِ مِنْهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِ فِعْلِهَا أَنْ يَقَعَ، (وَمِنْهَا) قَوْلُ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - ٨٨ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا يَنْتَهِي هُوَ عَنْهُ، فَهُوَ لَا يُخَالِفُ رِسَالَتَهُ فِي شَيْءٍ، إِذْ لَوْ خَالَفَهَا لَدَحَضَ حُجَّتَهُ، وَنَقَضَ دَعْوَتَهُ، (وَمِنْهَا) قَوْلُهُ لَهُمْ: - وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ - ٩٣ الْآيَةَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَمْرَ اللهِ - تَعَالَى - وَنَهْيَهُ لَهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، وَوَعِيدَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ
الشَّامِلَ لَهُمْ وَلِأَقْوَامِهِمْ وَالْخَاصَّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِنُوحٍ - إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ - ٤٦ وَاسْتِعَاذَةِ نُوحٍ بِهِ - تَعَالَى - مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَوْعِظَةِ وَقَوْلِهِ: - وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ - ٤٧ وَحِكَايَتَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَعْمَلُونَ وَمَا يَتْرُكُونَ - كُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا اسْتِحَالَتُهُ، وَفِي بَعْضِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الذَّنْبِ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُ سُؤَالُ نُوحٍ رَبَّهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ، وَكَوْنُهُ مِنْ سُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
" قُلْتُ ": إِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَا سَمَّوْهُ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْعَقْلِ لَا بِالنَّقْلِ، وَتَأَوَّلُوا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِوُقُوعِ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ بَلْهَ الدَّالَّةِ عَلَى إِمْكَانِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ أَنَّهَا كَعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ مُنَافِيَةٌ لِطِبَاعِهِمْ، فَإِنَّ مِمَّا فُضِّلُوا بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَشَرٌ كَسَائِرِ الْبَشَرِ جُبِلُوا عَلَى الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَدَاعِيَةِ كُلٍّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَلَكِنَّهُمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِيهِ وَالْحُبِّ لَهُ، يُرَجِّحُونَ الطَّاعَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَلَكَةٍ رَاسِخَةٍ فِيهِمْ، يَعْصِمُهُمُ اللهُ
175
تَعَالَى - بِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكِتْمَانِ لِشَيْءٍ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْهُ، وَمِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الْمُنَافِيَةِ لِلرِّسَالَةِ، الْمُبْطِلَةِ لِلْحُجَّةِ، دُونَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، الَّذِي لَا يُخَالِفُ نَصَّ الْوَحْيِ، فَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَا كَانَ الْخَيْرُ وَالْكَمَالُ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ خِلَافُهُ بَيَّنَهُ اللهُ لَهُمْ تَعْلِيمًا، وَعَلَّمَهُمْ مَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِهِمْ تَرْبِيَةً وَتَكْمِيلًا، وَمِنْهُ اجْتِهَادُ نُوحٍ الَّذِي رَجَّحَ لَهُ بِالْحَنَانِ الْأَبَوِيِّ جَوَازَ دُخُولِ ابْنِهِ الْكَافِرِ فِيمَنْ وَعَدَهُ اللهُ بِنَجَاتِهِمْ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ مَمْنُوعٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ فَأَجَابَهُ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ أَخْذِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (٨: ٦٧) وَتَفْسِيرِ عِتَابِهِ عَلَى الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٤٣).
(السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ) :
(كَمَالُ إِيمَانِهِمْ وَثِقَتُهُمْ بِاللهِ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ وَشَجَاعَتُهُمْ وَيَقِينُهُمْ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ) :
هَذِهِ الْمَزَايَا الثَّلَاثُ ظَاهِرَةٌ أَوْضَحُ الظُّهُورِ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْ قِصَصِهِمْ، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَدِّي رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمٍ لِتَجْهِيلِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ الْمَوْرُوثَةِ وَدَعْوَتِهِمْ لِتَرْكِهَا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فِي حَقِّيَّتِهِ وَكَمَالِهِ، وَحَالِهِ وَمَآلِهِ، وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ عَاقِبَتِهَا، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِكُفْرِهِمْ بِهِ، وَسُخْرِيَتِهِمْ مِنْهُ وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُ، وَمُقَابَلَتِهِ لِذَلِكَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (٣٨ و٣٩) مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، وَمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (١٠: ٧١) الَّتِي صَرَّحَ لَهُمْ فِيهَا بِاعْتِصَامِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِجْمَاعِ أَمْرِهِمْ وَشُرَكَائِهِمْ وَالتَّثْبِيتِ فِيهِ وَالْقَضَاءِ إِلَيْهِ مِمَّا يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ بِدُونِ إِنْظَارٍ وَلَا إِمْهَالٍ، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَاتُ (٥٤ - ٥٧).
(الْعَاشِرَةُ) : إِنْذَارُهُمُ الْأَخِيرُ لِأَقْوَامِهِمْ وُقُوعَ عَذَابٍ سَمَاوِيٍّ يُهْلِكُهُمْ، وَيَقْطَعُ دَابِرَ الْمُعَانِدِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى جُحُودِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا بَلَّغُوهُمْ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا تَأْخِيرٍ وَلَا تَقْدِيمٍ، وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ لِعِقَابِهِمْ بِهِ.
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) : احْتِجَاجُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ عَلَى قَوْمِهِ بِمَا وَقَعَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ قَوْمِهِ، كَمَا تَرَى فِي إِنْذَارِ شُعَيْبٍ قَوْمَهُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (٨٩) وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ تَذْكِيرُ هُودٍ قَوْمَهُ بِقَوْمِ نُوحٍ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ تَذْكِيرُ صَالِحٍ بِقَوْمِ هُودٍ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ أَنْذَرَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمَهُ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بِأَمْرِهِ عِقَابًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِسُنَنِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي قِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَمَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - " الْإِسْلَامُ "
176
وَمِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَبْلِيغِهِمْ لَهُ وَهِدَايَتِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَضَلَالِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ - أَنَّهَا دَلَائِلُ وَاضِحَةٌ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْجَازِ كِتَابِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ، وَوُجُوهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ وَغَيْبِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا فِي " كِتَابِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ " تَفْصِيلًا.
(الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ) :
آيَاتُ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِهِمْ لَهُ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى إِدْرَاكِهِمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ.
(وَالثَّانِي) لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَالْجَزَاءُ قِسْمَانِ أَيْضًا: جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ، وَجَزَاءُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ الْمُجْرِمِينَ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِقِسْمَيْهِ أَلْوَانٌ مِنَ الْبَيَانِ الرَّائِعِ الْعَجِيبِ، وَأَسَالِيبُ فِي التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَالْقِسْمَيْنِ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا وَالْخِطَابِ بِهِمَا بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالْآيَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَأْثِيرُهُ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، يَجْعَلُ التَّكْرَارَ الضَّرُورِيَّ لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ غَيْرَ مُمِلٍّ لِلسَّمْعِ، وَلَا مُسْئِمٍ لِلطَّبْعِ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ مَا يَمْتَازُ بِهِ كَلَامُ الرَّبِّ الْمُعْجِزُ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ كَبِيرٍ: - إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - ٤ ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَكَرِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: - وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - ٧ فَالْآيَتَانِ مَنْ نَوْعِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مَعًا بِأَنَّ الْخَالِقَ الْقَدِيرَ، ذَا الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ، لَا تَظْهَرُ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ، وَسِرُّ حِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، إِلَّا بِاخْتِبَارِ عِبَادِهِ الَّذِينَ وَهَبَهُمُ الْعَقْلَ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ، الَّذِي تَتَجَلَّى بِهِ الْحِكْمَةُ فِي الْخَلْقِ، وَالْبَاطِلُ الْعَبَثُ بِخُلُوِّهَا مِنْهُ، وَبِالْجَزَاءِ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَحَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَهَذَا الْجَزَاءُ لَا يَكُونُ تَامًّا عَامًّا لِلْأَفْرَادِ فِي الدُّنْيَا لِقِصَرِ أَعْمَالِهِمْ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا.
وَإِنَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ فِي رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَكَرَّرَ فِيهِ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا أَكْثَرَ جِدَالًا مِنْ كُلِّ قَوْمٍ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَتَرَى بَعْدَهَا كُلَّ جِدَالِ نُوحٍ وَصَالِحٍ لِقَوْمِهِ فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ، وَزَادَ شُعَيْبٌ مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَانْحَصَرَ إِنْذَارُ لُوطٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ثُمَّ خَتَمَ اللهُ الْعِبْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِهَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا
177
وَعَدَمِ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ، وَبِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ عَادَ الْكَلَامُ كَمَا بَدَأَ فِي إِنْذَارِ مُشْرِكِي أُمِّ الْقُرَى وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُمْتَازَةِ: - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - ١٠٣ الْآيَاتِ - وَلَمَّا بَيَّنَ فِيهَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنْ فَرِيقِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَخُلُودَهُمْ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ، اسْتَثْنَى بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءً لَمْ يَسْبِقْ لَهُ فِيمَا قَبْلَهُ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ النَّارِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - ١٠٧ وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - ١٠٨.
حَارَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ فِيهِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ ; لِتَعَارُضِهِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي خُلُودِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَأْكِيدِ بَعْضِهَا بِكَلِمَةِ التَّأْيِيدِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، حَتَّى فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (٤: ٥٦ مَعَ ٥٧ و١٢١ مَعَ ١٢٢) وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (٦٤: ٩ مَعَ ١٠) وَفِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ (٩٨: ٦ مَعَ ٨) فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُؤَكِّدُ خُلُودَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِالتَّأْيِيدِ دُونَ خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، كَمَا يُؤَكِّدُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ سُوَرٍ: كَالنِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالطَّلَاقِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ.
وَمَثَلُ هَذِهِ الْفُرُوقِ لَا تَأْتِي فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ جُزَافًا أَوْ عَبَثًا أَوْ عَنْ غَفْلَةٍ كَكَلَامِ الْبَشَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حِكْمَةٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَنُكْتَةٌ فِي بَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ، وَلَا يَقْدِرُ
عَلَى الْغَوْصِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْخِضَمِّ وَاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ هَذِهِ الدُّرَرِ مِنْهُ إِلَّا الْجَامِعُ بَيْنَ أَسْرَارِ الْعِلْمَيْنِ - عِلْمِ حِكَمِ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ - وَلَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُمَا فِي ذَاتِهِمَا، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجَزَاءِ بِالْفَضْلِ فَوْقَ الْعَدْلِ الَّذِي يُضَاعَفُ مِنْ عَشَرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْجَزَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ فِيهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَقِفُ فِي طَرِيقِ هَذَا الْفَهْمِ عَلَى وُضُوحِهِ أَنَّ التَّأْيِيدَ أَكَّدَ بِهِ جَزَاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (٤١: ١٦٧ - ١٦٩) وَجَزَاءَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ٣٣: ٥٧ و٦٤) وَجَزَاءَ الْعُصَاةِ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: - وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - ٧٢: ٢٣ وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي جَعْلَ الْعِصْيَانِ هُنَا عَامًّا شَامِلًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَى الشِّرْكِ.
عَلَى أَنَّنَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْخُلُودِ وَالتَّأْيِيدِ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيَّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ لَفْظٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْيِيدِ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ النِّهَايَةِ فِي الْوُجُودِ وَإِنْ قُدِّرَتْ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ السِّنِينَ.
