هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات هي أرقام ٦٨، ٦٩، ٧٠، وعدد آياتها سبع وسبعون آية.
سميت سورة الفرقان ؛ لأنها ابتدأت بذكر تنزيل القرآن على عبده، فقال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( ١ ) ﴾، ووصف ذاته العلية بأنه الذي له ملك السموات والأرض، ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، ثم ذكر شرك المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة لا يخلقون، وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسكم ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، وأنكروا القرآن الكريم مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وقالوا :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( ٤ ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) ﴾.
ورد الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٦ ) ﴾، وتحدثوا في جدلهم بالنبي وأنكروا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من البشر :﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( ٧ ) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( ٨ ) ﴾.
وقد رد سبحانه افتراءاتهم فقال :﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ( ٩ ) ﴾.
بعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى قدرته بالنسبة لرسوله، فقال :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ( ١٠ ) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ( ١١ ) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( ١٢ ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( ١٣ ) ﴾، ويقال حينئذ ﴿ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( ١٤ ) ﴾.
وقد وازنت الآيات الكريمات بين نعيم المتقين، وعذاب الكافرين :﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا ( ١٥ ) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئولًا ( ١٦ ) ﴾.
ثم ذكر سبحانه وتعالى حالهم يوم :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( ١٧ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( ١٨ ) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( ١٩ ) ﴾.
وقد بين سبحانه وتعالى أن المرسلين جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فقال عز من قائل :﴿ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( ٢٠ ) ﴾.
وقد ذكر سبحانه أنهم كانوا يريدون ملائكة :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ( ٢١ ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ( ٢٢ ) ﴾.
وقد بين سبحانه أن أعمالهم باطلة فقال :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ( ٢٣ ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ( ٢٤ ) ﴾ وقد ذكرهم سبحانه بما يكون يوم البعث، ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ( ٢٥ ) ﴾.
وإنه بعد البعث السلطان ظاهرا وباطنا لله تعالى وحده :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ( ٢٦ ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ( ٢٧ ) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ( ٢٨ ) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ( ٢٩ ) ﴾.
بعد ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى موقف الرسول من هؤلاء الكافرين ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( ٣٠ ) ﴾ ويبين سبحانه أنه يجعل لكل نبي عدوا من المجرمين :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( ٣١ ) ﴾.
ولقد كان المشركون لا يؤمنون بالقرآن، ولكنهم يثيرون الشكوك حوله ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ وقد بين أن ذلك لتثبيته في القلوب، ولإنزاله مرتلا، وتحفيظه مرتلا، ولذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ( ٣٢ ) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ( ٣٣ ) ﴾ وقد ذكر سبحانه أوصافهم عند الحشر﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ( ٣٤ ) ﴾.
وقد أشار سبحانه إلى بعض قصص موسى وهارون :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ( ٣٥ ) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ( ٣٦ ) ﴾.
وذكر سبحانه من قصة نوح، وإغراق الكافرين من قومه، وقال ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٣٧ ) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا( ٣٨ ) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ( ٣٩ ) ﴾، وقد بين سبحانه بعد أنهم أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء، أفلم يكونوا يرونها، بل كانوا لا يرجون نشورا، وبين سبحانه سوء معاملة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ( ٤١ ) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ( ٤٢ ) ﴾، ولقد ذكر سبحانه أن دينهم أهواءهم، فقال ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ( ٤٣ ) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ( ٤٤ ) ﴾.
وبين الله تعالى من بعد مظاهر الإبداع في خلقه وتكوينه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ( ٤٥ ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ( ٤٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( ٤٧ ) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ( ٤٨ ) ﴾ وبين الله تعالى إنذاره لخلقه ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ( ٥١ ) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( ٥٢ ) ﴾، ثم بين سبحانه الإبداع في خلقه ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ( ٥٣ ) ﴾، ثم أشار سبحانه إلى الإبداع في تناسل الإنسان، وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا.
ومع هذا الإحكام في الخلق، والإبداع فيه ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ( ٥٥ ) ﴾.
وبين سبحانه مقام محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة وواجبه فقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٥٦ ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٥ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( ٦٠ ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ ) ﴾.
ووصف سبحانه بعد ذلك عباد الرحمن، { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ٦٤ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ( ٦٧ ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا
ﰡ
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( ١ ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( ٢ ) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ( ٣ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( ٤ ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٦ ) ﴾.
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾ أصل ﴿ تبارك ﴾ من البرك وهو صدر البعير، ثم صارت البركة تطلق على كل خير ملازم ثابت، ومنه البركة بكسر الباء تطلق على الماء الثابت، والماء في ذاته بركة وخير.
وتبارك معناها التنبيه على ما في القرآن من خير لازم مستمر، لا تبلى جدته أبدا، فالبركة في القرآن، ونسبتها إلى الله تعالى لأنه مصدرها، وموجدها، فالله تعالى تسامت بركته بإنزال القرآن لعباده، وتعريفهم بما اشتمل عليه من بيان العقائد والأحكام.
و﴿ عبده ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم، فالله تعالت كلماته أنزل القرآن على عبده، ليبلغه لعباده من العالمين، وليكون نذيرا، أي منذرا مبينا، وهو بشير نذير، ولكن ذكر النذير فقط لأن كثرة الذين تلقوه كانوا مستحقين للعذاب، إذا استمروا في غيهم وضلالهم، ولذلك ذكر الإنذار، وترك التبشير للآيات الأخرى من غير إهمال فهو الجانب الأحب في ذاته.
والفرقان هو القرآن، وسمي الفرقان لأنه فارق بين الحق والباطل، والهداية والضلال، والعدل والظلم، ولأنه نزل مفرقا منجما، كما قال تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث..( ١٠٦ ) ﴾ [ الإسراء ]، وذكر الزمخشري أن القرآن سمي فرقانا لتفرقته بين الحق والباطل، أو لأنه نزل مفرقا، وأرى أنه لا مانع من الجمع ففيه الأمران فهو مبين للحق والشريعة، وقد نزل مفرقا، فهما ليسا وجهين مختلفين، بل فيه الأمران.
و( العالمون ) العقلاء من الجن والإنس المكلفون أحكامه، والمطالبون بتنفيذها.
﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( ٢ ) ﴾.
هذا شرف للقرآن ناله، من أن منزله هو منشئ هذا الكون لا يشبه أحدا من الحوادث، ولا يشبهه شيء في الوجود، ﴿ الذي ﴾ بدل أو عطف بيان للذي الأولى في قوله تعالى :﴿ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ ﴾ وذكر هذا بعد ذكر إنزال القرآن للدلالة أولا على شرف القرآن بإضافته إلى من له الملك في السموات والأرض، ويبين أن إنزال القرآن من تدبير صاحب الملك لملكه، لإصلاح عباده وإرشادهم به.
والملك هو السلطان وهو مطلق لله تعالى لا سلطان لغيره، وهو قيم السموات والأرض، فالنجوم لا تسير إلا بسلطانه، وكل ما فيها من شمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمره وحده، وكذلك الأرضون، كل ما فيها من جبال ووهاد وبحار ونجاد وحيوان وجماد ومعادن وفلزات وغيرها كله مسخر بأمره.
ووصف الله سبحانه ذاته العلية بصفتين سلبيتين، وصفة إيجابية تدل على إثبات السلب، الأولى قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾، وذلك رد على النصارى الذين ادعوا أن عيسى ابن الله، وعلى الهنود والبوذيين الذين أخذ منهم النصارى هذه النحلة، وعلى الذين يعبدون الملائكة، ويقولون إنهم بنات الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ أي لم يجعل له من بين خلقه من يتخذه عونا ونصيرا، والنفي بهذه الصفة يحمل في نفسه بطلان الاتخاذ، لأن الاتخاذ يدل على الحاجة، والله تعالى لا يحتاج لأحد من خلقه ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ( ١٥ ) ﴾ [ فاطر ].
الصفة السلبية الثانية قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ هذا نفي مطلق، لأنه لو كان له شريك في الملك ما استقام الكون، كما قال تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ٢٢ ) ﴾ [ الأنبياء ].
الصفة الثالثة وهي الإيجابية، وتتضمن في معناها برهان السلب في السلبيتين، وقد بينها سبحانه بقوله تعالى ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾، أي أنشأ كل شيء إنشاء مقدارا بإحكام، هو تقدير العزيز العليم، فالسماء ذات البروج، والمطر ينزل فينبت الزرع، والحيوان يأكل مما تنبت الأرض، وهكذا يسير الكون بقدرة الله العلي القدير، وتتفاعل الأشياء بعضها من بعض بإرادة الله تعالى العزيز الحكيم.
﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾.
ومع أن الله الذي خلق السموات والأرض وصاحب السلطان المطلق، وخلق كل شيء فقدره تقديرا فجر المشركون وجحدوا واتخذوا من دونه، من غيره ما هو دون في ذاته آلهة، وسميت الأحجار آلهة على زعمهم لأنهم يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى. والضمير في ﴿ واتخذوا ﴾ يعود على المشركين، لأنهم حاضرون في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى اتخذوا من دونه آلهة أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة عاجزة، وهذا الاتخاذ إفك مبين كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً...( ١٧ ) ﴾ [ العنكبوت ]، فالحجارة ليست آلهة، ولكنهم خلقوا إفكا فسموها آلهة، وقد خلقوا إفكا من ناحية تسميتها آلهة، وهم يصنعونها بأيديهم، فتكون الصناعة على أنها آلهة إفك، وانتحال اسم الآلهة لها إفك أيضا.
وقابل سبحانه بين الهداية والضلال، فالهداية عبادة الله، والضلال عبادة هذه الأحجار، فذكر أن الله خالق وأن هذه الآلهة لا تخلق شيئا، وهي في ذاتها مخلوقة، فقال :﴿ لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ وأعاد الضمير عليها بضمير ما يفعل مسايرة للذين يعبدونها افتراء على أنفسهم.
وفوق أن هذه الأحجار مخلوقة لا تملك ضرا ولا نفعا، فهي لا قدرة لها على شيء ضار أو نافع، وعبّادها اقدر منها، وبين سبحانه وتعالى أنها على حال جامدة مستمرة لا تحيي ولا تميت، ولا تبعث ولا تنشر، فهي خالية من أي صفة من صفات الإله المعبود، وقال سبحانه :﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ إن هذه الآلهة لا تستطيع دفع ضرر، ولا جلب نفع، ولذا قال سبحانه وتعالى في وصفها ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾.
قال سبحانه :﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ ولم يقل لا تميت ولا تحيي ولا تبعث، للإشارة إلى أنها ليست ميتة ولا حية في نفسها، ولا تبعث ولا تنشر، فهي لا تملك الحياة لنفسها، فلا تملكها لغيرها، فهي جامدة ليست لها حياة، ولا تحيي، وهي لا تسمى ميتة، لأن الموت إنما يكون لحي، ولا تملك نشورا، فلا تنشر ؛ لأن البعث والنشور للأحياء الذين يحاسبون، ويلقون في الجحيم، أو يجزون بالنعيم.
هذه حال المشركين في عبادتهم وأوهامهم، وقد جاءهم القرآن بالبركة الروحية والنماء المعنوي فهل اهتدوا بهديه !
وقد أظهر هنا، ولم يذكر الضمير مجردا كالآية السابقة ؛ لبيان أن الصلة هي السبب في هذا القول، فالقرآن لم يكن إفكا في ذاته، فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وببعضه فعجوزا، وبأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وحصروه في الإفك فلم يقولوا : إفك بل يحصرونه في الإفك في قولهم ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ ( إن ) هنا نافية فهنا نفي وإيجاب، أي ما هذا إلا إفك افتراه، أي كذب قصد إلى افترائه، وقد أوغلوا في الادعاء البهات الكذب فقالوا :﴿ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ والقوم الآخرون هم ناس كانوا من الروم بمكة، وقد قال تعالى في رد كلامهم :﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( ١٠٣ ) ﴾ [ النحل ]، وقد وصف الله تعالى فعلهم بقوله :﴿ فقد جاءوا ظلما وزورا ﴾ ( جاءوا ) بمعنى أتوا، فيقال جئت المكان وأتيته، الفاء للإفصاح، أي فقد أتوا ظلما بهذا القول، لأنه كفر وشرك، ﴿... إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ]، ( وزور ) أي كذب يبهت السامع لأنه غريب في أنه لا أصل له، وقد نكر ظلما وزور للإشارة إلى عظمة هذا، وكبر هذا الزور، إذ إنه غير معقول في ذاته النسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم إذ عاش بينهم أربعين سنة قبل الرسالة، واشتهر بالصدق والأمانة، حتى كان الأمين
﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) ﴾.
الضمير يعود إلى المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى، لأنهم حاضرون في ذهن أهل الإيمان دائما بجدالهم المستمر، وعنادهم وملاحاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ جمع أسطورة، كما قال الزجاج، وهو أخبار السابقين التي تذكر عنهم في السمر والمجالس، وليس لها أصل صحيح، إنما تكون لتزجية الفراغ، وهذا فيه سخرية بالقرآن واستهانة به، وبث الاستهانة عند القارئين له والسامعين ﴿ اكتتبها ﴾ هذه صيغة الافتعال من الكتابة، أي كتبها وجوّد كتابتها، وهذا كلام يحتمله معنى اكتتبها، وقيل إن معناها أنه طلب كتابتها من غيره، لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ﴿ فهي تملى عليه ﴾، أي تلقى عليه ليكتبها، أو يقرؤها عليه من يكتبها، وأصل تملى تملل قلبت اللام الثانية ياء، وعلى أي حال يملل ويملي بمعنى واحد، وهما مترادفان.
وهؤلاء الكافرون لفرط استهانتهم افتروا على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور :
أولها أنه إفك مفترى، وقد ذكره سبحانه في الآية السابقة.
والثانية أنه أساطير الأولين، وأحاديثهم المفتراة.
والثالثة أنها تملى عليه فيكتبها، أو تملى على النبي صلى الله عليه وسلم إملاء، فيحفظها.
وقبل أن ننتهي من القول في هذه الآية نقول : إن الراغب الأصفهاني في مفرداته قال : إن اكتتب تكون لكتابة ما هو مختلق لا أصل له، فتكون في كلمة اكتتب اتهام رابع بالافتراء والاختلاق، ومعنى بكرة وأصيلا، أي في الغدوة والأصيل، أي أنه يملي عليه طول النهار في أوله وآخره، والأصيل ما يكون قبل الغروب، وبعد الظهيرة.
﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرد الذي أمر الله تعالى به نبيه ليس مجاراة لهم، ولكنه بيان لافترائهم بإثبات نقيض الافتراء، وهو أن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو الله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وهذا دليل إيجابي يثبت نقيض ما يفترون من ثلاثة وجوه.
أولها أن الذي يعلم السر في السموات والأرض يعلم ما خفي، وما خلق وما أنشأ، وليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا كريما فيه الدليل القاطع على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن السر الذي في السموات والأرض في خلق كل منهما وارتباط كل واحدة بالأخرى، وما يربط النجوم بعضها ببعض من جاذبية شديدة تجعلها بناء واحدا، وإمساك الله تعالى للسموات أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكها أحد من بعده.
ثانيها أن من يعلم سر السموات والأرض يستلزم أنه أوجدها، ومن أوجد السموات والأرض ليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا هو دليل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعجزته الكبرى.
ثالثها أن الذي يعلم السر في السموات والأرض يعلم كل شيء، فهو الذي يعلم نبيه القرآن، ولا يحتاج إلى من يملي عليه بكرة وأصيلا.
وننبه هنا إلى أمرين : أولهما الدليل الذي يدل على ان الله تعالى هو الذي أنزله، هو العجز بعد التحدي الشامخ.
الأمر الثاني أن الله تعالى الذي يعلم السر في السموات والأرض فقال المفسرون : إنه ذكر السر، ومن يعلم السر يعلم بالأولى الظاهر البين، وذلك كلام حسن في ذاته، ولكن بدر إلينا أن معرفة السر في السموات معناه السر في ارتباط أجزائها، وبنائها من غير عمد، وذلك وحده دليل القدرة الباهرة، وإشارة إلى التكوين العجيب في صنعه، وختم الله تعالى الآية بفتح باب التوبة فقال :﴿ إنه غفور رحيما ﴾، أي أنه سبحانه وتعالى يغفر للتائبين ويرحمهم.
الضمير في ( قالوا ) يعود إلى المشركين وهم حاضرون يعاندون ويفتح على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ضلالهم أن ظنوا أو توهموا أن النبي لا يكون بشرا، وإن كان بشرا يكون من أعلاهم مادة وسلطانا، وهم أو من يحوطون بهم، ويلوذون بملاذهم.
قالوا مستغربين :﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ والمعنى : أي شأن لهذا الرسول يؤهله لمكانة الرسالة من الله حال أنه يأكل الطعام كما نأكل، فليس ملكا من الملائكة، بل هو بشر يأكل الطعام، وليس ملكا تصل إليه حاجاته بخدمه وعبيده، بل إنه يعيش باحثا عن رزقه وحاجته ككل الناس، فلا امتياز له على أحد، فكيف يكون رسولا.
﴿ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ﴾، أي هلا أنزل منضما إليه ملك ﴿ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾، الفاء فاء السببية التي ينصب الفعل بعدها، ومعنى السياق هلا ضم إليه وأنزل من عند الله ملك، فيكون معه منذرا.
تدرجوا في الادعاء من أعلى إلى أدنى فاشترطوا لاتباعه أن يكون منضما إليه ملك ليكون معه نذيرا، فيكون الملك شاهدا بصدق الرسالة، ومن قبل طلبوا أن يكون معه قرطاس، أو أن يكون الرسول ملكا، وقد رد الله تعالى كلامهم، وأنهم لا يؤمنون ويقولون هذا سحر مبين، ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
وقد نزلوا عن اشتراط أن يكون معه ملك إلى أمر آخر يمنع أن يمشي في الأسواق بأن يغنيه عن ذلك شأن الكبراء، بأن يلقي إليه، أي يعطى كنزا يغنيه، وعبّر عن إعطاء الكنز بكلمة يلقي إليه للإشارة إلى أن هذا العطاء لا يكلف من أرسله شيئا، لأنه إلقاء من خزائن الله تعالى، وقد كانوا يعرفون الله ولا يعبدونه، فيعرفون أن معه خزائن السموات والأرض، ويكون بهذا الكنز كملوك أهل الأرض فلا ينزل إلى الأسواق كما ينزل دهماء الناس والفقراء.
وتنزلوا من مرتبة الملوك إلى مرتبة أتباعها وحواشيهم، الذين يمنحهم الملك الحدائق والمزارع، فقالوا :﴿ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾، أي بستان يغنيه بثماره وغلاته، فيأكل منها بدل أن ينزل الأسواق.
