تفسير سورة هود

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة هود
مكية على القول الصحيح، وعدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة.
وقد نزلت بعد سورة يونس؟ هي في معناها وموضوعها، وفصل فيها ما أجمل في سابقتها، وكلاهما يتناول أصول العقائد، وإعجاز القرآن والكلام على البعث والجزاء والثواب والعقاب، مع ذكر قصص بعض الأنبياء بالتفصيل ألا ترى أن المناسبة بينهما ظاهرة؟!
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر- رضى الله عنه-: يا رسول الله: قد شبت! قال: «شيّبتنى هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت»
، ولا غرابة ففي تلاوة هذه السورة ما يكشف سلطان الله وبطشه مما تذهل منه النفوس، وتضطرب له القلوب وتشيب منه الرءوس.
وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية، وما حل بها من عاجل بأس الله، وقيل:
إن الذي شيبه من سورة هود قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
في الأصول العامة للدين [سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
97
المفردات:
الر تقرأ ألف. لام. را، وفيها ما ذكرناه في أول سورة البقرة من اختلاف العلماء وانتهينا إلى أنها سر من أسراره تعالى، هو أعلم به، وفي القرآن الكريم محكم ظاهر المعنى ومتشابه الله أعلم به، والرأى الثاني: أنها للتحدى والإلزام، أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها. والملاحظ أن هذه السور المفتتحة بتلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران، وأنها تعالج إثبات التوحيد والبعث والكلام على القرآن الكريم وإعجازه إلخ. ما كان يخاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم مشركي مكة، ويلاحظ أن فيها غالبا قصص الأنبياء الذين كانوا يسمعون عنهم، ولا يعرفون من أخبارهم شيئا، وهذه الحروف تارة تكون آية مستقلة، أو تكون جزء آية وصدق الله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية ٨٥].
المعنى:
هذا كتاب عظيم الشأن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كتاب أحكمت آياته بوضوح المعنى، وبلاغة الدلالة وقوة التأثير، فهي كالبناء المحكم والحصن المنيع لا ريب فيها ولا شك. ثم فصلت، ورتبت، ونظمت، وسويت، في سور مترابطة، وآيات متناسبة فكل سورة منه آية بديعة، وقطعة فنية عالية في سماء البيان والبلاغة، فصلت كما تفصل القلائد بالفوائد، ففي السورة عقائد وأحكام، وقصص ومواعظ وأدب واجتماع، وعلوم ومعارف، وغير ذلك.
أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم كامل الحكمة، وخبير عليم، هو الذي فصلها، وفي ذكر (ثم) إشارة إلى أن مرتبة التفصيل أعلى وأسمى من مرتبة الأحكام فقد جمع القرآن بين أطراف الكمال والجلال.
فصل هذا الإحكام، والتفصيل للقرآن وآياته لئلا تعبدوا إلا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وهذا هو الأساس الأول، والمقصود المهم لكل نبي ورسول كما ستراه في القصص الآتية.
وقيل أمر رسول الله أن يقول للناس: أمركم ربكم ألا تعبدوا إلا الله، إننى لكم
98
منه- سبحانه وتعالى- نذير لمن أصر على الكفر والشرك والمعصية، نذير لهؤلاء بالعذاب الأليم، وبشير لمن آمن واهتدى بالسعادة والنعيم المقيم.
وأن استغفروا ربكم، واسألوه المغفرة من الشرك والكفر والذنب ثم توبوا إليه نادمين على الفعل، عازمين على عدم العودة، مصلحين ما أفسدتم، عاملين الصالح من الأعمال إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [سورة الفرقان آية ٧٠].
وانظر يا أخى في الجمع بين الاستغفار والتوبة والعطف بثم!! وهذا كله يفيد أن القول غير العمل، وأن مرتبة العمل (التوبة) مرتبة عالية سامية فوق مرتبة الاستغفار.
ما جزاء هذا؟!! جزاء من تاب وعمل صالحا بعد الاستغفار جزاؤكم أن الله يمتعكم متاعا حسنا من رزق حلال، وسعادة في الدنيا، وعيشة رغدة، ونعمة متتابعة كل هذا إلى أجل مسمى، ونهاية محدودة بالموت والفناء، وانقضاء الأجل. المحدد عنده- تعالى-، هذا هو الجزاء في الدنيا، أما في الآخرة فسيؤتى كل ذي فضل من علم وعمل نافع جزاء فضله مطردا كاملا غير منقوص.
انظر يا أخى- وفقك الله- إلى قوله- تعالى-: يُمَتِّعْكُمْ. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ حيث جمع في جزاء الدنيا، وجعله موقوتا محدودا، وفي جزاء الآخرة إفراد ولم يقيد بشيء، وفي هذا إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس لا لكل فرد، وأما في الآخرة فسيكون لكل فرد على حدة وعلى ذلك فالمعنى:
أيها المخاطبون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم إنكم إن تجتنبوا الشرك والإثم، وتعبدوا ربكم وحده وتستغفروه من كل ذنب، وتتوبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به في الدنيا غير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة، ويعط كل ذي فضل وعمل جزاء فضله في الآخرة كاملا غير منقوص كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وأن تتولوا وتعرضوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله، عظيم خطره، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، وقيل: المراد بهذا اليوم أن يصيبنا في الدنيا ما أصاب غيرنا من أقوام الرسل، وأما يوم الآخرة فأشار إليه بقوله: إِلَى اللَّهِ وحده مَرْجِعُكُمْ جميعا، وجزاؤكم على أعمالكم كلها وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
99
من أعمال الكفار مع كمال علم الله وقدرته [سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٧]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
المفردات:
يَثْنُونَ يقال: ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه، وثناه عنه لواه وحوله وطواه ليخفيه، وثنى عطفه أعرض بجانبه تكبرا والمراد: أعرضوا وطووا صدورهم على ما فيها من مكنون الحقد والحسد لِيَسْتَخْفُوا أى: فلا يراهم أحد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يغطون بها جميع أبدانهم.
دَابَّةٍ الدابة اسم عام يشمل كل ما يدب على الأرض زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه سواء كانت ثنتين أو أكثر، وإطلاق الدابة على ما يركب من خيل أو حمير أو بغال إطلاق عرفي رِزْقُها غذاؤها.
100
المعنى:
ألا إن المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله، وما يقوم به الرسل من البشارة والإنذار يثنون صدورهم، ويعرضون عنه ويستدبرون الرسول عند تلاوة القرآن حتى لا يراهم أحد وقد ظهرت عليهم علامات الحقد والحسد والكراهية عند وقوع القوارع والحجج التي هي كالصواعق عليهم أو أشد.
ألا حين يستغشون ثيابهم، ويغطون بها أجسادهم، حين يخلون وأنفسهم فتظهر على حقيقتها، والمراد أنهم لجهلهم يظنون خطأ أنهم لو يثنون صدورهم، ويلتحفون بأثوابهم لا يراهم الله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ.
ألا فالله يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو العليم بذات الصدور.
وقد أوجب الله على نفسه بمقتضى رحمته وكرمه، وقدرته وعلمه. أوجب على نفسه أنه ما من دابة من أنواع الدواب توجد على ظهر الأرض أو في جوف البحر، أو بين طيات الصخر. أو تطير في الجو، إلا على الله رزقها وغذاؤها المناسب لها، هدى كل دابة إلى ذلك بمقتضى الغريزة والطبيعة الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه آية ٥] لكل دابة رزقها المهيأ لها الواصل إليها بعد البحث والعمل.
وهو- سبحانه- يعلم مكان استقرارها، ومكان استيداعها فهو يعلم مستقرها في الأصلاب أو الأرحام، ويعلم مستودعها في الأرحام أو بطن الأرض، كل ذلك من رزق واستقرار وتغيير واستيداع ثابت مرقوم في كتاب ظاهر معلوم كتب الله فيه قضاءه وقدره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام آية ٣٨].
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، يومان لخلق الأرض، ويومان لخلق أقوات الخلق وما يتبعه، ويومان لخلق السموات السبع كما هو مفصل في سورة فصلت من «الحواميم» الآيتان ٩ و ١٠.
والأيام هنا المراد بها: الأوقات التي لا يعلم تحديدها إلا الله- سبحانه وتعالى- خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وكان عرشه على الماء أى: وكان عرشه قبل السموات والأرض على الماء، وهل المراد بعرشه تصريفه وملكه أو هو شيء مادى آخر؟ الله أعلم بكتابه مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران آية ٧].
101
يقول الله- سبحانه وتعالى-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. وصدق الله العظيم.
وإنى أحب أن أقول: إن القرآن الكريم لم يأت كتابا علميا يفصل نظريات ويشرح قواعد علمية. وإنما جاء يعالج أمة بل العالم كله، يعالجهم من ناحية التشريع والحكم، ومن ناحية العمل والفقه، ومن ناحية السياسة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولذلك من يتعرض لاستنباط النظريات العلمية الدقيقة من القرآن، ويحاول أن يحمل الألفاظ ما لا تطيق، إنما هو باحث عاطفى.
ولكن القرآن الكريم لا يتعارض مع النظريات- أيضا- وإن تعارض ظاهره فإن الواجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونعيد الفهم والتطبيق في النظريات العلمية. وهي محل بحث ونظر وقد تعدل أو يرجع عنها أصحابها فلا نجد في النهاية تعارضا وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله- تعالى-: وكان عرشه على الماء.
والعرش هو التصريف والملك والأمر والحكم على رأى الخلف، والسلف يرون أن العرش هو العرش بلا تأويل، والله أعلم بحقيقته.
وأما الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض فهو الدخان الذي ذكر في الآيتين ٩ و ١٠ من سورة فصلت، وهو الموافق لنظرية السديم، ونظرية التكوين العلمية توافق نظرية القرآن في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [سورة الأنبياء آية ٣٠] كما توافق خلاصة البحث العلمي.
قبل أن تتكون الكواكب والنجوم كان الفضاء مملوءا بذرات دقيقة صغيرة تشبه الدخان والماء يقال لها السديم، وكان لكل ذرة من هذه الذرات السديمية خاصيتان خلقهما الله في الذرة (الدوران حول النفس والجاذبية) ثم أخذت هذه الذرات في التجمع بسبب الجاذبية والدوران، ونتج عن ذلك التجمع احتكاك تولد عنه الحرارة والالتهاب والضوء، وهذه هي العناصر التي تتصف بها الشمس وتميزها عن الكواكب المعتمة المظلمة، نشأ عن ذلك الاحتكاك وعن هذه الحرارة أن كان قرص الشمس رخوا. ومن شدة الحرارة وسرعة دوران الشمس حول نفسها انفصلت أجزاء منها وكونت ذلك الكوكب الذي نعيش عليه (الأرض) وأخذت الأرض تفقد حرارتها
102
بالإشعاع إلى أن بردت وأمكن الحياة عليها بعد أن صار فيها الماء واليابس، وظل باطنها كما هو حار بدليل البراكين والزلازل.
ولجميع الكواكب والنجوم التي انفصلت عن الشمس خواص الذرات السديمية فالأرض مثلا تدور حول نفسها، وتجذب ما فوقها وصدق الله- تعالى-: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس آية ٤٠].
ويمكن أن نستنتج الحقائق العلمية التالية التي تؤكد ما جاء في القرآن:
١- قبل خلق السماء والأرض كانت هناك ذرات تشبه الدخان والماء هي أصل ذلك الكون.
٢- أن السموات وما فيها والأرض كانتا رتقا واحدا أى جزءا واحدا ففصلهما الله على النحو المذكور سابقا، وجعل بينها الهواء الذي كان له الأثر الفعال في فقدان الأرض حرارتها لنعيش عليها، وهذا الهواء المتحرك المتنقل على هيئة رياح سريعة هو سبب سقوط الأمطار وتكوين البحار والأنهار، والماء أساس كل شيء حي، فالله فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وهذا رأى في تفسير الفتق غير الماضي.
