تفسير سورة الإسراء

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الإسراء
كلها مكية وقد جزم البيضاوي في تفسيره بذلك، وقيل: كلها إلا آيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ.. فإنها نزلت حين جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه- أى المدينة- بأرض الأنبياء، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وإِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهذه الآيات الثلاث مدنية، ويظهر والله أعلم أن الأصح رأى البيضاوي، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية.
وتسمى سورة بنى إسرائيل.
وهذه السورة عالجت العقيدة الإسلامية في شتى مظاهرها، فتراها تكلمت عن الرسول ورسالته، والقرآن وهدايته وموقف القوم منه، ثم عن الإنسان وسلوكه وأسس المجتمع الإسلامى السليم، وامتازت بتنزيه الله عما يقوله المشركون، وفي ثنايا ذلك كله قصص عن بنى إسرائيل، وذكرت طرفا من قصة آدم، وابتدأت الكلام عن الإسراء.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
349
المفردات:
سُبْحانَ أصل المادة مأخوذة من قولهم سبح في الماء أو الأرض أى: أبعد وتوغل، ومنه فرس سبوح أى تبعد بصاحبها ففي المادة معنى البعد، والتنزيه فيه بعد عن النقائص، وبعد عن صفات العجز، ولذا قالوا: إن سُبْحانَ علم على التنزيه والتقديس والتسبيح، ولا يستعمل إلا في الذات الأقدس- سبحانه وتعالى- أَسْرى وسرى لغتان في السير ليلا.
المعنى:
سبحان الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وما أبعد الذي له هذه القدرة القادرة. ما أبعده عن النقائص والسوء ذاتا وفعلا وحكما، واعجبوا أيها المخاطبون من قدرة الله على هذا الأمر الغريب!! وآمنوا بهذا المجد العالي وهذا الشرف السامي للحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
سبحانه وتعالى، وتقديسا له وتنزيها عن كل نقص لأنه الذي أسرى بعبده في جزء من الليل بسيط من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام الذي باركنا فيه بنزول الأنبياء حوله، وباركنا فكان فيه الماء والخضرة والزرع والضرع. سرينا به لنريه بعض آياتنا، وما زاغ البصر في ذلك وما طغى، ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ولا عجب في ذلك كله أنه- سبحانه- هو السميع لكل قول، البصير بكل نفس، الذي يضع الأمور في مواضعها حسب الحكمة، ووفقا للحق والعدل، وهو أعلم بخلقه وسيجازى من يؤمن بالإسراء ومن يكفر بها إذ هو السميع البصير.
هذا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من نسل إسماعيل، وهذا الشرف السامي للعرب ولأمة محمد في كل زمان ومكان، شرف الإسراء ولقيا الله، وإمامة الأنبياء جميعا، وأما ولد إسحاق أخى إسماعيل وهم بنو إسرائيل الذين يدعون أنهم شعب الله المختار، وأنهم نسل الأنبياء والمرسلين، وأنه لا يكون نبي من غيرهم فقد تكلم القرآن الكريم عليهم بعد هذا الفخار العظيم الذي كان لمحمد وأمته حتى توضع الأمور في نصابها وحتى تعرف كل أمة قدرها.
وآتينا موسى الكليم نبي بنى إسرائيل الكتاب: التوراة، وجعلناه هدى وهداية لعلهم يهتدون، ولئلا يتخذوا من دوني وكيلا يفوضون إليه أمرهم، ويعاملونه معاملة الإله.
350
يا ذرية من حملناهم مع نوح، وأنجيناهم من الغرق، وهديناهم إلى الحق والخير أنتم أولى الناس بالتوحيد الخالص والسير على سنن الأنبياء والمرسلين، وها هو ذا نوح أبوكم- عليه السلام- كان عبدا شكورا فاقتفوا أثره، واتبعوا سنته.
وفي تعبير القرآن الكريم بِعَبْدِهِ بدل حبيبه مثلا أو بدل اسمه. إشارة دقيقة:
إذ حادثة الإسراء والمعراج معجزة خارقة قد تؤثر على بعض النفوس الضعيفة فتضع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير موضعه كما وضعت النصارى المسيح فقيل: عبده أى: الخاضع لعزه وسلطانه حتى توضع الأمور في نصابها، على أن وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعبودية منتهى الكمال والسمو له.
وفي قوله: لَيْلًا وقد تحير فيها المفسرون فإن الإسراء لا يكون إلا ليلا فما فائدة ذكرها؟! ولقد أجابوا على ذلك بأنه لفظ مفرد منكر سيق لبيان أن الإسراء كان في جزء من الليل. ولم يكن من مكة إلى المسجد الأقصى الذي يقع في أيام وليال طوال إلا في جزء من الليل بسيط.
ويقول أستاذنا مصطفى صادق الرافعي في وحى القلم ص ٣٢ في الإسراء والمعراج:
والحكمة- في ذكر ليلا في الآية- هي الإشارة إلى أن القصة قصة النجم الإنسانى العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تجيء إلا سورة «والنجم... ».
قصة الإسراء والمعراج:
وخلاصتها: كان صلّى الله عليه وسلّم مضطجعا فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البراق فأتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد هناك واجتمع بالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم-، وصلّى بهم إماما ثم عرج به إلى السموات فاستحقها جبريل واحدة واحدة فرأى محمد صلّى الله عليه وسلّم من آيات ربه الكبرى ما رأى، وهكذا صعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلّى الله عليه وسلّم مظهر الجمال الأزلى، ثم زج به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى، وكلفه هو وأمته بالصلاة في ذلك المكان المقدس فكانت الصلاة هي العبادة الوحيدة التي أوجبها الله بنفسه بلا واسطة.
351
تلك خلاصة خالصة أما وشيها وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية العميقة التي لا يقف عليها إلا كل من صفت نفسه وزكت روحه، ومن هذه الرموز
قوله صلّى الله عليه وسلم «فجاءني جبريل بإناء من خمر وآخر من لبن فأخذت اللّبن فقال جبريل: أخذت الفطرة»
، أوليس دين الإسلام دين الفطرة؟!! ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الرحلة الإلهية العلوية رموزا تشير إلى مجتمع عال نظيف خال من الربا والزنى والسرقة والقتل مع تحلى أصحابه بالجهاد والصدق وحسن الاقتصاد، وسرعة القيام إلى الصلاة.
أليس في إمامة النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنبياء جميعا إشارة إلى كمال رسالته، وأنهم جميعا سبقوه مبشرين به، وأن من لم يؤمن فما آمن بنبيه فدينه جمع المحاسن كلها، وكان وسطا بين مادية اليهود وروحانية النصارى، وكانت أمته وسطا عدولا شهودا على الأمم السابقة، وقد جمع صلّى الله عليه وسلّم. قوة موسى، وزهد عيسى، وجدل إبراهيم، وصبر أيوب، وما امتاز به كل نبي.
وهي تشير إشارة صريحة إلى أن هذا النبي قد سمت روحه الكريمة سموا طغى على الناحية المادية فيه حتى صار نورا إلهيا ونجما سماويا ألم يشق جبريل صدره الكريم ويغسله من أدران المادة؟!! ألم يقل الله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فهذه العبارة نص على ارتفاع النبي صلّى الله عليه وسلّم فوق الزمان والمكان والحجاب والحواس، ومرجع ذلك كله إلى قدرة الله لا قدرته هو بخلاف ما لو كانت العبارة ليرى من آيات ربّه فإنها تفيد أن الرؤيا في حدود القدرة البشرية، وتحويل فعل الرؤيا من صيغة إلى صيغة دليل على تحويل الرائي وهو المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من شكل إلى شكل ومن حال إلى حال فسبحان من هذا كلامه.
أيها المسلمون..
لا تألفوا العجز والكسل. وفي أول دينكم تسخير الطبيعة.
لا تركنوا إلى الجهل. وأول آية نزلت على نبيكم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...
لا ترتموا في أحضان الراحة وفي صدر تاريخكم صنع المعجزة الكبرى.
352
كيف لا تحملون النور إلى العالم:!! ونبيكم هو الكائن الروحي العظيم، والنور الإلهى الأعظم!! كيف لا تحملون القرآن بينكم؟!! وهو التبيان لكل شيء، والنور لكل حي، والشفاء والرحمة، والهدى والنور للناس أجمعين!! ولست أدرى كيف يختلفون في الإسراء؟! وهل كانت بالجسد والروح أو بالروح فقط!!! ولو كانت بالروح فقط لما آمن بها بعض الناس وكفر البعض إذ كان إنسان يرى في منامه ما يستحيل عليه في يقظته، وفي العلم الذي أوقفنا على سرعة الضوء، والصوت واختراق الهواء الأرضى مما يؤيد ذلك.
خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ١١]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
353
المفردات:
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أوحينا إليهم وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن على الله ولتستعلن على الناس بالبغي والظلم مجاوزين الحدود أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة وبطش في الحروب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ في القاموس الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء مع التردد خلال الديار والبيوت ففي اللفظ معنى للتفتيش والتنقيب خلال الديار أى: وسطها ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ المراد ثم رددنا لكم الدولة والغلبة عليهم أَكْثَرَ نَفِيراً النفير من ينفر مع الرجل من عشيرته، وقيل: جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو وَلِيُتَبِّرُوا أى: يهلكوا ما عَلَوْا أى:
مدة علوهم واستكبارهم، وقيل المراد: البلاد التي علوها وغلبوا أهلها حَصِيراً سجنا ومحبسا إذا الحصر والحصير فيه معنى المنع والحبس.
وهذا امتداد للكلام على بنى إسرائيل، وبيان لتاريخهم وما ينتظرون من بيان بعض الحكم النافعة.
المعنى:
وأوحينا إلى بنى إسرائيل في التوراة وحيا مقضيا أى: مقطوعا بحصوله بأنهم يفسدون في الأرض مرتين.
وأقسمنا لتفسدن في أرض الشام وبيت المقدس أو في كل أرض تحلون فيها لتفسدن مرتين، ولتفسدن نفوسكم بمخالفة ما شرعه لكم ربكم في التوراة، لتفسدن مرتين:
أما أولاهما: فبمخالفة التوراة وقتل بعض الأنبياء، والثانية- بقتل زكريا وقيل: بقتل يحيى، والعزم على قتل عيسى ابن مريم وقيل: غير ذلك.
354
ولتعلن وتتجاوزن حدود الشرع والعقل بالبغي والظلم والتعالي على الناس والكبر.
