هذه السورة مكية. وهي حافلة بأخبار الأولين من الرسل الذين بعثهم الله إلى أممهم فما آمن منهم إلا قليل. وأبي أكثرهم إلا الضلال والعصيان والتكذيب. فأذوا رسالات الله ؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. لقد أخذهم بشديد الوبال، والعقاب الوجيع البئيس، ما بين طوفان جارف غامر اصطلم المشركين جميعا فامحت أعيانهم البتة. أو ريح صرصر عاتية تدمر كل شيء، أو صيحة قارعة رعيبة تتقطع منها القلوب، وتتبد منها الأجساد تبديدا، إلى غير ذلك من ضروب العقاب الذي أنزله بساحة العصاة والمجرمين الذين شاقوا الله ورسوله وحالوا بين منهج الله والناس.
إن هذه الأخبار في ذاتها مخوفة مؤثرة وغاية التأثير، فلا يمر بها القارئ أو السامع المتدبر حتى تفجأه أحداثها ووقائعها وما آلت إليه من وخيم العواقب، فيكف إذا كانت هاتيك الأخبار التي والوقائع قد تحدث بها القرآن بسوره العظيمة وآياته المؤثرة العجاب، وعباراته التي تتزاحم فيها المعاني تزاحما ؟ ! وكذلك كلماته ذات الإيقاع المفزع، والنعم الباهر الخلاب ؟ ! فلا جرم أن تكون هذه السورة في مبلغ تأثيرها وعجيب إيقاعها وزاخر معانيها المختلفة وشدة روعتها المفزعة التي تأخذ القلوب – باللغة الشأن، مهيبة القدر والجلال.
تلك هي سورة هود التي وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل موقع حتى شاب منها شعره. وفي هذا أخرج الترمذي بإسناده عن ان عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت. قال :( شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذ الشمس كورت ) وفي رواية :( هود وأخواتها ).
روي الطبري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شيبتني هود وأخواتها : الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت ).
ﰡ
﴿ الر كتاب أحكم آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ١ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ٢ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ٣ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ﴾.
﴿ الر ﴾، مبتدأ. خبره ﴿ كتاب ﴾ وقوله :﴿ أحكم آياته ﴾ صفة للكتاب١ والمعنى : أنها نظمت مظما رصيفا٢ ليس فيه نقص ولا ضعف ولا خلل. وقال ابن عباس : أي لم ينسخها كتاب بخلاف التوراة الإنجيل. وعلى هذا الوجه لا يكون كل كتاب محكما ؛ لأنه قد حصل فيه آيات منسوخة، لكنه لما كان الغالب محكما غير منسوخ صح إطلاق هذا الوصف ( الإحكام ) عليه ؛ لأن الحكم الثابت فيما هو غالب يجري مجرى الثابت في الكل.
قوله :﴿ ثم فصلت من لدن حكيم خبير ﴾ ﴿ فصلت ﴾ بمعنى فسرت ؛ أي بين حلالها وحرامها، وأمرها ونهيها، ووعدها ووعيدها، وثوابها وعقابها. وذلك كله ﴿ من لدن حكيم خبير ﴾ حكيم في تدبيره وتقديره وأقواله وأفعاله، خبير بعواقب الأمور وبما ينفع الناس أو يضرهم.
٢ الرصيف: الثابت المحكم الرصين. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٢٤٥ ومختار الصحاح ص ٢٤٥..
قوله :﴿ يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ﴾ أي إذا فعلتم ما ذكر من استغفار وتوبة أمتعكم الله بسعة الرزق وراغد العيش وطيب الزينة والمعاش إلى وقت مقدر لكم في هذه الدنيا وهو حلول الموت.
﴿ يمتعكم ﴾، مجزوم ؛ لأنه جواب الأمر ﴿ وأن استغفروا ﴾ وجواب الأمر وجب أن يكون مجزوما ؛ لأنه جواب لشرط مقدر١.
قوله :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ الفضل معناه : الإحسان ابتداء بلا علة، وما بقي من الشيء٢ والمعنى : أن الله يجزي كل من عمل خيرا جزاءه في الآخرة. وقيل : في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله :﴿ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ ﴿ تولوا ﴾، أصله تولوا، فحذفت إحدى التاءين ؛ لأنه اجتمع حرفان متحركان من جنس وحد فاستثقلوا اجتماعهما فحذفوا إحداهما تخفيفا٣ ؛ أي إن أعرضوا عن دين الله وأبوا إلا الضلال والباطل وعبادة الأوثان فقل لهم : إني ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ كبير بالأهوال والشدائد، كبير بفظاعة الوي وعظائم الأمور ؛ ذلكم يوم مخوف مذهل لا ينفع فيه المال ولا البنون ولا الشفاعة ولا الفداء. يوم يغيب فيه عن المشركين كل الشركاء والأنداد والخلان.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٩٣..
٣ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢٤ والكشاف جـ ٢ ص ٢٥٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨١..
نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر يقلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب ويطوي بقلبه ما يكره. وقيل : كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم يظهر له أمرا يسره ويضمر في قلبه خلاف ما يظهر. فأنزل الله :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ﴾ أي يكمنون ما في صدورهم من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم١.
وقيل : نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان.
وقيل : قال منافقون : إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا ؟ فنزلت الآية٢.
قوله :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليسخفوا منه ﴾ ثنى صدره عن الشيء إذا ازور٣ عنه وانحرف، ويثنون صدورهم ؛ أي يزورون عن الحق وينحرفون عنه. وذلك كناية عن الإعراض عن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ ليسخفوا منه ﴾ أي ليتواروا عن الله أو عن رسوله.
وقيل :﴿ يثنون صدورهم ﴾ يعني يطوونها على عداوة المسلمين. قال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه.
قوله :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ ألا حين يغطون رؤوسهم بثيابهم في ظلمة الليل وهم في أجواف بيوتهم لا جرم انه يعلم في تلك الساعة ما يسونه في قلوبهم وما يعلنونه بأفواههم. يستوي ذلك كله عند الله ﴿ إنه عليم بذات الصور ﴾ وذلك تسفيه للمنافقين الضالين الماكرين الذين يطنون أنهم مستخفون عن الله بما يستسرونه في قلوبهم من الحقد والكيد والكراهية للإسلام ورسوله ؛ فالله علم بأسرارهم وما تخفيه قلوبهم، وهو سبحانه مطلع على أعمالهم وخباياهم ر يخفى عليه من ذلك شيء٤.
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥..
٣ ازور عن الشيء لزوروا؛ أي عدل عنه وانحرف. انظر مختار الصحاح ص ٢٧٨..
٤ تفسير البيضاوي ص ٢٩١ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٠ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨١ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢٥..
والمعنى : ما من دابة تمشي على الأرض إلا ويأتيها رزقها من الله ؛ فهو سبحانه متكفل بما به عيشها من قوت وغذاء وشراب. وهو سبحانه خالق الأحياء لا جرم أنه متفضل بما فيه قوام حياتها حتى تموت. سواء في ذلك الطير السابح في الجو الفضاء، أو البهائم الراتعة على متن الأرض، أو الحيتان الضاربة في أغوار البحر، أو الإنسان البصر، ذو العقل والإرادة والتفكير، كل أولئك رزقهم على الله.
قوله :﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ ﴿ مستقرها ﴾، مكانها الذي تأوي إليه وتستقر فيه، ﴿ ومستودعها ﴾، المكان الذي تموت فيه. وقيل : المستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة.
قوله :﴿ كل في كتاب مبين ﴾ كل واحد من الدواب ورزقه وموضع استقراره أو موته، علم ذلك جميعا مكتوب في اللوح المحفوظ.
خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ أي فوقه، وذلك يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السموات والأرض. وما ينبغي أن نمضي في الحديث عن هذه المسألة أكثر من ذلك، فإن الوقوف على حقيقة هذه الأحداث الكونية المذهلة وكيفية خلق السموات والأرض في ستة أيام وتصوره عرش الله فوق الماء، إنما يعلمه الله حق العلم. وما ينبغي للإنسان ذي الإدراك المحدود إلا أن يقف عند ظاهر النص الحكيم مصدقا مستيقنا، ممسكا عن البحث في الكيفية أو الخوض فيما لا طاقة له به.
قوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ ﴿ ليبلوكم ﴾ من البلاء والابتلاء ؛ أي الاختبار. والمعنى : أن الله خلق ذلك كله ليختبركم بالاستدلال على كمال قدرته، وأنه هو صانع المقتدر الحكيم، أو ليختبركم أيكم أعمل بطاعة الله وأبعد عن محارمه.
قوله :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثين من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ لئن بينت لهؤلاء المشركين الضالين أنهم مبعوثين من قبورهم يوم القيامة، وأنهم موقوفون على ربهم ليلاقوا الحساب والجزاء ؛ فلسوف يكذبونك ويجحدون ما جئتهم به من خبر البعث ويقولون منكرين مستكبرين :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ ﴿ إن ﴾، نافيه بمعنى ما، والإشارة إلى القرآن الكريم ؛ فهو الحاكم بحصول البعث، فطعنوا فيه بكونه سحرا ليدحضوا القول بالبعث.
وقيل : المراد بالإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد تقولوا عليه بأنه ساحر وليس الساحر إلا كاذبا ؛ فهم بذلك يقصدون تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ﴾ أي يوم يأتيهم العذاب من الله، فليس من أحد يدفعه عنهم أو يصرفه ﴿ وحاق لهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي نزل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه١.
لكن المسلمين الصادقين المخبتين أجدر أن يكونوا في كل أحوالهم وسلوكهم من أهل الجد والوقار والرزانة ؛ فلا تستخفهم بهجة الفرح المغالي، ولا تستحوذ عليهم زهرة الدنيا بمتاعها الداثر وزينتها الفانية.
وقيل : إن ذلك في معنى النفي والاستبعاد ؛ أي ليس ذلك كائنا منك بل إنك تبلغهم كل ما أنزل إليك من ربك سواء شاء المشركون أم أبوا، رضوا أم سخطوا. وذلك أن المشركين سألوه أن يأتيهم بكتاب ليس فيه سب آلهتهم فيتبعوه، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم فنزلت الآية.
قوله :﴿ وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ ﴿ وضائق ﴾ معطوف على ﴿ تارك ﴾ و ﴿ صدرك ﴾ فاعل لاسم الفاعل ﴿ وضائق ﴾ ولم يقل ضيق صدرك ؛ لأن ( ضيق ) صفة مشبهة فيها معنى اللزوم.
والمعنى : لعلك ضائق صدرك بما أوحاه الله إليك من الكتاب فلا تبلغه إياهم ﴿ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ﴾ أي لئلا يقولوا هلا أنزل عليه كنز. والكنز هو المال المدفون٣ ﴿ أو جاء معه ملك ﴾ مصدق له فيما جاء به.
قوله :﴿ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾ أي بلغهم ما أوحي إليك ؛ فما عليك إلا أن تنذرهم فتخوفهم عقاب الله وتحذرهم من بطشه الشديد، وليس أن تأتيهم بما يسألونه من مقترحات ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ الله بيده تدبير كل شيء وهو حفيظ لما يقولونه ويفعلونه.
٢ يسري: سرا الشيء عنه روا وسرواة: نزعه وألقاه. سرا عنه ثوبه ودرعه. وسرا اللم عن فؤاده؛ أي كشفه. سري الشيء عنه؛ إذا أذهبه، وسري عن فلان؛ إذا زال ما به من هم، وانسرى الهم عنه: انكشف. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٢٨..