وإن هذا بلا ريب نظرات ناس ماديين لا يؤمنون بالروح، ولا بالمعاني الإنسانية العالية، إنما يؤمنون بالمادة وحدها، والعلو عندهم بالسيطرة الممكنة من لذائذ هذه الحياة، إما بملك قاهر، أو بمتع يلقيها إليهم ملوك قاهرون.
ولكنهم يرون في محمد صلى الله عليه وسلم ما ليس عند الملوك وحواشيهم، يرون القرآن الذي عجزوا عن أن يأتوا مثله، ورأوا أتباع محمد ينمون ولا ينقصون، ورأوا ميل بعض كفارهم إلى سماع القرآن وما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
رأوا ذلك، ولم يستطيعوا دفعه، ولكن بدل أن يذعنوا للحق إذ تبين لهم، ادعو أن ما يجيء به هو السحر، فظلموا ظلما كبيرا.
﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( ٨ ) ﴾.
هنا إظهار في موضع إضمار، وذلك لوصفهم بالظلم أولا، ولبيان ظلمهم وعدم إرادتهم الحق هو الذي رفعهم إلى رمي النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر، وهو يتكلم عن الله تعالى :﴿ إن تَتَّبِعُونَ ﴾ إن هنا نافية، أي لا تتبعون إلا رجلا مسحورا، أي ينطق على لسانه الحق، وهذا يومئ إلى أنهم رأوا عجائب فبذل أن يقولوا إنها من عند الله قالوا : إنه مسحور ينطق على لسانه الجن والشياطين.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه كان من أهل مكة من يريدون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اتبعه من اتبعه.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و﴿ ضربوا ﴾ معناها بينوا، والأمثال هي الأحوال المتشابهة في زعم القائل، أن انظر كيف حاولوا أي تكون الرسالة مع ملك من السماء يكون ردءا للرسول في إنذاره، ثم كيف حاولوا أن يجعلوه كالملك الذي تجري كنوز الأرض تحت يديه، أو كحواشي الملوك الذين يقطنون الإقطاعات الواسعة، حاولوا، عقد المشابهة بين هذه الأحوال والرسالة، وهذه أمور دنيوية تأنى عن معنى الرسالة، ولذا قال تعالى :﴿ فضلوا ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب زعمهم هذه المشابهات ضلوا وبعدوا عن الحق وأوغلوا فشبهوا رسالة الله برسالة الناس، وأنه يكون معها شاهد من قبل المرسل، كملك، وشبهوا الرسول بالملك الغني أو حاشيته، وكل هذه تشبيهات باطلة في أصل موضوعها وفي أوصاف الموضوع، فليس الله كأحد من خلقه، إنما معجزته هي الشاهد، وليس النبي ملكا أو حاشية لملك، فضلوا بسبب تلك الأمثال، ومن ضل في الطريق يسير في ضلاله إلى أقصى مداه، ولذا قال سبحانه :﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ الفاء عاطفة، أي أنه يتبع هذا الضلال أن صاروا في عماية من أمرهم لا يستطيعون الهداية، ولا يستطيعون معرفة سبيل للنجاة من الضلالة التي أوقعوا فيها أنفسهم بعمايتهم وجهالتهم، وذلك لما أصابهم من غشاوة، وضلال وحيرة في الطرق.
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ( ١٠ ) ﴾.
تبارك أي تكاثرت وتسامت بركة الله تعالى على أوليائه وعلى المرسلين من عباده، وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ﴿ إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ علقه سبحانه وتعالى على مشيئته التي تكون على مقتضى حكمته، جعل لك خيرا مما يتباهون به، وينتقضون رسالتك، لأنها لم تكن ذات كنوز، ولا حدائق، و( خيرا ) مفعول، و( جنات ) بدل من خير، وبادر النص بالخيرية لإثبات أن الله تعالى قادر على إعطاء محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم زينة، والخيرية هنا هي خير المظهر، والنعيم الدنيوي، وأما ما هو خير عند الله تعالى جزاء معنويا وماديا فإنه في الآخرة.
﴿ وَيَجْعَل لَّكَ ﴾ معطوف على ﴿ جعل ﴾ والجزم على محل جعل، لأن ﴿ جعل ﴾ جواب الشرط فمحله الجزم، فيكون العطف عطف مجزوم على مجزوم، والقصور هي مساكن عطاء الدنيا التي يتباهى بجمالها، ومتانة بنيانها، وزخارفها، وطنافسها.
ولكن الله تعالى لم يشأ لأنبيائه زخارف الحياة، ولكن اختار لهم مشقة الحياة وأن يعيشوا على الكفاف، لأنه حيث كان القل من العيش كان الإخلاص والاتجاه الكامل إلى الله تعالى، لا يشغله عنه شاغل من متع هذه الحياة، ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه يقول :( اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين )، ولأن الأنبياء قادة الخليقة إلى الله تعالى، فيجب أن يكونوا قريبين من أضعف الناس لا يتجافون عنهم في مظهر، ولا عرض من أعراض الدنيا، ولأنهم يتجهون إلى معالي الأمور، ولا يتجهون إلى سفسافها.
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ﴾، بل للإضراب الانتقالي الذي يكون بانتقال الكلام من مقام إلى مقام، فكان الكلام في بيان تكذبيهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وادعائهم على القرآن أنه إفك افتراه الرسول، وقولهم إنا نريد ملكا معه يكون ردءا له، وإنه لا يعيش عيشة الملوك وحاشيتهم، فانتقل إلى سبب ذلك كله، وهو كفرهم بالساعة، ذلك أن كفرهم بالبعث والنشور هو سب ضلالهم، لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، ولم يؤمنوا بالغيب، فكانت حياتهم كلها مادية، لا رجاء بعدها، فكان منهم الإيمان بالمادة وحدها.
والساعة هي يوم القيامة، وسميت الساعة، لأنها يكون فيها الفصل بين الحق والباطل، والحساب الكامل والجزاء الوفاق للعمل، بجنة النعيم، أو بنار الجحيم، وكل ذلك في ساعة، وهي الساعة الكاملة لكثرة ما يكون من أحداث تتعلق بمصير البشرية، وهي ساعة الفصل، فالألف واللام تدل على الكمال، أي أنها الساعة الجديرة بأن تسمى الساعة.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴾، أي هيأنا للذين كذبوا بالساعة نارا ملتهبة كبيرة، تشتد في لهيبها تفزع وترعب من رآها، ويحترق بها من يدخلها، وأعتدنا معناها أعددنا وهيأنا، وكررت الساعة وكان الإظهار في موضع الإضمار أولا للإفزاع والنكير على من أنكر الساعة وكذب الخبر بها، ولبيان أن السبب في السعير هو التكذيب، لأنه كفر في ذاته، ولأنه أدى إلى الجحود المستمر.
﴿ إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( ١٢ ) ﴾.
معنى ﴿ إذا رأتهم ﴾ على ما يقول المفسرون، وإذا كانت على مرأى منهم كأنها تراهم ويرونها، من مكان بعيد، أي وكانت الرؤية من مكان ليس بالقريب، ٍولكنها بعيد بالنسبة للرؤية وللسمع ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾، أي هياجا شديدا يكاد مع البعد لهولها، والتغيظ وهو بدو الغيظ الشديد، والهياج العنيف الذي يتقلص الوجه له، والزفير تردد النفس تنتفخ الضلوع منه.
وإني أرى أن السعير شبهت بالإنسان الذي يرمي ويتغيظ ويزفر، ويحس ويشعر، إذا رأى شخصا يريد عقابه، فإنه يتغيظ ويزفر، والمعنى أن السعير تستعد وتتهيأ هائجة، لمجيء العصاة إليها، ويسمعون ما يشبه التغيظ والزفير من مكان بعيد.
وإذا ألقوا في النار، في مكان ضيق منها حال كونهم مقربين، أي قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم مصفدين، ووصف المكان بالضيق فيه إشارة إلى الشدة، لأن الضيق يقترن بالشدة، والسعة تقترن بالفرح، و﴿ ألقوا ﴾ تفيد أنهم لم يدخلوا مختارين بل ألقوا فيها إلقاء كما تلقى الأشياء، وألقوا وهم مصفدون في الأغلال ليس لهم حركة إرادية قط و ﴿ منها ﴾ أي من النار، و﴿ مكانا ﴾ ظرف، منصوب لألقوا، أي ألقوا في مكان ضيق من النار قد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وهم في هذه الشديدة المرهقة، يتمنون الموت بدلها، لأن الموت إنقاذ لهم ﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾ ﴿ هنالك ﴾ إشارة إلى البعيد، وفيه إثبات شدة ما هم فيه، والإشارة للبعيد، فقد نادوا ثبورا، أي هلاكا، أي نادوه ؛ لأن هذا وقته، إذ بلغت الشدة قواها، فكان الهلاك إنقاذا لهم مما هم فيه، أو نادوه تحسرا على أنفسهم وعلى ما فرطوا وأساءوا
النهي عن أن يدعوا وينادوا ثبورا واحدا ينقذهم من آلامهم، أو يتحسرون به لما هم فيه، بل هو ثبور متوال عليهم وقتا بعد آخر، لأن أسبابه قائمة مستمرة باستمرار حالهم وهي إلقاؤهم في مكان ضيق، يلقى بضيقه وعذابه ووضع الأصفاد التي تجمع أيديهم إلى أعناقهم، فتستمر دعوة الثبور ونداؤهم ما داموا في جهنم، وهي خالدة إذ هم فيها خالدون، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها ليذوقوا العذاب المستمر.
هذه حالهم، وهي حال هلاك مستمر ينادونه ويطلبونها تحسرا، أو إنقاذا مما هم فيه، فهي حياة هلاك متجدد آنا بعد آن
﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا ( ١٥ ) ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، طلب إليه ربه تعالى بعد ان ذكر لهم ما أعده الله تعالى للذين لا يؤمنون بالبعث ويشركون بربهم، أن يبين لهم ما أعده للمتقين الأبرار الذين يؤمنون بالبعث مقابلا بينه وبين ما أعد للمشركين، فقال : أذلك السعير الذي أعد لهم، والذي ينادون فيه بالهلاك حسرة وندما خير في مآله ونهايته، أم جنة الخلد والنقاء التي أعدها للمتقين الأبرار، والمعادلة من حيث إن كلا مستعد هيأ الله له ما يستحقه، فهم يستطيعون أن ينالوا الجنة إن اتقوا، كما ينال الذين أنكروا البعث ما يلقون من جهنم وسعير.
وإن الجنة استحقوها جزاء لأعمالهم، وهي مصيرهم ومآلهم الذي كان لهم نهاية، وغاية المتقين الأطهار.
الضمير في لهم يعود إلى المتقين ﴿ ما يشاءون ﴾، أي ما يحبون ويريدون من ملاذ، ومن متع أغلى مما في هذه الحياة، ففيها كل ما يحبون، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وإن الإحساس بالقدرة على تحقيق كل رغباتهم من نعمة هو في ذاته نعمة، مع ما يتضمن من نعم أخرى ينالها، فالملاذ نعمة، والقدرة المستمرة عليها نعمة أخرى، نعمة التمكين، وهناك نعمة ثالثة تحف بهم، وهي نعمة الخلود والدوام، فهي نعم غير مقطوعة، ولا ممنوعة ساعة من زمان، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بها، وأنه سبحانه كتبها على نفسه بقوله :﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئولًا ﴾، أي كان ذلك الوعد الذي كتبه على نفسه مسئولا، أي حقيقا بأن يسأله وبطلب فضلا من بك ورحمة، فقد ألزم نفسه به، ولم يلذ به غيره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فهو قد كتبه على ذاته العلية.
والتعبير بقوله تعالى :﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئولًا ﴾ يشير إلى أنه من فضل الربوبية ورحمة المنعم القادر على كل شيء، فالمسؤولية إلزام، إنما هي مسؤولية إنعام نسألها، كقوله تعالى كما أمرنا ﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك.. ( ١٩٤ ) ﴾ [ آل عمران ]، وكما يسأل الملائكة لعباد الله المؤمنين فيقولون :﴿ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم... ( ٨ ) ﴾ [ غافر ].
الكلام السامي في قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ... ﴾ بضمير الغيبة، لأنه حديث عن جلال الله تعالى وعظمته وما يكون يوم القيامة من خطاب له سبحانه، وبذاته العلية لمن يشاء أن يكلمهم، وهم الأبرار الذين يسعدهم رب البرية بكلامه معهم، ونظره إليه سبحانه نظرة تقريب، وإيناس، وما لا يشاء لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وما يجري يوم القيامة في هذا الحديث هو للذين ينكرون البعث ويشكون، فكانوا غير جديرين لأن يخاطبهم بذاته العلية لأنهم لا يكلمهم ولا ينظر إليهم، فناسب ذلك ضمير الغياب، وهناك قراءة بضمير المتكلم إلقاء للهيبة في نفوسهم، وليس خطابهم إلا للوم والتأنيب، ويجوز أن يكون الخطاب من الملائكة ونسب إليه سبحانه، لأنه هو الذي أمر، والذين يعبدون يشمل العقلاء الذين عبدوهم كالملائكة، وعيسى وعزير، وكرشنة في البرهمية، وبوذا في البوذية، كما يشمل الأوثان والنار، وغيرهما مما لا يعقل.
وقد اتجه القول يوم القيامة إلى المعبودين في الدنيا من العقلاء وغيرهم، اتجه القول إليهم :﴿ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء ﴾، الفاء للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، والسياق هكذا، وإذا حشروا وما يعبدون يقول لهم... ، والسؤال أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، والإشارة تعود إلى الذين عبدوا غير الله من يهود، ونصارى ووثنيين ورومان وعرب، هذا الشطر الأول من المعادلة، والشطر الثاني أم هم ضلوا السبيل، والسؤال أهؤلاء الذين عبدوكم أنتم أضللتموهم بالدعوة إلى عبادتكم، أم هم ضلوا الطريق الموصل إلى الحق بالأوهام التي غشت عقولهم والشهوات التي أفسدت نفوسهم، والمتع الدنيوية التي ألهتهم.
ولقد أجاب المعبود بنفي الإضلال عنهم.
غلب في القول العقلاء على غيرهم، وقيل : أنطق الله الأحجار فنطقت كما نطق العقلاء، وليس ذلك بمعجز على قدرة الله العلي الحكيم، ومهما يكن فقد نطق المعبودون جلهم أو كلهم، قائلين :﴿ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ وفي قوله تعالى :﴿ نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ ﴾ قراءتان إحداهما نتخذ بالفعل المبني للفاعل، وقراءة بضم النون الأولى بالبناء لغير الفاعل، ويكون المعنى على القراءة الأولى، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من غيرك أولياء ونصراء، وإذا كان ذلك لا يسوغ لنا، فبالأولى لا نسوغه لغيرنا، وكان تدل على الكينونة، أي ما كنا بوجودنا إلا عبادا لا يكون لنا أن نتخذ أولياء غيرك فلا يجوز أن ندعو أحدا إليه.
وعلى القراءة الثانية بالبناء للمفعول ما كان ينبغي لنا أن نرضى بأن نتخذ أولياء ونصراء غيرك، وذلك كقول عيسى عليه الصلاة والسلام عندما يسأله ربه يوم القيامة ﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) ﴾ [ المائدة ].
وقوله تعالى :﴿ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ من الأولى معناها من غيرك، وهو دونك مكانة ومقاما، ومن الثانية تدل على الاستغراق، أي ولي نصير معبود فهي لاستغراق النفي وتأكيده.
وإنه يجيء على لسان المعبودين ما هو الحق في ذاته :﴿ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴾، أي أن المتعة التي متعتهم بها من سلطان وجاه، وإعطائهم المال والأولاد، والسيطرة والتمكن كما مكنت لفرعون وأشباهه، وإن المتع والأهواء والشهوات تغشى النفس بفساد من الضلال ينسون به ذكر الله، ويتركون ما هو حق في ذاته إلى ما تميله الأهواء والأوهام فأنستهم ذكر الله، وألهتهم، وصاروا قوما بورا، البور وصف لأولئك الذين ضلوا، فهم بائرون قد انحلوا من كل وثاق لأهل الإيمان، وأصل بار معناها كسد، ومن ذلك قوله تعالى ﴿... تجارة لن تبور ( ٢٩ ) ﴾ [ فاطر ]، والشيء الكاسد يفسد، وهؤلاء قد فسدوا بكلامهم الذي لا أصل له، ولا دعامة يقوم عليها أو أي دليل إلا الوهم والهوى.
﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( ١٩ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ بما تقولون ﴾ فيها قراءتان إحداهما بالياء ﴿ يقولون ﴾ والثانية بالتاء وهي المشهورة وهي قراءة الأكثرين والمعنى على القراءة الأولى فقد كذبكم من كنتم تعبدونهم، بما يقولون من أنه ما كان ينبغي لهم أن يتخذوا من دونه من أولياء وإن ذلك ظاهر، وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة الجمهور يكون الخطاب ابتداء للكفار، والباء بمعنى في، وتجيء كثيرا بمعنى في ويكون توجيه القول، فقد كذبوكم فيما تقولون وتعبدون به الأوثان، وتحسبون أن لكم نصرة من الذين تعبدونهم، إذا محل بكم الدليل وشهد عليكم ما تعبدونهم، فقد تقرر العذاب عليكم، وأن تؤخذوا به أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال مرتبا على تكذيب هؤلاء ﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ﴾، أي لا تملكون صرف العذاب عنكم ولا نصرا من أحد ينصركم، لأنكم أيها الكفار قد خذلكم من كنتم تعبدونهم، وبينوا بطلان قولكم، ولا نصر من أحد، إذا كنتم ترجون النصرة منهم، وبقيتم وحدكم من غير ناصر ولا عاذر، وتقرر العقاب العتيد عليكم، ولذا قال تعالى :﴿ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾ ومن يظلم، أي يشرك، ويفتن الناس عن دينهم، وصد عن سبيل الله تعالى، وقد أفردتم عن النصير والمعين ﴿ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾، أي عظيما لا يحد مقداره، ولا يعلم شدته إلا علام الغيوب، والتنكير لبيان هوله، وأنه لا يقادر بقدر، ولا يغيا بغاية يعلمها البشر.
﴿ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( ٢٠ ) ﴾.
هذا بيان أن الرسل لا يكونون إلا من البشر، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم ويوجهوهم، ويهديهم الله تعالى بهم، ولا يمكن أن يكون ملكا، لأنه ليس من جنسهم، ولا يمكن أن يكون قدوة، لأن المقتدى يكون من جنس المقتدي، لتتم القدوة، ولا يكون هنالك ما يكون للقدوة من خواص يختص بها، ولأن الرسول يدعو بعمله، ويتبع في أعماله، فلا بد أن يكون من البشر ليتبع في أعماله، ولأن الناس قد يحال بينهم وبين مواجهته بمحاجزات من الملوك والرؤساء، فلا بد من رفع المحاجزات ليخلو وجه الناس لهم.