فإذا جاء وعد أولاهما، وحان وقت العقاب الموعود به في الدنيا على المرة الأولى بعثنا عليكم عبادا من عبيدنا أولى بأس وقوة، أصحاب عدة في الحروب وعدد، وهؤلاء القوم الذين أغاروا عليكم قد جاسوا خلال الديار، وفتشوا البلاد، ونقبوا عليكم ليستأصلوكم بالقتل والتشريد، وهكذا كل أمة تفسد في الأرض بالبغي والظلم، حتى تفسد نفوس أبنائها وتطغى لا بد من أن يرسل الله عليها من يذلها ويذيقها سوء العذاب جزاء فسادها، ولو كان المؤدب لها من الكفار المشركين وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وهذا قضاء محتوم، وسنة لا تتخلف، ووعد محقق، وكان وعد ربك مفعولا حتما.
هذا الدرس القاسي الذي تلقاه بنزول إسرائيل على يد المغير، قيل: هو بختنصر وقيل: هو جالوت، وقيل: جند من بابل أو فارس، والله أعلم بذلك، وليس القرآن كتاب تاريخ حتى تلزمه ببيان الشخص أو الجماعة بالضبط مع تحديد المكان والزمان، ولكن القرآن جاء للعبرة والعظة، والنظرة العليا التي هي أسمى من هذا وذاك، لعل الناس يعتبرون بالحوادث.
هذا الدرس القاسي الذي تلقوه أثمر معهم فثابوا لرشدهم، ورجعوا عن غيهم وتمسكوا بكتابهم ودينهم فكانت النتيجة كما قال الله.
ثم رددنا لكم يا بني إسرائيل الكرة عليهم، وأعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أو أمدكم الله بالأموال والبنين وأمدكم بالسلاح والرجال المخلصين وجعلكم أكثر نفيرا مما كنتم عليه، وهكذا سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
إن أحسنتم العمل أحسنتم لأنفسكم لأن نتيجة العمل وثوابه لكم، وإن أسأتم العمل بالفساد والبغي فلأنفسكم فقط، كل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإذا جاء وعد المرة الآخرة، وحان موعد العقاب فيها بعثنا عليكم رجالا ليذيقوكم سوء العذاب وليجزوكم بالقتل والسبي حزنا تظهر علاماته في وجوهكم، وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة، وهتك المقدسات عندكم، وليهلكوا ما علوه وغلبوكم عليه من الأرض والزروع والثمار هلاكا شديدا.
355
وقد كان جالوت هو الذي سلط عليهم في أول مرة ثم لما قتل داود جالوت رد عليهم ملكهم ودالت الدولة لهم مدة من الزمن حتى فسدوا وظلموا وقتلوا زكريا وقيل يحيى فأرسل الله لهم بختنصر فأذاقهم الخسف والعذاب للمرة الثانية وقيل غير ذلك كما مر.
وكان هذا الدرس من الله تأديبا لكم وتهذيبا، عسى ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بهذا، وإن عدتم للمرة الثالثة عدنا إلى عقوبتكم بأشد مما مضى.
إن عادت العقرب عدنا لها بالنعل والنعل لها حاضرة
وقد عادوا للمرة الثالثة فكذبوا محمدا وافتروا الباطل عنادا وجحودا وهم أدرى الناس به، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو أشد. فعاقبهم الله على ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وضرب الجزية عليهم.
هذا في الدنيا. أما في الآخرة فقد جعل الله لهم جهنم محبسا وحصيرا لا يفلت منهم أحد أبدا.
وما لكم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم مالكم لا تؤمنون؟ وأنتم تعلمون أن هذا القرآن المنزل على محمد يهدى للتي هي أقوم، ويدعو إلى الصراط المستقيم. أليس يدعو إلى البر والخير، والتعاون والتساند. ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وعدم الشرك والبعد عن الزنى والقتل والزور والبهتان وأكل مال اليتيم والتطفيف في الكيل والميزان والتعامل بالربا والقسوة في المعاملة إلى آخر ما هو معروف؟!! وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ إن هذا القرآن يهدى الناس إلى الطريقة المثلى، ويدعو إلى خيرى الدنيا والآخرة ويبشر المؤمنين العاملين الخير والصلاح بأن لهم أجرا كبيرا في الدنيا والآخرة وأن الذين لا يؤمنون ولا يعملون الخير أعد لهم ربهم عذاب جهنم وبئس المصير.
ويدعو الإنسان ربه بالشر- عند غضبه- على نفسه وأهله وماله كما يدعوه لهم بالخير وكان الإنسان عجولا أى: خلق وفي غريزته حب العجلة والسرعة، لهذا جنح كثير من المفسرين، وبعضهم فسر الإنسان بالكافر خاصة ودعاؤه الشر هو استعجاله العذاب استهزاء وكفرا بالنبي، والعذاب آتيه لا محالة...
356
ألا يصح أن نفهم الآية على أن الإنسان قد يدعو ربه، ويلح في طلب شيء هو في الواقع شر ولكنه يظنه خيرا فيدعو ربه له كما يدعوه للخير، وذلك ناشئ من العجلة وعدم التأنى، في الفهم والتأكد فيه، وكان الإنسان عجولا، ألم نطلب المال والجاه ونلح في طلبنا وندعو لله فيه وقد يكون في تحقيق ما طلبنا حتفنا وهلاكنا؟!! ولو أمعنا النظر ولم نتعجل ما ألحفنا في طلبنا، ولا غرابة فخلق الإنسان عجولا.
بقي شيء آخر ما السر في وضع هذه الآية هنا؟
أليس فيها إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في موقفهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم وكفرهم به طلبا للدنيا، واستجابة لدعاء الشر قد آثروا العاجلة على الباقية ولو أمعنوا النظر ودققوا الفهم ما عملوا شيئا من هذا!!! فهم دعوا الشر وطلبوه في الواقع ونفس الأمر كدعائهم الخير، وما دفعهم إلى ذلك إلا حب العاجلة، وإيثار الفانية على الباقية والعجلة في إدراك الأمور.
من نعم الله علينا [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٧]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
357
المفردات:
آيَتَيْنِ علامتين دالتين على القدرة فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ.
أى: جعلنا آية الليل ممحوة لا نور فيها عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ يقول العلامة الشوكانى في كتابه فتح القدير في تفسير الآية: «والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله كالسنة المكونة من ٣٦٥ يوما، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص فالسنة مثلا إن نظرنا لها من ناحية أنها أيام فقط فذلك العدد، وإن نظرنا لها من حيث تكونها من شهور اثنى عشر وكل شهر ثلاثون يوما مثلا وكل يوم أربع وعشرون ساعة فذلك هو الحساب» طائِرَهُ عمله المقدر له ولعل السر في ذلك أن العرب كانوا يتشاءمون ويتباشرون بالطير عند طيرانه فكانوا يستدلون بالطير على الخير والشر والسعادة والشقاوة وكانت لهم علوم ومعارف في ذلك قال شاعرهم:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبى إذا الطير مرت
ولما كثر منهم ذلك سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه وقال أبو عبيدة عن علماء اللغة: الطائر عند العرب: الحظ والمقدر للشخص من عمر ورزق وسعادة وشقاوة كأن طائرا يطير إليه من وكر الأزل، وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له، ولا غاية إلى أن ينتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص، وقوله تعالى: في عنقه كناية عن لزوم ذلك له لزوم القلادة للعنق إن كان خيرا أو الغل للعنق إن كان شرا وِزْرَ الوزر الحمل والثقل والمراد الإثم مُتْرَفِيها
متنعميها وأترفته النعمة أطغته.
وهذا سيل آخر من بيان نعمه وفضله وفيه بيان لهداية القرآن وبشارته.
358
المعنى:
يقول الحق- تبارك وتعالى-، وجعلنا الليل والنهار آيتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا وأحكام نظامنا، وذلك لما فيهما من الظلام الدامس والنور الساطع، وما فيهما من تعاقب واختلاف يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وانظر إلى الليل وهدوئه العميق وقمره المنير، ونجمه الذابل وقد سكن الكون فيه وهدأت الطبيعة.
ثم انظر إلى النهار وما فيه من حركة وضجيج. وذهاب ومجيء، وإلى الشمس وضحاها والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
فمحونا آية الليل، والمعنى: محونا آية هي الليل كما نقول دخلت مدينة القاهرة أى مدينة هي القاهرة، ومحوناها أى: جعلناها ممحوة الضوء والحركة لأنها كانت مضيئة ثم محيت (وفي هذا إشارة إلى هدوء الليل وسكونه) وجعلنا آية هي النهار مبصرة أى: يبصر فيها الرائي وينظر إلى ما حوله فيحس به ويتحرك تبعا لذلك، وهكذا تنبعث الحياة والحركة، ويولد النشاط والعمل لتبتغوا بذلك فضلا من ربكم ورزقا، فالرزق تابع للحركة والسعى والعمل والله الموفق.
ولتعلموا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار عدد السنين، والحساب، فلو كان الليل والنهار لا يختلفان في شيء أبدا من حركة وسكون ونور وظلام وطول وقصر وبرد ودفء لما تيسر معرفة السنين وحسابها، انظر إلى القطبين وما جاورهما هل يصلحان للحياة؟ كلا!!!.
وكل شيء مما تفتقرون إليه في شئون دينكم ودنياكم فصلناه تفصيلا وبيناه تبيينا عن طريق الإجمال أو التفصيل، لئلا يكون للناس على الله حجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وكل إنسان ألزمناه طائره من حظه المقدر وعمله الذي سيعمله في عنقه فلا يمكنه الانفلات منه بل هو أمر محتوم، وقضاء معلوم وكل ميسر لما خلق له، وليس معنى هذا نفى الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب.
ونخرج له يوم القيامة كتابا بين يديه يلقاه منشورا أمامه، كتابا لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد وجد الكل ما عمله حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا،
359
ويقال له: اقرأ يا هذا كتابك، وكفى بنفسك في هذا اليوم عليك حسيبا وشهيدا أى:
محاسبا وشاهدا.
وإذا كان الأمر كذلك فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه فقط لأن ثواب عمله له، ومن ضل في عمله فإنما يضل على نفسه فقط، فكل شخص محاسب عن نفسه مجزى بطاعته، معاقب على معصيته، ثم أكد هذا بقوله، ولا تزر وازرة وزر أخرى أى:
ولا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلصها من وزرها، وتأخذ به الأولى، وقد كانوا يقولون، نحن لا نعذب في شيء وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، فرد الله عليهم أبلغ رد وآكده.
وما كنا معذبين أحدا من الناس حتى نبعث رسولا يهديهم، ويدعوهم إلى الخير، ويحذرهم من الشر، وهذه الآيات تحثنا على العمل وتدفعنا إلى الجد وعدم الكسل، وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى- وقد دنا وقت إهلاك أهلها ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل أمرنا مترفيها بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم، وخرجوا من طاعته.
