تفسير سورة الحج

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الحج
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات ( هذان خصمان ) إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات ( هذان خصمان ) إلى قوله تعالى :( عذاب الحريق ) وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى عذاب يوم عقيم ) فإنها مكيات والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال : في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية.

سورة الحجّ
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية، وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ [الحج:
١٩] إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة، وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: ٢٢].
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ- إلى- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: ٥٢. ٥٥] فإنها مكيات، والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور. وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي. ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر، وجاء في فضلها ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما.
والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور، نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال: في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية.
105
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة لكن لا بطريق الحقيقة عندنا بل بطريق التغليب أو تعميم الحكم بدليل خارجي فإن خطاب المشافهة لا يتناول من لم يكلف بعد وهو خاص بالمكلفين الموجودين عند النزول خلافا للحنابلة وطائفة من السلفيين والفقهاء حيث ذهبوا إلى تناوله الجميع حقيقة، ولا خلاف في دخول الإناث كما قال الآمدي في نحو الناس مما يدل على الجمع ولم يظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث وإنما الخلاف في دخولهن في نحو ضمير اتَّقُوا والمسلمين فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه، وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته، والدخول هنا عندنا بطريق التغليب.
وزعم بعضهم أن الخطاب خاص بأهل مكة وليس بذاك، والمأمور به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا لكن على وجه يعم الإيجاد والدوام، والمناسب لتخصيص الخطاب بأهل مكة أن يراد بالتقوى المرتبة الأولى منها وهي التوقي عن الشرك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترهيبا وترغيبا أي احذروا عقوبة مالك أمركم ومربيكم، وقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل لموجب الأمر بذكر أمر هائل فإن ملاحظة عظم ذلك وهوله وفظاعة ما هو من مبادئه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مركزها، وإضافتها إلى الساعة إما من إضافة المصدر إلى فاعله لكن على سبيل المجاز في النسبة كما قيل في قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] لأن المحرك
106
حقيقة هو الله تعالى والمفعول الأرض أو الناس أو من إضافته إلى المفعول لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله:
يا سارق الليلة أهل الدار وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة، وهي عند بعض المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها.
وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال: لما نزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ- إلى- وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
كان صلّى الله عليه وسلّم في سفر (١) فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟
قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا، وحديث البعث مذكور في الصحيحين
وغيرهما لكن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروي عن الحسن.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن علقمة والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من أماراتها، وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا نظرا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى، ثم إنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة، وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء على ما
روي أن في الأرض عروقا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عز وجل أمرا أن يحرك عرقا فإذا حركه زلزلت الأرض.
وعند الفلاسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفد في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه فزلزت الأرض، وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيما إذا امتزجا امتزاجا مقربا إلى الدهنية، وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة، وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدأت في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتزلزل به الأرض، وقليلا ما فتتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب.
ومما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره له كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة، ولا يخفى أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفلاسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم، وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم على حقيقتها أيضا، وقال آخرون: هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك
(١) وذلك في غزوة بني المصطلق كما صرح به في بعض الروايات اهـ منه. [.....]
107
اليوم، وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم، ومن منع ذلك قال:
إن إطلاقه عليها ليتقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة.
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
الظاهر أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها
للزلزلة لأنها المحدث عنها، وقيل هو للساعة وهو كما ترى، ويَوْمَ
منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام، وقيل بعظيم، وقيل:
بإضمار اذكر وقيل هو بدل من السَّاعَةِ وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ [المائدة: ١١٩] على قراءة يوم بالفتح، وقيل بدل من زَلْزَلَةَ أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر، وجملة تَذْهَلُ
على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول، والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها، والأول دل على شدة الهول وكمال الانزعاج، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة إن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فنحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته، ولا يضر في كونه تمثيلا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل.
وقرىء «تذهل» من الإذهال مبنيا للمفعول، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني «تذهل» منه مبنيا للفاعل وكُلُ
بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة، وقيل: الساعة كل مرضعة وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي تلقي كل ذات جنين جنينها لغير تمام، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل. وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وان إطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه أحمال وحمول وحمال اهـ، وقيل: المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في
108
التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع.
وَتَرَى النَّاسَ
بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والأفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى إلخ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد.
وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والأول أبلغ في التهويل، والرؤية بصرية والنَّاسَ
مفعولها، وقوله تعالى: سُكارى
حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى، وقوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
أي حقيقة حال أيضا لكنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية. فلا يقال: إنه إذا كان معنى قوله تعالى: تَرَى النَّاسَ سُكارى
على التشبيه يكون وَما هُمْ بِسُكارى
بالمعنى المذكور مستغنى عنه، ولا وجه لجعله حالا مؤكدة لمكان الواو، وجوز أن يكون تَرَى
بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان، وحينئذ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا، وأمر أفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحالة، وأيا ما كان فالمراد في قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
استمرار النفي، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، وأشير إليه سببه بقوله تعالى: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى، وهو استدراك على ما في الانتصاف راجع إلى قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تري» بضم التاء وكسر الراء أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وقرأ الزعفراني «ترى» بضم التاء وفتح الراء «الناس» بالرفع على إسناد الفعل المجهول اليه، والتأنيث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا النَّاسَ
وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر الأول الضمير المستتر وهو نائب الفاعل، والثاني النَّاسَ
والثالث سُكارى
وقرأ أبو هريرة وابن نهيك سُكارى
بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران، وقال أبو حاتم: هي لغة تميم،
وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ «سكرى» كعطشى في الموضعين،
وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى، ولكون السكر جاريا مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران وقال أبو علي الفارسي: يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش «سكرى» بضم السين فيهما، قال الزمخشري: وهو غريب، وقال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى.
109
وإلى كونه اسما مفردا ذهب أبو الفضل الرازي فقال: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد، وعن أبي زرعة «سكرى» بفتح السين «بسكرى» بضمها، وعن ابن جبير «سكرى» بفتح السين من غير ألف بِسُكارى
بالضم والألف كما في قراءة الجمهور، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله تعالى عنه في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله تعالى شأنه على إحياء من بلي وصار ترابا، وقيل في أبي جهل، وقيل في أبيّ بن خلف وهي عامة في كل من تعاطى الجدل فيما يجوز وما لا يجوز على الله سبحانه من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا نصفة، وخصوص السبب لا يخرجها عن العموم، وكان ذكرها أثر بيان عظم شأن الساعة المنبئة عن البعث لبيان حال بعض المنكرين لها ومحل الجار الرفع على الابتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به، وبِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع الحال من ضمير يُجادِلُ لإيضاح ما تشعر به المجادلة من الجهل أي وبعض الناس أو بعض كائن من الناس من ينازع في شأن عز وجل ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل ملابسا الجهل وَيَتَّبِعُ فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متجرد للفساد معرى من الخير من قولهم: شجرة مرداء لا ورق لها، ومنه قيل: رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر، وقال الزجاج:
أصل المريد والمارد المرتفع الأملس وفيه معنى التجرد والتعري، والمراد به إما إبليس وجنوده وإما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَيَتَّبِعُ خفيفا.
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ضمير عَلَيْهِ للشيطان وكذا الضمير المنصوب في تَوَلَّاهُ والضمير في فَأَنَّهُ والضميران المستتران في يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ وضمير أَنَّهُ للشأن وباقي الضمائر لمن. واختلف في إعراب الآية فقيل إن أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ إلخ نائب فاعل كُتِبَ والجملة في موضع الصفة الثانية لشيطان ومَنْ جزائية وجزاؤها محذوف وفَأَنَّهُ يُضِلُّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مع ما في حيزها وما يتصل بها أي كتب على الشيطان أن الشأن من تولاه أي اتخذه وليا وتبعه يهلكه فإنه يضله عن طريق الجنة وثوابها ويهديه إلى طريق السعير وعذابها، والفاء لتفصيل الإهلاك كما في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:
٥٤] وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف وهو وجه حسن إلا أن في كونه مراد الزمخشري خفاء، وقيل مَنْ موصولة مبتدأ وجملة تَوَلَّاهُ صلته والضمير المستتر عائده وأنه يُضِلُّهُ في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة خبر الموصول، ودخول الفاء في خبره على التشبيه بالشرط أي كتب عليه أن الشأن من تولاه فشأنه أو فحق أنه يضله إلخ. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابية وما بعدها مع القدر جواب الشرط. وقيل ضمير أَنَّهُ للشيطان وهو اسم أن ومَنْ موصولة أو موصوفة. والأول أظهر. خبرها والضمير المستتر في تَوَلَّاهُ لبعض الناس والضمير البارز لمن والجملة صلة أو صفة، وقوله تعالى: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ والمعنى ويتبع كل شيطان كتب عليه أنه هو الذي اتخذه بعد الناس وليا وأنه يضل من اتخذه وليا فالأول كأنه توطئة للثاني أي يتبع شيطانا مختصا به مكتوبا عليه أنه وليه وأنه مضله فهو لا يألو جهدا في إضلاله، وهذا المعنى أبلغ من المعنى السابق على احتمال كون من جزائية لدلالته على أن لكل واحد من المجادلين واحدا من مردة الشياطين، وارتضى هذا في الكشف وحمل عليه مراد صاحب الكشاف.
110
وعن بعض الفضلاء أن الضمير في أَنَّهُ للمجادل أي كتب على الشيطان أن المجادل من تولاه وقوله تعالى:
فَأَنَّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ واعترض بأن اتصاف الشيطان بتولي المجادل إياه مقتضى المقام لا العكس وأنه لو جعلت من في مَنْ تَوَلَّاهُ موصولة كما هو الظاهر لزم أن لا يتولاه غير المجادل وهذا الحصر يفوت المبالغة.
وفي البحر الظاهر أن الضمير في عَلَيْهِ عائد على من لأنه المحدث عنه، وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل بتولي ضمير من وكذا الهاء في يضله، ويجوز أن يكون الهاء في أنه على هذا الوجد ضمير الشأن والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه فشأنه أن يضل من يتولاه انتهى. وعليه تكون جملة كتب إلخ مستأنفة لا صفة لشيطان، والأظهر جعل ضمير عَلَيْهِ عائدا على الشيطان وهو المروي عن قتادة، وأيّا ما كان فكتب بمعنى مضى وقدر ويجوز أن يكون على ظاهره، وفي الكشاف أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب عليه ذلك لظهوره في حاله، ولا يخفى ما في يَهْدِيهِ من الاستعارة التمثيلية التهكمية.
وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرىء «فإنه» بكسر الهمزة فالجملة خبر من أو جواب لها، وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه» «فإنّه» بكسر الهمزة فيهما ووجهه الكسر في الثانية ظاهر، وأما وجهه في الأولى فهو كما استظهر أبو حيان إسناد كُتِبَ إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتبت أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان أو تقدير قول وجعل الجملة معمولة له أو تضمين الفعل معنى ذلك أي كتب عليه مقولا في شأنه أنه من تولاه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ إلخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا إثر الإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، وإما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها. وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة للريب، واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد، وجوز أن يكون المراد من وقوع البعث، واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وفيه تأمل فتأمل، وقرأ الحسن «من البعث» بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين، وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر.
وقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل جواب الشرط أو هو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم إلخ، وقيل: التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم إلخ وليس بذاك، وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها، واختير الأول وجعل
111
المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب ثُمَّ خلقناكم خلقا تفصيليا مِنْ نُطْفَةٍ أي مني من النطف بمعنى التقاطر، وقال الراغب: النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة، وقيل:
المراد نطفة آدم عليه السلام وحكي ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضع مُخَلَّقَةٍ بالجر صفة مُضْغَةٍ وكذا قوله تعالى: وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة، وقيل: المخلقة المسوأة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس، فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل: مخلقة قال: يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق، وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر، وكأن التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بخلقنا، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس، وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك.
وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولولا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق، وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» بالباء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى:
112
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ وقرأ الجمهور بالنون، والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوارد الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين، وعن يعقوب أنه قرأ «ونقرّ» بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته، وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون.
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى طِفْلًا حال من ضمير المخاطبين، والأفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلا طفلا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية.
وقرأ عمر بن شبة «يخرجكم» بالياء ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز، وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس ولِتَبْلُغُوا، قال العلامة أبو السعود: علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلخ، وقيل علة المحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا إلخ.
وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ كان ذلك الإقرار والإخراج وقيل إنه عطف على نبين، وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفا عليه على قراءة نقر. ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء، وكذا جعل الفعلين عطفا عليه وقال: المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين، أحدهما أن نبين شؤوننا، والثاني أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم، وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات، وإعادة اللام في لِتَبْلُغُوا مع تجريد نقر «ونخرج» عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة، وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال اهـ.
وما ذكره من عطف وو نقر و (نخرج) بالنصب على (نبين) لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب، قال في شرح المفصل: إنه مما يتعذر فيه النصب إذ لو نصب عطفا على (نبين) ضعف المعنى إذا اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف وَنُقِرُّ عليه لكان داخلا في مسببية فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ إلخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصلح سببا للإقرار في الأرحام، وقال الزجاج: لا يجوز في وَنُقِرُّ إلا الرفع ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم وصلاحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين.
وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الأشد والصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل، وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك وقال فإن قلت: كيف يصح عطف لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ على لِنُبَيِّنَ ولا طباق قلت الطباق حاصل لأن قوله تعالى: وَنُقِرُّ قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجع من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب اهـ. وفيه ما يومىء إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن،
113
ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الاستكمال علما وعملا وحيث لم يعطف على لِنُبَيِّنَ إلا بعد أن قدم عليه وَنُقِرُّ ثم نخرج مجعولا نُقِرُّ عطفا على إنا خَلَقْناكُمْ والعدول إلى المضارع لتطوير الحال والدلالة على زيادة الاختصاص فالطباق حاصل لفظا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل، وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق الإنسان له وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ على الإقرار والإخراج اهـ.
ويعلم منه ما في قول العلامة: إن عطف «لتبلغوا» إلخ على «لنبين» مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الاستئناف في وَنُقِرُّ وفيه أيضا أن قوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى إلخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفضيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيحتضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أرداه وأدناه، والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ أي علم كثير شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم، واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم، وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجويز أن يكون ثُمَّ لِتَبْلُغُوا بتقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المؤمي إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلا إنشاء غريبا كما قال سبحانه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ١٤] ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل اهـ.
ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد، ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ، وقيل: إن ذلك يجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى. وقرىء «يتوفّى» على صيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى، وجوز أن يكون ضمير من أي «من» يستوفي مدة عمره، وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر، هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافها قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على إنا خَلَقْناكُمْ وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية، وقيل: للمجادل، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية لا علمية كما قيل، وهامِدَةً حال من الْأَرْضَ أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلي وقال الأعشى:
114
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همّدا
وأصله من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي ماء، المطر، وقيل: ما يعمه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول اهْتَزَّتْ تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الاهتزاز على الحركة في الكيف بعيد وَرَبَتْ ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات.
وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن الياس وأبو عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت يقال فلان يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه، وقال ابن عطية: هو من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ حسن سار للناظر ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ كلام مستأنف جيء به إثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه على أتم وجه لبيان أن ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها الكاشف عن حقية ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية وأن ما ينكرونه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة المعلومة لهم ومبادئ صدورها عنه تعالى، وفيه من الإيذان بقوة الدليل وأصالة المدلول في التحقق وإظهار بطلان إنكاره ما لا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم بتحقق المسبب مما يقضي ببطلانه بديهة العقول فذلك إشارة إلى خلق الإنسان على أطوار مختلفة وما معه والإفراد باعتبار المذكور وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة لكونه لذاته لا الثابت مطلقا فوجه الحصر ظاهر أي ما ذكر من الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي شأنه وعادته تعالى إحياء الموتى، وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءا وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرة بعد مرة وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما هو باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها لأن القدم الشخصي ينافي ذلك. وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة للحصر التي من جملتها ما ذكر، وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحور المنكرين، وتقديمه لإبراز الاعتناء به وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي فيما سيأتي، والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقرر البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة، وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيها إما خبر ثان لأن أو حال من ضمير السَّاعَةَ في الخبر، ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها.
وأن وما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بياء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله سبحانه: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا قوله عز وجل:
وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثر أن فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث إن كلا منهما بسبب داع له عز وجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولولا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأسا، وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير ذلك وهو مما يميل اليه الطبع
115
السليم، وجعل صاحب الكشاف الإشارة إلى ما ذكر أيضا إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف بالحكمة لما في الكناية من النكتة خصوصا والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم ولا يخلو عن بعد، ونقل النيسابوري عبارة الكشاف واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجها في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صوابا وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ إلخ ليس معطوفا على المجرور بالياء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أن الساعة آتية إلخ، وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام عن الانتظام، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية مشعر بأن الله هو الحق إلخ، وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص وقيل: المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق إلخ، وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي كتب الصوفية وإن لم يثبت عند المحدثين وهو
«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وهو كما ترى، وقيل: الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم، ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف، ونقل في البحر أن ذلك منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن إلخ. وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الابتداء والجار والمجرور خبره وقال: لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر، وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جدا، ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما، وقال سعدي جلبي: المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث، وقول الطيني: إن سبيل قوله تعالى أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ من قوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ سبيل قوله جل وعلا: إن الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من قوله عز وجل: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول، هذا وفي الإتقان للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكروا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم، وقد يقال في بيان ذلك: إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء، واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق، ودليل الملازمة برهان التمانع، واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادرا على إحياء الموتى لما طور الإنسان في أطوار مختلفة حتى جعله حيا وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر. واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادرا على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير، ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي وأيضا إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى. واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية إما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وإما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدى بها وإما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج
116
كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختياره لتسارعه إلى الذهن، وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله تعالى: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا بين قوله سبحانه وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وقوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ويعد من الخمس قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ واستنتاجها بأن يقال: زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم، والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ واستنتاجه بأن يقال:
التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر واجب عليكم فالتقوى واجبة عليكم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا: إن في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج دون أن يقولوا: إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانيا إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكورا صريحا، ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكورا كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضا ليس بقضية كما لا يخفى، وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت على ما روي عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق وعلى ما روي عن ابن عباس في أبي جهل، وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى، وقال ابن عطية: كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الأخبار لا للتوبيخ انتهى، وهو كما ترى. وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى، والمراد بالعلم الضروري كما أن المراد بالهدي في قوله تعالى:
وَلا هُدىً الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي.
ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير «يجادل» كالجار والمجرور السابق أي لا ويا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله، وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرا والضحاك بقوله شامخا بأنفه وابن جريج بقوله معرضا عن الحق.
وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين أي مانعا لتعطفه وترحمه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ متعلق بيجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال، وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك، والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة.
وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية «ليضل» بفتح الياء أي ليضل في نفسه والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة، يجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله، وقيل: إن ذلك لجعل ضلاله الأول كالاضلال، وأيا ما كان فاللام للعاقبة لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذل وهوان، والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو
117
جهل ما أصابه يوم بدر، ومن عمم. وهو الأولى. حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد.
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار البالغة في الإحراق، والإضافة على ما قيل من إضافة المسبب إلى السبب، وفسر الحريق أيضا بطبقة من طباق جهنم، وجوز أن تكون الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدا، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه تعالى «وأذيقه» بهمزة المتكلم.
ذلِكَ أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي، وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي، وجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك إلخ وهو خلاف الظاهر، والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالا أي قائلين أو مقولا له ذلك إلخ، وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضهم، وفائدته الدلالة على أن سببية ما اقترفوا من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوه إلا أن لا يعذبهم بما اقترفوا، وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد إرادة عذابهم من غير ذنب فجيء بهذا لرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة، ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم كأنه قيل: إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر.
واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، وقال في العطف: للدلالة على أن سببية إلخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى. وتعقب قوله: إن إمكان إلخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعي إلخ بأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة الجميع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدا، وتعقب أيضا بغير ذلك، والقول بالاعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد عن الاعتراض، والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب، بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كمّا لا كيفا. واعترض بأن نفي المبالغة كفيما كانت توهم المحال، وقيل: ويجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيا للمبالغة، واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي، وجعله قيدا في التقدير لأنه بمعنى
118
ليس بذي ظلم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له، وقيل: إن ظلاما للنسبية أي ليس بذي ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء «وليست بذي رمح ولست بنبال» وقيل غير ذلك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية، وقوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ إلخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاصف وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه وأهله أو ماله انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي مستوليا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينا وشمالا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال، وهو معنى قوله في الكشاف: طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة، وقيل هو هاهنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن، وأيّا ما كان فالمراد ارتد رجع عن دينه إلى الكفر.
أخرج البخاري وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
وأخرج ابن مردويه عن ابي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أقلني فقال عليه الصلاة والسلام: إن الإسلام لا يقال فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية،
وضعف هذا ابن حجر، وقيل: نزلت في شيبة ابن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروي ذلك عن ابن عباس، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ جملة مستأنفة أو بدل من «انقلب» كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي ابي حيان، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم «خاسر» بزنة فاعل منصوبا على الحال لأن إضافته لفظية، وقرىء «خاسر» بالرفع على أنه فاعل «انقلب» وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه، وقيل: إنه من التجريد ففيه مبالغة، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر، والجملة واردة على الذم والشتم ذلِكَ أي ما ذكر من الخسران، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون، وقيل إن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحا هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الواضح كونه خسرانا لا غير يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران، ويجوز أن يكون حالا من فاعل انْقَلَبَ وما تقدمه اعتراض، وأيا ما كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى: ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادا ليس من شأنه الضر والنفع، ويلوح بكون المراد جمادا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما ذلِكَ أي الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق.
119
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة ونفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم
واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولا له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر والجملة صلة له، وقوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر (من) أي يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققا من نفعه: والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمّه ما لا يخفى، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل، وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه.
وقد ذهب إليه أيضا جار الله، جوز أن يكون يَدْعُوا هنا إعادة ليدعو السابق تأكيدا له وتمهيدا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا والله لبئس المولى إلخ، ولا تناقض عليه أيضا إذا الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به. ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه.
واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي، وقال الأخفش: إن يَدْعُوا بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي، والجملة محكية بالقول. واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها.
وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم. نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أدل عليه، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه، وقيل:
يَدْعُوا مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولا مع اعتقاد. واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق، والجملة في محل نصب بيدعو، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه.
وقال الفراء: إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو. وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول، وقال ابن الحاجب: قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله يَدْعُوا من ضره بإسقاط اللام، وقيل يَدْعُوا بمعنى يسمي (ومن) مفعوله الأول
120
ومفعوله الثاني محذوف أي إلها، ولا يخفى عليك ما فيه، وقيل إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي، ونقل هذا عن الفارسي أيضا، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقا أن يكون موصولا، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي دعوه، والجملة في موضع الحال والتقدير ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ مدعوا وفيه مع بعده أن يَدْعُوا لا يقدر بمدعوا وإنما يقدر بداعيا والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول، وقيل يَدْعُوا عطف على يدعو الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و (من) مفعول يَدْعُوا وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء، والمراد وما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه، وإما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى، وبالجملة أحسن الوجوه أولها.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ استئناف لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وأنه تعالى يتفضل عليهم بالنعيم الدائم إثر بيان غاية سوء حال الكفرة. وجملة تَجْرِي إلخ صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثفة السائرة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما في إرشاد العقل السليم.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ تعليل لما قبله وتقرير يطريق التحقيق أي هو تعالى يفعل البتة كل ما يريده من الأفعال المتقنة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق برسوله صلّى الله عليه وسلّم وعقاب من كفر به وكذب برسوله عليه الصلاة والسلام.
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الضمير في يَنْصُرَهُ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما روي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختاره الفراء والزجاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه لا يدلي بحجة ما ضرورية أو نظرية أو سمعية ولما يؤول إليه أمره من النكال، وفي الآخرة بما هو أطم وأطم ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمم خسارهم في الدارين ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله عليه الصلاة والسلام، وبالغ في كونه منصورا بما لا مزيد عليه، واختصر الكلام دلالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم العلم الذي لا يشتبه وأن الكلام فيه وله ومعه وإن ذكر غيره بتبعية ذكره، فالمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وإدخال من صدقه جنات تجري من تحتها الأنهار والانتقام ممن كذبه وإذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارف ولا يعطفه عنه عاطف فمن كان يفيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يريده من المكائد فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجد كل حد معهود فقصارى أمره خيبة مساعيه وعقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله، وقد وضع مقام هذا الجزاء.
قوله سبحانه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلخ أي فليمدد حبلا إِلَى السَّماءِ أي إلى سقف بيته كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ليختنق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قطع إذا اختنق كان أصله قطع نفسه بفتحتين أو أجله ثم ترك المفعول نسيا منسيا فصار بمعنى اختنق لازم خنقه، وذكروا أن
121
قطع النفس كناية عن الاختناق، وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ تقدير النظر وتصويره وإلا فبعد الاختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر، ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه، وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر، وأن يكون الكلام خارجا مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيدا خارجة هذا المخرج، وقال جمع: إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود، ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة والسلام النازل من جهتها. وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا، ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر، نعم المعنى السابق هو الأولى، وأيا ما كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون له صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: أعراب من أسلم. وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة والسلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا، وقيل: قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من النصر والمعنى عليه وكذا على سابقه أن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضا من استبطأ نصر الله تعالى وطلبه عاجلا فليقتل نفسه لأن له وقتا اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره، وأنت تعلم بعد هذين القولين وأن ثانيهما أبعده.
واستظهر أبو حيان كون ضمير ينصره عائدا على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على مذكور، وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق، قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصرة الله تعالى وقالوا: أرض منصورة أي ممطورة، وقال الفقعسي:
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشيء الذي أنت ناصره
أي معطيه وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا والغرض الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤمنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفا في شأنهم. ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الآية بما قبلها عليه قريبا، وقيل: الضمير لمن والنصر على المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر. ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء.
ومن كما أشرنا إليه شرطية، وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في محل نصب بينظر، وذكر أنه على إسقاط الخافض، وقرأ البصريون وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم كله آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة، ويجوز أن يكون المراد انزل الآيات السابقة. وأيا ما كان ففيه أن القرآن الكريم في
122
جميع أبوابه كامل البيان لا في أمر البعث وحده. ونصب آياتٍ على الحال من الضمير المنصوب وقوله تعالى:
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ بتقدير اللام وهو متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا إفادة للحصر الإضافي أي ولأن الله تعالى يهدي به ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه من يريد هدايته أو ثباته أو زيادته فيها أنزله كذلك أو في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي إلخ.
وجوز أن يكون معطوفا على محل مفعول أَنْزَلْناهُ أي وأنزلناه أن الله يهدي إلخ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بما ذكر من المنزل بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ هم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور، وفي القاموس هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار، وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الصابئة كانوا على عهد ابراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم الحنفاء وكانوا يقولون: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأمره وأحكامه جل شأنه إلى متوسط روحاني لا جسماني.
ومدار مذاهبهم على التعصب للروحانيات وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها ولما لم يتيسر لهم التقرب إلى أعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات وصائبة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام. وقد أفحم إبراهيم عليه السلام كلتا الفرقتين وألزمهم الحجة.
وذكر في موضع آخر أن ظهورهم كان في أول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس، ولفظ الصابئة عربي من صبا كمنع وكرم صبا وصبوءا خرج من دين إلى آخر وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ هم على ما روي عن قتادة أيضا قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، واقتصر بعضهم على وصفهم بعبادة الشمس والقمر، وآخرون على وصفهم بعبادة النيران. وقيل: هم قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح. وقيل: قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم قائلون بأن للعالم أصلين نورا وظلمة. وفي كتاب الملل والنحل ما يدل على أنهم طوائف وأنهم كانوا قبل اليهود والنصارى وأنهم يقولون بالشرائع على خلاف الصابئة وأن لهم شبهة كتاب وأنهم يعظمون النار، وفيه أن بيوت النيران للمجوس كثيرة فأول بيت بناه أفريدون بيت نار بطوس، وآخر بمدينة بخارى هو بردسون، واتخذ بهمن بيتا بسجستان يدعى كركو، ولهم بيت نار ببخارى أيضا يدعى قبادان وبيت نار يسمى كونشه بين فارس وأصفهان بناه كيخسرد.
وآخر بقومش يسمى جرير. وبيت نار كيكدر بناه في مشرق الصين، وآخر بأرجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسف، وكل هذه البيوت كانت قبل زرادشت. ثم جدد زرادشت بيت نار بنيسا بعد كشتاسف أن تطلب النار التي كان يعظمها جم فوجدوها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دارابجرد والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها وكيخسرد، ولما غزا افراسياب عظمها وسجد لها. ويقال: إن أنوشروان هو الذي نقلها إلى كارشان فتركوا بعضها هناك وحملوا بعضها إلى نسا. وفي بلاد الروم على باب قسطنطينية بيت نار اتخذه شابور بن أزدشير فلم تزل كذلك إلى أيام المهدي.
وبيت نار باسفيتا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى. وفي الهند والصين بيوت نيران أيضا والمجوس إنما يعظمون النار لمعان. منها أنها جوهر شريف علوي يظنون أن ذلك ينجيهم من عذاب نار يوم القيامة ولم يدروا أن ذلك السبب الأعظم لعذابهم اهـ.
وفيه ما لا يخفى على من راجع التواريخ. وفي القاموس مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع دينا ودعا إليه
123
معرب ميخ وكوش. وفي الصحاح المجوسية نحلة والمجوسي نسبة إليها والجمع المجوس. قال أبو علي النحوي:
المجوس واليهود إنما عرفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما لأنهما معرفتان مؤنثان فجريا في كلامهم مجرى القبلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف. وأنشد:
أحار أريك برقا هبّ وهنا كنار مجوس يستعر استعارا
انتهى. وذكر بعضهم أن مجوس معرب موكوش وأطلق على أولئك القوم لأنهم كانوا يرسلون شعور رؤوسهم إلى آذانهم. ونقل في البحر أن الميم بدل من النون، وأطلق ذلك عليهم لاستعمالهم النجاسات وهو قول لا يعول عليه وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا المشهور أنهم عبدة الأوثان، وقيل ما يعمهم وسائر من عبد مع الله تعالى إلها آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وأدخلت إن على كل واحد من جزئي الجملة لزيادة التأكيد كما في قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله سربال ملك به تزجى الخواتيم
وقيل: خبر إن الأولى محذوف أي مفترقون يوم القيامة أو نحو ذلك مما يدل عليه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلخ فإن قولك: إن زيدا إن عمرا يضربه رديء، والبيت لا يتعين فيه جعل الجملة المقترنة بأن خبرا بل يجوز أن تكون معترضة والخبر جملة به تزجى الخواتيم، ولا يخفى عليك بعد تسليم الرداءة أن الآية ليست كالمثال المذكور لطول الفاصل فيها، قال في البحر: وحسن دخول إن في الجملة الواقعة خبرا في الآية طول الفصل بالمعاطيف، وقال الزجاج: زعم قوم أن قولك: إن زيدا أنه قائم رديء وأن هذه الآية إنما صلحت بتقدم الموصول ولا فرق بين الموصول وغيره في باب إن وليس بين البصريين خلاف في أن إن تدخل على كل مبتدأ وخبر فعلى هذا لا ينبغي العدول عن الوجه المتبادر، والمراد بالفصل القضاء أي إنه تعالى يقضي بين المؤمنين والفرق الخمس المتفقة على الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما، وقيل: المراد أنه تعالى يفصل بين الفرق الست في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بلا تفاوت بل يجزي المؤمنين بما يليق واليهود بما يليق بهم وهكذا ولا يجمعهم في موطن واحد بل يجعل المؤمنين في الجنة وكلا من الفرق الكافرة في طبقة من طبقات النار، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تعليل لما قبله من الفصل أي إنه تعالى عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه.
124
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الاشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة، وجوز أن يكون تنويرا لكونه تعالى شهيدا على كل شيء، وقيل: هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف، والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك. والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وإرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عزّ وجلّ، وظاهر كلام الآمدي أنه معنى حقيقي للسجود. وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد. وذلك ضربان بأن سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات. وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى.
وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به. وقال ابن كمال: إن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وضع الرأس، وقال العلامة الثاني: حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدا، وعلى هذين القولين على علاتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والانقياد لإرادته سبحانه. وجوز أن يكون مجازا عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته، ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الاختلاف. ومَنْ إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيهما بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما، ويكون قوله تعالى:
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في بادىء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها.
فالشمس عبدتها حمير والقمر عبدته كنانة وعبد الدبران من النجوم تميم والشعري لخم وقريش، والثريا طيىء، وعطاردا أسد والمرزم ربيعة، وعبد أكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال. وعبدت غطفان العزى وهي سمرة واحدة السمر شجر معروف، ومن الناس من عبد البقر. وقرأ الزهري وابن وثاب «الدّواب» بتخفيف الباء. وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري، وقال: لا أعلم من خففها سواء وهو قليل ضعيف قياسا وسماعا لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة.
125
وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود الطاعة المعروف. واعترض بأنه صرح في المغني بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقة لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف. وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدر قد يكون لازما للمذكور نحو زيدا ضربت غلامه أي أهنت زيدا ولا يكون مشتركا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى، وعطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه.
واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والجواب ما علمت، ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذ ذكر كَثِيرٌ وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر كَثِيرٌ إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك، وما قيل: إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب، وقال ابن كمال:
تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الآية بناء على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الانقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الانقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلا من التعليلين في معرض المنع، أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع، وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الانقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفيا كان أو تكوينيا على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق العطن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى. وفيه القول بجواز العطف على كلا معنى السجود وضع الرأس والانقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني، ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقا وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الانقياد على ما ذكره، وقد أخذ رحمه الله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى، وما زعم أنه من ضيق العطن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون مِنَ النَّاسِ صفة كَثِيرٌ وأورد أنه حينئذ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيرا من الجن متصف به أيضا، وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح. نعم يمكن أن يقال: إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان، والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء. ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن يسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا: المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس، وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس. وتعقب بأن الخطاب في أَلَمْ تَرَ لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقا بالنسبة إليه. ورد بأن مراد المجيب في أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائنا من كان ظهور دخول
126
الأشياء المذكورة أولا تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر.
وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى، والأولى أن يقال: تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيرا من الجن كذلك للتنويه بهم، ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل، وقيل:
إن كَثِيرٌ مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود، وجوز أن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون، وقال الراغب: قد يذكر الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا، وذلك إذا اعتبر معنى الانسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدأ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديرا ولأن كلا من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي، وأن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ صفته وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ معطوف عليه وقوله سبحانه: حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي ثبت وتقرر خبر، ويكون الكلام على حد قولك: عندي ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس، وهذان الوجهان بعيدان، وقال في البحر: ضعيفان.
والظاهر أن كَثِيرٌ الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من الناس ولا يسجد كثير منهم، ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة، ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوي دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه، وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الجن خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون معطوفا على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة حَقَّ إلخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب ومِنَ النَّاسِ صفة له أيضا، ولا يخفى ما فيه، وقرىء «حقّ» بضم الحاء و «حقا» أي حق عليه العذاب حقا فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر، ومن مفعول مقدر ليهن فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسعادة.
وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في القاموس أي مما له إكرام، وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه، وقيل يجوز أن يكون باقيا على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول، والمعنى ما له من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة. ولا يخفى بعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة، وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما.
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة جاء اخْتَصَمُوا بصيغة الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاة اللفظ خَصْمانِ وهو تثنية خصم وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي
127
فيه الواحد المذكر وغيره، قال أبو البقاء: وأكثر الاستعمال توحيده فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء، وعن الكسائي أنه قرأ «خصمان» بكسر الخاء، ومعنى اختصامهم في ربهم اختصامهم في شأنه عزّ شأنه، وقيل في دينه، وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤونه تعالى واعتقاد كل من الفريقين حقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه يكفي في تحقق خصومته للفريق الآخر ولا يتوقف عن التحاور.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصمت المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله تعالى آمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت.
وأخرج جماعة عن قتادة نحو ذلك واعترض بأن الخصام على هذا ليس في الله تعالى بل في أيهما أقرب منه عزّ شأنه. وأجيب بأنه يستلزم ذلك وهو كما ترى وقيل عليه أيضا: إن تخصيص اليهود خلاف مساق الكلام في هذا المقام. وفي الكشف قالوا: إن هذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس من أن الآية ترجع إلى أهل الأديان الستة في التحقيق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر هم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأنت تعلم أن هذا الاختصام ليس اختصاما في الله تعالى بل منشؤه ذلك فتأمل ولا تغفل.
وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو ينتطح فيه كبشان، وفي الكلام كما قال غير واحد تقسيم وجمع وتفريق فالتقسيم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله تعالى- وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا والجمع إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والتفريق في قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ إلخ أي أعد لهم ذلك، وكأنه شبه أعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا ثياب حقيقة، وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم وكون بعضها فوق بعض.
وجوز أن يكون ذلك لمقابلة الجمع بالجمع والأول أبلغ، وعبر بالماضي لأن الأعداد قد وقع فليس من التعبير بالماضي لتحققه كما في «نفخ في الصور».
وأخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب وليس شيء حمي في النار أشد حرارة منه فليست الثياب من نفس النار بل من شيء يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أقبحها كسوة. ولذا قال وهب:
يكسى أهل النار والعري خير لهم. وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» بالتخفيف والتشديد أبلغ.
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار الذي انتهت حرارته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو سقط من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، وفسره ابن جبير بالنحاس المذاب، والمشهور التفسير السابق، ولعله إنما جيء بمن ليؤذن بشدة الوقوع والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو في موضع الحال المقدرة من ضمير لَهُمْ يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ من الأمعاء والأحشاء.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وجماعة عن أبي هريرة أنه تلا هذه
128
الآية فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق إلى قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان».
وقرأ الحسن وفرقة «يصهّر» بفتح الصاد وتشديد الهاء، والظاهر أن قوله تعالى: وَالْجُلُودُ عطف على ما وتأخيره عنه قيل إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغاية شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع أن ملابستها على العكس، وقيل إن التأثير في الظاهر غني عن البيان وإنما ذكر للإشارة إلى تساويهما ولذا قدم الباطن لأنه المقصود الأهم، وقيل التقدير ويحرق الجلود لأن الجلود لا تذاب وإنما تجتمع على النار وتنكمش، وفي البحر أن هذا من باب علفتها تبنا وماء باردا. وقال بعضهم: لا حاجة إلى التزام ذلك فإن أحوال تلك النشأة أمر آخر، وقيل يُصْهَرُ بمعنى ينضج، وأنشد:
تصهره الشمس ولا ينصهر وحينئذ لا كلام في نسبته إلى الجلود، والجملة حال من الْحَمِيمُ أو مستأنفة.
وَلَهُمْ أي للكفرة، وكون الضمير للزبانية بعيد، واللام للاستحقاق أو للفائدة تهكما بهم، وقيل للأجل، والكلام على حذف مضاف أي لتعذيبهم، وقيل بمعنى على كما في قوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ [غافر: ٥٢] أي وعليهم.
مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف. وفي مجمع البيان هي مدقة الرأس من قمعه قمعا إذا ردعه، وفسرها الضحاك وجماعة بالمطارق، وبعضهم بالسياط.
وفي الحديث «لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض»
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم فإذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا، فالإرادة مجاز عن الإشراف والقرب كما في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] وجعل بعضهم ضمير مِنْها للثياب وهو ركيك، وقوله تعالى: مِنْ غَمٍّ بدل اشتمال من ضمير مِنْها بإعادة الجار والرابط محذوف والتنكير للتفخيم، والمراد من غم عظيم من غمومها أو مفعول له للخروج أي كلما أرادوا الخروج منها لأجل غم عظيم يلحقهم من عذابها، والغم أخو الهم وهو معروف، وقال بعضهم: هو هنا مصدر غممت الشيء أي غطيته أي كلما أرادوا أن يخرجوا من تغطية العذاب لهم أو مما يغطيهم من العذاب أُعِيدُوا فِيها أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها من غير أن يخرجوا منها إذ لا خروج لهم كما هو المشهور من حالهم، واستدل له بقوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ [البقرة: ١٦٧، المائدة: ٣٧] وفي اختيار فِيها دون إليها إشعار بذلك، وقيل الإعادة مجاز عن الإبقاء، وقيل التقدير كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا أعيدوا فيها فالإعادة معلقة على الخروج وحذف للإشعار بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة ويجوز أن يحصل لهم، والمراد من قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ نفي الاستمرار أي لا يستمرون على الخروج لا استمرار النفي، وكثيرا ما يعدى العود بفي لمجرد الدلالة على التمكن والاستقرار، وقال بعضهم: إن الخروج ليس من النار وإنما هو من الأماكن المعدة لتعذيبهم فيها، والمعنى كلما أراد أحدهم أن يخرج من مكانه المعد له في النار إلى مكان آخر منها فخرج منه أعيد فيه وهو كما ترى، وهذه الإعادة على ما قيل بضرب الزبانية إياهم بالمقامع، وقوله تعالى: وَذُوقُوا على تقدير قول معطوف على أُعِيدُوا أي وقيل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ قد مر الكلام فيه، والأمر للاهانة.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحسن حال
129
المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة، وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للاستئناف إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلي أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى، وقوله تعالى: مِنْ أَساوِرَ قيل متعلق بيحلون، ومِنْ ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حليا أو شيئا من أساور، وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول، وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب وأَساوِرَ مفعول يُحَلَّوْنَ وقوله تعالى: مِنْ ذَهَبٍ صفة لأساور، ومِنْ للبيان، وقيل: لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب، وقيل: للتبعيض، وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله، وقرىء «يحلون» بضم الياء والتخفيف، وهو على ما في البحر بمعنى المشدد، ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق به ومن ابتدائية.
وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها. وقال أبو حيان: إذا صارت ذات حلي، وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلي بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذ زائدة، والمعنى يستحسنون فيها الأساور، وقيل: هذا الفعل لازم ومن سببية، والمعنى يحلى بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب.
وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به، ومنه قولهم: لم يحل فلان بطائل، ومن حينئذ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب. وقرأ ابن عباس «من أسور» بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنع الصرف، قد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر، وقوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً عطف على محل مِنْ أَساوِرَ أو على الموصوف المحذوف، وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤا أو نحو ذلك.
وقرأ أكثر السبعة والحسن في رواية وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة «ولؤلؤا» بالخفض عطفا على أَساوِرَ أو على ذَهَبٍ لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا حضرا أو أكثر ما يكون من المرجان. واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري: نعم، وقال الأصمعي: لا، وروى يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واوا، وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك.
وقرأ الفياض «لوليا» قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واوا قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واو قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس «وليليا» بقلب الهمزتين واوين ثم قبلهما ياءين، أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللاتباع. وقرأ طلحة «ولول» كادل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصودا بالذات. ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام، ولم يرتض ما قيل: إن التغيير لدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل، وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير يُحَلَّوْنَ ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة،
130
وقيل هو باعتبار الأغلب لما
أخرج النسائي وابن حبان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه»
وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثني مجمع عليها وأنه يكفر من استحل ذلك غير متأول، ولعل
خبر البيهقي في سننه. وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة»
إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرما بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأويل أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقا الجنة مشكل.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر: ٧٤] كما روي عن ابن عباس، وقيل: ما يعمه وسائر ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضا لبعض، وقيل: إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله، وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله، وزاد ابن زيد والله أكبر، وعن السدي هو القرآن، وحكى الماوردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأذكار وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي المحمود جدا، وإضافة صِراطِ إليه قيل بيانية. والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته، وقيل: الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: الْحَمِيدِ هو الجنة والإضافة على ظاهرها، والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة، واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز وجل المستحق لذاته لغاية الحمد. والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى. وقيل: الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف. وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا. وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه، وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة.
ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الأولى تارة بأنه لرعاية الفواصل وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال: إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض. وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضا من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما أعم من ذلك. فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال. وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال. وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضا في الأقوال والأفعال إيماء إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنفضتين للذة الاجتماع. ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن. والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر: ٣٤، ٣٥] لقوله تعالى: في سورة [فاطر: ٣٣، ٣٤] بعد قوله سبحانه: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلخ والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مما يحمد سلوكه في المعاشرة
131
والاجتماع في هاتيك البقاع فرارا من شائبة التأكيد كما لا يخفى على ذكر فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وعيد لصنف من الكفرة، وحسن عطف المضارع على الماضي لما أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم: فلان يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان، وقيل يَصُدُّونَ بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية تهويلا لأمر الصد، وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل كَفَرُوا أي وهم يصدون، وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الاسمية معنى وخبر إن محذوف للدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب أليم، وقدره الزمخشري بعد الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو الْمَسْجِدِ والموصوف وهو الَّذِي.
وأجيب باحتمال أنه جعل الَّذِي نعتا مقطوعا، وقدره ابن عطية بعد وَالْبادِ هو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم إلخ أولى منه، وقيل الواو في وَيَصُدُّونَ زائدة والجملة بعده خبر إن.
وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجواز زيادتها قول كوفي مرغوب عنه، والظاهر أن الْمَسْجِدِ عطف على سَبِيلِ وجوز أن يكون معطوفا على الاسم الجليل، والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل، والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، ويدل على ذلك قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي المقيم فيه والطارئ فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع على الصادين عنه، وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والباد، وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة،
فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها»
وذكر ابن سابط أن دور أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرة السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وأخرج ابن ماجه وابن أبي شيبة عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه لأن الناس في الانتفاع بها سواء، وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعا وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضا وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وجاز بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتي عيني. وفي البرهان في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل. وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها وإجارتها لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها، وفي آخر الفصل الخامس من التتار خانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم وكان يفتي لهم أن
132
ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ورخص فيها في غير أيام الموسم انتهى فليحفظ، قلت: وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى.
والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجازة بيوتها أيام الموسم مما لم ينفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب الإمام الكرخي ما نصه وروى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره، وكذا قال أبو يوسف، وقال هشام: أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو قول محمد انتهى.
والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات كتب ساداتنا الحنفية أن جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف بإذن المتولي، ولا يقال: إنه بناء غاصب كمن بنى بيتا في جامع لظهور الإذن هنا دونه ثمة، وكذا كراهة الإجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الإمامين جائز بلا كراهة قولا واحدا وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتي به الجواز، ومستند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية. وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر، وكذلك المساواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا أن الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق.
والاستدراك بأن له مدخلا على سبيل الإدماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته، وقد فسر سَواءً بما فسر كذا في الكشف، وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه الحنظلي وكان إسحاق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: ٤] فأضيفت الديار إلى مالكيها
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»
وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي، وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضى بالثمن من أنفق مالا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذلك ما ليس لغيره. وتعقب بأن الاستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه، ولذا قال ابن راهويه: وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال.
والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعند من قال بمثل قوله ونصب سَواءً على أنه مفعول ثان لجعلنا، والأول الضمير الغائب المتصل والْعاكِفُ مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان في الأصل مصدرا، ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم، واللام ظرف لما عنده.
وجوز أن يكون لِلنَّاسِ في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحا للناس أو معبدا لهم وسَواءً حالا من الهاء وكذا يكون حالا إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين.
وقرأ الجمهور «سواء» بالرفع على أنه خبر «والعاكف» مبتدأ، وضعف العكس لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال، وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي «سواء» بالنصب «العاكف» فيه بالجر، ووجه النصب ما تقدم، ووجه جر «العاكف» أنه بدل تفصيل
133
من الناس، وقيل: هو عطف بيان. وقرىء «والبادي» بإثبات الياء وصلا ووقفا، وقرىء بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئا ما أو مرادا ما، وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس.
وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية، وأصله إلحاد الحافر بِظُلْمٍ بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة، أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام، وقال أبو عبيدة: الباء زائدة و «إلحاد» مفعول يُرِدْ وأنشد عليه قول الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وأيد بقراءة الحسن «ومن يرد إلحاده بظلم» وهي على معنى إلحادا فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده، وقال أبو حيان: الأولى أن يضمن يُرِدْ معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية. وقرأت فرقة يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء أي من أتى فيه بإلحاد إلخ، وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام، وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد، وقيل: المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة، فقد أخرج عبد ابن حميد أنه سئل عن قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ إلخ فقال: ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء أعلاج من أهل البصرة إلى أعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك.
وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه
، وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه، وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام، وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال: كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال: نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله بلى والله نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن الشرطية. والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقا فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود وعكرمة وأبي الحجاج، وقال الخفاجي: الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضا وإن قيل إنها ليست كبيرة، وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى. وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات، وقال رحمه الله تعالى. سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده.
والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة، وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده بسوء:
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية. حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال: إنما يوفى استحلاله من قبل أهله، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما ينفعك في هذا المطلب، وحد بعضهم الحرام بقوله:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
134
وسبعة أميال عراق وطائف وجدة عشر ثم تسع جعرانه
ومن يمن سبع بتقديم سينه وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون حده ما ذكره. وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال: إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جياد، وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلاثمائة ذراع. وحكي أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه، ثم لما استخلف عثمان اشترى دورا أيضا ووسع بها وبنى المسجد والأروقة، ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته، ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار، ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام، ثم إن المنصور زاد في شقه الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام، ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دورا وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي.
وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي، ثم لما انتهت الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهدا في خدمته والسعي في مرمته.
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ويقال بوأه منزلا إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية، ومَكانَ مفعول به.
وقال الزجاج: المعنى بيتا له مكان البيت ليبنيه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه، والأول مروي عن ابن عباس، وقيل: اللام زائدة في المفعول به ومَكانَ ظرف لبوأنا. واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعا وشيء منهما متحقق هاهنا وأن مَكانَ الْبَيْتِ ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي، وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية، وقيل: مفعول بَوَّأْنا محذوف أي بوأنا الناس واللام في لِإِبْراهِيمَ لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له والمعول عليه ما قدمنا، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول والعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر، ويعبر عن مكان الشيء ببيته، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة، وقد بنيت خمس مرات، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام. روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه، والثالثة بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلّى الله عليه وسلّم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة، والرابعة بناء عبد
135
الله بن الزبير، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع والذراع أربع وعشرون إصبعا والإصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون: وأما طوها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعا وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعا، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبّب بالصفائح من الفضة، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع، والميزاب في وسط جدار الحجر. وعرض الملزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبعا، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلا للملتزم أربعة أذرع وخمس أصابع، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي. وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذرعا وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة، والباقي كان زر بالغنم سيدنا إسماعيل عليه السلام فأدخلوه في الحجر، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعا، وعرض جدار الحجر ذراعان، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعا ومن خارجه أربعون ذراعا وست أصابع، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حول الكعبة، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه، وإنا لنرجو من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه، وأَنْ في قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً قيل مفسرة، والتفسير باعتبار أن
التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ، وقال ابن عطية: مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح.
وقال أبو حيان: الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى، وحينئذ لا تنصب لفظا، وقول أبي حاتم: لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئا، والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام، ويؤيده قراءة عكرمة وأبي نهيك «أن لا يشرك» بالياء التحتية وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي عنده، ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة على ما قيل: فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم، ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع، ويجوز أن يكون الْقائِمِينَ بمعنى المقيمين و (الطائفين) بمعنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولا وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ أي ناد فيهم بِالْحَجِّ بدعوة الحج والأمر به،
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «لما فرغ ابراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: رب قد فرغت فقال:
أذن في الناس بالحج قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ قال: رب كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس
136
كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه أهل السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد يلبون»
وجاء في رواية أخرى عنه أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن فليس حاج بحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من أجاب يومئذ إبراهيم عليه السلام، وفي رواية أنه قام على الحجر فنادى، وعن مجاهد أنه عليه السلام قام على الصفا، وفي رواية أخرى عنه أنه عليه السلام تطاول به المقام حتى كان كأطول جبل في الأرض فأذن بالحج
، ويمكن الجمع بتكرر النداء، وأيا ما كان فالخطاب لإبراهيم عليه السلام. وزعم بعضهم أنه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك في حجة الوداع وروي ذلك عن الحسن وهو خلاف الظاهر جدا ولا قرينة عليه، وقيل: يأباه كون السورة مكية وقد علمت ما فيه أولها.
وقرأ الحسن وابن محيصن و «آذن» بالمد والتخفيف أي أعلم كما قال البعض، وقال آخرون: المراد به هنا أوقع الإيذان لأنه على الأول كان ينبغي أن يتعدى بنفسه لا بفي فهو كقوله: «يجرح في عراقيبها نصلي».
وقال ابن عطية: قد تصحفت هذه القراءة على ابن جني فإنه حكي عنهما «وآذن» فعلا ماضيا وجعله معطوفا على بَوَّأْنا وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بتصحيف بل قد حكى ذلك أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه، وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحج» بكسر الحاء حيث وقع، وقوله تعالى: يَأْتُوكَ جزم في جواب الأمر وهو أَذِّنْ على القراءتين وطَهِّرْ على الثالثة كما قال صاحب اللوامح: وإيقاع الإتيان على ضميره عليه السلام لكون ذلك بندائه، والمراد يأتوا بيتك، وقوله سبحانه: رِجالًا في موضع الحال أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم.
وقرأ ابن أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء والتخفيف وروي ذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع لراجل كطؤار لطائر أو هو جمع نادر، وروي عن هؤلاء وابن عباس ومحمد بن جعفر ومجاهد رضي الله تعالى عنهم «رجالا» بالضم والتشديد على أنه جمع راجل كتاجر وتجار، وعن عكرمة أنه قرأ «رجالى» كسكارى وهو جمع رجلان أو راجل، وعن ابن عباس وعطاء وابن حدير مثل ذلك إلا أنهم شددوا الجيم. وقوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عطف على رِجالًا أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد الشقة فهزله أو زاد هزاله، والضامر يطلق على المذكر والمؤنث، وعدل عن ركبانا الأخضر للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة.
وفي الآية دليل على جواز المشي والركوب في الحج، قال ابن العربي: واستدل علماؤنا بتقديم رِجالًا على أن المشي أفضل، وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان، وفي ذلك
حديث مرفوع فقد أخرج ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة مائة ألف حسنة»
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أن ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجّا وهما ماشيان.
وقال ابن الفرس: واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجب الحج على من في طريقه بحر ولا طريق له سواه لكونه لم يذكر في الآية. وتعقب بأنه استدلال ضعيف لأن مكة ليست على بحر وإنما يتوصل إليها على إحدى الحالين مشي
137
أو ركوب، وأيضا في دلالة عدم الذكر على عدم الوجوب نظر، وقوله تعالى: يَأْتِينَ صفة لضامر أو لكل، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وركبانا على ضوامر يأتين، وكُلِّ هنا للتكثير لا للإحاطة وما قيل من أنها إذا أضيفت لنكرة لم يراع معناها إلا قليلا ردوه بهذه الآية ونظائرها، وكذا ما قيل إنه يجوز إذا كانا في جملتين لأن هذه جملة واحدة.
