تفسير سورة الرعد

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٣- سورة الرعد
سميت به لما فيها من قوله عز وجل١ :﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾ الدال على الصفات السلبية والثبوتية، مع الإخبار عن الأمور الملكوتية، ومع كون الرعد جامعا للتخويف والترجية، وهذه من أعظم مقاصد القرآن - قاله المهايمي.
وللسلف رأيان في أنها مكية أو مدينة، ويقال : إنها مدنية إلا قوله٢ :﴿ ولا يزال الذين كفروا... ﴾ الآية. ويقال : من أولها إلى آخر٣ ﴿ ولو أن قرآنا ﴾ مدني وباقيها مكي. والله أعلم.
وآياتها ثلاث وأربعون.
١ [١٣ / الرعد / ١٣]..
٢ [١٣ / الرعد / ٣١]..
٣ [١٣ / الرعد / ٣١]..

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١)
قال أبو السعود: المر اسم للسورة، ومحله: إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذه السورة مسماة بهذا الاسم، وهو أظهر من الرفع على الابتداء، إذ لم يسبق العلم بالتسمية. وقوله تعالى تِلْكَ على الوجه الأول، مبتدأ مستقل، وعلى الوجه الثاني، مبتدأ ثان، أو بدل من الأول أشير به إليه إيذانا بفخامته. وإما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو: اقرأ أو اذكر، ف تِلْكَ مبتدأ كما إذا جعل المر مسرودا على نمط التعديد، والخبر على التقادير، قوله تعالى آياتُ الْكِتابِ أي: الكتاب العجيب الكامل الغنيّ عن الوصف به المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، فهو عبارة عن جميع القرآن، أو عن الجميع المنزل حينئذ. وقوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي: من الكتاب المذكور بكماله الْحَقُّ أي: الثابت المطابق للواقع في كل ما نطق به، الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها، وقصور غيره عن مرتبة الكمال فيها. وفي التعبير عنه بالموصول. وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبنيّ للمفعول، والتعرّض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه السلام. من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لشأن جلالة المنزل وتشريف المنزل إليه، والإيماء إلى وجه الخبر- ما لا يخفى... ! انتهى ملخصا بزيادة.
لطيفة:
في الَّذِي أُنْزِلَ وجهان: أحدهما هو في موضع رفع، والْحَقُّ خبره، أو الخبر مِنْ رَبِّكَ والْحَقُّ خبر محذوف، أو خبر بعد خبر. وثانيهما محله الجر بالعطف على الْكِتابِ عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى، أو بتقدير زيادة الواو في الصفة، والْحَقُّ خبر محذوف، ومنع كثير من النحاة زيادة
الواو في الصفات. وآخرون على جوازها لتأكيد اللصوق، أي الجمع والاتصال. لأنها كما تجمع المعطوف بالمعطوف عليه، كذلك تجمع الموصوف بالصفة، وتفيد أن اتصافه به أمر ثابت، وقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي: بذلك الحق لرفضهم التدبر فيه شقاقا وعنادا. وهذا كقوله تعالى وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السموات، أي خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعا لا ينال ولا يدرك مداه! وقوله تعالى بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي أساطين. جمع عماد أو عمود. وقوله تعالى تَرَوْنَها إمّا استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك، كقول الشاعر:
أنا بلا سيف ولا رمح تراني
أو صفة ل (عمد) جيء بها إبهاما لأن لها عمدا غير مرئية، وإليه ذهب كثير من السلف، ورجّح ابن كثير الأول وأنها لا عمد لها، قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:
٦٥]، والأكمل أيضا في القدرة! وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمرّ كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله تعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلّلهما لما أراد منهما من نفع العالم السفليّ. وقوله تعالى كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة، كقوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨] وقد بيّن ذلك في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: ١]، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار: ٢]، والاقتصار على الشمس والقمر، لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى. وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤]، وقوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر العالم العلويّ والسفليّ ويصرّفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال. لا يشغله شأن عن شأن. وقوله تعالى يُفَصِّلُ الْآياتِ يعني: الآيات الدالة على وحدته وقدرته
ونعوته الجليلة. أي يبيّنها في كتبه المنزلة. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي: لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل، لا بدّ لكم من المصير إليه، بالبعث بعد الموت للجزاء فإن من تدبر حق التدبر، أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية. قدر على الإعادة والجزاء!.
لطائف:
الأولى- جوّز في قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أن يكون الموصول خبرا، وأن يكون صفة، والخبر يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ورجّح في (الكشف) الأول، بأن قوله الآتي وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: ٣]، عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل الخبرية متعينة، فكذا هذا ليتوافقا. والجملة مقررة لقوله وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: ١]، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير. كأنه قيل: كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها. لا سيما وقد جعل صلة للموصول. وهذا أشد مناسبة للمقام، من جعله وصفا مفيدا لتحقيق كونه مدبرا مفصلا، مع التعظيم لشأنهما.
والمقصود بالإفادة قوله: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فالمعنى أنه فعلها كلّها لذلك.
الثانية- قال القاضي: قوله تعالى رَفَعَ السَّماواتِ... إلخ دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك، لا بدّ وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات.
الثالثة- يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ يقرآن بالياء والنون. وهما مستأنفان. أو الأول حال من ضمير (سخّر) والثاني من ضمير (يدبّر) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة.
ولما قرر الشواهد العلوية. أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته.
فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها وجعلها متسعة ممتدّة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها.
256
قال الشهاب: استدل به بعضهم على تسطيح الأرض وأنها غير كريّة بالفعل.
وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها! وردّ بأنه ثبت كريّتها بأدلة عقلية، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح! وهكذا كل دائرة عظيمة. ولا يعلم كريّتها إلّا هو تعالى:
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت أوتادا لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه وَأَنْهاراً متفجرة منها، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والبستانيّ والجبليّ.
قال المهايمي: ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع لئلا تجتمع فتضارّ متناولها فصولا مختلفة، إذ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي: يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا فبطول الليل يحصل الشتاء، وبطول النهار يحصل الصيف، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف، وبالآخر الربيع إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في مدّ الأرض وما بعده لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لا بدّ له من قادر حكيم! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله. والمحبة موجبة للرجوع إليه. وفيه إشارة إلى أن من دبّر ذلك لمعايشهم، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم؟ بلى، وهو أحكم الحاكمين.