٣- ليس هناك جرم محسوس ملموس اسمه السماء بل السماء هي الفضاء اللانهائى الذي لا يعلمه إلا الله، ويحتوي على سائر الكواكب والنجوم، ومن الجائز أن السموات السبع هي المجرات.. والمجرة هي مجموعة الكواكب والنجوم التي ترتبط مع بعضها في أفلاك ومدارات محدودة، وتشغل جانبا معلوما من الكون، وهذه المجرات قد سواها الله في طبقات بعضها فوق بعض.
تلك نظرية العلم وهذا رأيه وإن كان ظاهر نصوص القرآن يفيد بأن السماء جرم وقد قلنا أن الأمور الغيبية يجب أن نعلمها كما ورد في القرآن وليس من الدين في شيء البحث الدقيق في تكوينها وما هي عليه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان ٢ و ٣].
وعلى المسلم أن يقف في أمر دينه عند نصوص قرآنه فإن أراد البحث العلمي الدقيق فليبحث وفي النهاية سيلتقى مع نظرية القرآن.
103
ثم علل- سبحانه وتعالى- هذا الخلق العجيب للسماء والأرض وما فيهما بقوله:
لِيَبْلُوَكُمْ أيها الناس، وليظهر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ وذلك أنه خلق لنا ما في الأرض، وسخر لنا كل شيء، ورسم لنا الطريقين ليعلم علم ظهور من يقابل النعم بالشكران، ومن يقابلها بالكفران، وليجزي الذين أحسنوا بالحسنى وزيادة، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.
ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار: إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا بعد عجزهم عن قرع الحجة بالحجة: إن هذا إلا سحر مبين وهذه حجة العاجز.
طبائع الإنسان وتهذيب الدين لها [سورة هود (١١) : الآيات ٨ الى ١١]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
المفردات:
أُمَّةٍ المراد أجل معدود وزمن معلوم وأصلها الجماعة من جنس واحد أو هم مجتمعون في زمن واحد، وقد تطلق على الدين والملة إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
104
وتطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ، وعلى الزمن كما في قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ وكما في هذه الآية نَعْماءَ النعمة ضَرَّاءَ الضر والألم.
المعنى:
لقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، وأرسله مبشرا ونذيرا وقد قال لقومه الكفار: إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير، ولكنهم يستهزئون به وبوعيده ويستعجلون العذاب استهزاء وكفرا فيقول الله ما معناه: والله لئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظامنا وتقديرنا الذي اقتضى أن يكون لكل أجل كتاب.. ليقولن: أى شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع!! فهم لا يسألون عن المانع، وإنما ينكرون مجيء العذاب وحبسه عنهم ألا يوم يأتيهم ذلك العذاب ليس مصروفا عنهم ولا محبوسا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وله يستعجلون وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب فلا هو يصرف عنهم، ولا هم ينجون منه، الله- سبحانه- يقول:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وفي هذه الآية بيان لحال الإنسان في اختبار الله له.
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، وأعطيناه نعمة من صحة وعافية وسعة رزق وأمن ثم نزعنا تلك النعمة منه مما يحدث على وفق سنتنا من مرض أو وهن أو موت أو كارثة إنه ليئوس شديد اليأس من رحمة ربه، قطوع للأمل والرجاء في عودة النعمة له، كفور بالنعم التي هو فيها إذ مهما أصيب في نعمة فعنده نعم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية ٣٤] وهكذا الإنسان لا يصبر ولا يشكر.
وتالله لئن أذقناه نعماء بعد ضراء ليقولن ذهبت المصائب عنى ولن تعود ضراء لي، وإنما أوتيت ما أوتيت على علم عندي!! إن الإنسان لفرح بطر شديد الفرح والمرح فخور متعال على الناس لا يقابل النعم بالشكر الجزيل.
وانظر إلى قوله- تعالى-: أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط ثم إلى قوله:
105
نَزَعْناها المفيد شدة تعلقه بالنعمة وحرصه عليها ثم إلى قوله في جانب النعمة أَذَقْنَا وفي جانب النقمة والضر مَسَّتْهُ فإن المس يشعر بكون الضر في أقل مرتبة من الملاقاة والإصابة.
هذا طبع الإنسان، وتلك غريزته التي جبل عليها كل إنسان إلا الذين صبروا، وعملوا الصالحات.
ومن هنا نعلم أن في الإنسان طبائع مادية كاليأس من رحمة الله، والكفر بنعمته، والفرح والبطر والفخر والكبر، وهذه أدواء فتاكة وأمراض خطيرة علاجها الصبر والسلوان الناشئ عن قوة الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره، وعمل الصالحات من الأعمال النافعة كالبر والخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى آخر ما هو معلوم.
أولئك الصابرون العاملون المؤمنون لهم مغفرة من الله وأجر كبير لا يعلم كنهه إلا الله- سبحانه- وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ.
تقوية الروح المعنوية للنبي (صلّى الله عليه وسلم) وتحديهم بالقرآن [سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
106
المفردات:
فَلَعَلَّكَ لعل تكون للتوقع وترجى المحبوب، وهي في قوله- تعالى- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ للإعداد والتهيئة. وقد تكون للتعليل كما في قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى وللاستفهام الشامل للإنكار منه كما في هذه الآية والمراد النفي أو النهى أى: لا تترك ضائِقٌ عارض لك ضيق الصدر والمراد الحرج والألم كَنْزٌ ما يدخر من المال في الأرض والمراد المال الذي يناله بغير كسب.
لا يزال الكلام من أول السورة في القرآن وحال الناس معه، وما يلاقيه الرسول منهم من غم وضيق صدر، وما يتبع ذلك من التحدي المثبت للوحى.
المعنى:
أتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك، والإنذار لهم والنعي عليهم؟!! وضائق به صدرك، وتتألم له نفسك من تبليغهم كل ما أنزل إليك والمراد بالاستفهام النفي أى: لا يكن منك ذلك كراهة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز يغنيه عن التجارة والكسب، ويكون دليلا على صدقه، أو جاء معه ملك من السماء يؤيده في دعواه، وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [سورة الفرقان الآيتان ٧ و ٨].
إن عناد المشركين وجحودهم وإعراضهم مع شدة اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم بإيمانهم يفضى بحسب شأنه إلى ذلك لولا عصمة الله- سبحانه- لنبيه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء ٧٤]. اقرأ معى قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة ٦٧].
لا يهمنك قولهم، وطلبهم منك هذا، إنما أنت نذير تبلغ كل ما أنزل إليك ولا عليك شيء بعد هذا سواء أرضى الناس أم غضبوا، والله على كل شيء وكيل فهو الموكل بالعباد والرقيب عليهم والمجازى لهم فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [سورة الغاشية الآيتان ٢١ و ٢٢] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [سورة ق آية ٤٤].
107
أيقولون افتراه واختلقه من عنده؟!! إن يقولون إلا كذبا وزورا، قل لهم يا محمد: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله في البيان والبلاغة والدقة والفصاحة، والإحكام والإتقان في السياسة والاجتماع، والقانون والتشريع، والقصص والأخبار، مفتريات من عند أنفسهم لا تدعون أنها من عند الله فإنكم أهل اللسان والبيان، وأنتم العرب الفصحاء، وفيكم الخطباء والشعراء، وقد افتريتم على الله كثيرا باتخاذ الآلهة والأنداد والبنات والشفعاء له، وحرمتم السائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك من الأنعام والحرث.
وأما أنا فواحد منكم لم يسبق لي شيء من ذلك وقد لبثت فيكم عمرا من قبله لم تجربوا علىّ كذبا على مخلوق فكيف أفترى على الله- عز وجل-؟! وإن كنتم تزعمون أن لي أعوانا على ذلك فادعوا من استطعتم من دون الله من الشركاء والشفعاء، أو الخطباء والشعراء، أو أهل الكتاب والأحبار ليعينوكم على الإتيان بمثله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [سورة الكهف آية ٥].
لقد عالج القرآن الكريم هذا الموضوع في عدة سور من القرآن الكريم فمرة تحداهم بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة مثله أو بعشر سور مثله كما في هذه الآية، ولقد علل المرحوم «الشيخ رضا» تعليل التحدي بعشر سور بأن هذه الآية في السورة العاشرة (سورة هود).
تحداهم القرآن بذلك فعجزوا، ولم يجدوا من يعاونهم من آلهة وشركاء، ولا من الفصحاء والبلغاء، ولا من أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وغيرهم فلما عجزوا قامت الحجة عليهم إلى يوم القيامة، وغيرهم من باب أولى.
فإن لم يستجب لكم من تدعوهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بمثل هذا القرآن، وبدا لكم الأمر ظاهرا للعيان، فاعلموا أيها الناس علما أكيدا أنه إنما أنزل هذا القرآن على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بعلم الله ومبينا لما أراده المولى لعباده من دين قيم، وقانون محكم، وتشريع كامل، وقصص حق لا يمكن أن يعلمه محمد ولا غيره لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
واعلموا أنه لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه.
108
فهل أنتم مسلمون؟!! إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء- سبحانه وتعالى-.
من يؤثر الدنيا على الآخرة [سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
المفردات:
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤد لهم ثمرات أعمالهم وافية تامة حَبِطَ الحبط:
هو هلاك بعض الأنعام من كثرة الأكل لبعض المراعى الخضراء والمراد فساد عملهم في الخير.
المعنى:
الناس على اختلاف مذاهبهم وألوانهم صنفان: صنف يؤمن بيوم القيامة وبالحياة الأخرى، وصنف يعتقد أنه ما هي إلا الحياة الدنيا يموت ويحيا، وما يهلكه إلا الدهر، وهؤلاء هم المعنيون بهذه الآية من المشركين وغيرهم، وهذا هو السبب في عدم إيمانهم بالقرآن بعد ظهور إعجازه فيما سبق ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان ٢ و ٣].
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها من متاع ولباس، وزينة وأثاث، وكان حظه من حياته ذلك فقط، هؤلاء نوفى إليهم أعمالهم، ونؤدى لهم جزاءهم كاملا في الدنيا، وإنك تراهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم فيها غالبا على جانب من سعة الرزق ورغد العيش، وهم لا يبخسون في الدنيا شيئا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم.
أما في الآخرة فأولئك ليس لهم فيها إلا النار وسعيرها إذا لم يعملوا لها لأنهم لا يؤمنون بها، وقد حبط ما صنعوا في الدنيا من صالح الأعمال وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فأعمالهم من بر وخير لم يكن لها تأثير ولا فائدة إذ لم يعملوها لله وإنما الأعمال بالنيات، ولذا كانت أعمالهم باطلة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
[سورة الإسراء الآيتان ١٨ و ١٩].
المؤمنون بالآخرة [سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
المفردات:
بَيِّنَةٍ حجة وبصيرة من ربه مِرْيَةٍ شك وريب.
ولما ذكر الله- تعالى- في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله الآخرة وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
المعنى:
أفمن كان على صلة بالله وبينة من ربه وثقة به، وقد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه كمن يريد الحياة الدنيا ويعمل لها؟ إن بين الفريقين تفاوتا بعيدا وقد كان الأنبياء جميعا يحتجون على قومهم بأنهم على بينة من ربهم إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّي
. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان على علم يقيني ضروري بنبوته، وهكذا كل مسلم آمن به، وقيل المراد بالبينة: الحجج الناطقة الدالة على صدقه وأهمها القرآن.
وكان الشاهد الذي يتلوه ذلك الأمر النفسي والإيمان القلبي بأن الإسلام حق من الله. هو القرآن، وقيل البينة القرآن والشاهد جبريل ويتلوه من التلاوة لا من التتبع.
أولئك يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا لا يفرقون بين نبي ونبي.
ومن يكفر بهذا من الأحزاب والجماعات فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك.