٣ القاموس المحيط جـ ٢ ص ١٩٦ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٠٠..
قوله :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ أي ادعوا من استطعتم أن تدعوهم من العوان والأنداد سواء كانوا من البشر أو ممن تعبدون من الأوثان لافتراء ذلك واختلافه ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أن هذا القرآن مفترى، أو أنه قد اختلقه محمد بزعمكم.
واعلموا أيضا أن منزل هذا القرآن المعجز لهو الله وليس من إله غيره ؛ فهو وحده الإله المعبود، فاعبدوه وأطيعوه، واخلعوا الأنداد والشركاء المصطنعين ؛ لتتوجهوا بقلوبكم ونواصيكم إلى الله وحده دون احد سواه ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ الاستفهام للأمر. وفيه استثارة لأذهان المشركين ومشاعرهم كيما يستجيبوا للحق.
والمعنى :{ هل أنتم مذعنون لله بالإيمان والطاعة وإخلاص العبادة بعد الذين تبين لكم من بالغ الحجة وقاطع البرهان ؟ ! ١
فقد قيل : نزلت في الكافرين ؛ فهم لا ينوون بأعمالهم إلا الدنيا وزينتها، وقيل : نزلت في المنافقين وأهل الرياء، وقيل غير ذلك. والصواب أن هذه الآية عامة في كل ما يبتغي بعمله غير الله، سواء كان كافرا أو منافقا أو مرائيا ؛ فأيما امرئ قصد بعمله غير الله فلا يجزي مقابله الثواب في الآخرة. وإنما يجزي في الدنيا حظه من زينة الحياة وطيب العيش فيها وحسن الصحة وجزيل الثناء من الناس، لكنه في الآخرة محروم خاسر، وذلك كالشرك الذي يصل الأرحام ويعطي السائلين ويرحم المضطرين والمكروبين ويغيث الملهوفين والمحتاجين وغير ذلك من صالح الأعمال، فإن الله يعجل له ثواب عمله في الدنيا ؛ إذ يوسع عليه في الرزق، ويقر عينه بما أعطاه، ويدفع عنه من المكاره ما يعدل ما بذله من خير ومعروف، وهو في الآخرة ما له من نصيب. وكذلك المنافقون والمراؤون الذين لا يبتغون بأعمالهم إلا الدنيا وزينتها وزخرفها وحسن الثناء فيها والإطراء ؛ فإنهم يعطون من زينة الدنيا ما يتمتعون به وينعمون. ﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ أي لا ينقصون من نعيمها ومتاعها شيئا.
قوله :﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ حبط حبطا وحبوطا ؛ أي بطل، حبطت الداية حبطا، بالتحريك : انتفخ بطنها من كثرة الأكل، أو من أكل ما لا يوافقها. والحباط : وجع البطن من الانتفاخ لكثرة الأكل أو الأكل مالا يوافق١. والمعنى : أن ما كان يعمله هؤلاء المشركون والمنافقون والمراؤون من صنعي في الدنيا ليس لهم فيه ثواب ؛ ولكنه ذاهب هدرا بغير قيمة أو حساب ؛ لأنهم ما كانوا يريدون به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا وزينتها وزخرفها.
قوله :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ باطل، مرفوع ؛ لأنه مبتدأ. و ﴿ ما كانوا يعلمون ﴾، خبر٢ ؛ أي ما كان يعمله هؤلاء غير معتمد به ولا معتبر ؛ بل هو باطل ؛ لأنهم كانوا يعلمون بغير الله ؛ فأبطل الله وأعمالهم٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٩..
٣ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٠وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨٨..
قوله :﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ يراد بالشاهد القرآن. والضمير في ﴿ منه ﴾ إلى الله ؛ أي ويتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن ؛ فإنه في بلاغته وروعة نظمه وعظيم معانيه يشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة والصدق فيما جاء به. ومن قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام يتبع القرآن في تصديق الرسول الكريم والشهادة له بأنه جاء بالحق.
قوله :﴿ إماما ورحمة ﴾ منصوبان على الحال. والإمام الذي يؤتم به في الدين ويقتدى. والرحمة ما حواه هذا الكتاب ( التوراة ) من نعمه الهداية وصدق العقيدة والتشريع. و ﴿ كتاب موسى ﴾ مرفوع ؛ لأنه معطوف على قوله :﴿ شاهد ﴾ ١.
قوله :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ الإشارة إلى الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين ؛ فإنهم يؤمنون بالقرآن.
قوله ﴿ ومن كفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ أي من يكفر بهذا القرآن فيجحد نزوله من عند الله، من الأحزاب وهم المتحازبون على الكفر وتكذيب الإسلام من أهل الملل والأديان المختلفة ؛ فإنهم لا جرم صائرون إلى النار بسبب كفرهم وتكذيبهم. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ).
قوله :﴿ فلا تك في مرية منه ﴾ أي لا تك في شك من هذا القرآن. وقيل : لا تك في شك من أن موعده المكذبين بالقرآن النار ﴿ إنه الحق من ربك ﴾ أي أن القرآن أو الموعد بمصير المكذبين إلى النار هو الحق من الله فلا مدخل للشك في ذلك البتة ﴿ ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ أكثر الناس في مختلف القرون والأمم غافلون مفرطون، سادرون في الضلالة لا يتبعون في حياتهم وعامة سلوكهم غير الهوى ؛ فهم أكثرهم بذلك غير مؤمنين٢.
٢ تفسير البيضاوي ص ٢٩٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٣ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨٨ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢١٠ والكشاف جـ ٢ ص ٢٦٢..
الاستفهام للإنكاري المفيد للنفي ؛ أي ليس من أحد أشد ظلما لنفسه من الذي يفتري على الله الكذب، بزعمه أن لله شريطا، أو زعم أن الأصنام شفعاء له عند الله، أو قال : الملائكة بنات الله، أو كذب كلام الله وهو القرآن فأضافه إلى نفسه.
قوله :﴿ أولئك يعرضون على ربهم ﴾ أي تعرض أعمالهم على ربهم فيسألهم عنها ﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ الأشهاد يراد بهم الملائكة. وقيل : الأنبياء المرسلون. وقيل : الملائكة والمرسلون والعلماء. وقيل : جميع الخلائق أشهاد على الظالمين المفترين يوم القيامة ؛ فهم يشهدون على افترائهم على بهم في الدنيا ويقولون :﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ أي كذبوا عليه بما نسبوه إليه افتراء عليه.
وهذا مشهد من أشد المشاهد التي يمر بها المجرمون الظالمون هولا وفظاعة يوم القيامة، يوم تتفاقم فيه الأهوال والبلايا والفضائح ؛ ليجد الظالمون الخاسرون أنفسهم في غاية الإياس وكمال الإحساس بالخزي على مرأى ومسمع من الخلائق كافة. فيا لها من ساععة قارعة رهيبة، ويا له من مشهد رعيب مزلزل !
وفي هذا الصدد روي الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر ؛ إذ عرض عليه رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعته يقول :( إن الله عز وجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه١ ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذ قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول :﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾.
قوله :﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ الواو، واو الحال. هم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة. أي أنهم يصدون عن دين الله ويلتمسون أن يكون هذا الدين زائغا معوجا ويبغون للمسلمين الارتداد، والحال أنهم يجحدون البعث ويكفرون به.
قوله :﴿ وما كان لهم من دون الله من أولياء ﴾ أي ليس لهم من دون الله أنصار ينصرونهم فيدفعون عنهم بأس الله وانتقامه منهم وعقابه النازل بهم، وإذا وقع بهم عذاب الله لا مناص لهم حينئذ ولا مفر، فما تغنيهم خلة الأخلاء ولا تغنيهم شفاعة الشافعين.
قوله :﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ فهم بإضلالهم الناس عن دينهم وبسبب جحودهم وتكذيبهم بالبعث فإن جزاءهم مضاعف ؛ أي يزاد في عذابهم ليكون عذاب الاثنين للواحد منهم، أو أن عذابهم يضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم ويضاعف من التضعيف، وهو أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر. كذلك الإضعاف والمضاعفة. ويقال : ضعف الشيء تضعيفا. وضعف الشيء إذا مثله، وضعفاه أي مثلاه، وأضعفاه أمثاله١.
قوله :﴿ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ﴾ هذا وصف لهؤلاء المشركين الجاحدين، بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع متعظ معتبر، ولا يبصرونه إبصار متدبر مدكر ؛ لأنهم كانوا بكفرهم الذي تلبسوا به وبعصيانهم وصدهم عن سبيل الله.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٥ وتفسير البيضاوي ٢٩٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٤ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٤١..
قوله :﴿ هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ﴾ أي هل يستوي الفريقان ﴿ مثلا ﴾ منصوب على التمييز ومثلا يعني تشبيها أو صفة أو حالا ﴿ أفلا تذكرون ﴾ الاستفهام لإنكار عدم التذكر. يعني : أفلا تتفكرون وتعبرون بضرب هذه الأمثال والتأمل فيها لتستيقنوا مبلغ الاختلاف بين الفريقين المتباينين فتتعظوا وتزدجروا ؟ ! ١
ونذير ومنذر والجمع نذر، بضمتين. أنذرته كذا إنذارا ؛ أي أبلغته. وأكثر ما يستعمل في التخويف. كقوله سبحانه :﴿ وأنذرهم يوم الأزفة ﴾ أي خوفهم عذابه١.
قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾ جملة تعليلة. والمعنى : نهيتكم عن عبادة غير الله ؛ لأني أخاف عليكم. واليوم الأليم هو يوم القيامة.
قوله :﴿ وما نرك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ أي ما نراك اتبعك إلا الذين هم أخساؤنا وسلفتنا من الناس الفقراء والمغلوبين، ليس الكبراء والأشراف والأغنياء. ﴿ بادي الرأي ﴾ ﴿ بادي ﴾، تقرا بالهمز وغير الهمز. فبادئ بالهمز اسم فاعل من بدأ يبدأ ؛ أي أول الرأي.
وبادي بغير همز، اسم فاعل من بدا يبدوا إذا ظهر ؛ أي ظاهر الرأي. وبادي منصوب على الظرف، وأصله : وقت حدوث ظاهر رأيهم، أو أول رأيهم١.
والمعنى المقصود من قولهم لنوح عليه السلام : أن اتباعهم لك أمر قد عن لهم من غير رواية ولا تثبيت ولا نظر. ولو أنهم تفكروا ما اتبعوك. ذلك هو قول الجاحدين العتاة من الظالمين والمجرمين ؛ أولئك الذين مردوا على العناد والمكابرة والعصيان ؛ فلا تصيخ قلوبهم للحق الواضح المستبين، ولا تستجيب أذهانهم للحجة الجلية المكشوفة التي جاء بها النبيون والمرسلون ؛ لقد جاءوا بالحجة الساطعة سطوع الشمس في وضح النهار المتجلي، ومع ذلك فلا يستجيب الجاحدون الأشقياء، ويأبون إلا العتو والاستنكاف والإدبار في خسة ولؤم، أولئك هم الشاردون شرود الشياطين، إذا ما ذكر الله.
أما المؤمنون المبرأون من معايب النفس المريضة، الأسوياء في فطرهم وطبائعهم ؛ فإنهم ما لبثوا أن يبادروا بالإيمان والاستجابة والطاعة في غير ما التواء ولا إبطاء ولا تحمل. أولئك هم الأسوياء الكرام من البشر الذين سمت نفوسهم وطبائعهم فوق الأمراض والعقد والشذود فأوجفوا٢ بأنفسهم سراعا لا ستلهام المعاني الخيرة العظيمة التي حملها غليهم النبيون والمرسلون.