لطائف:
الأولى- قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال، أن يسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض. وذلك أن الحجر جسم صلب. فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة. ثم إنها لكثرتها وقوّتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض. فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب. ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال، قرن بها ذكر الأنهار. مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [المرسلات: ٢٧].
الثانية- أشار الرازيّ إلى أن الناس، كما ابتدءوا من زوجين اثنين بالشخص،
257
هما آدم وحواء، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولا من زوجين اثنين ثم كثرت والله أعلم.
الثالثة- في قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجوّ بالظلمة، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية، أي يستر النهار بالليل.
والتركيب وإن احتمل العكس أيضا- بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول- فإن ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي.
وعدّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية، وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا- باعتبار أن ظهوره في الأرض- فإن الليل إنما هو ظلها. وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلا. ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج، على أنهما أيضا زوجان متقابلان مثلها.
وقرئ (يغشّي) من التغشية- أفاده أبو السعود.
ثم بيّن تعالى طائفة من الآيات بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي: بقاع متقاربات مختلفة الطبائع. فمن طيّبة إلى سبخة، ومن صلبة إلى رخوة، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ جمع صنو، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى، وفي (القاموس) النخلتان، فما زاد في الأصل الواحد، كل واحدة منهما صنو. ويضمّ أو عامّ في جميع الشجر، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير يُسْقى قرئ بالتحتيّة والفوقية بِماءٍ واحِدٍ أي:
بماء المطر أو بماء النهر وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فتتفاضل قدرا وشكلا ورائحة وطعما. والأكل، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحبّ. والمجرور إما ظرف ل (نفضل) أو حال من بعضها، أي: نفضل بعضها مأكولا، أو: وفيه الأكل إِنَّ فِي ذلِكَ أي: الذي فصل لَآياتٍ على وحدانيته تعالى وباهر قدرته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها
وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة، وجعلها حدائق ذات بهجة- قادر على إعادة ما أبداه، بل هو أهون في القياس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ خطاب للنبيّ ﷺ أي: إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب لأن من شاهد ما عدّد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم- أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب. وجوز أن يكون خطابا لكل من يصلح له، أي:
إن تعجب، يا من نظر في هذه الآيات، وعلم قدرة من هذه أفعاله، فازدد تعجبا ممن ينكر، مع هذا، قدرته على البعث، وهو أهون من هذه! قال أبو السعود: والأنسب بقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [الرعد: ٦]، هو الأول و (عجب) خبر قدم على المبتدأ للقصر، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمر عجيبا.
وقوله تعالى: أُولئِكَ أي المنكرون لقدرته على البعث الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي: تمادوا في الكفر فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره لأن الإله لا يكون عاجزا، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ أي: السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة لأنهم غلّوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية
259
والسلامة منها وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره.
قال الشهاب: والمراد بكونها قبل الحسنة، أن سؤالها قبل سؤالها، أو أنّ سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدّر لها! وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين. فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة. والجملة خالية أو مستأنفة. و (المثلات) قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثلة- كسمرة وسمرات- وهي العقوبة الفاضحة. سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص. ويقال: أمثلته وأقصصته بمعنى واحد، أو هي من المثل المضروب لعظمها. وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة، وهي لغة أهل الحجاز، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة، وقرئ بفتحهما وبضمهما.
وقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها، وهو مغفرة الذنوب مطلقا إلّا حيث دلّ الدليل على التقييد في غير الموحّد فإن ظلمه- أعني شركه- لا يغفر... وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. ومنهم من ذهب إلى المغفرة مراد بها معناها اللغويّ. وهو الستر والصفح، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، أي: إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة. مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار. كما قال سبحانه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥]، وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب! وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه (إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة لأنه مخالف للظاهر، ولاستعمال القرآن. وللزومه كون الكفار كلهم مغفورا لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة) ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة لأنه في اللغة الستر.
ومن أفراده الستر بالإمهال؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن، تحكّم بحت على أسلوب القرآن، وبإرجاعه إلى ما أصّلوه. مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول، وهو الحجة في اللغة والاستعمال! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه- فارغة، لأنه لا محذور في ذلك. لا سيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل، فالتلازم صحيح! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضا، فهذه الآية في
260
معناها كآية وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ.. إلخ. فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية، فتفطّن ولا تكن أسير التقليد..!
ولما بين تعالى سعة حلمه، قرنه ببيان قوة عقابه، ليعتدل الرجاء والخوف، فقال سبحانه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ أي: لمن شاء، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: ١٤٧]، وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: ١٦٧]، وقال سبحانه: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: ٤٩- ٥٠].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون بالسيئة المتقدمون.
قال أبو السعود: وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول، ذمّا لهم ونعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال، حيث لم يرفعوا لهم رأسا ولم يعدّوها من جنس الآيات وقالوا عنادا:
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام، أو مثل ما يقترحون من جعل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال وجعل مكانها مروجا وأنهارا وإِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي: مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون، وناصح كغيرك من الرسل، فما عليك إلّا البلاغ، لا إجابة المقترحات وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي: نبيّ داع إلى الحق مرشد بالآية التي تناسب زمنه كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤]، تعريض بأنه ﷺ ليس بدعا من الرسل. فقد خلا قبله الهداة الداعون إلى الله، عليهم السلام أو المعنى: لكل قوم هاد عظيم الشأن، قادر على هدايتهم، هو الله سبحانه، فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم. وإيتاؤهم الإيمان وصدهم عن الجحود. فإن ذلك لله وحده كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٧٢]، أو المعنى: لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قائد يهديهم إلى الرشد. وهو الكتاب المنزل عليهم الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم. يعني: أن سر الإرسال وآيته الفريدة وإنما هو الدعاء إلى الهدى وتبصير سبله، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه.
فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله وقد لا يفيد إنزالها هداية! قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩]، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:
١٠٩]، مع ما يستتبع الإصرار بعدها من الأخذ بلا إمهال! سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٦٢].
قال الشهاب: وجوّز عطف (هاد) على (منذر) وجعل المتعلق مقدما عليه، للفاصلة فيدل على عموم رسالته وشمول دعوته. وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر، أي:
وهو هاد، أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ٩]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى جملة مستأنفة، جواب سؤال وهو: لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلّهم يهتدون بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعّال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة؟ وهذا على أن (الهادي) بمعنى (الداعي إلى الحق).