وجوز أبو حيان أن يكون الضمير شاملا لرجال وكُلِّ ضامِرٍ والجملة صفة لذلك على معنى الجماعات والرفاق. وتعقب بأنه يلزمه تغليب غير العقلاء عليهم وقد صرحوا بمنعه. نعم قرأ عبيد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة «يأتون» واعتبار التغليب فيه على بابه، والمشهور جعل الضمير لرجالا وركبانا فلا تغليب، وجوز جعل الضمير للناس والجملة استئنافية مِنْ كُلِّ فَجٍّ أي طريق كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وأبي العالية وهو في الأصل شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وكأنهم جردوه عن معنى السعة لأنه لا يناسب هنا بل لا يخلو من خلل عَمِيقٍ أي بعيد وبه فسره الجماعة أيضا، وأصله البعيد سفلا وهو غير مناسب هنا.
وقرأ ابن مسعود «معيق» قال الليث: يقال عميق معيق لتميم وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق لِيَشْهَدُوا متعلق بيأتوك، وجوز أبو البقاء تعلقه. بأذن. أي ليحضروا مَنافِعَ عظيمة الخطر كثيرة العدد فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير. ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعا من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين مما ذهب إليه جمع وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات، وخص مجاهد منافع الدنيا بالتجارة فهي جائزة للحاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، واعترض بأن نداءهم ودعوتهم لذلك مستبعد، وفيه نظر، على أنه إنما يتأتى على ما جوزه أبو البقاء، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه تخصيص المنافع بالأخروية، وفي رواية عن ابن عباس تخصيصها بالدنيوية والتعميم أولى لَهُمْ في موضع الصفة لمنافع أي منافع كائنة لهم وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند النحر فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ أي مخصوصات وهي أيام النحر كما ذهب إليه جماعة منهم أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة وعدتها ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده عندنا وعند الثوري وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس. وأنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها، وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار التي يعول عليها تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وقال الشافعي والحسن وعطاء: أربعة أيام يوم العيد وثلاثة بعده
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق كلها أيام ذبح»
وعند النخعي وقت النحر يومان، وعند ابن سيرين يوم واحد، وعند أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم ولم نجد في ذلك مستندا يعول عليه. واستدل بذكر الأيام على أن الذبح لا يجوز ليلا، قال أبو حيان:
وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي انتهى. والمذكور في كتب الأصحاب أنه يجوز الذبح إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل.
وأما الاستدلال على عدم الجواز بذكر الأيام فكما ترى، وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وإليه ذهب أبو حنيفة عليه الرحمة وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة ولعل المراد بذكر اسمه تعالى على هذا ما قيل حمده وشكره عز وجل وعلى الأول قول الذابح: بسم الله والله أكبر على ما روي عن قتادة، وذكر أنه يقال مع ذلك:
اللهم منك ولك عن فلان، وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر. ورجح كونه بمعنى الشكر بأنه أوفق بقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.
138
واختار الزمخشري أن الذكر على بهيمة الأنعام أو مطلقا على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر، وذكر أنه دل بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات. وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر. وأنه قيل: عَلى ما رَزَقَهُمْ إلى آخره تشويقا في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهوينا عليهم في الإنفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير، وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها عشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها، وقد يقال مثل ذلك على تقدير إيفاء الذكر على ما يتبادر منه فَكُلُوا مِنْها التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها، والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا. وقد قالوا: إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة، ويدل على سبق النهي
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادّخروا»
وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها، وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، وعن مجاهد وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى الناس يسأل الْفَقِيرَ أي المحتاج، والأمر للندب عند الإمام على ذكره الخفاجي أيضا، ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابتان بالآية والادخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثا وقال بعضهم: لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية، وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضا. وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني، وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ هو في الأصل الوسخ والقذر، وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره، وقال أبو محمد البصري: التفث من التف وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور، وفسره جمع هنا بالشعور والأظفار الزائدة ونحو ذلك، والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازا أي ليزيلوا ذلك بتقليم الأظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الإبط وحلق الرأس والعانة، وقيل: القضاء مقابل الأداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم، والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال: التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، والقضاء على هذا بمعنى الأداء كأنه قيل: ثم ليؤدوا نسكهم. وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج ما لم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى، وقد يقال: إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤيده ما أخرجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قضاء التفث قضاء النسك كله.
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن، وعن عكرمة هي مواجب الحج، وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقا مجازا. وقرأ شعبة عن عاصم «وليوفوا» مشددا وَلْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له: لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر، وقيل: طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عدة من المناسك خلاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
139
أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سمى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط»
وإلى هذا ذهب ابن أبي نجيح وقتادة وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل: له رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصد أبرهة فأصابه ما أصابه، وأما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولعل ما وقع من القرامطة وإن أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم سنين من هذا القبيل، ويقال فيما يكون آخر الزمان من هدم الحبشة إياه وإلقاء أحجاره في البحر إن صح: إن ذلك من أشراط الساعة التي لا ترد نقضا على الأمور التي قيل باطرادها، وقيل: في الجواب غير ذلك. وعن مجاهد أنه إنما سمي بذلك لأنه لم يملك موضعه قط، وفي رواية أخرى عنه أن ذلك لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان، وعن ابن جبير أن العتيق بمعنى الجيد من قولهم:
عتاق الخيل وعتاق الطير، وقيل: فقيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الإعتاق إليه مجاز لأنه تعالى يعتق رقابهم بسبب الطواف به، وقال الحسن وابن زيد: العتيق القديم فإنه أول بيت وضع للناس وهذا هو المتبادر إلا أنك تعلم أنه إذا صح الحديث لا يعدل عنه، ثم إن حفظه من الجبابرة وبقاءه الدهر الطويل معظما يؤتى من كل فج عميق بمحض إرادة الله تعالى المبنية على الحكم الباهرة.
وبعض الملحدين زعموا أنه بنى في شرف زحل والطالع الدلو أحد بيتيه وله مناظرات سعيدة فاقتضى ذلك حفظه من الجبابرة وبقاءه معظما الدهر الطويل ويسمونه لذلك بيت زحل، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا، وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ من يقول بتأثير الطالع أتم بيان والله تعالى المستعان
140
ذلِكَ أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته وسط النديّ إذا ما ناطق نطقا
واختيار ذلِكَ هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل: هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة وهو ما يحترم شرعا، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع: هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام والمسجد الحرام، والبيت الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل فَهُوَ أي فالتعظيم خَيْرٌ لَهُ من غيره على أن خَيْرٌ اسم تفضيل. وقال أبو حيان: الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيرا له عِنْدَ رَبِّهِ أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير مَنْ لتشريفه والإشعار بعلة الحكم.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى. وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بناء على أن ما عبارة عما حرم في قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه لاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل: التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي القذر مِنَ الْأَوْثانِ أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية.
وفي تعريف الرِّجْسَ بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من المبالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل: من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاما ثم عين سبحانه
141
لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي البحر يمكن أن تكون للتبعيض بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية: إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى. ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغني عنه، وهاهنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريبا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ من جوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها.
وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل: الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر، والإشراك بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن مَنْ سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى ويؤيده قوله تعالى: فيما بعد غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكرارا انتهى. وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه. وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جدا وإنكار ذلك مكابرة فتأمل.
وقوله تعالى وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف قول الزور على الرجس بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل: هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائما قال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية.
وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالتخصيص. ولا يخفى أن التعميم أو منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام حُنَفاءَ لِلَّهِ مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي شيئا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولا أوليا وهما حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا. وجوز أن يكون حالا من واو وَاجْتَنِبُوا وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب من الإشراك، وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك، وقد شبه الإيمان بالسماء لعلوه
142
والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفرة وهذا السقوط إن كان في حق المرتد فظاهره وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: ٢٥٧] فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: ٢٩] وأصل الخطف الاختلاس بسرعة.
وقرأ نافع «فتخطّفه» بفتح الخاء والطاء مشددة وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش «فتخطّفه» بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضا «تخطفه» بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة، والجملة على هذه القراءة في موضع الحال، وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على خَرَّ وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهدة المخاطب تعجيبا له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة على الجملة أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تسقطه وتقذفه. وقرأ أبو جعفر وأبو رجاء «الرياح» فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة، وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: ٨٣] فالتشبيه في الآية مفرق. والظاهر أن تَهْوِي عطف على «تخطف» وأو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوي به الريح من مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلا، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير: إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفه الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا انتهبها منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الاحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر.
وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال: من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وجعل في الكشف أو على هذا للتخير وليس بمتعين فيما يظهر، وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان.
وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين، وتَهْوِي عطف على خَرَّ وعلى التفريق تشبيها واحدا وتَهْوِي عطف على «تخطف» وزعم أن في عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم ذلِكَ أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي البدن الهدايا كما روي عن ابن عباس ومجاهد وجماعة وهي جمع شعيرة
143
أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار، وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته.
وقال الراغب: لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة يشعر بها، ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان،
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب
، وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار وقد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال: بل اهدها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست الصفا والمروة والبدن والجمار والمسجد الحرام وعرفة والركن، وتعظيمها إتمام ما يفعل بها، وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: الشعائر مواضع الحج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد.
وقيل: هي شرائع دينه تعالى وتعظيمها التزامها، والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد، ومَنْ إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لا بد في قوله تعالى: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها إلخ، والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولا بد له من فاعل وهو ليس إلا ضميرا يعود إلى مَنْ فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها، ومَنْ تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوى القلوب وأن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب، وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث إن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت مَنْ. وقال الزمخشري: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّ من راجع من الجزاء إلى مَنْ ليرتبط به اهـ.
وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى مَنْ ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قبل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال إلخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤوا بضمير مجرور عائد إلى مَنْ في آخر الكلام أو في أثنائه، بعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لكن التزم جعل اللام في الْقُلُوبِ بدلا من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقوى قلوبهم. والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عاريا عن الراجع إلى مَنْ كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور.
وقال صاحب الكشف: في الانتصار له أيضا أراد أنه على ما قدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه. واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوي بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل (من) للتبعيض وأما إذا جعل للابتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولا، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف قال: إن إضمار الأفعال لأن المعنى أن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذوي تقوى. ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشىء من تقوى القلوب والاعتراض بأن قول الزمخشري: إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أنه حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع، ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى.
144
واعترض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد. وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره، وبأن القول بعدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضا من التقوى صلح لا يرضى به الخصم. وبأنه إذا صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري: لا يستقيم إلخ.
وتعقب بأنه غير وارد، أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من أعظمها وكونه ناشئا منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه، وأما الثاني فلأن الدلالة على الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت: هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهد به الذوق، وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير كون التعظيم بعضا بل يقول الرابط العموم كما قال أولا، وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفيا في قوة الخطأ إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض، وأقول: لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ومن في ذلك للتبعيض، وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان: تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق، وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرا ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه. والتركيب أشبه التراكيب بقولهم: العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم. ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر. ومن الناس من لم يوجب تقدر التعظيم وأرجع ضمير فَإِنَّها إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت»
أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من يُعَظِّمْ أي التعظيمة.
واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه.
نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم، ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع، على أنه قيل عليه:
إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى، ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى.
وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام الْقُلُوبِ لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلا. وذهب بعض أهل الكمال أن إلى الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقا لدلالة التعليل القائم مقامه عليه. وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الأعلام والأخبار كما عرف في أمثاله، وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل. وقرىء «القلوب» بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو تَقْوَى، واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية على مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعليق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه لَكُمْ فِيها أي في الشعائر بالمعنى السابق مَنافِعُ هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت أن يسميها ويوجبها هديا وحينئذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم ومجاهد وقتادة والضحاك، وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدي أصلا لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن
145
يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقا، نعم يجوز له الانتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما
روي عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة والسلام: اركبها فقال يا رسول الله: إنها هدي فقال: اركبها ويلك
. وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا أن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي،
فعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا»
واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الانتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدي كذلك لا يملك المهدي بيعه وإجارته ويملك الانتفاع به بغير ذلك، وقيل الأجل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة.
وروى أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة، وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها، وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه. ثُمَّ مَحِلُّها أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدرا ميما بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان، وهو على الاحتمالين معطوف على مَنافِعُ والكلام على تقدير مضاف.
وقوله تعالى: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ في موضع الحال أي منتهية إلى البيت، والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه، وقد جعلت منى منحرا
ففي الحديث «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر»
وقال القفال: هذا في الهدايا التي تبلغ منى وأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه، وقالت الإمامية: منحر هدي الحج منى ومنحر هدي العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة، والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل.
والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الحج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة وروي نحو ذلك عن مالك في الموطأ أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة إلخ، وهكذا يقال على ما روي عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست، وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام، وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال، وقيل كون محلها منتهيا إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك، وقيل: غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلا عن كلام رب العالمين، وأهون ما قيل: إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وضمير فِيها لها وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً عطف على قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أو على قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ وما في البين اعتراض على ما قيل، وكأني بك تختار الأول وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية، والمنسك موضع
146
النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدرا، وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدرا وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقا وشاع في أعمال الحج. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد، وقال قتادة: هو الحج. وقال ابن عرفة مَنْسَكاً أي مذهبا من طاعته تعالى.
واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم، فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص. وقرأ الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث «منسكا» بكسر السين، قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه (١) أن يكون الكسائي سمعه من العرب، قال الأزهري: الفتح والكسر فيه لغتان مسموعتان لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسباق، وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز وجل عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز بالخيل ونحوها. والفاء في قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر، والفاء في قوله سبحانه: فَلَهُ أَسْلِمُوا لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز وجل، وقيل: الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضا فإن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكا يدل على وحدانيته جل وعلا، ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء، وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلها لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلها لهم أن يكون عز وجل واحدا لأنه لا يستحق الألوهية أصلا من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى، وفي الكشف لما كانت العلة لقوله سبحانه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكرا عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا مسببا عنه تسببا حسنا. واعترض بقوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضا كون الذكر هو المقصود من شرعية النسك انتهى، وهو يشعر بأن الفاء الأولى للاعتراض والفاء الثانية للترتيب. ولعل ما ذكر أولا أظهر، وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهكم إله واحد فما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى، وإنما قيل: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته وتقديم الجار على الأمر للقصر، والمراد أخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالما خالصا لا تشوبه بإشراك وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم، والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال سفيان: هم الراضون بقضاء الله. وقال الكلبي: هم المجتهدون في العبارة، وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب: نزول الخبت وهو المطمئن من الأرض، ولا يخفى حسن وقع ذلك هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحاج الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ أي خافت قُلُوبُهُمْ منه عز وجل لإشراق أشعة الجلال عليها وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكاليف ومؤونات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضا، والظاهر أن الصبر
(١) فيه أن القراءة بالرواية فلا تغفل اهـ منه.
147
على المكاره مطلقا ممدوح. وقال الرازي: يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى، وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية «الصلاة» بالنصب على المفعولية لمقيمي وحذفت النون منه تخفيفا كما في بيت الكتاب:
الحافظو عورة العشيرة لا تأتيهم من ورائهم نطف (١)
بنصب عورة ونظير ذلك قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم مالك
وقوله:
ابني كليب إن عميّ اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وقرأ ابن مسعود والأعمش «والمقيمين الصلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة» بالإفراد والإضافة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري ناقة أو بقرة تنحر بمكة، وفي القاموس هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو ندر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن، وقال صاحب البارع من اللغويين: إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزى عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما
رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة»
فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخرا تأييد لذلك أيضا، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحدا.
ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر: إن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلا أوصى إليّ وأوصى ببدنة فهل تجزي عني بقرة؟ قال: نعم ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من رياح قال: ومتى اقتنى بنو رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد وعبد القيس فتدبر.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى «البدن» بضم الباء والدال، وقيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع وأبي جعفر.
(١) التلطخ بالعيب اهـ منه.
148
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسما مفردا بني على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب الْبُدْنَ على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرىء بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَكُمْ ظرف متعلق بالجعل، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ في موضع المفعول الثاني له، وقوله تعالى: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس، وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك. وقد أخرج ذلك جماعة عن ابن عباس، وفي البحر بأن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك.
صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن مسعود والباقر ومجاهد وقتادة وعطاء والكلبي والأعمش بخلاف عنه «صوافن» بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنّة، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة (١) عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها. وأخرج عن الحسن قيل له: كيف تنحر البدنة؟ قال: تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء قال: اعقل أي اليدين شئت.
وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر صَوافَّ بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلا، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن «صوافي» ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين: أحدهما أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلا من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا يصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم:
والصرف في الجمع أتى كثيرا حتى ادعى قوم به التخييرا
وقرأ الحسن أيضا «صواف» بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل صَوافَّ صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفي بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها بالتنوين ونحوه.
ولو أن واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
(١) وكذا أبو اهـ منه.
149
وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله:
يا باري القوس بريا لست تحسنها... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
وعلى ذلك قراءة بعضهم «صوافي» بإثبات الياء ساكنة بناء على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير عَلَيْها ولو جعل كما قيل بدلا من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجر عادة بذبحها قائمة وإنما تذبح مضطجعة وقلما شوهد نحر الإبل وهي مضطجعة فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه... ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع
وَالْمُعْتَرَّ أي المعترض للسؤال من اعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروي عن ابن عباس وجماعة وقال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي: الْقانِعَ السائل كما في قول عدي بن زيد:
وما خنت ذا عهد وأيت بعهده... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
وَالْمُعْتَرَّ المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعا إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظا ومعنى قنوعا. وعلى ذلك جاء قول الشاعر:
العبد حر إن قنع... والحر عبد إن قنع
فاقنع ولا تطمع فما... شيء يشين سوى الطمع
فلا يكون الْقانِعَ على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكما بتوهم من يقول بخلافه. وفي الصحاح نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضا أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعا لأنه يرضى بما يعطى قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعا إلى الرضى، وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعانا ومصدر الثاني قنوعا. ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساترا لفقره كقولهم: خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفا لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبي رجاء «القنع» بوزن الحذر بناء على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد «القانع» الجار وإن كان غنيا. وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل: المعتر الصديق الزائر، والذي أختاره من هذه الأقوال أولها.