الكافرون وأعمالهم وجزاؤهم، وكذلك المؤمنون [سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
111
المفردات:
يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ المراد يحاسبهم ربهم الْأَشْهادُ هم الملائكة الكتبة الكرام الحفظة لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن واللعنة: الطرد من رحمة الله عِوَجاً أى:
معوجة لا جَرَمَ أى: لا بد ولا مناص وهي تفيد التحقيق والتأكيد وَأَخْبَتُوا أصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المستوي والمراد: خشعوا وأخلصوا لله.
المعنى:
لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله الكذب، واختلق البهتان والزور على الله في وحيه، أو في صفته، أو اتخذ الأولياء والشركاء والشفعاء له بدون إذنه، أو زعم أن له ولدا. تعالى الله عما يشركون.. تنزه عما يصفون، أولئك البعيدون في درجة الكفر والإشراك المتميزون على غيرهم من الخلق يعرضون على ربهم فيحاسبهم على أعمالهم، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار، وقيل: منهم ومن الأنبياء والصالحين. يقول الأشهاد: هؤلاء المتميزون على غيرهم لسوء فعالهم هم الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين.
هم الذين يصدون عن سبيل الله غيرهم بكافة الطرق وكل الأساليب ويصفونها بالعوج وعدم الاستقامة، ويطلبونها معوجة ليست على طريق الحق والعدل والكرامة والحال أنهم بالآخرة هم كافرون بها لا يؤمنون ببعث، ولا يثقون في جزاء وتكرير (هم) للتوكيد.
أولئك لم يكونوا معجزين الله في الدنيا حتى يعاقبهم بالخسف والإزالة، كما فعل بغيرهم وكيف يعجزون الله!! وهو القوى القادر الذي له ملك السموات والأرض،
112
والحال أنهم ما كان لهم من دون الله أولياء ينصرونهم. ويمنعونهم من عذاب الله إن نزل بهم، بل اقتضت حكمته أن يؤخر عذابهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار، يضاعف لهم العذاب ضعفين بالنسبة إلى عذاب الدنيا كل ذلك بسبب أنهم ما كانوا يستطيعون إصغاء السمع للقبول والبحث عن الحق، وما كانوا يبصرون طريق الحق والخير وينظرون إلى الآيات القرآنية، والآيات الكونية، وذلك أنهم استحوذ عليهم الباطل، وران على قلوبهم وفسدت نفوسهم حتى لم يعد فيها استعداد للخير أبدا، وليس المراد نفى السمع والبصر بل المعنى أنهم ما كانوا يستخدمونهما في إيصال المعلومات، وما كانوا يطيقون سماع الكلام ورؤية الآيات لفرط عنادهم وعتوهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
أولئك الذين وصفوا بما مضى قد خسروا أنفسهم، واشتروا الضلالة بالهدى، وأى خسارة أشد من خسارة الذي يصلى نارا حامية لا يموت فيها ولا يحيا؟!! لا جرم ولا شك أنهم في الآخرة الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.
أما من كان على عكس هذا فالله يقول فيه: إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات وخشعوا له، واطمأنت نفوسهم بالإيمان، ولانت قلوبهم ووجلت بالقرآن أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
مثل الكافر والمؤمن كالأعمى والأصم، والسميع والبصير هل يستويان مثلا؟!! أتجهلون هذا المثل الحسن والفارق الكبير فلا تتذكرون؟
القصة في القرآن
إن من أغراض القرآن المهمة إثبات التوحيد، وما يتبعه من إثبات النبوة والبعث، والكلام في التشريع للفرد والجماعة والأمة، والقصص الخاص بالأمم السابقة وهو غالبا يساق في السور المكية والمبدوءة بأحرف مقطعة كهذه السورة مثلا.
113
وهنا يظهر سؤال لماذا سيقت القصة في القرآن؟ وما السر في اختلاف الأسلوب للقصة الواحدة، ولماذا كررت في عدة سور؟
لقد كان القصص في كل لغة لونا من ألوان الأدب الفنى الرائع، لما له من الأثر النفسي في قلوب سامعيه.
والقصص في القرآن ينبئنا عن أخبار الأنبياء والرسل، وما حصل لهم، وكيف قاموا بدعوتهم؟ وكيف عالجوا أزماتهم؟ وما انتهى إليه أمرهم، وعلى العموم فهو مدرسة إلهية معلموها الأنبياء، وتلاميذها الأمم.
ولقد سيقت للعبرة والعظة حيث يقف المسلمون والمشركون على أحوال من تقدمهم من الأمم فيعتبر ذوو الألباب ويتعظون، وفيها التسلية الكاملة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه من حيث يقفون على أخبار الرسل وأممهم وكيف كانت العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين المعاندين، وفي هذا تثبيت لهم وشحذ لعزائمهم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ والعبرة والعظة تظهر في قوله تعالى لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ آخر سورة يوسف.
وقد سيقت القصة دليلا على صدق الرسول وأن خبره من السماء إذ هو يقص أخبارا ما كان يعلمها هو ولا أحد من قومه، ولا يكون هذا إلا بوحي من السماء تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: ١٠٢] وهي علاج للقلوب، ودواء للنفوس لما فيها من أخبار الأمم وما حل بالعاصين من عاجل بأس الله. فأهل اليقين وغيرهم إذا تلوها تراءى لهم من ملكه وسلطانه وعظمته وجبروته حيث يبطش بأعدائه ما تذهل منه النفوس. وتشيب منه الرؤوس
«شيّبتنى سورة هود وأخواتها»
. صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
114
والقصة مدرسة المؤمنين المنتفعين بهدى القرآن هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فيها أحسن الدروس، وأقوى الأمثال التي تضرب لتحمل الدعاة المرشدين إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. قال يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ إلى آخر ما في قصة نوح.
أما تكرارها في القرآن فلما في أغراضها ومقاصدها من معان جلية، وفوائد سامية يحرص القرآن دائما على ذكرها لتكون ماثلة أمام أعين المسلمين بكل لون وأسلوب، ولا غرابة فإنا نرى أصحاب الثورات والدعوات دائما في كل خطبة وفي كل موقف يرددون مبادئهم وأغراضهم وأعمالهم بأساليب مختلفة.
ولعل السر في اختلاف الأسلوب في القصة الواحدة تجديد النشاط وطرد السآمة والملل من نفس القارئ والسامع، ولا تنس أن لكل سورة لونا خاصا وصفة خاصة وحسا خاصا. وفواصل خاصة، وحالا للمخاطب خاصة تتناسب مع السياق وعلى العموم فلكل قصة سياق يتناسب مع ما سبقها وما أتى بعدها وهذا البحث يحتاج إلى كتاب يبحث فيه حال القصة الواحدة مع كل الملابسات السابقة.
قصة نوح عليه السلام [سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
115
المفردات:
أَراذِلُنا جمع أرذل الذي هو جمع رذل مثل كلب وأكلب. وقيل: جمع أرذل وهو النذل والمراد: الأخساء والسفلة وأصحاب الحرف الخسيسة، وورد أنهم الفقراء والضعفاء بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره، الذي يبدو للناظر فيه من غير فكر، أو المراد بادئ الرأى أى: في بدئه الذي يظهر منه أول وهلة فَعُمِّيَتْ خفيت عليكم خَزائِنُ اللَّهِ المراد أنواع رزقه التي يحتاج إليها العباد تَزْدَرِي المراد تحتقرهم أعينكم وهذه القصة مسوقة لتأكيد ما قبلها من دلائل النبوة وأصول التوحيد.
وإثبات البعث والجزاء لمن آمن ومن كفر، حتى يعلم الكفار عن أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم أنه ليس بدعا من الرسل، وأن حاله كحال غيره من النبيين وأن جميع الأنبياء متفقون في أصول الدعوة من التوحيد الخالص، وإثبات البعث والجزاء.. وفي هذا ما فيه من أغراض القصة في القرآن.
116
ولقصة نوح في هذه السورة عناصر منها:
(أ) بيان دعوته بالإجمال وما رد به قومه عليه.
(ب) مناقشتهم والرد عليهم في شبهاتهم.
(ج) اشتداد الحالة وتوترها حتى استعجلوا العذاب، وقد يئس نوح منهم.
(د) كيف صنع نوح السفينة.
(هـ) بدء نهايتهم ونجاة نوح ومن آمن.
(و) استشفاع نوح لابنه.
المعنى:
تالله لقد أرسلنا نوحا وهو أول رسول، وقومه أول قوم أشركوا بالله غيره، أرسلناه فقال لهم: إنى لكم نذير بين الإنذار ظاهره. على ألا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ألست معى في أن الرسل جميعا يشتركون في أصول الدعوة إلى الله؟ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [سورة نوح الآية ٢].
أمرهم أن يعبدوا الله وحده ثم أنذرهم عذاب يوم أليم وعظيم وكبير، ألا هو يوم القيامة أو يوم الغرق، وصف بالألم الشديد، والعذاب العظيم، والهول الكبير في غير موضع من القرآن، والظاهر أن نوحا وصفه بكل هذه الأوصاف التي حكيت عنه، وفي غير هذه السورة أردف الأمر بالعبادة بقوله: أفلا تتقون. وهكذا غيره من الرسل للإشارة إلى أن التقوى هي الأمر الجامع المهم.. فبادر الملأ من قومه. والأشراف الذين كفروا بالله ورسوله إليه بحجج هي أوهى من نسيج العنكبوت قائلين:
ما نراك إلا بشرا مثلنا، لا مزية لك ولا فضل حتى تدعى الرسالة والسفارة بيننا وبين الله. هل لك مال كبير؟ أو جاه عريض؟. أو ولد وخدم؟ ليس لك شيء من هذا فكيف تكون المطاع فينا والآمر لنا؟!! وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وسفلتنا أصحاب الحرف والصناع من الفقراء والضعفاء، أنكون مع هؤلاء في صف واحد على أن إقبال هؤلاء عليك واتباعهم
117
لك في بادئ الأمر وظاهره بدون تأمل ولا فكر! ولا نظر في عواقب الأمور وبواطنها يدعونا إلى مخالفتك وعدم اتباعك. أنفوا أن يكونوا مثل هؤلاء الفقراء وطلبوا من نوح أن يطردهم حتى لا يجتمعوا معهم في دين فأبى وخاف من الله.
وقالوا: ما نرى لكم، أى: أنت ومن معك من عامة الناس، ما نرى لكم علينا من فضل في علم أو رأى أو جاه أو قوة يحملنا على اتباعكم والنزول عن جاهنا وشرفنا ونكون معكم في سلك واحد لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف الآية ١١].
بل الأمر أكثر من هذا وأشد وهو أننا نظنكم من الكاذبين المفترين، ونرجح أنك- في دعواك النبوة لتكون متبوعا- كاذب، وأنهم في تصديقهم لك واتباعهم رأيك- كاذبون. فأنتم جميعا متآمرون على قلب الوضع ونظام الحكم عندنا.
كيف ناقشهم نوح- عليه السلام- ورد عليهم شبهاتهم:
قال نوح يا قومي الأعزاء أخبرونى ماذا أفعل! إن كنت على حجة من ربي ظاهرة فيما جئتكم به، تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي إذ ليست النبوة من كسب البشر حتى يستقيم لكم ادعاؤكم أنى بشر مثلكم فكيف أكون نبيا مرسلا، يا قوم: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد أرسلنى لكم وآتاني رحمة من عنده خاصة بي فوق رحمته العامة للناس جميعا، ولكنها عمّيت عليكم بالجبر والإلجاء! لا. إنه لا إكراه في الدين أبدا من قديم الزمان، وهذا رد على شبهتهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا.
ويا قوم لا أسألكم على دعائي لكم مالا ولا أجرا. ولست أطلب ملكا ولا جاها حتى تخشوا منى، وتنفقوا على، ما أجرى إلا على الله وحده، وهكذا كل رسول.