لا بد أن يكون الرسل من البشر، وإنهم يدعون الضعفاء والأقوياء، ولا يتبعهم ابتداء إلا الضعفاء، ولتمام الدعوة وسلامتها، لا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء، فداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته، ولا يعيش عيش ضعفائهم.
﴿ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ من هنا بيانية، والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين ﴿ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾، إنهم ليأكلون الطعام إلى آخره جملة حالية ﴿ إلا أنهم ﴾ في حال يأكلون فيها الطعام أي ما أرسلناهم إلا والحال التي تحيط بهم أنهم يأكلون الطعام، فتلك حالهم، وبعض النحويين يقررون أن في الكلام محذوفا ( هذه صفته ) فذكرت الصفة مغنية عن الموصوف المقدر، ويكون سياق القول، وما أرسلنا إلا رسلا إنهم ليأكلون، وأرى أن عد الجملة حالية أولى بالأخذ، لأن ما لا يحتاج لتقدير أولى.
والخطاب في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ للناس أجمعين، والفتنة أصلها ما يفتن به الفلز، ليخرج منه الذي يعلق به، وأطلق على ما تفتن به النفوس من جاه ومال ونفر، وعلو في الأرض، ومعنى ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم، والأغنياء فتنة للفقراء باستعلائهم، والضعفاء فتنة للأقوياء بسبقهم إلى الإيمان والحق، وتأخرهم، وهكذا كل من أعطى خيرا دنيويا أو أخرويا يكون فتنة لمن لم يكن مثله، وإن الواجب للمفتون هو الصبر، والواجب على أهل الحق من الأنبياء والصديقين أن يصبروا، ولذا قال تعالى :﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾ والصبر في الفتنة هو السبيل لاجتياز المحنة والخروج منها مؤمنا خالصا، فالاستفهام هو للتوجيه للصبر، والتحريض، ويلاحظ أن الله تعالى أكد أن الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق بالجملة الاسمية، وبإن المؤكدة، وباللام في خبرها ﴿ ليأكلون ﴾.
﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ كان دالة على الدوام، وأن الناس تحت رقابة الله دائما، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر، ويكافئ كلا بحسب حاله التي علمها الله تعالى إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فليعلموا عمل ما يرى ويسمع، والله بكل شيء محيط.
الكلام موصول في بيان أحوال المشركين، وتعلاتهم في كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وخصوصا القرآن الذي هو أعظم المعجزات التي جاء بها الرسل، وهو المعجزة الباقية التي تتحدى الأجيال أن يأتوا بمثلها إلى يوم القيامة، وفي هذه الآية ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا... ﴾ يشير سبحانه إلى السبب في كفرهم وجحودهم بكل شيء، وهو أنهم لا يرجون لقاء الله تعالى فقال سبحانه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾.
لا يرجون لقاءنا، أي ينكرون لقاء الله تعالى ولا يؤمنون، وأن لهم هذه الحياة التي يعيشونها في الدنيا، ولا يؤمنون بغيرها، وعبر سبحانه عن عدم إيمانهم باليوم الآخر ولقائه بقوله :﴿ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾، أي لا يطمعون ولا يأملون في لقائنا، للإشارة إلى أن الإيمان باليوم الآخر فيه رجاء الخير، فمن يؤمن به يرجو الخير، لأنه يعلم أن هناك جزاء، وأن أعماله ليست هباء، فإذا كان متعبا في هذه شقيا فيها، كان رجاء العوض يوم البعث، فينال الخير بدل الحياة الشاقة التي يعيشها، فالمؤمن له رجاء، والكافر بالبعث حاسر، وأضاف اللقاء إليه سبحانه، لأنه مفرج الكروب، والمجازي سبحانه بالخير خيرا، وبالشر شرا، وفيه إيناس بأن من يرجو لقاء الله، إنما يرجو لقاء السند القوي، ومن يكفر به، يعدم ذلك السند الذي لا يعتمد عليه غيره، سبحانه عظمت آلاؤه، والتعبير بالموصول :﴿ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾ فيه إشارة إلى أن السبب في لجاجتهم في الكفر وإنكارهم للمعجزات، وعدم تعلقهم للحقائق هو أنهم لا يرجون لقاء الله، ولو رجوا لقاء الله، لعملوا حساب هذا اللقاء واهتدوا بدل الكفران.
﴿ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾.
لولا للتحريض، أي هلا أنزل علينا الملائكة، يخبرون برسالة الله تعالى لهم، ولا يجيئنا واحد منا يأكل مما نأكل ويمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا تحريض على أن يكون ملائكة، أو نرى ربنا، أو تقول لولا حرف شرط امتناع أي امتنع إيماننا لأنه لا تنزل ملائكة أو لم نر ربنا، والأظهر أنها للتمني، أي نطلب متمنين أن ينزل علينا ملائكة أو نرى ربنا، وهذا مؤدى الحض، فهم يتمنون متعللين بهذه الأمنية الباطلة لتبرير كفرهم.
ومعنى قولهم ومؤداه أننا لا نؤمن بأنك رسول، ولو كان الله يرسل رسولا لأرسله من الملائكة، ولماذا لا يخاطبنا، وهكذا سار المشركون على ما سار اليهود من قبلهم، فقد قالوا لموسى عليه السلام لن نؤمن لك حتى نرى الله، إن هذا الذي طلبوه يتضمن في ذات نفسه خروجا بهم عن طورهم الإنساني ؛ لأن الرسول يجب أن يكون من جنس من أٍرسل إليهم، فهم بطلبهم هذا كطلب بني إسرائيل من قبل قد تعدوا الحدود، ولذا قال تعالى بعد ذلك ﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾ السين والتاء للطلب، أي طلبوا الكبر في ذات أنفسهم وتعدوا حدودهم، وحسبوا بكبرهم الذي طلبوه أنهم فوق البشرية، وألفوا الظلم، والنبو عن الحق، والخروج من دائرته، ولا سبيل إلى رجعتهم
﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ( ٢٢ ) ﴾.
أي أنهم سيرون الملائكة غير نازلين لهم في الدنيا، فالرسالة من البشر، كما هي سنة الله في دعوة الخلق إلى الهداية، وكما كان شأن الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى مخاطبا نبيه ﴿... قل ما كنت بدعا من الرسل.. ( ٩ ) ﴾ [ الأحقاف ]، فهم يطلبون محالا في الدنيا، وستنزل إليهم الملائكة فيرونهم عيانا، ويكون عذاب منهم إليهم، ولذا قال تعالى ﴿ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ هذه عبارة سامية فيها تهديد للمجرمين الذين أجرموا في جنب الله تعالى، وفيها تبشير للمؤمنين.
فهذه الجملة السامية مع إيجازها المعجز، فيها تبشير وفيها ذكر لعذاب المجرمين، فالمجرمون لا بشرى لهم بدخول جنة النعيم، إذ هم محرومون منها، وفيها بالمفهوم بشرى لغير المجرمين، ففيها جزاء المؤمنين بالنعيم المقيم وحرمان المجرمين منه، وهذا أدنى الجزاء، وهو عقوبة سلبية، والعقوبة الإيجابية وهي دخولهم في الجحيم بدل بشرى النعيم، فهي مذكورة في آيات كثيرة، وأشير إلى بشرى المؤمنين، لأنهم يرجون لقاء ربهم، فكانوا صفوفا في منازل الأبرار.
﴿ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ الضمير في ﴿ يقولون ﴾ يصح أن يعود على الملائكة، ويصح أن يعود إلى المجرمين، والحجر معناه المكان المحجور الممتنع كنقض بمعنى منقوض، ومن ذلك حجر إبراهيم، فهو مكان ممنوع، ووصفه بالمحجور تصريح بما تضمنه اللفظ، وتأكيد لمعنى المنع على غير المؤمنين.
وتخريج القول على أن الضمير يعود على الملائكة ويكون المعنى أن الملائكة يقولون لا بشرى يومئذ للمجرمين، أي البشرى بالجنة تكون لغير المجرمين مقصورا ما يبشر به على المؤمنين، فأنتم معشر المجرمين ممنوعون منه محرومون.
وإذا كان الضمير في يقولون يعود إلى المجرمين يكون المعنى أنهم أدركوا أنه لا نصيب لهم بالبشرى في الجنة، ليقولوا متحسرين نادمين مكبوتين ﴿ حِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ أي مكان ممنوع علينا منعا مؤكدا.
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ( ٢٣ ) ﴾.
٢ الهباء ذرات التراب الرقيقة التي لا تبدو إلا في ضوء الشمس المنبثق من كوة مفتوحة، وقد روى عن علي كرم الله وجهه أن الهباء المنثور هو شعاع الشمس الذي يبدو من الكوة، ويراد بالهباء ذرات التراب التي لا تظهر إلا في الضوء الساطع من الكوة لدقته، والمنثور معناه المفرق في الهواء وكأنه لا وجود له، أو لا يحس بالبصر متميزا عن غيره.
وقوله تعالى :﴿ وقدمنا ﴾، أي عمدنا إلى ما عملوا من عمل يرونه برا يكافئون عليه، فجعلناه كالهباء المفرق في الهواء لا يرى، ذلك لأن البر إنما يكون مع النية المحتسبة عند الله، وهؤلاء ليست لهم نية محتسبة لأنهم لا يعبدون الله، بل يعبدون الأوثان، ولا يرجون سواها، فهم آثمون بعملهم لفساد نياتهم.
هذه حال المشركين فيما يعملون من أعمال يحسبون أن فيها خيرا، وهي ضلال في ضلال لفساد النية، أما الذين لهم البشرى فهم أصحاب الجنة.
أصحاب الجنة هم المتقون كقوله تعالى ﴿ أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون ﴾ وعبر سبحانه عن المتقين بأنهم أصحاب الجنة، أي الذين اختصوا بها ويلازمونها، كما اختصت بملازمتهم، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لا خير لغيرهم يفاضلون به بينهم وبين أهل الجنة، إنما المعنى الظاهر أن أصحاب الجنة أتاهم في الاستقرار والبقاء خير لا يقادر قدره، ولا علو لغيره، ولا يعلوه شيء في الوجود، والمقيل اسم مكان من قال يقيل، أي أنه استراح في القيلولة، وأفعل التفضيل على غير بابه، أي أن لهم استراحة في وقت القيلولة، ليس هناك ما يماثلها في حسنها وراحتها، وعبر عن راحة الجنة باستراحة وقت القيلولة ؛ لأن الراحة في هذا الوقت تكون متعة في ذاتها، وقد شبهت راحة الجنة بهذه الراحة لحسنها، ومتعتها، ولأن الجنة مقابلة بالنار، فكانت كأنها الراحة في وسط القيلولة، أي أن المجرمين في وقت راحة الجنة واستمتاعهم يكونون في ستار من الجحيم، وعذاب الخلد.
﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ﴾ معطوفة على قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي في هذا اليوم الذي تنزل الملائكة ويرونها، وهي تعويل لهم، يكون معه يوم آخر، وهو يوم تشقق السماء بالغمام، تشقق أصلها تتشقق حذفت إحدى التاءين تخفيفا، كقوله تعالى :﴿ تلظى ﴾ والباء هنا للملاصقة أو الظرفية، أي تشقق السماء بتشقق الغمام، وهذا كناية عن أن السماء تضطرب، وتتقطع أجزاؤها، وهذا كقوله تعالى :﴿ إذا السماء انشقت ( ١ ) ﴾ [ الإنشقاق ]، وكقوله تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت ( ١ ) وإذا الكواكب انتثرت ( ٢ ) وإذا البحار فجرت ( ٣ ) وإذا القبور بعثرت ( ٤ ) ﴾ [ الانفطار ]، والمعنى إذا اضطرب الكون بما فيه ومن فيه يكون يوم البعث، وفي هذه الحال تنزل الملائكة فوجا بعد فوج للحساب وتقرير المصير إلى النعيم أو الجحيم، ولذا قال تعالى :﴿ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ﴾ والتنزيل النزول فريقا بعد فريق، أي أنه لا يكون حساب واحد، بل حساب بعد حساب، ومن شدد عليه الحساب عذب، وهذه الآية في معناها كقوله تعالى :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ.. ( ٢١٠ ) ﴾ [ البقرة ].
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ( ٢٦ ) ﴾.
﴿ الملك يومئذ ﴾، أي السلطان الكامل، ودل على الكمال بأل الدال على كمال الاستغراق كأنه لا ملك غيره، ولا يسمى ملكا سواه، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه الحق، أي الثابت الذي لا يتخلف حكمه، ولا يكون لغيره أبدا.
وهذا الملك الثابت الكامل ﴿ للرحمن ﴾ جلت رحمته، ووصف الله تعالى هنا بصفة الرحمن مع أن ذلك اليوم شديد عسير على الكافرين، كما سيذكر سبحانه ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ لأن حكم الله سيكون شديد الحمل عسيرا عليهم، وصف الله تعالى بالرحمة، للإشارة إلى أنه سيكون رحيما بالمؤمنين ؛ عسيرا على الكافرين، فرحمته في ظاهر العبارة خاصة بالمؤمنين، وأما الكافرين فسيكون عسيرا عليهم، ولعل الأصوب أن نقول : إنه في بشراه بالجنة للمؤمنين، والعذاب العسير للكافرين، وهو الرحيم ؛ لأن الرحمة الحقيقية تقتضي تعذيب الكافرين، وإثابة المتقين، لأن موجب الرحمة ألا يتساوى المسيء مع المحسن، ولا الأعمى مع البصير، وألا يستوي الذين لا يعلمون والذين يعلمون.
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ هذا معطوف على ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ﴾، وقوله تعالى ﴿ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾، هذا التعبير كناية عن تحسره وغيظه وندمه على أن فاته وقت العمل، وقد ووجه بعاقبة ما أهمل، وإنكاره ليوم البعث الذي رآه رأي العين، وشاهده وهو الآن يلقي ويلاته وآلامه.
ولسان حاله يقول :﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ ويا هنا ليست للنداء، ولكنها للتنبيه على ما يتمناه نفسه وقد فات وقت الأماني، وتمني الأماني، وقد فات وقتها، وسجل عليه فواتها، أو نقول إن يا للنداء، وتنادي فيه الأماني التي فاتته نادما، ولات حتى يندم.
والأمنية التي كان يتمناها، وهي قوله :﴿ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾، أي لم أفارقه، ولم أعانده، ولم أكذبه، وقد كان الصديق الأمين، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، وإن البيان كمال شخصه ورسالته، ومعنى ﴿ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ أي سرت في مساره غير مفارق سبيله الذي اختار، وتنكير سبيلا للإشارة إلى كرم طريق الرسالة والهداية الذي فارقه، ولم يسر فيه، بل ضل عنه ضلال بعيدا.
والظالم هو من اتصف بالظلم في عبادته فأشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، أو آذى المؤمنين أو كان يعثوا في الأرض فسادا، فليس المراد شخصا أو أشخاصا، وإن كانت الآية قد اقترن نزولها بظلمهم.
ويلتا : الألف مقلوبة عن ياء المتكلم، والويلة بمعنى الهلاك، فهو ينادي هلاكه الذي نزل به، وذلك للشعور بما نزل به، فكأنه ينادى بهلاكه إيماء إلى نزوله به، وكأنه يناديه تحسرا، وكأنه يقول يا هلاكي أقبل فهذا وقتك، فإنك نازل لا محالة، وفيه إشعار بأنه يستحقه، ولقد كان في الآية السابقة يتمنى أن يتخذ مع الرسول السبيل الجيد المستقيم، فهنا يتمنى أنه لم يتخذ فلانا خليلا صادقا يخاله ويوده، ويقترن به ويتبعه، ليت وهل ينفع شيئا ليت، وفلان كناية عن صاحبه وأصحابه، ويتمنى أن لو كان لم يتخذهم أخلاء له، ويتحقق قوله تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( ٦٧ ) ﴾ [ الزخرف ].
وهذه الآية وإن كان موضوعها في اليوم الآخر، يشير إلى سبب الفساد بين الناس في دار الابتلاء، والسبب يتلخص في أمرين : أولهما صحبة السوء، فإن صاحب السوء أخو الشيطان يسهل للشيطان سبيله، ثانيهما الرأي الفاسد، فإنه يكثر فيه خلان السوء ودعاة الشر، والتخذيل عن الخير
وحدّ وقت الذكر، وهو وقت مجيئه الذي يكون فيه الهدى والضلال، وفي ذكر هذا الوقت إيذان بأنه قد جاء المذكر، ولم يجب داعيه، وإيذان أيا بأنه لا سبيل له إلى استعادة ما فات، وتغليظ لفساد صحبة صاحبه.
وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴾ هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى وأحكامه من كلام الذي يقول :﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾.
فإن كانت من كلام الله تعالى فهو سبحانه وتعالى يقرر حقيقة ثابتة في الناس، والشيطان هنا هو الخليل الذي يدعو إلى السوء، لأنه يكون كالشيطان تسري نفثاته في نفسه كما تسري نفثات الشيطان، والشيطان خذول للإنسان يخذله عن السير في طريق الخير وهدايته.
وعلى أن هذا من كلام الكافر يوم القيامة، يكون رميا لخليله الذي أضله بأنه كالشيطان أفسد قلبه وإدراكه وخذله عن أن يسلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم، ويتخذ سبيله صلى الله عليه وسلم الحق والذكر والمعرفة، والهداية والبعد عن الضلال، وخذول صيغة مبالغة من خاذل، وهو الذي يجعل الشخص المقدم على أمر يتردد فيه ولا يفعله، والمراد هنا هو التخذيل عن فعل الخير، وسلوك الطريق الأقوم، والأهدى سبيلا.
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( ٣٠ ) ﴾.
هذه حال الرسول ورسالته وإعراضهم عنها في الدنيا مما يوقعهم في حالهم التي صورها سبحانه وتعالى في الآخرة، وعبر سبحانه بالرسول للإشارة إلى حق الرسالة عليه من الاتباع والدعوة، وحقه عليهم من الاستجابة والطاعة له.
وقد نادى ربه ضارعا له أن ينصره ويؤيده فقال : يا رب ؛ ليشكو بثه وحزنه إليه، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. وعبر بقومي لإبداء الغرابة من إنكارهم، لأنهم عرفوه صادقا أمينا، وعاشروه وعرفوا أنه الأمين، ليس بالكذاب ومعه الحجة المثبتة لرسالته التي لا تدع ارتيابا لمرتاب.