والأمر للجميع مترفا كان أو غير مترف، وغنيا كان أو فقيرا، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القادة وغيرهم تبع، والعامة شأنها التقليد دائما، قيل:
أمرنا المترفين الأغنياء حتى كأن الفقراء غير مأمورين.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [سورة إبراهيم آية ٢١].
وقيل إن المعنى: أمرنا مترفيها أى: جعلناهم كثرة يعيثون في الأرض فسادا.
وللزمخشري في كشافه رأى في قوله: أمرنا مترفيها خلاصته: أن هذا الأمر مجازى لا حقيقى، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بالفسق لتسبب النعمة في ذلك، والنعمة أعطيت للشكر لا الكفر. فلما كفروا وفسقوا حقت عليهم كلمة العذاب فدمرهم تدميرا وفي قراءة أمرنا مترفيها أى: جعلنا أغنياءها حكامها وقادتها، وفي الأمم الضعيفة الجاهلة يكون هؤلاء الأمراء الأغنياء مصدر الشقاء والهلاك للأمة كلها.
وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح لما بغوا وعصوا، والله- جل جلاله- يحصى
360
عليهم أعمالهم وذنوبهم، وهو ناقد بصير، وكفى به بذنوب عباده خبيرا بصيرا. وقد علمنا أن كل شيء في الكون مفصل تفصيلا محكما سواء كان في أمور الدين أو الدنيا، وكل إنسان له عمل مقدر له لا ينفك عنه، وهو ملاق حتما جزاء عمله يوم القيامة.
وسيقرأ كتابه الذي سجل فيه عمله وإن كل نفس بما كسبت رهينة، وأن ليس للإنسان إلا سعيه فقط، ولا يعذب ربك أحدا إلا بعد إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وأنه لا فرق بين الفرد والجماعة فالأمة التي تأمر بالطاعات ثم تخرج عن حدودها يدمرها ربك تدميرا. كل هذا يدفع العاقل منا إلى العمل الصالح النافع له في الدنيا والآخرة.
من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
المفردات:
الْعاجِلَةَ المراد الدنيا مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله مَشْكُوراً مثابا عليه نُمِدُّ نعطى هؤلاء وهؤلاء من الفريقين مَحْظُوراً ممنوعا...
وهذا حكم آخر من أحكام الله، وقضاء من أقضيته، بعد ما مضى من أحكام
361
المعنى:
من كانت الدنيا أكبر همه، واتجه بنفسه إلى العاجلة الفانية، وأرادها بكل جوارحه، وخصها بكل أعماله، من كان هكذا عجل الله فيها ما يشاء ويريد، عجل لمن يريده منهم لا لكل من أحبها، فترى أن القرآن الكريم قيد التعجيل بأمرين: أولا: يعجل الله بما يشاؤه هو لا بما يحبه العبد، والثاني: يعجل الله لمن يشاء لا لكل من أراد الدنيا.
ألست ترى كثيرا ممن يحبون الدنيا ويريدون العاجلة- وهم القوم الماديون الذين يحبون المال حبّا جمّا ويأكلون التراث أكلا لما- يتمنون ما يتمنون، ولا يعطون إلا بعضا من أمانيهم، وترى كثيرا منهم يتمنون ذلك البعض. ولا يعطون شيئا أبدا فقد جمعوا بين فقر الدنيا وفقر الآخرة.
هؤلاء الماديون المحبون للدنيا بكل جوارحهم تراهم في الدنيا كما وصف القرآن وفي الآخرة لهم جهنم يصلونها مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين، ومطرودين من رحمة الله.
أما الصنف الثاني، وهو من لم يجعل الدنيا أكبر همه بل كان قصده المهم الآخرة، أرادها، وسعى لها سعيها المناسب لما لها من فضل وثواب، والحال أنه مؤمن بالله واثق فيه مصدق به وبكتبه ويومه الآخر فأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال كان سعيهم مشكورا.
يا أخى انظر إلى هؤلاء الذين يريدون بعملهم الآخرة، ولا يبالون بشيء بعدها فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن منعوا منه رضوا وصبروا معتقدين أن ما هم فيه خير وأبقى.
غنى النفس ما استغنت غنى وفقر النفس ما عمرت شقاء
انظر إلى السعى المشكور والعمل المأجور، وقد تقدمه ثلاث إن تحققت فاز صاحبها وشكره ربه.
(أ) قصد الآخرة والاتجاه إليه في كل عمل حتى يكون رائده ثواب الآخرة لا متاع الدنيا.
362
(ب) العمل لها عملا يناسبها عملا تاما كاملا خاليا من الرياء والسمعة والغرض الحقير.
(ج) الإيمان العميق بعد الفهم الدقيق، والإخلاص الوثيق.
فتلك سفن التجارة، ومركب السعادة وما عدا هذا فمتاع زائل، وعرض حائل لا غنى فيه ولا خير.
كل واحد ممن يريد الدنيا. وكل واحد ممن يريد الآخرة نمد له في الرزق ونعطيه وكل ميسر له عمل الخير وعمل الشر، ولم يبق إلا الاختيار والتوفيق والقدرة الصالحة، وما كان عطاء ربك ممنوعا.
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، وللآخرة وما فيها من نعيم مقيم، وعطاء جزيل أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
روى أن قوما من العرب فيهم الأشراف والعامة وقفوا بباب عمر فأذن لبلال وصهيب فشق على أبى سفيان وأمثاله من أشراف قريش وملوك العرب فقال سهيل:
ذلك عمر إنما أوتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر!! فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر. فما أعده الله لهم في الجنة أكثر وأعظم.
دعائم المجتمع الإسلامى [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٤١]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
363
المفردات:
فَتَقْعُدَ يجوز أن تكون على معناها الأصلى، وهي كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، وقيل هي بمعنى: تصير مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أى: صارت كأنها حربة أُفٍّ لفظ يدل على التضجر والاستثقال وَلا تَنْهَرْهُما النهر الزجر والغلظة يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره جَناحَ الذُّلِّ قالوا: إن خفض الجناح للذل كناية عن حسن الرعاية والعناية مأخوذ من أن الطائر يخفض جناحه على أولاده عند تربيتها والعناية بها، أو هو كناية في التواضع وترك التعالي وذلك أن الطائر يخفض جناحه عند النزول وينشر جناحه عند الطيران وَلا تُبَذِّرْ التبذير تفريق المال كيفما كان كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه قَوْلًا مَيْسُوراً قولا حسنا ووعيدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كناية عن البخل وعدم الإنفاق، كما أن بسط اليد بحيث لا يعلق بها شيء كناية عن الإسراف خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أى: خوف الفقر خِطْأً أى خطأ وَلا تَقْفُ لا تتبع مالا تعلم مأخوذ من قولك قفوت فلانا إذا أتبعت أثره مَرَحاً المرح هو شدة الفرح ويلزمه التكبر والخيلاء في المشي، وتجاوز الإنسان قدره غالبا أَفَأَصْفاكُمْ أى: أفاختاركم وخصكم.
365
المعنى:
هذا قبس من نور الذكر الحكيم. يرسل فيملأ القلوب إيمانا واعترافا بأن ذلك القرآن من عند الله لا من عند محمد.
نعم ذلك بعض ما أوحى إلى ذلك النبي من الحكمة والموعظة الحسنة. وهذه الآيات تدلنا على أن محمد بن عبد الله ذلك الإنسان الذي نشأ في بيئة جاهلية بكل معاني الكلمة، بيئة، كل همها فتك وقتل وتخريب وإغارة وزنا وخمر، ووأد البنات مخافة الفقر أو العار لا يمكن أن يكون من عنده هذا النور، وهذا السمو في الخلق إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
أهذه البيئة تخرج مثل ذلك النبي الذي يدعو في هذه الآيات إلى كل خير وبر، وينهى عن كل إثم وشر؟!! ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولكنها المعجزة الباقية على أن هذا القرآن من عند الله لا من محمد وإلا فمن علمه ذلك؟
ومن عرفه الأسس والدعائم التي تبنى مجتمعا صالحا طيبا، فلو اجتمع فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين ليبنوا مجتمعا صالحا أتراهم يوصون بهذه الدعائم؟!! هذه الآيات بدئت بالنهى عن الشرك ثم بالأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى آخر ما فيها من معان سامية ثم اختتمت كذلك بإثبات أن ذلك وحى من عند الله بالنهى عن الشرك، وبيان الجور في حكمهم أن لله البنات ولهم البنين، وفي النهاية الكلام على القرآن الكريم.
وهذا النسق القرآنى يرشدنا إلى خطر الشرك بالله وأن هذه الأوامر والنواهي مما يتطلبه الدين ويحث عليه، وتبين لنا أن القرآن الكريم قد صرفه الله على أحسن وجه وأكمله ليذكروا، ولكن ما يزيدهم ذلك إلا نفورا واستكبارا.
والمناسبة بين هذه الآيات والتي قبلها ظاهرة حيث تكلم القرآن على من أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن، ثم أردف ذلك ببيان السعى الموصل للآخرة بالتفصيل، مع الكلام على الشرك المحبط للأعمال، وهاكم الآيات بالتفصيل.
366
التوحيد:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ....
والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وسلم لبيان أهمية الخبر وخطورته وهو لكل مخاطب لكل أحد، والمعنى: لا تجعل مع الله الذي خلقك ورزقك إلها آخر على أية صورة وبأى شكل فهو وحده الذي يجب أن يعبد، إنك إن اتخذت إلها آخر تكن مذموما من الله والملائكة والناس أجمعين ومخذولا من الله حيث عبدت غيره ومن الشريك لأنه لا يملك نفعا ولا ضررا، وقد قضى ربك، وحكم حكما لا نقض فيه ولا رجوع أن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له. إذ هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
الإحسان إلى الوالدين:
... وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
وقضى ربك بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا في المعاملة، إحسانا ليس بعده إحسان إذ يجتمع فيهما كل أسباب المودة والعطف، فمن قرابة قريبة، إلى صلة وشيجة وجوار كريم، وعطف سابغ، وحنان أبوى سليم، ولا عجب فهما أول من يعطف عليك عطفا غرزيا وأنت في أشد الحاجة إليه، فمن المروءة أن ترد الجميل لا أقول بأحسن منه فليس هناك جميل يوازى عملهما، ولهذا ترى القرآن الكريم يجمع بين الأمر بعبادة الله والأمر بالإحسان إليهما وفي آية أخرى يقول. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ولا غرابة فوالداك هما اللذان كونا الظاهر من جسمك، والله الذي خلقك وسواك ونفخ فيك من روحه. اعبده وحده ولا تشرك به شيئا واحسن إلى والديك إحسانا يكافئ ما قدماه لك، وهذا الأمر بالإحسان عام في كل حال، ووضعه هنا دليل على أنه من دعائم الدين وأصوله، وهناك أوضاع خاصة تقتضي التنصيص عليها بخصوصها مثلا:
367
إن يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما كلمة ضجر أو تألم، والكبر ملازم للضعف والعجز والحاجة إلى المعين والناصر الذي يتغاضى عن العيب والأذى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً.