قوله :﴿ وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ﴾ يخاطب المشركون الظالمون نبيهم نوحا والذين آمنوا معه ليقولون لهم في استكبار فاجر : ليس لكم علينا من فضل أو شرف تتميزون به علينا ؛ بل إنكم كاذبون فيما جئتمونا به. وهذا تكذيب منهم ظاهر لنبوة نوح وما جاءهم به من دين وتوحيد٣.
٢ أوجفوا: أسرعوا، أوجف السائر: أسرع في سيره. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠١٤..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٤ وتفسير البيضاوي ص ٢٩٤..
ذلك إخبار عن قيل نوح لقومه لما كذبوه وردوا عليه دعوته لهم ؛ فقد خاطبهم في لين ورفق وتودد بقوله :﴿ يا قوم ﴾ وفي هذا التعبير من رقة الخطاب المحبب إلى القلوب ما لا يخفى. ثم قال لهم : أرأيتم إن كنت على علم ويقين من الله مما جئتكم به وأنه الحق والصواب ﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾ أي أعطاني ربي منه رحمة كريمة عظيمة وهي النبوة والرسالة والحكمة فصدقتها كامل التصديق، وأيقنت أنها الحق، والتزمت موجبها طاعة وإخباتا لله ﴿ فعملت عليكم ﴾ بضم العين وتشديد الميم المكسورة ؛ أي فعماها الله عليكم ﴿ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ﴾ الاستفهام للإنكار. نلزم، يتعدى على مفعولين، المفعول الأول : الكاف والميم. والمفعول الثاني : الهاء والألف. ﴿ وأنتم لها كارهون ﴾ جملة اسمية في موضع نصب على الحال١، والهاء ترجع إلى الرحمة ؛ وهي العلم أو الرسالة أو التوحيد ؛ أي : أنضطركم أن تقبلوا هذه الرحمة وأنتم تكرهونها ؟ فغنه لا يصح قبولكم لها مع كراهتكم إياها.
قوله :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ﴾ ذكر أن المشركين سألوا نوحا أن يطرد المؤمنين فيستبعدهم من مجلسه ؛ لأنهم أراذل ؛ أي عالة ضعفاء. فكانوا يستكبرون أن يخاطبوهم أو يجلسوا معهم، لكن نوحا عليه السلام قد رد مطلبهم الجهول بقوله لهم : لا أقصي ولا أستبعد المؤمنين الذين أقروا بوحدانية الله وخلعوا الأوثان وتبرأوا من أوضار الشرك والمعصية ﴿ غنهم ملقوا ربهم ﴾ هؤلاء المؤمنون الذين تسألونني طردهم لكونهم أرذال في نظركم، سيلاقون الله يوم القيامة ؛ فهو يتولى سؤالهم عما عملوه في الدنيا فيجازيهم بإيمانهم وطاعتهم، ولا وزن يومئذ للشرف أو الحسب الذي تعتبرونه كل الاعتبار.
لقد قال نوح على وجه التكريم لهؤلاء المؤمنين. وقيل : قال ذلك خشية أن يشكوه إلى الله يوم القيامة إذا طردهم فيجازيه على طردهم.
قوله :﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾ لا تعلمون الحق. ومن الحق أن لا أطرد الذين تعدونهم أرزال وهم في ميزان الله وأبرار كرام، فأنتم بذلك مجانبون للحق، مناهضون للصواب، وتجهلون ما ينبغي أن يكون وأن يعلم.
قوله :﴿ ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ لا احكم على من استرذلتم من المؤمنين بان الله لن يؤتيهم خيرا في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم في نظركم الضال وتقديركم الظالم، أراذل أو أضعاف وعالة ؛ فذلكم حكمكم المتعجرف الجهول، الحكم الذي بني على الظلم والباطل والذي يقيس الأمور بمقياس الجور والهوى.
قوله :﴿ الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ﴾ لا أحكم على ما في قلوب هؤلاء الذين تسترذلونهم. الله عليم بما في قلوبهم من صدق الاعتقاد. فما أعول إلا على ظاهرهم من حسن الطاعة وتمام الإقرار، ولئن قلت شيئا غير ذلك مما تسألونني أن أفعله في حقهم كطردهم وإبعادهم من مجلسي ﴿ إذا لمن الظالمين ﴾ ١.
﴿ جادلتنا ﴾ من الجدل بالفتح ومعناه : شدة الخصومة١. قال له قومه الضالون المعاندون : لقد حاججتنا يا نوح وأكثرت حجاجنا، وخاصمتنا وأكثرت خصامنا، ونحن لسنا بمؤمنين لك ولا متبعين ما جئتنا به ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ من النقمة والعذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ أي إن كنت تصدق فيما تعدنا به من عذاب ربك.
وفي قوله :﴿ أن يغويكم ﴾ قال الزمخشري : معناه أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التيس لا تنفعكم نصائح الله وموعظة وسائر ألطافه ؛ كيف ينفعكم نصحي ؟ وفي هذا القول من تكلف المعتزلة في تأويل مثل هذه الآية ما لا يخفى. والصواب في هذا الصدد أن نقول : إن الله هو الهادي وهو المضل. ويقوي هذا التأويل بعد ذلك :﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ﴾ فالله مالك كل شيء، ومالك الناس جميعا ؛ فإليه الهداية، والناس صائرون أخيرا إليه٣.
٢ مختار الصحاح ص ٤٨٥ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٦٧..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ٢٦٧ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٥٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٨..
واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية، فقد قيل : إنها حكاية عن تكذيب المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قالوا إن هذا القرآن قد افتراه محمد ! فأنكر الله مقالتهم بقوله :﴿ أم يقولن افتراه ﴾.
وقيل : الآية تحكي خبر المحاججة بين نوح وقومه ؛ إذ قالوا، إن ما جاءهم به نوح مفترى. قال ابن عباس في ذلك : هو من محاورة نوح لقومه وهذا أظهر القولين ؛ لأنه ليس قبل ذلك ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم ولهم. ثم أمر الله نوحا أن يرد مقالتهم ﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون ﴾ أي قل لهم : إن كان ما أقوله لكم اختلافا مني وتخريصا ؛ فعلي إثمي فيما أفتريه على ربي، ولا تؤاخذون أنتم بذنبي ولا إثمي، ولست أنا مؤاخذا بذنبكم ؛ بل أنا برئ مما تذنبون وتأثمون٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٧..
٢ مختار الصحاح ص ٣٩..
وبذلك قد بصر الله نوحا بكيفية صنع السفينة لتطفوا على وجه الماء وهي تسير بعون الله ورعايته فينجو من على ظهرها من المؤمنين وغيرهم من بقية الأجناس.
قوله :﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ﴾ أي لا تطلب العفو مني عن هؤلاء الظالمين المكذبين ؛ أو لا تطلب إمهالهم ؛ فقد حق عليهم القول من الله بإغراقهم.
ومنها : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة منها.
ومنها : أنه تنور الخبز ؛ فقد صارت الأرض عيونا تتدفق منها المياه حتى صارت التنانير التي هي مكان النار تفور ماء. وذلك لفظاعة الطوفان الدافق الجارف الذي أتى على الحياة والأحياء جميعا فلم يستبق غير الذين على ظهر السفينة ؛ لقد أتى الماء على كل شيء وأغرق كل مكان حتى التنانير التي تتأرجج فيها النار وتضطرم فارت ماء.
قوله :﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ﴾ ﴿ اثنين ﴾ في محل نصب مفعول للفعل ﴿ احمل ﴾، و ﴿ أهلك ﴾ معطوف عليه٣.
والزوج كل واحد معه أخر من جنسه ؛ فالسماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والنهار زوج، والليل زوج، ونقول للمرأة هي زوج، وهو زوجها. لقوله تعالى :﴿ وخلق منها زوجها ﴾ يعني المرأة. وقوله :﴿ وانه خلق الزوجين الذكر والأنثى ﴾ فثبت بذلك أن الواحد قد يقال له : زوج. ويقال للاثنين أيضا : هما زوجان وهما زوج. وقد يكون معنى الزوجين الضربين أو الصنفين. وكل ضرب يسمى زوجا.
والمراد هنا : أن يحمل معه في السفينة ﴿ من كل زوجين ﴾ ذكرا وأنثى. قال الرازي في ذلك : الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى. والتقدير : كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين. واحد ذكر والآخر أنثى. وذلك لكي يبقى أصل الأنواع بعد الطوفان.
قوله :﴿ وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ﴾ ﴿ وأهلك ﴾، معطوف على ﴿ اثنين ﴾. و ﴿ من سبق ﴾، في موضع نصب مستثنى من ﴿ وأهلك ﴾ ٤ أي واحمل في السفينة أهلك ﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾ يعني إلا من سبق فيه علم الله أنه يختار الكفر بإرادة الله وتقديره فيكون من الهالكين.
قوله :﴿ ومن آمن ﴾ معطوف على ﴿ أهلك ﴾. أي واحمل في السفينة من آمن من قومك.
قوله :﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ وقد اختلفوا في عدتهم فقيل : كانوا سبعة، وقيل : كانوا عشرة، وقيل : كانوا اثنين وسبعين. وقيل : كانوا ثمانين إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه وهم سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم. وقيل غير ذلك٥.
٢ مختار الصحاح ص ٧٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٣..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٣..
٥ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٣- ٣٥ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢٣٣- ٢٣٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٧..
﴿ مجراها ﴾، في موضع رفع مبتدأ، وخبره :﴿ بسم الله ﴾. والتقدير ك باسم الله إجراؤها وإرساؤها. وقيل غير ذلك١.
وهذا إخبار من الله عن نبيه نوح عليه السلام ؛ إذ قال للذين آمنوا معه، يأمرهم بالركوب في السفينة ﴿ اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ﴾، ﴿ مجراها ﴾ أي جريها على سطح الماء، و ﴿ مرساها ﴾ بمعنى رسوها. رست رسوا ومرسى. ورسا الشيء : ثبت. والرواسي من الجبال : الثوابت الرواسخ، واحدثها راسية٢. والمراد بمرساها : أنها بلغت منتهى سيرها وهو رسوها.
قوله :﴿ إن ربي لغفور رحيم ﴾ الله غفار للذنوب، يتجاوز عن خطايا المسيئين والعاصين، وهو أيضا رحيم بعباده المؤمنين الطائعين. ومن رحمته أن نجى هؤلاء الذين في السفينة ؛ فهم ما بين مؤمن مقر لله بالوحدانية، أو بهيمة عجماء لا ذنب لها وما عليها من حساب، ويريد الله ألا ينقطع أصلها من الدنيا.
٢ مختار الصحاح ص ٢٤٣..
قوله :﴿ ونادى نوح ابنه وكان في معزل ﴾ كان ابن نوح كافرا، وبذلك سوف يصير إلى الغرق مع الهالكين، فحملت نوحا شفقة الأبوة على مناداته ليركب في السفينة فينجو بنفسه من الغرق ﴿ وكان في معزل ﴾ أي في منحى. انعزل عن الناس إذا تنحى عنهم جانبا. وفلان بمعزل عن الحق، أي مجانب٣ له أي كان عند نداء أبيه قد عزل نفسه عن وقومه فتنحى عنهم جانبا فناداه أبوه ﴿ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ﴾ دعا نوح ابنه –وقيل اسمه كنعان- أن يؤمن برسالة التوحيد مع المؤمنين في السفينة فينجو بنفسه من الغرق المنتظر الذي سيأتي على الكافرين جميعا. لكن ابنه كان ظالما لنفسه فأبي إلا الهلاك والخسران
٢ تنداح: تتعاظم. انظر لسان العرب جـ ٢ ص ٤٣٦..