وإن كان المراد به الله سبحانه، فالجملة تفسير لقوله (هاد) أو مقررة مؤكدة لذلك- كذا في (العناية).
وأشار الرازي إلى أن الآية: إما متصلة بما قبلها مشيرة إلى أنه تعالى واسع العلم لا يخفى عليه أن اقتراحهم عناد وتعنت، وأنهم لا يزدادون بإظهار مقترحهم إلّا عنادا، فلذا لم يجابوا إليه. وإما متصلة بقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يعني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم أن فيه مصلحة.
ثم إن لفظ (ما) في قوله تعالى: ما تَحْمِلُ مصدرية أو موصولة، أي:
حملها أو ما تحمله من الولد:
على أي حالة هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة.
وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي: تنقص من الحمل وَما تَزْدادُ أي: تأخذه زائدا.
قال الزمخشري: ومما تنقصه الرحم وتزداده، عدد الولد فإنها تشمل على واحد. وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في
بطن أمه، ومنه جسد الولد فإنه يكون تامّا ومخدجا. ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر. وأزيد عليها، ومنه الدم فإنه يقل ويكثر.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي: بقدر وحدّ لا يجاوزه حسب قابليته كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، وقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: ٢]، وذلك أنه تعالى خص كل مكوّن بوقت وحل معينين، وهيأ لوجوده. وبقائه أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك: عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحس وَالشَّهادَةِ أي ما شهده الحس الْكَبِيرُ أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ أي المستعلى على كل شيء بقدرته. أو المنزّه عن صفات المخلوقين، المتعالي عنها.
وأكثر القرّاء على حذف ياء الْمُتَعالِ تخفيفا، وصلا ووقفا، وقرئ بإثباته فيهما على الأصل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٠]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أي في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي لغيره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي: طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي: ذاهب في سربه، أي في طريقه يبصره كل أحد.
لطيفة:
قيل: إن (سواء) بمعنى الاستواء وهو يقتضي ذكر شيئين، وهنا إذا كان (سارب) معطوفا على جزء الصلة أو الصفة، يكون شيئا واحدا.
وأجيب عنه بوجهين: (الأول) أن (سارب) معطوف على (من هو) لا على (مستخف) كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب. و (الثاني) أنه عطف على (مستخف). إلا أن (من) في معنى الاثنين كقوله:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
كأنه قيل: سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب. وعلى الوجهين (من) موصوفة لا موصولة. فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل.
وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية والمعنى: ومن
هو مستخف بالليل ومن سارب بالنهار. وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع. خصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا. ومنه قوله تعالى وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: ٩]. والأصل: ولا ما يفعل بكم. وإلّا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه. لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف، لم يكن للنفي موقع وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء!
أي: ومن يمدحه وينصره.
وهذا الأخير نقله الناصر في (الانتصاف) وهو وجيه جدا. وأما تضعيف غيره له، بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معا، وأن النجاة، وإن ذكروا جواز كل منهما، لكن اجتماعهما منكر- فهو المنكر. لأن أسلوب التنزيل هو الحجة، وإليه التحاكم في كل فنّ ومحجّة، والجمود على القواعد ورد ما خالفها، إليها- من التعصّب واللجاج، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج!.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
لَهُ مُعَقِّباتٌ أي: لمن أسرّ أو جهر أو استخفى أو سرب، ملائكة يتعاقبون عليه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي من جوانبه كلها، أو من أعماله، ما قدم وأخر يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل، خيرا أو شرّا، بأمره وإذنه، أو من أجل أمره لهم بحفظه. ف (من) تعليلية أو بمعنى باء السببيّة ولا فرق بين العلة والسبب عند النجاة، وإن فرق بينهما أهل المعقول.
وفي (الصحيح) «١» : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم
(١) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، ١٦- باب فضل صلاة العصر، حديث رقم ٣٥٩. عن أبي هريرة.
ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، ٣٧- باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، حديث رقم ٢١٠.
264
بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقول: أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون.
وفي الحديث الآخر «١» : إن معكم من لا يفارقكم إلّا عند الخلاء، وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم!.
و (المعقبات) جمع معقبة من (عقّب) مبالغة في (عقب) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل، لا للتعدية. لأن ثلاثيّه متعدّ بنفسه أصل معنى (العقب) مؤخر الرّجل. ثم تجوّز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة.
كأن أحدهم يطأ عقب الآخر. قال الراغب: عقبه إذا تلاه. نحو دبره وقفاه وقيل: هو من (اعتقب) أدغمت التاء في القاف وردّوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين. وقد قال أهل التصريف: إن القاف والكاف، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما. والتاء في (معقبة) واحدة (المعقبات) للمبالغة لا للتأنيث، لأن الملائكة لا توصف به. مثل نسابة وعلامة. أو هي صفة جماعة وطائفة. ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ظرف مستقر صفة مُعَقِّباتٌ أو ظرف لغو متعلق بها.
و (من) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبرا. والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله وَمِنْ خَلْفِهِ. ويجوز أن يكون ظرفا ل يَحْفَظُونَهُ أي:
معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، أي تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال، كناية عن حفظ جميع أعماله، ويجوز أن يكون يَحْفَظُونَهُ صفة ل مُعَقِّباتٌ أو حالا من الظرف قبله، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه.
تنبيهات:
الأول- ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر. وعن ابن عباس: هو السلطان الذي له حرص من بين يديه ومن خلفه.
قال الزمخشري: أي يحفظونه في توهمه وتقديره، من أمر الله. أي من قضاياه ونوازله. أو على التهكم به.
قال الرازي: وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني. والمعنى: أنه يستوي في علم الله تعالى السرّ والجهر. والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار. وهم الملوك والأمراء! فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهارا بالمعقبات وهم، الحراس والأعوان الذين يحفظونه- لم ينجه حرسه من الله تعالى!
(١) لم أقف على هذا الحديث بعد البحث عنه في ما بين يديّ من أصول السنّة.
265
والمعقب العون. لأنه إذا أبصر هذا ذاك، فلا بدّ أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر، فهذه المعقبات لا تخلّص من قضاء الله ومن قدره! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة! والمقصود من هذه الجملة: بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره، عن حفظ الله وعصمته، ولا يعوّلوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعد: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً... الآية.