وليس النهى عن التضجر والتألم خاصا بحالة الكبر بل في كل حال خصوصا التي يتهاون فيها الولد بأبيه لضعفه وعجزه عن الكسب.
وقل لهما قولا لينا لطيفا، مع حفظ الكرامة، والأدب والحياء. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وهذه كناية عن حسن رعايتهما، وتدبير أمرهما فكأنه قال: واضممها إلى نفسك كما فعلا بك وأنت صغير وتواضع لهما، وألن جانبك معهما، واخفض لهما الجناح الذليل من أجل فرط الشفقة بهما، والعطف عليهما إذ هما في حاجة إلى عطف من كان أفقر خلق الله إلى عطفهما.
ولا تكتف بهذا بل قل رب ارحمهما، وتجاوز عن سيئاتهما فإنهما ربياني صغيرا.
وأنت ترى أن الله بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر منها جلود العاقين.
وفي السنة الكريمة
قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»
وقوله: «أتانى جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل:
آمين. فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين. فقلت: آمين»
.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً وهذا تذييل يعلمنا أن العبرة بالقلب، وما فيه، فإن بدرت منه بادرة لم تكن مقصودة منه فالله أعلم به، ولا يعاقبه عليه ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، وإذا تبتم إلى الله وندمتم على ما فعلتم فاعلموا أن الله غفور للأوابين رحيم بهم.
حق ذوى القربى والمساكين وابن السبيل:
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والخطاب في ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم
368
تهييجا وإلهابا لغيره من الأمة والخطاب لكل من هو صالح لذلك، وحق ذوى القرابة هو صلة الرحم التي أمر الله بها مرارا، وهل الأمر للوجوب أو الندب وهل تجب للوالد فقط أولهما ولغيرهما من الأقارب كالأخوات وبنى الأعمام.
فعند أبى حنيفة الأمر للوجوب فيجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت، والوالد من باب أولى، وعند الشافعى- رضي الله عنه- الأمر للندب ولا تجب إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب.
والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة، والتعاطف أمر قلبي لا يغرسه قانون.
أما حق المساكين وابن السبيل فهو من الصدقة الواجبة أو المندوبة. والأقربون أولى بالمعروف.
ولما أمر بما أمر به ها هنا نهى عن التبذير حتى نكون وسطا فلا إفراط ولا تفريط.
التبذير:
وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً.
الإسلام دين ودولة، وعقيدة وعمل، وفكرة ونظام، واجتماع وعمران ولا أدل على ذلك من نهيه عن التبذير وحثه على الاقتصاد، ولقد كان أسلوب القرآن. ووصفه المبذرين بأنهم إخوان الشياطين أسلوبا لاذعا وتصويرا عمليا أبرز في صورة بشعة حيث كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لنعم ربه كفورا، وهكذا المبذرون كفروا بنعمة ربهم وفرقوا المال في غير موضعه، وأسرفوا فيه إسرافا مذموما لمجاوزتهم الحد المستحسن شرعا، والآية تفيد أن المبذر مماثل للشيطان والشيطان كفور لربه فالمبذر كفور لربه جاحد لنعمته.
وإن أعرضت عن ذوى القربى والمساكين وابن السبيل لضيق يد ولفقد مال ترجو أن يفتح الله به عليك فقل لهم قولا ميسورا سهلا لينا كالوعد الجميل، والاعتذار المقبول.
369
القصد في الإنفاق:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.
وهذا أمر بالقصد في الإنفاق والتوسط في المعيشة على سبيل التمثيل، وذلك أن البخيل وقد امتنع عن الإنفاق يشبه رجلا يده مغلولة إلى عنقه فلا يقدر على التصرف بحال، والمسرف الذي يضيع ماله شمالا ويمينا بغير حساب يشبه رجلا يبسط يده كل البسط حتى لم يبق في كفه شيء.
حقيقة كل فضيلة وسط بين رذيلتين فالتقتير مذموم، والإسراف مذموم، والتوسط بينهما محمود شرعا وعقلا، ولا شك أن البخيل الممسك ملوم من الله والناس، والمسرف المبذر محسور نادم على ما فرط منه منقطع لا شيء معه.
يا أخى انظر إلى تعاليم القرآن وهديه وإلى السر في ارتقاء الأمم الغربية أفرادا أو جماعات في الاقتصاد والمال، فهل كان نظام الإسلام يقصر دون أحدث النظم الاقتصادية؟! إن ربك يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن عقله وأصله، ويقدر الرزق ويقتره على من يشاء من خلقه وهو أعلم بهم وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى آية ٢٧].
ولعل فائدة التذييل بهذه الآية بعد الأمر بالقصد، أننا مأمورون بالقصد لأنه حكمة، وأما الغنى والفقر فأمر مرجعه إلى الله فقط.
تحريم وأد البنات:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً.
من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام يحاربها بأقوى الأسلحة ويصورها للناس بأبشع صورة وأد البنات أى: قتلهم خشية الفقر أو منعا للعار الذي يلحق بهم بسببهم وقد يقتلونهم خشية فقرهم كما هنا ولذلك قال: نحن نرزقهم وإياكم لأنه خاطب الموسرين
370
منهم، وقد يقتلونهم من إملاق حاصل فقال لهم كما في سورة الأنعام: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه خاطب الفقراء.
إن قتلهم من الفقر أو العار كان خطئا كبيرا وإثما عظيما.
تحريم الزنى:
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
الزنى عادة تتنافى مع مبادئ الإنسانية الأولى، لم يقره شرع أبدا ولم يؤيده قانون، فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وقضاء على الحرمات، وتقويض دعائم الاجتماع والعمران، وما شاع الزنى في قوم إلا ابتلاهم الله بالأمراض والأوجاع، وسلط عليهم الفقر والذل والهوان،
ولقد صدق الرسول حيث يقول: «بشّر الزّانى بالفقر ولو بعد حين»
. «ومن زنى يزنى فيه ولو بجدار بيته».
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة النور آية ٣]، ولا غرابة إذ يقول الله فيه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
أين دستور الإسلام، الذي حرم الزنى بهذا الوصف، من دساتير الغرب التي تبيحه مادامت الزانية بلغت السن وكانت راضية؟! كأن عرضها ملك لها، وكأن اختلاط الأنساب لا يهم في شيء أبدا،! فسبحان من هذا كلامه! ولعلكم تتعظون يا أيها الناس!
تحريم القتل:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً.
القتل اعتداء على خلق الله، وانتهاك لحرمة الله- سبحانه وتعالى- الله يبنى والقاتل الأثيم يهدم ويعتدى، والإنسان ليس ملكا لنفسه وحده إنما هو ملك للمجتمع والدولة، ولذلك حرم الانتحار وحرم قتل النفس إلا بالحق، فمن قتل نفسه فهو آثم بقتله نفسه،
371
ومن قتل غيره فهو معتد أثيم، ولا يباح إلا بحق من حقوق ثلاث، فمن قتل مسلما بلا قصاص، ومن زنى وهو محصن، ومن ارتد عن الإسلام، كل أولئك دمهم مهدور، ومن قتل مظلوما أى: لم يكن يستحق القتل، وكانت نفسه محرمة فقد جعلنا لوليه الذي يستحق المطالبة بدمه سلطانا على القاتل في القصاص منه فلا يسرف في القتل، ولا يقتل غير القاتل كعادة الجاهلين الذين كانوا يقتلون الجماعة في الواحد لأنه شرف عظيم في نظرهم، فهذا مهلهل بن أبى ربيعة يقول حين قتل بجير بن الحارث ابن عباد: بؤ بشسع نعل كليب أخى أى:
أنت تساوى نعل كليب ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرة جميعا لا تسرف في القتل يا ولى الدم إنك منصور من الله ومن عامة المسلمين حيث أوجب لك القصاص في القتل.
تحريم أكل مال اليتيم:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
يربى الإسلام نفوسنا تربية إسلامية عالية، ويغرس فينا المثل العالية، وها هو ذا يحرم علينا أكل مال اليتيم لأنه ضعيف مسكين لا حول له ولا قوة، نهانا عن أن نقترب من مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى تعود على اليتيم بالفائدة فليس الاعتداء على ماله بأى شكل حتى يبلغ أشده، ويكتمل عقله ورشده فينطبق عليه القانون العام الذي يشمل جميع المسلمين.
الوفاء بالعهد:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل الإسلامية العليا، وخلف الوعد رذيلة من الرذائل وصفة من صفات المنافقين، وللأسف الشديد نجد الوفاء بالوعد عند الغربيين الذين لم يحثهم دينهم عليها، ونحن فينا خلف الوعد كأنه غريزة من الغرائز، والعهد أمر عام يشمل ما بينك وبين الله والناس ونفسك.
372
الوفاء في الكيل والوزن:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا:. هكذا ديننا الحنيف يحارب فينا المادية والأنانية بكل معانيها ويربى فينا السمو والبعد عن الدنية، والعدل في كل شيء لذا أمرنا بالوفاء في الكيل إذا بعنا لأحد أو اشترينا منه، وأمرنا بالعدل والقسطاس المستقيم في كل ما نزنه ذلك خير بلا شك وأحسن عاقبة، إذ بالتجربة أن التاجر الذي يطفف في الكيل أو الوزن هو المبغوض من الناس أجمعين، وبالعكس التاجر الصادق هو الكسوب الرابح وللأسف نرى عند التجار الأجانب صدقا في الوعد وكمالا في الكيل والوزن.
تتبّع العورات والقول بالحدس:
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.
يرشدنا ديننا الحنيف إلى أننا لا نتبع في سلوكنا الظن والحدس ولا نقفوا ما ليس لنا به علم فلا يصح أن يقول إنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم به ولا يليق بك أن تذم أحدا بما لا تعلم وعلى هذا فشهادة الزور وقول الزور والقذف والتكلم في الناس بالظن وتتبع العورات كل هذا محرم شرعا إن السمع والبصر والفؤاد كل واحد من ذلك كان صاحبه عنه مسئولا فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم نويت وعزمت على ما لا يحل لك العزم عليه؟ واعلم أن تتبع العورات واستعمال الظن داء أصاب الشرقيين خاصة المسلمين وهو يدل على ضعف النفس وانغماسها في المادة وعدم صفائها.
النهى عن الكبر والخيلاء:
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً.