178
وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ تَأَوَّلُوهُ لِمُوَافَقَةِ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ مِنْ أَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ مَعَارَضٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَدْلِهِ، وَكَوْنِ الْعِقَابِ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَقْلًا وَنَقْلًا، وَكُنْتُ وَعَدْتُ بِأَنْ أَذْكُرَ هُنَا كُلَّ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْآنَ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَجَّهْتُ تَفْسِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّاهِرِ وَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٧ ص ٥٤ - ٨٦ ج٨ تَفْسِير ط الْهَيْئَةِ) وَهُوَ مَا بَسَطَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ دَلَائِلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْسَعُ وَأَكْمَلُ، وَإِرَادَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَلَا يُقَيِّدُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِمَا إِلَّا عِلْمُهُ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْمَوْضُوعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْقَدِيرِ) وَتَبِعَهُ السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق خَان فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ) فَلْيُرَاجِعْهُمَا مَنْ شَاءَ.
الْبَابُ الْخَامِسُ:
(فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَفِيهِ فَصْلَانِ) :
مُقَدِّمَةٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ:
لِلْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْأُدَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ مَنَاهِجُ وَأَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْعَادَاتِ حُسْنِهَا وَقَبِيحِهَا، كَمَا تَرَاهُ فِي كُتُبِ أَهْلِهَا مِنْ فَلْسَفَةٍ وَحِكَمٍ، وَأَدَبٍ وَتَرْبِيَةٍ، وَحِكَايَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ لِوَقَائِعَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ أَوْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، أَوْ خُرَافَاتِ الشَّيَاطِينِ وَالْجَانِّ، تَبَارَى فِي تَصْنِيفِهَا عُلَمَاءُ الشُّعُوبِ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا فَوَائِدُ لِقُرَّائِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَأَخْطَاءٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ تَهْتَدِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِكِتَابٍ مِنْهَا كَمَا اهْتَدَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَعِنْدَ الْأُمَمِ الْمُتَدَيِّنَةِ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ فِي أُصُولِ أَدْيَانِهَا وَآدَابِهَا يُعَزَّى بَعْضُهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَبَعْضُهَا إِلَى مَوَاعِظِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ سَلَفِهَا، وَأَعْلَاهَا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَتْ مَنْثُورَةً مُتَفَرِّقَةً، ثُمَّ جُمِعَتْ فِي دَوَاوِينَ مُرَتَّبَةٍ، فَمَا تَجِدُ مِنْ خَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ فَهُوَ مِنْ تَأْثِيرِ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَمَا حَفِظُوا وَفَقِهُوا مِنْهَا، وَمَا تَجِدُ مِنْ شَرٍّ وَبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ فَلْسَفَةِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإِضْلَالِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهَا، أَوْ تَحْرِيفِهِمْ لَهَا.
179
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلَا فِي مِنْهَاجِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَلَا فِي تَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ، وَلَا فِي تَأْثِيرِهِ فِيمَا يَحْمَدُهُ وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَلَا فِيمَا يَذُمُّهُ وَيَزْجُرُ عَنْهُ، فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِهَا عَقْلًا وَنَفْسًا وَخُلُقًا، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا تَصْنِيفًا وَوَصْفًا، فَمَنْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَتَدَبَّرَهُ، وَجَدَ كُلَّ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَخَيْرٍ وَفَضِيلَةٍ، وَبَرٍّ وَمَكْرَمَةٍ، حَاضِرًا فِي نَفْسِهِ، وَكُلَّ جَهْلٍ وَشَرٍّ كَانَ مُلْتَاثًا بِهِ أَوْ عُرْضَةً لَهُ كَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزًا كَثِيفًا،
أَوْ أَمَدًا بَعِيدًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ فِي سُوَرِهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِعَنَاوِينِهِ كَمَا يَجِدُهُ فِي أَبْوَابِ الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفَهَا عُلَمَاءُ الْبَشَرِ وَفُصُولِهَا، فَمَقَاصِدُهُ وَمَعَانِيهِ مَمْزُوجٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ سُوَرِهِ، طُوَالِهَا وَقِصَارِهَا، بَلْ فِي جُمْلَةِ آيَاتِهِ مِنْهَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرَتَّلُ بِنَغَمِهِ اللَّائِقِ بِهِ تَرْتِيلًا، وَيُتَعَبَّدُ بِتَدَبُّرِ مَا فَصَّلَهُ مِنْ آيَاتِهِ تَفْصِيلًا، فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا عَهِدَهُ الْبَشَرُ وَعَرَفُوهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهِدَايَةً وَتَأْثِيرًا، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُقْتَبَسًا مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِجْمَالُ كُلِّ سُورَةٍ فُسِّرَتْ فِيهِ بَعْدَ تَفْصِيلٍ. وَتَأَمَّلْهُ فِي فَصْلَيْ هَذَا الْبَابِ، وَمَا هُوَ بِبِدْعٍ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ.
يَقْرَأُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَكَادُونَ يَفْطِنُونَ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَجِبُ التَّأَسِّي بِهَا، وَمَسَاوِئِ الْكُفَّارِ الَّتِي يَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَنْفُسِ مِنْهَا، فَمَنْ قَرَأَ مِنْهُمْ تَفْسِيرَهَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ كَانَتْ أَشْغَلَ شَاغِلٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَبَاحِثِ الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُجَادَلَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْأَسَاطِيرِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ. وَمَنْ يَهُمُّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ صَارَ يَطْلُبُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ وَالتَّصَوُّفِ دُونَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي قَلَبَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا وَزَكَّى أَنْفُسَهَا وَسَوَّدَهَا عَلَى بَدْوِ الْعَالَمِ وَحَضَرِهِ مُنْذُ الْجِيلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِسْلَامِهَا، إِلَى أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ هِدَايَتِهِ وَأَدَبِهِ اشْتِغَالًا بِفَلْسَفَةِ الشُّعُوبِيَّةِ وَآدَابِهَا، أَوْ تَنَازُعًا فِي زِينَةِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانُوا يَبْعُدُونَ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالسِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا.
إِنَّنِي بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ تَفْسِيرَ السُّورَةِ وَنَشَرْتُهُ وَشَرَعْتُ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ تَأَمَّلْتُ السُّورَةَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، فَوَقَفْتُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهَا أَطْوَلَ مِنْ وَقَفَاتِي فِيمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَبْوَابِ، فَرَأَيْتُ فِي تَضَاعِيفِ الْآيَاتِ مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا، وَمِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ فِي وَسَطِهَا، عِشْرِينَ مَسْأَلَةً أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمِثْلَهَا فِي فَسَادِ النَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَاجْتِنَابِ الْهُدَى، بَعْضُهَا يَخُصُّ الْعَقْلَ وَالْفَهْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْخَلْقَ وَالْعَادَةَ وَالْأَعْمَالَ ; لِهَذَا جَعَلْتُ هَذَا الْبَابَ فِي فَصْلَيْنِ أَسْرُدُ فِيهِمَا مَا لَاحَ الْآنَ لِفَهْمِي مِنْهَا.
180
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) :
(فِي مَسَاوِئِ النَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْعَادَاتِ وَفِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً) :
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَسَارَةُ النَّفْسِ) :
أَبْدَأُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةً تَابِعَةً لِمَفَاسِدَ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَهَا لِغَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا عَنْهَا، عَلَى تَكْرَارِ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَانْفِرَادِهِ دُونَ جَمِيعِ كُتُبِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِهَا، فَقَالَ هُنَا فِي الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا، الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِانْتِفَاعِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ: - أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ - ٢١ و٢٢ ثُمَّ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلَ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى هَذِهِ الْخَسَارَةِ هُنَا يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ فِطْرَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ فَسَدَتْ كُلُّهَا فَفَقَدَتِ اسْتِعْدَادَهَا الْخَاصَّ بِهَا إِلَخْ، أَرَأَيْتَ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ لَهُ؟ أَيُغْنِي عَنْهُ رِبْحُ تِجَارَتِهِ وَكَثْرَةُ مَالِهِ وَجَاهُهُ بِالْبَاطِلِ؟ كَلَّا، إِنَّكَ تَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْكَبِيرَةِ الْمُرْعِبَةِ بِاسْتِعْمَالِ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ لَهَا مَا لَا تَفْهَمُهُ مِنْ مِثْلِ تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ، يَقُولُونَ فِيمَنْ فَسَدَ خُلُقُهُ وَضَاعَ شَرَفُهُ وَصَارَ مَهِينًا مُحْتَقَرًا: فُلَانٌ خَسِرَ - أَيْ ذَهَبَتْ مَزَايَاهُ وَفَضَائِلُهُ حَتَّى لَمْ تَبْقَ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوُجُودِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَهُمَا أَوَّلُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ) :
وَهَذَا مَعْنًى يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَرَّرَهُ الْقُرْآنُ كَثِيرًا بِأَسَالِيبَ بَلِيغَةٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي أَهْلِهَا: - مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - ٢٠ وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ سَمَاعَهَا وَلَمْ يَصْغُ لَهَا، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا آيَاتِ اللهِ وَحُجَجَهُ فِي كِتَابِهِ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ السَّمْعِ لَهُ إِذَا تُلِيَ، لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ فَيُحَوِّلَهُمْ عَمَّا كَانُوا فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا
عَلَيْهَا - ٢٥: ٤٢ وَلَوْ أَلْقَوُا السَّمْعَ لَمَا سَمِعُوا سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، وَلَوْ سَمِعُوا لَمَا عَقَلُوا وَفَقِهُوا كَمَا وَصَفَهُمْ فِي الْأَنْفَالِ (٨: ٢١ - ٣٣) وَقَالَ هُنَا حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ - ٩١ وَكَذَلِكَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ إِذَا هُمْ نَظَرُوا دَلَائِلَهَا وَمِنْهَا رُؤْيَةُ الْمُصْطَفِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: - وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ - ٧: ١٩٨.
181
وَوَضَحَ هَذَا بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِيهِمَا: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ) :
وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَفَّارَ بِهَذَا الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: - أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ - ٦٢ وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِهِ قَالَ: - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - ١١٠ أَكَّدَ شَكَّ قَوْمِ مُوسَى فِي كِتَابِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا - إِلَى قَوْلِهِ: - إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - ٢: ٢٣ إِنَّكُمْ فِي رَيْبٍ مِنْهُ، فَكَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الرَّيْبِ. وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا فِي الْكَفَّارِ كَوَصْفِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبِالْخَرْصِ وَنَفْيِهِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ شَوَاهِدُ فِي وَصْفِ حَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ قِصَصِهِمْ دَالَّةً عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِسْلَامِ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَفِقْهِ الشَّرَائِعِ وَبَرَاهِينِ الْعَقَائِدِ، وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ وَالتَّقْلِيدُ يَصُدُّهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ؟ !