الثاني: قدمنا أنّ الضمير في لَهُ مُعَقِّباتٌ لمن أسرّ أو جهر.. إلخ. وأرجعه بعضهم لله، وما بعده (لمن). قال الشهاب: فيه تفكيك للضمائر من غير داع.
وقيل: الضمير (لمن) الأخير، وقيل: للنبيّ لأنه معلوم من السياق.
الثالث- أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سرّ اختصاص الحفظة ببني آدم، ما ملخّصه: إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب. لأن من آمن، يعتقد جلالة الملائكة وعلوّ مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها، زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظّمه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضا رادعا له عنها. وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.!
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي: من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي: لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: فلا ردّ لقضائه فيهم وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم. وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال. وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية. قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه- أفاده أبو السعود.
تنبيه:
في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه
266
وسنته القويمة، حلّ بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرّق كلمتهم، ويوهي قوّتهم، ويسلط عدوّهم!
وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم: ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحوّلون منها إلى معصية الله، إلّا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون.
ولابن أبي شيبة: ما من قرية ولا أهل بيت، كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلّا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي
. وقال القاشاني: لا بدّ في تغيير النعم إلى النقم، من استحقاق جليّ أو خفيّ.
وعن بعض السلف: إن الفارة مزّقت خفّي. وما أعلم ذلك إلّا بذنب أحدثته، وإلّا ما سلطها الله عليّ! وتمثّل بقول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إيلي
أقول: المنقول عن بعض السلف مجمول على شدة الخوف منه تعالى، وإلّا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم، كما أشارت له الآية. وقد جوّد الكلام في ذلك، الإمام، مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث الدين الإسلامي فقال:
كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان). فقرّر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية! التي قدرها الله في علمه الأزلي. لا يغيّرها شيء من الطوارئ الجزئية. غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها. بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها،
فقد جاء على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» «١»
. وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيه إلّا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها. ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤن بها. ففصل بين الأمرين (الأشخاص والأمم) فصلا لا مجال معه للخلط بينهما.
(١) أخرجه البخاريّ في: الكسوف، ٢- باب الصدقة في الكسوف، حديث رقم ٥٨٤، عن عائشة.
ومسلم في: الكسوف، ٢- باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف، حديث رقم ٨.
267
فأما النعم التي يمتّع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة أو عوج أو طاعة وعصيان! وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة.
وترك لهم متاع الحياة الدنيا. ، إنظارا لهم، حتى يتلقاهم ما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى! وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبّروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فلا غضب زيد. ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهمّ إلّا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة.
كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب. والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر.
وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر..!
أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البرّ، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل: ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: ١٤٥]، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء: ١٦]، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء ولا كاشف لما نزل بهم إلّا أن يلجئوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة يرسل الفكر والذكر والصبر والشكر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٦٢]، وما أجل ما قاله العباس بن عبد
268
المطلب في استسقائه. اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلّا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة..!
على هذه السنن، جرى سلف الأمة، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية. ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه. ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا..!
ولما خوّف تعالى العباد بإنزال ما لا مردّ له، أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله.
فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي من الصواعق وَطَمَعاً أي المطر أن يحيي النبات وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي الماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده، أي: يضجون ب (سبحان الله والحمد لله) فيكون على حذف مضاف أو إسنادا مجازيّا للحامل والسبب، أو يسبح الرعد نفسه، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله، المستوجب لحمده. فيكون الإسناد على حقيقته والتجوّز في التسبيح والتحميد. إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظيّ. ودلالته على فضله ورحمته، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال.
قال الرازي: الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص. والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما. ليس إلّا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى. فلما كان حدوث هذا الصوت دليلا على وجود متعالي عن النقص والإمكان، كان ذلك في الحقيقة تسبيحا وهو معنى قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤].
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي: وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته
269
وإجلاله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ أي: فيهلك بها من يشاء. وقوله تعالى: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وقد التفت إلى الغيبة إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم، وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب. كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة، من إراءة البرق وإنشاء السحاب الثقال وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته. ويعقلها من يعقلها من المؤمنين أو الرعد نفسه والملائكة. ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى و (هم) أي الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم، يجادلون في شأنه تعالى، بإنكار البعث واستعجال العذاب، استهزاء واقتراح الآيات. قالوا ولعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ. أفاده أبو السعود.
أي: يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية. وأنتم تجادلون فيه و (الجدال) أشد الخصومة، من (الجدل) بالسكون- وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوى به وتشتد طاقته. وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي: والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه. يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون من (محله) إذا كاده وعرّضه للهلاك، ومنه (تمحّل لكذا) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه.
تنبيه:
ذكر في العلم الطبيعي: أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموّجات السحب ومصادمتها لبعضها: فيحصل في الهواء اهتزاز قوي، وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا. وعلى حسب اتساع السحب، يطول سماعنا لصوت الرعد وإذا لمع البرق من السحابة، فقد تمت نتائج الصاعقة فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد، فقد أمن ضررها. فإن لم يمض بينهما شيء، بأن كان الإنسان قريبا من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد، أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها. وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس
270
بينهما شرارة كهربائية هي البرق. وحينئذ يقال: إن الأجسام الأرضية صعقت: هذا مجمل ما قالوه:
وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف: أن الرعد ملك، وبين ما ثبت في العلم الطبيعيّ بما يدفع المنافاة فقال: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية. قال: وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء. فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟ انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي: الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره. لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء. فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة.
وفيها إيذان بملابستها للحق، واختصاصها به، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال. كما يقال: كلمة الحق.