انظر إلى قول الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [سورة الشورى آية ٢٣].
وماذا أفعل فيمن تسمونهم الأراذل؟!! وما أنا بطارد الذين آمنوا أبدا سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، لاحتقاركم لهم فأنتم تحتقرونهم لفقرهم وضعفهم، وأنا أجلهم وأكرمهم لأنهم آمنوا واعتزوا بالله وبرسوله، ويظهر أن هذه عادة مجرمى الكفار والأشرار من الناس قديما وحديثا اقرأ معى قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام الآية ٥٢] فهذا نهى للنبي صلّى الله عليه وسلم.
118
قال نوح: أنا لا أطرد من آمن بالله. إنهم سيلاقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم كما أنه سيحاسبكم على أعمالكم، ما على إلا البلاغ فقط، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق.
ويا قوم: من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم؟ أفلا تتذكرون وتتعظون؟ فهذا رد على شبهتهم الثانية وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا.
ولا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إنى ملك.
نفى نوح- عليه السلام- هذه الثلاث، فإن الكفار مع الأنبياء جميعا كانوا يعتقدون لنظرتهم المادية للأشياء أن الأنبياء لا بد أن يكونوا أغنياء موسرين، يعلمون الغيب، ويجب أن يكونوا من الملائكة لا من البشر وإلا كانوا كسائر البشر لا فضل لهم فكيف يدعون النبوة؟!!.
فالمعنى لا أَقُولُ لَكُمْ بادعائى النبوة: إنى أملك خزائن الله وأرزاق الناس، ولست أعلم الغيب إلا ما علمني الله مما يتصل بالرسالة وهذا من إمام الأنبياء يقول الله عنه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [سورة الأعراف الآية ١٨٨].
يا عجبا لكم!! كيف تطلبون أن يكون الرسول ملكا؟ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه وللبسنا عليهم ما يلبسون.
ولا أقول للذين تزدريهم أعينكم، وتحتقرونهم لفقرهم وضعفهم: لن يؤتيهم الله خيرا وسعادة في الدنيا والآخرة، لا أقول هذا أبدا الله أعلم بما في نفوسهم وسيجازيهم عليه، إنى إذا قلت ذلك لأكونن من الظالمين لأنفسهم لا من الأنبياء والمرسلين.
اشتداد الحال حتى استعجلوا العذاب [سورة هود (١١) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
119
المفردات:
جادَلْتَنا الجدل اشتداد الخصومة مشتق من الجدل وهو شدة القتل ومنه قيل للصقر: أجدل، والجدل في الدين محمود فهو وظيفة الأنبياء، وأما الجدال فهو المخاصمة بما يشغل عن ظهور الحق فهو باطل ومذموم نُصْحِي النصح: قصد الخير للمنصوح والإخلاص فيه قولا وعملا يُغْوِيَكُمْ الإغواء الإيقاع في الغي والفساد حسيا كان أو معنويا، وقيل: هو المرض أو الهلاك.
بذل نوح غاية جهده في نصح قومه، واجتهد في أن يتبعوه في الإيمان بالله والبعد عن عبادة الأصنام، مكث على ذلك ألف سنة إلا خمسين عاما، ولكن ما زادهم ذلك إلا فرارا، وعتوا واستكبارا حتى ضاقوا به ذرعا، وضاق بهم ذرعا، وكبر عليهم مقامه وبلغ السيل الزبى: اقرأ إن شئت قوله- تعالى- في سورة نوح الآيات من ١- ٢٤ وقوله- تعالى-: في سورة يونس يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ. آية: ٧١.
المعنى:
قالوا يا نوح قد خاصمتنا وحاججتنا فأكثرت جدالنا، ولم تدع لنا حجة إلا أبطلتها ورددتها حتى سئمنا ومللنا.. فائتنا بما تعدنا به من العذاب في الدنيا أو الآخرة إن كنت من الصادقين في قولك: إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير.
فرد نوح عليهم بقوله: إن الذي أعدكم به وأخاف عليكم منه بيد الله لا بيدي، وأمره إلى الله فقط إن شاء أنزله فورا وإن شاء أجله على أنكم لستم بمعجزين الله هربا
120
فأنتم في ملكوته وتحت قبضته.. ولا ينفعكم نصحى لكم وإخلاصى معكم في شيء أبدا إن أردت ذلك. إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحى أبدا، إذ قبول النصح والانتفاع به يكون للمستعد للخير القابل له. أما إذا فسدت النفس وران على القلب الحجاب فلن يرى النور ولن ينتفع به، ومعنى إغواء الله على إرادته أن يكونوا من الغاوين لا خلق هذه الغواية فيهم، وفسر ابن جرير الطبري الغواية بالهلاك فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [سورة مريم آية ٥٩].
إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم ومالك أمركم وإليه ترجعون.. أم يقولون افتراه وهذا إضراب انتقالي على معنى بل أيقولون افتراه واختلقه؟ قل لهم: إن افتريته فعلىّ وحدى ذنب جرمي. قال بعضهم: إن هذه الآية معترضة في قصة نوح وهي من قول مشركي مكة وهذا رد محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم.
وقيل هذا من كلام نوح، ومن رد نوح عليهم.. وهذا يشبه قوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. [يونس ٤١].
يأس نوح منهم وصنعه السفينة [سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
121
المفردات:
تَبْتَئِسْ الابتئاس: حزن في استكانة، والمراد: لا تغتم بهلاكهم بِأَعْيُنِنا المراد بملاحظتنا ومراقبتنا، والفلك السفينة سَخِرُوا استهزءوا وضحكوا فارَ التَّنُّورُ المراد: ظهور الماء على وجه الأرض بكثرة، والفوران الغليان، والتنور هو المكان الذي يصنع فيه الخبز. وقيل: هو تمثيل لاشتداد الغضب.
المعنى:
أوحى ربك إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن بالفعل فلا تحزن على كفرهم ولا تبتئس لفعلهم فقد سبق فيهم القضاء وحقت كلمة ربك على الذين كفروا.
واصنع الفلك لتكون أداة لنجاتك من الغرق أنت ومن معك من المؤمنين، اصنعها بأعيننا وتحت ملاحظتنا حالة كونك مشمولا برعايتنا ومعلما بوحينا لك كيفية الصنع حتى لا تقع في خطأ، وجمع الأعين بِأَعْيُنِنا للإشارة إلى كمال العناية وتمام الرعاية.
ولا تخاطبني يا نوح في شأن الذين ظلموا أبدا فقد حم القضاء، ونزل البلاء، وحقت عليهم الكلمة أنهم لمغرقون فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة.
ويصنع السفينة وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه سخروا منه واستهزءوا به ظانين أنه مجنون ينفق وقته وجهده في عمل لغو لا فائدة فيه، قال نوح مجيبا لهم:
إن تسخروا منا اليوم لصنعنا شيئا هو في ظنكم خرق وحماقة فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا، فلسوف تعلمون قريبا من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا بالغرق، ويحل عليه عذاب مقيم دائم في الآخرة.
122
كان يصنع السفينة جادا في عمله، متألما من سخريتهم حتى إذا جاء أمرنا، واشتد غضبنا وحانت الساعة، ويا لها من ساعة حين فار التنور، وجاءت السماء بالمطر مدرارا، وتفتحت العيون بماء غزير فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قلنا: احمل في السفينة من كل نوع من الأحياء زوجين اثنين ذكر وأنثى، واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا، إلا ما استثنى منهم ممن سبق عليه القول فصار في عداد الكفار المغرقين، واحمل فيها من آمن معك من قومك، وما آمن معه إلا القليل. نعم وقليل ما هم.. إن الكرام قليل.
وقال نوح: اركبوا فيها قائلين: باسم الله مجريها، أى: إجراؤها ومرساها أى:
إرساؤها نعم من الله كل شيء، وهذه بشارة لهم بحفظها ورعايتها من الله.
إن ربي لغفور ستار رحيم بالخلق كريم، ومن مظاهر رحمته نجاة المؤمنين وهلاك الظالمين.
نهاية القوم واستشفاع نوح لابنه [سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٩]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
123
المفردات:
مَوْجٍ جمع موجة وهي ما يحدث عند اضطراب البحر من التموج وارتفاع المياه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يحفظني ابْلَعِي البلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة غِيضَ الْماءُ جف ونضب الْجُودِيِّ جبل معروف في ديار بكر.
المعنى:
تصوير للسفينة وقد سارت وسط المياه. تصوير إلهى.
وهي تجرى بهم وتسير بسرعة دافقة وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، ولما رأى نوح نهاية القوم أخذته عاطفة الأبوة واستولت عليه، ونادى ابنه،
124
وكان في مكان منعزل عنه: يا بنى، اركب معنا سفينة النجاة، وإياك يا بنى أن تكون مع الكافرين المهلكين.
وكان هذا الابن عاصيا لوالده، غير مطيع لأمره كافرا برسالته ووحيه ولذا قال مجيبا أباه: سآوى إلى جبل يحفظني من الماء، يا سبحان الله!! من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل الله فلا هادي له.
نوح يبصّر ابنه طريق الخير فيأبى إلا طريق الشر، ويقول: سألجأ إلى جبل يحفظني من طغيان الماء كأنه فهم أنه ماء من بحر أو نهر له حد محدود يقف أمام ربوة عالية أو جبل شامخ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية ٥٦] قال نوح ردا على كلامه وحجته الواهية: يا بنى لا شيء في الوجود يعصم أحدا من أمر الله إذا نزل ويرد قضاءه إذا حكم لكن من رحم الله من الخلق فهو وحده يعصمه ويحفظه، وقد جعل السفينة منجاة للمؤمنين.
وبينما هم في هذا النقاش حال بينهما الموج فكان الابن من المغرقين.
أقرأ يا أخى إن شئت قوله- تعالى- في سورة القمر: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [١١- ١٦] إنه لتصوير رائع للسفينة.
وقيل: يا أرض ابلعي ماءك وجففيه، ويا سماء أقلعى وكفى عن المطر وامنعيه، وما هو إلا أمر وامتثال، أمر من قال للشيء كن فيكون، فهو أمر تكويني يوجه للعقلاء وغيرهم..
وغاض الماء عقب هذا الأمر، وقضى الأمر، ونجا المؤمنون، وهلك الكافرون فهل من مدكر؟!! واستوت السفينة واستقرت على الجودي، وقيل بعدا وهلاكا، وطردا وعذابا أليما للقوم الظالمين.
ويقول المفسرون مجمعين: إن هذه الآيات من البلاغة بالمحل العالي، والمكان المرموق.
125
ولما رأى نوح نهاية القصة وقد ختمت بهلاك الكافرين ومنهم ابنه ساورته أحاسيس العطف على ابنه والأسف العميق على نهايته فنادى ربه فقال رب: إن ابني من أهلى، وقد وعدتني بنجاتهم، وأن وعدك الحق وقولك الصدق، وحكمك العدل، وأنت خير الحاكمين، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟!! قال الرب- سبحانه وتعالى-: يا نوح، إن ابنك ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم معك: لماذا؟!! إنه عمل عملا غير صالح، وكفر بالله ورسوله ولا ولاية بين مؤمن وكافر مهما كان قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [سورة الممتحنة آية ٤] وفي قراءة حفص «إنّه عمل غير صالح» كأنه نفس العمل السيّئ مبالغة.
فلا تسألن يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح إنه حق وصواب إنى أعظك وأنصحك أن تكون من الجاهلين يسألون بطلان تشريع الله وقانونه، وتقديره في خلقه فهو العليم بهم البصير بشأنهم، ويظهر لي والله أعلم سؤال كان بناء على أنه رأى ابنه في معزل من القوم فظن أنه ربما يكون قد آمن، ودخل في زمرة أهله، وقد سهل له هذا ما في الإنسان من غريزة حب الولد، فنوح- عليه السلام- قد أخطأ في الفهم والاجتهاد، وكان عتاب الله له لأنه نبي وأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولذا قال نوح بعد هذا: ربي. إنى أعوذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح.