وقوله تعالى :﴿ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ الإشارة إلى القرآن الذي عرف بصفاته العالية من أنه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، وهو نور يهدي إلى صراط مستقيم وبلاغته تبعد عن كل قول وفيه الشريعة، اتخذوا القرآن صاحب الصفات العليا مهجورا، أي شيئا مهجورا، هجرته القلوب، وهجروه بذواتهم فكانوا يقولون :﴿... لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( ٢٦ ) ﴾ [ فصلت ]، وقالوا الهجر والفحش ما يدل على فحشهم وهجر أفعالهم، وقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم المناقضة لرشدهم.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( ٣١ ) ﴾.
إنه منذ هبط آدم وإبليس إلى الأرض، والخير والشر في نزاع مستمر، تحقيقا لقوله تعالى :﴿... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ٣٦ ) ﴾ [ البقرة ]، فإذا كان من سنة الله تعالى في خلقه أن يبعث النذير والداعي إلى الخير، فإنه تكون وسوسة الشيطان دائمة مستمرة، والإنسان في غلاب مستمر بين نوازع الشر، ودواعي الخير، وبين الداعي إلى الخير ودعاة الشر دائما، ولذلك جعل الله للنبيين أعداء من المجرمين، ليتحقق للنبي فضل الجهاد، وليتحقق الابتلاء الذي يبتلى به النبيون، كما قال تعالى :﴿... ونبلوكم بالشر والخير فتنة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ]، ولذلك كان لكل نبي عدو من المجرمين، وإلا ما كان فضل الجهاد، وفضل الاختبار الشديد لأهل الإيمان.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ الإشارة إلى ما قوبل به النبي صلى الله عليه وسلم من عداوة كبار المشركين، كأبي لهب، وأبي جهل، ولجاجتهما في العداوة والإحن مع قرب القرابة، والرحم الواصلة، والمعنى كهذه العداوة التي تلقاها من بعض المجرمين من قومك، وجعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين، وعدوا تشمل الجمع والواحد أي يكون لنبي عدو، فرادى وجماعات، لأن تلك سنة الحياة التي سنها الله تعالى :﴿ ولن تجد لسنة الله تحويلا ( ٤٣ ) ﴾ [ فاطر ]، و( من ) هنا ابتدائية، أي يكونون من المجرمين دون غيرهم.
وإذا كان ذلك شأن الوجود الإنساني أن يكون الإنسان في متنازع الخير والشر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غالب، لأن الله تعالى ناصره ومعه، ولذا قال :﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ الباء لتأكيد كفاية الله تعالى له، وإنه معه يغنيه عن الاستعانة بغيره، والتعبير ﴿ بربك ﴾ أي كالئك وحافظك ومربيك، والقائم على شئونك، ﴿ هاديا ﴾ إلى أقوم سبل الحياة الفاضلة، ﴿ ونصيرا ﴾ نصرا مؤزرا دائما، وليستخلفن في الأرض المؤمنين الصالحين.
أدى جحود المشركين لمعنى النبوة والرسالة الإلهية إلى أن يتقحموا في كلام غير معقول، وأداهم تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومعجزته إلى أن يقولوا كلاما لا موضوع له إلا أن يريدوا توهينه.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ ﴿ لولا ﴾ هنا للحض والتحريض على ما قدر ما تدركه عقولهم، وكأنهم في هذا يعيبون القرآن، لأنه نزل مفرقا، ولمن ينزل دفعة واحدة، ويعيبون إعجازه، لأنه نزل أجزاء مفرقة، وكل ذلك لتسويغ أفكارهم وكفرهم، وقد رد سبحانه قولهم بقوله عز من قائل :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾، وقد ذكر سبحانه وتعالى حكمتين في نزوله مفرقا على أجزاء تنزل في أوقات متفرقة : أولاهما هي إيناس النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيت قلبه على الدعوة باستمرار الوحي نازلا بالقرآن لا ينقطع، وهذه الحكمة أشار إليها سبحانه بقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك فتعرف بالوحي المستمر أن الله معك، الثانية أشار إليها سبحانه بقوله :﴿ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ والترتيل هو قراءة القرآن الكريم على نسق منسق مصور للمعاني الجليلة في التلاوة، فيتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم مرتلا، ثم يقرؤه لغيره من القراء من أصحابه كذلك، وبذلك يتواتر القرآن مرتلا، كما أقرأه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، وكما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فالقرآن الكريم ليس متواترا بلفظه فقط، بل بلفظه وترتيله، فقد علّم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( ١٦ ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( ١٧ ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( ١٨ ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ١٩ ) ﴾ [ القيامة ]، وقال تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث... ( ١٠٦ ) ﴾ [ الإسراء ].
وإن العرب كانوا أمة أمية، فما كان فيها كاتب عنده القدرة على أن يكتب القرآن كله، ولأن الله تعالى تكفل أن يحفظ كتابه من غير تحريف ولا تبديل، ليحفظه إلى يوم القيامة، فكان ذلك بحفظه في الصدور، وإن ما يحفظ على قرطاس يسهل تحريفه أو تبديله أو حذف جزء منه، أما ما يحفظ في الصدور فإنه يكون في وعي لا يغير ولا يبدل، ولما أراد اليهود في أفريقيا أن يحرفوا في كتابة المصحف كان الحفاظ وراءهم، وقد ردوا كيدهم في نحورهم.
إنهم قد ساءت عليهم المسالك كشأن كل مبطل يريد أن يثير لجاجة في القول والريب حول حقيقة ثابتة لا مجال للريب فيها، فهم أنكروا أن يكون آية وطلبوا غيره مع عجز صارخ عن أن يأتوا بمثله، وجاءوا بعد إلى أمر شكلي حوله يريدون أن يتخذوا منه سبيلا لأن يقولوا إن محمدا اصطنعه اصطناعا بعد أن قالوا : إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قالوا لماذا لا ينزل جملة واحدة، فبين الله تعالى حكمته العليا في أنه نزل مفرقا، وقال :﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ المثل الحال والصورة، أي لا يأتونك بحال يتوهمون أنها تلقى بريب أو شك، إلا جئناك بالأمر الثابت الذي لا ريب فيه، فيلقمهم الحجة ويزداد الحق نصوعا وسطوعا وبيانا يقطع جهيزة كل متكلم، ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ أفعل التفضيل ليس على بابه، لأنهم ليس لهم تفسير للحقائق حتى يكون بيان القرآن أحسن منه، إنما الظاهر أن بيان الحقائق في القرآن لا يوجد بيان أعلى منه ولا أجمل ولا أوضح، فالتفسير البيان، وكأن الله سخرهم باعتراضهم لتزداد حجة النبي صلى الله عليه وسلم وضوحا، والله عليم حكيم
﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ( ٣٤ ) ﴾.
موضع ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ﴾ النصب على الاختصاص، وبيان عاقبة أمرهم بعد هذا الذي يثيرونه حول الحجة الكبرى للرسالة الخالدة إلى يوم القيامة، وقد عبر سبحانه عن حشرهم يوم القيامة بصورة تجعل القارئ يدرك منها مقدار المهانة التي تلحقهم يوم الحشر، الذي كانوا ينكرونه ويبالغون في إنكاره، إذ إنهم يقلبون على وجوههم التي كانت لا تتجه في الدنيا إلا إلى الأسفل، فهم يسحبون سحبا، ويجرون جرا على وجوههم، وهذا يشير إلى أنهم يساقون ولا يكون لهم اختيار، ويساقون على أقبح حال، فبدل ما كان يدعون لأنفسهم في الدنيا من سيطرة، وسلطان يتحكمون به في رقاب العباد، ويفتنون الناس في عقائدهم يكونون على هذه الصورة من الذل والهوان، وأنهم يؤخذون أخذا إلى جهنم، ﴿ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ الإشارة إلى المشركين محملين بهذه الصفات التي كانت لهم في الدنيا من غطرسة وكبرياء واستنكار عن الحق ولجاجة في الباطل، وإلى ما آل إليه أمرهم من السحب على وجوههم إلى جهنم سحبا، و( شر ) في معنى أفعل التفضيل هو ليس على بابه، كقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المائدة ]، والمعنى من بلغ في الشر أقصى حالاته.
لقد كان المشركون يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم على أتباعه العبيد والفقراء، وهم في نظرهم الأراذل من قومه، فبين سبحانه أنهم إذ يسحبون إلى النار على وجوههم مع صفاتهم السابقة شر مكانا، أي مكانهم الحقيقي والمعنوي شر هو الشر كله، وغيرهم كان هاديا يهدي في الدنيا، وخير مثوبة في الآخرة، ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ أي أبعد عن السبيل الحق في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بإنكارهم للحق، حتى وصلوا إلى درجة العمي، وبالموازنة بين ما كانوا يدعون لأنفسهم، وما آل إليه أمرهم يتبين أولا أنهم كانوا في ضلال وهم في الدنيا، والأرذلون في زعمهم كانوا أهدى سبيلا، ويتبين لهم ثانيا أنهم في الآخرة يسحبون على وجوههم إلى جهنم، والمتقون كانوا سائرين إلى النعيم.
ذكر سبحانه وتعالى طغيان المشركين وضلالهم، وتحديدهم وعنادهم، ثم مآلهم، ثم ذكر سبحانه بعد ذلك العبر التي سبقتهم، وما آل إليه الطغيان والكفر، مشيرا غير مفصل التفصيل في مواضع أخرى، وابتدأ بقصة فرعون وملئه، وقومه، وقد كان أشد طاغية في عصره، لبيان أنه لا يستعصي على الله تدمير عاص مهما يكن طغيانه، وهو الذي كان يعبد، ويقول لهم ﴿... ما علمت لكم من إله غيري... ( ٣٨ ) ﴾ [ القصص ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة، وقد أكد سبحانه وتعالى نزوله صادقا باللام وبقد، فهذا يدل على صدق النزول، ولا يدل على صدق البقاء فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأفرد موسى أنه أوتى الكتاب، ولم يكن معه أخوه هارون، فهو الذي تلقى الألواح العشرة، وهارون كان مؤازرا له، معينا في أداء الرسالة، والذي تلقاها كاملة هو موسى، ولذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ أي مؤازرا معاونا استجابة لطلب موسى في قوله :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) ﴾ [ طه ].
وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم كذبوا بآيات الله مع التكذيب بعد الذهاب، وبعد الذهاب، وبعدما آتى الله تعالى موسى تسع آيات مبينات، فكيف يكونون موصوفين بذلك عند الذهاب، والجواب عن ذلك أنه أخبر بالماضي، لبيان تأكد الدفوع منهم، كما في قوله تعالى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ... ( ١ ) ﴾ [ النحل ]، وكما في قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ( ١ ) ﴾ [ القمر ]، عند بعض المفسرين الذين يقولون : إن انشقاق القمر يوم البعث.
والتدمير إدخال الهلاك في الشيء، أو الهلاك، والفاء أيضا للعطف والترتيب والتعقيب، قد يقال كيف كان التدمير عقب الذهاب، وقد لبث موسى فيهم يدعو سنين، ونقول : إن الزمن في ذاته لم يكون طويلا، وإن كان عند الناس طويلا ؛ ولأن التكذيب يتبعه لا محالة التدمير.
وذكر القوم، ولم يذكر فرعون مع أنه الرأس الطاغي، ونقول في الجواب عن ذلك، إنه لولا حاشيته وقومه ما طغى وتجبر، وكذلك الشأن في كل طاغية جبار ملؤه هم الذين يقرونه ويشجعونه.
﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٣٧ ) ﴾.
﴿ وقوم نوح ﴾ منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر قوم نوح، والرسل هنا يراد بهم نوح عليه السلام إذ إنهم كذبوه، فقد كذبوا رسالة الله تعالى إلى خلقه، فكأنهم يكذبون الرسل جميعا الذين جاءوا قبل نوح، والذين جاءوا بعده، لأنهم كذبوا أصل الرسالة الإلهية، ولذا كان العقاب بأن استؤصلوا وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، وكان ذلك بالإغراق الذي اجتث شأفتهم أجمعين، ولم يبق إلا من آمن بنوح، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾، أي جعلناهم آية معلمة لصدق الرسالة، وهلاك المكذبين الضالين، وقدم للناس على أية إشارة إلى أنه يعتبر بهذه الآية، ومن لم يعتبر فهو لا يعد من الناس، لضلاله وفساد إدراكه.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾، أي هيأنا للظالمين بسبب ظلمهم، الذي يشمل الشرك والفساد في الأرض، والاعتداء على الناس، ﴿ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ أي مؤلما، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، كبديع بمعنى البدع، وعبر بالوصف بالظلم، ليشير إلى أنه سبب العذاب المؤلم
وعادا معطوفة على قوم نوح، وعاد هم قوم هود الذين كفروا، فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا بريح فيه عذاب شديد، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٤ ) ﴾ [ الأحقاف ].
وثمود هم قوم صالح أهلكوا بريح صرصر عاتية.
وأما أصحاب الرس، فقد اختلفت الروايات عن السلف في تفسيرها أو من هم، وأصل الرس كما قال الأصفهاني في مفرداته : الأثر القليل الموجود في الشيء يقال : سمعت رسا من خبر، ورس الحديث في الحديث في نفسي، أي أثره، وروى أن الرس اسم لبئر، وهكذا وردت روايات كثيرة عن أصحاب الرس، وأحسن ما روى في ذلك روايتان هما أن أصحاب الرس وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين دعاهم إلى التوحيد، ومبادئ الأخلاق، وتنظيم المعاملة والعدالة في الكيل والميزان.
والثانية ما رواه ابن جرير واختاره، وهم أصحاب الأخدود الذين هلكوا بإلقائهم في أخاديد ألقيت فيها النيران، وأصحاب الأخدود الذين هلكوا هم الذين فعلوا بالمؤمنين ذلك كما جاء في سورة البروج في قوله :﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ( ١ ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( ٢ ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( ٣ ) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ( ٤ ) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ( ٥ ) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ( ٦ ) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ( ٧ ) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( ٨ ) ﴾.
وإن هؤلاء قد بلغوا أقصى غايات القسوة في معاملة المؤمنين، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وذكرهم في هذه المناسبة، لبيان عتوهم، وأنهم قد انتقم منهم كما انتقم من فرعون، وكما ينتقم من كل المشركين، وإنا نميل إلى الرواية الأولى، وهي أنهم قوم شعيب، لأن سنة القرآن الكريم في قصصه أن يعرض قصة شعيب بعد عاد وثمود، فبمقتضى هذا المنهاج القويم نميل إلى أنه سبحانه وتعالى أشار إلى قصة شعيب بهذه الإشارة.
الإشارة في قوله تعالى :﴿ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ إلى الزمن الذي كان بين نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، والقرن هو الجيل من الناس، أي أن أجيالا بين هؤلاء الأنبياء كثيرا كانت فيها العبر، ولكن قل المعتبر، و﴿ كثيرا ﴾ وصف لمحذوف تقديره عدد، أو وصف لقرون نفسها.
وهذه القرون الكثيرة التي بعث لها النبيون بين نوح وموسى، حذرهم وأنذرهم، وضرب الأمثال من قصص النبيين، وكيف هلك الأقوام، إذ كذبوا الرسل، ويبين الله كيف أهلكهم وفتتهم، وأذلهم، ولذا قال تعالى :﴿ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ﴾ كلا، الضمير قائم مقام مضاف إليه، أي كل قرن من هذه القرون الكثيرة بينا له الأمثال من الذين سبقوه، وكذبوا رسلهم، وكيف كانوا عبرة لهم، ولكن لم يعتبروا، ﴿ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾ فسر الراغب الأصفهاني التتبير بالإهلاك، والمعنى : وكلا أهلناكم إهلاكا، وكانوا عبرة، ولكن لم يكن اعتبار، فعم الفاسد، وضلوا ضلالا بعيدا، إلا من هدى الله، وآمن واهتدى.
وقال الزمخشري وتبعه في هذا كل المفسرين الذين أخذوا أن التتبير هو التكسير والتفتيت، أي أن الله تعالى كسرهم حتى صاروا فتاتا، متقطعا متجزئا.
والمعنيان متلاقيان يصح الجمع بينهما بأن أهلكهم بطريق كسرهم وتفتيتهم، حتى صاروا فتاتا مندثرا.
﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ( ٤٠ ) ﴾.
القرية هي المدينة العظيمة، وهي هنا قرية قوم لوط، ومطر السوء هو الحجارة، وهذا تشبيه للحجارة التي كانت مقصودة بالمطر، لأنها نزلت عليهم منهمرة انهمارا، ولكنه لم يكن مطر ماء مغيث، ولا ماء مغيث، بل مطر حجارة حاطمة، فهو سوء، أي سيئ في ذاته مؤلم، وهو سيئ في عقباه، أفلم يروها ولم يروا ما نزل بها فيعتبروا ويتدبروا، ولكنهم مروا ولم يروا روعة اعتبار.
أتوا هذه القرية أي مروا عليها في رحلاتهم إلى الشام، ولم يعتبروا، وقال أتوها، ولم يقل مروا، للإشارة إلى أنه كان يجب أن يأتوا، ويعتبروا بها، ويخشون أن ينزل بهم لما ارتكبوا من آثام مثلها، أو أشد منها، وإن لم تكن من نوعها.
﴿ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ﴾ بل هنا للإضراب الانتقالي، أي أنه لا يتوقع منهم اعتبار بالسابقين، لأنهم لا يرجون نشورا، لا يتوقعون أن ينشروا ويبعثوا ويحاسبوا، لأن من فقد ذلك الشعور لا يأبه لشيء ولا يفكر في عبرة أو اعتبار، إذ يحسب أنها الحياة الدنيا وحدها ويقول : ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.
المشركون كشأن كل ضال أن يكون مصروفا بقلبه عن الحق منصرفا عن المعاني إلى الظاهر، وعن الحقائق الثابتة إلى الأمور الحسية، لقد رأوا النبي يأكل كما يأكلون، ويمشي في الأسواق كما يمشون، فصرفتهم هذه المشابهات الحسية عن معانيه صلى الله عليه وسلم التي سمي من أجلها الأمين بينهم، فاستهزءوا لمظهر حاضره، ونسوا حقيقة ماضيه العامر بالجود والفضائل، بل نسوا معنى الرسالة ومعجزاتها.