الكبر والخيلاء مرضان نفسيان ينشآن من مركب النقص الذي يصاب به بعض الناس. فلا يتكبر ولا يختال رجل كبير النفس واسع العقل أبدا، ولهذا نهى الإنسان
373
عنهما نهيا معللا بقوله: إنك لن تخرق الأرض إذا سرت عليها ولن تبلغ بتطاولك الجبال وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
كل ذلك المتقدم من قوله: لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا كان سيئه مكروها عند ربك ومبغوضا عند العقلاء من الناس.
ذلك إشارة إلى ما تقدم من قوله: لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا بعض ما يوحى إليك ربك من الحكمة، حقّا إنه هو الكلام المحكم الذي لا دخل فيه للفساد أبدا.
أليس هذا المجتمع الذي يعيش على هذه النظم مجتمعا فاضلا كريما ذا عزة وقوة وفضل ونبل هو المجتمع الإسلامى الذي يدعو إليه الإسلام وأما نحن وأعمالنا فلسنا حجة على الإسلام في شيء.
ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما من الله والملائكة والناس جميعا مطرودا من رحمة الله وقد كرر هذا النهى للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله غير الله ضاع سعيه وخاب ظنه.
ولما أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك أتبعه بذكر من أثبت الولد له- تعالى- خصوصا إذا كان الولد أنثى!! أيكرمكم ربكم فيخصكم بالبنين ويتخذ من الملائكة إناثا له؟
أيعقل هذا إنكم لتقولون قولا عظيم إثمه كبير جرمه تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى فإنكم تكرهون البنات وتحبون الذكور فكيف تقسمون الأولاد هكذا الذكور لكم والإناث لله.
وبعد هذا البيان الجامع لأسس الخير والفلاح يقول الله ممتنا على عباده: ولقد صرفنا في هذا القرآن. وبينا فيه كل شيء ليذّكّروا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا عتوا ونفورا واستكبارا في الأرض ومكرا وما كان جزاؤهم في ذلك إلا سعيرا وحميما.
الرد على من يدّعى لله شريكا [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
374
لما أثبت الله- سبحانه وتعالى- خطأهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله. قفّى على ذلك بإبطال التعدد وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له.
المعنى:
قل لهم يا محمد: لو كان مع الله- تبارك وتعالى- آلهة وشركاء كما تقولون أيها المشركون إذن لابتغوا إلى صاحب العرش سبيلا ولطلبوا طريقا لمقاتلة الله ولتنازعوا على الألوهية. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية ٢٢].
سبحانه وتعالى عن قولهم الإثم واعتقادهم الخطأ سبحانه وتعالى علوا كبيرا مناسبا لمقامه إذ فرق بين الغنى المطلق والفقر المطلق فرق شاسع وبون واسع.
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر جلال ملكه وعظيم سلطانه وكامل وحدانيته فقال: تسبح له السموات السبع ومن فيها والأرضون السبع ومن فيهن وليس هناك في الوجود شيء إلا يسبح بحمده تسبيحا بلسان الحال ولكنكم أيها المشركون لا تفقهون تسبيحهم كل ما في الكون من إنسان وحيوان وشجر ونبات وجماد وأجرام يدل دلالة قوية على وجود الصانع القادر الواحد المختار فكل شيء يسبح بحمد الله وشكره.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
ولكن الذين لا يعرفون لغة الكائنات ودلالة الموجودات لا يفقهون ذلك بل لا يفهمون أصلا.
ومع ذلك إنه هو الحليم بعباده الغفور الذي يغفر عن السيئات ويقبل التوبة من عباده قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [سورة الأنفال آية ٣٨].
375
السر في كفرهم وعنادهم [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
المفردات:
حِجاباً حاجزا أَكِنَّةً جمع كنان وهو الغطاء والستر وَقْراً صمما وثقلا في السمع.
المعنى:
وإذا قرأت يا محمد القرآن كله أو أى آية منه جعلنا بينك وبين هؤلاء المشركين الذين لا يعنون بالآخرة حجابا حاجزا وسترا ساترا بحيث لا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته وجعلنا على قلوبهم أكنة وأغطية تحول دون تفهم معاني القرآن وتدبر آياته وأمثاله وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا سماع قبول وتدبر.
وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن وصاحبه وذلك أن حالهم وما نشأوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة الكاذبة، وتغلغل الحسد في قلوبهم، كل ذلك كان بمثابة غطاء
وحجاب يمنع القلب والبصيرة من أن ترى أو تسمع أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ؟؟..
قال الكشاف: ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله جَعَلْنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه.
وهم يقولون إن للبدن حواسه التي بها يحس كالأذن والعين وحاسة الشم وحاسة اللمس والذوق، وللروح حواسه كذلك الباطنية وموضعها القلب وهي المعبر عنها بالبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦].
فحين ينفى القرآن عنهم حواس السمع والبصر والفؤاد إنما يقصد الحواس الروحية حواس البصيرة القلبية، وعند ذلك يفهم السر في إعراضهم وكفرهم إذ الحواس معطلة وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده جمحوا ونفروا نفورا ناشئا من أن عقلهم قاصر عن إدراك غير المحسوس المشاهد، وعقولهم غير مستعدة لإدراك السر الإلهى الأعظم مجردا عن المادة.
نحن أعلم يا محمد بما يستمعون به، وبهم حين يستمعون إليك، وسنجازيهم على استهزائهم وكفرهم وقت سماع القرآن إن ربك عليم بما في الصدور. وربك أعلم بما يتناجون به في خلواتهم، والشيطان معهم إذ يقول هؤلاء الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، إن تتبعون إلا رجلا قد سحر فاختلط عقله، وزال اعتداله وطاش حكمه.
انظر يا من يتأتى منك النظر كيف ضربوا لك يا محمد الأمثال؟ فقالوا كاهن، ساحر، وشاعر، ومجنون، فهم قد ضلوا في جميع ذلك عن سواء السبيل فلا يستطيعون طريقا إلى الهدى والحق.
شبهتهم في البعث والرد عليهم [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
377
المفردات:
رُفاتاً الرفات: ما بولغ في دقه وتفتيته حتى صار كالتراب وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت، وقال بعضهم: الرفات التراب بدليل تكرير ذكره في القرآن مع العظام: ترابا وعظاما فَسَيُنْغِضُونَ سيحركون إليك رءوسهم تعجبا يَنْزَغُ المراد يفسد بينهم بالوسوسة.
لقد سبق الكلام في شأن التوحيد والقرآن والسبب في كفرهم، وهنا تكلم عن شبههم الباطلة في البعث، ثم عن البعث مع تحذير المسلمين عاقبة المخالفة لأن الناقد بصير.
المعنى:
نظر المشركون بعقلهم القاصر، وقلبهم الأعمى إلى نظرية البعث وإعادة الحياة للحساب والثواب والعقاب فقالوا: إذا مات الإنسان جفت عظامه وتناثرت وتفرقت
378
أجزاؤه في جوانب العالم، واختلطت عناصر الجسم بغيرها، وهب أن إنسانا ابتلعه حوت في البحر وتحول جسمه إلى غذاء له مثلا فكيف يعقل بعد ذلك كله اجتماع أجزاء الجسم ثم عودة الحياة إليها؟!! وقالوا: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا مفتتة نبعث؟! ونكون خلقا جديدا له حس وحركة وفيه حياة وإدراك؟!! إن هذا لشيء عجيب! فيرد الله عليهم إن إعادة الحياة إلى الجسم أمر ممكن، بل هو أهون على الله من خلقه أول مرة- وهو أهون بالنسبة إلى إدراكنا وحكمنا وإلا فخلق الجبال والناس جميعا عند الله كخلق ذرة واحدة- ولو فرضتم أيها المشركون أن بدن الميت قد صار أبعد شيء عن الحياة بأن صار حجرا أو حديدا أو خلقا آخر مما يكبر في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض فالله قادر على إحيائه وبعثه من جديد.
فسيقولون: من يعيدنا؟ قل لهم: الذي فطركم وخلقكم أول مرة قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء فسينغضون إليك رءوسهم، ويحركونها تعجبا، ويقولون:
متى هذا؟ وفي أى وقت يكون؟ قل لهم: عسى أن يكون قريبا فكل آت قريب، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [سورة المعارج الآيتان ٦ و ٧].
اذكروا يوم يدعوكم فتستجيبون حامدين طائعين منقادين، وتظنون عند البعث أنكم ما لبثتم إلا زمنا قليلا لهول ما ترون.
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا المقالة التي هي أحسن من غيرها عند محاورة المشركين وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لأن الشدة في الخطاب تنفر الناس وتجعلهم يعاندون ويستكبرون خصوصا هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، ومعهم الشياطين التي لا تألوا جهدا في إيقاع الفساد والشر فيما بينكم وبين غيركم إن الشيطان ينزغ بينهم ويفسد، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ظاهر العداوة بينها.
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ويوفقكم إلى الخير والإسلام أو إن يشأ يعذبكم ولا يهديكم إلى الهدى والنور، وما أرسلناك يا محمد عليهم وكيلا تحاسب على أعمالهم إن أنت إلا نذير وبشير فقط، وربك أعلم بمن في السموات ومن في الأرض جميعا علم إحاطة وانكشاف أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ [الملك ١٤].
379
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ونحن أعلم بخلقنا فموسى كليم الله، وعيسى كلمته وروح من عنده، وإبراهيم خليله، ومحمد حبيبه وخاتم رسله وصاحب الإسراء والمعراج، ولا تعجبوا من إعطائه القرآن فداود أعطيناه الزبور وفيه أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء آية ١٠٥].
مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
380
المفردات:
تَحْوِيلًا المراد: تحويله من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان الْوَسِيلَةَ القربى بالطاعة والعبادة مَحْذُوراً مخوفا أَحاطَ المراد أنهم في قبضته وتحت قدرته.
وهذا رد على من عبد غير الله- سبحانه وتعالى- من العقلاء كالملائكة وعيسى وعزير ومناقشة لهم في عقائدهم.
المعنى:
قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون الله شركاء، وزعموا أنهم آلهة من دونه قل لهم: ادعو الذين زعمتم أنهم من دون الله شركاء فهل يجيبونكم؟ إنهم لا يستجيبون فهم لا يملكون كشف الضر عنكم، ولا تحويله من مكان إلى مكان، بل لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، أولئك الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربهم يبتغون الوسيلة إليه والقربى منه بالطاعة، ويخصونه بالعبادات وهم أقرب إلى الله وأولى به لأنهم عباده الأطهار المخلصون من ملائكة وأنبياء وهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا، إذ هو حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم فكيف أنتم؟! ثم بين- سبحانه وتعالى- مآل الدنيا وأهلها فقال: وما من قرية كانت من قرى الكفار إلا نحن مهلكوها بالموت أو معذبوها عذابا شديدا يستأصلهم، وهذا الحكم عام ثابت، كان ذلك في الكتاب مسطورا.
