تفسير سورة الأحزاب

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة الأحزاب١
١ سورة الأحزاب في السورة رقم ٣٣ في ترتيب المصحف الشريف، وهو سورة مدنية، عدد آياتها ٧٣ آية، نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنهم فيه وفي مناكحته لنسائه وزواجه صلى الله عليه وسلم من ابنة عمته زينب بنت جحش وأدب دخول بيوت النبي. وقد نزلت سورة الأحزاب بالمدينة بعد سورة آل عمران وقبل سورة الممتحنة فهي السورة رقم ٨٩ في ترتيب نزول سور القرآن. [راجع الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٢٧]..

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١ ) ﴾
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] نداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمنادى هو الحق سبحانه، رسول الله لقبه، واسمه محمد، واسمه أحمد كما ذكر في القرآن، والإنسان حين يولد يوضع له اسم يدل على مسماه، بحيث إذا أطلقه الواضع انصرف إلى المسمى، والقوم الذين سموا لهم محيط يعرفون فيه، وغيرهم بنفس الأسماء لهم محيط أخر، فمحمد هذا المحيط غير محمد هذا المحيط.
وتعريف الإنسان يكون بالاسم أو بالكنية أو باللقب، فالاسم هو العلم الذي يوضع لمسمى ليعلم به وينادى به، ويميز عن غيره، أما الكنية فاسم صدر بأب أو أم كما نقول : أبو بكر، وأم المؤمنين، فإن سمي به بداية وجعل علما على شخص فهو اسم، وليس كنية، أما اللقب فما أشعر برفعة أو ضعة كما تقول : فلان الشاعر أو الشاطر.. الخ.
فإذا أطلق الاسم الواحد على عدة مسميات، بحيث لا تتميز بعضها عن بعض وجب أن توصف بما يميزها كأسرة مثلا عشقت اسم محمد فسمت كل أولادها ( محمد ) فلا بد أن نقول : محمد الكبير، محمد الصغير، محمد الأوسط.. الخ.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم له اسم وكنية ولقب، أما اسمه فمحمد وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات :
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.. ( ١٤٤ ) ﴾ [ آل عمران ]
﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّه.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزابِ ]
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الفتح ].
﴿ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ... ( ٢ ) ﴾ [ محمد ].
وورد باسم أحمد في موضع واحد هو :﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.. ( ٢ ) ﴾ [ الصف ] وسبق أن تكلمنا في علة هذه التسمية.
أما كنيته : فأبو القاسم. ولقبه : رسول الله.
وهكذا استوفى سيدنا رسول الله العلمية في أوضاعها الثلاثة : الاسم، والكنية، واللقب.
واللقب أيضا الأب أو الأم أو الناس المحيطون بالإنسان إما يدل على الرفعة تفاؤلا بأنه سيكون له شأن، أو يدل على الضعة، وهذه في الغالب تحدث في الأولاد الذين يخاف عليهم العين، فيختارون لهم لقب يدل على الحطة والضعة وما أشبهه ( بالفاسوخة ) يعلقونها على الصغار مخافة العين.
أما لقب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختاره له ربه عز وجل، وطبيعي أن يأتي لقبه صلى الله عليه وسلم مشعرا برفعة أيما رفعة، فهي ليست عند الخلق فحسب، إنما رفعة عند الخالق، فلما ولد رسول الله أسماه جده بأحب الأسماء عنده. وقال : سميته محمدا ليحمد في الأرض وفي السماء١.
ولما ولد القاسم كنى به رسول الله فقيل : أبو القاسم، فلما اختاره الله للرسالة وللسفارة بينه تعالى وبين الخلق لقبه برسول الله وبالنبى، وهذان اللقبان على قدر عظيم من الرفعة لو جاءت من البشر، فما بالك وهي من عند الله، فأنت حين تضع المقاييس تضعها على قدر معرفتك وإمكاناتك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله ونبى الله بمقاييس الله، فهو إذن مشرف عندكم، مشرف عند من أرسله و ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ الأنعام ].
فأحب شيء في الإعلام برسول الله أن نقول : محمد، أو أبو القاسم، أو رسول الله، أو النبي، والحق سبحانه حين نادى رسوله صلى الله عليه وسلم لم يناده باسمه أبدا، فلم يقل يا محمد، إنما بقلبه الذي يشعر برفعته عند الحق سبحانه، فقال في ندائه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأنفال ]، ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ.. ( ٤١ ) ﴾ [ المائدة ].