وقرأ الحسن «والمعتري» اسم فاعل من اعترى وهو واعتر بمعنى. وقرأ عمرو وإسماعيل كما نقل ابن خالويه «المعتر» بكسر الراء بدون ياء، وروي ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضا عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفا منه واستغناء بالكسرة عنها. واستدل بالآية على أن الهدي يقسم أثلاثا ثلث لصاحبه وثلث للقانع وثلث للمعتر وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال محمد بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بقسمته أثلاثا أيضا إلا أنه قال: أطعم القانع والمعتر ثلثا والبائس الفقير ثلثا وأهلي ثلثا وفي القلب من صحته شيء.
وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما
150
ترى، قال ابن عطية: وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب.
وفي التيسير أمر (كلوا) للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر أَطْعِمُوا للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئا، وهذا في كل هدي نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصديق بجميعها فما أكله أو أهداه لغني ضمنه. وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدي التطوع والمتعة والقرآن وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب إلّا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه كَذلِكَ أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: صَوافَّ سَخَّرْناها لَكُمْ مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة.
وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لن يصيب رضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز وجل.
وقال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيما لها وتقربا إليه تعالى فنزلت هذه الآية، وروي نحوه عن ابن عباس. وغيره. وقرأ يعقوب وجماعة «أن تنال». «ولكن تناله» بالتاء. وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني آخر الحروف، وعن يحيى بن يعمر والجحدري أنهما قرءآ بعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لن ينال» «ولكن يناله» بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين ولحومها ولا دماءها بالنصب كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره سبحانه تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله تعالى:
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل فتوحدوه بالكبرياء، وقيل: أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح عَلى ما هَداكُمْ أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، فما مصدرية، وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف، ولا بد أن يعتبر منصوبا عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وعَلى متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل: لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم، وقال بعضهم: على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين، ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا، ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجها ليس فيما نحن فيه فافهم وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وعن ابن عباس هم الموحدون.
ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بالإعراض عن السوي وطلب الجزاء إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ وهي مبادئ القيامة الكبرى يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
وهي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الاستعداد وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
وهي الهيولات حَمْلَها
وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
الحيرة وَما هُمْ بِسُكارى
المحبة،
151
قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات. وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال. وسكر المريدين من لمعان الأنوار.
وسكر المحبين من كشوف الأسرار. وسكر المشتاقين من ظهور سني الصفات. وسكر العاشقين من مكاشفة الذات.
وسكر المقربين من الهيبة والجلال. وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال. وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية. وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من اطلاعهم على أسرار الأزلية:
ألم بنا ساق يجل عن الوصف وفي طرفه خمر وخمر على الكف
فأسكر أصحابي بخمرة كفه وأسكرني والله من خمرة الطرف
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعا في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنياهم فإن رأى شيئا من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها خَسِرَ الدُّنْيا بفقدان الجاه والقبول والافتضاح عند الخلق وَالْآخِرَةَ ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضى بما فعل الحكيم جل جلاله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه، وقد جعلها الله تعالى مثالا لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثنائهم بتلك الكلمات من حيث إنها كلماته تعالى نوابا عنه عز وجل ذلك في ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته، وللكعبة أيضا امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمي الكعبة تشبيها بالكعب، ولما جعل الله تعالى له بيتا في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت
«وما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقد يقال: محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده: أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام، وأودع سبحانه فيه كنزا أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل.
وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع. وقال بعضهم: ثمانية وعشرون ذراعا، وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلا للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد
152
بلغ الغاية. وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلا أو بقرا، وهذه مسألة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى. وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك، وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذلك، وذكر بعضهم أن لكل اسم تجليا خاصا فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الاستعداد ومن هاهنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة وإِذا لا تقتضي الكلية بل كثيرا ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية، وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجل قلبه ومتى سمعه منه عز وجل اطمأن. ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع، وأكثر مشايخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أن يشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم عن طمأنينة؟ وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلّى الله عليه وسلّم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أو الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضا، وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت، وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وشفع الرجلين لقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة: ٢٩] وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة، وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الاقتدار. وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة.
وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته» الحديث.
والسر في كون هديه عليه الصلاة والسلام من الإبل مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة والسلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب. وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلّى الله عليه وسلّم بأنه عليه الصلاة والسلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليتجنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الاقتدار والقوة، والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد، وجعل عليه الصلاة والسلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد، وعلق النعال بقلائد العهن ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وقد ذكروا لجميع أفعال الحج أسرارا من هذا القبيل، وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد.
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج: ٢٥] وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطردا لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد
153
تعظيم ما صد عنه، وتصديره لكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من جملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: ٦٤].
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع» والمفعول محذوف كما أشير إليه، وفي البحر أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي. وقيل: تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن أن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر لا يُحِبُّ على يبغض تنبيها على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى، ولعل الأول أولى لإيهام هذا إن الآية من قبيل قولك: إني أدفع زيدا عن عمرو لبغضي زيدا وليس في ذلك كثير عناية بعمرو أي إن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز وجل، وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقيد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أولا وإيراد معنى المبالغة ثانيا كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] وقد علمت ما فيه.
وأيا ما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة أُذِنَ أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أُذِنَ بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة.
وقرأ أبو عمر وأبو بكر ويعقوب «يقاتلون» على صيغة المبني للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا. والمراد بالموصول أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين في مكة فقد نقل الواحدي وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: ١٩]، وفي الإكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: ١١١]، وروى البيهقي في الدلائل وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيا عن ذكره.
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدا بليغا زيادة في توطين نفوس المؤمنين
154
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة بِغَيْرِ حَقٍّ متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم.
وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجا كائنا بهذه الصفة، واختار الطبرسي كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ استثناء متصل من حَقٍّ وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وجوز أن يكون الابدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا إلخ وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلا وكون ما بعد إلا بدلا من حَقٍّ بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ إلخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدمت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل: المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد: أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت إلخ.
وقال قوم: أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة: أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب: أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس. وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الافهام. والصوامع جمع صومعة بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول، وقال الراغب: هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقه والأصمع اللاصقة إذنه برأسه وهو قريب من قريب، وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والمراد بها هنا متعبد الرهبان عند أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات، والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة، قال الراغب: فإن يكن ذلك عربيا في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية، وقيل هي كنيسة اليهود.
وقرأ أهل المدينة ويعقوب «ولولا دفاع» بالألف. وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني «لهدمت» بالتخفيف، والتضعيف باعتبار كثرة المواضع.
155
وَصَلَواتٌ جمع صلاة وهي كنيسة اليهود. وقيل: معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال، وقيل: هي بمعناها الحقيقي وهدمت بمعنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك، وقيل: صَلَواتٌ معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى. وروي عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد أنهم قرؤوا بذلك، والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هارون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمة يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه صرف لمشابهته للجمع لفظا فيكون كعرفات، والظاهر أنه نكر إذ جعل عاما لما عرب، وأما القول بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي.
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: صَلَواتٌ بضم الصاد واللام،
وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري، وحكي عنه أيضا «صلوات» بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي، وقرأ أبو العالية في رواية «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأ الحجاج بن يوسف صلوات بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضا، وقرأ مجاهد «صلوتا» بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف، وقرأ الضحاك والكلبي «صلوث» بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة، وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف، وحكي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة، وحكي عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد، وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري «صلوب» بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليب كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراءات قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة وَمَساجِدُ جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين، وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث إن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه عزّ وجلّ، وقيل: لاختصاص السجود في الصلاة بالمسلمين، ورد بقوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: ٤٣] مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد، وقال ابن عطية: الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة، والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين.
ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم، ولعل تأخير صَلَواتٌ عن بِيَعٌ مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل، وقيل إنما جيء بهذه المتعبدات على هذا النسق للانتقال من شريف إلى أشرف فإنه البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم والصوامع معبد للرهبان فقط وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع لأنه الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها ولعل المراد من قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ إلخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الاختلال في أمر العباد لولا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمساجد، وقال الضحاك ومقاتل والكلبي: في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان، وكون كون بيان ذكر الله عزّ وجلّ في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الانتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لما قبل الانتساخ كما مر.
156
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وبالله أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم عَزِيزٌ لا يمانعه شيء ولا يدافعه الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع. وجوز أن يكون بدلا، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر، والمراد بالأرض جنسها، وقيل مكة، والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روي عن زيد بن أسلم.
ولعل الأولى في الأخيرين التعميم، والوصف بما ذكر كما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا: وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذلك على ما في الكشف لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ، ولما كان التمكين واقعا تم الاستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى من العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضا، وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة الجمع المنافية للتخصيص بعليّ وحده رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن وأبي العالية هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلا من قوله تعالى: مَنْ يَنْصُرُهُ كما أعربه الزجاج، وكذا يقال على ما روي عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون، وعلى ما روي عن أبي نجيح أنهم الولاة.
وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول وَلِلَّهِ خاصة عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط، وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسلية عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق (كذب) تاء التأنيث لأن الفاعل وهو قَوْمُ اسم جمع يجوز تذكيره وتأنيه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد.
وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضا أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أن وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح إلخ وَكُذِّبَ مُوسى المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل: (قَوْمُ نُوحٍ وقَوْمُ إِبْراهِيمَ وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيا
157
للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل. ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله. والأخذ كناية عن الإهلاك فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلا يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار. وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش، وقوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: أَهْلَكْناها أي فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله سبحانه: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أو مرفوع على الابتداء وجملة أَهْلَكْناها خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان:
الأجود في إعراب (كأين) أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل.
وقرأ أبو عمرو وجماعة «أهلكتها» بتاء المتكلم على وفق فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثم أخذتهم ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل: الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية من مفعول أهلكنا، وقوله تعالى: فَهِيَ خاوِيَةٌ عطف على أَهْلَكْناها فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة (كأين) إلخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتيب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضا بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سفوقها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوي خواء إذا خلت من أهلها، ويقال:
خوي البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوي النجم من ذلك فقال:
يقال خوي النجم وأخوي إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيها بذلك فقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا، وعَلى بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون عَلى عُرُوشِها خبرا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عطف على قَرْيَةٍ والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وآبر وبيار، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة «معطلة» بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله.
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ عطف على ما تقدم أيضا أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبني بالشيد بالكسر أي الجص
158
أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل، وهذا يؤيد وكون معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها، وفي البحر ينبغي أن يكون بِئْرٍ. وقَصْرٍ من حيث عطفها على قَرْيَةٍ داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما.
وزعم بعضهم عطفهما على عُرُوشِها وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني.
وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحا عليه السلام (١) حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم.
وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حيث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى:
فَتَكُونَ لَهُمْ منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية. وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على يَسِيرُوا وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى. ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها.
وقرأ مبشر بن عبيد «فيكون» بالياء التحتية قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول يَعْقِلُونَ محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى: أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
ضمير فَإِنَّها للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن، وعلى ذلك قراءة عبد الله «فإنه» وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالأبصار، وكأن الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تَعْمَى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير. واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا ليس منها. ورد بأنه من باب المبتدأ والخبر نحو إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩، المؤمنون: ٣٧، الجاثية: ٢٤] ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل: أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر
(١) فالظاهر أن قبره عليه السلام هناك، وقيل: هو بعكا وعليه الإمام أبو القاسم الأنصاري والله تعالى أعلم اهـ منه.
159
قلوبهم لا بإبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران:
١٦٧] وقولك: نظرت بعيني.
وقال الزمخشري قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول:
ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: ٧٢] فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدا فكأنه قيل له: أنت لا تدخل تحت عموم وَمَنْ كانَ إلخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر، نعم في صحة الرواية نظر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم، ولا يخفى حكم الخبر إذا روي هكذا. واستدل بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا إلخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا، وبقوله تعالى:
فَتَكُونَ إلخ على أن محل العقل القلب لا الرأس، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم.
وقال الإمام الرازي: في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئا علمه ولمن علم شيئا عقله، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل وهما متلازمان. وقال الأشعري: لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذا علم مخصوص فقيل: هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي، وقيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضا ولهم أقوال أخر، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما أو حادثا ونحو ذلك. واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في إبكار الأفكار بما له وعليه. واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة، ورد بأنه
160
إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة.
وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل: والحق أنه نور روحاني بي تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى، ثم إن في محلية القلب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور.
وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا. وفي أبكار الأفكار بعد نقل قول الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] وقوله سبحانه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقوله عز وجل أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤] انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير لقريش كان صلّى الله عليه وسلّم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم مجيئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزا له صلّى الله عليه وسلّم فأنكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظا واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل: كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه أو اعتراضية لما ذكر أيضا. وقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وإظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧] ولذا يرون مجيئه بعيدا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبار عما عنده من المقدار.
وقراءة الأخوين. وابن كثير «يعدّون» على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضا بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين، وقيل: المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: ٥٣] فتكون الجملة الأولى مطلقا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفى في رد
161
ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأيا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق. وقيل: المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل:
تمتع بأيام السرور فإنها قصار وأيام الهموم طوال
وعلى ذلك جاء قوله:
ليلي وليلى ففي نومي اختلافهما بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل: كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتما وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالا أو أنها تستطال لشدة عذابها.
واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى.
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو إخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه وهي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترهيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض إخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلا كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقا متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به. وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والإمهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدى به خبر محض لا شرط فيه وقيل: المراد به وعده تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث إن فيه خيرا له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرا وشرا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم.
162
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كم من سكنة قرية أَمْلَيْتُ لَها كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل: لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل: جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجأ بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إلى حكمي مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أجد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل.
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل: قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارا بينا بما أوحي إليّ من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فالزيادة هي إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار، ويجوز أن يقال: إن قوله سبحانه:
فَالَّذِينَ آمَنُوا الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجع فيه ذلك كأنه قيل: أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن دوام على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلا في المقول بخلاف الوجه الأول.
وقال بعض المحققين: الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة، وإنما كان صلّى الله عليه وسلّم نذيرا مبينا لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من أشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله: أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
كقوله صلّى الله عليه وسلّم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان»
وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها اهـ.
163
ولا مانع منه لولا ظاهر السياق، وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له، ومن منع من العموم لذلك قال: التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرا وتارة شعرا وتارة أساطير الأولين.
وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الإصلاح والإفساد يقال: سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه مُعاجِزِينَ أي مسابقين للمؤمنين والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني «معجزّين» بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول: فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وقرأ ابن الزبير «معجزين» بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك، قال صاحب اللوامح: والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون، وفسر مُعاجِزِينَ
في قراءة الجمهور بمثل ذلك، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير سَعَوْا وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملازمو النار الشديدة التأجج، وقيل هو اسم دركة من دركات النار.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مِنْ الأولى ابتدائية والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] والظاهر أن إِذا شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا: إن إِلَّا في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا [الحجر: ١١] إلخ أو (١) يكون الماضي مصحوبا بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذا لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن إِذا جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو أَلْقَى وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على رَسُولٍ يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضا ما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا، وقد أخرج ذلك. كما قال السيوطي. أحمد. وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حيان في صحيحه. والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر.
وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة
وجاء في رواية الرسل
(١) أو المنع الخلو اهـ منه.
164
ثلاثمائة وخمسة عشر
، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدا في نفسه كإسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا النبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانا وتفصيلا لشرع سابق والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول (١) من يأته الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير: وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناما وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.
وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني. على ما قال أبو مسلم. نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما:
تمنى كتاب الله أول ليلة تمني داود الزبور على رسل
وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: ١٢١] وقال سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: ١١٢] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة: ١٧٣، النحل: ١١٥] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلّى الله عليه وسلّم لرده أو بإنزال ما يرده ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، وثُمَّ للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلى رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في
(١) قائله الإمام الرازي.
165
الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار الشَّيْطانُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه حَكِيمٌ في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي الذي يلقيه. وقيل: إلقاءه فِتْنَةً أي عذابا. وفي البحر ابتلاء واختبار لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار المجاهرين، وقيل: المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة، وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي عداوة شديدة ومخالفة تامة، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، ولام لِيَجْعَلَ للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقي لكن التعليل لما ينبىء عنه إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة لعطف قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وكون ضمير أَنَّهُ للقرآن، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير أَنَّهُ لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليه السلام، وضميرا بِهِ ولَهُ في قوله تعالى: فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له.
ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: لِيَجْعَلَ إلخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل إلخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة النسخ وَلِيَعْلَمَ علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد، ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في أَنَّهُ. وبِهِ ولَهُ للموحي الذي يقرؤه كل من الرسل والأنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص، وأيا ما كان فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ اعتراض مقرر لما قبله، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز وجل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «لهاد» بالتنوين.
166
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْهُ أي من القرآن وقيل: من الرسول، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحي على ما سمعت و «من» على جميع ذلك ابتدائية، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان واختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحي من الشبه والتخيلات فتأمل حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى: بَغْتَةً أي فجأة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك، وقيل: أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز. وقيل: الموت على أن التعريف في السَّاعَةُ للعهد أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي منفرد عن سائر الأيام لا مثيل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيما والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف. و «أو» في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية، وقيل: المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم، وقيل المراد به يوم حرب يقتلون فيه، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقما، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازا في الإسناد، ومن ثم قيل: إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان، وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم، ويصح أيضا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر ابن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام، وقيل: ضمير أُمْنِيَّتِهِ للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و «في» للسببية مثلها في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات». وقيل: «تمنى» قرأ و «أمنيته» قراءته والضمير للنبي أو الرسول وفِي على ظاهرها، والمراد بما يلقي الشيطان ما يقع للقارىء من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوا، وقيل: المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مرادا لله تعالى، وقيل: تمنى هيأ وقدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبها فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ تشبيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يريده.
وقيل: تَمَنَّى قرأ وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي، وقد روي أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فألقي الشيطان في سكتته محاكيا نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة، وقيل: المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به، وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي تكلم بذلك عامدا لكن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين، وجعل من إلقاء الشيطان
167
لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزا إذ ذاك، وقيل: بل كان ساهيا،
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٨٩، ٢٠] قال: إن شفاعتهن ترتجى وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا- حتى بلغ- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
، قال الجلال السيوطي: وهو خبر مرسل صحيح الإسناد، وقيل: تكلم بذلك ناعسا. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: بينا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان (١) على لسانه كلمة فتكلم بها فقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي نرتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا، إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآيات، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحي حتى نبهه جبريل عليه السلام،
ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة النجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال: أعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قال له جبريل عليهما السلام: لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية.