كان أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال. إن شئت كان ما سأله قومك. ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله هذه الآية وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
وما منعنا من إرسال الآيات واستجابة طلباتهم التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإننا إن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا، ولم يمهلوا كما هو سنة الله- سبحانه- مع
381
الأمم، والمعنى: ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا لتكذيب الأولين فإنهم إن كذبوا بعدها حل بهم ما حل بغيرهم من الأمم السابقة، وقد أراد الله أن يؤخر عذاب من أرسل لهم محمد إلى يوم القيامة، واذكروا أنا آتينا قوم ثمود الناقة كما طلبوا وكذبوا، بعدها عقروها فأخذتهم الصيحة، وجعلنا آية الناقة مبصرة ذات أبصار يدركها الناس، وإنما خصت بالذكر دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة منهم وفي طريقهم، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا للناس وإنذارا لهم، فكأن الآية مقدمة لعذاب الاستئصال، وأما أنت يا محمد فثق بالنصر وأن الله معك وناصرك واذكر وقت أن قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس علما وقدرة فهم في قبضته وتحت قدرته، فإلى أين يذهبون! وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أما الرؤيا التي رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل إنها: بشر الله له بانتصاره على قريش في بدر وغيرها، وأنه سيهزم الجمع، ويولون الدبر، ولذلك كان يقول النبي وهو في العريش مع أبى بكر قبل بدء المعركة: اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك، ولعل الله أراه مصارع القوم في منامه فكان يقول، هذا مصرع فلان، وذاك مصرع فلان تسامعت قريش بذلك وبما رأى في منامه فكانوا يضحكون ويسخرون، ويستعجلون العذاب، وحين يقول الله. إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، وأنها في النار قالوا: إن محمدا يزعم أن نار جهنم نار وقودها الناس والحجارة ثم يقول: ينبت فيها الشجر. فهذه الرؤيا بالنصر للنبي، والشجرة الملعونة كانت فتنة للناس بعضهم آمن بهذا وبعضهم كفر.
وقيل الرؤيا هي الإسراء وقد كانت فتنة للناس آمن بها البعض وكفر بها البعض وبه تعلق من يقول كان الإسراء في المنام ومن قال إن الإسراء كان في اليقظة، قال هي رؤية بالبصر، وسماها رؤيا بناء على قول المكذبين.
ونحن نخوفهم بعذاب الدنيا والآخرة فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحونه من الآيات.
382
أصل الداء [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
المفردات:
أَرَأَيْتَكَ أى: أخبرنى لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلنهم بالأعوان إلا قليلا يقال:
احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا بالحنك موفورا اسْتَفْزِزْ كاملا استخف يقال أفزه واستفزه أزعجه واستخفه وَأَجْلِبْ من الحلبة والصياح أى: صح عليهم، والمراد: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك غُرُوراً باطلا.
المعنى:
لما ذكر القرآن الشرك والمشركين وناقشهم وألزمهم الحجة أخذ يبين لهم أصل الداء والسبب الحقيقي لعلهم يتعظون وهو أن إبليس اللعين أخذ على عاتقه إغواءهم والوسوسة
383
لهم مع بيان موقفه من آدم أبى البشر، ولقد ذكرت هذه القصة في القرآن سبع مرات بأشكال مختلفة. وصور متباينة تتناسب مع الغرض العام في السورة والغرض الخاص المناسب للسابق واللاحق من الآيات. لهذا سنختصر في سردها.
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجودا رمزيا للامتثال ولإظهار المحبة ومكانة بنى آدم لا سجود عبادة وخضوع فسجدوا جميعا إلا إبليس أبى واستكبر وقال: أأسجد لمن خلقته من طين، وأنا خلقت من نار فأنا خير منه فكيف أسجد له. قال: أخبرنى عن هذا الذي فضلته على! لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! تالله لئن أخرتنى إلى يوم القيامة لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال جميعا إلا قليلا منهم، وهم عبادك المخلصون.
قال الله له: اذهب فامض لشأنك الذي أخذته لنفسك فمن تبعك منهم وأطاعك فإن جهنم مأواكم وجزاؤكم جميعا أنت ومن اتبعك جزاء موفورا.
واستفزز من استطعت منهم بصوتك واستخفه وادعه بكل ما تستطيع من قوة وإغراء، وأجمع عليهم خيلك وفرسانك، ورجالك، وهذا تمثيل، والمراد أجمع لهم مكايدك وما تقدر عليه، ولا تدخر وسعا في إغوائهم، وشاركهم في الأموال حتى يتصرفوا بما يخالف وجه الشرع من سرقة وغصب إلى غش وخديعة، أو أخذ بالربا، وشاركهم في الأولاد عن طريق الزنى، وتسميتهم بأسماء غير شرعية، وعدم احترام الحقوق الشرعية في الزواج والطلاق والرضا وغيره وعدهم بكل ما تعد به من زخرف القول وباطله.
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا، وتزيينا كاذبا، وإظهارا للباطل في صورة الحق.
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا قوة إلا من اتبعك، وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
ومن هنا نعلم أن الناس صنفان: صنف مؤمن تقى إذا مسه الشيطان تذكر نفسه وما حمل من أمانة، وما عليه من حساب، واستعاذ بالله فإذا هو مبصر محاسب نفسه وهؤلاء هم العباد الذين ليس للشيطان عليهم سبيل.
والصنف الثاني: هو العاصي الذي يتولاه الشيطان، ويستولى عليه مستعينا بالمال والدنيا والنفس الأمارة بالسوء.
384
من نعم الله علينا [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
المفردات:
يُزْجِي يسوق ويدفع والمراد يسير الضُّرُّ أى: الشدة وخوف الغرق يَخْسِفَ الخسف أن تنهار الأرض بالشيء حاصِباً المراد ريح شديدة حاصبة وهي التي ترمى بالحصى الصغيرة قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القاصف هي الريح الشديدة التي تكسر كل ما يصادفها أو هي الريح الشديدة الصوت تَبِيعاً أى: تابعا ثائرا يطالبنا بما فعلنا.
وهذا بيان لكمال قدرته، وتذكير ببعض النعم حملا لنا على الإيمان الكامل به.
385
المعنى:
ربكم الذي يستحق وحده العبادة هو الذي يسير لكم السفن في البحر، ويدفعها بقوة الريح وتيار الماء أو قوة البخار، يسير الفلك تمخر عباب الماء حاملة الناس والتجارة لتبتغوا من فضل الله ورزقه، إنه كان بكم رحيما منعما بدقائق النعم وجليلها.
وأنتم أيها الكافرون المشركون أمركم عجيب، إذا مسكم الضر، واضطرب بكم البحر وعدا على سفنكم هوج الرياح فانخلع قلبكم من خوف الغرق المحقق، إذا حصل هذا ضل من تدعونه من الآلهة إلا الله، وذهب عن خاطركم، ولم يدر بخلدكم ذكر واحد منهم فإنكم لا تذكرون سواه، وقيل المعنى: ضل ولم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوين.
فلما نجاكم إلى ساحل السلامة واستجاب دعاءكم أعرضتم وكفرتم وصرتم تدعون غيره يا عجبا لكم!! في الشدة تذكرونه وحده، وفي غيرها تدعون معه غيره، ولا غرابة فخلق الإنسان كفورا بربه جحود النعمة، وهذا يتحقق في أكثر الأفراد.
ها أنتم أولاء نجوتم الآن وكشف عنكم ربكم الضر الذي أصابكم، ولكن أنجوتم فآمنتم أن يخسف بكم جانب البر فحملكم ذلك الأمان الصادر عن الغرور الكاذب على الإعراض والكفر.
نعم أمر المشركين عجيب يتضرعون إلى الله في البحر فإذا نجاهم منه أعرضوا وكفروا، ألم يعلموا بأن الله قادر على أن يخسف بهم البر، ويدك عليهم جانبه فيصبحوا أثرا بعد عين؟.
أفأمنتم وقد نجاكم من البحر وصرتم في البر أن يرسل عليكم ريحا حاصبا تصيبكم بالحصباء؟ فأنتم تحت قبضته في كل مكان في البر والبحر، وإن لم يصبكم من أسفل أصابكم إن أراد من فوقكم قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام آية ٦٥] لا تجدون لكم وكيلا يدافع عنكم.
بل أأنتم وقد نجوتم الآن من البحر أن يعيدكم فيه تارة أخرى؟، بأن يهيئ لكم أسباب ركوبه مرة ثانية فيرسل عليكم وأنتم في السفن من الريح شديد فتكسر كل ما
386
يقابلها فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم بسبب هذا تبيعا علينا يطلب الثأر منا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس ١٤ و ١٥] وهذا تهديد شديد لا يصح إلا ممن رفع السماء فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها سبحانه وتعالى.
ولقد كرمنا بنى آدم بالعقل والتفكير فسخرنا له كل شيء في الكون كالماء والهواء والأثير، وكرمه بأن خلق له كل ما في السموات والأرض وكرمه في خلقه السوى وقامته المرفوعة، وكرمه بالتكليف وإرسال الرسل- عليهم الصلاة والسلام- خاصة محمدا صلّى الله عليه وسلم.
وها هي ذي بعض أنواع التكريم فقد حمله ربه في البر على الدابة والسيارة والدراجة والقطار وفي البحر على السفن، وفي الجو بالطائرة والقلاع الجوية.
وإنما لم تذكر لأنه كان يخاطب العرب الذين لا يمكنهم تصور هذا، ورزقناهم من الطيبات في المأكل والملبس، وفضلنا بنى آدم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الله أعلم به.
وهنا بحث العلماء بحوثا كثيرة في تفضيل بنى آدم على الملائكة واختلفوا اختلافا كثيرا، وليس في الآية دليل لواحد منهم.
بعض مشاهد يوم القيامة [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٧]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
387
المفردات:
بِإِمامِهِمْ المراد من يتقدمهم وينسبون إليه، وقيل كتاب أعمالهم فَتِيلًا مقدار الخيط الذي في شق النواة الطولى تَرْكَنُ تميل إليهم ضِعْفَ الْحَياةِ المراد ضعف عذاب غيرك في الدنيا خِلافَكَ بعدك.
المعنى:
اذكروا أيها الناس يوم ندعو كل جماعة بإمامهم وقائدهم فيقال مثلا يا أمة موسى يا أمة عيسى. يا أمة محمد، يا أمة فرعون: يا أمة نمرود، ويا أتباع فلان وفلان من رؤساء الكفر وزعماء الشرك.
وقيل المعنى يقال لهم: يا أهل التوراة، ويا أهل الإنجيل، ويا أهل القرآن ماذا عملتم في كتابكم؟! وقيل المراد بإمامهم: كتاب أعمالهم نظرا إلى قوله تعالى وكل شيء أحصيناه في إمام مبين.