ولو تتبعت نداء الله للرسل من لدن آدم عليه السلام لا تجد رسولا نودي بغير اسمه إلا محمد صلى الله عليه وسلم. أما لفظ ( محمد ) فقد ورد في القرآن، لكن في غير النداء، ورد على سبيل الإخبار بأن محمدا رسول الله.
وحتى في الإخبار عنه صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنه بلقبه :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ].
وقال :﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( ٣٠ ) ﴾ [ الفرقان ].
إذن : في النداء استقل بيا أيها النبي، ويا أيها الرسول، أما في الإخبار فلا بد أن يذكر اسمه ( محمد رسول الله )، وإلا فكيف يعرف أنه رسول الله ؟ فيخبر به أولا اسما ومسمى.
ونودي صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي، ويا أيها الرسول تعظيما له صلى الله عليه وسلم، ونحن حين نريد أن نعظم من ننادي نسبق الاسم بمقدمات، نقول : يا سيدي فلان، يا فضيلة الشيخ، يا صاحب العزة.. الخ.
وقد تقدمت ( أيها ) على المنادى هنا، لأن الاسم المنادى المحلى بأل لا ينادى مباشرة إلا في لفظ الجلالة ( الله ) فنقول : يا الله، فكأن الحق سبحانه توحد حتى في النداء، هذا في نداء المفرد.
والحق سبحانه نادى رسوله بيا أيها النبي، ويا أيها الرسول، الرسول هو السفير بين الله وبين خلقه، ليبلغهم منهجه الذي يريد أن تسير عليه حياتهم فالرسول مبلغ، أما النبي فمرسل أيضا من قبل الحق سبحانه، لكن ليس معه شرع جديد، إنما يسير على شرع من شبقه من الرسل، أما هو فقدوة وأسوة سلوكية لقومه.
ومحمد صلى الله عليه وسلم جمع الأمرين معا، فهو نبي ورسول له خصوصيات أمر بها، ولم يؤمر بتبليغها وهذه المسائل خاصة بالنبوة وله أمور أخرى أمر بها، وأمر بتبليغها.
ومعلوم من أقوال العلماء أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا بالمعنى الاصطلاحي، وإلا فهم جميعا مرسلون من قبل الله.
وكلمة ( النبي ) مأخوذة من النبأ وهو الخبر الهام، فالخبر يكون من البشر للبشر، فإن كان من خالق البشر فهو نبأ أي : أمر عظيم ينبغي الاهتمام به، وأصله من النبوة، وهو الشيء العالي المستدير في وسط شيء مستو.
فحين تقول : رأيت فلانا اليوم، هذا لا يسمى نبأ إنما خبر، لذلك قال سبحانه :﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( ١ ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ٢ ) ﴾ [ النبأ ] أي : الخبر الهائل الذي هز الدنيا كلها، وملأ الأسماع، وزلزل العروش.
ثم يقول سبحانه مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ اتَّقِ اللَّهَ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] سبق أن قلنا : إن الكلام العربي مقسم إلى خبر وإنشاء، فالخبر نسبة كلامية كانت قبل النطق بها نسبة ذهنية، وبعد النطق بها كلامية، فإن كان لها معنى ومدلول فهي نسبة واقعية، والخبر هو القول الذي يوصف بالصدق إن طابق الواقع، ويوصف بالكذب إن خالف.
أما الإنشاء فهو مقابل الخبر يعني : قول لا يوصف بصدق ولا بكذب، كأن تقول لإنسان : قف، فهذا لا يقال لقائله : صادق، ولا كاذب.
فقوله تعالى لنبيه ﴿ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] هذه نسبة كلامية من الله لرسوله، ليحدث مدلول هذا الأمر، وهو التقوى، ولكن أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تقى حتى يأمره ربه بالتقوى ؟
نقول : ليس بالضرورة أن يكون الرسول عصى، فيأمره الله بتقواه، لكن الحق سبحانه ينشئ مع رسوله كلاما بداية دون سابقة عصيان : أو : أنه الأمر الأول بالتقوى كما تقول لولدك في بداية الدراسة : اجتهد وذاكر دروسك، وأنت تعرف أنه مجتهد، لكن لا بد من تقرير المبدأ في بداية الأمر.
ثم إن الحدث يحدث في أزمنة ثلاثة : ماض وحال ومستقبل، فإذا طلب من شخص فعل شيء هو مقيم عليه بالفعل كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ( ١٣٦ ) ﴾ [ النساء ].