٣ المصباح المنير جـ ٢ ص ٥٧..
وذلكم هو تقدير الله الذي يجازي المجرمين والجاحدين والمتكبرين سوء التنكيل في هذه الدنيا قبل يوم الحساب ﴿ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ لا مانع اليوم من الطوفان الذي سلطه الله على الظالمين. أما من وحمه الله ؛ فإنه يمنعه من هذا العقاب المغرق.
قوله :﴿ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ﴾ حال الموج الجارف المنداح بين نوح عليه السلام وابنه الظالم لنفسه ؛ فهلك مع الهالكين بالتغريق١.
هذه الآية تكشف عن عظيم قدرة الله في هذا الوجود الهائل الكبير، بأجرامه الزاخرة العظام وأجوازه النائية الممتدة وما فيه من خلائق كاثرة لا يحصي أنواعها وأجناسها وأفرادها غير الله جلت قدرته يسخر كل ما في الكون من أجرام لفعل ما يشاء أو يقضي، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يسأل عما يفعل. وليس أدل على ذلك من ابتداء هذه الآية بالفعل الماضي للمجهول ﴿ وقيل ﴾ فذلكم أمر إلهي قاطع ما له من تعقيب ولا دافع.
ويضاف إلى ذلك هذه الكلمات المعدودة المصطفاة التي حوتها هذه الآية على هذا النحو من متانة الرصف، وجزالة الكلمات، وروعة التناسق والإحكام، وحلاوة الإيقاع المؤثر، فضلا عما تحمله هذه الكلمات القليلة من كبريات المعاني الكونية الجسام، كل ذلك في آية وجيزة سريعة يضمها سطر أو يزيد قليلا. إن هذا لعجاب ما له في النظم من نظير ؛ فهو من نظم العالم الديان الخبير.
قوله :﴿ يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ﴾ ﴿ ابلعي ﴾ : اشربي من الابتلاع وهو الشرب أو الازدراد. و ﴿ أقلعي ﴾ أي أمسكي ؛ فقد أمر الله الأرض بالابتلاع والسماء بالإقلاع، فالأرض مأمورة بنشف الماء ؛ أي شربه. والسماء كذلك مأمورة بالإمساك عن إدراك الماء. وقد تحقق ذلك بأمر الله دون إبطاء. فنشفت١ الأرض ما عليها من الماء، وكفت السماء عن الانهمار ﴿ وغيض الماء ﴾ أي نقض وما بقي منه شيء ﴿ وقضي الأمر ﴾ أي أنجز وتحقق وعد الله لنوح بإهلاك قومه الظالمين، وبنجاته هو والذين معه من المؤمنين ﴿ واستوت على الجودي ﴾ أي استقرت السفينة على ظهر الجودي، وهو جبل بناحية الموصل.
قوله :﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾ أ هلاكا وسحقا لهم على ظلمهم وطغيانهم وإجرامهم٢.
هكذا يقضي الله قضاءه في الكون والكائنات ؛ فهو القادر القاهر ذو الملكوت، يجازي المجرمين المتجبرين الذين يحادون الله ورسله ويسعون في الأرض خرابا وفسادا كقوم نوح، أولئك الظالمون العتاة الذين أسرفوا في الإجرام والطغيان، والذين آذوا نبيهم نوحا، وهذا النبي العظيم الصابر الذي لقي من عنت قومه وكيدهم وظلمهم وإيذائهم ما يعلو ففوق طاقات البشر، لكن نوحا عليه السلام قد اصطبر عليهم بالغ الصبر، واحتمل من ألوان البلاء والطغيان والتكذيب والتنكيل، ما استحقوا به من الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فاستأصلهم استئصالا فلم تبق منهم بقية.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ٢٧١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٩، ١٩٠..
قوله :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ ﴿ عمل ﴾، بالرفع والتنوين. وفي معناه وجهان :
أولهما : أن الضمير في قوله :﴿ إنه ﴾ عائد إلى سؤال نوح تنجية ابنه المخالف لدينه الموالي أهل الشرك، فهذا السؤال غير صالح ؛ لأن طلب النجاة للكافر يعد أن سبق الحكم بعدم تنجية واحد من الظالمين الكافرين سؤال باطل.
ثانيهما : أن الضمير عائد إلى لابن ؛ فيكون المعنى أن ابنه ذو عمل باطل، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه ؛ وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾ ﴿ فلا تسألن ﴾، الأصل تسألني وحذفت الياء للتخفيف واجترأ بالكسرة عنها١ ؛ أي لا تسألن عما أخفيت علمه عنك من أسباب أفعالي مما لا تعلمه أنت. أو لا تسألن عما لا تعلم أنه صواب أو غير صواب ﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ أي أنهاك عن مثل هذا السؤال ؛ لئلا تكون من الجاهلين. قال ابن العربي في هذا الصدد : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العارفين.
وذلك إخبار من الله عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذرية نوح ؛ وذلك أن قرونا وأجيالا من ذريته سيمتعهم الله في الدنيا بما يتمتعون به من عيش عاجل حتى إذا قضوا، أذاقهم الله العذاب الأليم في الآخرة بما قدموه في حياتهم الدنيا من الخطايا والمعاصي.
يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن ما أخبره به عن قصة نوح وقومه الظالمين الجاحدين وما حاق بهم من عذاب الطوفان المغرق، كل ذلك من أخبار الغيب التي لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان ليعلمها هو ولا غيره من الناس لولا أن الله أوحي له بخبرها فعلمها.
وذلك من جملة الأدلة البلجة على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ؛ فهو العربي الأمي الذي ما عرف القراءة ولا الكتابة، وما تلقى العلم عن أحد، ولا درس التاريخ ولا غيره من العلوم. بل كان أميا ينتمي إلى أمة أمية غير قارئة ولا كاتبة. فمن أين له أن يقف على مثل هذه الأنباء القديمة لولا الوحي الذي يأتيه من السماء فيوقفه على أنباء الأولين ؟
قوله :﴿ فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ أي اصبر على أمر الله بتبليغ رسالته للناس، واحتمل ما يصيبك من ظلم قومك وإيذائهم كما صبر نوح من قبلك ؛ إذ مكث فيهم صابرا محتملا ألف سنة إلا خمسين عاما وهم يذيقونه ألوان العذاب والتنكيل فما استيأس ولا تردد. ﴿ إن العاقبة للمتقين ﴾ لسوف تكون العاقبة الخيرة المحمودة بالظفر والغلبة وحسن الثناء للذين يتقون ربهم في هذه الدنيا، ثم يصيرون إلى الفوز بالنعيم والنجاة من العذاب الأليم في الآخرة٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٣٥ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٤٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٣..
قوله :﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ أي لا تولوا مدبرين عما أدعوكم غليه من توحيد الله والتطهير كاملا من رجس الوثنية والأصنام.
وقوله :﴿ مجرمين ﴾ من الإجرام، وهو اكتساب الآثام والذنوب، ومنه الجريمة وهي الجناية وجمعها جرائم٣ ؛ أي لا تعرضوا عن دعوة الله مصرين على إجرامكم وذنوبكم٤.
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٧٩ ومختار الصحاح ص ٢٠٢..
٣ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١١٨ والمصباح المنير جـ ١ ص ١٠٦..
٤ تفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٣ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٥ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٣٥، ٣٦..
قال قوم هود لنبيهم هود : ما أتيتنا ببرهان واضح ولا حجة ظاهرة على صدق ما تقول، وهذا هو ديدن الظالمين المتجبرين الذين أسرفوا في اللجاجة والباطل وفرط العناد من غير أن يسعفهم في ذلك منطق ولا برهان إلا المكابرة والجحود وهوان الأحلام والسفه. ويكشف عن ذلك أيضا قولهم :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ﴾ يعني لسنا تاركي آلهتنا من أجل قولك الذي جئتنا به ﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي وما نحن بمصدقين ما تدعيه من نبوة ورسالة من الله.
هكذا يفتري الجاحدون والجاهلون والسفهاء الذين لا يعبأون إذا ما غلوا في الكذب والمكابرة ومقالة السوء ؛ فها هم فوق حماقتهم وسفههم في عبادة أحجار صم يفترون مثل هذا الضرب من هوان التفكير المخبول١ ليقولوا ما قالوه لنبيهم هود عليه السلام.
قوله :﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ﴾ هذا جواب هود لقومه وهو أنني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أنتم على براءتي من شرككم ومما تعبدون من دون الله من أوثان ﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فامكروا بي أنتم وأصنامكم جميعا واعلموا ما شئتم لضري وإيذائي ولا تؤخروا ذلك، فانظروا بعد ذلك هل تنالون مني انتم وأصنامكم سوءا ؟ !
ومثل هذه المقالة من هود لقومه العتاة المستكبرين يكشف عن مبلغ الثقة الكبرى بنصر الله وتأييده وتوفيقه، وأن الله جل وعلا مع المتقين المخلصين الصابرين في كل الأحوال، وعلى الخصوص في أحوال الخوف والتنكيل واشتداد البأس وتمالئ الكافرين على المؤمنين المستضعفين.
هكذا يفتري الجاحدون والجاهلون والسفهاء الذين لا يعبأون إذا ما غلوا في الكذب والمكابرة ومقالة السوء ؛ فها هم فوق حماقتهم وسفههم في عبادة أحجار صم يفترون مثل هذا الضرب من هوان التفكير المخبول١ ليقولوا ما قالوه لنبيهم هود عليه السلام.
قوله :﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ﴾ هذا جواب هود لقومه وهو أنني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أنتم على براءتي من شرككم ومما تعبدون من دون الله من أوثان ﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فامكروا بي أنتم وأصنامكم جميعا واعلموا ما شئتم لضري وإيذائي ولا تؤخروا ذلك، فانظروا بعد ذلك هل تنالون مني انتم وأصنامكم سوءا ؟ !
ومثل هذه المقالة من هود لقومه العتاة المستكبرين يكشف عن مبلغ الثقة الكبرى بنصر الله وتأييده وتوفيقه، وأن الله جل وعلا مع المتقين المخلصين الصابرين في كل الأحوال، وعلى الخصوص في أحوال الخوف والتنكيل واشتداد البأس وتمالئ الكافرين على المؤمنين المستضعفين.
قوله ﴿ ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها ﴾ الناصية، مقدم الرأس، أو شعر مقدم الرأس إذا طال، وجمعه : النواصي، والناصيات.
ويقال : أذل فلان ناصية فلان : أهانه وحط من قدره، وفلان ناصية قومه : شريفهم. قال الرازي في هذا الصدد. اعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع، قالوا : ما ناصية فلان غلا بيد فلان ؛ أي أنه مطيع له ؛ لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته. وكانوا إذا أسروا الأسير فأردوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره. فخوطبوا في القرآن بما يعرفون. فقوله :﴿ وما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها ﴾ أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ومنقاد لقضائه وقدره٢.
قوله :﴿ أن ربي على صراط مستقيم ﴾ صراط الله، طرقه ومنهجه، الذي يدعو الناس لاتباعه دون مجانية أو تفريط ؛ فهو المنهج الحق الذي يقضي بين العباد بالعدل والاستقامة٣.