فإذا نودي الناس يوم القيامة، فمن أوتى كتابه الذي فيه أعماله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مسرورين قائلين لإخوانهم: هلموا اقرءوا كتابنا، وهم لا يظلمون فتيلا ولا يضيع عليهم مثقال ذرة من أعمالهم.
وأما الصنف الثاني: وهو من يؤتى كتابه بشماله، فأولئك يصدمون من هول الموقف ويقفون حيارى، وهؤلاء قد عبر عنهم القرآن بقوله: ومن كان في هذه الدنيا
388
أعمى القلب والبصيرة، ولم يهتد إلى طريق الحق والنور فهو في الآخرة أعمى لا يهتدى إلى طريق النجاح والفلاح بل هو في الآخرة أضل سبيلا.
وروى أن قبيلة ثقيف وكانت تسكن الطائف قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب فلا يكون علينا زكاة، ولا جهاد، ولا صلاة، وأن كل ربا علينا فهو موضوع، وكل ربا لنا فهو لنا فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرنى.. وطمع القوم أن يعطيهم النبي ما طلبوا فأنزل الله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.. الآية.
وإن هموا وقاربوا أن يفتنوك عن الذي أوحى إليك. ويستنزلونك عن طريق الحق الذي ارتضاه لك ربك لتفترى عليه غيره، وتبدل فيه، إنك لو فعلت ذلك بأى صورة لاتخذوك خليلا، ولكنك تخرج من ولاية الله، وتطرد من رحمته.
ولولا أن ثبتناك وعصمناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إنك لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الموت.
وفي قوله- سبحانه-: كدت، شيئا قليلا، ثم مضاعفة العذاب في الدنيا والآخرة دليل على أن جرم العظيم عظيم.
وفيها إشارة إلى أن التهاون في شأن الدين وأحكامه خطر وأى خطر!!! وعليه عذاب مضاعف في الدنيا والآخرة، فيا ويلنا مادمنا نتهاون في شأن الدين وحكمه. وعلى المؤمنين جميعا إذا قرءوا هذه الآيات أن يملؤوا قلوبهم خشية وخوفا وتصلبا في دين الله
ولقد صدق رسول الله في قوله: «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
وإن كاد أهل مكة ليزعجونك بعداوتهم، ويستفزونك من أرضها ليخرجوك منها، إنهم إن فعلوا ذلك وأخرجوك كرها لا يبقون بعدك إلا قليلا.
وقيل: نزلت في يهود المدينة حينما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم حسدا وزورا، يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فلو خرجت إليها لآمنا بك واتبعناك، وهذا مما يؤيد أن هذه الآيات مدنية.
واعلموا أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بلادهم فسنة الله أن يهلكهم ولا تجد لسنته تحويلا وخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة كان بأمر الله.
389
إرشادات ومواعظ [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨٥]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
المفردات:
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ المراد: من زوال الشمس عن كبد السماء، وقيل: إنه غروبها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وغسق الليل: اجتماع الظلمة وسواد الليل فَتَهَجَّدْ الهجود: النوم بالليل، والتهجد: ترك الهجود كالتأثم والتحرج في ترك الإثم والحرج نافِلَةً لَكَ النافلة: الزيادة ومنه النوافل للسنن الزائدة عن الواجب وَزَهَقَ
390
الْباطِلُ
بطل واضمحل وَنَأى بِجانِبِهِ النأى: البعد. والمراد لوى عنه عطفه، أى: جانبه وولاه ظهره، وهو تأكيد للإعراض شاكِلَتِهِ طريقته.
تقدم ذكر المعاد والجزاء وبعض الإلهيات، وهنا ذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة وبعض التعليمات الإلهية مع بيان شرف القرآن وسمو الروح، وهذا هو العلاج لثبات المسلم على الطريق الحق.
المعنى:
يا أيها النبي أقم الصلاة، وأت بها مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والآداب فهي عماد الدين، وصلة العبد بخالقه. والأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمر لأمته، وإنما خص به لمكانة المأمور بها وهي الصلاة.
أقم الصلاة من دلوك الشمس- وهو زوالها عن كبد السماء- إلى غسق الليل واجتماع الظلمة ولعل السر في التعبير باللام بدل من قوله دلوك: الإشارة إلى أن الوقت سبب في إقامة الصلاة، وشرط فيها.
وأقم قرآن الفجر والمراد صلاة الصبح، إن قرآن الفجر كان مشهودا من الملائكة حرس الليل وحرس النهار، ومن يوفق لصلاة الفجر، والتعبد في السحر والتهجد في الليل يدرك السر ويشعر بأنها صلاة مشهودة، ودرجة مرفوعة، وفقنا الله لها.
وبعض الليل فتهجد بالقرآن والصلاة نافلة زائدة عن الفرائض المطلوبة، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. وعسى من الكريم إطماع محقق الوقوع، والمقام المحمود والمكان المرموق والمركز المعلوم المعد للنبي صلّى الله عليه وسلم مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، قائلا للخلق: عنى عنى اذهبوا إلى غيرى. ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنا لها:
فيشفع للخلق جميعا حين يضيق بهم الأمر. وتدنو الشمس من الرءوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار، وقيل المقام المحمود غير ذلك.
وقل يا محمد: رب أدخلنى مدخل صدق الذي وعدتني به، وأخرجنى مخرج صدق وإضافة المدخل والمخرج إلى الصدق لأجل المبالغة، والآية تشمل كل مدخل للنبي وكل
391
مخرج، كدخوله المدينة، وخروجه من مكة مثلا، واجعل لي في هذا سلطانا وحجة قوية.
وقل يا محمد: جاء الحق وزهق الباطل وقد قالها النبي صلّى الله عليه وسلّم حين كسر الأصنام وهو يفتح مكة.
والمراد بالحق: الإسلام أو كل ما هو حق. والمراد بالباطل: الشرك أو كل متناف مع الحق، إن الباطل شأنه الزهوق، وعدم الثبات.
واعلموا أن القرآن هدى وشفاء لما في الصدور ورحمة وخير للمؤمنين. وهو الوسيلة إلى الله والدواء والعلاج من كل داء فالله يقول: وننزل من القرآن ما هو شفاء من كل داء نفسي ورسمي وشفاء من كل مرض، وعلاج للأمة والفرد ورحمة للمؤمنين وقد كان رحمة وأى رحمة فهو الذي أخرج العرب الجاهلين الحفاة العراة إلى أمة ذات علم وحضارة وعز وسلطان، قهرت الأكاسرة والقياصرة، فهو الرحمة للناس جميعا خاصة المؤمنين وهو السبيل لاكتساب الدين والدنيا.
هذا مع المؤمن الذي يتوجه إليه بقلب خال من الكبر والحسد والبغضاء وحب الرياسة أما مع هذه الأمراض فلا يزيد الظالمين أصحابها إلا خسارا وعتوا واستكبارا.
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض عن ذكر الله متكبرا. ؟ ونأى بجانبه وولى ظهره، وتلك عادة المتكبرين، وإذا مسه الشر من فقر أو مرض كان شديد اليأس قانطا من رحمة الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
قل كل يعمل على شاكلته وطريقته التي جبل عليها فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا، وأقوم طريقا وهو يجازى كلا على قدر عمله وإخلاصه..
ولقد كانت اليهود تكثر من سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وحقيقتها، الروح التي بها يحيا الجسم ويتحرك.
والقرآن يرشدهم إلى ما هو خير لهم وأجدى عليهم فليس هو كتاب علم تحدد فيه الحقائق العلمية الدقيقة، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد يبحث الأشياء بحثا يتفق مع المصلحة الدينية العامة، على أن حقيقة الضوء والظلام والكهرباء لم تعرف إلى الآن، وإنما عرفناها بآثارها وشواهدها.
392
ولذلك يقول الله آمرا نبيه قل يا محمد: الروح من أمر ربي وشأنه، ومما استأثر الله بعلمه، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علوم الله.
وقيل المعنى: إن الروح من أمره أى: جزء منه- سبحانه وتعالى- لا يعرف تحديدها إلا هو ألا ترى إلى قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر آية ٢٩] وقوله: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً
[سورة الفجر الآيتان ٢٧ و ٢٨] على أن بحث حقيقة الروح لا يفيدنا في شيء أبدا.
القرآن هو المعجزة الباقية [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٩٣]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
393
المفردات:
ظَهِيراً معينا. فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة. يَنْبُوعاً الينبوع العين التي لا تنضب. كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. قَبِيلًا معاينة ومقابلة. مِنْ زُخْرُفٍ من زينة والمراد من ذهب.
المعنى:
لقد أوتينا من العلم قليلا، ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل فعدنا إلى ظلام الجهل، وحماقة الجاهلية فمصدر العلم في كل ناحية هو القرآن الذي أوحى إليك، ولئن شاء ربك لأذهبه، ومحاه من الصدور والمصاحف، فلم يترك له أثرا، وبقيت كما كنت من قبل لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان.
ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا إلا برحمة ربك فيرده عليك، فرحمة ربك مصدر الخير كله، وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله، إن فضله كان عليك كبيرا.
ومن الحقائق المعروفة أن العلوم التي نشأت عند المسلمين، والحضارة العلمية في الشرق كله من نبع القرآن وفيضه، فعلوم اللغة والشريعة وأصول الفقه وعلوم القرآن نشأت للمحافظة على القرآن الكريم، وكان لهذا أثر عميق في الاتجاه العلمي العام.
هذا القرآن وهو المعجزة، والحجة الدائمة التي تحدى بها الله العرب كلها فعجزوا على الإتيان بمثله، وهم أهل فصاحة وبلاغة، والنبي واحد منهم وهو أمى لم يقرأ ولم يكتب، وفيهم الشعراء والخطباء، وقادة البلاغة والبيان فحيث عجزوا فغيرهم من باب أولى، تحداهم به بأسلوب لاذع، مع الحكم عليهم بالعجز والقصور ولو اجتمع الإنس والجن، وتعاون الكل وبذلوا النفس والنفيس.
394
ولقد ثبت بما لا يقبل الشك عجزهم فثبت أن القرآن هو المعجزة الباقية وأنه من عند الله.
ولقد صرف الله للناس في هذا القرآن، وقلب فيه الأمور كلها على وجوهها بألوان شتى وعبادات مختلفة تارة بالإيجاز وأخرى بالإطناب موفيا الغرض من أمر ونهى، ووعظ وإرشاد وقصص وأخبار، وحكم وتشريع ومع هذا يأبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.