ثم بين تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي، في عدم النفع والجدوى بقوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى: لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ أي: من مطلوباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي: إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي كاستجابة الماء لمن مدّ يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفه ولا بظمئه وحاجته إليه فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم! والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها تحصيل مباغيهم، أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلا عن مجرد الحاجة، وحاصله: أنه شبه آلهتهم-
حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة، وبقائهم لذلك في الخسران- بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة. فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل، أبرز في معرض التهكم حيث أثبت للماء استجابة، زيادة في التخسير والتحسير. فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر، أي: لا يستجيبون شيئا من الاستجابة والضمير في (هو) للماء و (بالغه) للفم، وقيل: الأول للباسط والثاني للماء. وبسط الكف: نشر الأصابع ممدودة كما في قوله:
تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه أراد انقباضا لم تطعه أنامله
وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أي: عبادتهم والتجائوهم لآلهتهم إِلَّا فِي ضَلالٍ أي:
في ضياع لا منفعة فيه لعدم إمكان إجابتهم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء، بأنه يقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملإ الأعلى والأسفل، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال! وقوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ إما ظرف ل (يسجد) والباء بمعن (في) والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثله للتأييد وإما حال من (الظلال) والمراد ما ذكر. أو يقال التخصيص لأن امتدادها وتقلّصها فيهما أظهر. هذا ما جرى عليها الأكثر في معنى (السجود) فيكون استعارة للانقياد المذكور، أو مجازا مرسلا لاستعماله في لازم معناه، لأن الانقياد مطلقا، لازم للسجود.
وفي (تنوير الاقتباس) : تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل (طوعا وكرها) نشرا على ترتيب اللف. قال (طوعا) أهل السماء من الملائكة لأن عبادتهم بغير مشقة و (كرها) أهل الأرض لأن عبادتهم بالمشقة، ثم قال. ويقال (طوعا) لأهل الإخلاص و (كرها) لأهل النفاق. ثم قال: (وظلالهم) يعني وظلال من يسجد لله
أيضا، وتسجد غدوة عن أيمانهم، وعشية عن شمائلهم.
قال أبو السعود: وقد قيل: إن المراد حقيقة السجود، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى: وَكَرْهاً يخصون السجود به سبحانه. قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: ٦٥]، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. ويجوّز أن يراده بسجودها ما يشهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها. وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر، حالة الضرورة والشدة، فالله سبحانه لا يجدي، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخلّ بالقصر المستقاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في إبداع والإعدام له تعالى، أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه من تحقيق سجودهم له تعالى.
وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة.
وانقيادهم دليل انقياد غيرهم. انتهى.
وهذه الآية كقوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: ٨٣]، وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ..
[النحل: ٤٨] الآية.
تنبيه:
هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عقد قراءته واستماعه لهذه السجدة- كذا في (اللباب).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما قُلِ اللَّهُ أمر بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم، إشعارا بتعينه للجواب، فهو والخصم في تقريره سواء. أو أمره بحكاية
273
اعترافهم، إيذانا بأنه أمر لا بدّ لهم منه. كأنه قيل: احك اعترافهم فبكتهم بما يلزمهم من الحجة قُلْ أي: إلزاما لهم وتبكيتا أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: أبعد أن علمتموه ربّ السموات والأرض، عبدتم من دونه غيره فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم، سبب الإشراك؟ أفاده الزمخشري.
لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي: لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها. فكيف يستطيعونه لغيرهم! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه! قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ لما بيّن ضلالهم وفساد رأيهم في الحجة المذكورة، بيّن أن الجاهل بها يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير، والجهل بمثلها كالظلمات، والعلم بها كالنور! وكما أن كلّ أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير والظلمة لا تساوي النور، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها! أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي:
بل أجعلوا، والهمزة للإنكار وقوله: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة ل (شركاء) داخلة في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي: خلق الله وخلقهم والمعنى: أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها. ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عما يقدر عليه الخالق.
قال الناصر: وفي قوله تعالى: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار، تهكم بهم، لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله، تقدس عن التشبيه ولا بطريق الانحطاط والقصور. فقد كان يكفي في الإنكار عليهم، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى: كَخَلْقِهِ تهكم يزيد الإنكار تأكيدا! قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي: لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق فلا يكون له شريك في العبادة! وَهُوَ الْواحِدُ أي. المتوحد بالربوبية الْقَهَّارُ الذي لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور! ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله:
274
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً أي مطرا فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أي:
بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: فحمل ورفع، من الذهب والفضة والنحاس، مما يسبك في النار ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي: طلب زينة أَوْ مَتاعٍ كالأواني وآلات الحرب والحرث زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: مثل زبد السيل: وهو خبثه الذي ينفيه الكير كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي مثلهما، أي: إذا اجتمعا لا ثبات الباطل ولا دوام، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما، مما يسبك في النار بل يذهب ويضمحل. وقد بين ذلك بقوله تعالى:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً أي مقذوفا مرميا به، أي: فلا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أي يبقى فيها منتفعا به كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ إلى أمثال الحق والباطل!
تنبيهات:
الأول- قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله. والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا. يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن. فإنه- وإن علا وارتفع وانتفخ- إلا أنه أخيرا يضمحلّ وكذلك الشبهات
275
والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم. إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحلّ وتزول.
ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات. لأنه لا بقاء إلا للنافع وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه..!
الثاني- قوله تعالى: بِقَدَرِها صفة (أودية)، أو متعلق ب (سالت) أو (أنزل). وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن عليّ والأشهب وأبو عمرو، في رواية، بسكونها.
الثالث- قوله تعالى: فَاحْتَمَلَ بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد- كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!.
الرابع- الأودية جمع واد. وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام. والإسناد إليه مجاز عقلي، كما في (جرى النهر).
قال السمين: وإنما نكّر الأودية وعرّف السيل، لأن المطر ينزل في البقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض. وتعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو (فسالت) وهو لو ذكر لكان نكرة. فلما أعيد أعيد بلفظ التعريف نحو: رأيت رجلا فأكرمت الرجل. انتهى.
وأصله لأبي حيان حيث قال: عرّف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل.
والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة، إلّا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة. كما كان لو صرح به نكرة. وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرّا له، أي الكذب. ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من (فسالت) وأورد عليه: أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث، والمذكور المعرّف عين، فإن المراد به الماء السائل؟
وأجيب: بأنه بطريق الاستخدام! قال الشهاب: وهو غير صحيح، لا تكلف- كما قيل- لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر. سواء كان حقيقيا أو مجازيا وهذا ليس كذلك. لأن الأول مصدر، أي حدث في ضمن الفعل، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث، فكيف يتصور فيه الاستخدام؟ نعم! ما ذكروه أغلبيّ لا مختص بما ذكر، فإن مثل الضمير اسم الإشارة، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم:
أخت الغزالة إشرافا وملتفتا
276
فالحق أنه إنما عرّف لكونه معهودا مذكورا بقوله أَوْدِيَةٌ وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.