فالحق سبحانه يأمرهم بالإيمان، مع أنه وصفهم وخاطبهم بلفظ الإيمان، لأن المعنى : أنتم آمنتم قبل أن أكلمكم، وهذا الإيمان السابق لكلامي ماض، وأنا أريد منكم أن تحدثوا إيمانا جديدا، حالا ومستقبلا، أريد أن تجددوا إيمانكم، وأن تستمروا عليه.
فمعنى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : واصل تقواك حالا، كما فعلتها سابقا، وواصلها مستقبلا، فلا تنقطع عنها أبدا.
أو : أن تقوى الله أمر يلصق الإنسان بربه، والله كلف بأشياء، ثم أباح لك من جنس التكليف أشياء، فإذا قال الله لرسوله ﴿ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] فهي غير قوله لنا : اتقوا الله، فالأمر لنا نحن بالتقوى. أي : نفذ ما فرض عليك، أما في حق رسول الله فهي بمعنى : أدخل في مقام الإحسان، وجدده دائما، لأن مراقي القبول من الله لا تنتهي، كما أن كمالات العطاء في الله لا تنتهي.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من استوى يوماه فهو مغبون " ٢ أي : من استوى يومه مع أمسه في قربة من الله فهو خاسر، لماذا ؟ لأنه ينبغي للمؤمن أن يزيد في قربه وفي مودته، وعلاقته بالله يوما بعد يوم، لأن نعم الله عليك متوالية تستوجب شكرا متواليا، وحمدا دائما.
كما أن الحق سبحانه لا يكتفي من رسوله بما يكتفي به من سائر الخلق، إذن : فالتقوى بالنسبة لرسول الله غير التقوى بالنسبة لسائر الخلق، التقوى في حق رسول الله مجالها واسع، وللرسول مع الله فيوضات لا تنتهي.
لذلك حين يناديك ربك للصلاة في كل يوم خمس مرات. فاعلم أن فضله عليك غير مكرر، بل فضله متجدد، فعطاؤه لك في الظهر غير عطائه لك في العصر، غير عطائه لك في المغرب، وهكذا تكون التقوى عملا متواصلا ممتدا.
ولذلك يحذرنا أهل الخير أن نداوم مع الله في شيء من الطاعة، ثم نقصر عنها، كذلك يحذرنا أن ننذر لله ما لا نستطيع الوفاء به، لأنك بالنذر تفرض على نفسك الطاعة، فأجمل بك أن تظل في مقام التطوع. إن خفت نفسك للطاعة أدها، وإن قصرت فلا شيء عليك.
وكونك تفرض على نفسك شيئا من الطاعات من جنس ما فرض الله عليك. يعني : أنك أحببت الطاعة وحلت لك العبادة، حتى زدت الله منها، فقلت مثلا : نذرت لله أن أصلي من الركعات كذا، أو أتصدق بكذا، أو أتصدق بكذا من المال، لأنك رأيت في الصلوات الخمس إشراقات وفيوضات من الله فزدت منها.
والحق سبحانه يطلب منا حين ينادينا للصلاة أن نسعى للمسجد، مع أن الأرض كلها مسجد وكلها طهور، لكن المسجد خصص للصلاة، فينبغي أن تؤدى فيه. وأنت في صلاة ما دمت تسعى للصلاة، فمن كان بعيد البيت عن المسجد عليه أن يأتي الصلاة في سكينة ووقار، ولا يخرج عن هذا السمت حتى وإن تأخر عن تكبيرة الإحرام.
وقد ورد في حديث سيدنا رسول الله : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تشمون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " ٣.
وهناك مطلوب إيمان ومطلوب إحسان : مطلوب الإيمان هو ما فرضه الله عليك، وجاء في الحديث القدسي : " ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " ٤.
فإن أردت أن تتقرب إلى الله فتقرب إليه بما يحب، ومن جنس ما فرضه عليك، فالله أمرك بصلاة وصيام وزكاة، فإن حلت لك هذه العبادات فزد منها فوق ما فرضه الله عليك، وحين تزيد اعرف أنه مستك نورانية الإشراق في العبادة فقلت : الله يستحق مني فوق ما كلفني، وهذا هو مقام الإحسان.
وس
١ ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (١/١٧٠) أن آمنة بنت وهب أو رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث أنها أتيت ـ حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلمـ فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سمه محمدا..