وأخرج البزار والطبري وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك
لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضا مغايرة يسيرة غير ذلك، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار وابن مردويه أيضا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله،
وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه وَما أَرْسَلْنا
الآية قيل: والمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الأخبار فلا بدّ من تأويل ما
(١) قيل يقال لذلك الشيطان الأبيض اهـ منه.
168
لذلك، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال القاضي عياض في الشفاء: يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابا. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله: تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور. منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلّم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥] وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: ٩٩] إلى غير ذلك، ومنها زيادته صلّى الله عليه وسلّم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة، ومنها اعتقاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلّى الله عليه وسلّم، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك معتقدا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلّى الله عليه وسلّم وإما أن يكون معتقدا معنى آخر مخالفا لما اعتقدوه ومباينا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرا لهم على الباطل وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم أن يقر على ذلك.
ومنها كونه صلّى الله عليه وسلّم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة.
وقال ابن العربي: تصور الشيطان في صورة الملك ملبسا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسا على الخلق وتسليط الله تعالى على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك. ومنها التقول على الله تعالى إما عمدا أو خطأ أو سهوا. وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلّى الله عليه وسلّم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الإخبار بخلاف الواقع لا قصدا ولا سهوا، ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، لأنه أيضا يحتمل إلى غير ذلك. وذهب إلى صحتها الحافظ بن حجر في شرح البخاري وساق طرقا عن ابن عباس وغيره ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا مع أن لها طريقا متصلا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة.
وذهب إلى صحة القصة أيضا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن
169
عبد الرحمن وأبو العالية، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول: قال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسندا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلا مرفوعا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدي الكل ولم يكن ذلك مراد الله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمنى هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبا أن يعود لمثل تلك الحالة، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضا ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَجْعَلَ إلخ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناء على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقدا لمعنى مخالف لما اعتقدوه ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: ٢٣] فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى
[النجم: ٢٦].
وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة، وأما قول القاضي عياض: لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسا قادحا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية. وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسا على النبي بما لا يكون منافيا
170
للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة.
وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا ما يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلا ما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبا كإيقاع السهو عليه صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك تلبيسا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدا أنه مطابق للواقع بناء على اعتقاد التمام سهوا، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والأحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ بن حجر متعقب.
وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذا قيل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ إلخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ إلخ على انتقاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل.
هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فيكف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلّى الله عليه وسلّم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال: والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّتي هذه وما عرفته حتى ولى إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلّى الله عليه وسلّم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما.
وأيضا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد
171
إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى: أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا، وأيضا حفظه صلّى الله عليه وسلّم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤] وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلّى الله عليه وسلّم من خلو قلبه واشتغال لسانه على أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلّى الله عليه وسلّم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: ٣٥] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ويرد على قوله: إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن: ٢٧] قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن- كان- في ذلك للاستمرار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنو منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله: فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقي في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا.
ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر، وقد يقال: إن إعجاز القرآن معلوم له صلّى الله عليه وسلّم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي: إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان
172
بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد أن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلاوان شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى ترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما حرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذ سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى أيضا لا سيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والقول بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.
وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلّاء عارفون بالغث والسمين من الأخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: ٤٢] والمراد بالباطل كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلّى الله عليه وسلّم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الاستمرار.
وقال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه.
173
وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانا يسيرا لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل: بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال جل وعلا: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٤] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن.
والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضا، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلّى الله عليه وسلّم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخا (١) من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا.
وروى البخاري أيضا. والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس
إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم: ٥٠- ٤٥] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الإتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] أمسك على فم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل. وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩، ٢٠] بناء على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النجم: ٢١] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثا والحب للشيء يعمي ويصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا
(١) جاء في رواية أنه أمية بن خلف اهـ منه.
174
وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين.
واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخرا بعد سماع قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: ٢٣] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير هِيَ للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع.
واعترض على قوله في الجواب الخامس: إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد.
وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلّى الله عليه وسلّم بعد علمه بالمبلغ بأية قاطعة والمراد كما قال ابن ملك: العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل، والثاني ما وضح له صلّى الله عليه وسلّم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما
قال عليه الصلاة والسلام «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث
وهذا يسمى خاطر الملك، والثالث ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: ١٠٥] وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلّى الله عليه وسلّم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلّى الله عليه وسلّم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآنا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علما ضروريا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلا، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة.
ويجوز أن يقال: إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأنه احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوقب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: ٦٧] الآية، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: ٣٧] ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن
175
وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء المشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن «إذا» للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.
ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلّى الله عليه وسلّم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.
واعترض على قوله في الجواب أيضا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق إلخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي»
والظاهر أنه لا يتمثل به صلّى الله عليه وسلّم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم. من. ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولي، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.
وقالت الصوفية في ذلك: إن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحمق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلّى الله عليه وسلّم عن أن يظهر بها شيطان اهـ، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلّم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.
وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاده ما ليس قرآنا للتلبيس الناشئ عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.
وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتقاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.
ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلّى الله عليه وسلّم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.
176
وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلّى الله عليه وسلّم نطق بما نطق عمدا معتقدا للتلبيس أنه حاملا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها. وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق إلخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩، ٢٠] وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيا صوته صلّى الله عليه وسلّم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرا وأخذت العناية بيديه، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه صلّى الله عليه وسلّم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بما نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعني قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا إلخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل: هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم، هذا وأخرج عبد ابن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» فنسخ «ولا محدث» والمحدثون صاحب يس ولقمان، ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه السلام. الْمُلْكُ أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك، ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون لِلَّهِ وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه، وإضافة يوم إليه من إضافة العام إلى الخاص وهو متعلق بالاستقرار الواقع خبرا، وقوله سبحانه: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الأخبار بكون الملك يومئذ لله، وضمير الجمع للفريقين المؤمنين والكافرين لذكرهما أولا واشتمال التفصيل عليهما آخرا، نعم ذكر الكافرين قبيله ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل: فماذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ؟ فقيل: يحكم بينهم بالمجازاة، وجوز أن تكون حالا من الاسم الجليل فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سباقا كيفما كان متعلق الإيمان فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم الكثيرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك، وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الإيمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقة الآيات، والظاهر أن المراد بها الآيات التنزيلية، وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها الأعم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر
احتمالا في الآية، ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل، والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى: فَأُولئِكَ مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد. وقوله سبحانه: لَهُمْ عَذابٌ جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا للمبتدأ الثاني أو لَهُمْ خبر له وعَذابٌ مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب فبائحهم ولذا جيء بأولئك.
177
وقيل لهم عذاب بلام الاستحقاق وكان الظاهر في عذاب كما قيل: فِي جَنَّاتِ وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لإيجاب محاسنهم إياها، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: ٦] ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سببا، وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل: فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك إلخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى:
مُهِينٌ صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة، ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى علس لسان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات، وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أن للمتصف به دون عمل السيئات عذابا مهينا ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل، والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الاحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الظاهر كما لا يخفى.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا أي في تضاعيف المهاجرة، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرا، ومن منع أضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به، وقوله سبحانه: رِزْقاً حَسَناً إما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مبين للنوع، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ويؤيده ما
أخرجه ابن
178
أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا أجري عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرؤوا إن شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا- إلى قوله تعالى- حَلِيمٌ»
وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون: المراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة، ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم.
وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير رِزْقاً يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين، وقيل: المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلق الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر.
وقال الكلبي: هو الغنيمة، وقال الأصم: هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: ٨٨] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو موتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا، ولعل قائل ذلك يقول: إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضا.
وظاهر الآية على ما قيل: استواء من قتل ومن مات مهاجرا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم، وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا الآية.
ويؤيد ذلك بما
روي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان»
فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجرا في سبيل الله تعالى شهيدا كالقتيل وبه صرح بعضهم، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطي ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى، وما تقدم في سبب النزول غير مجمع عليه، فقد روي أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت، واستدل بعضهم بهذا أيضا على التسوية، وقال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد، وأيا ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل، ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولا أولياء في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تفخيما لشأنهم وهو كما ترى، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه.
واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد.
وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما
179
لا بأس به، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه «ليرزقنهم الله» أو بدل منه مقصود منه تأكيده ومُدْخَلًا إما اسم. مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل على الثاني: إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام.
وقرأ أهل المدينة «مدخلا» بالفتح والباقون بالضم وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم حَلِيمٌ فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضا مناسبة لما بعد ذلِكَ قد حقق أمره وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي من جازى الجاني مثل ما جني به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقابا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سببا للجزاء أطلق عليه مجازا مرسلا بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين: يجوز أن يقال: لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، ومَنْ موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للإله وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي: باء بِمِثْلِ آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى: بِهِ والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للإله وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة إلى العقاب لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠]. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: ٢٣٧]. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: ٤٣] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشريطة وهي عدم العدوان، وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية.
وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع، وثانيها أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قال في الكشف: فهو أي إِنَّ اللَّهَ إلخ على هذا أيضا تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضا للحث على العفو وهذا وجه وجيه اهـ، وثالثها أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى: مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والخبر الآخر قوله تعالى: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إحلاله ثانيا بذلك.
وجعل ذلك بعضهم من التقدم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل: إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى
180
بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك، ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر المسلمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية، ثم قال: فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظه ذلِكَ فصل للخطاب وقوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآيتين اهـ.
وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغيا ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصا وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب اهـ، وهو كلام رصين، ولا يعكر عليه قولهم: إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل، وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات.
واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح
وخبر «من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه»
لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا: إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ ذلِكَ إشارة إلى النصرة المدلول عليه بقوله تعالى:
لَيَنْصُرَنَّهُ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحا، ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ والباء فيه سببية، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك.
وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بين كل نهارين ليلا وبين كل ليلين نهارا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجرى فيهما على ايدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل، وعلى الأول قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب بَصِيرٌ بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لا بد منه إذ لا بد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى، وقيل: لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدره الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدا فتتعطل المصالح، وفيه أنه مع كونه لا يناسب السياق غير ظاهر لا سيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ على مدخول الباء فيما قبل، نعم الإشارة إلى الاتصاف في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
181
فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إلخ وكمال العلم الدال عليه سَمِيعٌ بَصِيرٌ بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعات ولا بد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه، وقيل: إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها هُوَ الْباطِلُ أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض.
وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ دون نظيره في تلك السورة، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا قاله النيسابوري، ويجوز أن يكون زيادة هُوَ في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد منه في ذلك الموضع فتأمل وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ على جميع الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأنا وأكبر سلطانا.
وقرأ الحسن «وإن ما» بكسر الهمزة، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر «تدعون» بالتاء على خطاب المشركين وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للمفعول على أن الواو ولما فإنه عبارة عن الآلهة، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهة العلو ماءً أي ألم تعلم ذلك، وجوز كون الرؤية بصرية نظرا للماء المنزل، والاستفهام للتقرير، وقوله تعالى: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي فتصير، وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلا فتصبح الأرض مخضرة، والأول أولى عطف على أَنْزَلَ والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله، والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الاستعداد التام للاخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى، وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها، والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول: أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له ولو قلت:
فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الاستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه، ففي البحر أنه يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام وهو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت: تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما تأتينا ولا تحدث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الاستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتقاء الاخضرار وهو خلاف المراد، وأيضا جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن تر إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال اهـ.
وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال: لو نصب الفعل جوابا للاستفهام لأعطى
182
ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار لكن تعقبه صاحب الفرائد حيث قال: لا وجه لما ذكره صاحب الكشاف ولا يلزم المعنى الذي ذكر بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركا لقوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ تابعا له ولم يكن تابعا الإنزال ويكون مع ناصبه مصدرا معطوفا على المصدر التي تضمنه أَلَمْ تَرَ والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل المراد أن يكون إصباح الأرض مخضرة بإنزال الماء فيكون حصول اخضرار الأرض تابعا للإنزال معطوفا عليه اهـ وفيه بحث.
وقال صاحب التقريب في ذلك: إن النصب بتقدير إن وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقبا والرفع جزم بأخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزما بإثباته لا أنه جزم بنفيه، ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري، وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين، أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر، والثاني أن الاستفهام المذكور بمعنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال: أَلَمْ تَرَ خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله تعالى يفعل كذا فيكون كذا، وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع؟ وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الاستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الاستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات، فإن قلت: الرؤية لا تكون سببا لا نفيا ولا إثباتا للاخضرار، قلت: الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضي في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه، واختار هذا في الاستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب، وأن المعنى المراد عليه ينقلب وقرىء «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مبقلة ومجزرة أي ذات خضرة إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي متفضل على العباد بإيصال منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء واخضرار الأرض بسببه خَبِيرٌ أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده.
وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه، وقال الكلبي: لطيف بأفعاله بأعمال عباده، وقال ابن عطية: اللطيف هو المحكم للأمور برفق، ونقل الآمدي أنه العالم بالخفيات، وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير، وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا فاللام للاختصاص التام وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الذي لا يفتقر إلى شيء أصلا الْحَمِيدُ الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة ومن الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وَالْفُلْكَ بالنصب وإسكان اللام، وقرأ ابن مقسم والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على ما عطف الخاص على العام تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها.
183
وجوز أن يكون عطفا على الاسم الجليل، وقوله تعالى: تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر وفي البحر هو إعراب بعيد عن الفصاحة، وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني «والفلك» بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة.
وجوز أن تكون حالية، وقيل: يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك، وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين، والكوفيون يقدرون لئلا تقع.
وقال أبو حيان: الظاهر أن تَقَعَ في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض، ورد بأن الإمساك بمعنى اللزوم يتعدى بالباء وبمعنى الكف بعن وكذا بمعنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما بمعنى المنع فهو غير مشهور، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة، قال الراغب:
يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى: هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: ٣٨] وكنى عن البخل بالإمساك اهـ، وصرح به الزمخشري والبيضاوي في تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: ٤١] نعم الأظهر هو الإعراب الأول، والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آنا فآنا. وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعا قطعا، وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة، وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف:
وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس، واستدلوا على استحالة قبول الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم.
والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطا لقوله عليه الصلاة والسلام «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضوع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد» وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع بمحض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها.
وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار التجددي أي يمسكها آنا فآنا من الوقوع إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بمشيئته، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون يُمْسِكُ فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها، وقيل: استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها متلبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر، وفي البحر أن الجار والمجرور متعلق بتقع، وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى، ولعمري إن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلا عن أن يكون صريحا فيه، والظاهر أن المراد بالسماء
184
جنسها الشامل للسماوات السبع، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل: الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعا الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا وهو الممسك السماوات السبع أن يقمن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات.
والظاهر أيضا أن مساق الآية للامتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الانتفاع به من وقوع السماء على الأرض، وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، وجعل الجملة تعليلية لما في ضمن أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ إلخ أظهر فيما قلنا، والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل: ما تقتضي جلب المصالح ولكون درء المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رؤوف على رحيم، وفي كل ما امتن به سبحانه درء وجلب، نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم (رؤف) للفاصلة وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر، وتقديم بِالنَّاسِ للاهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند مجيء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند البعث إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود بالنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده، وقيل المراد بالإنسان الكافر وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس أيضا أنه قال: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبي بن خلف ولعل ذلك على طريق التمثيل لِكُلِّ أُمَّةٍ كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه عليه الصلاة والسلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته عليه الصلاة والسلام بيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية جَعَلْنا وضعنا وعينا مَنْسَكاً أي شريعة خاصة، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر لا لأمة أخرى منهم، والكلام نظير قولك لكل من فاطمة وزينب وهند وحفصة أعطيت ثوبا خاصا إذا كنت أعطيت فاطمة ثوبا أحمر وزينب ثوبا أصفر وهندا ثوبا أسود وحفصة ثوبا أبيض فإنه بمعنى لفاطمة أعطيت ثوبا أحمر لا لأخرى من أخواتها ولزينب أعطيت ثوبا أصفر لا لأخرى منهن وهكذا، وحاصل المعنى هنا عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة ما إلى شريعة أخرى لا استقلالا ولا اشتراكا، وقوله تعالى: هُمْ ناسِكُوهُ صفة لمنسكا مؤكدة للقصر، والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكون به وعاملون لا أمة أخرى فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام منسكهم ما في التوراة هم عاملون به لا غيرهم والتي من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث نبينا صلّى الله عليه وسلّم منسكهم ما في الإنجيل هم عاملون به لا غيرهم، وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم ما في القرآن ليس إلا، والفاء في قوله سبحانه: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي أمر الدين لترتيب النهي على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتها أمته عليه الصلاة والسلام شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم ما عين لها موجب لطاعة هؤلاء له صلّى الله عليه وسلّم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعما منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم مما في التوراة والإنجيل فإن ذلك شريعة لمن مضى قبل انتساخه وهؤلاء أمة مستقلة شريعتهم ما في القرآن فحسب، والظاهر أن المراد نهيهم حقيقة عن النزاع في ذلك.
واختار بعضهم كونه كناية عن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات إلى نزاعهم المبني على زعمهم المذكور لأنه أنسب
185
بقوله تعالى الآتي: وَادْعُ إلخ، وأمر إلا نسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر، وقال الزجاج: هو نهي له عليه الصلاة والسلام عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية، وهذا إنما يجوز على ما قيل وبحث فيه من باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضربنك زيد أن تريد لا تضربنه.
وتعقب بأنه لا يساعده المقام، وقرىء «فلا ينازعنك» بالنون الخفيفة، وقرأ أبو مجلز، ولا حق بن حميد «فلا ينزعنك» بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره.
وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن.
وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة، لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذا، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذا عند الجمهور.
وقال سيبويه: كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول (١) : نازعني فنزعته استغني عنه بغلبته، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهي له صلّى الله عليه وسلّم عن فعل غيره، هذا وما ذكرتا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال، وقال الإمام: هو الأقرب، وقيل: هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة، قال ابن عطية: يعطي ذلك هُمْ ناسِكُوهُ وقيل: هو اسم زمان، وقيل: اسم مكان، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك، وقال مجاهد: هو الذبح.
وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعبد بن حميد عن عكرمة، وجعل ضمير يُنازِعُنَّكَ للمشركين، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء. وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى، ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور. وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل، وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها، وقيل: المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه.
وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا لا شك في صحته، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولا في
(١) قيل إن ذلك في الأشهر فليحفظ اهـ منه.
186
تفسير الآية، وأيا ما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا [الحج: ٣٤] إلخ لضعف الجامع بنيها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك. وفي الكشف بيانا لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى: لَكُمْ فِيها أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: ٢٨] إلا أن فيه تخصيصا بالمخاطبين فعطف عليه وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه لم يزل متضمنا لمنافع جليلة في الدارين، وأما فيما نحن فيه فأين حديث النسائك من حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ولعمري إن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لكن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع، وذكره هاهنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق اهـ، وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح.
وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: ٣٢] إلخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة.
وهذه الآية مقدمة نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكا ودينا يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقا وديناهم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة. سمي دأبهم نسكا لا يجابههم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكما بهم ومسلاة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم مما كان يلقى منهم، وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الحج: ٥٥] يوجب القلع عن إنذار القوم وإلا يأس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجيء بقوله تعالى:
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ تحريضا له عليه الصلاة والسلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فالربط على طريقة الاستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي، والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الحج: ٣] وكررها وجعلها أصلا للمعنى المهتم به وكلما شرع في أمر كر إليه تثبيتا لقلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة والسلام فلا يقال: إن هذه الآية واقعة مع أباعد عن معناها انتهى، ولعمري إنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق. وقد تعقب الكشف اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتأكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ الآيات لا سيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للاستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى: فَلا يُنازِعُنَّكَ إلخ، وأما قوله والذي يدور عليه إلخ فهو مسلم وهو عليه لإله فتأمل والله تعالى الموفق للصواب.
وَادْعُ أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولا أوليا إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته حسبما بين في منسكهم وشريعتهم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة
187
مكنية وتخييليتها على، وقوله تعالى: مُسْتَقِيمٍ أي سوي أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح، ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها، والجملة استئناف في موضوع التعليل.
وَإِنْ جادَلُوكَ في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة فَقُلِ لهم على سبيل الوعيد اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها، وهذا إن أريد به الموادعة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصا بالكافرين كالذي قبله ولا داخلا في حيز القول، وجوز أن يكون داخلا فيه على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين، وقيل الجدال والاختلاف في أمر الذبائح، ومعنى الاختلاف ذهاب كل إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
أَلَمْ تَعْلَمْ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام للتقرير أي قد علمت أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها أقول الكفرة وأعمالهم إِنَّ ذلِكَ أي ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ هو كما روي عن ابن عباس اللوح المحفوظ، وذكر رضي الله تعالى عنه أن طوله
188
مسيرة مائة عام وأنه كتب فيه ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنكر ذلك أبو مسلم وقال: المراد من الكتاب الحفظ والضبط أي إن ذلك محفوظ عنده تعالى، والجمهور على خلافه، والمراد من الآية أيضا تسليته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل إن الله يعلم إلخ فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من العلم والإحاطة بما في السماء والأرض وكتبه في اللوح والحكم بينكم، وقيل: ذلِكَ إشارة إلى الحكم فقط، وقيل إلى العلم فقط، وقيل إلى كتب ذلك في اللوح، ولعل كونه إشارة إلى الثلاثة بتأويل ما ذكر أولى عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فإن علمه وقدرته جل جلاله مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور، وتقديم الجار والمجرور لمناسبة رؤوس الآي أو للقصر أي يسير عليه جل وعلا لا على غيره وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم وهي بناء أمرهم على غير مبنى دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقي إليهم من سلطان بين هو أساس الدين أي يعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى ما لَمْ يُنَزِّلْ أي بجواز عبادته سُلْطاناً أي حجة، والتنكير للتقليل، وهذا إشارة إلى الدليل السمعي الحاصل من جهة الوعي.
وقوله سبحانه: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى الدليل العقلي أي ما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل أو استدلاله، والحاصل يعبدون من دون الله ما لا دليل من جهة السمع ولا من جهة العقل على جواز عبادته، وتقديم الدليل السمعي لأن الاستناد في أكثر العبادات إليه مع أن التمسك به في هذا المقام أرجئ في الخلاص إن حصل لوم من التمسك بالدليل العقلي، وإن شككت فارجع إلى نفسك فيما إذ لامك شخص على فعل فإنك تجدها مائلة إلى الجواب بأني فعلت كذا لأنك أخبرتني برضاك بأن أفعله أكثر من ميلها إلى الجواب بأن فعلته لقيام الدليل العقلي وهو كذا على رضاك به وإنكار ذلك مكابرة، وقد يقال: إنما قدم هنا ما يشير إلى الدليل السمعي لأنه إشارة إلى دليل سمعي يدل على جواز تلك العبادة منزل من جهته تعالى غير مقيد بقيد بخلاف ما يشير إلى الدليل العقلي فإن فيه إشارة إلى دليل عقلي خاص بهم، وحاصله أن التقديم والتأخير للإطلاق والتقييد وإن لم يكونا لشيء واحد فافهم، وقال العلامة الطيبي: في اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل ومقابله بالعلم دليل واضح على أن الدليل السمعي هو الحجة القاطعة وله القهر والغلبة وعند ظهوره تضمحل الآراء وتتلاشى الأقيسة ومن عكس ضل الطريق وحرم التوفيق وبقي متزلزلا في ورطات الشبه وإن شئت فانظر إلى التنكير في سُلْطاناً وعِلْمٌ وقسهما على قول الشاعر:
له حاجب في كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب
لتعلم الفرق إلى آخر ما قال، ومنه يعلم وجه للتقديم واحتمال آخر في تنوين سُلْطاناً غير ما قدمنا، وظاهره أن الدليل السمعي يفيد اليقين مطلقا وأنه مقدم على الدليل العقلي، ومذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنه لا يفيد اليقين مطلقا لتوقف ذلك على أمور كلها ظنية فتكون دلالته أيضا ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة، والحق أنه قد يفيد اليقين في الشرعيات دون العقليات بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات.
وذكر الفاضل الرومي في حواشيه على شرح المواقف بعد بحث أن الحق أنه قد يفيد اليقين في العقليات أيضا وأما أنه مقدم على الدليل العقلي فالذي عليه علماؤنا خلافه، وأنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي إلى ما لا يعارضه الدليل العقلي إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقدم السمع على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضا لنفسه وكان باطلا لكن ظاهر
189
كلام محيي الدين بن العربي قدس سره في مواضع من فتوحاته القول بأنه مقدم، ومن ذلك قوله في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من أبيات:
كل علم يشهد الشرع له... هو علم فبه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل... طورك الزم ما لكم فيه قدم
وقوله في الباب الأربعمائة والاثنين والسبعين:
على السمع عولنا فكنا أولي النهى... ولا علم فيما لا يكون عن السمع
إلى غير ذلك وهو كأكثر كلامه من وراء طور العقل وَما لِلظَّالِمِينَ أي وما لهم إلا أنه عدل إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم مع تعليل الحكم به، وجوز أن لا يكون هناك عدول، والمراد ما يعمهم وغيرهم ودخولهم أولى، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ نَصِيرٍ سيف خطيب، والمراد نفي أن يكون لهم بسبب ظلمهم من يساعدهم في الدنيا بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم ودفع ما يخالفه وفي الآخرة بدفع العذاب عنهم.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا عطف على يَعْبُدُونَ وما بينهما اعتراض، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، وقوله تعالى: بَيِّناتٍ حال من الآيات أي واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في وجوههم، والعدول على نحو ما تقدم، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لمن يصح أن يعرف كائنا من كان الْمُنْكَرَ أي الإنكار على أنه مصدر ميمي، والمراد علامة الإنكار أو الأمر المستقبح من التجهم والبسور والهيئات الدالة على ما يقصدونه وهو الأنسب بقوله تعالى: يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليدا، ولا يخفى ما في ذلك من الجهالة العظيمة، وكان المراد أنهم طول دهرهم يقاربون ذلك وإلا فقد سطوا في بعض الأوقات ببعض الصحابة التالين كما في البحر، والجملة في موقع الحال من المضاف إليه، وجوز أن يكون من الوجوه على أن المراد بها أصحابها وليس بالوجه.
وقرأ عيسى بن عمر «يعرف» بالبناء للمفعول «المنكر» بالرفع قُلْ على وجه الوعيد والتقريع أَفَأُنَبِّئُكُمْ أي أخاطبكم أو أتسمعون فأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الذي فيكم من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلي عليكم النَّارُ أي هو أو هي النار على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما هو؟ وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى: وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو على الوجه الأول جملة مستأنفة، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر.
وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما النَّارُ بالنصب على الاختصاص، وجملة وَعَدَهَا إلخ مستأنفة أو حال من النَّارُ بتقدير قد أو بدونه على الخلاف، ولم يجوزوا في قراءة الرفع الحالية على الإعراب الأول إذ ليس في الجملة ما يصح عمله في الحال.
وجوز في النصب أن يكون من باب الاشتغال وتكون الجملة حينئذ مفسرة. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة «النار» بالجر على الإبدال من شر، وفي الجملة احتمالا الاستئناف والحالية، والظاهر معنى أن يكون الضمير في «وعدها» هو المفعول الثاني والأول الموصول أي وعد الذين كفروا إياها، والظاهر معنى لفظا أن يكون
190
المفعول الأول والثاني الموصول كأن النار وعدت بالكفار لتأكلهم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلا وتسير في الأمصار والأعصار، وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر، وقيل المثل على حقيقته وضُرِبَ بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكي ذلك عن الأخفش، والكلام متصل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلا لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني، ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكي عن الأخفش تفسيرا أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي، فإن المعنى جعل الكفار لله مثلا فاستمعوا لحاله وما يقال فيه، والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكي فيه عدول عن المتبادر.
والظاهر أن الخطاب في يا أَيُّهَا النَّاسُ لجميع المكلفين لكن الخطاب في تَدْعُونَ للكفار. واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني، وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك: أنتم يا بني تميم قتلتم فلانا وفيه بحث.
وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للفاعل كما في قراءة الجمهور قرأ اليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء من تحت أيضا مبنيا للمفعول، والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته، ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال: لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل، وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفي وهو الخلق والمنفي عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه، والظاهر أن لا يستغنى عن معونة المقام أيضا، وأنت تعلم أن في إفادة لن النفي المؤكد خلافا فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في أنموذجه بإفادتها التأبيد.
وذهب الجمهور وقال أبو حيان: هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأييد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة القرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذبابا ولو اجتمعوا له لفهم ذلك، ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاة: إن الإفادة فيه من خارج ولا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبدا، والانتصار له بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأييد ليس بشيء أصلا كما لا يخفى، وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتمادا على ما لا ينتهض دليلا شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان، والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكي في البحر ضمها في ذبان أيضا، وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الاختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الاختلاف حتى قيل: إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع، وجواب لَوِ
191
محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا له ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل: لن يخلقوا ذبابا على كل حال.
وقال بعضهم: الواو للحال وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ بجوابه حال، وقال آخرون: إن لَوِ هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير، والمعنى لن يخلقوا ذبابا مفروضا اجتماعهم وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً بيان لعجزه عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه.
والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ، وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجز لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ ما يختطفه منهم ما لا يخفى، والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وقيل: كانوا يضمخونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة.
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ تذييل لما قبل أخبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدي والضحاك وكون عابد ذلك طالبا لدعائه إياه واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه، وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب.
وروى ابن مردويه وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب، وفي هذا التذييل حينئذ إيهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلبا ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك، ومن الناس من اختار الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير آلهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال الحسن والفراء: أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه فإن تعظيمه تعالى حق تعظيمه أن يوصف بما وصف به نفسه ويعبد كما أمر أن يعبد وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فإنهم عبدوا من دونه من لا يصلح للعبادة أصلا وفي ذلك وصفه سبحانه بما نزه عنه سبحانه من ثبوت شريك له عز وجل.
وقال الأخفش: أي ما عرفوه حق معرفته فإن معرفته تعالى حق معرفته التصديق به سبحانه موصوفا بما وصف به نفسه وهؤلاء لم يصدقوا به كذلك لشركهم به وعبادتهم من دونه من سمعت حاله، وقيل: حق المعرفة أن يعرف سبحانه بكنهه وهذا هو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك».
وأنت تعلم أن الظاهر أن قوله تعالى: ما قَدَرُوا إلخ أخبار عن المشركين وذم لهم ومتى كان المراد منه نفي المعرفة بالكنه كان الأمر مشتركا بينهم وبين الموحدين فإن المعرفة بالكنه لم تقع لأحد من الموحدين أيضا عند
192
المحققين ويشير إلى ذلك الخبر المذكور لدلالته على عدم حصولها لأكمل الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وإذا لم تحصل له صلّى الله عليه وسلّم فعدم حصولها لغيره بالطريق الأولى، واحتمال حمل المعرفة المنفية فيه على اكتناه الصفات لا يخفى حاله، وكذا احتمال حصول المعرفة بالكنه له عليه الصلاة والسلام بعد الأخبار المذكور،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا قدره».
والظاهر عموم الحكم دون اختصاصه بالمخاطبين إذ ذاك، وقول الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك،
وقول علي كرم الله تعالى وجهه متما له بيتا: والبحث عن سر ذات الله إشراك.
بل قال حجة الإسلام الغزالي وشيخه إمام الحرمين والصوفية والفلاسفة بامتناع معرفته سبحانه بالكنه، ونقل عن أرسطو أنه قال في ذلك: كما تعتري العين عند التحديق في جرم الشمس ظلمة وكدورة تمنعها عن تمام الإبصار كذلك تعتري العقل عند إرادة اكتناه ذاته تعالى حيرة ودهشة تمنعه عن اكتناهه سبحانه.
ولا يخفى أنه لا يصلح برهانا للامتناع وغاية ما يقال: إنه خطابي لا يحصل به إلا الظن الغير الكافي في مثل هذا المطلب، ومثله الاستدلال بأن جميع النفوس المجردة البشرية وغيرها مهذبة كانت أو لا أنقص تجردا تنزها من الواجب تعالى والأنقص يمتنع له اكتناه من هو أشد تجردا وتنزها منه كامتناع اكتناه الماديات للمجردات، وكذا الاستدلال بكونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فيمتنع إدراكه كما يمتنع إدراك البصر ما اتصل به، وأحسن من ذلك كله ما قيل: إن معرفة كنهه ليست بديهية بالضرورة بالنسبة إلى شخص وإلى وقت فلا تحصل لأحد في وقت بالضرورة فتكون كسبية والكسب إما تحد تام أو ناقص وهو محال مستلزم لتركب الواجب لوجوب تركب الحد من الجنس القريب أو البعيد ومن الفصل مع أن الحد الناقص لا يفيد الكنه، وأما الحد البسيط بمفرد فمحال بداهة فإن ذلك المفرد إن كان عين ذاته يلزم توقف معرفة الشيء على معرفة نفسه من غير مغايرة بينهما ولو بالإجمال والتفصيل كما في الحد المركب مع حده التام، وإن كان غيره فلا يكون حدا بل هو رسم أو مفهوم آخر غير محمول عليه وإما برسم تام أو ناقص ولا شيء منهما مما يفيد الكنه بالضرورة.
واعترض بأن عدم إمكان البداهة بالنسبة إلى جميع الأشخاص وإلى جميع الأوقات يحتاج إلى دليل فربما تحصل بعد تهذيب النفس بالشرائع الحقة وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية، ولو سلمنا عدم إمكان البداهة كذلك فلنا أن نختار كون المعرفة مما تكتسب بالحد التام المركب من الجنس والفصل وغاية ما يلزم منه التركيب العقلي وليس بمحال إلا إن قلنا بأنه يستلزم التركيب الخارجي المستلزم للاحتياج إلى الأجزاء المنافي لوجوب الوجود، ونحن لا نقول بذلك لأن المختار عند جمع أن أجزاء الماهية مأخوذة من أمر واحد بسيط وهي متحدة ماهية ووجودا فتكون أمورا انتزاعية لا حقيقته فلا استلزام، نعم يكون ذلك إن قلنا: إن الأجزاء مأخوذة من أمور متغايرة بحسب الخارج لكن لا نقول به لأنه إن قيل حينئذ بتغاير الأجزاء أنفسها ماهية ووجودا كما ذهب إليه طائفة يرد لزوم عدم صحة الحمل بينها ضرورة أن الموجودين بوجودين متغايرين لا يحمل أحدهما على الآخر كزيد وعمرو، وإن قيل بتغايرها ماهية لا وجودا ليصح الحمل كما ذهب إليه طائفة أخرى يرد لزوم قيام الوجود الواحد بالشخص بموجودات متعددة متغايرة بالماهية، ولو سلمنا الاستلزام بين التركيب العقلي والتركب الخارجي فلنا أن نقول: لا نسلم أنه لا شيء من الرسم مما يفيد الكنه بالضرورة كيف وهو مفيد فيما إذ كان الكنه لازما للرسم لزوما بينا بالمعنى الأخص بل يمكن إفادة كل رسم إياه على قاعدة الأشعري من استناد جميع الممكنات إليه تعالى بلا شرط وإن لم تقع تلك الإفادة أصلا إذ الكلام في امتناع حصول الكنه بالكسب كذا قالوا () :
193
واستدل الملا صدرا على نفي الأجزاء العقلية له تعالى بأن حقيقته سبحانه آنية محضة ووجود بحت فلو كان له عز وجل جنس وفصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ يقال: ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو ماهية غير الوجود، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضنا فصلا ليس بفصل إذ الفصل ما به يوجد الجنس وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد حقق أن نفس الوجود حقيقته بلا شمول، وأيضا لو كان له تعالى جنس لكان مندرجا تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية فيكون مشاركا لسائرها في الجنس وقد برهن على إمكانها وحقق أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المستلزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقا له إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس أي مطلقا لكان ممتنعا على كل فرد فإذا يلزم من ذلك إمكان الواجب تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ومبنى هذا أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت وهو مما ذهب الحكماء وأجلة من المحققين، وليس المراد من هذا الوجود المعنى المصدري الذي لا يجهله أحد فإنه مما لا شك في استحالة كونه حقيقة الواجب سبحانه بل هو بمعنى مبدأ الآثار على ما حققه الجلال الدواني وأطال الكلام فيه في حواشيه على شرح التجريد وفي شرحه للهياكل النورية وفي غيرهما من رسائله، وللملا صدرا (١) في هذا المقام والبحث في كلام الجلال كلام طويل عريض وقد حقق الكلام بطرز آخر يطلب من كتابه الأسفار بيد أنا نذكر هنا من كلامه سؤالا وجوابا يتعلقان فيما نحن فيه فنقول:
قال فإن قلت: كيف يكون ذات الباري سبحانه عين حقيقة الوجود والوجود بديهي التصور وذات الباري مجهول الكنه؟ قلت: قد مر أن شدة الظهور وتأكد الوجود هناك مع ضعف قوة الإدراك وضعف الوجود هاهنا صار منشأين لاحتجابه تعالى عنا وإلا فذاته تعالى في غاية الإشراق والإنارة، فإن رجعت وقلت: إن كان ذات الباري نفس الوجود فلا يخلو إما أن يكون الوجود حقيقة الذات كما هو المتبادر أو يكون صادقا عليها صدقا عرضيا كما يصدق عليه تعالى مفهوم الشيء، وعلى الأول إما أن يكون المراد به هذا المعنى العام البديهي التصور المنتزع من الموجودات أو معنى آخر والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي أن يكون حقيقته تعالى غير ما يفهم من لفظ الوجود كسائر الماهيات غير أنك سميت تلك الحقيقة بالوجود كما إذا سمي إنسان بالوجود ومن البين أنه لا أثر لهذه التسمية في الأحكام وأن هذا القسم راجع إلى الواجب ليس الوجود الذي الكلام فيه ويلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد برهن أن كل ذي ماهية معلول، وعن الثاني وهو أن يصدق عليه تعالى صدقا عرضيا فلا يخفى أن ذلك لا يغنيه عن السبب بل يستدعي أن يكون موجودا ولذلك ذهب جمهور المتأخرين من الحكماء إلى أن الوجود معدوم فأقول: منشأ هذا الإشكال حسبان أن معنى كون هذا العام المشترك عرضيا أن للمعروض من موجودية وللعارض موجودية أخرى كالماشي بالنسبة إلى الحيوان والضاحك بالقياس إلى الإنسان وليس كذلك بل هذا المفهوم عنوان وحكاية للوجودات العينية ونسبته إليها نسبة الإنسانية إلى الإنسان والحيوانية إلى الحيوان فكما أن مفهوم الإنسانية صح أن يقال: إنها عين الإنسان لأنها مرآة لملاحظته وحكاية عن جهته صح أن يقال: إنها غيره لأنها أمر نسبي والإنسان ماهية جوهرية، وبالجملة الوجود ليس كالإمكان حتى لا يكون بإزائه شيء يكون المعنى المصدري حكاية عنه بل كالسواد الذي قد يراد به نفس المعنى النسبي أعني الأسودية وقد يراد به ما يكون الشيء أسود أعني الكيفية المخصوصة فكما أن السواد
(١) ويسمى صدر الدين الشيرازي وهو غير صدر الدين الشيرازي معاصر الملا جلال اهـ منه.