٢ مختار الصحاح ص ٦٦٤ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٧ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٤..
٣ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٤ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥١- ٥٣..
قوله :﴿ ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ أي نجاهم الله من عذاب يوم القيامة.
قوله :﴿ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ﴾ الجبار : المرتفع المتمرد المستكبر. والعنيد، أو العاند والمعاند، معناه المنازع المعارض الذي يأبى الحق ولا يذعن له. والمعنى : أن قوم هود قد ضلوا واتبعوا رؤساءهم من المستكبرين والطغاة والمعاندين الذين لا يذعنون للحق ولا يميلون إلا للضلال والباطل.
وبذلك قد لزمتهم اللعنة في الدارين.
قوله :﴿ ألا إن عادا كفروا ربهم ﴾ أي جحدوا نعمة ربهم. ونعمته عليهم عظيمة وكبرى وهي دعوة الحق والهدى ؛ ففيها صلاحهم ونجاتهم من كل البلايا في الدنيا والآخرة. وقد كرر ذلك على سبيل التوكيد والتهويل لأمرهم بقوله :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ والعبد معناه هنا الهلاك. وذلك دعاء عليهم بالهلاك والثبور والبعد عن رحمة الله.
وفي هذا العبير القرآني المميز ما يغني عن كل شرح أو بيان يتفنن به البشر ؛ فأيما كلام أو بيان أو إسهاب في القول عن خسران عاد وهلاكهم لا يزجي من روعة الأسلوب وفظاعة التهويل المذهل، وكمال المعنى المقصود، ومعشار ما يزجي به قوله سبحانه :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ ١.
قوله ﴿ فاستغفروه ثم توبوا إليه ﴾ اطلبوا منه المغفرة من إشراككم ومعاصيكم ثم ارجعوا إليه بحسن العبادة وتمام الطاعة ﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ الله قريب من عباده المؤمنين المخبتين المخلصين، مجيب لهم إذا دعوه ضارعين منيبين٢.
٢ مختار الصحاح ص ٢٦٥ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٦٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٥ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٩..
قوله :﴿ وإننا لفي شك مما تدعوانا إليه مريب ﴾ متشككون فيما جاءهم به صالح من دعوة لتوحيد الله وإفراده بالإلهة والإقرار له وحده بالعبودية دون أحد غيره ﴿ مريب ﴾ من الريبة، وهي التهمة والشك، ومنه : أربته فأنا أربيه إرابة ؛ إذ فعلت به فعلا يوجب له الريبة.
فالمريب : الموجب للشك والتهمة، أو الموقع في الريبة وهي قلق النفس وعدم الطمأنينة١.
قوله :﴿ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ﴾ أي اتركوها تأكل في أرض الله فليس عليكم رزقها أو مؤونتها ﴿ ولا تمسوها بسوء ﴾ أي عقر أو نحر. والعقر، معناه : الجرح. عقر البعير بالسيف عقرا ؛ أي ضرب قوائمه به. ولا يطلق العقر في غير القوائم٢.
قوله :﴿ فيأخذكم عذاب قريب ﴾ حذرهم نبيهم صالح عليه السلام عاقبة عقر الناقة أو مسها بالسوء ؛ فإنهم إن فعلوا ذلك سيصيرون إلى عذاب عاجل قريب من عقرها، لا يتراخى عن مسها منهم إلا ثلاثة أيام.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٧١..
قوله ﴿ إن ربك هو القوي العزيز ﴾ الله القوي القادر على تنجية المؤمنين من عباده الذين بغي عليهم الظالمون الجاحدون. وهو كذلك الغالب القاهر فوق العباد، القادر على الانتقام من الظالمين المجرمين أعداء الحق والدين.
قوله :﴿ ألا أن ثمودا كفروا ربهم ﴾ اختلف القراء في صرف ثمود وعدم صرفه. فمن صرفه جعله اسم الحي. ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معروفة فلم ينصرف للتعريف والتأنيث٢ وذلك تعليل لما حل بقوم ثمود من الانتقام الشديد ؛ إذ أخذتهم الصيحة المهلكة. وذلك بكفرهم وفرط عتوهم وجحودهم ﴿ ألا بعدا لثمود ﴾ وهذا دعاء عليهم بالهلاك والإبعاد من الرحمة ؛ أي : ألا بعدا الله ثمود لنزول العذاب بهم٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠..
٣ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٤٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٦ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٦٠..
هذا إخبار من الله عن قصة نبيه لوط عليه السلام وهو ابن عم خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد كانت قرى لوط بنواحي الشام، وكان إبراهيم يقيم بفلسطين. فما أمر الله ملائكته أن ينزلوا بإهلاك قوم لوط والتدمير عليهم من أجل فاحشتهم الشنيعة، ومروا ولهم في طريقهم إلى مدائن لوط، بإبراهيم ونزلوا عنده وقد ظنهم أضيافا وهو دأبه إكرام الضيف، فأحسن استقبالهم وإكرامهم. وقد قيل : كانوا تسعة. وقيل : كانوا اثني عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه ؛ إذ كانوا أولي وضاءة وصحابة. وذلك تأويل قوله :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾ وقد اختلف العلماء في المراد بالبشرى على وجهين. الأول : أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله : فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب }.
الثاني : أن المراد منه تبشير إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه.
قوله :﴿ قالوا سلاما قال سلام ﴾ نصب سلاما الأول لوجهين :
أولهما : كونه منصوبا بقالوا. كما يقال : قلت خيرا. قلت شعرا.
ثانيهما : كونه منصوبا على المصدر.
ورفع ﴿ سلام ﴾ الثاني ؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : أمرنا سلام، أو هو سلام. وقيل : مرفوع ؛ لأنه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره : وعليكم سلام١.
والمقصود : أن الملائكة حيوا نبي الله إبراهيم بالسلام ؛ أي : سلمنا عليك سلاما. أو سلمت فحياهم إبراهيم بمثلها وهو قول : عليكم السلام. والسلام يأتي على عدة معان. منها أنه اسم من أسماء الله تعالى. وهو التحية عند المسلمين. ويأتي بمعنى الأمان. والصلح والبراءة من العيوب٢.
قوله :﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾ أي فما لبث حتى جاء بعجل حنيذ. أو فما لبث في المجيء به بل عجل فيه. والحنيذ، هو المشوي النضيج. حنيذ الشاة أي شواها وجعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وهو من فعل أهل البادية. والمقصود : أن إبراهيم قد خف سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل من صغار البقر، محنوذ ؛ أي مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة٣.
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٤٦..
٣ مختار الصحاح ص ١٥٩ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٢٥..
﴿ ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ يقرأ يعقوب بضم الباء وفتحها. أما الضم : فهو لكون يعقوب مرفوعا ؛ لأنه مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره. أما الفتح : فلكونه في موضع نصب، بتقدير فعل دل عليه قوله :﴿ فبشرناه ﴾، وتقديره : بشرناها بإسحق ووهبنا له يعقوب من رواء إسحق. أو أن يكون معطوفا على موضع قوله : بإسحق، وموضعه النصب. كقولهم : مررت بزيد وعمرا١.
والمعنى : بشرناها بإسحق ووهبنا لها من بعد إسحق يعقوب. وبذلك بشرت سارة بولد يكون نبيا ويلد نبيا. فكانت هذه بشارة لها بأن ترى ولد ولدها، ومن هذه الآية استدل العلماءعلى أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحق ؛ لأن البشارة وقعت به، وأنه سيولد له يعقوب ؛ فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق ليس فيه خلف، فلا يمكن والحالة هذه أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحق ؟ فتعين أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
وهذا تأويل قوله :﴿ أألذ وأنا عجوز ﴾ استفهام في معنى التعجب. والعجوز، هي المرأة الكبيرة أو المسنة. والجمع عجائز١.
قوله :﴿ هذا بعلي شيخا ﴾ البعل، الزوج، وجمعه : البعولة. ويقال للمرأة أيضا : بعل وبعلة، كزوج وزوجة٢، وأما الشيخ، فهو فرق الكهل. وجمعه شيوخ وشيخان. والشيخوخة مصدر : شاخ يشيخ، وامرأة شيخة. والمشيخة اسم جمع للشيخ، وجمعها : مشايخ٣. وشيخا، منصوب على الحال، لما في قوله :﴿ هذا ﴾ من معنى الإشارة أو التنبيه ؛ فكأن المعنى : أشير إليه شيخا، أو أنبه عليه شيخا٤ والمعنى : أنى يكون لي ولد وأنا كبيرة مسنة، وهذا زوجي ﴿ شيخا ﴾ قيل : كانت سنة فوق المائة عام. ومألوف في هذه السن الكبيرة ترك غشيان النساء.
٢ مختار الصحاح ص ٥٨..
٣ المصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٣..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢..
قوله :﴿ رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ ﴿ أهل ﴾، منصوب على المدح أو الاختصاص. وهذا خبر من الله، ومفاده حصول الرحمة والبركة لأهل البيت، وهو بيت إبراهيم. والرحمة تشمل كل أوجه السعادة والنعمة والخير والنجاة. والبركات، مفردها البركة، وهي النماء والزيادة١ ومن جملة هذه البركات : أن يكون النبيون والمرسلون في ولد إبراهيم وسارة ؛ فقد خص الله بيت إبراهيم بجزيل العطاء والنعم من خيرات ومعجزات وكرامات ونبوة ﴿ إنه حميد مجيد ﴾ إن الله محمود في جميع أفعاله وفيما تفضل به عليكم من النعم والبركات. وهو كذلك ممجد في ذاته وصفاته٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٦٢- ٧١ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٢٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٦، ١٩٧ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥١ والبيضاوي ص ٣٠١..
﴿ الروع ﴾ : الفزع ؛ راعه فارتاع ؛ أي أفزعه ففزع. وروعه ترويعا. وقولهم : لا ترع ؛ أي لا تخف٢.
والمعنى : أن إبراهيم عليه السلام لما اطمأن قلبه من الخوف الذي أصابه وامتلأ سرورا بسبب البشرى بإهلاك قوم لوط، أو بالولد، طفق بعد ذلك يجادل الملائكة وهم رسل الله. ومجادلته إياهم أنهم قالوا :﴿ إنا مهلكوا أهل هذه القرية ﴾ فقال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا. قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا. قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا. قال : ثلاثون ؟ قالوا :. ؛ حتى بلغ خمسة، قالوا : لا. قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا ؛ فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك ﴿ إن فيها لوطا قولوا نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته ﴾ فسكت عنهم واطمأنت نفسه.
٢ مختار لابن الأنباري ص ٢٦٤ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٦٤..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٨..
قوله :﴿ ومن قبل كانوا يعلمون السيئات ﴾ يعني قبل أن يأتوا مسرعين إلى لوط كانوا يفعلون فاحشة اللواط. أو أنهم من قبل مجيئهم إليه كان دأبهم اللواط حتى مرنوا على هذه الفاحشة فلم يستقبحوها. من أجل ذلك جاءوا إليه يهرعون مجاهرين وقحين لا يصدهم عن هذه الرذيلة النكراء مروءة ولا حياء.