الضمي في ﴿ رأوك ﴾ يعود إلى المشركين، لأنهم حاضرون دائما بمجادلتهم ومهاتراتهم، وفتنتهم للمؤمنين، أي إذا رآك المشركون داعيا موجها مرشدا ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ﴾ إن هنا نافية، وفي الكلام معنى القصر والتخصيص، فالنفي والاستثناء يفيدان القصر، إنهم إذا رأوك لا ينظرون إليك إلا نظر المستهزئ الساخر، فلا يفكرون في الدعوة أهي حق أم باطل، أو أهي في أخلاق الناس وإرشادهم أمر حسن أم أمر باطل، وفي دليلها، أهو ساطع قاطع، وفي تحديه لهم، أهم عاجزون أم قادرون، وفي ماضيه أهو كريم أم غير كريم، لا يفكرون في شيء من هذا، بل يغلبهم الإعراض والاستهزاء قائلين ساخرين ﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ أي أهذا الذي يعيش كما نعيش، ليس معه ملك وليس له كنز، وليس له بستان يغنيه، بعثه الله رسولا، وضمير الصلة محذوف ودل عليه الكلام، والاستفهام في قوله أهذا الذي بعث الله رسولا، استفهام إنكاري للتهم، يفيد نفي الرسالة، لعدم لياقته لهم في زعمهم وكذبهم على الله العزيز الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ( ٤٢ ) ﴾.
إن مخففة من إن، واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره إن الحال والشأن أنه كاد إلى آخره، أي أنه بماضيه وظهور صدقه، وعدم الدليل على كذبه في حججه المتوالية التي كانت تجيء دليلا ردف دليل قارب أن يبعدنا عن آلهتنا، أي يبعدنا عن عبادة آلهتنا، ويجنبنا، إياها، ﴿ لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ أي لولا أن حبسنا أنفسنا عليها، فصبر هنا بمعنى حبس، كقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ... ( ٢٨ ) ﴾ [ الكهف ].
وإن هذا النص الكريم الحاكي لأحوالهم النفسية يدل على أمرين : أولهما أنهم كانوا في مغالطة نفسية، بين باطل اعتنقوه وحق لاح نوره بين أيديهم بحججه وأدلته الناصعة المنيرة، والثاني أنهم لتقليدهم وتعصبهم لما كانوا عليه وما وجدوا عليه الآباء فكانوا يحاولون إبطال الحق وتأييد الباطل، فحبسوا أنفسهم على الباطل حبسا، وأنهم كانوا يتبعون الحق لولا أنهم حبسوا أنفسهم على الباطل، ولولا شرطها صبرنا، وجوابها محذوف دل عليه ما قبلها.
وهكذا المبطل دائما يكون غير مستقر على فكرة، بل الأوهام تسيطر، وتضع على الإدراك غشاء مانعا من أن يصلوا إلى الحقائق ويؤمنوا بها، ولا تحسبن الضالين يؤمنون بشيء.
وقوله تعالى :﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ سوف هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، أي سيعلمون علما مؤكدا في أي جانب كان الضلال، أكان مع الهادي المرشد الأمين، أم منكم، وأنتم تعبدون أحجارا لا تنفع ولا تضر، وقد حبستم أنفسكم عليها حبسا لا تخرجون من دائرة سلطانه الموهوم، وإنكم ستعرفون الحق الواضح الأبلج الناصع في نوره وبياضه عندما ترون العذاب، فالنفوس الضالة لا يهديها إلى الحق الحجة الدامغة، بل تزيدهم إصرارا على باطلهم، ويعلمون حينئذ الحق في وقته، إذ يعلمونه في وقت نزول العذاب، وهو علم ندم، ولات حين مندم.
وقوله تعالى :﴿ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ استفهام لإنكار حالهم وتوبيخهم على جهلهم مع مجازاتهم على ما كان منهم في جنب النبي في الدنيا، ﴿ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ أي أبعد عن الطريق المستقيم، والله بكل شيء عليم
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ( ٤٣ ) ﴾.
ترتب على حبسهم أنفسهم على الضلالة لا يتجاوزونها، ولو بدا لهم الحق لائحا منيرا أنهم يريدون آلهتهم على ما يهوون ويحبون، لا على ما يدركون بعقولهم، وتبين به الآيات الباهرة، وعظمة الله تعالى القاهرة، والمعنى لقد رأيت من اتخذ إلهه هواه، وقالوا : إن المفعول الأول هواه، وأخر للاهتمام بمعنى الألوهية التي لا تكون هوى قط، وكأن سياق القول، أفرأيت من اتخذ هواه إلها يعبده، والإله هو الواحد الأحد النافع الضار الذي يملك كل شيء في الوجود، ولا سلطان لأحد عليه، والاستفهام هنا للتوبيخ، لأنه إنكار لفعلهم الذي فعلوه، ويفعلونه، ويلجون فيه من غير تفكير، ولا تعرف للحق.
﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ الوكيل الحفيظ المتصرف المحامي عليه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هدايتهم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.. ( ٥٦ ) ﴾ [ القصص ]، وقال تعالى :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾ [ الشعراء ]، فهذه الآية وسابقتها تدل على أنهم يعبدون ما يحبون لا ما يعلمون ويدركون، وأنهم قد انغمروا في ضلال لا منجاة لهم منه، ولذا قال تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كانوا يتخذون هواهم إلها، فأنت تكون عليهم حفيظا تهديهم، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، إن فسادهم في ذات أنفسهم، فإن حفظتهم عن أن يضلوا غيرهم، فكيف تحفظهم من ذات أنفسهم، إن ضلالهم في ذات أنفسهم، والاستفهام للتنبيه إلى ضلالهم
أم هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب والاستفهام معا، أي أنها تدل على الإضراب والانتقال من أمر شديد، إلى أشد، فالأمر الأول كان يفرض أنهم يستمعون، ويعقلون واختاروا الهوى إلها، أما الاستفهام في هذه الآية فهو على إنكار أنهم يسمعون.
﴿ تَحْسَبُ ﴾ معناها تظن ونقدر أنهم يسمعون ويعقلون، وإنكار أنهم يسمعون ؛ لبيان أنهم لا يسمعون الحق ولا يهتدون ولا يتدبرون، فكانوا كمن لا يسمعون أصلا، لأن الله وهب لنا السمع لنتقي به أضرار المفاجآت، ولنكون في يقظة، فإذا لم يفد السماع إدراك الحق فهو لم يسمع، ففي الكلام مجاز، وكذلك من عنده عقل ولا يستعمله فكأنه سلبه.
وقال سبحانه :﴿ أَكْثَرَهُمْ ﴾ لأن الله عدل في حكمه دائما، فمنهم من يؤمن، ويكون من المجاهدين، ومنهم من كان يستنكر في نفسه ما يفعله هؤلاء، فليسوا جميعا كأبي جهل وأبي لهب، وإن هؤلاء الكثرة كانوا هم المسيطرون على الجو الفكري حتى أدال الله تعالى من دولة الكفر، وكانت الكلمة العليا لله ولرسوله وللمؤمنين، فأخذ الإسلام يغزو القلوب قلبا قلبا قلبا، وفقد الهوى سلطانه إلا في بعض الأعمال دون العباد، ويئس الشيطان أن يعبد في أرض العرب، وبين سبحانه أن هذه الكثرة أضل من الأنعام فقال :﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾.
هنا نفي وإثبات، وإن نافية، أي ليسوا إلا كالأنعام، في أنهم لا يعلقون الحق ولا يدركونه، وفي الكلام مجاز، إذ شبهوا بالأنعام، لجامع الجهالة وعدم الفهم، وقد أكد الله جهلهم بقوله ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ أي أنهم أضل طريقا وهداية، لأن الأنعام تتبع هاديها، ومن يأخذها إلى منتجع الكلأ والماء، أما هم فلا يهتدون ولا يتبعون هاديا مرشدا، فهم جائرون بائرون، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى :
"إن الأنعام تنقاد لأمر من يرعاها ويتعهدها، وتعرف من يحسن إليها، ومن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار، والمهالك، ولا يهتدون بالحق الذي هو المشرع الهني، والعذب الروي".
وهكذا كان الذين يحسبون الهداية ضلالا، والعكوف على الأوثان والتمسك بها صبرا، يحمدون عليه، وليس هوانا يحسب عليهم، والله الهادي.
الرؤية هنا بصرية نظرية، ذلك أنه من ينظر ببصره الظل وهو يمدّ، والمد : الجر والسحب، يراه رأي العين يجر شيئا فشيئا من انبلاج الفجر، إلى طلوع الشمس يرى ذلك بالنظر، ثم يتدبر بالفكر في صانعه، ولذلك قال :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ والرؤية بالبصر تكون في مد الظل شيئا فشيئا، والرؤية النظرية في سر ذلك وسببه، ولذا وجهت الرؤية إلى الله خالق الأكوان والقادر على كل شيء، والرؤية حينئذ رؤية علمية إلى صانع المد، وما يكون حتى مطلع الشمس، والمد كما قلنا هو السحب والجر، والظل وهو ما لا تظهر فيه الشمس، سواء أكانت في حال إشراقها، أم في حال زوالها، وهو هنا ما قبل إشراقها، وهو يمتد شيئا فشيئا، فالفجر ينبلج، ثم يكون الإسفار متدرجا حتى تطلع الشمس فهو كقوله تعالى :﴿ والصبح إذا تنفس ( ١٨ ) ﴾ [ التكوير ]، إذ يمتد الظل شيئا فشيئا، ويبرز الناس إلى الحياة متدرجين في بعث الحياة في الأعمال، وكأنه يتنفس تنفسا.
هذا توجيه إلى تعرف بدائع الخلق، وإنه في هذه الحال، تكون الراحة النفسية، واستقبال الحياة مبشرا، وإن ذلك صنيع الله تعالى خالق كل شيء ومبدعه، خلقه سبحانه بإرادته المختارة، التي ينشئ بها كل شيء في الوجود، فلا تصدر عنه صدور العلة عن معلولها، ﴿ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾، أي باقيا مقيما، وتكون كلمة ساكنا وضعا من السكنى، وعندئذ لا تبعث الراحة والسعادة والاستبشار، وقد قال تعالى في آية أخرى ﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة... ( ٧١ ) ﴾ [ القصص ]، فسبحان مقلب الأحوال، وسبحان مقلب القلوب.
قال تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ انتقل السياق القرآني من الغيبة إلى المتكلم، لبيان إرادة الله الواضحة، وأنه هو الفاعل المختار، ولتربية المهابة في النفوس بخطابه بذاته العلية خطابا واضحا معلما، والعطف بثم للإشارة إلى التفاوت بين الظل والشمس الساطعة، وكانت الشمس دليلا على الظل، لأن إشراقها نهايته، ولأن ضوء الشمس يدخل في ظلام الليل شيئا فشيئا من انبثاق الفجر، فهو الدليل الواضح للظل، حتى يكون الصباح.
﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾ وإنه بعد إشراق الشمس يكون الظل والحرور، ويستمر طول النهار مصطحبا مع الشمس المشرقة والنور حتى يكون في الغروب وتختفي الظلال والأضواء ويكون الظلام الدامس، والليل الذي تستكن فيه النفوس، وترخى أستار الظلام، وهذا قوله :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ﴾ أي نسخناه وأزلناه، وشبه زوال الظل بجواز الضياء بشيء يقبض، وأضيف القبض إليه سبحانه لأنه يكون بإرادته، وبالنظام الثابت الذي وضعه الله تعالى للكون، فجعل سبحانه الأرض تدور حول الشمس، وبهذا الدوران يكون الليل والنهار، وثم هنا في موضعها ؛ لأن القبض مستمر طول النهار، ويتم في آخره، فالتعبير بثم في موضعه.
والقبض اليسير هو القبض المتدرج آنا بعد آن، وساعة بعد ساعة، فالقبض للظل مستمر من شروق الشمس إلى غروبها، وهو يتناقض شيئا فشيئا حتى ينتهي النهار.
وإن هذا النص يثبت أن الأرض كروية، ويومئ إلى دوران الأرض حول الشمس.
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( ٤٧ ) ﴾.
في هذه الآية الكريمة يذكر ما جعله الله تعالى من خواص الليل، وما جعله من خواص النهار، فجعل الليل كاللباس للناس، لأنه يستر عوراتهم، ولا يكشف، ويكونون في كن من الظلام ساتر غير كاشف، فشبه سبحانه الليل باللباس الساتر بجامع ستره للعورات وما لا يصح إبداؤه، وقوله تعالى ﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾ أي جعلنا النوم قاطعا عن العمل منهيا للحركة، وفي ذلك الراحة اليومية، وتجديد القوى للعود للعمل، وذلك لأن السبات من السبت وهو القطع، وسمى السبت سبتا لأنه قاطع من عمل الأسبوع، ومنه له، وإخلاد إلى الراحة من بعده، وذلك في عقيدة اليهود إذ كانوا في السبت ينقطعون عن العمل والصيد، ويستجمون، والنوم في ذاته موت للحس، وقعود عن الحركة، ولذا قال تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار... ( ٦٠ ) ﴾ [ الأنعام ].
وجعل النهار نشورا، أي جعل النهار فيه النشور، أي الانتشار للحركة والعمل، وفي كلمة نشور إشارة إلى أمور ثلاثة : أولها إبعاد إلى لباس الليل وإنهاء لسباته، وثانيها الحركة العاملة التي بها يعمر الكون، وثالثها الكسب في الحياة وظهور الأعمال خيرها وشرها، ولذا قال تعالى في الآية التي تلونا، ﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ أي كسبتم بالنهار، وسمى الله تعالى النهار نشورا، فسمى الزمان باسم ما يقع عليه، وهذا مجاز علاقته الظرفية، وفي ذلك ما يفيد أنه زمن حركة وعمل، وليس زمن توان وكسل، وهذه دعوة إلى العمل، فالعمل حياة، والكسل موت.
وهذه الآية متصلة بما قبلها، فالآية السابقة شرحت عجائب في خلق النهار من الليل كيف يبتدئ بمد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا، وكيف جعل الشمس مشرقة داعية إلى العمل والحياة، وكيف قبض الظل متدرجا حتى جاء الليل، وفي هذه الآية :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا... ﴾ بين سبحانه حكمته في خلق الليل والنهار، إذ يبدأ النهار بمد الظل، ثم يقبضه متدرجا في قبضه، حتى يجيء الليل، ومن الليل النهار، وجعلهما خلفة.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ( ٤٨ ) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ( ٤٩ ) ﴾.
الضمير لله جل جلاله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل الرياح أطلقها، كأنها مقيدة بإرادته سبحانه ثم أرسلها، والرياح جمع ريح، وهي تتلاقى في استقامتها مع الراحة، كما تتلاقى في وقائعها مع الراحة أيضا، وإن كانت المعاني ليست واحدة، أطلقها سبحانه وتعالى لتكون مبشرة للناس بنزول الماء الطهور، ولذا قال تعالى :﴿ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ وبشرا مخففة من بشر بضم الاثنين، جمع بشور، أي مبشر، والمعنى على ذلك مبشرات برحمته، وهو إنزال الماء الطهور، الذي يطهر من الأرجاس، ويسقي الزرع والغرس والحيوان، والإنسان، ويصح أن تكون جمعا لبشرى، وهي في نظرنا أظهر والمؤدي واحد، وهو أنها مبشرات، وقد تكون الرياح عواصف جدباء، وليست هذه التي تكون بشرا، بل إنه يكون نذيرا من النذر كما وقع لعاد قوم هود، ولثمود قوم صالح، وقوله تعالى :﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي أنها مقدمة لرحمته تليها الرحمة الإلهية لخلقه، وفي هذا الكلام تشبيه حسن باستعارة تمثيلية، فقد شبهت الرياح الممطرة غيثا بمن يسير وأمامه في سيره رحمة مباركة طيبة، ورشحت وقويت الاستعارة بقوله بشرا فإنها تقوى معنى المشبه به، والاستعارة إذا كانت مقواة بما يكون فيه معنى المشبه به كانت مرشحة أي مقواة. وقول ﴿ بشرا ﴾ قرئت بالنون، أي نشر جمع نشور، كما جمع رسل من رسول، والمعنى أنها تنتشر وتعم لتعم الرحمة، ونذهب إلى أن القراءتين المتلاقيتين في المعنى نجمع بينهما فيكون المعنى أن الرياح فيها وصفان أحدهما أنها مبشرة بالخير، والثاني أنها منتشرة وعامة.
ويكون المؤدي أن كل قراءة آية قائمة بذاتها، وهي قراءة، والجمع بينهما يكون الجمع بين آيتين، في أوجز لفظ، وبالجمع تكون الرياح مبشرات ومنتشرات، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
وقال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ﴾ والسماء هنا جهة العلو، أنزلنا من السحاب الذي حملته الرياح المبشرة المنتشرة ماء طهورا، والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وإن أطهر الماء هو ماء المطر، لأنه فوق خلوه من الأنجاس الحسية والقاذورات هو خال خلوا تاما من جراثيم الأمراض الوبائية وغيرها، ووصفه بطهور ينبئ عن ذلك، وإنه ينزل كذلك ثم يكون تلوثه بجراثيم الأمراض بعد ذلك بمكوثه في الأرض واستقراره بها.
وإنه في الشريعة يطهر الإنسان طهارة حسية بإزالة الأنجاس الحسية، وطهارة معنوية بالاغتسال والوضوء، وإنعاش الأجسام بالاستحمام، والاستراحة من وعثاء الأعمال، وكل هذه نعم تعم البر والفاجر.
اللام لام العاقبة، وليست لام التعليل في نظرنا، لأن أفعال الله جل جلاله لا تعلل، ولكنها لام العاقبة وبيان اقتران نعمة الله تعالى بهذا الخير العميم، وقد ذكر الله تعالى ثلاث نعم كل نعمة تشير إلى ما وراءها.
النعمة الأولى إحياء موات الأرض، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته :﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾ البلدة الميت هي الخالية من الزرع والماحلة من الغرس، ولا ينتفع بها في بناء أو غيره، بل هي معدة للزرع والغرس، وإحياؤها هو سقيها، وإزالة أسباب بوارها، وزرعها أو غرسها، والماء هو حياة الزرع والغرس، وخلق الله تعالى من الماء كل شيء حي، يلاحظ هنا أن كلمة "بلدة" مؤنث لفظي، وهو دال في ذاته على البقعة، فكيف يوصف بكلمة ميتا الخالية من التاء، قال علماء البيان : إنه أريد بالبلدة مكانها، فميتا وصف للمكان وهو الذي يوصف بأنه محل خاو من الزرع والضرع، فكان حذف التاء، فيه إيماء إلى ما يجري فيه الإحياء وهو المكان وليس البلدة التي تتكون من البيوت والدور، وهي لا تكون إلا حيث يحييها الله تعالى بالزرع، وإن إيراد المكان بالبلدة هو الذي يتفق مع السياق، والبيان :
وقال علماء البيان أيضا : إن الوصف بميت من غير تاء فيه مبالغة في محلها، وجدبها وخلوها من النبات، وما به ينبت، أي أن الجدب حال مستمرة باقية يراها الناس كذلك، وذلك وجه معقول كسابقه.