وإن لم تغفر لي وترحمني: وتقبل توبتي برحمتك التي وسعت كل شيء أكن من الخاسرين.
فانظر يا أخى وفقك الله إلى أن القرابة والأخوة في الله أقوى من قرابة النسب، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وأن ابن نوح- عليه السلام- حين كفر قد حكم الله عليه بأنه ليس من أهله. واعلم أن الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور آية ٢١] وأن جزاء الإيمان الصالح من الأعمال يكون في الدنيا غالبا وفي الآخرة حتما.
وقد كان ما كان من قصة نوح مع قومه التي انتهت بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين،
126
قيل بعد هذا: يا نوح اهبط من السفينة أو من على الجبل بعد أن كفت السماء عن المطر، وابتلعت الأرض الماء، واستوت السفينة على الجودي.
اهبط متلبسا بسلام منا ومتمتعا بأمان وتحية من عند الله مباركة طيبة، اهبط بسلام وبركات ونماء وسعة في الرزق عليك وعلى أمم ممن معك من الخلق إنسانا كان أو حيوانا، وأمم من ذرية من معك سيتمتعون بالخيرات والطيبات في الدنيا والآخرة، وأمم من الذرية سنمتعهم في الدنيا ثم نضطرهم إلى عذاب أليم في الآخرة وذلك لكفرهم وعنادهم.
وهكذا كان الخلق أولا من ذرية نوح مؤمنين صالحين متمتعين في الدنيا والآخرة ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، وسيمسهم من عذاب أليم.
أما العبرة العامة لهذه القصة فقد تقدم الكلام عليها، ومنها هنا الدلالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه، وكيف كانت عاقبة الظالمين؟! فاصبر يا محمد كما صبر نوح من قبل فلقد عرفت مآل الصبر لنوح ولقومه المؤمنين وعاقبة الكفر؟ واعلم أن العاقبة للمؤمنين.
قصة هود عليه السلام [سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
127
المفردات:
فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة مِدْراراً كثيرا اعْتَراكَ أصابك آخِذٌ بِناصِيَتِها المراد مسخرها ومصرفها كيف شاء جَبَّارٍ الجبار القاهر الذي يجبر غيره على اتباعه عَنِيدٍ لا يذعن إلى الحق مهما كان.
وتشمل القصة: تبليغ هود الدعوة إلى قومه، وما ردوا به عليه ونقاشه لهم، ونهاية القصة بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
128
المعنى:
وأرسلنا هودا إلى قبيلة عاد، المشهور أنها عربية وقيل غير ذلك، وكانت تسكن الأحقاف (في شمال حضر موت وغربي عمان، وكانت قبيلة ذات قوة وبطش وأصحاب زرع وضرع، زادهم الله بسطة في الجسم والمال، وهم خلفاء قوم نوح)، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأعراف آية ٦٩] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء الآيات ١٢٨- ١٣٣].
أرسل إليهم أخاهم هودا من أوسطهم نسبا، وأكرمهم بيتا قال لهم: يا قومي ويا أهلى: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به غيره، مالكم من إله غيره خلقكم ورزقكم وأمدكم بما تعلمون وما لا تعلمون، إن أنتم إلا مفترون على الله الكذب في الشركاء والأوثان.
وكان في قبيلة عاد مترفون ألفوا التعالي على الغير، واستمتعوا بالنعم حتى امتلأت قلوبهم كبرا وبغيا وفسادا وضلالا، وهؤلاء هم أعداء الحق دائما إذ يرون في النبوة نورا يعمى أبصارهم، ويفتح أذهان العامة فيأخذون حقهم، فتكسر شوكتهم وتضيع دولتهم لذلك نرى مع كل نبي أن أول كافر به هم أشراف قومه إذ كيف يخضعون لواحد منهم بشر مثلهم.
قال هؤلاء: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ إنا إذن لفي ضلال مبين، ما أنت إلا شخص لك غرض خاص في هذه الدعوة.
فيرد عليهم هود: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده ونبذ الشرك والشركاء لا أسألكم عليه أجرا حتى تتهموني بطلب المنفعة، وأن لي غرضا ما أجرى إلا على الذي خلقني على الفطرة السليمة، وهداني إلى الحق الذي أدعو إليه أفلا تعقلون ما أدعوكم إليه، وتميزون بين الحق والباطل، ويا قوم استغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه توبة نصوحا إنكم إن فعلتم ذلك يرسل المطر عليكم كثيرا فأنتم في حاجة إليه، ويزدكم قوة إلى قوتكم، وعزا زيادة على عزكم، وإياكم والإعراض عن دعوتي فإن فيها الخير والفلاح.
129
قالوا إنا لنراك في سفاهة، وضعف عقل وخروج عن جادة الصواب وإنا لنظنك من الكاذبين قال هود: ليس بي سفاهة وكيف أكون ذلك وأنا رسول رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين.
اشتد الأمر بعد ذلك، وقالوا: يا هود ما جئتنا بحجة قوية تدل على أنك رسول من الله، وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك من تلقاء نفسك، وما نحن لك بمؤمنين ومصدقين برسالتك.
إن نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بسوء حين تعرضت لهم وإنك اليوم مصاب بخبل في العقل وجنون في الرأى.
قال هود: أشهد الله أنى بلغت ما كلفت به، واشهدوا أنى برىء مما تشركون به، وإذا كان الأمر كذلك وأن آلهتكم لها قدرة على عمل، فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم ثم كيدوني جميعا، ولا تمهلون، إنى توكلت على الله ربي وربكم ووكلت له أمر حفظي، وهو على كل شيء قدير.
ما من دابة في الأرض أو السماء إلا هو آخذ بناصيتها، ومصرف أمرها ومسخرها إلى أجل مسمى، إذ له ملك السموات والأرض، إن ربي على صراط مستقيم هو طريق الحق والعدل فإن تتولوا بعد هذا، ولم تطيعوا أمرى فقد بلغت ما أرسلت به إليكم وأبرأت ذمتي من الله وسيستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ، وقائم ورقيب.. وهذه هي النهاية.
ولما جاء وقت أمرنا، ونزول عذابنا، نجينا هودا ومن معه من المؤمنين برحمة خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم، نجيناهم من عذاب غليظ فظيع إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [سورة القمر الآيتان ١٩- ٢٠] فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [سورة الحاقة الآيتان ٧ و ٨].
وتلك عاد جحدوا آيات ربهم وعصوا رسله أى: جنس الرسول وجنس الآيات الصادقة بآياته ورسوله وهم قد اتبعوا أمر كل جبار يجبر غيره على اتباع رأيه وهم الأشراف العنيدون الذين لا يخضعون للحق.
130
ألا إن عادا كفروا بربهم، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد وقوم هود.
قصة صالح- عليه السلام-[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٨]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
131
المفردات:
اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها مُرِيبٍ الريب الظن والشك يقال:
رابنى من فلان أمر يريبني ريبا إذا استيقنت منه الريبة. فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة قلت: أرابنى منه أمر فهو مريب فَذَرُوها اتركوها فَعَقَرُوها قتلوها الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ ساقطين على وجوههم مصعوقين، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقال: غنى بالمكان أقام به.
وتتلخص قصة صالح فيما يأتى: كيف بلغ صالح دعوته. ورد قومه واحتجاجهم عليه، ونقاشه لهم، وآيته على صدقه، وإنذارهم بالهلاك، ووقوعه بالفعل.
وثمود قبيلة صالح من العرب، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشام إلى جهة واد القرى، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم وكانت تعبد الأصنام فأرسل لهم صالح لإنقاذهم.
المعنى:
وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا وأرجحهم عقلا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله خلقكم ورزقكم غيره. أفلا تتقون؟ هو الذي أنشأكم من الأرض بقدرته حيث خلق أباكم آدم من تراب، وخلقكم أنتم من ماء مهين يتكون من الدم، والدم من الغذاء وهو من الأرض، واستعمركم فيها فجعل لكم جنات وعيونا، وزروعا ونخلا طلعها هضيم [لطيف لين منكسر] وقد جعلكم تعمرونها بالزرع والصناعة وأنشأتم فيها بيوتا فارهين [حاذقين في صنعها] فاتقوا الله وأطيعونى، واستغفروا ربكم من عبادتكم الأصنام، ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال:
132
إن ربي قريب من خلقه يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور خصوصا الاستغفار والتوبة، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
وما كان منهم إلا أن قالوا (ردا عليه) : يا صالح قد كنت فينا موضع رجائنا ومعقد أملنا لما لك من خلق وعقل قبل هذه الدعوة التي دعوتها ما الذي دهاك وألم بك!! تنهانا عن عبادة ما يعبده آباؤنا الأقدمون والمحدثون؟! وإنا يا صالح لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة أوليائه وأحبابه وشركائه. حقا إننا لفي شك وسوء ظن منك.
قال يا قوم: أخبرونى ماذا أفعل؟ إن كنت على حجة من ربي، وبصيرة من أمرى أن ما أدعوكم إليه هو من عند الله لا من عندي.
فمن ينصرني من عذاب الله إن عصيته بكتمان الرسالة فما تزيدونني بحرصى على رجائكم وخوفي من سوء ظنكم غير إيقاعى في الهلاك.
ويا قوم هذه آية على صدقى، ناقة الله لكم. حيث لم تكن على السنن الطبيعي في نشأة أمثالها فقد
روى أنها خلقت من صخرة وكان لها شرب في يوم، ولهم شرب في يوم آخر
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٢٧ و ٢٨] وفي كتب التفسير روايات كثيرة عن الناقة.
يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله، واتركوها ترعى حيث تشاء لا يعترضها أحد، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فإنكم إن مسستموها بسوء فسيأخذكم عذاب قريب الوقوع، عذاب أليم يدعكم كالهشيم المحتظر.
فنادوا صاحبهم قيل: هو قدار بن سالف فتعاطى فعقر، وقد نسب العقر لهم جميعا لرضائهم على فعله فعقروها فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وما أشد انتظار البلاء، وما أطولها مدة يترقب فيها الإنسان عذابا محقق الوقوع، ذلك وعد غير مكذوب فيه ومن أصدق من الله حديثا؟! فلما وقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خزي يومئذ، إن ربك أيها الرسول هو القوى القادر العزيز الحكيم يعز من يشاء ويذل من يشاء من عباده فأخذهم العذاب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء آية ٨].
133
وأخذ الذين ظلموا أنفسهم بعصيان الرسول، ومخالفته، أخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بقوم صالح فارتجفت لها قلوبهم وصعقوا بها حتى أصبحوا في ديارهم جاثمين جثوم الطير على الأرض لا حراك بهم كالهشيم المحتظر، كأنهم لم يقيموا في ديارهم، وقد خلت من بعدهم.
ألا إن ثمود كفروا بربهم فاستحقوا عقابه الصارم، ألا بعدا لهم وسحقا لثمود ومن يشبههم من رحمة الله.
قصة إبراهيم- عليه السلام- وبشارته [سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
134
المفردات:
حَنِيذٍ مشوى يقطر دهنا نَكِرَهُمْ المراد: نكر ذلك منهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحس منهم خوفا في نفسه يا وَيْلَتى أى: يا ويلي وهلاكي عَجُوزٌ عقيم الرَّوْعُ الخوف والرعب أَوَّاهٌ كثير التأوه مما يسوء ويؤلم.
ذكر إبراهيم- عليه السلام- في القرآن الكريم كثيرا، فذكر مع أبيه وقومه ومع بشارته ولديه إسماعيل وإسحاق، وذكر مع إسماعيل خاصة، وذكر مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب مخبرين له بهلاك قوم لوط كما هنا.