الخامس- قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و (زبد) مبتدأ قدم عليه خبره، (من) في (ممّا) للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض أي: هو بعضه وردّه أبو السعود بأنه يخلّ بالتمثيل. وقوله فِي النَّارِ صفة مؤسسة لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسرّ التعبير الموصول في قوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ..
إلخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى، إذا عبّر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوّره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق. لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه متنفعا به بقوله:
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ فوفى كلّا من المقامين حقه.
السادس- قدمنا أن قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ على حذف مضاف، أي مثلهما، وسرّ الحذف الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل!.
السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ وهو متأخر في الكلام السابق، لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ... إلخ [آل عمران: ١٠٦]، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أوّلا. وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم، على ما فصّله الطيبي- كذا في (العناية).
الثامن- قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول، أو بجعل ذلك إشارة إليهما- كذا في أبي السعود.
التاسع- أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال:
277
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة مثلين- ناري ومائي- وهو قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ...
[البقرة: ١٧] الآية، ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ...
[البقرة: ١٩] الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين أحدهما قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ... [النور: ٣٩] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحرّ ولهذا جاء في (الصحيحين) :(فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟
فيقولون؟ أي ربنا! عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا) «١». ثم قال تعالى في المثل الآخر أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ... [النور: ٤٠] الآية،
وفي (الصحيحين) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا. وأصابت طائفة منها أخرى. أنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني، ونفع به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به، فهذا مثل الماء. «٢».
وفي (مسند الإمام أحمد) عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار:
هلمّ عن النار! فتغلبوني فتتقحّمون فيها «٣» وأخرجاه في (الصحيحين) «٤» أيضا. فهذا مثل ناريّ.
انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير ٤- سورة النساء، ٨- باب إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، حديث رقم ٢١، عن أبي سعيد الخدريّ.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٠٢. [.....]
(٢) أخرجه البخاريّ في: العلم، ٢٠- باب فضل من علم وعلّم، حديث ٦٨.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم ١٥.
(٣) أخرجه في مسنده ٢/ ٢٤٤ والحديث رقم ٧٣١٨.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٢٦- باب الانتهاء عن المعاصي، حديث رقم ١٦١٠.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم ١٧.
278
ولمّا بيّن سبحانه شأن كلّ من الحق والباطل حالا ومآلا، تأثره ببيان حال أهل كلّ منهما مآلا. ترغيبا وترهيبا. بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي: للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله، المثوبة الحسنى كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦]، فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وهم الكفرة لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي: بما في الأرض ومثله معه من أصناف الأموال، ليتخلّصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ولأجله عدل عن أن يقال: وللذين لم يستجيبوا السوءى، كما تقتضيه المقابلة أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ أي: في الدار الآخرة. فيناقشون على الجليل والحقير وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي: المستقر. وفي قوله: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ إشعار بتفسير الحسنى بالجنة، لانفهامها من مقابلتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ١٩]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أي يصدّق أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي: كمن لا يعلم ذلك، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبّر عنه بالأعمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي: العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٠]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي: مما كلفهم به وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ أي: ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد، وهو تعميم بعد تخصيص، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل- أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢١]
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي: من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذبّ عنهم والشفقة عليهم والنصيحة لهم وكف الأذى عنهم وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٢]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيّئ إذا خاطبهم به الجاهلون كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... [المؤمنون: ٩٦] الآية، أو يتبعون السيئة الحسنة لتمحوها أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي: عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها مرجع أهلها. فتعريف الدار للعهد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: آمن ووحّد وعمل صالحا من هؤلاء.
قال أبو السعود: وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.
وأصله للزجّاج حيث قال: بيّن تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلّا بالأعمال الصالحة.
وقرئ- شاذّا- بضم لام (صلح). قال الزمخشري: والفتح أفصح.
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
ثم بيّن تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٥]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي: عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ هذا كقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: ٥٥]، وتنكير (متاع) للتقليل كما في آية قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: ٧٧]، وقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: ١٦- ١٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ كقولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: ٥]، وتقدم الكلام على هذا غير مرّة. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ جملة جرت مجرى التعجب من قولهم، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها، لا من باب طلب الهداية. وإلّا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله، صلوات الله عليه، آية، فإنه آية الآيات... !
ولكنهم قوم آثروا الضلال على الهدى، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة، إيجازا للعلم بها.
قال أبو السعود: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله، ويدعه منهمكا فيه، لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم في المكابرة، والعناد، والغلوّ في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء، ولو جاءته كل آية.
ثم قال: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي: أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة، كما في الصلة الأولى، للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم، انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٨]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنابَ أي: آمنوا بالله ورسوله وكتابه وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي تسكن وتخشى عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرا. والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه وقدر بعضهم مضافا. أي بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ورأى آخرون أن المراد بِذِكْرِ اللَّهِ القرآن، لأنه يسمى ذكرا، كما قال تعالى:
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: ٥٠]، وقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩]، لأنه آية بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: ٢٠]، أي: هؤلاء ينكرون كونه آية. والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين:
قال الشهاب: وهو أنسب الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٢٩]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ الموصول إما مبتدأ وطُوبى لَهُمْ مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول، وإما خبر لمحذوف أي هم، وإما بدل من أَنابَ وجملة طُوبى لَهُمْ دعائية أو خبرية.
قال الزمخشري: (طوبى) مصدر من (طاب) كبشرى وزلفى، ومعنى (طوبى لك) أصبت خيرا وطيبا. ومحلها النصب أو الرفع. كقولك. طيبا لك وطيب لك، وسلاما لك وسلام لك. والقراءة في قوله وَحُسْنُ مَآبٍ بالرفع والنصب تدلك على محليها. واللام في لَهُمْ للبيان مثلها في (سقيا لك)، والواو في طُوبى منقلبة عن ياء، لضمة ما قبلها. قال ثعلب: قرئ طوبى لهم بالتنوين.