وسمى الله تعالى وجود الزرع والغرس، وما يتبعهما من إحياء، تشبيها بالحياة، أي أن الأرض في حال جدبها كالميت، وفي حال زرعها واستغلالها كالحي، وكل بفضل من الله تعالى، ذلك أنه إذا كانت الأرض ماحلة لا حياة لها بزرع أو غرس، فإنه قد يكون باطنها عامرا بالمعادن فلزات وغير فلزات كما نرى في الصحاري في بلاد الحجاز، وفي الصحراء الغربية في تخوم ليبيا والجزائر، ومصر، وفي العراق وإيران، وغيرها من أرض الله تعالى العليم القدير.
النعمة الثانية سقي الحيوان من الأنعام وغيرها، وذلك قوله تعالى :﴿ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا ﴾ أشار في هذه الآية إلى ثلاث نعم في ضمن نعمه أولها : السقي ذاته فهو نعمة، وثانيها : أن الأنعام يسقين خلق الله تعالى، وهي تكون حاملة وعاملة، وثالثها : أنها حيوان هي نعم في ذاته، ولذا سميت الأنعام.
ورابعها : سقي الأناسي، وهي جمع إنس بمعنى الإنسان، وهذه نعمة أخيرة، وهي نعمة الري، ودفع العطش القاتل، إنه هو المنعم الكبير.
اللام لام قسم محذوف، وهي لتأكيد القول، وقد للتأكيد، والضمير يعود إلى القرآن، وهو حاضر في نفوس المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون فلأنه زاد تقواهم، وأما الكافرون فلأنه موضوع لجاجتهم وافترائهم، وقولهم على الله بغير الحق، وافترائهم عليه، وتحديهم أن يأتوا بمثله فعجزوا عن أن يأتوا، وبدل أن يخنعوا بعد هذا العجز يمارون في الحق بعد أن يتعبوا، وهذا على أن الضمير يعود إلى القرآن وهو حاضر في كل الآذان، وتصريفه تحويل بيانه من باب في الإعجاز إلى باب آخر، فمن قصص حكيم فيه عبرة لأولي الأبصار إلى بيان الشرائع وما فيها من إصلاح، إلى الكون وما فيه من بيان لقدرة الله تعالى وإبداعه، وكأن هذا التصريف بينهم ؛ ليبعث فيهم الذكرى، وهذا قوله تعالى :﴿ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ واذّكر افتعال من الذكر، أي أعملوا عقولهم ليذكروه دائما، ولكنهم كفروا، ولم يجعلوا للذكر موضعا في قلوبهم، ولذا قال تعالى :﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾، وهم المشركون، والفاء عاطفة وتشير إلى السببية، أي أنهم بدل أن يجعلوا القرآن سبيلا لتذكرهم وتدبرهم جعلوه سبيلا لكفرهم وبعدهم عن الحق، وأكثر الناس هم المشركون، وقد كانوا في مكة والكثرة الكاثرة، والمؤمنون كانوا القلة المستضعفة، ولكنها القوية بالحق فهو عز المؤمنين، وذل الكافرين مهما يكن عددهم.
هذا على أن الضمير يعود إلى القرآن، وإن الضمير يعود إلى الماء الطهور الذي ينزله الله تعالى ليحيي به موات الأرض، ويسقي بها الأنعام التي خلقها الله تعالى وأناسي، والعود إليه ظاهر، لأنه أقرب مذكور، ﴿ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾، أي وزعناه بينهم، فهو مرة يكون غيثا في الشرق، وأخرى في الغرب، وأحيانا في الوسط، وأحيانا في الجنوب، ورابعة في الشمال، وكل يفيض عليه رزق الله تعالى، وكل يسقيه الله تعالى بقدر، وكان حقا عليهم أن يتذكروا هذه النعم ويشكروها، لأنه سبحانه وتعالى خلقهم، وكفل أرزاقهم، ومكنهم من أن يعملوا ويقوموا على الحرث والنسل، ويستخرجوا من الأرض خيرها، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.
هذا، وإنا نميل إلى أن الضمير يعود على القرآن، لأنه حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى بشيرا ونذيرا
إن الله تعالى رحيم بعباده رفيق بهم، ولكنه خلق لهم أعينا يبصرون بها وآذانا يسمعون بها، وقلوبا يفقهون بها، وجعل لهم علما وإدراكا، ومكنهم من أن يصلحوا في الأرض ولا يفسدوها، وصلاحها بأن يقوموا بمكارم الأخلاق، وجعل لهم بعثا ونشورا، وحسابا وجزاء وعقابا، ولكنه علت قدرته لا بد أن يعطيهم النذر مرشدة، حتى لا يترددوا بأهوائهم في الضلال، فبعث إليهم محمدا بشيرا ونذيرا، بالنذر العامة التي تعم القرى والمدائن، ولو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، والقرية المدينة العظيمة، أو القبيل الكبير، ولذا قال تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴾، أي منذرا يخصها، ويبين الحق بيانا كاملا، ويبين ما يعقب الكفر من عذاب الجحيم، وما يكون بعد الإيمان من جنات النعيم.
لو حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الجواب لامتناع الشرط، أي امتنع أن يجعل الله تعالى في كل قرية نذيرا، لامتناع مشيئته سبحانه ذلك، وله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة وإرادة، وعلى أن الناس متشابهون خلقا وتكوينا وإرادة، وسيطرة الأهواء الشيطانية على بعضهم، والعقل على آخرين اصطفاهم الله تعالى، وبهداه اقتدوا، فكان الإعلام بالرسالة والنذير، إعلاما لهم أجمعين، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وكان إنذار محمد صلى الله عليه وسلم عاما للناس أجمعين، وكان التبليغ الكامل حقا عليه وعلى من تبعه من بعده، كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ... ( ٦٤ ) ﴾ [ المائدة ].
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( ٥٢ ) ﴾.
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد أمر تعالى بأمرين :
الأمر الأول ألا تطع الكافرين، لأنه منذر لهم، والطاعة تكون بتخاذله في الدعوة، وممالأتهم فيما يعبدون، وذلك مستحيل أن يكون من محمد المبعوث رحمة للعالمين والذي جاء لإصلاحهم، فلا يصح أن يعود إلى مداهنتهم في الحق، وإنما ذلك أمر لأتباعه صلى الله عليه وسلم من بعده، ومن هم معه في حال حياته، وذكر الكافرين بالاسم الظاهر لبيان أن طاعتهم طاعة للكفر، فكان ذلك تأكيد النفي ببيان سببه.
والأمر الثاني جهادهم، والجهاد بذل الجهد في مقاومة ضلالهم، وبيان الحق الذي يدعو إليه، والإصرار عليه، والجهاد كان في مكة بالصبر على الدعوة إلى الإيمان، والأذى في سبيلها، والاستهزاء والسخرية بها، وألا ينى عن الإعلام بها لمن لم يكن يعلم، وقد حقق النبي وأصحابه ذلك في مكة، فقد صبروا وصابروا، وتعرض النبي صلى الله عليه وسلم للقبائل بعد أن ذهب إلى الطائف وردوه ردا منكرا، تعرض للقبائل في موسم الحج، حتى كان الأوس والخزرج من أهل يثرب، إذ وجدوا فيه منجاتهم مما هم فيه من عداء بينهم، وحرب مع اليهود، فهاجر إليهم، فكانوا له أنصارا، وكان الجهاد بالمنازلة بعد الجهاد بالمصابرة.
ووصف الله تعالى المطلوب بأنه جهاد كبير، لأن المصابرة أمر عظيم، وبها قام المسلمون، وتكونت الخلية الأولى من أهل الوحدانية. وحملوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عبء الجهاد في دوره الثاني، وكان الجهاد كبيرا، لأنه كان في كل أدوراه بالصبر، وقوله :﴿ به ﴾ أي القرآن ببيانه والتمسك به، فإنه في ذاته قوة، وإنه بهذا يشير إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيلها والمصابرة، وهو أمر كبير إلا على الخاشعين، وإن كبر الجهاد ليس بكثرة المقتولين، وإنما كبره يكون بالصبر عليه، وإرادة الله تعالى فيه، وتحمل الأذى والرضا بالأذى، ما دام يوصل إلى الغاية، وهي أن تكون كلمة الله تعالى هي العليا.
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾.
الضمير يعود إلى الله جل جلاله، ومرج، لها معنيان وردا في لغة العرب، المعنى الأول خلى وأرسل، والمعنى الثاني خلط من غير امتزاج، وإدخال أحدهما في الآخر، وقبل أن نخوض في معنى الكلمات والأسلوب نقرر أن هذه الآية من دلائل الإعجاز، لأن محمدا لم ير البحار التي تمخر عبابها السفن، فذكره سبحانه وتعالى لخواصها في القرآن دليل على أنه ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يرها ولم يعرفها، ودليل على أن الكلام لله تعالى خالق البحر واليابس، والأنهار والبحار، وهو بكل شيء عليم.
والمعنيان للمرج يستعملان في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى خلى البحرين يجريان كل منهما في مجراه من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر، وهما غير متجاورين أحيانا، وأحيانا يكونان متجاورين يختلطان ويتجاوران ولا يمتزجان، والبحران هما النهر العظيم كالدجلة والفرات والنيل وسيحون وجيحون وغيرها من الأنهار العظيمة الذي يخليها الله تعالى ويرسلها في المروج، فتنبث الزرع نباتا وغراسا، ويشرب منها الناس، ويسقون دوابهم وأنعامهم، والبحر الثاني هو البحر الملح، كبحر الروم وبحر القلزم، وبحر الهند، وبحر الظلمات وغيرها، والأول عذب فرات، والثاني ملح أجاج، أي ملح شديد الملوحة، وفيه أحيانا دفء، وفيه نعم لا تحد، ففيه الجواهر والياقوت والمرجان، وفيه اللحم الطيب، وهواؤه فيه مواد مطهرة للصدر، فيه اليود، ومنه تنبعث الريح، وفيه تجري البواخر كالأعلام وفي هذا بيان نعمة الله تعالى في الماء العذب الفرات الذي يكون لسقي الأرض وإحياء نباتها وغرسها.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير عجائب الله تعالى في البحر الأجاج، فذكر ما يكون فيه مد وجزر تبعا للقمر، فقال رضي الله عنه في تفسير ﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ : أي مالح مرّ زعاق لا يستساغ كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب والبحر المحيط.
وأخذ يضرب الأمثال حتى قال : وما يشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى حالتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد لليلة الرابعة عشرة، ثم شرع في النقص فأجرى الله سبحانه وتعالى تلك العادة.
وإن نعم الله تعالى في البحار كما ذكرنا عظيمة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال :( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
وقد أشار سبحانه إلى أن كلا من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج كلاهما محجوز عن صاحبه، بل يأخذ الإنسان من كل منهما منافعه ونعمه من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، فيختلط الملح بالعذب الفرات، فلا ينتفع الإنسان بشربه، ولا الزرع بسقيه.
ولذا قال :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ أي جعل بينهما حاجزا مانعا، وحجرا، أي حدا، وهو بمعنى محجوز، كنقض بمعنى منقوض، وأكد سبحانه المنع، فقال :﴿ وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ أي حدا ممنوعا لا يمكن أن يعدو أحدهما.
وقد قلنا إن ﴿ مرج ﴾ هنا بمعنى خلا وأرسل، وقد بينا معنى مرج البحرين على ذلك المعنى، وهي أيضا بمعنى خلط وجاور من غير أن يمتزج الماءان كل منهما بالآخر مع أن الماء سريع السيران، ويتم الامتزاج فيه، لكن في النوعين من الماء نجدهما يتجاوران مختلطين بالجوار غير سائل أحدهما في الآخر، فتجد في مصبات الأنهار حيث يختلط ماء النهر وتجاور ماء البحر، تجد بينهما مانعا حسيا يكون كل واحد منهما متميزا بحيزه لا يعدوه ؛ لأن ماء النهر خفيف، والماء الملح ثقيل فكلاهما لا يمتزج بالآخر، وإن كان ماء البحر على ماء النهر، ولذا قال تعالى : في هذا النوع من المرج ﴿ مرج البحرين يلتقيان ( ١٩ ) بينهما برزخ لا يبغيان ( ٢٠ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٢١ ) ﴾ [ الرحمن ].
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾.
الضمير ﴿ هو ﴾ يعود إلى الله جل جلاله خالق الوجود كله جليله ودقيقه، وفي هذه الآية يقول عز وجل أنه خلق من الماء بشرا، ونجد في النص تفاوتا بين الماء المخلوقه، والمخلوق منه البشر، فهذا ماء ظاهر أنه لا حياة فيها يكون منه بشر له حياة وحس ظاهر وخفي، والماء لا يتألم، والبشر يتألم، ومع هذا التغير الظاهر كان المخلوق والمخلوق منه موجودين في كيان واحد، وما ذلك إلا بقدرة العليم الحكيم الذي يغير ولا يتغير، ويحول ولا يتحول، وقد خلق البشر الحي الحساس من الماء مرتين : أولاهما أنه ككل حي متحرك ينمو كان من الماء، فالماء كان منه الزرع والثمار وغيرهما، والإنسان كان من النبات، ونما من الحيوان، كما قال تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي... ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ]، وخلق من الماء وهو المنى، وما هو إلا ماء مهين، لا يعبأ به النظر، وأشار سبحانه إلى أن هذا الذي كان منه الماء يتوالد، ويتلاحم البشر في الأسر والقبائل، والشعوب، ولذا قال مشيرا إلى هذا التوالد، فقال :﴿ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ وهذا فيه إشارة إلى الصلات الإنسانية التي تربط الإنسان، وتكون منها المودة الراحمة الواصلة. إما بتوالد نسبي يجمعه الأصل، والنسب، وإما بسبب صهري، ولقد ذكر الزمخشري أن ذكر النسب والصهر والسبب إشارة إلى أن العلاقة الإنسانية تكون بنسب الرجال، أو بالمصاهرة التي تكون بالنساء إذ تكون بالمزاوجة، والمرأة هي السبب في علاقتها، كما قال تعالى :﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ( ٣٩ ) ﴾ [ القيامة ].
وإن ذاك كله بقدرة الله تعالى وإبداعه في هذا الوجود، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل، ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ وكان ربك خالقك الذي أنشأك ويكلؤك ويرعاك قادرا قد علت قدرته كأقصى ما يتصور العقلاء، و( كان ) هنا هي الدالة على الاستمرار والدوام، أو الكينونة الدائمة.
﴿ ويعبدون ﴾ الواو هنا واو الحال، والمعنى : هذه قدرة الله القاهرة الباهرة مع أنهم لم يعتبروا ولم يدركوها، والحال أنهم يعبدون من دون الله أحجارا، أو ما يشبهها لا تنفعهم بشيء قط بحيث يعبدونها رجاء، ولا تستطيع ضررا لهم فتكون العبادة دفعا لهذا الضرر، فهي لا حياة لها، وهي دونهم، ولكن الوهم جعلهم يعبدونها، مع هذه الحال.
وقال تعالى :﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ روى عن مفسري السلف، أن ظهيرا معناها أن الكافر يظاهر الشيطان على الله تعالى، إذ يدليه بغروره فلا يعبد الله، ويعبد الحجارة، وهذه المظاهرة على الله تعالى ربه الذي خلقه وأنعم عليه، وأسبغ عليه ظاهرا وباطنا، وذكر الكافر بالوصف، للإشارة إلى أن سبب ذلك هو ضلال الكفر وطمسه لبصيرة عابد الأوثان.
وفسر بعض العلماء ﴿ ظهيرا ﴾ أي مهينا، والمعنى هينا على ربه لا يضره كفره، وقالوا إن ذلك من قولهم ظهرت عليه، أي جعلته وراء ظهري، لا ألتفت إليه، ولا أهتم به، وذلك قريب من قوله تعالى :﴿... واتخذتموه وراءكم ظهريا... ( ٩٢ ) ﴾ [ هود ]، وهذا القول قاله أبو عبيد، وهو قائم على أن ظهير بمعنى مظهور أي ملقي وراء ظهره.
والمعنيان متلاقيان، فالكافر حليف الشيطان هو الذي يدفعه دفعا إلى معاندة الله تعالى، وهو هين على الله تعالى وليس له عند الله إلا مكان الهون.
إن المشركين أثاروا من أوهامهم أمورا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فزعموا أنه يريد مالا، وزعموا أنه مجنون، وأنه ساحر إلى آخر ما أوحت به أوهامهم، فبين الله سبحانه أنه ما كان إلا بشرا رسولا، وقال :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٥٦ ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾.
الجملة السامية الأولى دالة على القصر بالنفي والإثبات أي ما أرسلنا ذا سلطان، ولا ذا مال، لا لأي عرض من أعراض الدنيا، ولكن أرسلنا مبشرا بالحق داعيا إليه منذرا من يتمسك بالباطل أو يدعو إليه، أرسلناك فقط لتبشير من يبتغون الحق بالنعيم المقيم وجنة الفردوس، ومن يصرون على الباطل لهم عذاب الجحيم.
ومعنى هذا القصر الثابت بالنفي المستغرق، والاستثناء الموضح أنه صلى الله عليه وسلم هاد مرشد، فلا تعبثوا بهذه الحقيقة بما تثيرون من أوهام باطلة، وتصدون عن سبيل الله تعالى بهذه الترهات الفاسدة.
﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٥ ) ﴾.
الأمر في ﴿ قل ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك القول، لأنهم قالوا وأشاروا وصرحوا أنه يريد سيادة دنيوية في جاه يبتغيه، أو مال يتموله، فهو صلى الله عليه وسلم الذي يتولى الرد، وبيان أنه لا يريد الهداية ﴿ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ من هنا دالة على استغراق النفي، أي لا أسألكم على هذا الإرشاد والتوجيه الذي أدعوكم به إلى ترك الأوثان وعبادة الله تعالى وحده أي أجر، وإن فائدة هذه الدعوة مغبتها عليكم إذا اهتديتم، وتعود عليكم بالعقاب إن كفرتم.
ثم قال تعالى مستثنيا من الأجر ﴿ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾.
هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى أنه متصل يكون المعنى ظاهرا والمعنى لا أسألكم أجرا تدفعونه، أو تؤدونه، إلا ابتغاء من شاء أن يتخذ إلى ربه منهاجا مستقيما، وطريقا موصلا إلى ربه، فإن ذلك هو الأجر الذي أبتغيه، وهو نعم الأجر ونعم الجزاء، فيكون الكلام دالا على مطلبه صلى الله عليه وسلم، ودالا على شرف الغاية التي يبتغيها، فليس يطلب مالا ولا جاها، ولكن يطلب هداية وتوفيقا وإرشادا.
ويكون معنى النص السامي على أن الاستثناء منقطع، لا أسألكم عليه أجرا، لكن من شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو مطلبي وغايتي، وموضع دعايتي ودعوتي.