المعنى:
وتالله لقد جاءت رسلنا من الملائكة قيل: هم جبريل وميكال وإسرافيل وقيل غير ذلك والأفضل التفويض إلى الله، فالله أعلم بذلك ورسوله، ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى بعد التحية منهم وقيام إبراهيم بواجب الضيافة.
فلما دخلوا عليه قالوا: سلاما عليك: قال عليكم سلام الله، ترى أنه حياهم بأحسن من تحيتهم إذ من دقائق اللغة العربية أن قولك عليك سلام أبلغ من أسلم سلاما، فما مكث ولا أبطأ في أن جاء بعجل سمين مشوى ينقط دهنا، لونه أحمر، لذة للآكلين فقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ فلما رأى أيديهم لا تصل إلى الأكل أنكر ذلك ووجده على غير ما يعهد في الضيفان. فإن الضيف لا يمتنع من الأكل إلا لريبة فيه أو قصد سيئ، وأحس في نفسه منهم خوفا وفزعا إذ تبين أنهم ليسوا بشرا، وقد يكونون ملائكة نزلت لتنفيذ عذاب واقع.
فلما رأوا منه ذلك قالوا له: لا تخف ولا يساورك شك فينا، إنا رسل ربك أرسلنا إلى قوم لوط الذين بغوا واعتدوا، لا نريد بك شرا، ونحن مبشروك وأهلك بغلام عليم يحفظ نسلك ويبقى ذكرك ويلد يعقوب، ومن ذريته أنبياء بنى إسرائيل، وكانت امرأة إبراهيم قائمة على خدمتهم سامعة حوارهم فضحكت تعجبا مما رأت وسمعت أو سرورا من هلاك قوم لوط أو من البشرى لها بولد صالح، ولعل البشرى كانت بعد الضحك بدليل العطف بالفاء.
135
فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فلما سمعت البشرى قالت: يا ويلتى ويا عجبي!! أألد وأنا عجوز عقيم؟! وهذا بعلى وزوجي شيخا كبيرا مسنا. إن هذا لشيء عجيب!! قالت الملائكة لها: أتعجبين من أمر الله وقضائه الذي لا يعجزه شيء إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا معشر بيت النبوة، وأهل بيت إبراهيم الخليل تتصل وتتابع إلى يوم القيامة، وهذا يدعو بلا شك إلى عدم العجب أنه- جل جلاله- حميد يستحق غايات المجد والثناء، ممجد في الأرض وفي السماء.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع والخوف من الملائكة، وعلم أنهم ملائكة العذاب أتوا لقوم لوط، وقد جاءوا له بالبشرى، أخذ يجادل الملائكة، وهم رسل الله في قوم لوط- إن إبراهيم لحليم فلا يحب أن يعاجل بالعقوبة، كثير التأوه والتألم من عذاب الناس منيب إلى الله وراجع إليه- فأجابته الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن جدالك واسكت، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ العذاب على هؤلاء، وأنهم آتيهم عذاب لا يعلمه إلا هو غير مردود أبدا.
قصة لوط مع قومه وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون [سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
136
المفردات:
سِيءَ بِهِمْ وقع فيما ساءه منهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً المراد ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق عن ذلك عَصِيبٌ شديد في الشر، وفيه معنى الاجتماع يُهْرَعُونَ يسرعون، ولا يكون الإهراع إلا سراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى أو شهوة، وهو فعل ملازم للبناء للمجهول رَشِيدٌ شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ السرى السير ليلا بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ببقية من الليل سِجِّيلٍ أى: من طين بدليل قوله في سورة أخرى:
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مَنْضُودٍ متتابع ومنظم ومعد لأعداء الله مُسَوَّمَةً لها علامة خاصة عند ربك لا تصيب غيرهم، وهي مسومة أى: محكمة حرة لا يثنيها أحد وقوم لوط هم أسفل سدوم في دائرة الأردن.
المعنى:
ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا بعد ذهابهم من عند إبراهيم سىء بهم، واغتم
137
بمجيئهم لما يعلم من أخلاق قومه وضاق بهم ذرعا، وعجز عن احتمال ضيافتهم، وذلك لما يخافه من اعتداء قومه عليهم،
وقد روى أنهم جاءوا على شكل غلمان حسان وقال لوط (وهو ابن أخ إبراهيم- عليه السلام-) : هذا يوم شديد قد اجتمعت فيه أسباب الشر.
وجاء قومه عند ما سمعوا بالضيوف وقدومهم جاءوا يهرولون مسرعين مدفوعين بدوافع نفسية شيطانية، ولا غرابة في هذا فهم قوم كانوا يعملون السيئات من قبل، فالسوء والاعتداء، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء غريزة فيهم مستحكمة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال لوط: يا قوم هؤلاء بناتي لصلبى أو بنات القوم جميعا من ثيبات وأبكار تحت طلبكم وفي مقدوركم، وهن أطهر لكم، [وليس معنى أطهر أن إتيان الرجال طاهر لا. لا..] والمراد هؤلاء تحت طلبكم فتزوجوا العذارى. وأتوا نساءكم في الحلال، ولا يعقل أن يعرض لوط بناته لهم للزنا فهذا لا يليق من رجل عاقل فما بالك بنبي مرسل لا يعقل هذا أبدا وإن كتب في سفر التكوين ونقله جهلا أو بحسن الظن بعض المسلمين، بدليل قوله: فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، والمعنى: أجمعوا بما آمركم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالى وامتهانى في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟ ذو رشد وعقل يرشدكم إلى الخير ويهديكم إلى الرأى؟
قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة ولا أرب، فلا معنى لعرضك علينا هذا وإنك لتعلم ما نريد من الاستمتاع بالذكران، قال لوط مخاطبا ضيوفه كما هو الظاهر: لو أن لي بكم قوة تقاتل معى هؤلاء القوم أو تدفع شرهم عنى، والمعنى أتمنى أن يكون لي ذلك أو آوى إلى ركن شديد من أصحاب العصبيات والقوة في الأرض، قالت الملائكة: يا لوط: إنا رسل ربك جئنا لنجاتك من شرهم وإهلاكهم، ومعنى هذا أنهم لم يصلوا إليك بسوء في نفسك ولا فينا، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم، فلم يبصروا شيئا ثم قيل لهم: فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر! فقالت له الملائكة تنفيذا لوعد ربه:
أسر بأهلك واخرج من هذه القرية الظالم أهلها بطائفة مع الليل تكفى لتجاوز حدودها والبعد عنها فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ
138
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[سورة الذاريات الآيتان ٣٥ و ٣٦] ولا يلتفت منكم أحد إليها أبدا خوفا من أن يرى العذاب فيصيبه، وامضوا حيث تؤمرون.
فأسر بأهلك جميعا إلا امرأتك كانت من الغابرين أى: الباقين، وكانت امرأة كافرة لها ضلع مع قوم لوط الكفرة. إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح إذ سيبتدئ عذابهم من طلوع الفجر وينتهى عند شروق الشمس فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر ٧٣] أليس الصبح بقريب؟ وقد كانوا يتعجلون العذاب كفرا واستهزاء بلوط.
فلما جاء أمرنا، ونفذ قضاؤنا جعلنا عاليها سافلها وقلبنا أرضها وخسفناها، وأمطرنا عليها حجارة من طين متراكب بعضه في أثر بعض، حجارة لها علامة لا تنزل على غيرهم، وقيل المعنى: سخرها عليهم وحكمها فيهم لا يمنعها مانع، انظر إلى قوله- تعالى-: «مسوّمين» وصفا للملائكة في غزوة بدر، وقولهم إبل مسومة وسائحة أى: ترعى حيث شاءت، وما هذه العقوبة من الظالمين وحدهم ببعيد، يا سبحان الله هذا العقاب الصارم ليس ببعيد أبدا عن الظالمين، فانظروا يا كفار مكة أين أنتم منه؟!!
قصة شعيب- عليه السلام-[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٩٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
139
المفردات:
بِخَيْرٍ بثروة وسعة في الرزق تَبْخَسُوا تنقصوا الأشياء أو تعيبوها تَعْثَوْا تفسدوا في الأرض قاصدين الفساد. الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ العاقل المتأنى، الراسخ في هدايته لا يَجْرِمَنَّكُمْ الجرم الكسب والمراد لا يحملنكم شِقاقِي خلافي معكم الشديد: ما نَفْقَهُ الفقه الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس رَهْطُكَ عشيرتك الأقربون وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا المراد جعلتموه بشرككم كالشىء الملقى وراء الظهر مَكانَتِكُمْ تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم.
هذه القصة تشمل تبليغ شعيب دعوته وما أمر به ونهى عنه من آية ٨٤ إلى آية ٨٧.
مناقشة قومه له ورده عليهم وذلك في الآيات ٨٧- ٩٠.
تطور الحالة واشتدادها وإنذار شعيب لهم بالعذاب، ووقوع ذلك بالفعل ونجاة المؤمنين من آية ٩٠ إلى نهاية القصة.
المعنى:
وأرسلنا إلى قبيلة مدين- وكانت تسكن الحجاز مما يلي الشام، وكانوا في غنى وسعة إلا أنهم طففوا الكيل، ونقصوا الوزن، وعاثوا في الأرض الفساد- أرسلنا لهم شعيبا من أوسطهم نسبا وأعلاهم خلقا، قال لهم: يا قومي ويا أهلى [وهذا مما يدعو إلى الاستجابة والقبول] اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، ما لكم إله غيره يتصف بما اتصف به الله- جل شأنه- حتى يعبد، ألست معى في أن الرسل جميعا متفقون في طلب عبادة الله وحده؟ أما الأمور العملية فكل يعالج ناحية الضعف في أمته، ولذا قال شعيب، يا قومي اعبدوا الله، ولا تنقصوا الكيل والميزان فيما تبيعون، وكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون أى: ينقصون،
141
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ومحاسبون؟ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهى لأنى أراكم بخير وعافية وغنى وسعة، وهذا يدعو لشكر الله وامتثال أمره، ولأنى أخاف عليكم عذابه إذا أنتم أصررتم على العصيان.
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط والعدل، وهذا أمر بالوجوب بعد النهى عن ضده لتأكيده وتنبيها على أنه لا بد منهما قصدا، لا تنقصوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن أو عد في حق حسى أو معنوي ولا تعيبوا شيئا لا يستحق العيب، ولا تفسدوا في الأرض بأى نوع من الفساد حالة كونكم قاصدين له، واعلموا أن ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه لأنفسكم من تطفيف في الكيل أو نقص في الوزن وصدق الله بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وما أنا عليكم بحفيظ ورقيب إن علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب.
مناقشتهم له ورده عليهم:
قالوا: يا شعيب أصلاتك تقضى بتأثيرها فيك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من أصنام نتخذهم قربى إلى الله؟ ولست أنت خيرا منهم حتى نتركهم ونتبعك، والاستفهام في الآية للإنكار والسخرية بشعيب، أصلاتك تأمرك أن نترك ما نفعله في أموالنا من تنمية واستغلال على حسب نشاطنا واجتهادنا، أليس هذا حجرا على حريتنا وحدا لنشاطنا؟ إنك يا شعيب لأنت الحليم المتأنى في حكمه العاقل المتروى، والرشيد الذي لا يأمر إلا بما استبان له فيه وجه الخير والرشاد، وهذا التأكيد الكثير في كلامهم يفيد الاستهزاء والتعريض به.
انظروا إلى رد شعيب عليهم في هذه الاتهامات.
يا قومي ويا أهلى أخبرونى ماذا أفعل معكم ومع نفسي؟ إن كنت على يقين تام، وحجة واضحة من ربي تفيد أن ما آمركم به هو من عند الله لا من عند نفسي، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد رزقت من فضله وخيره رزقا حسنا كثيرا، حصل لي من طريق الكسب الحلال فأنا رجل ملئ وخبير بما ينمى المال، وأخبرونى ماذا أفعل، وماذا أقول لكم غير الذي قلت؟.