٢ ذكره الزركشي في "التذكرة في الأحاديث المشتهرة" (ص ١٣٨) بطوله "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يومه شرا فهو ملعون، ومن لم يكن على الزيادة فهو في النقصان فالموت خير له، ومن اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، وممن أشفق من النار لهى عن الشهوات، ومن ترقب الموت هان عليه اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات" وقال: "أسند صاحب مسند الفردوس (الديلمي) من حديث محمد بن سوقة عن الحارث عن علي مرفوعا وهو إسناد ضعيف"، قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (٤/٣٣٥): لا أعلم هذا إلا في منام لعبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، أوصني، فقال ذلك بزيارة في آخره رواه البيهقي في الزهد..
٣ أخرجه احمد في مسنده (٢/٢٣٧، ٢٣٩، ٢٧٠)، ومسلم في صحيحه (٦٠٢) كتاب المساجد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ جزء من حديث قدسي، أخرجه البخاري في صحيحه (٦٥٠٢)) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد في مسنده (٦/٢٥٦) من حديث عائشة، وقد أفاض فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في شرح هذا الحديث في كتاب "الأحاديث القدسية" (١/٨٧) بتحقيقنا..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ١ خَبِيرًا ( ٢ ) ﴾
نلحظ هنا نهيا بين أمرين : الأول ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] والآخر ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ... ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] وبينهما النهي :﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] ووقوع هذا النهي بين هذين الأمرين ترتيب طبيعي، لأنك إذا اتقيت الله ستعلى منهج الحق، وهذا يؤذي أهل الباطل وأهل الفساد المستفيدين به، فلا بد أن تأتوا إليك يوسوسون في أذنك ليصرفوك عن منهج ربك، وعليك إذن أن ترد الأمر إلى ما يوحى إليك وأن تتبعه.
وقلنا : إن الوحي : إعلام بخفاء، فإن كان علانية فلا يعد وحيا، ولله تعالى في وحيه وسائل كثيرة مع جميع خلقه، فيوحي سبحانه إلى الجماد، لأنه قادر على أن يخاطب الجماد، كما في قوله سبحانه وتعالى عن الأرض :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( ٤ ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( ٥ ) ﴾ [ الزلزلة ].
ويوحي إلى النحل :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( ٦٨ ) ﴾ [ النحل ].
ويوحي إلى غير رسول أو نبي :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي.. ( ١١١ ) ﴾ [ المائدة ].
وقال :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ.. ( ٧ ) ﴾ [ القصص ].
هذا هو الوحي في معناه العام، أما الوحي الخاص فيكون من الله تعالى لرسول مرسل من عنده إلى الخلق، وله طريق متعددة، فمرة يكون بالنفث في الروع، ومرة يكون بالوحي بكلام لا يرى قائله، ولا يعرف مصدره، ومرة يكون عن طريق رسول ينزل به من الملائكة.
يقول تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا... ( ٥١ ) ﴾ [ الشورى ].
والقرآن الكريم لم يأت بالإلهام ولا بالكلام من وراء الغيب والحجب. إنما جاء عن طريق رسول ملك نزل به على رسول الله، فثبت القرآن من هذا الطريق.
ولا بد في هذه المسألة من التقارب بين الرسول الملك، والرسول البشر، فلكل منهما طبيعته الخاصة، ولكي يلتقيا لا بد من أمرين : إنما أن يرتفع البشر إلى مرتبة الملائكية بحيث يستقبل منها، أو ينزل الملك إلى مرتبة البشرية بحيث يستطيع أن يلقنها.
لذلك جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل إلى مجلس رسول الله في صورة بشرية ليعلم الناس أمور دينهم٢. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي تأخذه قشعريرة، ويتصبب جبينه عرقا، حينما يأتيه جبريل بالوحي، وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية، فكان صلى الله عليه وسلم يبلغ به الجهد حتى يقول : زملوني زملوني، دثروني دثروني.
وإذا جاءه الوحي وهو جالس مع أصحابه وركبته على ركبة أحدهم يشعر لها بثقل كأنها الجبل٣، أو يأتيه الوحي وهو على دابة فكانت تئط٤، لذلك فتر عن رسول الله الوحي بعد فترة ليستريح من هذا الإجهاد، وتبقى له حلاوة ما أوحي إليه، فيتشوق إليه من جديد. وبعدها خاطبه ربه :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( ١ ) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ( ٢ ) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ( ٣ ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( ٤ ) ﴾ [ الشرح ].
والهدف حينما يكون غاليا، والغاية سامية يهون في سبيلها كل جهد، وقد عاد الوحي إلى رسول الله بعد شوق، وخاطبه ربه بقوله :﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى ( ٤ ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( ٥ ) ﴾ [ الضحى ].