لم يقنعوا بالقرآن معجزة وهم أدرى الناس بحقيقتها لأنها أتت فيما برعوا فيه، وطلبوا معجزة غيرها. ولو جاءت كما طلبوا لقالوا: إنما سحرت أبصارنا وسكرت.
وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض عيونا تفيض بالماء فإننا في صحراء مجدبة قاحلة، أو تكون لك أنت- إن لم تأت بعيون لنا- جنة من نخيل وأعناب وغيرهما فتجرى فيها الأنهار بقوة حتى يتم زرعها وتؤتى ثمرها كاملا، أو تسقط السماء علينا قطعا كما زعمت إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سورة سبأ آية ٩].
أو تأتى بالله والملائكة معاينة لنا ومتقابلين معنا فيحدثونا بأنك رسول من عند الله أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب فإنا عرفناك يتيما فقيرا.
ألم يكن عند الله إلا يتيم أبى طالب يجعله رسولا! أو تعرج إلى السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا من السماء كتابا نقرؤه يفيد أنك رسول من عند الله.
قل لهم متعجبا منزها الله، سبحان ربي!! هل كنت إلا بشرا رسولا فقط، ولست أقدر على إجابة طلبكم، والله- سبحانه- هو القادر وقد أيدنى بمعجزة القرآن، وهي المعجزة الباقية الخالدة.
شبهتهم في الرسالة والرد عليها [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ١٠٠]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
395
المفردات:
خَبَتْ سكن لهبها. سَعِيراً نارا ملتهبة شديدة. وَرُفاتاً تقدم شرحها قَتُوراً بخيلا ممسكا.
المعنى:
من الناس من ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة
396
فهم لا يطيقون أبدا الإقرار بأن الله يرسل رسولا من البشر ويقولون إذا كان ولا بد من رسول فليكن من الملائكة، ولقد زاد عنادهم وكفرهم أن الرسول محمدا صلّى الله عليه وسلّم يتيم من فقراء قريش!! لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٣١].
نعم ما منعهم من الإيمان بالله ورسوله وقت أن جاءهم الهدى الذي يخرجهم من الظلمات والجهالات إلى نور الحق والعرفان، ما منعهم من ذلك إلا اعتقادهم أن الرسول لا يكون بشرا حيث قالوا منكرين: أبعث الله بشرا رسولا؟ فليس طلبهم الآيات السابقة إلا عنادا وتكذيبا، فلا تظن أن إجابتهم خير أبدا.
قل لهم لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكتين يعيشون مع الناس ويتفاهمون معهم ويتلون عليهم آيات الله، وتعرف الناس أخبارهم وأحوالهم قبل النبوة لو كان في طبيعة الملك ذلك لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا، إذ لا يعقل أن يدين الإنسان لمن لا يعرف عنه شيئا، ومن ليس بينه اتصال وألفة حتى يتم التفاهم ولقد صدق الله حيث يقول في سورة الأنعام وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآيتان ٨ و ٩].
قل لهم: كفى بالله شهيدا وحكما بيني وبينكم فإن كنت أتقول عليه ما يلبسون وأفترى عليه الكذب فيجازينى على ذلك وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام ٢١].
وإن كنتم تكفرون بالله الذي خلقكم. ولا تؤمنون برسوله الذي أرسل لكم، ومعه المعجزة الباقية الخالدة التي تقول بلسان الحال: صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى:
فسيحاسبكم ربكم على ذلك ويجازيكم أشد الجزاء إنه بعباده خبير بصير.
وأنت يا محمد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وأعلم أنه من يهديه الله إلى الخير فهو المهدى الموفق لأن نفسه ميالة إلى ذلك، ومن يضلله الله فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره ويدافعون عنه، وهم يوم القيامة محشرون يمشون على وجوههم.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «١» والذي أقدرهم على المشي على الأرجل يقدرهم على المشي على وجوههم مرغمين، نحشرهم عميا لا يرون ما ينفع وبكما
(١) سورة القمر الآية ٤٨. [.....]
397
لا يتكلمون بما يفيدهم، ولا يسمعون ما يلذ لهم وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا مأواهم جهنم التي وقودها الناس والحجارة كلما أكلت جلودهم ولحومهم وعظامهم وأفنتها وسكن لهيبها بدلوا جلودا ولحما وعظما غيرها فرجعت ملتهبة شديدة الالتهاب، وكانوا يستبعدون إعادة الحياة بعد الممات فكان جزاؤهم النار أن تعاد أجسامهم مرة ثانية ليذوقوا ويعرفوا قدرة الملك الجبار.
ذلك جزاءهم بسبب كفرهم، وقولهم: أإذا كنا عظاما نخرة وصار جسمنا رفاتا ترابا تعود إلينا الحياة؟ ونبعث من جديد لنحاسب على أعمالنا إن هذا لعجيب.
يا عجبا لهم!! أعموا ولم يروا أن الله خلقهم وخلق السموات وما فيها، والأرضين وما فيها من العجائب قادر على أن يخلق مثلهم أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [سورة النازعات الآية ٢٧]. وقد جعل لهم أجلا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، ومع هذا كله فقد أبى الظالمون إلا كفورا وجحودا، وإنكارا للبعث.
قل لهم: لو تملكون خزائن رحمة الله الرحمن الرحيم لبخلتم بها، وأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا بخيلا.
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
فما بالكم تطلبون آيات بعد هذه الآيات! وأنتم لا تقومون بواجب الشكر لله الذي أنعم عليكم بكافة النعم إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [سورة العاديات آية ٦].
تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
398
المفردات:
مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك. بَصائِرَ المراد بينات مكشوفات.
مَثْبُوراً هالكا، وقيل مصروفا عن الخير ممنوعا منه. يَسْتَفِزَّهُمْ يستخفهم ويخرجهم. لَفِيفاً مجتمعين مختلطين. فَرَقْناهُ المراد جعلنا نزوله مفرقا منجما. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يسقطون على وجوههم خضوعا لله.
روى ابن عباس- رضى الله عنهما- أن الآيات التسع هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه الله على بنى إسرائيل.
399
المعنى:
ولقد آتينا موسى حين أرسل إلى فرعون وملئه تسع آيات ناطقات بصدقه، وأنه رسول الله إليهم لينقذ بنى إسرائيل من طغيانهم، مع هذا لم يؤمن فرعون وقال: إنى أظنك يا موسى رجلا مسحورا قد سحر عقله واختلط عليه أمره فهو لا يدرى ما يقول.
وإن كنت في شك فسل المؤمنين من بنى إسرائيل عن الآيات وقت أن جاءهم بها موسى فسيخبرونك الخبر الحق، ويكون ذلك أقوى حيث تتظاهر الأدلة.
ولما أنكر فرعون رسالة موسى مع وجود الآيات التسع- وفي هذه إشارة إلى أن طلب قريش تلك الآيات السابقة وإجابتهم لها ليس يدفعهم إلى الإيمان فهذا فرعون وما عمل- قال موسى له: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض حالة كونها بينات وبصائر تهدى الإنسان النظيف الخالي من عمى القلب تهديه إلى الطريق الحق. ولكنك يا فرعون ما أظنك إلا هالكا ممنوعا من الوصول إلى الخير لأن طبعك يأبى عليك ذلك.
وكان ما كان من أمر فرعون وموسى مما ذكر في غير هذه السورة.
فأراد فرعون بعد هذا أن يخرجهم من أرض مصر مطرودين مبعدين فأغرقه الله هو وجنده، ونجى موسى ومن معه من بنى إسرائيل، وأورثهم أرضهم وديارهم وقال الله لهم: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يخرجكم منها وهذا جزاء كل جبار عنيد فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم مختلطين. ثم نعطى كل إنسان جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم عاد القرآن إلى الكلام عن نفسه فيقول:
وما أنزلنا هذا القرآن إلا بالحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدين والدنيا، وما نزل إلا متلبسا بالحق والخير في الدنيا والآخرة، وما أرسلناك يا محمد إلا بشيرا ونذيرا وعلى الله الثواب والعقاب.
وقرآنا فرقناه أى: جعلنا نزله مفرقا منجما تبعا للحوادث والظروف لتقرأه على الناس على مكث وتؤدة ليحفظ في الصدور، وتعيه النفوس، ويفهم فهما عمليا تطبيقيا إذ
400
كل آية نزلت في حادثة خاصة يفهم سبب نزولها، ويوقف على سرها، ونزلناه تنزيلا كاملا لا عوج فيه ولا نقص.
قل يا محمد: آمنوا به أو لا تؤمنوا، وهذا أمر، بالإعراض عنهم واحتقارهم حتى لا يكترث بهم. وهم إن لم يؤمنوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك فإن خيرا منهم وفضل وهم أهل الكتاب والعلماء منهم الذين عرفوا الوحى والنبوة قد آمنوا به وصدقوه فهذا عبد الله بن سلام، وتميم الداري وغيرهم، هؤلاء إذا يتلى عليهم القرآن يخرون سجدا لله تعظيما لأمره ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة التي بشرت ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلم.
ويقولون سبحان ربنا. إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون ساجدين على وجوههم في حالة البكاء، ويزيدهم سماع القرآن اطمئنانا في القلب وخشوعا. وهكذا كل مؤمن صادق في إيمانه.
بماذا ندعو الله [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
المعنى:
سمع المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: يا الله يا رحمن، فقالوا: هذا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين! فأنزل الله هذه الآيات.
قل لهم: ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أى هذين الاسمين دعوتم وذكرتم فهو حسن، فله الأسماء الحسنى أى: فلله الأسماء الحسنى فإذا حسنت أسماؤه كلها المأثورة حسن هذان الاسمان منها وهما يفيدان التحميد والتقديس والتعظيم.
401
ومن الصواب أن نتبع الطريقة المثلى في الدعاء وهي الحد الوسط بين الجهر في الصوت والإسرار والإخفات فيه وخاصة في الصلاة بحيث تصلى فتسمع نفسك ولا تؤذى غيرك، وقيل المعنى: اجهر في صلاة الجهر، واخفت في صلاة الإخفات وهي صلاة الظهر والعصر، وابتغ بين ذلك أى: بين الجهر والسر سبيلا وسطا.
وقل: الحمد لله والثناء بالجميل على الفعل الجميل لله- سبحانه- الذي لم يتخذ ولدا فهو ليس محتاجا إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث وهو منزه عنها، ولم يكن له شريك في الملك لأنه غير محتاج إليه، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، ولم يكن له ولى من الذل، أى: لم يكن له ناصر من الذل ومانع له منه، ولم يوال أحدا من أجل الذل إذ هو القادر المقتدر الخالق صاحب النعم- جل جلاله-.
وكبره تكبيرا وعظمه تعظيما يتناسب مع جلاله وقدسيته، والله أكبر ولله الحمد.
402
Icon