194
إذا فرض قيامه بذاته صح أن يقال ذاته عين الأسودية وإذا فرض جسم متصف به لم يجز أن يقال إن ذاته عين الأسودية مع أن هذا الأمر لكونه اعتبارا ذهنيا زائدا على الجميع، إذا تقرر هذا قلنا في الجواب في الترديد الأول: نختار الشق الأول وهو أن الوجود حقيقة الذات قولك في الترديد الثاني إما أن يكون ذلك الوجود ما يفهم من لفظ الوجود إلخ نختار منه ما بإزاء ما يفهم من هذا اللفظ أعني حقيقة الوجود الخارجي الذي هذا المفهوم حكاية عنه فإن للوجود عندنا حقيقة في كل موجود كما أن للسواد حقيقة في كل أسود لكن في بعض الموجودات مخلوط بالنقائص والإعدام وفي بعضها ليس كذلك وكما أن السوادات متفاوتة في السوادية بعضها أقوى وأشد وبعضها أضعف وأنقص كذلك الموجودات بل الموجودات متفاوتة في الموجودية كمالا ونقصانا، ولنا أيضا أن نختار الشق الثاني من شقي الترديد الأول إلا أن هذا المفهوم الكلي وإن كان عرضيا بمعنى أنه ليس له بحسب كونه مفهوما عنوانيا وجود في الخارج حتى يكون عينا لشيء لكنه حكاية عن نفس حقيقة الوجود القائم بذاته وصادق عليه بحيث يكون منشأ صدقه ومصداق حمله عليها نفس تلك الحقيقة لا شيئا آخر يقوم به كسائر العرضيات في صدقها على الأشياء فصدق هذا المفهوم على الوجود الخاص يشبه صدق الذاتيات من هذه الجهة، فعلى هذا لا يرد علينا قولك: صدق الوجود عليه لا يغنيه عن السبب لأنه لم يكن يغنيه عن السبب لو كان موجوديته بسبب عروض هذا المعنى أو قيام حصة من الوجود وليس كذلك بل ذلك الوجود الخاص بذاته موجود كما أنه بذاته وجود سواء حمل عليه مفهوم الوجود أو لم يحمل، والذي ذهب الحكماء إلى أنه معدوم ليس هو الوجودات الخاصة بل هذا الأمر العام الذهني الذي يصدق على الأينات والخصوصيات الوجودية انتهى، وما أشار إليه من تعدد الوجودات قال به المشاءون وهي عند الأكثرين حقائق متخالفة متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة إلى الماهيات لتكون متماثلة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها، وقال بعضهم بالاختلاف بالحقيقة حيث يكون بينها من الاختلاف ما بالتشكيك كوجود الواجب ووجود الممكن وكذا وجود المجردات ووجود الأجسام وقالت طائفة من الحكماء المتأهلين إنه ليس في الخارج إلا وجود واحد شخصي مجهول الكنه وهو ذات الواجب تعالى شأنه وأما الممكنات المشاهدة فليس لها وجود بل ارتباط بالوجود الحقيقي الذي هو الواجب بالذات ونسبة إليه، نعم يطلق عليها إنها موجودة بمعنى أن لها نسبة إلى الواجب تعالى فمفهوم الموجود أعم من الموجود القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه نحوا من الانتساب وصدق المشتق لا ينافي قيام مبدأ الاشتقاق بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا كون ما صدق عليه أمرا منتسبا إلى المبدأ لا معروضا له بوجه من الوجوه كما في الحداد والمشمس على أن أمر اطلاق أهل اللغة وأرباب اللسان لا عبرة به في تصحيح الحقائق، وقالوا: كون المشتق من المعقولات الثانية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدأ حقيقة متأصلة متشخصة مجهولة الكنه وثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور ولا يخفى ما فيه من الأنظار، ومثله ما دار على ألسنة طائفة من المتصوفة من أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما وهو ظاهر ولا ماهية موجودة بالوجود أو مع الوجود تعليلا أو تقييدا لما في ذلك من الاحتياج والتركيب فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق، ومتمسكهم هذا أوهن من بيت العنكبوت، والذي حققته من كتب الشيخ الأكبر قدس سره وكتب أصحابه أن الله سبحانه ليس عبارة عن الوجود المطلق بمعنى الكلي الطبيعي الموجود في الخارج في ضمن أفراده ولا بمعنى أنه معقول في النفس مطابق لكل واحد من جزئياته في الخارج على معنى أن ما في النفس لوجود في أي شخص من الأشخاص الخارجية لكان ذلك الشخص بعينه من غير تفاوت أصلا بل بمعنى عدم التقيد بغيره مع كونه موجودا بذاته، ففي الباب الثاني من الفتوحات أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا
195
معلول من شيء ولا علة لشيء بل هو خالق المعلولات والعلل، والملك القدوس الذي لم يزل، وفي النصوص للصدر القونوي تصور
اطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أنه إطلاق ضده القيد بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد وفي الجمع بين كل ذلك والتنزيه عنه فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع.
وذكر بعض الأجلة أن الله تعالى عند السادة الصوفية هو الوجود الخاص الواجب الوجود لذاته القائم بذاته المتعين بذاته الجامع لكل كمال المنزه عن كل نقص المتجلي فيما يشاء من المظاهر مع بقاء التنزيه ثم قال: وهذا ما يقتضيه أيضا قول الأشعري بأن الوجود عين الذات مع قوله الأخير في كتابه الإبانة بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع التنزيه بليس كمثله شيء.
وتحقيق ذلك أنه قد ثبت بالبرهان أن الواجب الوجود لذاته موجود فهو إما الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته أو الوجود المقترن بالماهية المتعين بحسبها أو الماهية المعروضة للوجود المتعين بحسبها أو المجموع المركب من الماهية والوجود المتعين بحسبها لا سبيل إلى الرابع لأن التركيب من لوازمه الاحتياج ولا إلى الثالث لاحتياج الماهية في تحققها الخارجي إلى الوجود ولا إلى الثاني لاحتياج الوجود إلى الماهية في تشخصه بحسبها والاحتياج في الجميع ينافي الوجوب الذاتي فتعين الأول فالواجب سبحانه الموجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، ثم هو إما أن يكون مطلقا بالإطلاق الحقيقي وهو الذي لا يقابله تقييد القابل لكل إطلاق وتقييد وإما أن يكون مقيدا بقيد مخصوص لا سبيل إلى الثاني لأن المركب من القيد ومعروضه من لوازمه لاحتياج المنافي للوجوب الذاتي فتعين الأول فواجب الوجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق بالإطلاق الحقيقي، وأهل هذا القول ذهبوا إلى أنه ليس في الخارج إلا وجود واحد وهو الوجود الحقيقي وأنه لا موجود سواه وماهيات الممكنات أمور معدومة متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا وهي ثابتة في العلم لم تشم رائحة الوجود ولا تشمه أبدا لكن تظهر أحكامها في الوجود المفروض وهو النور المضاف ويسمي العلماء والحق المخلوق به وهؤلاء هم المشهورون بأهل الوحدة، ولعل القول الذي نقلناه عن بعض الحكماء المتأهلين يرجع إلى قولهم هو طور ما وراء طور العقل وقد ضل بسببه أقوام وخرجوا من ربقة الإسلام، وبالجملة إن القول بأن حقيقة الواجب تعالى غير معلومة وحد علما اكتناهيا إحاطيا عقليا أو حسيا مما لا شبهة عندي في صحته وإليه ذهب المحققون حتى أهل الوحدة، والقول بخلاف ذلك المحكي عن بعض المتكلمين لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، ولا أدري هل تمكن معرفة الحقيقة أو لا تمكن ولعل القول بعدم إمكانها أوفق بعظمته تعالى شأنه وجل عن إحاطة العقول سلطانه، وأما شهود الواجب بالبصر ففي وقوعه في هذه النشأة خلاف بين أهل السنة وأما في النشأة الآخرة فلا خلاف فيه سوى أن بعض الصوفية قالوا: إنه لا يقع إلا باعتبار مظهر ما وأما باعتبار الإطلاق الحقيقي فلا، وأما شهوده سبحانه بالقلب فقد قيل بوقوعه في هذه النشأة لكن على معنى شهود نوره القدسي ويختلف ذلك باختلاف الاستعداد لا على معنى شهود نفس الذات والحقيقة ومن ادعى ذلك فقد اشتبه عليه الأمر فادعى ما ادعى.
هذا ومن الناس من قال: لا مانع من أن يراد من حَقَّ قَدْرِهِ حق معرفته ويراد من حق معرفته المعرفة بالكنه وكونها غير حاصلة لأحد مؤمنا كان أو غيره لا يضر فيما نحن فيه لأن المراد إثبات عظمته تعالى المنافية لما عليه المشركون وكون سبحانه لا يعرف أحد كنه حقيقته يستدعي العظمة على أتم وجه فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق للصواب.
196
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على جميع الممكنات عَزِيزٌ غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة، والجملة في موضع التعليل لما قبلها اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي وَمِنَ النَّاسِ أي ويصطفي من الناس رسلا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس، وعطف مِنَ النَّاسِ على مِنَ الْمَلائِكَةِ وهو مقدم تقدير على رُسُلًا فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه، وقيل: إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد.
وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل بَصِيرٌ بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم، وقيل: إن السمع والبصر كناية عن علمه تعالى بالأشياء كلها بقرينة قوله سبحانه: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ لأنه كالتفسير لذلك، ولعل الأول أولى، وهذا تعميم بعد تخصيص، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل: أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكا ولا استقلالا لأنه المالك لها بالذات فلا يسأل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى:
اللَّهُ يَصْطَفِي إلخ وكذا وجه الارتباط، ويجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه: يَعْلَمُ إلخ على معنى وإليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالما بها.
ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي وصلّوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعها كذلك هو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان، وقيل: المعنى أخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا، وقيل: المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما تعبدكم سبحانه كما يؤذن به ترك المتعلق وقيل: المراد أمرهم بأداء الفرائض.
وقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى
197
عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم، والآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق رضي الله تعالى عنهم لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم
عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما، وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه
، وعمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم، وذهب أبو حنيفة ومالك والحسن وابن المسيب وابن جبير وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة، قال ابن الهمام: لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمرا بما هو ركن للصلاة بالاستقراء نحو اسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: ٤٣] وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال، وما روي من حديث عقبة قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود وغيره انتهى.
وانتصر الطيبي لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال: الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صارف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك، وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول: المقارنة تحسن، وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضا، ثم رجع إلى الانتصار فقال: الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتضى خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة، بل إنما ذلك بفعل الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة، وفيه أنه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم لا يقله الشافعي ولا غيره، وإن أراد أن الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف عن تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيه بل لا معدل عنه إن صح الحديث لكن قد سمعت آنفا ما قيل فيه، ولك أن تقول: إنه قد قوي بما
أخرجه أبو داوود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل.
وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلّى الله عليه وسلّم أو رؤية لفعله ذلك وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه، والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب. مجاهدة العدو الظاهر كالكفار ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما
أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم غزاة فقال:
«قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال مجاهدة العبد هواه»
وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله.
والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام، ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس، والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء، وإلى هذا يشير ما روي جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال:
إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف، ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضا ويكون
198
بزجرهم عن الابتداع والفسق حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا فيه حقا فقدم حقا وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله. ويوم شهدناه سليما وعامرا.
وفي الكشاف الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله تعالى من حيث إنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه، وأيا ما كان فنصب حَقَّ على المصدرية، وقال أبو البقاء: إنه نعت لمصدر محذوف أي جهادا حق جهاده، وفيه أنه معرفة فكيف يوصف به النكرة ولا أظن أن أحدا يزعم أن الإضافة إذا كانت على الاتساع لا تفيد تعريفا فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه، والآية تدل على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصا لله تعالى لا يخشى فيه لومة لائم وهي محكمة.
ومن قال كمجاهد والكلبي: إنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصي أصلا وفيه بحث لا يخفى، وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال لي عمر رضي الله تعالى عنه «ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» ؟ قلت: بل فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره، ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة، وقال النيسابوري: قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلّى الله عليه وسلّم وليست من نفس القرآن إلا لتواترت وهو كما ترى هُوَ اجْتَباكُمْ أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه، والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضى للجهاد، وفي قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ أي في جميع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولا أوليا مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع.
ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»
فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء، وقيل: عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روي ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي الحواشي الشهابية أن الظاهر حق جهاده تعالى لما كان متعسرا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه.
وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها.
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري وقال الحوفي.
وأبو البقاء: نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه، وقال الفراء: نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم، والمراد بالملة أما ما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل، وإِبْراهِيمَ منصوب بمقدر أيضا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان، وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه
199
السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلّى الله عليه وسلّم هُوَ أي الله تعالى كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وسفيان، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه اللَّهِ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل وَفِي هذا أي في القرآن، والجملة مستأنفة، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ ولذا لم تعطف، وعن ابن زيد والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨] وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسميا لهم فيه مجازا، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور، وقال أبو البقاء: المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته، وقال ابن عطية: يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف.
واستدل بالآية من قال: إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر. لِيَكُونَ الرَّسُولُ يوم القيامة شَهِيداً عَلَيْكُمْ إنه قد بلغكم، ويدل على هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتمادا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه، وأيضا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبياءهم: هل بلغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيدا عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عصى، ولعل علمه صلّى الله عليه وسلّم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة والسلام الشهادة، وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة والسلام وهو في البرزخ كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما
رواه أحمد في مسنده والشيخان عن أنس، وحذيفة قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»
وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا، وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوام حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من- إنك لا تدري- إلخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعا أو عاصيا في زمان حياته صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن علم بحاله أصلا كمن آمن ومات ولم يسمع صلّى الله عليه وسلّم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجىء في خبر أصلا، والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد، ومن زعم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم أعمال أمته ويعرفهم واحدا حيا وميتا ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل، والآية لا تصلح دليلا له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث، على أن في حديث الإفك ما يدل على خلافه.
وزعم بعضهم أن معرفته صلّى الله عليه وسلّم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة والسلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور: ما تقول في هذا الذي بعث إليكم؟ واسم الإشارة يستدعي مشارا إليه محسوسا مشاهدا وهو كما ترى، واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلّى الله عليه وسلّم وعلم حالهم من طاعة وعصيان، والخطاب في عَلَيْكُمْ إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه
200
فتدبر، وقيل على في عَلَيْكُمْ بمعنى اللام كما في قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: ٣] فالمعنى شهيدا لكم، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ما قيل، وقال الخفاجي: لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولا أوليا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لانافتهما وفضلهما وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثيل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاجتباء، وجوز أن يكون هُوَ مَوْلاكُمْ نتميا للاجتباء وليس بذاك هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كيد عدوهم من الشيطان والنفس إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ويدخل في ذلك الشيطان والنفس، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدا بل لا خوان ولا كفور مثلهما الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ إلخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل: في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمي عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنوارا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت،
وفي الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما
يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري»
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو العلم اللدني الذي به غذاء الأرواح.
وقال بعضهم: رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار ومشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق
يشير عليه الصلاة والسلام بقوله: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
والإشارة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عز وجل وإلا ابتلى بتلبيس الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثُمَّ قُتِلُوا بسيف الصدق والرياضة أَوْ ماتُوا بالجذبة عن أوصاف البشرية لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً هو رزق دوام الوصلة كما قيل: أو هو كالرزق الكريم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيه إشارة إلى نصر السالك
201
الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين.
وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الآية فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً إلخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم ذلك شفاء مريضهم أورد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل: أنذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا، ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة في اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ شامل لجميع أنواع المجاهدة، ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بإفناء الوجود، وقد قيل:
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم هُوَ مَوْلاكُمْ على الحقيقة فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم، وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم والحمد لله الجزء السابع عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن عشر وأوله «سورة المؤمنين».
202
الجزء الثامن عشر
203
Icon