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّقْلِيدُ) :
الْمُرَادُ مِنْهُ اتِّبَاعُ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ أَوْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فِيمَا لَا يَعْرِفُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَخَيْرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ، وَمَصْلَحَةٌ أَمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَصْلُ التَّقْلِيدِ فِي اللُّغَةِ تَحْلِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالْقِلَادَةِ، أَوِ الرَّجُلِ بِالسَّيْفِ، أَوِ الْهَدْيِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ (وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَا يَهْدِيهِ مُرِيدُ النُّسُكِ إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ) وَتَقْلِيدُهُ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهِ جِلْدَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، يُقَالُ: قَلَّدَهُ السَّيْفَ أَوِ الْعَمَلَ فَتَقَلَّدَهُ، وَقَوْلُهُمْ: قَلَّدَ فُلَانٌ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا. مَعْنَاهُ: جَعَلَ رَأْيَهُ وَظَنَّهُ الِاجْتِهَادِيَّ فِي الدِّينِ قِلَادَةً لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَقَلَّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَعَرَّفَ
الْفُقَهَاءُ التَّقْلِيدَ بِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلِيلَهُ، وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْمَعْرُوفُونَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَ أَحَدًا إِلَّا فِيمَا عَرَفَ دَلِيلَهُ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَالْعَالِمُ مُبَيِّنٌ لِلْحُكْمِ لَا شَارِعَ لَهُ، وَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَأْنُ الطِّفْلِ مَعَ وَالِدَيْهِ وَالتِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّاشِدِ الْمُسْتَقِلِّ، وَلَكِنَّ الْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْعَامَّةَ مَعَ الزُّعَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، كَالْأَطْفَالِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأَمَّا تَلَقِّي النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ عَنْ نَاقِلِيهَا فَهُوَ لَيْسَ بِتَقْلِيدِهِمْ، وَكَذَا أَخْذُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ عَنْ مُتْقِنِيهَا. وَأَمَّا تَشَبُّهُ الشَّرْقِيِّينَ بِالْإِفْرِنْجِ فِيمَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا تَعْظِيمُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلَا سِيَّمَا أَزْيَاءُ النِّسَاءِ وَالْعَادَاتُ فَكُلُّهُ مِنَ التَّقْلِيدِ الضَّارِّ، الدَّالِّ عَلَى الصَّغَارِ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَنْكَرَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ جُمُودَ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يُقَلِّدُوا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ
182
عَصْرِهِمْ وَيَسُنُّوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ تَقْلِيدَهُمْ، بَلْ لِيَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ فِي طَلَبِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ - ٥: ١٠٤ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُجْتَمِعَةٍ.
وَفِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا التَّقْلِيدِ عَنْ ثَمُودَ: - قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا - ٦٢ وَعَنْ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - ٨٧؟.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَعُودَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّقْلِيدِ - لَا تَقْلِيدَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ - بَلْ تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى فِيمَا ابْتَدَعُوا أَوْ قَلَّدُوا أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالنَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لِيَقُولُنَّ لَيْسَ هَذَا بِعِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ، بَلْ تَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ؟ ! فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ لِأَجْلِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَقْلِيدُهُمْ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ أَوْ يُقِرُّهُ مِنْ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ وَمَشَايِخِ الطُّرُقِ، فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمُخْتَصُّونَ بِفَهْمِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ. وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ لَقَبِلَهَا مِنْ مُقَلِّدِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يَظْلِمُ وَلَا يُحَابِي بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ.
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ) :
الِاخْتِلَافُ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا لَا تَظْهَرُ مَزَايَا نَوْعِهِمْ بِدُونِهِ، وَفِيهِ غَوَائِلُ وَمَضَارُّ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا التَّفَرُّقُ وَالتَّعَادِي بِهِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِلَافِ أَيْضًا، فَاسْتَحَقَّ الَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ وَثَوَابَهُ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ سُخْطَهُ - تَعَالَى - وَعِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ ١١٩ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَنُعِيدُ ذِكْرَهَا فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَعْمَالِ، تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي الْعَدَدِ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتِّبَاعُ الْإِتْرَافِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ) :
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَسْبَابَ النَّفْسِيَّةَ لِهَلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْنَا أَنْبَاءَ
183
إِهْلَاكِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ (١١٦) مِنْ أَجْمَعِهَا لِلْمَعَانِي، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا أَنَّ مَثَارَ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ الْمُوجِبَ لِهَلَاكِ أَهْلِهَا هُوَ اتِّبَاعُ أَكْثَرِهِمْ لِمَا أُتْرِفُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ مُفْسِدُوا الْأُمَمِ وَمُهْلِكُوهَا. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُوَرِ الْإِسْرَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَسَبَأٍ وَالزُّخْرُفِ وَالْوَاقِعَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَضْمُونَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ وَوَقَائِعُ التَّارِيخِ، وَإِنَّ كُلَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي عَصْرِنَا فَمَثَارُهُ الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ وَاتِّبَاعُ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِتْرَافُ، مِنْ فُسُوقٍ وَطُغْيَانٍ وَإِفْرَاطٍ وَإِسْرَافٍ.
عَلِمَ هَذَا الْمُهْتَدُونَ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَكَانُوا مَثَلًا صَالِحًا فِي الِاعْتِدَالِ فِي الْمَعِيشَةِ، أَوْ تَغْلِيبِ جَانِبِ
الْخُشُونَةِ وَالْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ، عَلَى الْخُنُوثَةِ وَالْمُرُونَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَسَهُلَ لَهُمْ فَتْحُ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ أَضَاعَهَا مَنْ خَلَفَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ، فَانْظُرْ كَيْفَ اهْتَدَى السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَبَيَانِ السُّنَّةِ لَهُ إِذْ خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَالْحِكْمَةِ. ثُمَّ كَيْفَ ضَلَّ الْخَلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَفَادُوا الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ وَالْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ بِهِ؟
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْعَاشِرَةُ) :
(ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ فَرَحُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ) :
تَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْآيَاتِ الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعَاشِرَةَ، وَاقْرَأْ تَفْسِيرَهَا فَإِنَّهَا تُصَوِّرُهَا لَكَ مَاثِلَةً أَمَامَ عَيْنَيْكَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَعْرِضَانِ لِلْمُتْرَفِ الْخَوَّارِ، وَالْكَفُورِ الْخَتَّارِ، إِذَا أَذَاقَهُ اللهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، إِذْ يُنْسِيهِ فَرَحُ الْبَطَرِ الِاعْتِبَارَ وَشُكْرَ الْمُنْعِمِ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ بِذَنْبِهِ نِعْمَةٌ كَانَ ذَاقَهَا مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، إِذْ يَخُونُهُ الصَّبْرُ فَيَيْأَسُ مِنْ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَثْنَى الصَّابِرِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، تَجِدُ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، مَا لَا تَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْمُطَوَّلَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: حَصْرُ الْإِرَادَةِ فِي شَهَوَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا دُونَ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا) :
خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْإِنْسَانَ مُسْتَعِدًّا لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا حَدَّ لَهَا، فَجَعَلَهُ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - ٢: ٣١ وَلِذَلِكَ تَرَى النَّاسَ يَبْحَثُونَ عَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاوَاتِ، مِنْ كَشْفٍ عَنْ قُطْبَيِ الْأَرْضِ وَشَنَاخِيبِ أَعْلَى الْجِبَالِ،
184
وَغَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، وَتَحْلِيقٍ فِي أَقْصَى مُحِيطِ الْهَوَاءِ، بَلْ تَجَاوَزُوا كُلَّ هَذَا إِلَى رُؤْيَةِ مَا فَوْقَهُ مِنْ شُمُوسٍ وَأَقْمَارٍ، وَمَا تَتَأَلَّفُ مِنْهُ مِنْ ضِيَاءٍ وَأَنْوَارٍ، وَمَا فِيهَا مِنْ عَجَائِبَ وَأَسْرَارٍ، وَيَبْذُلُونَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْحَيَاةَ
أَيْضًا، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِفِطْرَتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ الْأَعْلَى بِاللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَمَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةَ كَشْفٍ وَرُؤْيَةٍ بِالْبَصَائِرِ يُغْشِي نُورُهَا الْأَبْصَارَ، بِالتَّجَلِّي الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ أَكْثَرُ الْحُجُبِ وَالْأَسْتَارِ، بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلَا حَدٍّ وَلَا انْحِصَارٍ، فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، الْمُقَيَّدَةِ فِيهَا أَرْوَاحُهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْبَاحِ الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَإِنَّ لَهُ - تَعَالَى - هُنَالِكَ لَتَجَلِّيَاتٍ لِعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ، كَمَا تَجَلَّى كَلَامُهُ فِي الدُّنْيَا لِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِمَا يَعْلُو كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. أَفَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْدَادِ الْعُلْوِيِّ الْعَظِيمِ، أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْإِنْسَانَ إِرَادَتَهُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَزِينَتِهَا الْجَسَدِيَّةِ، فَيَكُونُ مُنْكِرًا أَوْ كَالْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ؟ بَلَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - ١١: ١٥ و١٦ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : وَمَا تَفْعَلُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ - ٧: ٣٢ الْآيَةَ؟
(قُلْتُ) : إِنَّمَا كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ بِالْكَسْبِ وَسُنَنِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَشْكُرُونَهَا لِلَّهِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهُ فَتَكُونُ إِرَادَتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَيْفَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: - وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ٦: ٥٢، - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ - ١٨: ٢٨ فَالْمُؤْمِنُ الشَّاكِرُ الصَّابِرُ تَزِيدُهُ النِّعَمُ شَوْقًا إِلَى اللهِ وَحُبًّا، وَالشَّدَائِدُ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَقُرْبًا.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ازْدِرَاءُ الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، لِلْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) :
كَانَ الْمَلَأُ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنَ الْأَقْوَامِ، الْمَغْرُورُونَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، هُمْ أَوَّلُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ غَضًّا مِنْ عَظَمَتِهِمْ، وَخَفْضًا مِنْ عُلُوِّ رِيَاسَتِهِمْ، وَوُقُوفًا مَعَ الدَّهْمَاءِ، حَتَّى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، فِي صَفِّ
التَّابِعِينَ لِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعْلِهِمْ مِثْلَهُمْ مَرْءُوسِينَ لَهُمْ، كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْ جَوَابِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ - ١٠: ٧٨؟
185
كَمَا كَانَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَكَذَا الْوَسَطُ، وَلِهَذَا كَانَ الْكُبَرَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ يَزْدَادُونَ إِعْرَاضًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَاوَةً لَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ التَّنْزِيلُ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَمِنْهُ قِصَّةُ نُوحٍ: - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ - إِلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا - ٢٧ - ٣١ وَمِنْهُ تَهْدِيدُ مَدْيَنَ لِرَسُولِهِمْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّجْمِ هُنَا لَوْلَا رَهْطُهُ، وَتَهْدِيدُهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالنَّفْيِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَمِنْهُ تَهْدِيدُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ بِرَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْ وَطَنِهِ، وَقَدْ فَعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلِّ مَنْ يُرْشِدُ الشُّعُوبَ إِلَى مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَالرِّيَاسَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَهَذَا الْإِرْشَادُ الرَّبَّانِيُّ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - عَامٌّ دَائِمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غِنَى عَنْهُ. وَقَدْ غَفَلَ أَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَبِغْيُهَا عِوَجًا) :
كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُعَانِدُونَ لِلرُّسُلِ يَسْتَهْزِئُونَ بِدَعْوَتِهِمْ وَيَزْدَرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرُوا وَخَافُوا مِنْهُمْ قُوَّةَ الْكَثْرَةِ طَفِقُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، أَيِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا يُحِبُّهُ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، يَصُدُّونَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ أَسْبَابِ الصَّدِّ كَالْإِهَانَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّعْذِيبِ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَزْيِينِ الْعَصَبِيَّةِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْغِنَى لِلْأَقْوِيَاءِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ يَطْلُبُونَ جَعْلَهَا مُعْوَجَّةً بِذَمِّهَا وَادِّعَاءِ بُطْلَانِهَا وَضَرَرِهَا، وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي الْآيَةِ ١٩ مِنْ سِيَاقِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا وَفِي سُورَتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَعْرَافِ، وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَيْضًا إِذْ كَانَ قَوْمُهُ يَقْعُدُونَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ دَعْوَتِهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ وَصْفِهَا بِالْعِوَجِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى هَذَا الزَّمَانِ.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَدَاوَةُ بِالْكَيْدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلرُّسُلِ) :
جَاءَ فِي قِصَّةِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ: - فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ - ٥٥ فَقَدْ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْكَيْدَ مِنْهُمْ. وَهَلْ كَانَ وَقَعَ لَهُ فَقَاسَ الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى الْمَاضِي أَمْ عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِمْ، أَمْ فَرَضَ وُقُوعَهُ فَرْضًا وَأَنْبَأَهُمْ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِ؟ كُلُّ جَائِزٍ.
وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ: - وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - ٩١ وَفِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ هَذَا دَأْبُ الْمُفْسِدِينَ فِي عَدَاوَةِ الْمُصْلِحِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشَدُّهُمْ كَيْدًا لَهُمْ أَهْلُ الْحَسَدِ وَالْبِدَعِ مِنْ لَابِسِي لِبَاسِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
186
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى) :
الدِّينُ فِي حَقِيقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَعُرْفِ جَمِيعِ الْمِلَلِ تَشْرِيعٌ إِلَهِيٌّ مَوْضُوعُهُ مَعْرِفَةُ اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتُهُ وَشُكْرُهُ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَهْذِيبُهَا بِاجْتِنَابِ الشَّرِّ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى إِلَخْ. وَمَصْدَرُهُ وَحْيُهُ - تَعَالَى - لِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَتَبْلِيغُهُمْ لِمَا ارْتَضَاهُ وَشَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ - تَعَالَى - أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ عِبَادَةً وَلَا حُكْمًا دِينِيًّا مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ، سَوَاءٌ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِالْقَوْلِ أَمْ لَا، لِأَنَّ كُلَّ مَا يُتَّخَذُ دِينًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ وَادِّعَاءِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَلَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا.
سَبَقَ بَعْضُهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا وَلَا سِيَّمَا الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَالتَّوْبَةُ وَيُونُسُ، وَمِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا - ١٨ الْآيَةَ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا مَا، وَمِنْهُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عَقِيدَةٍ وَعِبَادَةٍ وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَهُوَ شِرْكٌ بِاللهِ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَبِهَذَا كَانَ أَشَدَّ جُرْمًا وَكُفْرًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: - وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - ٧: ٣٣ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ ابْتِدَاعُ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الدِّينِ شِرْكًا وَكُفْرَانًا، إِذِ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَهَا عِبَادَةً يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابًا، وَيُسَمُّونَ مُبْتَدِعِيهَا أَوْلِيَاءَ اللهِ وَأَحْبَابًا، وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا.
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ) :
(وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُمْ وَوَصْفُهُمْ بِالسِّحْرِ) :
اقْرَأْ فِي مَسْأَلَةِ السِّحْرِ الْآيَةَ السَّابِعَةَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْحَقِّ وَمَا أَنْذَرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ الثَّامِنَةَ وَكِلَاهُمَا فِي قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَفِي السُّخْرِيَةِ الْآيَةَ (٣٨) فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَتِ الشَّوَاهِدُ فِي صِفَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمَغْرُورِينَ بِزَعَامَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَإِتْرَافِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِلضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي الْمَسَائِلِ (١١ - ١٤) وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا نُطِيلُ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فِي عَصْرِنَا).
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْتِقَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا) :
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ غَرِيزَةَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْخَلْقِ هُوَ مَصْدَرٌ غَيْبِيٌّ لِلنَّفْعِ وَالضَّرِّ بِذَاتِهِ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى الْمَعْبُودِ النَّافِعِ الضَّارِّ بِقُدْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ
187
غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ، وَأَنَّ سَبَبَ الشِّرْكِ تَوَهُّمُ أَنَّ بَعْضَ مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِ أَوْ بِوَسَاطَتِهِ عِنْدَ الرَّبِّ ذِي الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. فَالشِّرْكُ دَرَكَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَسْفَلُ مِنَ الْأُخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ هُودٍ كَانُوا فِي الدَّرَكَةِ السُّفْلَى إِذْ قَالُوا لَهُ: - إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ - ٥٤ وَأَمَّا قَوْمُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ ارْتَقَوْا عَنْ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ السُّفْلَى، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَكِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقُولُونَ: - مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى - ٣٩: ٣ وَتَجِدُ أَمْثَالًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي مُدَّعِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَنْ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِخُرَافَتِهِمْ وَتَصَرُّفِ أَوْلِيَائِهِمْ فِي الْعَالَمِ: إِنَّ الْوَلِيَّ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ عَطَبَهُ، (وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ وَالْكَلَامَ فِي التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ).
كُلُّ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَالْمَخَازِي الْمُبَيَّنَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَ عَشْرَةَ هِيَ مِنْ فَسَادِ الْعَقَائِدِ وَصِفَاتِ النَّفْسِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا الرَّذَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي اشْتَهَرَ بِهَا أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ فَأَجْمَعُهَا لِلْفَسَادِ إِسْرَافُ بَعْضِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِسْرَافُ آخَرِينَ فِي الطَّمَعِ الْمَالِيِّ، وَتَجِدُ فِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا الْمَسْأَلَتَيْنِ ١٨ و١٩.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ شَهْوَةِ اللِّوَاطِ وَإِعْلَانُ الْمُنْكَرَاتِ) :
وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْ قَوْمِ لُوطٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَاتُ ٧٧ وَمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَخَازِيهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
(الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) :
وَهُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَالْعُثُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِحُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ ٨٤ - ٨٨.
(الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ) :
الطُّغْيَانُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ ظُلْمٌ، وَهُمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، فَاجْتِنَابُهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ الِاسْتِقَامَةُ بِدُونِهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى الْأَمْرِ بِهَا بِقَوْلِهِ: - وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - ١١٢ و١١٣ إِلَخْ، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ " وَأَوْرَدْنَا فِيهِ أَقْوَالَ أَشْهَرِ الْمُفَسِّرِينَ فَرَاجِعْهُ فِي (ص ١٤٠ - ١٥٣ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الظُّلْمُ) :
جَرِيمَةُ الظُّلْمِ أُمُّ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ ظُلْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بَدَنًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَدُنْيَا،
188
وَظُلْمُهُ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَةً وَأُمَّةً، فَكُلُّ مَا سَبَقَ مِنَ الرَّذَائِلِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ إِهْلَاكَ أُولَئِكَ الْقُرُونِ عِقَابًا عَلَى الظُّلْمِ، وَتَرَى بَيَانَ هَذَا فِي آخِرِ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الرَّذَائِلِ يَدْخُلُ فِي بَابِ قِسْمِ الْمُحْرِمَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الرُّكْنِ الْعَمَلِيِّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَضْدَادِهَا، وَأَمَّا قِسْمُ الْمَأْمُورَاتِ فَهُوَ مَا نَرَاهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ:
(الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ) :
(فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ) :
قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالتَّثْبِيتِ عَلَيْهَا بِقِصَصِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا مَعَ أَقْوَامِهِمْ، مِمَّا يَفْهَمُهُ مُشْرِكُو قَوْمِهِ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ مَوْضُوعُهَا بَيَانَ تَفْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْهَا - عَلَى قِلَّتِهِ - كَثِيرٌ فِي مَعْنَاهُ وَفَائِدَتِهِ، وَلَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَمَا يَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعِصْمَةِ، مَا يَكْفِي الْمُتَدَبِّرِينَ لَهُ الْمُتْعَبِرِينَ بِهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعْلِهِمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ وَإِرْشَادِهِ عِبَادَهُ، فَالْفَضَائِلُ فِيهَا قِسْمَانِ، نَسْرُدُ لِقَارِئِي هَذَا التَّفْسِيرِ مَا فَهِمْنَاهُ مِنْ مَسَائِلِهِمَا وَالشَّوَاهِدَ عَلَيْهَا جَمِيعًا وَهِيَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ أَيْضًا.
(الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: اسْتِغْفَارُ الرَّبِّ، وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ) :
هَاتَانِ فَضِيلَتَانِ، فَرِيضَتَانِ، مُتَلَازِمَتَانِ فَكَأَنَّهُمَا وَاحِدَةٌ، جَاءَ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، عَقِبَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كُرِّرَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِهِ فِي الْآيَاتِ (٥٢ و٦١ و٩٠) فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا عَامًّا عَلَى أَلْسِنَةِ سَائِرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَنَذْكُرُ فَائِدَتَهُمَا الْعُمْرَانِيَّ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
(الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ) :
ذُكِرَ الصَّبْرُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: - فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ - ٤٩ ثُمَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - ١١٥ فَالصَّبْرُ هُوَ الْخُلُقُ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ.
189
(الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُطْلَقُ) :
ذُكِرَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الصَّبْرِ فِي آيَتِهِ الْأُولَى (١١)، ثُمَّ ذُكِرَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ (٢٣) وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إِجْمَالِ الْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِحْسَانُ الْعَمَلِ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ابْتِلَاءِ الْبَشَرِ.
(الْخَامِسَةُ: الْإِخْبَاتُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ) :
ذُكِرَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي آيَتِهِ الثَّانِيَةِ (٢٣) وَيَا لَهَا مِنْ فَضِيلَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْفُرْقَانِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي (ص ٤٩).
(السَّادِسَةُ: الِاسْتِقَامَةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى) :
أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِقَوْلِهِ: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - ١١٢ فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَ قِصَصِ الرُّسُلِ فَذْلَكَةً لِفَوَائِدِهَا، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (فِي مَوْضِعِهِ بِهَذَا الْجُزْءِ) وَمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهَا.
(السَّابِعَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ) :
جَاءَ الْأَمْرُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَعَلَّلَهُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي تَكْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الرُّوحِيَّةِ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ، إِرْشَادًا لِأُمَّتِهِ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَطْهِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، فِي أَثَرِ كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِمَّا يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا.
فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَحْقِيقَ مَعْنَى هَذَا التَّطْهِيرِ فِيهِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّفْسِ.
(الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَيَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاحِ فِيهَا) :
(وَهُمَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) :
بَعْدَ أَنْ بَيْنَ اللهُ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ كُتُبِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَادًا، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
بَيَّنَ لَهُمْ مَا هُوَ مَنْجَاةٌ لِلْأُمَّةِ وَالشَّعْبِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وُجُودُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ فِيهَا تَنْهَاهَا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - ١١٦ وَبَيَّنَ لَنَا عَقِبَ هَذَا فِي الْآيَةِ أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي أَهْلَكَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمْ
190
مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْإِتْرَافِ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
وَصَرَّحَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (١١٧) بِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى " بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ " فِي الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُمَمِ بـ الْقُرَى وَهِيَ عَوَاصِمُ مُلْكِهَا ; لِأَنَّهَا مَأْوَى الزُّعَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ الَّذِينَ تَفْسُدُ الْأُمَمُ بِفَسَادِهِمْ، وَتَصْلُحُ بِصَلَاحِهِمْ، وَهِيَ حَقَائِقُ فَسَّرَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّنَا لَنَرَى مِصْدَاقَهَا بِأَعْيُنِنَا. وَالَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يُفَقِّهُونَ مَا فِيهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ، وَلَابُدَّ مِنَ التَّكْرَارِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.