وما أريد أن أخالفكم مائلا إلى ما نهيتكم عنه بل أنا مستمسك به قبلكم لأنى أرى فيه الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.
142
وأنا ما أريد إلا الإصلاح والخير العام لي ولكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ليس لي فيما أفعل غرض خاص. ومن هنا نأخذ أن العاقل يجب أن يكون عمله مراعيا فيه حق الله ورسوله، وحق نفسه، وحق الناس عليه.
وما توفيقي وهدايتي إلى الخير إلا بالله وحده، عليه توكلت، وإليه أنيب إذ هو المرجع والمآب والنافع والضار لا أرجو منكم خيرا، ولا أخاف ضرا، ويا قوم لا يحملنكم شقاقي وخلافي معكم في الرأى والعقيدة على العمل الضار الذي يترتب عليه أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح بالغرق، أو قوم هود بالريح العاتية، أو قوم صالح بالصيحة الطاغية، وما عذاب قوم لوط منكم ببعيد زمانا ولا مكانا ولا إجراما.
واستغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال، وإن ربي وربكم عظيم كثير المودة، فإنكم إن فعلتم ذلك يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا والآخرة.
اشتداد الحالة ووقوع العذاب:
قالوا يا شعيب: ما نفهم كثيرا مما تقول فهما عميقا، ولا نفهم له معنى ولا حكمة، وإنا لنراك فينا ضعيفا لا حول لك ولا قوة، فكيف يقبل منك هذا الذي يوصلك إلى الرياسة في الدين والدنيا، على أنا لو أردنا البطش بك لما منعنا مانع، ولولا عشيرتك الأقربون لفتكنا بك فتكا يتناسب مع عملك معنا من ذم آلهتنا، وطلبك الحجر علينا في تصرفنا أى: نقتلك رميا بالحجارة وما أنت علينا بعزيز.
قال: يا قومي، أرهطي وأسرتى أعز وأكرم عليكم من الله الذي أدعوكم اليه؟
وأشركتم به وجعلتم مراقبته والخوف منه وأمره ونهيه وراءكم ظهريا كالأمر الذي يهون على صاحبه فينساه ولا يحسب له حسابا، إن ربي بما تعملون محيط علما فسيجازيكم على عملكم.
ويا قومي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم إنى عامل على مكانتى وحالتي!! وغدا سوف تعلمون الذي سوف يأتيه عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا وانتظروا مراقبين من سيقع عليه العقاب، إنى معكم من المنتظرين، وهذا الأمر (اعملوا وارتقبوا) للتهديد والوعيد ممن وثق بربه وبوعده.
143
ولما جاء أمرنا، وحانت ساعة التنفيذ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة خاصة بهم: وما ذلك على الله بعزيز، وأخذت الذين ظلموا الصيحة التي أخذت ثمود فأصبحوا جاثمين، وجوههم منكبة على الأرض كالطير الجاثمة، وأصبحت ديارهم خاوية على عروشها كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات ألا بعدا وهلاكا لّمدين كما بعدت وهلكت ثمود.
من قصة موسى وفرعون [سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
المفردات:
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ المراد: حجة قوية ظاهرة. وقيل: هي العصا يَقْدُمُ أى:
يتقدم. يقول قدمهم يقدمهم إذا تقدمهم فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ المراد: بئس العطاء المعطى لهم وقيل: الرفد القدح: والرفد ما في القدح من الشراب: والمراد: بئس ما يسقونه في النار عند ما يردونها.
المعنى:
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع المفصلة في غير هذه السورة وأرسلناه بحجة قوية
كقوة السلطان ظاهرة لا غموض فيها، وهي محاورته مع فرعون. وقيل هي عصاه، أرسلناه إلى فرعون وملئه وهم أشراف قومه، وقادة شعبه، ومستشاروه في الرأى وأما بقية الشعب فتابع لهم، وسائر وراءهم بدون تفكير، فاتبع الأشراف أمر فرعون، ونفذوه حرفيا في الكفر بموسى وإحضار السحرة، وقتلهم لمن آمنوا، وما أمر فرعون برشيد أبدا بل هو الغواية والضلال، والشر والفساد، وهذا فرعون كبير قومه وقائدهم إلى الشر في الدنيا يتقدمهم يوم القيامة إلى النار فيدخلون فيها جميعا، وبئس الورد المورود الذي دخلوه وهو جهنم، وذلك لأن وارد الماء يرده للتبريد ولذة الشرب، ووارد النيران يحترق بلهبها، ويتلظى بنارها.
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين، ويوم القيامة يسقون ماء حميما يقطع الأمعاء مع اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة وبئس هذا العطاء المعطى لهم جزاء ما قدموا من سىء الأعمال.
العبرة والعظة من القصص [سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٨]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
145
المفردات:
تَتْبِيبٍ مأخوذ من التباب أى: الخسران والهلاك يقال تب فلان، وتبت يده أى: خسر وهلك شَقِيٌّ الشقي: من استحق النار لإساءته سَعِيدٌ من استحق الجنة لعمله بعد فضل الله ورحمته زَفِيرٌ الزفير إخراج النفس، والشهيق رده مع السرعة والجهد مَجْذُوذٍ مقطوع مأخوذ من جذه يجذه إذا قطعه أو كسره.
المعنى:
ذلك الذي ذكرنا بعض أنباء القرى التي ظلمت نفسها وعصيت رسلها نقصه عليك للعبرة والعظة ولمعان أخر، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه، من القرى ما له بقايا آثار باقية كالزرع القائم، ومنها ما عفى ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود، وما ظلمناهم في شيء أبدا بل أرسلنا لهم الرسل لهدايتهم وتنوير بصائرهم ولكنهم ظلموا وبغوا وما ازدادوا إلا فجورا وضلالا، أنذرتهم رسلهم بالعذاب فتماروا بالنذر، واتكلوا على آلهتهم في دفع العذاب عنهم فما أغنت عنهم آلهتهم شيئا لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير هلاك وضلال فإنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا وظلما وضلالا.
ومثل ذلك الأخذ بالعذاب والنكال أخذ ربك إذا أخذ القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان ومكان، إن أخذه أليم شديد موجع قاس، فاعتبروا يا أولى الأبصار فهل من مدكر؟ يا كفار قريش لستم بأقوى منهم وأشد بأسا، وليس رسولكم بأقل من
146
إخوانه الرسل أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة الروم آية ٩].
إن في ذلك القصص الذي مضى لآية قوية وحجة ظاهرة على أن هذا الكون يجرى على سنن مرسوم ووضع مقصود لله- سبحانه وتعالى-، وإنه لآية لمن يؤمن بالآخرة والحياة فيها وأنها محل الثواب والعقاب، أما من لم يؤمن بها ويقول إن عذاب الأمم كان طبيعيا فالغرق والصاعقة والزلازل أمور طبيعية ليست إلهية فنقول له على رسلك:
إن عذاب الأمم أتى بعد إنذار الرسل لأقوامهم. وقد كان محددا بوقت تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.
وإنه لآية على أن عذاب الآخرة. ذلك اليوم المعد له يوم مجموع له الناس للحساب وذلك يوم مشهود فيه، يشهده الخلق جميعا.
وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا وتلك هي عمر الدنيا.
يوم يأتى ذلك اليوم المعهود المعروف لا تتكلم نفس إلا بإذنه- سبحانه- فهو صاحب الأمر والنهى والإذن يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [سورة النبأ آية ٣٨] يوم تخضع فيه الأصوات فلا تسمع إلا همسا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [سورة طه آية ١٠٩] هو يوم شديد هوله، طويل وقته مختلف حاله فتارة يؤذن لهم بالكلام فيعتذرون ويندمون وطورا جامدون جمود الصخر لشدة الهول، ونفى الكلام إلا بإذنه يفسر لنا الجمع بين الآيات المثبتة للكلام والنافية له.
فمن الناس شقي حقت عليه الكلمة وعمل عمل أهل النار، ومنهم سعيد، أريد له الخير فعمل عمل أهل الخير، وكل ميسر لما خلق له.
فأما الذين شقوا في الدنيا بالعمل الفاسد والاعتقاد الزائغ، ففي النار مستقرهم ومثواهم، لهم فيها زفير وشهيق من شدة الكرب، وضيق الصدر بما حل بهم فهم يتنفسون الصعداء تكاد صدورهم تخرج من شدة الحزن والبكاء خالدين فيها وباقين بها ما بقيت السموات والأرض، وهل تبقى السموات والأرض؟ نعم تبقى بشكل
147
آخر ولون آخر الله أعلم به يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وسماء كل من أهل النار والجنة ما فوقهم، وأرضهم ما تحتهم.
قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء. وهذا معنى قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً إذ العرب يريدون بمثل هذا التركيب التأبيد.
هذا الخلود وهذا الدوام ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، وللعلماء قديما وحديثا في هذا الاستثناء وأمثاله أقوال كثيرة ذكر القرطبي منها عشرة والظاهر والله أعلم أنه استثناء من الخلود على معنى أنهم خالدون فيها إلا ما شاء ربك من تغيير هذا النظام المعد، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه إن شاء أبقاه وإن شاء منعه ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: حكاية عن الرسول قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.
وقيل: هو استثناء من الدوام في قوله: ما دامَتِ لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السموات والأرض في الدنيا لا في الجنة ولا في النار فكأنه قال خالدين في النار أو في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
والرأى الأول ذكره تفسير المنار وأظنه هو المناسب لقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ هـ ويشاءه- سبحانه وتعالى-.
وأما الذين سعدوا فهم في الجنة خالدين فيها وماكثين بها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مقطوع ولا ممنوع.
وانظر إلى الفرق بين ختام الآيتين فكل من الجزاءين دائم- بمشيئة الله تعالى- ولكن جزاء المؤمنين السعداء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع وصدق رسول الله «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» وأما الكافرون فجزاؤهم موافق لأعمالهم.
148
تحذير وتثبيت [سورة هود (١١) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
المعنى:
إذا علمت ما مضى ووقفت عليه، وأنها سنة الله ولن تتغير فلا تك في مرية ولا شك مما يعبد هؤلاء الناس من قومك. لا يكن عندك شك في نهايتهم وجزائهم أبدا، ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، فجزاؤهم في الآخرة، وإنا لموفوهم نصيبهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا فقط غير منقوص، والواجب أنهم لا يغترون بما هم فيه من نعمة ورخاء فالدنيا لهم فقط، وأما الآخرة فعذاب شديد ولا عجب في هذا.
فها هم أولاء قوم موسى.
وتالله لقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة فاختلف فيه قومه من بعده بغيا بينهم، وتنازعا على الرياسة الكاذبة والدنيا الزائلة، وإنما أنزل الكتاب لجمع الكلمة، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ولولا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العقوبة لقضى بينهم في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للفتنة كما أهلك الأمم السابقة.
وإنهم لفي شك منه مريب، والظاهر- والله أعلم- أن الضمير يعود على قوم
موسى، وشكهم المريب كان في التوراة وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ من سورة الشورى آية: ١٤، والمراد بالذين أورثوا الكتاب هم اليهود والنصارى إلا المسلمون فإن التوراة قد أحرقت مع هيكل سليمان، ولذلك يقول الله:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فلم يأخذ عيسى التوراة من اليهود، وإن احتج عليهم بما حفظوا منها وخالفوه في العمل، وإن أولئك المختلفين- والله- ليوفينهم ربك أعمالهم، ولا يظلم أحدا، إنه بما يعملون خبير، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم.
نتيجة ما مضى من السورة [سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
المفردات:
وَلا تَطْغَوْا الطغيان مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط تَرْكَنُوا الركن الناحية القوية والجانب الأقوى، ومنه قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ والمراد النهى عن الاعتماد عليهم والالتجاء إليهم. طَرَفَيِ النَّهارِ الغداة والعشى أو بكرة وأصيلا زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الطائفة من أول الليل لقربها من النهار والمراد بها المغرب والعشاء.