قال الفاسي: ومن نوّن طُوبى جعله مصدرا بغير ألف كسقيا وزعم بعضهم:
أنها كلمة أعجمية وفي (لسان العرب) عن قتادة أنها كلمة عربية، تقول العرب:
طوبى لك إن فعلت كذا وكذا! وأنشد:
طوبى لمن يستبدل الطّود بالقرى ورسلا بيقطين العراق وفومها
الرسل اللبن، والطود: الجبل، والفوم: الخبز والحنطة- كذا في (تاج العروس)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم، كما بلّغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم. وقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ جملة حالية أو مستأنفة أي: يكفرون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها، كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]، وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا. وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم. ولهذا لم يرضوا يوم
الحديبية «١» أن يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم؟ كما في الصحيح. وقد قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠].
وفي (صحيح مسلم) عن ابن عمر مرفوعا: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) «٢».
قُلْ هُوَ أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ أي: توبتي وإنابتي. فإنه لا يستحق ذلك غيره. ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أي قرآنا مّا سُيِّرَتْ بِهِ أي: بإنزاله أو بتلاوته الْجِبالُ أي أذهبت عن مقارّها، وزعزعت عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أي خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف أي: لكان هذا القرآن لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير، فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره العليّ ولم يعدوه من قبيل الآيات. فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب (لما آمنوا به) كقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى... [الأنعام: ١١١] الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.
ونقل عن الفراء أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض وفيه بعد وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب
(١) أخرجه البخاريّ في: الشروط، ١٥- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم ٨٨١ و ٨٨٢ عن المسور بن مخرمة ومروان، وهو حديث طويل جامع، فلا يفتك الاطلاع عليه. ففيه غنم كبير.
(٢) أخرجه مسلم في: الآداب، حديث رقم ٢.
284
والتذكير في (كلم) لتغليب المذكر من الموتى على غيره.
وقوله تعالى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما، يفعل ما يشاء. ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة وهو إضراب عما تضمنته لَوْ من معنى النفي، أي: لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن. ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن، لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا. إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون عليه تحكم أو اقتراح.
كذا في أبي السعود.
وقوله تعالى أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي:
أفلم يعلم ويتبيّن كقوله:
ألم ييأس الأقوام أنّي أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقوله:
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي: ألم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي يقسمونني، ويروى:
يأسرونني من (الأسر). أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم، لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من أهل مكة تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أي:
بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه. وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه والقارعة:
الداهية التي تقرع وتقلق، يعنى ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب أَوْ تَحُلُّ أي: تلك القارعة قَرِيباً أي: مكانا قريبا مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي: فتح مكة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: ٤٧]، وفي الآية وجه آخر، وهو حمل لِلَّذِينَ كَفَرُوا على جميع الكفار أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: ٢٧]، وقوله: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: ٤٤].
285
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: أمهلتهم وتركتهم ملاوة من الزمن، في أمن ودعة، كما يملى للبهيمة في المرعى ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي: عقابي إياهم. وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى. والآية تسلية لرسول الله ﷺ عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح، على طريقة الاستهزاء به، ووعيد لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٣]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي: مراقب لأحوالها ومشاهد لها، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شرّ. فهو مجاز، لأن القائم على الشيء عالم به، ولذا يقال: وقف عليه- إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك- وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي: عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان وقوله: قُلْ سَمُّوهُمْ تبكيت لهم إثر تبكيت، أي: سمّوهم من هم، وماذا أسماؤهم؟ فإنهم لا حقيقة لهم! أوصفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة؟.
وقال الرازي: إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمّه إن شئت، يعني: أنه أخسّ من يسمّى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. فكأنه تعالى قال: سمّوهم بالآلهة، على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها.
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي: بشركاء لا يعلمهم سبحانه. وإذا كان لا يعلمهم، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهم لا حقيقة لهم. فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية.
286
قال الناصر: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وأن الله لا يعلمهم كذلك لأنهم ليسوا كذلك. وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة. ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلوّ بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته ولو أتى الكلام على الأصل غير محلّى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء. فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة.
وقوله تعالى: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كتسمية الزنجيّ كافورا من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة، لفرط الجهل وسخافة العقل، وهذا كقوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة: ٣٠] ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يوسف: ٤٠]، وعن الضحاك إن الظاهر بمعنى الباطل. كقوله:
وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر...
تنبيه:
قال الزمخشري: هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق، أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه.
قال شارحوه: فإن قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ لما كان كافيا في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت، وكان إبطالا من طريق حق، مذيلا بإبطال من طرف النقيض على معنى: ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية. ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالا بنفي العلم عن نفي المعلوم.
ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السرّ والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء. ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى، نكتة بل نكت سرية. ثم أضرب عن ذلك وقيل: قد بين الشمس لذي عينين وما تلك التسمية إلّا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ.
فمن تأمل حقّ التأمل، اعترف بأنه كلام خلق القوى والقدر، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر... !
وقوله تعالى: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ إضراب عن الاحتجاج عليهم.
287
كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم. لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل.
وقوله تعالى:
وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي: عن سبيل الله، وقرئ بفتح الصاد أي: صدوا الناس وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، أو يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي: من أحد يهديه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٤]
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضلّة. فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دويّ لا برء له إلّا الإيمان. كما فصل في موضع آخر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أي: من عذاب الدنيا كمّا وكيفا وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
أي: حافظ يعصمهم من عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي عن الكفر والمعاصي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.
في الآية وجوه من الإعراب:
(الأول) : أن (مثل) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة، وجملة (تجري) مفسرة أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من ضمير (وعد) أي: وعدها مقدرا جريان أنهارها. وهذا الوجه سالم من التكلف، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل. وقدّر الخبر فيه مقدما لطول ذيل المبتدأ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره، أو هو كالمفسّر له.
(الثاني) : أن خبره (تجري) - على طريقة قولك: صفة زيد أسمر- قيل: هو غير مستقيم معنى، لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة. وهي فيها، لا في صفتها.
مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملا على المعنى.