فَهَذِهِ التِّسْعُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ تَكْفِي مَنْ تَدَبَّرَهَا عِلْمًا وَعِرْفَانًا، وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي السُّورَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ فِيهَا مِنْ سِيرَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُطَالَبُونَ مَعَهُمْ بِهَا فَنُشِيرُ إِلَيْهَا تَتِمَّةً لِلْعَدَدِ.
(الْعَاشِرَةُ: الْبَيِّنَةُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدِّينِ) :
إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْآيَاتِ، يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِيهَا كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَاتَمُهُمْ: - قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي - ١٢: ١٠٨ فَبَصِيرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْتَبَسَةٌ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ، تَلَقَّاهُ هُوَ مِنْ وَحْيِ اللهِ، وَتَلَقَّيْنَاهُ نَحْنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ وَرَبِّنَا - عَزَّ وَجَلَّ - مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مِنْ نُورِهِ، مَنْ يَتَلَقَّى عَقِيدَتَهُ وَعِبَادَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ) :
قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ - ٢٨ فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَلَّغَهَا أَوَّلُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْمِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ: - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - ١٠: ٩٩ وَمِنْ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِمْكَانِ الْإِكْرَاهِ فِي عَهْدِ الْقُوَّةِ: - لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ - ٢: ٢٥٦ أَنَّ دَعْوَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى تَقُومُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ، لَا كَمَا فَعَلَ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَلَا تَزَالُ تَفْعَلُ بَعْضُ دُوَلِهِمْ مِنْ نَشْرِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْقُوَّةِ، أَوْ بِالْخِدَاعِ وَالْحِيلَةِ، فَعَلَى
191
كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ، وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ كَمَا أَمَرَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
(الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الِاحْتِسَابُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الدَّعْوَةِ دُونَ التِّجَارَةِ بِهَا) :
تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَنَّ دَعْوَتَهُمْ وَهِدَايَتَهُمْ كَانَتْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ لِأَقْوَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُمْ عَلَيْهَا مَالًا وَلَا أَجْرًا، كَمَا رَأَيْتَ فِي الْآيَتَيْنِ ٢٩ و٥١ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَّرْنَاكَ بِمِثْلِهِمَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، فَعَلَى كُلِّ دَاعٍ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ فِي دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ مُخْلِصًا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَبْتَغِي بِهَا مَالًا وَلَا جَاهًا فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَالَ لِمُسَاعَدَةِ الدُّعَاةِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ لَهُمْ: - وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - ٥: ٢.
(الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وِلَايَةُ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَائِهِمْ كَكُبَرَائِهِمْ) :
تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْ أَخَصِّ فَضَائِلِهِمْ، وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهَا بِمَا رَدَّ بِهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَشْرَافِ قَوْمِهِ إِذْ طَعَنُوا عَلَى أَتْبَاعِهِ وَلَقَّبُوهُمْ بِأَرَاذِلِهِمْ فِي الْآيَاتِ (٢٧ - ٣٠) وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَنَاهِيكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِسُورَةِ الْأَعْمَى " عَبَسَ " فَفِيهَا الْعِبْرَةُ الْكُبْرَى لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمِنْ صِفَاتِهِمْ فِي السُّنَّةِ: " الْمُسْلِمُونَ
ذِمَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " إِلَخْ، وَأَنَّهُمْ " كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَكَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَبِهَذَا يَكُونُونَ الْآنَ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ أُمَّةً قَوِيَّةً فِي قِتَالِهِمْ وَسِلْمِهِمْ، فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟
(الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: النَّصِيحَةُ الْعَامَّةُ) :
كَانَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كُلُّهُمْ نَاصِحِينَ لِأَقْوَامِهِمْ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ النُّصْحِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَوْلَهُ: - وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي - ٣٤ الْآيَةَ، وَفِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ لِقَوْمِهِ: - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - ٧: ٦٢ وَفِي قِصَّةِ هُودٍ مِنْهَا - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ - ٧: ٦٨ وَفِي قِصَّةِ صَالِحٍ مِنْهَا: - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ - ٧: ٧٩ وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْهَا: - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ - ٧: ٩٣ وَقَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، دِينِ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ؟ !.
192
(الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ وَحُدُودُ السَّعْيِ لِخَيْرِهِمْ) :
مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ فَضِيلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلِ الْغَرِيزَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَحُقُوقُهُمْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ بِمَا يُحَدِّدُ دَوَاعِي الْغَرِيزَةِ وَالطَّبْعِ، وَيَقِفُ بِهَا دُونَ الْغُلُوِّ الْمُفْضِي إِلَى عِصْيَانِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ هَضْمِ حُقُوقِ عِبَادِهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهِ إِرْشَادٌ وَهَدْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، فَهَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ؟
(السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ وَحِفْظُ كَرَامَتِهِ) :
فِي خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُبَشِّرِينَ لَهُ بِإِسْحَاقَ وَعِنَايَتِهِ بِضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مَعَهُمْ وَشَدَّةِ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِهِمْ مِنْ شَرِّ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ
مَلَائِكَةٌ جَاءُوا لِتَعْذِيبِهِمْ - خَيْرُ أُسْوَةٍ فِي فَضِيلَةِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَتَكْرِيمِهِ، وَقَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " وَقَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
(السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ وَالِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ) :
هَذِهِ فَضِيلَةٌ هِيَ فَرِيضَةٌ ثَابِتَةٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ تُؤَيِّدُهَا بَدَاهَةُ الْعَقْلِ، وَهِيَ شَرْطٌ طَبِيعِيٌّ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَالْإِرْشَادِ مِنَ الْقَائِمَيْنِ بِهِ، وَرُسُلُ اللهِ - تَعَالَى - أَئِمَّةُ الْهُدَى فِيهَا، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا قَوْلُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْمِهِ: - وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ - ٨٨ وَإِنَّهَا لَعِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مَوْضُوعِهَا فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا، وَمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، كَأَوَّلِ سُورَةِ الصَّفِّ، وَآيَةُ: - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ - ٢: ٤٤ إِلَخْ. وَانْظُرْ أَيْنَ تَجِدُ عُلَمَاءَ عَصْرِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ؟
(الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْإِصْلَاحُ الْعَامُّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ) :
مَا شَرَعَ اللهُ الدِّينَ لِلْبَشَرِ إِلَّا لِيَكُونُوا صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُصْلِحِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ (٨٨) وَهِيَ. - إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ - وَهُوَ أَبْلَغُ الْبَيَانِ وَأَعَمُّهُ وَأَتَمُّهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
(التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِقَامَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ) قَالَ - تَعَالَى -: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - ١١٢ وَأَهَمُّهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَمِنْ شَوَاهِدِهَا هُنَا: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ - ١١٤ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
193
(الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) :
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَحْثِ التَّوْحِيدِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي صِفَاتِ الرُّسُلِ مِنْ آخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ.
الْبَابُ السَّادِسُ:
(فِي سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ وَالطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) :
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي سُنَنِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ: نِظَامُ الْخَلْقِ، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ) :
(سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي رِزْقِ الْأَحْيَاءِ) :
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا - ٦ يُشِيرُ إِلَى سُنَنٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الرِّزْقَ الْمُضَافَ إِلَى ضَمِيرِ هَذِهِ الدَّوَابِّ الْكَثِيرَةِ عَامٌّ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ رِزْقَ اللهِ - تَعَالَى - لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ هُوَ مَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَقْوَاتِ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا، وَهَدَاهُ إِلَى التَّغَذِّي بِهِ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَيَجْرِي ذَلِكَ بِسُنَنٍ كَثِيرَةٍ وَضَعَ الْبَشَرُ لِتَفْصِيلِهَا عُلُومًا كَثِيرَةً فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَوَظَائِفِ أَعْضَاءِ التَّغَذِّي وَالْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(سُنَنُهُ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَحْيَاءِ وَمُسْتَوْدَعِهَا) :
(الثَّانِي) قَوْلُهُ: - وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا - ٦ يَشْمَلُ سُنَنًا أُخْرَى كَثِيرَةً، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ فِيهِمَا أَقْوَالًا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَنَقُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ فِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مُرَادًا مِنْهُ: أَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَأَمَاكِنِهَا وَأَزْمَانِهَا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْحَمْلِ بِهِ وَحَضَانَتِهِ وَوِلَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَوَطَنِهِ وَتَنَقُّلِهِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ سُنَنٌ فِي مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَلَكَ أَنْ تُجْمِلَهَا فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ تُفَصِّلَهَا فَتَجْعَلَهَا عِدَّةَ أَنْوَاعٍ.
(سُنَنُهُ فِي كِتَابَةِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَمَقَادِيرِهِ) :
(الثَّالِثُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ - ٦ بَيَانٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ النِّظَامِ، وَهُوَ نَوْعُ الْكِتَابَةِ الشَّامِلِ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ
الْقُدْرَةِ بِمَا وُجِدَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ بِالْفِعْلِ، وَمِثَالُهُ الْمُقَرَّبُ لِتَصْوِيرِ حِكْمَتِهِ: تَدْوِينُ كِتَابِ دِيوَانِ الْحُكُومَةِ النِّظَامِيَّةِ لِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ أَعْيَانٍ وَأَمْوَالٍ وَأَعْمَالٍ وَمَقَادِيرَ وَتَدْبِيرٍ، فَالْوَحْيُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْكَوْنَ الْأَعْظَمَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّ مَقَادِيرَهُ الَّتِي نَفَّذَتْ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى -:
194
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا - ١٧: ٥٨ فَهُوَ مَسْطُورٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَا صِفَةَ كِتَابَتِهِ فِيهِ، وَلَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ نَوْعٍ وَفِي جُمْلَتِهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ يَقُومُ بِهَا قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ١٣: ٨ وَهُوَ النِّظَامُ. فَلَهُ - تَعَالَى - كِتَابَانِ، فِي أَحَدِهِمَا نِظَامُ التَّكْوِينِ وَفِي الْآخَرِ بَيَانُ التَّكْلِيفِ، فَكِتَابُ التَّكْلِيفِ بَيَّنَ لَنَا مَا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِمَّا يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابَ الْعِلْمِ بِمَا فِي كِتَابِ التَّكْوِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابٌ مُبِينٌ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَحَدُ الْكِتَابَيْنِ بِالْآخَرِ.
(سُنَنُهُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) :
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - ٧ فِيهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ أَطْوَارًا فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مَعْنَاهَا التَّقْدِيرُ الْمُحْكَمُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةٍ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ التَّقْدِيرِيِّ، وَمِنْهُ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْمَرْئِيَّةَ لِلنَّاظِرِينَ، وَكُلَّ جِرْمٍ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ يُرَى فَوْقَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضٍ مِنَ الْأَرَضِينَ، فَكُلُّهَا قَائِمَةٌ بِسُنَنٍ دَقِيقَةِ النِّظَامِ، وَأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْغَازِيَّةِ وَالسَّائِلَةِ وَالْجَامِدَةِ قَائِمٌ بِسُنَنٍ أَيْضًا، وَأَنَّ الْكَوْنَ فِي جُمْلَتِهِ قَائِمٌ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ فِي رَبْطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَحِفْظِ نِظَامِهِ أَنْ يَبْغِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَالَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْجَاذِبِيَّاتِ الْخَاصَّةِ.