ومهما يكن من تخريج، فالمعنى أنه لا جزاء للنبي إلا أن يتبعوا الحق، ويهتدوا به، ويوحدوا العبادة.
وفي قوله تعالى :﴿ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ إشارات بيانية ثلاث.
الأولى التعبير بقوله :﴿ من شاء ﴾ إشارة إلى أن الثواب لا يكون إلا بالإرادة الحرة المختار، إذ هي أساس التكليف.
الثانية التعبير بقوله :﴿ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ التعبير بالرب توجيه إلى أنه الخالق المربي القائم على الخلق، ففي ذلك دعوة للاتباع المدرك، شكرا لنعمة الله تعالى عليه.
الثالثة وصف الهداية بأنها اتخاذ السبيل، لأنه المنهاج، وهو ﴿ سبيلا ﴾، وكان التنكير لبيان أن السبيل المطلوب هو ما كان إلى الله تعالى.
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) ﴾.
أمر الله تعالى نبيه بالتوكل عليه بعد أن يئس من المشركين، ليكون خالصا للدعوة إليه، وليكون معتمدا عليه وحده، وليكون ذلك تبشيرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم، وأن الله تعالى معطيه ومن معه القوة الدافعة، والتوكل معناه اعتماد القلب على الله تعالى، واتخاذ الأسباب الظاهرة، وإن لم تكن هي وحدها الناصرة إنما هي وسائط، أمر سبحانه وتعالى باتخاذها من غير اعتماد عليها وحدها، وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفين لذاته العلية يؤكدان أنه لا يعتمد إلا عليه : الأول أنه الحي الكامل الموجود. الثاني أنه سبحانه لا يموت فهو الباقي، ومن يعتمد على من يموت لا يكون له معتمد بعد موته، أما من يعتمد على الباقي فمعتمده باق لا يفنى.
وبعد أن أمر سبحانه بالتوكل عليه وحده أمر بالتسبيح، وهو التنزيه بوصفه بصفات الكمال المطلق من قدرة وإرادة ووحدانية وغيرها من الصفات التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، العلي الكبير.
وقوله تعالى :﴿ بحمده ﴾، أي مصاحبا بالحمد بالثناء عليه بما هو أهله، فكان الأمر بالتنزيه، وأمرنا بالثناء عليه سبحانه بما أنعم، وشكره على ما أجزل من عطاء غير مجذوذ.
﴿ وكفى به ﴾، أي الكفاية به سبحانه وتعالى وحده، والباء لتأكيد معنى الكفاية والاعتماد على ذاته وحده، ومن توكل عليه لا يحتاج إلى غيره ولا يغني غناءه أحد من خلقه، وقوله تعالى :﴿ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ بذنوب، جار ومجرور متعلق بقوله تعالى :﴿ خبيرا ﴾، والخبير هو ذو العلم الدقيق الذي لا يعلمه غيره، وقدم الجار والمجرور ﴿ بذنوب ﴾ على متعلقه لبيان الاهتمام بالعلم بهذه الذنوب، وأنهم مجزيون بها، فإذا كانوا قد عاندوا وضلوا وصدوا عن سبيل الله تعالى فإنهم مأخوذون بذنوبهم، وخبيرا حال من ضمير به، ومؤدي القول الكريم، وكفى به خبيرا بذنوبهم، وهي خبرة وراءها جزاؤهم عليها، وهذا تهديد شديد، وإنذار بليغ.
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) ﴾.
بدل أو عطف من الحي، وذكر ذلك بعد هذا الوصف الجليل لبيان أن التوكل على القادر المنشئ للوجود كله، وستة الأيام التي في هذه الآية التي ذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ليست هي الأيام التي نعرفها الآن بيننا، لأن أيامنا مربوطة بالشمس والأرض، ودوران الأرض حول الشمس، فيكون الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الآخر، وقبل السموات والأرض لم تكن الشمس ولا الأرض، ولذلك تفسر الأيام بالأدوار الكونية التي يخلق الله بها السموات والأرض، وقد ذكر سبحانه وتعالى في سورة فصلت، فقال عز وجل :
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٩ ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ( ١٠ ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( ١١ ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ١٢ ) ﴾ [ فصلت ].
وإن هذا النص السامي يدل على أن الأرض أخذت أربعة أدوار منها الدوران الأولان، والسماء قضاهن سبحانه سبع سموات في يومين.
وإن لعلماء الكون جولات علمية في معاني هذه الآيات، وما تدل عليه من حكمة اللطيف الخبير.
بعد أن خلق سبحانه وتعالى السموات السبع والأرض في ستة أدوار كونية، جلس سبحانه على عرش الكون، لأنه سبحانه وتعالى خالقه فقال :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ هذا كناية عن كمال سلطانه في خلقه يدبره كما شاء، ففي الكلام تشبيه، إذ شبه سبحانه وتعالى سلطانه على الكون يقوم عليه ويدبره، لأنه سبحانه وتعالى الحي القيوم، بمن يجلس على عرش مملكته يدبرها ويقوم على مصالحها، ولله المثل الأعلى.
وقال سبحناه ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ﴾، التعبير ب ( ثم ) في موضعه، لأنه سبق ذلك أدوار كونية لا يعلمها إلا الله، ووصف سبحانه وتعالى سلطانه على العرش، فقال عز من قائل ﴿ الرحمن ﴾ أي أنه يدبره ويسيطر عليه برحمته، فكل عمل منه سبحانه في عشر السموات والأرض رحمة في ذاته الرحمن الرحيم.
وإن المتتبع لهذا الخلق وذلك التكوين، والقيام عليه بقدرته تعالى يرى بقلبه رحمته سبحانه، ولذا قال تعالى :﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر إذا أردت أن تعرف فاسأل به خبيرا، والباء فيما أحسب بمعنى في، والمعنى فاسأل خبيرا أي عليما يعلم علما دقيقا، فإنه ينبئك عن جلال الله تعالى في الخلق والتكوين والرحمة.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ( ٦٠ ) ﴾.
لم يكونوا يذكرون الله تعالى بلفظ الرحمن، فهم لا يعرفونه إلا باسم الله تعالى، فلما ذكره باسم الرحمن استنكروا هذا الاسم، وكأنهم لا يقرونه، قالوا :﴿ وما الرحمن ﴾ الواو عاطفة على محذوف، كأنهم يقولون سمعنا قولك من قبل، وما هذا الذي تريده وتسمية الرحمن، كأنهم يحسبون أنه شيء غير الله تعالى، أتريد أن نسجد لما تأمرنا، وكأنهم يقولون تأمرنا بألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، وتريد أن تأمرنا أيضا بأن نسجد لهذا الرحمن، كأن المسألة بيننا وبينك ليس أمر التوحيد تدعو إليه، إنما أنت تعادي آلهتنا بآلهة أخرى، ومرماهم أنك تتحكم في عبادتنا، ولا تخالفنا في شركنا، ﴿ وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾، أي زادهم الأمر بالسجود للرحمن نفورا، لأن من لا يدرك يزداد نفورا بجهالته، وعدم معرفته، لأنهم ضلوا، وعقولهم الضالة تزداد نفورا، كما أن نزول السورة يزيدهم كفرا.
وقال تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ﴾ عبر بالفعل المبني للمجهول، ولم يذكر الفاعل، وقد علم من البعض، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ﴾ والسجود هنا العبادة، أو الصلاة من بينها، لأن أظهر مظاهر العبادة الخضوع وأظهر مظاهر السجود لله سبحانه وتعالى.
وذكر الفعل مبنيا للمجهول للإشارة إلى نفورهم من أصل تسمية الله بالرحمن، وكانوا يحسبونه غير الله تعالى ويقولون رحمن اليمامة أي إله أرض أخرى.
تبارك أي تعالت بركته سبحانه، فالضمير يعود إلى الله تعالى الذي يمتلئ الوجود كله بذكره وتسبيحه، وإن كل بركة ونفع في هذا الوجود يرجع إليه سبحانه، ولذا تتعالى بركته في هذا الوجود الإنساني كله، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض مظاهر بركته، وفيض رحمته فقال :
﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا ﴾ البروج جمع برج، وهو القصر العظيم، كما قال تعالى :﴿... ولو كنتم في بروج مشيدة... ( ٧٨ ) ﴾ [ النساء ]، ولقد قال مجاهد : البروج في الآية الكريمة هي الكواكب العظام وكأنها شبهت في عظم مرآها وجمالها، وكمالها بالقصور المشيدة التي تأخذ بالأنظار تقريبا للأنفس، وليس المعنى أنها مشبهة بالقصور في تكوينها، فإن خلقها أقل من خلق الكواكب العظيمة، والمشبه به يكون أقوى من المشبه، وليس الأمر كذلك في هذا التشبيه، إنما التشبيه للتقريب لإدراكنا.
وخص سبحانه وتعالى من الكواكب بالذكر الشمس والقمر، فقال :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ﴾ الضمير في فيها يعود إلى البروج، أي جعل في البروج أي في عمومها سراجا، والسراج هو الشمس كما عبر سبحانه وتعالى في آية أخرى ﴿ وجعلنا سراجا وهاجا ( ١٣ ) ﴾ [ النبأ ]، وكما قال تعالى :﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا ( ١٥ ) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( ١٦ ) ﴾ [ نوح ].
وهنا نقول : شبهت الشمس بالسراج تقريبا لأفهامنا على سبيل الاستعارة، وذلك إشارة إلى أنها مصدر الضوء والنور لما حولها من الكواكب، ووصف القمر بأنه منير، أي أن من شأنه أن ينير في الظلام، ولكن الشمس، جعلها الله تعالى المصدر، لأنها سراج هذا الوجود، وقد قال في ذلك علماء الكون : إن الشمس تضيء الأرض فيكون النهار، ومن انعكاس أشعتها على الأرض يكون نور القمر، فالأصل كما خلق الله تعالى كان من الشمس، وأضاء الأرض، وبانعكاس ضوئها على القمر كان القمر منيرا.
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ ) ﴾.
الضمير يعود للذات الإلهية التي يجب أن يكون ذكرها في قلب كل مؤمن، وهو الذي يسبح له الرعد بحمده، ﴿ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ﴾، أي يخلف كل واحد منهما الآخر، كأنه يذهب عن الوجود ليكون الثاني خليفة له في إحكام ودقة، وانتظام وتداول بينهما، فالإنسان بين ليل يغشاه، وليل يبرزه، وبين حياة هادئة ساكنة يستروح فيها راحة الحياة واستقرارها، وبين لغوب وعمل وكد وعناء، وقال تعالى :﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ﴾ يذكر أصلها ليتذكر، أي أنه في هدأة الليل يتذكر نعم الله تعالى نعمة نعمة، ويعتبر أمره عبرة بعد عبرة، وأخذ مواعظه عظة بعد عظة.
وقوله تعالى :﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ اللام حرف جر متعلق بجعل، أي هذا الليل والنهار خلفة لتكون مادة اعتبار وإدراك لمن أراد أن يتذكر، ويعرف قدرة الله تعالى وخلقه، وإبداعه في التكوين، فيذكر قدرة الله تعالى الخلاق العليم، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء، والمنعم على كل شيء، وأراد أن يشكر على ما أنعم بالطاعة.
وفي هذا التعبير الحكيم إشارة إلى تبعة الإنسان في إهماله أو اعتباره، لأنه سبحانه قال ﴿ لمن أراد ﴾ فإرادته هي الموجهة له بعلم الله العلي الكبير، وبهذه الإرادة يستحق الثواب ويستحق العقاب، والله تعالى يهدي من أراد الهداية بالتذكر وشكر النعمة، و أو هنا للدلالة على التردد بين أمرين. أولهما التذكر وهي تذكرة دائما، أو الخطوة الأخرى التي تكون بعد التذكر، وهو الشكور، وهي مصدر شكر، فمصدر شكر الشكر، والشكور، كمصدر كفر الكفر والكفور.
واذكر أصلها تذكر، سكنت التاء وأدغمت في الذال وجاءت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن، وإن الليل والنهار من تعاقب الشمس والقمر في الحس، وهما مستمران في دأب وتوال، كما قال تعالى :﴿ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ( ٣٣ ) ﴾ [ إبراهيم ]، وقال تعالى :﴿... يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا... ( ٥٤ ) ﴾ [ الأعراف ] صدق الله تعالى.
هذه الآيات الكريمات تصور صفات المؤمنين التي يتكون منها المؤمن الصادق، وهي تجمع بين أمور ثلاثة من الصفات : أولها الصفات الموجبة المكونة معنى الإيمان، والتي هي خلال أهل الإيمان الذين تعلو الإنسانية بهم، ولا يستعلون عليها، وهي من أول الآيات إلى قوله تعالى :﴿ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾.
وثانيها صفات سلبية، وهي التي تبتدئ من هذه الآية الأخيرة.
وثالثها الذين يبتغون الحياة الزوجية بالطهر والعفاف، وختم سبحانه الآية ببيان الجزاء الأوفى.
الصفات الإيجابية :
قال تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) ﴾.
وصفهم الله تعالى بأنهم عباد الرحمن، وهذا الوصف يشعر بأنهم رحماء فيما بينهم، لا يجافون، ولا يتناحرون، بل هم في اطمئنان وسلام، وروحانية، لا يجعلون للمادة من حياتهم إلا أن تكون غذاء طيبا يأخذون منه القوة للقيام بواجبهم، وهم في أوصافهم الظاهرة والباطنة يتطامنون، ولا يستكبرون، والهون مصدر هان يهون هونا، وهو المشي في غير عنف، ولا تجبر، وهو وصف محمود، وهو ضد الهوان الذي يذل صاحبه للقوي أو المتغطرس، ويهون عليه، وهو من عذاب، ومعنى هونا أي يمشي في سكينة ووقار وفي قصد وتؤدة، وتلك أخلاق الأنبياء والذين يقتدون بهم، فالمؤمن يسير في رفق، وقد وصف الله مشي النبي بأنه كان يمشي في هون ورفق، تبدو في مشيته قوة الماشي غير المصطنع المتخاذل، وغير المختال المرح المتعالي، وكما قال تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) ﴾ [ الإسراء ]، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ ﴾ والجاهلون هم الحمقى الذين لا يعرفون ما أحله الشرع، ﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ أي سلما وأمنا، فهم لا يعلون على الناس، ولكن يسالمونهم، وإذا رأوا حمقى لا يحاورونهم، ولا يخاطبونهم على مقتضى قولهم، وإن ذلك دأب الحكماء المتقين، يهدون، ولا يجهلون، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
ولقد روى أن إبراهيم بن المهدي كان ناصبيا يعادي، وكان المأمون علويا معتدلا، فقال إبراهيم بن المهدي رأيت في رؤيا عليّا فتكلم، فما رأيت في كلامه بلاغة، قال فماذا قال لك إذ خاطبته ؟ قال : سلام، قال إذن فقد رأيت عليا، يشير إلى أن عليا خاطبه بما تؤدب به الآية، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وقد قال تعالى في وصف المتقين في آية أخرى ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( ٥٥ ) ﴾ [ القصص ].
هذا عمل إيجابي، وإذا كان العمل الأول معناه التطامن للناس، وألا يكون بينهم وبينهم شغب، حتى إذا خاطبهم السفهاء بما لا يصدر إلا عنهم، لا يبادلونهم السفه بسفه مثله، بل يقدمون لهم السلام والأمن ويطمئنون، ولا يشاغبون. وهذا عملهم مع الناس، أما هم بالنسبة لله، فقد ذكر سبحانه ذلك في بيانهم، وهو السجود لله تعالى والقيام له، والخضوع له تعالى، فقال :﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ هذا عطف على الجملة السابقة في بيان عملهم لله، وكذلك ما يجيء من بعده من أحوال لهم، واللام في قوله ﴿ لربهم ﴾ متعلقة ب ﴿ سجدا ﴾ أي أنهم يبيتون ساجدين لربهم خاضعين، وقائمين له، وقدم قوله تعالى ﴿ لربهم ﴾، لبيان قصر السجود عليه، فلا يسجدون لغيره إذ لا يعبدون غيره، ولا يسجدون لسواه.
والسجود والقيام كناية عن الصلاة، فهم يتهجدون مطيعين، لقوله تعالى :﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ( ٧٩ ) ﴾ [ الإسراء ].
وإن معنى الآية أنهم يبيتون على هذه الحال، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، كما قال تعالى عنهم :﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع... ( ١٦ ) ﴾ [ السجدة ] وقال تعالى :﴿ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه... ( ٩ ) ﴾ [ الزمر ].
هذه بعض أحوال عباد الرحمن : اتجاه إلى الله وإغضاء عن مساوئ الناس، ويكون الله تعالى في بياتهم فيكونون لله تعالى في مبيتهم، وفيما يجرحون من أعمال بالنهار.
﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) ﴾.
لقد توقعوا النار وأيقنوا بعذابها، وعملوا ما يجنبهم إياها، ولكنهم مع ذلك أيقنوا أن أعمالهم لا تكفي لتجنبهم، فضرعوا إلى ربهم أن يصرفها عنهم عالمين أن الجنة من فضل الله، وليست بعمل عملوه ولكن برضا من الله عما عملوه، قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ﴾ والتعبير بالمضارع يفيد أن هذا حال ملازمة لهم يكررونها دائما، بالخضوع والخشوع والحذر الدائم المستمر، فهم في حذر دائم مستمر، فيكونون مع الله بحذرهم لا يفترون، ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾ أي كان أمرا ملازما، فالغرام هو الأمر الملازم الذي يكون خسارا وشرا، ولذا فسر بعض التابعين الغرام بالشر الملازم وكل غرام يزول عن صاحبه أو يفارق صاحبه إلا غرم جهنم، وإن المؤمن الحق يؤتي الله حقه، ولا يحسبه قد أوفي، ولذا قال تعالى :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة... ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ].
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾.
الإنفاق هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق لله أو للناس أو لنفسه، ولقد قال ابن عباس :"من أنفق مائة ألف في حقه فليس بمسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو مسرف، ومن منع من حق عليه قتر".
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد اخذوا بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( ٢٩ ) ﴾ [ الإسراء ]، والقتر هو التضييق على النفس بحيث يكون في قدرة، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة، أو يضيق فيها، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة، كما قال تعالى :﴿ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره… ( ٢٣٦ ) ﴾ [ البقرة ]، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته، ولا يضيق على نفسه في الحلال، ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ أي عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران : أحدهما ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي الله عنه يعد من يطلب كل ما يشتهي مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها.
الأمر الثاني أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أب بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو… ( ٢١٩ ) ﴾ [ البقرة ]، أي السهل اللين الذي لا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) ﴾.