(الثالث) : أن ثمة موصوفا محذوفا، أي: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقوله (وظلها) مبتدأ محذوف الخبر أي: كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبيّ ﷺ من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيه، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة: ١٢١]. وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني بقية أهل الكتاب والمشركين مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف معتقدهم، وجوّز أن يراد (بالموصول) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا. وب الْأَحْزابِ المشركون، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد. ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى:
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا أي: لا إلى غيره وَإِلَيْهِ مَآبِ أي: مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي: حاكما بالحق، أو حكمة عربيّة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ أي لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة. وإلّا فكان رسول الله ﷺ من شدة الشكيمة بمكان- كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً أي: مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم وهو ردّ لقولهم: لو كان نبيّا لكان من جنس الملائكة كما قالوا:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: ٧]، وإعلام، بأن ذلك سنة كثير من الرسل، فما جاز في حقهم لم لا يجوز في حقه؟ وقد قال تعالى له:
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: ١١٠]. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه، إلا بإرادته تعالى في وقته، لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها، من غير تغيّر وتبدّل وتقدم وتأخّر. فأمرها منوط بمشيئته تعالى، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات، في كل وقت يأتي، بما هو صلاح ذلك الوقت، رسول من عنده. وكذا جميع الحوادث من الآيات. وغيرها فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره وفيه ردّ لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٣٩]
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ أي: ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ أي: بدله ما فيه المصلحة، أو يبقيه على حاله غير منسوخ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي: أصله.
قال الرازيّ: العرب تسمي كلّ ما يجري مجرى الأصل للشيء أُمّا له، ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة. وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى. فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب. روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ. وما يبدل وما
290
يثبت. كل ذلك في كتاب. وعن قتادة: أن هذه الآية كقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية.
تنبيه:
تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ فقالوا: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا: يمحو الله من الرزق ويزيد فيه.
وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.
قال الرازيّ: هو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. انتهى.
أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود. وليس في الصحيح شيء منها.
ظهر لي في دمّر في ١٢ ربيع الأول سنة ١٣٢٤:
إنّ ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلب ما، أن يدقق النظر فيه تدقيقا زائدا، فقد يكون سياق الآية لأمر لا يحتمل غيره، ويظنّ ظانّ أنه يستدل بها في بحث آخر، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق.
خذ لك مثلا قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلّق، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه (لوح المحو والإثبات) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعا ولا مطمأنا.
مع أنّ هذه الآية، لو تمعّن فيها القارئ، لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون.
وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله ﷺ في أوائل البعثة، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى. توهما أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبيّ في كل زمان ومكان فأعلمهم الله تعالى أنّ دور تلك الآيات الحسّيّة انقضى دورها وذهب عصرها. وقد استعدّ البشر للتنبّه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصّر. وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها. وقد أثبت تعالى غيرها ممّا هو أجلى وأوضح وأدلّ على الدعوة. وهو قوله تعالى قبلها: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
291
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٤٠]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي: من إنزال العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي: قبل ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي: تبليغ الوحي وَعَلَيْنَا الْحِسابُ أي: حسابهم وجزاؤهم. قال أبو حيّان: جواب الشرط الأول (فذلك شافيك) والثاني (فلا لوم عليك) وقوله تعالى فَإِنَّما عَلَيْكَ... إلخ دليل عليهما.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٤١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي: أرض الكفرة. ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم.
قال ابن عباس: أي: أو لم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده، ونظيره قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: ٤٤]، وقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ.. [فصلت: ٥٣].
قال الشهاب: هذا مرتبط بما قبله. يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم، بل لوقته المقدر، أوما ترى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام. ولم يخاطب النبيّ ﷺ به تعظيما له، وخاطبهم تهويلا وتنبيها عن سنة الغفلة. ومعنى نَأْتِي الْأَرْضَ يأتيها أمرنا وعذابنا. انتهى.
وقيل: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم. فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟.
تنبيه:
يذكرون- هاهنا- رواية عن ابن عباس ومجاهد: أن نقصها من أطرافها هو
292
موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهريّ حكى عن ثعلب: أن الأطراف يطلق على الأشراف جمع طرف وهو الرجل الكريم، وشاهده قول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كلّ قبيلة من يتبع
يريد أشراف كل قبيلة. فمعنى الآية: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات: موت بعد حياة، وذل بعد عزّ، ونقص بعد كمال! وإذا كان هذا مشاهدا محسوسا، فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيرا للآية على أنه المراد منها، وإنما يذكرونه تهويلا لخطب موت العلماء بسبب أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها، فموتهم نقص لها وخراب منها. كما قال أحمد بن غزال:
الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حلّ بها وإن أبى عاد في أكنافها التّلف
ولذا قال الأزهريّ كما في (لسان العرب) : أطراف الأرض نواحيها الواحد طرف، ونَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي نواحيها ناحية ناحية، وعلى هذا من فسر (نقصها من أطرافها) فتوح الأرضين. وأما من جعل (نقصها من أطرافها) موت علمائها فهو من غير هذا، قال: والتفسير على القول الأول.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ أي: ما يشاء كما يشاء، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال. وعلى الكفر بالذل والإدبار، حسبما يشاهد من المخايل والآثار. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وبناء الحكم على الاسم الجليل، من الدلالة على الفخمة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر، بالإشارة إلى العلة، ما لا يخفى وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها.
وقوله تعالى: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اعتراض في اعتراض. لبيان علوّ شأن حكمه تعالى: وقيل: نصب على الحالية كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه- كما تقول:
جاء زيد لا عمامة على رأسه، أي حاسرا. و (المعقب) من يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته من يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال. أفاده أبو السعود.
وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي فعمّا قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
293
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٤٢]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مكر الكفار الذين خلوا، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء، وقوله: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال كما يومئ إليه قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ أي فيوفيها جزاءها المعدّ لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة، وهذا كقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا... [النمل: ٥٠- ٥٢] الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة. وما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة (وهو فعل والشهادة قول) على سبيل الاستعارة، لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعمّ من القول والفعل. على أن المراد من تلك الحجج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ، قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: ٥٣].
وقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبيّ ﷺ ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ١٩٧].
ويروى عن مجاهد أنه عنى ب مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام.
294
ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدنيّ وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.
وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة) : أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوّته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم.
295

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة إبراهيم
سميت به لاشتمالها على دعوات لإبراهيم عليه السلام، تمت بهذه الملة.
كالحج وجعل الكعبة قبله الصلاة. مع الدلالة على عظمتها، بحيث صارت من المطالب المهمة للمتفق على غاية كمال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعلى نبوّة نبيّنا عليه أكمل التحيات وأفضل التسليمات مع غاية كماله، وهذا من أعظم مقاصد القرآن! أفاده المهايميّ.
وهي مكية النزول، قيل: إلّا قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: ٢٨]. وهي اثنتان وخمسون آية.
296
Icon