(سُنَنُهُ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَخَلْقِ الْمُرَكَّبَاتِ أَزْوَاجًا) :
(الْخَامِسُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْخَلْقِ: - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ - ٧ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصْلًا فِي هَذَا التَّكْوِينِ، ذَكَرْنَا مِنْ سُنَنِهِ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ، فَقَدْ قَالَ: - وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
- ٢١: ٣٠ وَقَالَ: - وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ - ٥١: ٤٩ وَقَالَ: - سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ - ٣٦: ٣٦ وَقَدْ وَصَلَ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِنَا إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ وَمَا قَامَتْ بِهِ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَوَالِيدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ غَيْرُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ خَالِقِهَا - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
195
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُنَنِ الطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ الْبَشَرِيَّةِ) :
(وَفِيهِ بِضْعَةُ شَوَاهِدَ) :
(سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي اخْتِبَارِ الْبَشَرِ لِأَجْلِ إِحْسَانِ كُلِّ عَمَلٍ) :
(الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حِكْمَتَهُ الْعُظْمَى فِيهِ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - ٧ فَإِنَّ إِحْسَانَهُمْ لِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَعَدَّهُمْ لَهَا هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، بَيَّنَ هَذَا بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَيَا لَهُ مِنْ أُسْلُوبٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ ضَرِيبٌ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: - وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - ٧ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بَيَانٌ لِسُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ، إِحْدَاهَا فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ اجْتِمَاعِهِمْ، وَمَوْضِعُهَا الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَالْأُخْرَى فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ غَرَائِزِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ إِذَا أُخْبِرُوا بِشَيْءٍ لَمْ تَصِلْ إِلَى إِدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ أَنْكَرُوهُ، عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِالْفِطْرَةِ لِلْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - ٢: ٣١ فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْمُخْبِرُ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ عَنِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَجَاءَهُمْ بِالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ: - إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ - أَيْ: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهَا إِلَّا لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا خَفِيًّا عَلَيْهِمْ قَدْ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ وَقَدْ يَعْرِفُونَهُ بَعْدُ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمُ النَّاقِصَةِ الْمُتَعَارِضَةِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ لَا تَفْصِيلُهُ وَتَحْقِيقُهُ.
(غَرِيزَةُ النَّاسِ فِي الْعَجَلِ وَالِاسْتِعْجَالِ) :
الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى - عَقِبَ ذَلِكَ: - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ - ٨ الْآيَةَ، يُرْشِدُنَا إِلَى سُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ كَاللَّتَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ، نُرْجِئُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَنُبَيِّنُ الْأَوْلَى بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِهِمُ الْعَجَلَةَ وَالِاسْتِعْجَالَ لِمَا يَطْلُبُونَ مِنْ خَيْرٍ لِلتَّمَتُّعِ بِهِ، وَمَا يُنْذَرُونَ مِنْ شَرٍّ يُنْكِرُونَهُ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: - وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ - ١٠: ١١ فَرَاجِعْهُ فِي ص ٢٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج١١ ط الْهَيْئَةِ.
(غَرِيزَةُ الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ وَالْيَأْسِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ) الشَّاهِدَانِ: الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الْآيَتَيْنِ ٩ و١٠ بَيَانٌ لِغَرِيزَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، بَيَّنَّاهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنَ الْوَجْهِ الْبَشَرِيِّ وَهُمَا: فَرَحُ الْبَطَرِ
196
بِالنِّعْمَةِ، وَيَأْسُ الْكُفْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَنُذَكِّرُ بِهِمَا هُنَا مِنْ وَجْهِ النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيِ وُرُودُ هَذِهِ السُّنَنِ مُتَعَاقِبَةً مُتَّصِلَةً.
(غَرِيزَةُ الْإِفْرَاطِ فِي تَوْجِيهِ الْقَوِيِّ إِلَى شَيْءٍ يَلْزَمُهُ ضَعُفٌ ضِدُّهُ) :
الشَّاهِدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ١٥ الْآيَةَ. فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى سُنَّةِ الْعَجَلِ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الشَّاهِدِ الثَّانِي آنِفًا، وَشَاهِدٌ عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَّهَ إِرَادَتَهُ بِكُلِّ قُوَّتِهَا إِلَى مَا فِيهِ مَتَاعٌ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ.
عَسُرَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْقِلَ مَا يُنْذَرُ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ الْآجِلِ الَّذِي يَعْقُبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُنْذَرُ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ يَكُونُ فِقْهُهُ لَهُ أَعْسَرُ، وَاقْتِنَاعُهُ بِهِ أَبْعَدُ، إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ لِلْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، إِيمَانًا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ.
(فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ) :
الشَّاهِدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - ٢٠ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَوْجِيهِ الْإِنْسَانِ كُلَّ إِرَادَتِهِ إِلَى شَيْءٍ يُضْعِفُ فِيهِ غَرِيزَةَ الْإِرَادَةِ لِمَا يُخَالِفُهُ، وَنُزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَضْعِفُ هِدَايَةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ حَتَّى يَفْقِدَ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا وَالِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِهِمَا، فَهِيَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ سُنَّةٌ أُخْرَى.
(الْإِيمَانُ بِالْإِقْنَاعِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَاسْتِعْدَادُ الْبَشَرِ لِلْإِضْلَالِ) :
الشَّاهِدُ السَّابِعُ: الْآيَةُ ٢٨ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَأْنِ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ إِذَا عُمِّيَتْ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ إِيَّاهَا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِلْزَامِ، وَأَنَّ الْكَارِهَ لِلشَّيْءِ لَا تَتَوَجَّهُ إِرَادَتُهُ إِلَى طَلَبِهِ وَفَهْمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، وَأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ تُوَجِّهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُعْطُوا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي غَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ: - وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ - ٩٠: ١٠ وَقَوْلِهِ فِي صِفَةِ نَفْسِهِ: - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - ٩١: ٨.
(سُنَنُهُ فِي ضَلَالِ النَّاسِ وَغَوَايَتِهِمْ) :
الشَّاهِدُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي حِكَايَةٍ عَنْهُ فِي مُجَادَلَةِ قَوْمِهِ: - وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ - ٣٤ وَفِيهِ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي غَوَايَةِ الْغَاوِينَ وَكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَضَلَالِ الضَّالِّينَ إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَسْنَدَ فِيهَا إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِمَا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ وُقُوعِ الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ بِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ صَاحِبِهَا وَتُحِيطَ بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى يَفْقِدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلرَّشَادِ وَالْهُدَى، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ
197
السُّنَنِ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَطَفِقُوا يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِ اللهِ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ لِلْإِنْسَانِ حَتَّى يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هَلْ هُوَ جَائِزٌ مِنَ الْخَالِقِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوَاقِعٌ فِعْلًا، أَمْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ؟ وَأَيُّ الْآيَاتِ فِيهِ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا؟ وَالْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللهُ مَا قُلْنَا فَلَا تَأْوِيلَ.
الشَّاهِدُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - ١١٨ نَصٌّ فِي أَنَّ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي الْبَشَرِ أَنْ يَتَفَرَّقُوا بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ، وَيَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَنَازِعِ، وَفِي اللُّغَاتِ وَالْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، وَمُتَنَازِعِينَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ وَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا) :
(سُنَّةُ اللهِ فِي تَوْبَةِ الْأُمَمِ مِنَ الذُّنُوبِ كَالْأَفْرَادِ) (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) أَمَرُ الْقُرْآنُ الْأُمَمَ كَالْأَفْرَادِ بِاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فِي الْآيَاتِ ٣ و٥٢ و٩٠، وَجَعْلُهُمَا سَبَبًا وَشَرْطًا لِمَا وَعَدْنَا بِهِ مِنَ التَّمْتِيعِ الْمَادِّيِّ وَالْفَضْلِ الْمَعْنَوِيِّ فِي الْأُولَى، وَمِنْ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثَّانِيَةِ بِصَرَاحَةِ الْمَنْطُوقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَفْظِ النِّعَمِ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْأَقْوَامِ لَا لِلْأَفْرَادِ، وَمَا كُلُّ فَرْدٍ يُعَاقَبُ عَلَى ذُنُوبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ كُلُّ أُمَّةٍ تُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَعِقَابُهَا نَوْعَانِ فَصَّلْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ (أَحَدُهُمَا) دِينِيٌّ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ إِنْذَارِهِمْ، وَمِثَالُهُ عِقَابُ الْحُكَّامِ لِمُخَالِفِي شَرَائِعِهِمْ وَقَوَانِينِ حُكُومَتِهِمْ. (وَثَانِيهِمَا) أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِذَنْبِهَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفُشُوِّهِ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مُفَصَّلًا، وَنَذْكُرُهُ فِي شَوَاهِدِ هَذَا الْفَصْلِ مُجْمَلًا، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مَعْرُوفَةً لِلْمُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَمِنَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى نَفْسِهِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُرْبِهِ وَشَبَهِهِ بِهِ فَتَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، كَانَ مِمَّا قَالَهُ الْعَبَّاسُ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. إِلَخْ.
أَمَّا كَوْنُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ سَبَبًا لِانْحِطَاطِ الْأُمَمِ وَضَعْفِهَا وَهَلَاكِهَا، فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ سَبَبًا لِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَالْقَحْطِ أَوِ الطُّوفَانِ وَالْجَوَائِحِ فَلَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ ; لِأَنَّ الِانْقِلَابَاتِ الْجَوِّيَّةَ لَا يَعْرِفُ لَهَا الْبَشَرُ اتِّصَالًا بِالذُّنُوبِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا الْقَوْمِيَّةِ الَّتِي تُوصَفُ بِالِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَلَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعِلَاوَةِ الرَّابِعَةِ لِحَادِثَةِ الطُّوفَانِ.
198
(ارْتِقَاءُ الْأُمَمِ بِإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ وَإِتْقَانِهَا) :
(الشَّاهِدُ الثَّانِي) قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ: - لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا - فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ ارْتِقَاءَ الشُّعُوبِ فِي مَصَالِحِهَا الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَفِي عِزَّتِهَا الدَّوْلِيَّةِ، هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِإِحْسَانِ أَعْمَالِهَا فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالتَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمُقَوِّمَاتِ الْعَامَّةِ لَهَا، وَلَا يَتِمُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا تَكْمُلُ هَذِهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
(عِقَابُ الْأُمَمِ لَهُ آجَالٌ طَبِيعِيَّةٌ) :
(الشَّاهِدُ الثَّالِثُ) قُلْنَا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ - ٨ سُنَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَهُ أَجَلٌ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ، وَزَمَنٌ فِي كِتَابِ نِظَامِ الْخَلْقِ مَعْدُودٌ، وَهُوَ مَا يَبْلُغُ بِهِ ذَنْبُهَا حَدَّهُ فِي الْإِفْسَادِ. وَقَدْ عَلِمْتُ آنِفًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِقَابٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ لَا تَعْقِلُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَعْقِلُهُ بَعْضُ حُكَمَائِهَا، وَقَدْ يُنْذِرُونَهَا وُقُوعَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ شَيْئًا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ وَسَنَبْسُطُهُ قَرِيبًا.
(أَوَّلُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْمُصْلِحِينَ: الْفُقَرَاءُ) :
(الشَّاهِدُ الرَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ - ٢٧ الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي السَّابِقِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَتَتِمَتُّهُ فِي الشَّاهِدِ التَّالِي وَهُوَ:
(فَلَاحُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ بِتَكَافُلِ الْمُصْلِحِينَ فِيهَا) :
(الشَّاهِدُ الْخَامِسُ) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَوَابِهِ لَهُمْ: - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا - ٢٩ الْآيَةَ، مَبْنِيٌّ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّعَامَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، وَتَأْلِيفِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْقِلَابَاتِ فِي الْأُمَمِ، وَكَوْنِ ثَبَاتِهَا وَظَفَرِهَا رَهْنًا بِإِيمَانِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ لِأَجْلِهِ إِيمَانَ يَقِينٍ عَقْلِيٍّ، وَوِجْدَانِيٍّ قَلْبِيٍّ، وَتَكَافُلٍ عَمَلِيٍّ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِصِفَةٍ يَكُونُ فِيهَا الزَّعِيمُ خَيْرُ قُدْوَةٍ لِلْأَفْرَادِ، بِتَفْضِيلِهِ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْكُبَرَاءِ مِنْ خُصُومِهِمْ، فَأَمَّا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ هَدَاهُمُ الْوَحْيُ إِلَى هَذِهِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
بَيَانِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي عَدَاوَةِ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ لَهُمْ، وَأَمَّا زُعَمَاءُ الْأُمَمِ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ هَدَتْهُمْ إِلَيْهَا عَبْرَ التَّارِيخِ وَالتَّجَارِبِ، إِلَى أَنْ دَوَّنَ عُلَمَاءُ فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ وَفَصَّلُوا فِيهِ سُنَّتَهُ فَعَمِلُوا بِهِ، وَكَانَ إِمَامُهُمْ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
199
(تَنَازُعُ رِجَالِ الْمَالِ وَدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ) :
(الشَّاهِدُ السَّادِسُ) فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مَعَ قَوْمِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ، وَهِيَ التَّنَازُعُ بَيْنَ رِجَالِ الْمَالِ وَرِجَالِ الْإِصْلَاحِ فِي حُرِّيَّةِ الْكَسْبِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَقْيِيدِ الْكَسْبِ بِالْحَلَالِ وَمُرَاعَاةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، فَقَوْمُ شُعَيْبٍ كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ تَنْمِيَةَ الثَّرْوَةِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الْمُمْكِنَةِ حَتَّى التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَإِذَا كَالُوا أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ نَقَصُوا وَأَخْسَرُوا، وَإِذَا اكْتَالُوا عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفُوا وَأَكْثَرُوا، وَكَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهَا، وَكَانَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُوصِيهِمْ بِالْقِسْطِ فِيهِ، وَاجْتِنَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْحَلَالِ، وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ حُرِّيَّةَ الْكَسْبِ مَقْرُونَةً بِحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ، كَمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: - قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - ٨٧ وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَذِيلَةِ التَّقْلِيدِ وَرَذِيلَةِ اسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْكَلَامِ عَلَى فَضِيلَةِ حُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَمَنْعِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، وَنَذْكُرُهُ شَاهِدًا عَلَى كَوْنِ هَذَا التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالرَّذِيلَةِ، مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ يَنْصُرُونَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ بِالْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ الْمُؤَيِّدَيْنِ بِالْحُجَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِقْنَاعِ، لَا بِالْقُوَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَدَنِيَّةٌ كَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ جَامِعَةً لِلْوَازِعَيْنِ: وَازِعِ النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَوَازِعِ الشَّرْعِ يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا زَالَ التَّنَازُعُ الْمَالِيُّ أَعْقَدَ مَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِ، وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاقْتِصَادِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ الْمَالِيَّ أَعْظَمُ أُسُسِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَجْلِهِ عَادَى كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي خُلَاصَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَفِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ).
(سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ) :
(الشَّاهِدُ السَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ - ٤٩ هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي فَوْزِ الْجَمَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ فِي مَقَاصِدِهَا، وَغَلْبِهَا عَلَى خُصُومِهَا وَمُنَاوَئِيهَا، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْأَسَاسُ الرَّاسِخُ لِفَوْزِ الْأَفْرَادِ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَالِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ كِتَابِ اللهِ الْكُبْرَى فِي جَمْعِ الْحَقَائِقِ الْكَثِيرَةِ، فِي الْمَقَاصِدِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الدِّينِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهِ، مِمَّنْ لَا بِضَاعَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مِثْلَ تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَمَا دُونَهُ كَالْجَلَالَيْنِ وَحَوَاشِيهِ وَكَذَا تَفْسِيرُ الْأَلُوسِيِّ الْجَامِعِ لِخُلَاصَةِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، فَقُلْتَ لَهُمْ: مَا مَعْنَى كَوْنِ " الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "؟ وَمَا التَّقْوَى الَّتِي جَعَلَهَا هَذَا النَّصُّ عِلَّةً لِكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَتِكُمْ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ؟ لَيَقُولَنَّ أَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا: إِنَّ التَّقْوَى فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمَعَاصِي، أَوِ امْتِثَالُ
200
الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَأَنَّ اللهَ وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ مُبْهَمٌ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِأَنْ تَقُولَ: الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ، وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ قَارِئُوا هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عَلَى قِلَّتِهِمْ غَيْرَ هَذَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلُّ مُؤَلِّفِيهَا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ لَهَا فِي تَقْوَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ وَتَقْوَى الْأُمَّةِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُشِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَعْنَاهَا الْعَامِّ، وَهُوَ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يُفْسِدُ الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ وَالرَّوَابِطَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَتَحَرِّي مَا يُصْلِحُهَا بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَبَقَاءِ دُوَلِهَا وَزَوَالِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ السُّنَنِ مُطَّرِدَةً فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ مِنْ مَنْزِلِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَا مُحَابَاةَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمَرْجُوَّةُ لَهُمْ فِي السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لَعَلَّ أَجْمَعَهَا وَأَدَقَّهَا بِالْإِجْمَالِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ٨: ٢٩ الْآيَةَ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ لَهُ مَا تَرْمِي فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ.
(نَهْيُ أُولِي الْأَحْلَامِ عَنِ الْفَسَادِ يَحْفَظُ الْأُمَّةَ مِنَ الْهَلَاكِ) :
(الشَّاهِدُ الثَّامِنُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ١١٦ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ بَيَانِ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَاتٌ وَأَحْزَابٌ أُولُوا بَقِيَّةٍ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْحَقِّ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَا فَشَا فِيهِمْ، وَأَفْسَدَهُمْ وَإِذَنْ لَمَا هَلَكُوا، فَإِنَّ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنَ الْهَلَاكِ مَا دَامُوا يُطَاعُونَ فِيهَا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ، كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنْ فُشُوِّ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ فِيهَا، مَا دَامَتِ الْجَمَاهِيرُ تُطِيعُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَمِنْ وَسَائِلِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي بَعْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْجُمْهُورُ لِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فَعَلَ الْفَسَادُ فِعْلَهُ فِيهِمْ، وَقَدْ فَهِمَ الْوُعَّاظُ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ خَلَفِنَا الْجَاهِلِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ بَرَكَةِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَحَفِظِ اللهِ الْأُمَمَ بِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَقِرَاءَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَضَرَبَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ فِي الزَّوَاجِرِ:
201
كَلَّا، إِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْرَادِ مَنْ يَقُومُ لَيْلَهُ بِوِرْدٍ مِنْ تَشْرِيعٍ مُبْتَدَعٍ هُوَ بِهِ عَاصٍ لِلَّهِ - تَعَالَى - لِعِبَادَتِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ، فَكَانَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ٤٢: ٢١ أَيْ بِهَلَاكِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: ((رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)) كَمْ مِنْ مُصَلٍّ هُوَ مِصْدَاقٌ لِحَدِيثِ: ((مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا)) وَكَذَلِكَ كَانَ دَرَاوِيشُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ لِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَنَكَّلَ بِهِمُ الْإِفْرِنْجُ بِمُسَاعَدَةِ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ
فِي صَلَاحِهِ، وَلَكِنَّ قُوَّادَهُ لَمْ يَكُونُوا بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَصَلَاحُ دَرَاوِيشِهِ لَا بَصِيرَةَ فِيهِ وَلَا عِلْمَ.
كَلَّا إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ٢١: ١٠٥ وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ٧: ١٢٨ وَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفْنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ٢٤: ٥٥ الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ قَرِيبًا، وَإِنَّ اللهَ لَا يَحْفَظُ الْأُمَمَ بِذَوَاتِهِمْ وَبَرَكَةِ أَجْسَادِهِمْ، وَلَا بِعِبَادَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ الْقَاصِرِ نَفْعُهَا عَلَيْهِمْ، بَلْ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ.
نَعَمْ إِنَّ اللهَ لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَادَامَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَكِنَّهُ يُعَذِّبُهَا بِذُنُوبِهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فِي عِلَاوَةِ قِصَّةِ الطُّوفَانِ الرَّابِعَةِ.
(الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ سَبَبُ الْحِرْمَانِ مِنَ النَّصْرِ) :
(الشَّاهِدُ التَّاسِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ١١٢ وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ١١٣ فِيهِمَا مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الطُّغْيَانَ وَالرُّكُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الظُّلْمِ فِي شَوَاهِدِهِ الْآتِيَةِ:
(الشَّوَاهِدُ: الْعَاشِرُ - الْخَامِسَ عَشَرَ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ) :
(فِي الْآيَاتِ ١٠٠ - ١٠٢ و١١٢ و١١٣ و١١٦ و١١٧) :
أَوَّلُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ١٠٠ وَالثَّانِيَةُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ١٠١ أَيْ بِإِهْلَاكِهِمْ،
202
بَلْ أَنْذَرْنَاهُمْ عَاقِبَةَ ظُلْمِهِمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ظُلْمًا عَامًّا فَكَانَ هَلَاكُهُمْ عَامًّا، وَكَانَ أَكْبَرَ ظُلْمِهِمُ الشِّرْكُ، فَكَانُوا يَدْعُونَ آلِهَتَهُمْ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَاتَّكَلُوا عَلَيْهَا فِي دَفْعِ مَا أَنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ١٠١ الْآيَةَ.