إن أولئك الأبرار الذين رضي الله سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذاته العلية، فقال وعباد الرحمن، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لا يستعلون على الناس، ويرفقون بهم، ولا يشاكسون بل تكون علاقاتهم بالناس دائما أمنا وسلاما، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون، أولئك قد اتصفوا بصفات، وهي ذاتها تحمل جزاء، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات، كان جزاؤه و هذه الصفات ذاتها، وهي نعم الجزاء، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها، وإن كان لها الجزاء الأوفى.
وقد ذكر سبحانه ما اجتنبوه، وهو كبريات المساوئ الإنسانية، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾.
وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان، وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية ﴿ يدعون ﴾ يعني يعبدون، لأن العبادة دعاء لله تعالى وضراعة إليه، وتسليم كل أمورهم في جنب الله، والدعاء مخ العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذن عبد غير الله، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لا يضر ولا ينفع، أو يعبد إنسانا مثله، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد، أو نارا، أو غيرها، إن هذا انهواء إنساني، ومن يعبد شيئا من هذا، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة، فقد اتخذ إلهه هواه.
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل :﴿ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ وهذا وصف للعاصين، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾، وقوله تعالى :﴿ إلا بالحق ﴾ الجار والمجرور متعلق ﴿ لا يقتلون ﴾ الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم، أو زنى أو ردة بعد إيمان، وهذا النص يفيد أن الأصل في النفوس الصيانة، وألا يعتدي عليه، ويحفظ أمنها، وأنه لا تستباح الأنفس، إلا بحق كما قال تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ( ٣٢ ) ﴾ [ المائدة ].
والأمر الثالث الذي نفاه الله تعالى عن عباد الرحمن الاعتداء على النسل بالزنى، ولذا قال تعالى :﴿ ولا يزنون ﴾، لأن إشاعة الزنى تضيع النسل، ولا تجعل الناس في أمن ودعة، وتضعف الوحدة الإنسانية، ويكون الناس في تناحر، وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية، ولقد قال محمد صلى الله عليه وسلم :( وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لا تحل له ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق، وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك ).
وقد ذكر سبحانه وتعالى عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل فقال :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ الآثام جزاء الإثم وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي أنه جزاء من نوع ما ارتكب، ولكنه جزاء كبير، وإطلاق الآثام بمعنى جزاء الإثم، وارد في اللغة العربية، فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا، والعقوق له أثام
إن الله تعالى عدل، يجازي السيئة بمثلها، ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها، فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب، أجاب عن ذلك صاحب الكشاف بأن المضاعفة لأنه عقاب الشرك، وعقاب الذنب الذي ارتكب من قتل نفس وزنى، ونقول حينئذ لا مضاعفة.
والذي يبدو لي غير متطاول على مقام الزمخشري أن العذاب شديد عنيف حتى إنه ليبدو لدى المعاقب، كأنه مضاعف للذنب، وإن المذنب دائما يحس بالجزاء كأنه أكثر من الذنب، فالله تعالى يصور له العقاب كأنه مضاعف، ولأنه يتجدد آنا بعد آن، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، فهو عذاب بعد عذاب، وبهذا التكرار الدائم يكون كأنه مضاعف.
وإنه عذاب دائم مستمر، ولذا قال تعالى :﴿ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾، أي أنه مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة، وكذلك يستبدل الله بغطرستهم الجاهلية، واعتزازهم الظالم العاتي مهانة دائمة مستمرة
﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾.
هذا الاستثناء من العذاب السابق ذكره في الآية السابقة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أمور تخرج الشخص من دركة الكفر والطغيان إلى درجة الإحسان واستحقاق الثواب.
وأول هذه الأمور التوبة، وثانيها الإيمان، وثالثها العمل الصالح فقال :
﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ﴾.
أما أولها : وهي التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيئ، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته :"التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر : لم أفعل، أو يقول : فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة".
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر، ويرحض عنه كل ما كان من المآثم التي ارتكبها في حال غيه، ولذلك يغفر الله ما قد سلف، ويبتدئ التائب صفحة جديدة تحل محل صفحة السوء، ويبدل مكان السيئات حسنات، ويقول الله تعالى في ذلك :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ... ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنفال ].
هذا هو الأمر الأول، وهو الأساس للأمرين الآخرين، بل هو النور الهادي لهما، أما الأمر الثاني : فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية، ومن دركة الكفر بمحمد والقرآن والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله.
وأما الأمر الثالث، فهو العمل الصالح، وقد قال تعالى :﴿ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ وغن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه، لأن العمل ثمرة الإيمان، أو هو جزء منه، كما أن ثمرة العلم العمل، والإيمان أعلى درجات العلم، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال :﴿ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ وذلك بذكر المصدر تأكيدا لمعنى العمل، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة، وذلك العمل الصالح، والإيمان الكامل فقال :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط، أو ما هو في معنى الشرط، لأن الموصول في معنى الشرط، وأولئك إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات، وإلى أنها سبب الحكم، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم، وسيجيء ذلك من بعد، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات، والتبديل هو التغيير، أي أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم، ويضع محلها حسنات، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة، ذلك أن التوبة كما قرنا ترحض النفوس، وتزيل عنها أدرانها، وتجعلها مجلوة مصقولة، وصالحة لأن يحل محلها الطهر والنقاء، والعمل الصالح المجدي، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه وأحل الله تعالى محلها عملا صالحا، فحلت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية، ولذا قال سبحانه ﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ فالتبديل على هذا هو تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ هاتان صفتان من صفات الله تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين.
في هذا النص السامي يبين الله تعالى أن من يؤمن تائبا، ويعمل العمل الصالح ضارعا، فإنه يعود إلى الله تعالى راضيا مرضيا، ويركن إلى الله تعالى، وحسبه أنه ركن إلى الله تعالى القوي القهار الغالب، يأمن بجانب الله تعالى شر كل مخلوق، ومتاب أحسب أنه اسم مكان، أي أنه يعود إلى مكان التوبة وملجئها الحصين الذي لا يذل من يلجأ إليه، ويجعله حصنه الحصين، وركنه الركين، والفاء في قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُ يَتُوبُ ﴾ الفاء واقعة في جواب الموصول، لأنه في معنى الشرط كما ذكرنا، وإن ذلك هو الثمرة الكبرى للتوبة.
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾.
الزور : هو كل باطل مزور مزخرف بحيث يؤثر في النفس مرآه، وهو زخرف باطل، فيدخل في ذلك اللهو العابث والقول الماجن، والكذب والفحش وفسوق القول، فعباد الله الرحمن الذين شرفوا بالانتساب إليه لا يحضرون هذا النوع من الباطل، لأنه من سوق الخطائين الذين تروج بضاعته بينهم، وبهذا تفسر الآية الآية، فلا يشهدون أي لا يحضرون، فهم لا يجلسون في مجالس الزور من الأقوال والأفعال، بل تستغرقهم مجالس العبادة، ومجالس الجد والأفعال الحميدة التي تعود بالنفع على الناس، وتدرس فيها الحقائق الكونية والمصلحية، وتروى فيها السنة النبوية، وتعرف فيها معاني الذكر الحكيم، والقرب من رب العالمين.
هذا تفسير للنص القرآني، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى على أنه احتمالي :"يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها، ولا يقربونها تحرزا عن مخالطة الشر وأهله صيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذا قيل في النظارة إلى ما لا تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا به، وسبب وجوده والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه، وفي مواعظ عيسى عليه السلام :"إياكم ومجالسة الخطائين" وهذا نظر حسن، واتجاه سليم فإنه من المقررات أن أول الشر استحسانه، وأول الباطل حضوره.
هذا احتمال في معنى الآية وهو معنى حكيم سليم مرشد، وهو يليق بحال عباد الرحمن، وهناك احتمال آخر، وهم أنهم لا يشهدون شهادة الزور، ويكون الكلام على حذف مضاف، فمعنى ﴿ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ أي لا يشهدون شهادة الزور وسميت الشهادة في هذه الحال الزور، لأنها كذب، وهي تكون في مجالس الظلم أو معاونة للظالم، أو معاونة على الظلم، ويصح لنا أن شهادة الزور التي يروج فيها الباطل، وينصر الظالم، وتؤكل أموال الناس بالباطل تكون داخلة في شهادة الزور، وحضور مجالسه.
ويقال للكذب زور لأنه مائل بالنفس عن قول الحق، وكأن طبيعة النفس ألا تقول إلا صدقا، والكذب انحراف بها وميل عن الصراط المستقيم، لأن القلب الملخص يتجه اتجاها مستقيما، ثم ينطق نطقا مستقيما، فينطق بالصدق، ثم يسير في خط الاستقامة إلى أقصى مداه، وهو خط الحكمة والفطرة الإنسانية.
ولقد قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ اللغو من الكلام ما لا يعتد به وهو الذي يورد من غير روية وفكر، ليجري مجرى اللغا، وهو صوت الطير الذي يكون له معنى محدود، وكما يقصر اللغو على القول الذي لا يكون له قصد معقول يقره العقلاء، كذلك يطلق على الأفعال العابثة، والمقابح التي تلهو بها بعض الناس في جلوسهم على المقاهي، وأهل اللغو من شأنهم أن يعيبوا غير المعيب، ويسخروا من أهل الفضل، ولا يجاريهم إلا من يكون على شاكلتهم في الأفعال والأقوال، ويقطعون الساعات في غير عبادة مقررة، ولا عمل نافع يقصد إليه، فعباد الرحمن لا يخوضون مع هؤلاء في قول أو فعل، ولذا قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ أي مروا معرضين، كما يقول الله تعالى :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم… ( ٥٥ ) ﴾ [ القصص ]، وكراما تدل أولا : على أنهم ينكرونه بقلوبهم لا ينكرون ما يفعله أهله بألسنتهم، حتى لا يخوضوا معهم في حديث يجرهم إلى أن يجيء على مسامعهم رفث القول وفسوقه، وثانيا : يكتفون بالاستنكار السلبي، وذلك يفعل في النفوس ما لا تفعله الأقوال، وهو موعظة واستنكار للأشخاص والأفعال، والأقوال، وثالثا : ينصرف إلى نفسه، فيهذبها عن اللغو، وذلك في ذاته دعوة إلى الجد، والابتعاد عن العبث وانصراف إلى المجد.
وسماهم في هذه الحال كراما، لأن الكريم يعلو بنفسه عن مواضع العبث والهذر والسخف، يقال تكرم فلان عما يشينه، وأكرم نفسه عن القبح، وفي ذلك إشعار بأن الخوض في العبث أو مشاركة أهله فيه هو مهانة كل المهانة، وحط كل الحطة.
﴿ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾.
ذكروا بآيات ربهم بأن تليت عليهم آياته إن كانت متلوة أو ذكروا بآية كونية في خلقه السموات والأرض، وإبداعه في خلق الإنسان ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ الخرور في اللغة يطلق على السقوط الذي يكون صوتا أو النزول من أعلى إلى أسفل نسبيا بصوت، كخرور الماء فإنه نزول من مكان يعلو نسبيا إلى ما دونه، والخرور قد يكون معنويا بالسجود لله تعالى :﴿ خروا سجدا وبكيا ﴾ وإن خرور السجود حسي معنوي، فهو ينزل ساجدا لله تعالى فيلتقي فيه الخرور الحسي والخرور المعنوي.
ومعنى النص السامي أنهم إذا ذكروا بآيات الله تعالى :﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ والصمم والعمى هنا يراد به عدم الاعتبار بالآيات، فكأنهم صم لم يسمعوا، أو عميان لم يروا، وهذه أخلاق المشركين فهم الذين يخرون كالصم والعمي لا يعتبرون ولا يدركون، وليس المراد وصف المشركين بهذا الوصف السلبي، فقط، بل إنه وصف المؤمنين عباد الرحمن بأنهم على نقيض وصف الظالمين يخرون سجدا وبكيا، فهم ليسوا كأخلاق هؤلاء لا يعتبرون، بل يعتبرون ويخرون لله في كل آية يسمعونها، وفي كل عبرة يعتبرونها، وينظرون إلى خلق الله تعالى نظرة مدركة مستبصرة مستهدية طالبة الرشاد، فهذا النص يشتمل على نفي الحال التي يكون عليها المشركون، فهم لا يخرون صما وعميانا، بل يخرون ناظرين مدركين متفهمين، كقول العرب : مثلك لا يبخل، فالمراد به في كلام العرب : أنت لا تبخل.
وهنا إشارة بيانية نذكرها، وهي أن الله تعالى يقول : لا يخرون صما وعميانا بنفي الخرور، وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات التي تتلى أو توجه الأنظار في المخلوقات من شأنها أن تجعل من يتأملها ويسمعها أن تجعله يخر خرورا لوضوح إعجازها ودلالتها، لكن عباد الرحمن يخرون سجدا وبكيا، والكافرون يخرون صما وعميانا.
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾.
هذا النص السامي يدل على أن أخلاق عباده أن يطلبوا الولد تقيا مؤمنا صادقا الإيمان لا أن يطلبوا النعم ؛ لأن عمارة هذا الوجود بالولد، ولذا طلبوا هبته، ولم يطلبوا الحرمان، كما يطلب فجرة هذا الزمان المشئوم، كرر طلب الولد الصلبي في قوله تعالى :﴿ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا ﴾، لأن الولد المنسوب إلى الأزواج وهو جمع زوج هو الولد الصلبي، وأما الولد من الذرية فهو من بعد الولد الصلبي، والذرية الأولاد من الظهور كالابن وابن الابن وبنت الابن، وذلك على اصطلاح الفقهاء، وهو مشتق من اللغة، ونرى أن النص يومئ إلى أنه من يكون دمه، سواء أكان من أولاد الظهور، أم من أولاد البطون، ومهما يكن الخلاف في هذا فإنه لا جدوى فيه من موضوعنا لأنه إن اقتصر في ناحية على أولاد الظهور، فمن ناحية أخرى يطلب غيره من يكون من أولاد الظهور له، وتعم الدعوة السلالات أجمعين إذا خلصت كل النفوس، وكانوا عباد الرحمن.
كان طلب عباد الله الصالحين، أن تكون لهم أعقاب صالحة، عبروا عنها في دعوتهم بقوله ﴿ قرة أعين ﴾ القرة من القرار وهو الاستقرار والثبات، ويقول الأصفهاني في مفرداته : إن الأصل فيه أنه من القر بضم الراء وهو البرد، لأن العين في حال تستقر، وتهدأ، إذ كانوا يرهبون الحر، لأنه عندهم يكون شديدا، وقالوا برد المتقين وغيرهم يقول حرار الإيمان، والمفهوم من قرة العين أن تكون مطمئنة بذكر الله وأن يكونوا في سكينة الإيمان، وقرار العين مظهر من مظاهر سكون النفس، واطمئنان الفؤاد.
وقالوا في دعائهم :﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ أي اجعلنا معشر عباد الرحمن إماما أي يقتدي بنا ونتبع في الهداية والتوفيق، وإمام معناها أئمة، لأن إمام مصدر يوصف به الواحد والجمع والذكر والأنثى.
﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ٧٥ ) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾.
يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الأعراب ابتداء إن قوله أولئك ﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ… ﴾ خبر لقوله تعالى :﴿ وعباد الرحمن ﴾، وما وليها من صفات وأحوال، وأنا أقول، إن قوله تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ هو مبتدأ وخبره، وما جاء بعد ذلك من معطوفات على الخبر، والمؤدى واحد، فليس الاختلاف اختلافا في المعنى، إنما اختلاف في الإعراب.
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات، ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو هنا الجزاء فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء، وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات :"وأوصافهم من التخلي، وصفات التخلي هي إحدى عشرة، التواضع والحلم، والتهجد والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله تعالى".
والغرفة تطلق على علية البيت، واستعيرت للجنة أو لعلية الجنة أي أعلى مكان فيها، لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية، فاستحقوا أعلى جزاء وهو الجنة أو أعلاها.
وإنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها، وكانوا في الذروة الترحاب والأنس والكمال ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار، ولذا قال تعالى :﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ لقّى هي مضعف لقي أي يلقون في قوة راحمة تحية طيبة، وهي اللقاء الطيب، مع الأنس والاحترام والإقبال، كما قال تعالى :﴿.. ولقاهم نضرة وسرورا ( ١١ ) ﴾ [ الإنسان ]، والسلام الأمن والاطمئنان، فلا يزعجون بشيء مما يزعج به أهل الدنيا، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، ﴿ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( ٢٤ ) ﴾ [ الرعد ].
وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ﴾، أي أن هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة بما صبروا، أي بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويرا لصبرهم الدائم المستمر ؛ وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة، فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا، والغطرسة والسلطان، وغيرها من الغرائز الإنسانية، فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها، وجعلوها في ناحية الخير لا تعدوها.
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليوجه إلى المشركين خطاب الله تعالى، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا الخطاب، لأنه نبيهم المرسل، ولأنهم يعاندونه ويتحدونه، ويكفرون، فأمره سبحانه بأن يذكر لهم أن الله تعالى لا يباليهم، ولا يهتم لهم لولا تصحيح اعتقادهم.
وما نافية، ومعنى ما يعبأ لا يبالي، ولا يحمل عبئكم لولا دعاؤكم، أي لولا عبادتكم عبادة صحيحة تؤمنون فيها بالواحد، فالدعاء هنا العبادة، ودعاء الله عبادته، أي أنه سبحانه لا يهتم بكم إلا لأجل تصحيح عبادتكم، ويصح أن يقال إن الدعاء هنا هو دعوتهم إلى العبادة الصحيحة والمؤدى واحد، وفي الأول يكون "دعاؤكم" الدعاء منهم لله تعالى، وفي الثاني يكون الدعاء من الله ورسوله إليهم ليعبدوه سبحانه وتعالى.
وجعل بعضهم اللفظ يحتمل هذا المعنى لولا دعاؤكم الأوثان وعبادتهم، وذلك ضلال في عقولكم، وأفن في أنفسكم، والله لا يرضى لعباده هذا الضلال،
ونحسب أن التخريج بعيد في تأويله وتفسيره.
وقال تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ الفاء السببية، أي لا يبالي سبحانه بكم لولا أنه يدعوكم بالحق، وبسبب تكذيبكم لا يعبأ بكم لا يبالي ﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ الفاء عاطفة وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، واللزام مصدر لازم، فمصدر فاعل فعال ومفاعلة، وهو ملازمة العذاب لهم، وقد قال تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( ١٢٩ ) ﴾ [ طه ].
ومعنى النص في الآية الكريمة السامية لا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤكم أن نعبدوا الله وحده، ولكن كذبتم دعوة الحق وأصررتم على تكذيبكم، فسوف يكون العذاب ملازما لكم وتكونون خالدين فيه.