هذا الأمر والنهى ثمرة عامة لما في القصص الماضي من العبرة والعظة، حيث كان الجزاء على الإيمان ما عرفناه، وجزاء الكفر ما علمناه، وكان منه الغرق والخسف والهلاك... إلخ.
150
المعنى:
إذا كان حال أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم كما أمرت ومن تاب معك، ولا تطغوا.
الاستقامة المأمور بها في الآية مرتبة عليا، تقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن الكريم، وعدم التفرق والاختلاف في أسس الدين وأصوله الذي وعد الله صاحبه بالهلاك والعذاب، والاستقامة تقتضي كذلك التزام ما أمر به الكتاب من العبادات والمعاملات، والاحتكام إليه عند النزاع واختلاف الرأى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
[النساء ٥٩] أليست الاستقامة درجة عليا بدليل أمر الله نبيه بها! وهو على الاستقامة مستقيم، وقد أمر بها موسى وهارون على أنها الطريقة المثلى للنجاح قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس ٨٩] وانظر إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت آية ٣٠].
والاستقامة تطبيق عملي لروح الدين، وكرامة يختص بها الله بعض المخلصين من عباده ليكونوا مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا وصدق رسول الله حين قال لسفيان الثقفي إجابة لطلبه: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «قل آمنت بالله ثمّ استقم».
فاستقم كما أمرت يا أيها الرسول ومن تاب معك من المؤمنين، ولا غرابة في هذا الأمر، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مستقيم غاية الاستقامة إذ هو أمر يقصد به الدوام والاستمرار على ما هو عليه.
وألا تطغوا إنه بما تعملون بصير، والطغيان مجاوزة الحد المرسوم، والخروج عن الطريق المستقيم، وهذا أمر عام يقع فيه الخاص والعام، ولذلك جاء النهى فيه للجميع مع التذييل بأن الناقد بصير وخبير.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، ولا تعتمدوا عليهم في شيء أبدا فالركون إلى الظالمين ظلم بين، وهذا النهى علاج لمرض نفسي متفش عندنا كثيرا وهو اللجوء إلى الكبار والرؤساء معتمدين عليهم في قضاء المصالح وهذا ما يدعونا إلى إطرائهم وتملقهم، وكتمان
151
الحق، وعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكل من اعتدى على دين الله أو على حكمه فهو ظالم، فما بالك بالكفرة والمشركين.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم وأمتهم ووطنهم فتمسكم النار، وما لكم من دون الله أولياء أبدا ينفعونكم ثم أنتم لا تنصرون في شيء؟!! وانظر- رعاك الله- إلى خير ما يستعين به الإنسان في حياته.
أمرنا الله بالاستقامة، والصبر على الطريق المستقيم، ونهانا عن الطغيان ومجاوزة الحد، ونهانا عن الركون إلى الظالمين والاستعانة بهم. وكل هذا أمر شاق على النفس، كبير إلا على الخاشعين، ولذا عطف على ذلك الأمر بإقامة الصلاة وتحصيل الصبر لأنهما العدة للامتثال.
أما إقامة الصلاة فهي ترأس العبادات العملية، وهي الصلة بين العبد والرب وهي مطهرة للنفس مرضاة للرب، مدعاة لتطهير الروح وتزكية النفس.
والصبر سلاح المؤمن وعدته، والوقاية له من الجزع المفضى إلى الخروج عن الجادة،
وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الصّبر نصف الإيمان».
لذلك كله لا غرابة في جعل الصلاة والصبر خير ما يستعين بهما المسلم على امتثال الأمر واجتناب النهى.
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، والمراد أدها كاملة مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والهيئات في أول النهار وآخره، بكرة وأصيلا، وفي ساعات الليل المتداخلة في النهار وساعات النهار المتداخلة في الليل، وهذا التحديد في الزمن يشمل جميع أوقات الصلاة كما ذكرت في آيات أخرى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم ١٧ و ١٨] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء ٨] والمراد بدلوك الشمس زوالها المنتهى إلى غسق الليل ويدخل فيه صلاة العصر والمغرب والعشاء وأقم صلاة الفجر إنها كانت مشهودة من الله والملائكة.
وأقم الصلاة. إن الحسنات بامتثال الأمر خصوصا في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات.
152
روى أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر له كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فقال: يا رسول الله، إلىّ هذه؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هي لمن عمل بها من أمّتى».
المعنى:
في الحديث أن الذنب الذي قارفه السائل ليس فيه حد وإنما يكفره العمل الصالح من إسباغ وضوء، وإقامة صلاة، وإحسان في العمل فذلك كله يطهر النفس ويزكيها من أثر الدنس الذي ألم بها.
ومراحل التوبة الصادقة علم بالذنب وخطره على صاحبه، وحال عند الشخص من ندم على الذنب، وألم في النفس يوجب العزم على عدم العودة، والعمل الصالح الذي يطهر النفس من خب الذنب إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً. [مريم ٦٠]، ذلك الذي مر من الوعظ الصادق والأمر النافع الذي يقتضى المراقبة التامة لله في السر والعلن ذكرى وموعظة حسنة للذاكرين ذوى الألباب والأرواح الطاهرة واصبر..
يا سبحان الله!! أمرتنا بالصبر المطلق العام في كل شيء صبر على الطاعة وما فيها من تحمل المشاق، وصبر على الابتعاد عن المحرمات والمنكرات التي تهواها النفس البشرية، وصبر على الشدائد والمصائب والأزمات التي تعترض الإنسان في حياته الخاصة والعامة، واصبر أيها المسلم فإن الله لا يضيع أجر المحسنين الصابرين اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية ١٥٣] والله يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب.
السبب العام في هلاك الأمم السابقة [سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٩]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
153
المفردات:
الْقُرُونِ جمع قرن ويطلق على عدد من السنين قيل: مائة سنة، وعلى الجماعة من الناس المقترنين في زمن واحد بَقِيَّةٍ أصحاب طاعة وعقل وبصر بالأمور، والأصل أن البقية ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، ومن الناس كذلك ثم استعمل في الخيار الصالحين النافعين إذ الغالب أن المنفق ينفق الرديء ويبقى الحسن وهذا مما يدخل في قاعدة بقاء الأصلح الْجِنَّةِ الجن سموا بهذا لاستتارهم.
هذه الآيات لبيان السبب في هلاك الأمم التي قص خبرها في السورة مع إرشادنا إلى تجنب تلك الأسباب، والابتعاد عن المزالق التي انزلق فيها السابقون من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واتباع دواعي الترف والبطر، والإجرام والظلم بأنواعه، والبعد عن الاختلاف والتفرق في اتجاهنا العام.
المعنى:
فهل كان من الأمم السابق قصصها، والتي مضت قبلكم جماعة أولو بقية وعقل، وأصحاب رأى وعزم ينهون عن الفساد في الأرض، ويأمرون بالمعروف لا يبالون شيئا ولا يخافون خطرا، لا يمنعهم منه لومة لائم، ولا جاه سلطان جائر. ولولا التي في الآية للتحضيض والحث على عمل ما بعدها مع الإشارة إلى الأسف لعدم تحقيقه فيما مضى.
154
لكن قليلا من الذين أنجيناهم مع رسلهم كانوا أولى بقية نهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف، واتبع الذين ظلموا أنفسهم- وهم الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم- ما أترفوا فيه، من نعمة وعافية ودولة وسلطان، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، ولكنهم عقدوا عزمهم على اتباع الشهوات، وساروا وراء ما فيه التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراءهم ظهريا، وكانوا مجرمين! وأى إجرام أكثر من هذا؟
ومن هنا يعلم أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضى إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، يظهر هذا في الكبار والموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[سورة الإسراء آية ١٦].
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، نعم ليس من شأنه سبحانه وتعالى، أن يهلك القرى ظالما لها وأهلها مصلحون. وقيل المعنى: وما كان ربك مهلكا القرى بسبب الظلم الذي هو الشرك والحال أن أهلها مصلحون في المعاملة بينهم وبين الناس بمعنى أنهم لا يطففون الكيل كما فعل قوم شعيب، ولا يأتون الرجال كما فعل قوم لوط، ولا يتبعون كل جبار عنيد كما فعل قوم فرعون، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كما فعل قوم هود، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام، وهو الظلم المقوض للأمم ولذا قيل الأمم تبقى مع الكفر. ولا تبقى مع الظلم.
وتحتمل الآية: وما كان ربك مهلكا لهم بظلم قليل يقع من الأقلية البسيطة، والأكثرون مصلحون، والآية الكريمة تحتمل كل هذا وفوق هذا، وسبحان من هذا كلامه- تبارك وتعالى-!! ولو شاء ربك أيها الحريص على إيمان قومه لجعل الناس أمة واحدة، وآمن من في الأرض كلهم جميعا.
ولو شاء ربك لخلق الناس وفي غريزتهم وفطرتهم قبول الدين بلا تفكير ولا نظر فكانوا كالنمل والنحل أو الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ولكنه شاء لهم ذلك وقدر لهم
155
عقولا مختلفة واتجاهات متباينة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية ٥٦] وبهذا عمر الكون، وكانوا خلفاء الله في الأرض.
ولا يزالون مختلفين في كل شيء حتى قبول الدين إلا من رحم ربك منهم فاتفقوا على تحكيم كتاب الله والأخذ بما أخذ وترك ما ترك، ولذلك خلقهم فمنهم شقي ومنهم سعيد، قال ابن عباس: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وفي معناه قول مالك بن أنس: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير: نعم كان الاختلاف الناشئ من خلقهم مختلفين سبب دخول كل من الدارين.
وتمت كلمة ربك وقضى الأمر لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الذين لا يهتدون بما أرسل به الرسل من الآيات والأحكام.
خاتمة السورة [سورة هود (١١) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
هذا ختام السورة الكريمة، وفيه بيان ما استفاده الرسول والمؤمنون من هذه القصص، وتهديد غير المؤمنين وإنذارهم، وبيان شمول علمه- سبحانه وتعالى- والأمر بعبادته والتوكل عليه.
وكل قصص نقص عليك أيها الرسول من أنباء الرسل قبلك وأخبارهم المهمة التي هي عين العبرة والعظة، نقص عليك ما نثبت به فؤادك، حتى يكون كالجبل ثباتا ورسوخا بما يطلعك الله- سبحانه وتعالى- عليه من أنواع العلوم والمعارف؟ وما
156
وقفت عليه من طبائع الناس وسنن الله في الكون وما قاساه الرسل الكرام من الإيذاء فصبروا صبرا كريما، ولا شك أن دراسة أخبار الأمم الماضية مما يثبت القلب. ويزيد الإيمان ويقوى اليقين، وجاءك في هذه السورة وتلك الأنباء الحق الثابت واليقين الراسخ والأساس الذي اتفق عليه الكل من دعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على التقوى والخلق الكامل والبعد عن الرذيلة.
وفي هذا موعظة وذكرى للمؤمنين، فإنهم الذين يستفيدون من الوعظ والذكرى والمراد بالمؤمنين المعاصرون ومن يأتى بعدهم.
وقل للكافرين الذين لا يؤمنون اعملوا على ما في مكنتكم واستطاعتكم من مقاومة الدعوة، فإنا عاملون ما في استطاعتنا، وانتظروا بنا ما تتمنونه إنا منتظرون بكم الدواهي في الدنيا والعذاب في الآخرة واعلموا أن لله غيب السموات والأرض. وله وحده علم ما غاب مطلقا في سماء أو في أرض أو في غيرهما، وإليه وحده يرجع الأمر كله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وإذا كان الأمر كذلك فاعبده كما أمرت أنت والمؤمنون وتوكل عليه حق التوكل فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه، وما الله بغافل عما تعملون بل سيحاسبكم على كل صغير وكبير.. والله أعلم.
157
Icon