هَذَا مَعْنًى لَا يُكَابِرُ فِيهِ أَحَدٌ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْقُرْآنِ إِذَا بَيَّنْتَ لَهُمْ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهُمْ مِنْهَا أَنْكَرُوهُ، وَأَوَّلُ مَا يُنْكِرُونَهُ أَسَاسُهَا الْأَعْظَمُ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَمَعْنَى الشِّرْكِ بِهِ مِنْهَا، إِذْ هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ شِرْكَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عِبَارَةٌ عَنْ عِبَادَةِ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ مِنَ الْجَمَادِ يَتَّكِلُونَ عَلَيْهَا لِذَاتِهَا. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْلَهُ الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ، وَاعْتِقَادُ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْكَوْنِ، وَدُعَاؤُهُمْ فِي طَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَأَنَّ مِثْلَهُ أَوْ مِنْهُ مَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي بُخَارَى أَنَّ شَاهْ نَقْشَبَنْدَ هُوَ الْحَامِي لَهَا، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهَا، وَمَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى مِنْ حِمَايَةِ مَوْلَايَ إِدْرِيسَ لِفَاسَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا فَرَنْسَةُ، أَنْكَرُوا عَلَى الْقَائِلِ: إِنَّ هَذَا كَذَاكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِجَاهِ الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْفَعُوهَا بِكَرَامَتِهِمْ. فَكَرَامَةُ الْأَمْوَاتِ ثَابِتَةٌ كَالْأَحْيَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُمْ جَهْلَهُمْ هَذَا بِتَبَدُّلِ الْأَسْمَاءِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فُتُوحَاتِهِمْ وَتَأْسِيسِ مُلْكِهِمْ وَحِفْظِهِ، وَخَصَّصْنَا إِخْوَانَنَا أَهْلَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى بِالْإِنْذَارِ مُنْذُ أُنْشِئَ الْمَنَارُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى تَنْظِيمِ قُوَّاتِهِمُ الدِّفَاعِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَطَلَبِ الضُّبَّاطِ لَهُ مِنَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَإِلَى الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى الْقُوَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالنِّظَامِ، وَإِلَّا ذَهَبَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَطْعًا. فَقَالَ الْمُغْوُونَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ الْقِدَدِ بِلِسَانِ حَالِهِمْ أَوْ مَقَالِهِمْ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَنَارِ مُعْتَزِلِيٌّ مُنْكِرٌ لِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا هُوَ بِمُعْتَزِلِيٍّ وَلَا أَشْعَرِيٍّ، بَلْ هُوَ قُرْآنِيٌّ سُنِّيٌّ، وَهَا هِيَ ذِي فَرَنْسَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا أَنْذَرَهُمْ، وَظَهَرَ أَنَّ أَكْبَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ نُفُوذًا وَدَعْوَى لِلْكَرَامَاتِ بِالْبَاطِلِ كَالتِّيجَانِيَّةِ، كَانُوا وَمَا زَالُوا مِنْ خِدْمَةِ فَرَنْسَةَ وَمُسَاعِدِيهَا عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ، وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا أَوْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِلْحَادِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَدْرُونَ أَوْ لَا يَدْرُونَ.
يَجْهَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ - تَعَالَى - خَاصٌّ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، أَنَّ أَصْلَ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّبَرُّكِ أَوِ التَّوَسُّلِ بِأَشْخَاصِهِمْ لِإِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَقَدْ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ (وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ) رِجَالًا صَالِحِينَ غَلَوْا فِي تَعْظِيمِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَوَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ
203
لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ تُرْجُمَانِ
الْقُرْآنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ، وَيَدْفَعُونَ الْعَذَابَ بِكَرَامَاتِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ لَا تَمَاثِيلُهُمْ.
بَلْ نَرَى هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى قُبُورِهِمُ الصَّالِحِينَ؛ لِدُعَائِهِمْ أَوْ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، يَجْهَلُونَ جَمِيعَ عَقَائِدِ الْقُرْآنِ وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، إِلَى هَذِهِ السُّنَنِ فِي إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَكْبَرُ مَصَائِبِ الْإِسْلَامِ أَنَّ افْتِتَانَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ سَبَبًا لِإِلْحَادِ فَرِيقٍ كَبِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ الْعَصْرِ وَمِنْهَا سُنَنُ الْخَلْقِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمُرُوقِهِمْ مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ هُوَ الَّذِي أَضَاعَ مُلْكَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّ حُكُومَةَ التُّرْكِ الْحَاضِرَةِ تَرَكَتِ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْخُرَافَاتِ، وَعَادَى رَئِيسُهَا وَمُؤَسِّسُهَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَلُغَتَهُمَا وَحُرُوفَهُمَا بِمَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالصَّلِيبِيِّينَ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ٢٦: ٤.
وَخُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ (١٠٢) أَنَّ أَخْذَ اللهِ الْقُرَى الظَّالِمَةَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَيَكُونُ عَلَى نَحْوِ أَخْذِهِ لَهَا فِي الْمَاضِي، أَلِيمًا شَدِيدًا لَا هَوَادَةَ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا مُحَابَاةَ.
وَخُلَاصَةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ (١١٢ و١١٣) أَمْرُ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ هُوَ وَمَنْ تَابَ مَعَهُ كَمَا أَمَرَ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ، وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُشَبَّهَةِ حَالُهُمْ فِي قَرْيَتِهِمْ (مَكَّةَ) لِحَالِ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يُنَجَّيَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ أَتْبَاعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ قُبَيْلَ إِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ.
وَخُلَاصَةُ الْخَامِسَةِ (١٦٦) أَنَّ الْوَسِيلَةَ لِمَنْعِ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِالْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، هُوَ وُجُودُ أُولِي بَقِيَّةٍ فِيهَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيُطَاعُونَ، إِذْ بِفَقْدِهِمْ يَتَّبِعُ الظَّالِمُونَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ فَيَكُونُونَ مُجْرِمِينَ فَيَهْلِكُونَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ فَبِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ.
وَخُلَاصَةُ السَّادِسَةِ (١١٧) أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَعِزَّتِهَا وَذُلِّهَا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.
إِنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ وَرِثُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ وَسُنَّةَ النَّبِيِّ وَبَيَانَهُ لَهُ بِالِاتِّبَاعِ، كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْخَلْقِ وَيَهْتَدُونَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَضَعُوا لَهَا قَوَاعِدَ عِلْمِيَّةً وَفَنِّيَّةً لِتَفْقِيهِ مَنْ بَعْدِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ زَالَتْ سَلِيقَةُ اللُّغَةِ مِنْ
204
عُلَمَاءِ الْمُوَلِّدِينَ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِقَوَاعِدِ الْفُنُونِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلُّغَةِ وَلِلدِّينِ بِقَدْرِ مَعَارِفِهِمُ الْمَمْزُوجَةِ بِمَا وَرِثُوا وَمَا كَسَبُوا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ مِمَّا دَوَّنَهُ أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَا نَرَى فِي تَفَاسِيرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الْخَاصَّةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، بَلْ تَنَكَّبُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ مَا نَشْكُو مِنْهُ وَنُحَاوِلُ تَلَافِيَهُ.
(الشَّاهِدُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ) :
تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (١١٨ و١١٩) (١) بَيَانَ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي الدِّينِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّكْوِينِ وَالْعُقُولِ وَالْفُهُومِ، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ: أَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُ هِدَايَةً وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ، لِتَكُونَ كَافِلَةً كَافِيَةً لَهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا كُلُّهُ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيِّنَةِ لِأَسْبَابِ فَسَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ الْقُرْآنُ لِاتِّقَائِهَا، فَهُوَ جَامِعٌ لِوَصْفِ أَمْرَاضِ الْبَشَرِ كُلِّهَا وَلِوَصْفِ عِلَاجِهَا، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ الصُّغْرَى (الْبُيُوتِ وَالْفَصَائِلِ وَالْعَشَائِرِ) وَالْكُبْرَى (الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ) عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَلِمَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، وَالْهَلَاكُ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَنْحَصِرُ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا التَّرْكُ إِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَخَطْبُهُ سَهْلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ جَهَلَهُ بِالْحُكْمِ خَالَفَهُ وَدَوَاؤُهُ التَّعْلِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَسَادِ تَرْبِيَتِهِ وَدَوَاؤُهُ النَّصِيحَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْرُوضٌ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّصِيحَةَ بِالْقَوْلِ فَعِلَاجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ حُكُومَتِهِمْ مَعْرُوفٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ مِنَ الْجَمَاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ لِلْجَهْلِ أَوْ لِأَسْبَابٍ مَالِيَّةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ شَخْصِيَّةٍ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، عِلَاجُ كُلِّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ.
وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ وَالْمَوْتُ الْأَحْمَرُ وَالْخَطَرُ الْأَسْوَدُ الْمُظْلِمُ فَهُوَ اخْتِلَافُ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ فِي الدِّينِ، وَالزَّيْغُ عَنِ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ، فَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحِرْمَانِ أَهْلِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ١١٨ و١١٩ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي رَحْمَتِهِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ٩: ١١٧، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ٣٣: ٤٣ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَأَتَمَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ فِيهِ: وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ١٠: ٥٧ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ وَصْفُهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ٩: ١٢٨ فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الْأَوَّلِ الْآخَرِ، وَبِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ وَبِنَبِيِّهِ الْخَاتَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَتِمُّ لِأَفْرَادِهِمْ إِلَّا بِتَمَامِ الِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا كَلَّفُوهُ
205
بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا تَكُونُ لِجَمَاعَتِهِمْ - وَهِيَ الْأُمَّةُ - إِلَّا بِاعْتِصَامِهَا بِحَبْلِ اللهِ وَعُرْوَةِ الْوَحْدَةِ الْوُثْقَى، بِاجْتِنَابِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهَا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنَ النُّصُوصِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَرَدِّ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فِي غَيْرِ الْقَطْعِيِّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إِلَى تَرْجِيحِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ، وَتَرْجِيحِ الْأَفْرَادِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ، فَالْحَقُّ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ تَنْفِيذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَنَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِهَا وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهَا قِيدَ شَعْرَةٍ، وَهِيَ جَمَاعَةُ (أُولِي الْأَمْرِ) وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَنُوطُ بِهِمُ الشَّرْعُ نَصْبَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَالسَّلَاطِينِ عَلَيْهَا وَعَزْلَهُمْ، وَقَدْ فُقِدُوا مَنْ أُمَّتِنَا بِاسْتِبْدَادِ الظَّالِمِينَ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَتَبَرَّأَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَمِمَّنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُصْلِحِينَ وَضْعُ نِظَامٍ لِإِعَادَةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى).
وَأَخْتِمُ هَذِهِ الْخُلَاصَةَ بِحَدِيثِ: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا)) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ بِضْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِزِيَادَةِ ((قَبْلَ الْمَشِيبِ)) وَبِزِيَادَةِ ((وَأَخَوَاتُهَا)) مِنَ الْمُفَصَّلِ فِي بَعْضِهَا، وَبِتَسْمِيَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)) وَغَيْرِهَا مَنْ سُورِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي بَعْضٍ. وَأَسَانِيدُهَا حَسَنَةٌ فَلْيَتَدَبَّرْهَا الْمُؤْمِنُونَ.
١٢ - سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
هِيَ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فَقَطْ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الثَّلَاثَ مِنْهَا مَدَنِيَّاتٌ فَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَهُوَ يُخِلُّ بِنَظْمِ الْكَلَامِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ الْإِتْقَانَ فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُهُ وَيَقُولُ: وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا اسْتِثْنَاءً فِي الْمُصْحَفِ الْمِصْرِيِّ وَيُزَادَ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ هُودٍ أَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَالِاسْتِدْلَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كَوْنِهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ، فَفِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنَ الْأُولَى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ١١: ٤٩ وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ١٢: ١٠٢ وَإِشَارَةُ التَّأْنِيثِ فِي الْأُولَى لِلْقِصَّةِ الْمُنَزَّلَةِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَلَاغَةِ الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: لِلسُّورَةِ، وَإِشَارَةُ التَّذْكِيرِ فِي الثَّانِيَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ١٢: ٣.
206
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
لَوْلَا أُنَاسٌ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا
لَدَكْدَكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سِحْرًا فَإِنَّكُمْ قَوْمُ سَوْءٍ لَا تُطِيعُونَا