قوله :﴿ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ﴾ ﴿ هؤلاء ﴾، في موضع رفع مبتدأ. و ﴿ بناتي ﴾، عطف بيان. ﴿ هن ﴾، ضمير فصل. و ﴿ أطهر ﴾، مرفوع ؛ لأنه خبر للمبتدأ٣ والمقصود بقوله :﴿ أطهر لكم ﴾ أنهن أحل. وهو يعني بذلك نساء أمته، أو جملة النساء ؛ فكل نبي أب لأمته ؛ فهو بذلك قد دعاهم إلى النكاح وليس السفاح ؛ أي أن النكاح أطهر لكم مما تبتغونه من الفاحشة المرذولة بإتيانكم الرجال في أدبارهم. وقيل : أراد لوط في هذا اليوم العصيب أن يفدي أضيافه ببناته فيزوجهم إياهن وكان تزويج المسلمات من الكفار في ذلك الوقت جائزا كما حصل في ابتداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقد زوج الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع وهما كافران. وكان ذلك قبل الوحي. وقيل : كان للقوم الذين جاءوا سيدان مطاعان فأراد لوط أن يزوجهما ابنته طمعا في انصرافهم ودفع أذاهم عن الضيفان.
قوله :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ أي خافوا الله واحذروا عقابه مما تبتغون من مرذول الفاحشة، ولا تهينوني وتفضحوني من الخزي في ضيفي. والضيف : واحد وجمع. وقد يجمع على الأضياف والضيوف والضيفان. والمرأة ضيف، وضيفه٤.
قوله :﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ ﴿ رشيد ﴾ بمعنى مرشد. والمعنى : اليس فيكم رجل مرشد يقول الحق وينهي عن الفساد، ويرد هؤلاء المتوقحين الأوباش فيدفعهم عن أضيافي ؟ !
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٧٥..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٤، ٢٥..
٤ مختار الصحاح ص ٣٨٦ والبيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٥..
والمراد : أن الملائكة لما رأت تفجع لوط وما أصابه من الحزن والاضطراب والحرج بعد أن ضعف عن مدافعة قومه المستقذرين، عرفوه بأنفسهم ليطمئن ويسكن ﴿ يا لوط غنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ لن يصلوا إليك أو إلى ضيفك بسوء أو مكروه، فهون عليك ولا تبتئس.
قوله :﴿ فأسر بأهلك بقطع من الليل ﴾ ﴿ فأسر ﴾، بالهمزة الموصولة والمقطوعة من سرى يسري ومسرى. وأسرى : أي سار ليلا، والسرى معناه السير في الليل٢.
وقوله :﴿ بقطع من اليل ﴾ أي طائفة منه. وهو قول ابن عباس. وقيل : ببقية من الليل. وقيل : بعد جنح من الليل. وقيل : بعد هدء من الليل. وقيل : بعد هزيع من الليل، وهو الطائفة منه. وقيل : النصف. وقيل : ساعة٣. فقد أمر الله نبيه لوطا أن يخرج هو وأهله من بين اظهر هؤلاء الفاسدين بجزء من الليل على أن لا يلتفت واحد منهم إلى الوراء ﴿ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ﴾ والالتفات، معناه نظر الإنسان إلى ما رواءه ؛ فقد قيل : كانت للمؤمنين في البلدة أموال وكان لهم فيها أصدقاء. من أجل ذلك أمرتهم الملائكة بالخروج تاركين وراءهم أشياءهم غير ملتفتين إليها البتة قطعا لتوجههم وهواهم عن كل شيء عدا توجههم إلى الله بارئ الأشياء جميعا. واستثنى من الملتفتين امرأة لوط ؛ فقد كانت عجوز سوء ؛ إذ أخبرت قومها عن ضيف لوط فكانت من الخائنين.
وقوله :﴿ امرأتك ﴾ منصوب على الاستثناء من قوله :﴿ فأسر بأهلك... إلا امرأتك ﴾ ٤.
قوله :﴿ إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ أي مصيبها من العذاب ما يصيب الظالمين المسرفين٥.
قوله :﴿ إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ﴾ كتب الله على هؤلاء المجرمين الفساق أن ينزل بهم العذاب الأليم صبحا ؛ إذ يكونون في هذا الوقت مجتمعين راقدين هاجعين العذاب المباغت زيادة في الترويع والترعيب. والهمزة هنا في ﴿ أليس ﴾ للاستفهام التقريري، فالصبح قريب طلوعه غاية القرب. وليس ادل على قربه البالغ من هذه الكلمات الربانية المؤثرة المصورة في هذه الصيغة من الاستفهام التقريري الذي يوحي بحقيقة القرب لجيئه الصبح فيحين وقت العذاب الفظيع لهؤلاء الغوغاء من أسافل الناس وسقاطهم.
٢ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣٧ ومختار الصحاح ص ٢٩٧..
٣ المصباح المنير جـ ٢ ص ٣١١..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٦..
٥ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٨٠..
جاء أمر الله، وهو عذابه، ليأتي على قوم لوط فيستأصلهم استئصالا، وليدمر عليهم تدميرا، فيذر قراهم وبيوتهم خاوية، ويجهلها أثرا بعد عين، وكان ذلك عند طلوع الشمس ؛ إذ صبحهم العذاب بكرة بعد أن استفاقوا من هجعة الكرى ليكون ذلك أبلغ في التنكيل والبطش بهؤلاء الأشقياء الشذاذ. وقيل كان قوم يقيمون في أربع قرى، وكان أكبرها سدوم وفي كل قرية مائة ألف من الناس. وقيل غير ذلك. وقد قال الله في تدميرهم :﴿ جعلنا عاليها سافلها ﴾ يعني جعل الله عالي قراهم سافلها ؛ إذ قبلهم قلبا.
قوله :﴿ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ﴾ أي طين في حجارة. وقيل : طين تشوي كما يشوي الآجر. وقيل : هي حجارة من طين صلب.
والمنضود الذي يتبع بعضه بعضا في نزوله على الظالمين. وقيل : ينضد بعضها فوق بعض. نضد متاعه : وضع بعضه على بعض. منضود بمعنى مصفوف. وهذه المعاني جميعها متقاربة.
قوله :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ يعني ما الحجارة والتدمير من الظالمين في هذه الأمة ببعيد. وذلك ترهيب للذين يقارفون هذه الفاحشة الكريهة. فما تنزلق نفوس الشذاذ من الفساق إلى هذا المستنقع من الرجس حتى يوشك أن يحيق بهم ما حاق بقوم لوط. وقيل : الضمير ﴿ هي ﴾ للقرى التي أتى عليها التدمير والقلب وهي المؤتفكات أو قرى قوم لوط. فلم تكن هذه القرى ببعيد من كفار مكة ؛ إذ كانت في الشام وكان كفار مكة يمرون بها في أسفارهم.
وقد ذكر خبراء الآثار أن قرى وآثارا لسكان وأناسي غائرة في عمق البحر الميت، وهي بحيرة لوط، تسمية باسم القوم الذين انكفأت بهم الأرض، فصار عاليهم سافلهم. وذلك ما تشهد به دراسة الآثار في بحيرة لوط عن هذه المسألة.
حد اللواط
يثبت حد اللواط بما ثبت به حد الزنا. وذلك بالإقرار أو البينة ؛ وهي أن يشهد أربعة من العدول على حصول تمام الزنا.
على أن عقوبة اللواط موضع خلاف بين الفقهاء ؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه ليس من حد في اللواط بل فيه التعزير على كل من الفاعل والمفعول به. واستدل على ذلك بالمعقول والنظر، وهو أن اللواط ليس زنا لاختلاف الصحابة في عقوبته ؛ فقد روي عن أبي بكر الصديق أن عقوبته الإحراق بالنار. وهو قول علي. وقيل : عقوبته التنكيس من مكان مرتفع وإلحاقه بالحجارة زيادة في التنكيل. وقيل غير ذلك في عقوبته.
وقال أيضا إن اللواط ليس في معنى الزنا ؛ لأنه ليس سببا لإضاعة الولد واشتباه النساب كالحال في الزنا. ومن جهة أخرى فإن حصول اللواط نادر ؛ لأن النفوس تنفر منه وتشمئز. لكنه مع ذلك يجب فيه التعزير٢.
وذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنبلية وصاحبا أبي حنيفة إلى وجوب الحد في اللواط إن تحقق فيه شرط من عقل وبلوغ. فإن كان أحدهما صغيرا أو مجنونا وجب الحد على العاقل أو البالغ منهما. وفي ذلك أخرج البيهقي بإسناده عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان، ) وهذا يدل على أن اللواط ضرب من الزنا فيجب فيه من الحد ما يجب على الزنا. وهذا الصحيح الذي ينبغي اعتباره والأخذ به. وما ينبغي أن يعارض هذا باحتجاج أبي حنيفة المبني على النظر.
أما ماهية حد اللواط وكيفيته فثمة قولان في ذلك :
القول الأول : وهو أن حد اللواط كحد الزنا في المرأة من غير فرق ؛ فيجب فيه الجلد على البكر، والرجم على المحصن، وهو قول الشافعية في المعتمد من مذهبهم، وكذلك الحنبلية في إحدى الروايتين عنهم. وقال بذلك صاحبا أبي حنيفة. واستدلوا على ذلك بالخبر :( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان }.
القول الثاني : وهو وجوب قتل الفاعل والمفعول به سواء كانا بكرين أو ثيبين وهو قول المالكية والشافعية في قولهم الثاني. وهي الرواية الثانية للحنبلية وذلك لخبر :( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) أخرج أبو داود عن ابن عباس. وكذلك ما أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من وقع على الرجل فاقتلوه ) وسئل ابن عباس : ما حد اللواطي ؟ قال :( ينظر أعلى البناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع الحجارة ).
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال :( السنة أن يرجم اللواطي أحصن أو لم يحصن ).
أما لو كان الملتبسان غير مكلفين، كأن يكونا صغيرين ؛ فإنه لا حد عليهما، ولكنهما يؤدبان بمختلف وجوه التأديب ممل يكون لهما زاجرا ورادعا. ولو كان أحد مكلفا دون الأخر، فإن كان المكلف هو الفاعل فقد وجب حده رجما أما لو كان المفعول به مكلفا دون الفاعل فلا رجم عليه ( المفعول به ) بل يؤدب الصغير غير المكلف ويعزز الكبير البالغ٣.
٢ الهداية للمرغيناني جـ ٢ ص ١٠٢ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٨٩، ٣٣٤..
٣ أسهل المدارك جـ ٣ ص ١٦٥ والكافي جـ ٣ ص ١٩٨ والمهذب جـ ٢ ص ٢٦٩ والمدونة للإمام مالك جـ ٤ ص ٣٨٥ والأنوار للأردبيلي ومعه حاشية وحاشية الحاج إبراهيم جـ ٢ ص ٤٩٦..
مدين هم قوم شعيب، وسموا بذلك ؛ لأنهم بنو مدين بن إبراهيم. وقيل : إن هذا اسم مدينتهم فنسبوا إليها. وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحاجز والشام قريبا من معان. وهي بلاد تعرف بهم يقال لها : مدين.
فقد أرسل الله إليهم نبيه شعيبا عليه السلام، وكان من أشرفهم نسبا، فقال لهم :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ﴾ أي أقروا الله وحده بالعبودية دون غيره من الأنداد، وأفردوه وحده بالإلهية دون غيره من الشركاء، وأذعنوا له بالطاعة والانقياد.
قوله :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ ﴿ المكيال ﴾، ما يكال به، وجمعه : مكاييل١. و ﴿ الميزان ﴾ : الآلة التي توزن بها الأشياء٢ ؛ أي تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ؛ فقد كان أهل مدين فرق إشراكهم وكفرهم وعبادتهم للأوثان، أهل بخس وتطفيف في المكيال والميزان. فكانوا إذا باعوا أعطوا دون ما يستحقه المشتري. وإذا اشتروا قبضوا أكثر من حقهم، فهم في الحالين مستزيدون أكثر مما يستحقون. وذلكم ظلم وخيانة وغش. فنهاهم الله عن هذا الخلق الذميم الذي يجر لهم السحت ثم يجرجر في بطونهم النار يوم القيامة. قوله :﴿ إني أراكم بخير ﴾ يعني أراكم تنعمون في البحبوحة والسعة وكثرة النعم فلا حاجة لكم إلى البخس في الكيال والميزان.
قوله :﴿ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ﴾ أي مهلك. وهو من قوله تعالى :﴿ وأحيط بثمره ﴾ أي أهلك، وأصله من إحاطة العدو. والمراد : أن شعيبا خشي على قومه من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو العذاب البئيس في الآخرة٣.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٣٠..
٣ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٤١ والكشاف جـ ٢ ص ٢٨٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٥ والنسفي جـ ٢ ص ٢٠٠..
قوله :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ ﴿ تعثوا ﴾، أي تفسدوا. عثا عثوا وعثيا : أفسد أشد الإفساد. وعثي عثوا وعثيا وعثيانا : أفسد كذلك١ ؛ فقد نهاهم شعيب عن الإفساد في الأرض، وهو يدل على أن التطفيف أو البخس في المكيال والميزان خيانة وإفساد شديد في الأرض.
قوله :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أي لست أنا رقيبا عليكم فأرى كيلكم ووزنكم، وإنما الله هو الرقيب عليكم. وقيل : لا أقدر أن أحفظكم من زوال النعمة عنكم بسبب معاصيكم، فاحفظوا نعم الله عليكم بخشيته ومجانبة عصيانه بالبخس والتطفيف١.
قوله :﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ أي لا أنهاكم عن شيء وآتيه أو أرتكبه ؛ فاني لا أفعل إلا ما آمركم به. ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه.
قوله :﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استعطت ﴾ ﴿ إن ﴾، نافية بمعنى ما ؛ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بما أعظكم به وأنصحكم، فتكونوا من الصالحين في دنياكم وأخراكم بعبادة الله وطاعته. وما، مصدرية واقعة موقع الظرف ؛ أي ما أريد إلا الإصلاح ما دمت أستطيعه ولا آلو.
قوله :﴿ وما توفيقي إلا بالله ﴾ التوفيق، معناه السداد والرشاد، أي ما كوني موفقا إلى الحق والسداد والرشاد فيما أفعله وأنتهي عنه إلا بتقدير الله وتأييده ﴿ عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ لقد اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه. وإليه وحده أبوء وأتضرع وأشكو مما ينزل بي من النوازل والنوائب. أو أرجع إلى الله في الآخرة١.
﴿ لا يجرمنكم ﴾، أي لا يكسبنكم، أو لا يحملنكم. ومنه، جرم بمعنى كسب وكذا اجترم١. وذلك إخبار من الله عن قيل شعيب لقومه وهو يحاورهم ناصحا واعظا ومحذرا، فيقول : لا يحملنكم ﴿ شقاقي ﴾ أي خلافكم لي وعاداتكم إياي على ترك الإيمان بالله وطاعته فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الطوفان والتغريق. أو قوم هود أو قوم هود من التدمير بالريح، أو ما أصاب قوم صالح من الرجفة المزلزلة ﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ فهم أقرب الهالكين منكم في الزمان وفي المكان. فمنازلهم قريبة منكم ؛ إذ تمرون عليها في أسفاركم، فاتعظوا واعتبروا واحذروا أن يحل بكم ما حل بهؤلاء، فإن عذاب الله محيط بالطغاة والمستكبرين المجرمين. وإنه إذا جاء لا يرد بأسه عن القوم الهالكين الخاسرين.
قوله :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ﴾ ﴿ ضعيفا ﴾، منصوب على الحال من الكاف ؛ لأنه من رؤية العين. ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا١. استضعف المشركون شعيبا ؛ وسبب ضعفه كونه ضريرا لا يبصر. أو كان ضعيف البصر.
قوله :﴿ ولولا رهطك لرجمناك ﴾ الرهط : ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امراة. ورهط الرجال : قومه وقبيلته. وليس للرهط واحد من لفظه والجمع أرهط أرهاط وأراهط٢.
والمعنى : أنه لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ؛ فقد كانت عشيرته من أهل ملتهم، من اجل ذلك لم يرجموه.
قوله :﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ أي لست أنت علينا ممتنعا ولا ممن يعظم علينا إذلاله أو يصعب علينا هوانه، وغنما يعز علينا رهطك ؛ فهم من أهل ديننا.
٢ مختار الصحاح ص ٢٥٩..
قوله :﴿ إن ربي بما تعلمون محيط ﴾ الله محيط علمه بعلمكم فلا يخفي منه على الله شيء، وهو مجازيكم عن كل أعمالكم ما ظهر منها وما بطن١.
يئس شعيب من هداية قومه لفرط جحدوهم وعتوهم، وشدة إعراضهم عن دين الله وجموحهم للشرك والعصيان بعد كل الذي بذله فيهم من الموعظة والنصح والتحذير ولم يأت في ذلك جهدا. بعد ذلك كله أزفت ساعة الجزاء الأليم في الدنيا، فقال لهم عليه السلام مهددا متوعدا :﴿ اعملوا على مكانتكم إني عامل ﴾ اعملوا على طريقتكم وبكل ما في وسعكم وطاقتكم من العصيان وفعل المنكر، فإني عامل على طريقتي مما هداني إليه ربي وبكل ما أعطاني إياه من الاقتدار والتمكن.
قوله :﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ﴾ ﴿ ومن يأتيه ﴾، ﴿ من ﴾ اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب للفعل تعلمون. وقيل :﴿ من ﴾ اسم استفهام في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ ويأتيه عذاب ﴾ ١ وذلك تهديد ووعيد ؛ أي سوف تعلمون أينا آتيه من الله عذاب يفضحه ويذله وأينا هو الكاذب ؛ أي ستعلمون من منا الشقي المفضوح بالعذاب، ومن منا الكذاب في قيله وطريقته ﴿ وارتقبوا إني معكم رقيب ﴾ أي انتظروا عاقبة ما أحذركم منه وإني معكم منتظر.
قوله :﴿ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ ﴿ ألا ﴾، للتنبيه. والبعد، هنا بمعنى الهلاك أو اللعن والإبعاد من الخير والرحمة ؛ أي هلك قوم مدين كما هلكت ثمود، أو ألا أبعد الله مدين من رحمته كما بعدت ثمود بما حل بهم من النقمة والعذاب١.
أرسل الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام بآياته وهي التوراة، وقيل : المعجزات الظاهرة ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي دليل ظاهرة وحجة قاطعة وهي العصا التي صيرها الله حية هائلة تسعى ثم تلقف كل ما كان يفتريه السحرة من أشياء. أرسل الله نبيه موسى بذلك للطاغية المتجبر فرعون وملئه، وهم الزمرة الفاسدة من المنافقين والأشرار، الذين جحدوا رسالة ربهم وآذوا نبي الله موسى واتبعوا ﴿ أمر فرعون ﴾ أي أمره لهم بالكفر والتكذيب بنبوة موسى ومعجزاته. وقيل : المراد من أمره : طريقه وشانه ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ ﴿ برشيد ﴾، أي بذي رشد. والرشد معناه السداد والاستقامة ؛ أي ليس أمره سديدا ولا مستقيما ولا هو بمرشد إلى هداية أو خير.
أرسل الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام بآياته وهي التوراة، وقيل : المعجزات الظاهرة ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي دليل ظاهرة وحجة قاطعة وهي العصا التي صيرها الله حية هائلة تسعى ثم تلقف كل ما كان يفتريه السحرة من أشياء. أرسل الله نبيه موسى بذلك للطاغية المتجبر فرعون وملئه، وهم الزمرة الفاسدة من المنافقين والأشرار، الذين جحدوا رسالة ربهم وآذوا نبي الله موسى واتبعوا ﴿ أمر فرعون ﴾ أي أمره لهم بالكفر والتكذيب بنبوة موسى ومعجزاته. وقيل : المراد من أمره : طريقه وشانه ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ ﴿ برشيد ﴾، أي بذي رشد. والرشد معناه السداد والاستقامة ؛ أي ليس أمره سديدا ولا مستقيما ولا هو بمرشد إلى هداية أو خير.
قوله ﴿ وبئس الورد المورود ﴾ أي بئس المدخل المدخول. وقيل : المورود معناه الماء الذي يورد عليه ؛ فقد شبه الله تعالى فرعون بالذي يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردة. فبئس هذا الورد الذي يردونه وهي النار.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٤ وتفسير الرزاز جـ ١٨ ص ٥٥..
قوله :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ﴾ أي ما دفعت عنهم آلهتهم المزعومة التي كانوا يعبدونها من دون الله ويتخذونها لأنفسهم أربابا –ما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله لما حل بهم. قوله :﴿ وما زادوهم غير تتبيب ﴾ التتيب، معناه التخسير، من التباب وهو الخسران والهلاك. تبت يده تتب، خسرت، كناية عن الهلاك. وتبا له ؛ أي هلاكا. أو ألزمه الله هلاكا وخسرانا٢. والمعنى : لم تزدهم آلهتهم المفتراة التي عبدوها. وأربابهم المصطنعة التي دانوا لها بالخضوع والعبادة، إلا الخسران والهلاك.
٢ مختار الصحاح ص ٧٤ والمصباح المنير جـ ١ ص ٧٩..
قوله :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ أي شقي من الناس من شقي بالعذاب، وسعيد منهم من سعد بالنجاة. والشقي الذي كتبت له الشقاوة، والسعيد الذي كتبت له السعادة. قال الحافظ أبو يعلي في مسنده عن عمر قال : لما نزلت ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : علام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال :( على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ؛ ولكن كل ميسر لما خلق له ) ٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٩..
قوله :﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبينا له أنه سبحانه لا يمنعه شيء من فعل ما يريد أن يفعله بالعصاة والمخالفين عن أمره فينتقم منهم ويعذبهم تعذيبا١.
قوله :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ ﴿ عطاء ﴾، منصوب على المصدر ؛ أي أعطوا عطاء. والمجذوذ معناه المقطوع ؛ أي أعطاهم الله عطاء دائما غير مقطوع.
٢ نفس المصدر السابق..
قوله :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾ المراد بالكلمة : أن الله قضى أن يؤخرهم إلى يوم القيامة فلا يعالجهم بالعذاب في هذه الدنيا ؛ فغنه لولا ذلك لقضي بين المكذبين منهم بالعذاب أو الاستئصال، وبين المصدقين بالإنجاء وخير الجزاء ﴿ وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ أي أن هؤلاء المشركين لفي شك من حقيقة الكتاب أنه منزل عليهم من عند الله ﴿ مريب ﴾ أي موقعهم في الريبة وهي قلق النفس.
وقيل : إن الأصل فيها ( لمن لم ) ثم أدغم النون في الميم فاجتمع بذلك ثلاث ميمات فحذفت الميم المكسورة. والتقدير : وإن كلا لمن خلق ليوفيهم. وقيل غير ذلك١.
والمعنى : أن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك أخبارهم لمن ليوفينهم ربك بالصالح من أعمالهم ؛ بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها ؛ بشديد العقاب ؛ أي إن الله سيجمع الأولين والآخرين من الأمم فيجزيهم بأعمالهم سواء منها الصالحة فيثيبهم عليها الثواب الكريم، أو الطالحة فيجازيهم عليها بعقابه الأليم ﴿ إنه بما تعلمون خبير ﴾ الله خبير بما يفعله هؤلاء المشركون، وهو سبحانه مطلع على أعمال المشركين الخاسرين سواء منها الخافي والمعلن ؛ فهو محيط بذلك كله لا يغب عن عمله منه شيء٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٠٤- ١٠٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٦..
قوله :﴿ ولا تطغوا ﴾ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد ؛ فهو مخالفة أوامر الله وعصيانه وذلكم الطغيان ﴿ إنه بما تعلمون بصير ﴾ الله يعلم ما يقوم به العباد وما يفعلونه، فما يغيب عن عمله من أفعالهم وأقوالهم وخفاياهم شيء ؛ بل إن عمله محيط بكل شيء.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣١..
قوله :﴿ فتمسكم النار ﴾ أي تخرقكم النار بسبب الركون إلى الظالمين ؛ فإن الميل إلى الطغاة والمستبدين والمشركين، والسكون إليهم بما يتمضن التأييد لهم والرضا بأفعالهم وسلوكهم، ليس إلا ضربا من التملق الخسيس، والخلق المهين المبتذل الذي يكشف عن حقيقة فريق من الناس قد ركبت طبائعهم ظواهر النفاق والخور حتى خسروا أنفسهم فكانوا في الأذلين. أولئك هم المنافقون الخائرون الذين باءوا بالخسران والبوار وسوء المصير.
أما إن كان الميل للظالمين أو مداهنتهم على سبيل التقية، وخوفا منهم، أو لدفع ضرر عام من المسلمين، أو جلب مصلحة كبيرة لهم ؛ فليس الميل للظالمين حينئذ واقعا في النهي –شريطة ألا يقترن الركون إلى هؤلاء الظالمين بالمحبة ورضى القلب ؛ أي أن مخالطتهم والدخول عليهم لتحقيق مصلحة للمسلمين ؛ أو دفع مفسدة عنهم مع كراهية ما هم عليه من الفساد والظلم وعدم جنوح النفس غليهم ومجبتها لهم وعدم طاعتهم في معصية الله، فذلك لا يتناوله النهي. والأصل في ذلك أن الأعمال إنما تكون بالنيات، والله وحده عليهم بالنوايا والخفايا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله :﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾ الجملة في محل نصب على الحال. والمعنى : أنكم تبوءون بالتحريق والعذاب، ولا تجدون إذ ذاك من أعوانكم وخلانكم من ينتقدكن أو يدفع عنكم ما حاق بكم من الويل والعذاب ﴿ ثم لا تنصرون ﴾ أي ليس لكم من نصير ولا شفيع ولا معين، فلا الله بكاف عنكم العذاب حينئذ، ولا الخلائق كلها قادرة على أن تزحزح عنكم النار٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٥٣٠، ٥٣١ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٠٧، ١٠٨..
قوله :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ المراد بالحسنات هنا الصلوات الخمس. وهو قول أكثر المفسرين وأهل العلم. وقيل : الطاعات ؛ فإن ذلك يذهب الآثام والذنوب ما اجتنبت الكبائر. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيئا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. قال :( كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا ). وقال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان ؛ مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ).
وأخرجه البخاري عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله ﴿ وأقم الصلاة طرفي الليل وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ فقال الرجل : يا رسول الله : ألي بهذا ؟ قال :( لجميع أمتي كلهم ).
وروي مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه. فأتبعه رسول الله بصره ثم قال :( ردوه علي ) فرده عليه، فقرأ عليه :﴿ وأقم الصلاة طرفي الليل وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين ﴾.
وروي الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزقاكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى سلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يؤمن جاره بواثق ) ٢ قلنا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال :( غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه، فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده على النار، إن الله لا محو السيء ولكن يمحو السيء بالحسن ؛ إن الخبيث لا يمحو الخبيث ).
وروي الإمام أحمد أيضا عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :( يا معاذ، أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ).
وقال الإمام أحمد كذلك عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني. قال :( إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحوها ) قلت : يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال :( هي أفضل الحسنات ).
قوله :﴿ ذالك ذكرى للذاكرين ﴾ الإشارة عائدة على القرآن ؛ فهو كلام الله الحكيم. وهو عظة وتذكير للتائبين المتعظين.
٢ البوائق: الغوائل والشر. ومفردها بائقة وهي الداهية. انظر مختار الصحاح ص ٦٩..
.
لولا، أداة تحضيض بمعنى هلا. و ﴿ القرون ﴾ بمعنى الأجيال والأمم. والبقية، يراد بها الفضل والعقل والخير. قال الزمخشري في الكشاف : سمي الفضل والجودة بقية ؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلا في الجودة والفضل ويقال : فلان من بقية القوم : أي من خيارهم١.
والمعنى : هلا كان من الأمم التي سبقتكم ذوو بقية من الفهم والصلاح والعقل فيتعظوا ويتدبروا آيات الله ودلائله ويعلموا الحق من الباطل والإيمان من الجحود لكي ينبهوا أهل الضلال والمعاصي فيكفوا عن غيهم وظلمهم وفسادهم في الأرض ﴿ إلا قليلا ممن أنجينا منهم ﴾ ﴿ إلا ﴾، استثناء منقطع. ﴿ قليلا ﴾ منصوب على الاستثناء المنقطع مما قبله ؛ أي إلا قليلا منهم، والمراد بالقليل : هم الذين صدقوا رسلهم واتبعوهم ؛ فقد كان هؤلاء على قتلهم ينهون عن الكفر والفساد فنجاهم الله مما حقا بالكافرين الذين ضلوا عن سبيل الله ضلالا بعيدا فكذبوا ملة التوحيد وجحدوا رسالات الله وآذوا أنبياءهم أشد إيذاء وهؤلاء هم الأكثرون الذين عصوا وأبوا إلا الكفر والعصيان فضلوا سادرين في شهواتهم وملذاتهم. وهو قوله :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ﴾ أي ابتع المشركون العصاة ما أنعموا فيه من الشهوات والملذات واهتموا بتحصيل الدنيا وما فيها من أموال ومتاع وبهجة ولم يعبأوا بما وراء ذلك ﴿ وكانوا محرمين ﴾ معطوف على ﴿ أترفوا ﴾. والمعنى : أن هؤلاء أهل آثام وإجرام لاتباعهم الشهوات وانشغالهم في الحطام والخيرات وإعراضهم عن آيات الله.
وقيل : المعنى أن الله لا يهلك القرى ظلما منه وأهلها مصلحون غير مسيئين، بل يهلكهم لطغيانهم وإسرافهم في تكذيب المرسلين وفعلهم السيئات والمعاصي٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٨٤..
قوله :﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾ أي متفرقين على أديان شتى وملل كثيرة ومختلفة ؛ فهم ما بين يهود ونصارى ومجوس ودهريين وبوذيين ووثنيين وملحدين وغيرهم من مختلف الملل والنحل الضالة السادرة في الغي.
قوله :﴿ ولذالك خلقهم ﴾ الإشارة للاختلاف ؛ أي خلقهم الله ليصيروا إلى ما سيصيرون إليه من اختلاف في الملة أو اتفاق. وقيل : خلقهم لرحمة.
قوله :﴿ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ تمام كلمة الله يعني ثباتها واستقرارها فلا تقبل التغيير والتبديل. وذلك إخبار من الله أنه قد سبق في علمه الأزلي وحكمته النافذة أن من عباده من يستحق الجنة فهو ميسر لها، ومنهم من يستحق النار فهو مسير لها كذلك. فكلتا الجنة والنار ممتلئة بالثقلين من الجن والأنس، ولله في ذلك الحجة البالغة والحكمة النافذة العليا.
قوله :﴿ وجاءك في هذه الحق وموعظة ﴾ ﴿ هذه ﴾، يعني السورة. وهو قول كثير من المفسرين وأهل العلم. وقد خص السورة لما فيها من أخبار المرسلين وما لاقوه من أذى المشركين الخاسرين فما آمن لهم إلا القليل. لكن أكثر من في الأرض لجوا في طغيانهم وأبوا إلا العتو والجحود والاستكبار فنجى الله الفئة القليلة المؤمنة، واهلك الكثرة الكاثرة من الناس وهم الضالون الظالمون، إذ أخذهم أخا عزيز مقتدر. فلا جرم أن تجيء هذه السورة حافلة بأخبار الحق والموعظة والذكرى التي يزدجر منها أولو الألباب والنهي، أو يعتبرون مما حاق بالسالفين الأولين من سوء المصير.
ذلك حسن الختام لهذه السورة العظيمة. وذلك هو شأن القرآن في روعة الختام لكل سورة من سوره. فما تتتابع الآيات في السورة الواحدة تتابعا لينا ومثيرا ومرغوبا حتى يفضي إلى الختام في يسر وسلاسة وجمال، وفي غاية من الترابط المحكم الوثيق الذي يقرع الذهن لكمال فحواه ومعناه، ويثير الوجدان لحلاوة رصفه ومبناه. وهذه ظاهرة من ظواهر الإعجاز في هذا الكتاب الحكيم. وذلكم هو جمال التعبير وروعة التعقيب المؤثر المنسجم في الآيات الخواتيم لكل السور. ويشهد لذلك ما نجده في هذه الآية المباركة التي تضم جملة حقائق مختلفة كبريات تفيض منها النداوة والطلاوة وبالغ التأثير، وما يقوي على اختلاف مثل ذلك بشر. تلكم أربعة معان عظيمات منسجمة تتلاحم فيما بينهما خير تلاحم. وذك في بضع عبارات مترابطة ومتسقة في آية الختام.
وأول هذه الحقائق ﴿ ولله غيب السموات والأرض ﴾ الله وحده عليم بالمغيبات من الأشياء والحقائق في هذا الكون المعمور ؛ فما من شيء ولا نبأ ولا خبر ولا مستور ولا منظور، صغيرا أم كبيرا إلا يعلمه الله.
والحقيقية الثانية :﴿ وإليه يرجع الأمر كله ﴾ إلى الله المعاد والمصير، فإليه مرجع كل المحدثات والكائنات من ملائكة وإنس وجن، مؤمنين وكافرين، فكل شيء صائر إليه يوم القيامة حيث الحشر والتلاقي والحساب.
والحقيقة الثالثة :﴿ فاعبده وتوكل عليه ﴾ يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه أن يعبدوه وحده لا شريك له فيمتثلوا لأحكامه ويطيعوه فيما أمر، وأن يعتمدوا عليه ويركنوا إليه جنابة تمام الركون ؛ فإنه خير نصير ومعوان للطائعين المتوكلين عليه المستندين على جلاله.
والحقيقة الرابعة ﴿ وما ربك بغافل عما تعلمون ﴾ ذلك تهديد من الله للمشركين الضالين الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة ؛ فالله ليس بساه عن أفعال المشركين المنكرة من جحودهم للنبوة وتكذيب لرسالات الله وصد عن سبيله وإيذاء للمسلمين وافتعال الأسباب التي تفتنهم عن دينهم، ليس الله غافلا عن هؤلاء الخاسرين الظالمين ولكن الله لهم بالمرصاد. وهو معذبهم بما يشاء من العذاب في هذه الدنيا، ويوم القيامة يصيرون إلى جهنم وبئس المصير.