إذن : ثبت القرآن بالوحي عن طريق الرسول الملك، ولم يثبت بالإلهام أو النفث في الروع، أو الكلام من وراء حجاب، يقول تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ... ( ٥٢ ) ﴾ [ الشورى ].
والوحي هنا :﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ.. ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] من من ؟ ﴿ مِن رَّبِّكَ.. ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يقل مثلا رب الخلق، نعم هو سبحانه رب الخلق جميعا، لكن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، فهو رب الخلق من باب أولى، وكلمة ( ربك ) تدل على الحب وعلى الاهتمام، وأنه تعالى لن يخذلك أبدا، وما اتصاله بك إلا للخير لك ولأمتك.
ثم يقول تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] الخبير من وصل إلى منتهي العلم الدقيق، ومنه قولنا : اسأل أهل الخبرة. يعني : لا يسأل أهل العلم السطحي، فالخبير هو الذي لا يغيب عنه شيء.
وتلحظ أن الآية السابقة ختمت بقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : عليما بما يشرع، حكيما يضع الأمر في موضعه، وقال هنا :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : بما ينتهي إليه أمرك مع التشريع، استجابة أو رفضا، فربك لن يشرع لك ثم يتركك، إنما يخبر ما تصنع، ولو حتى نوايا القلوب.
فالخبرة تدل على منتهى العلم وعلى العلم الواسع، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى في قصة لقمان :﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ].
فالخبرة تدل على العلم الواسع الذي لا تفوته جزئية مهما صغرت، واللطف هو التغلغل في الأشياء مهما كانت دقيقة، وقلنا : إن الشيء كما لطف عنف.
فكأن الحق سبحانه يقول لرسوله : اطمئن، فمهما صودمت من خصومك، ومهما تألبوا عليك، فربك من ورائك لن يتخلى عنك، وهؤلاء الخصوم خلقي، وأنا معطيهم الطاقات المفكرة والطاقات العاقلة والطاقات المتآمرة، وسوف أنصرك عليهم في كل مرحلة من مراحل كيدهم لك.
لذلك لم يقووا عليك مناظرة ولا جدل، ولم يقدروا عليك حين بيتوا لك ليضربوك ضربة رجل واحد، فيتفرق دمك بين القبائل، وخرجت من بينهم سالما تحثوا التراب على رؤوسهم، وحتى لما استعانوا عليك بالسحر وبالجن أخبرتك بما يدبرون لك، ولم أسلمك لكيدهم.
١ قال القرطبي في تفسيره (٧/٣٥٧٥): "قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلمى وأبو عمروا وابن إسحاق "يعملون" بالياء على الخبر"، أي: أن الله كان:
ـ بما تعملون من اتباع ما أوحي إلينا من ربنا ببلاغ رسلنا.
ـ بما يعمل الكافرون والمنافقون من الكيد للإسلام ومحاولة إبعادنا عن اتباعنا ديننا..

٢ متفق عليه، أخرجه في صحيحه (٥٠) وكذا مسلم في صحيحه (٨) من حديث عمر بن الخطاب: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في صورة "رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد"..
٣ قال زيد بن ثابت (كاتب الوحي): أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي (أيك تكسر وتدق) أخرجه البخاري معلقا مجزوما به في كتاب الصلاة ـ باب ما يذكر في الفخذ، ووصله في تفسيره سورة النساء..
٤ عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه المائدة كلها فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة، أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٦/٤٥٥)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٣ ) ﴾.
يعني : إياك أن تظن أن واحدا من هؤلاء سوف يساعدك في أمرك، أو أنه يملك لك ضرا ولا نفعا، فلا تحسن الظن بأوامرهم ولا بنواهيهم، ولا تتوكل عليهم في شيء، إنما توكل على الله.
ولا بد أن نفرق هنا بين التوكل والتواكل : التوكل أن تكون عاجزا في شيء، فتذهب إلى من هو أقوى منك فيه، وتعتمد عليه في أن يقضيه لك، شريطة أن تستنفد فيه الأسباب التي خلقها الله لك، فالتوكل إذن أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب.
وقد ضرب لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا توضيحيا في هذه المسألة بالطير، فقال : " لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا١ وتروح بطانا٢.
أما التواكل فأن ترفض الأسباب التي قدمها الله لك، وتقعد عن الأخذ بها، وتقول : توكلت على الله، لا إنما استنفد الأسباب الموجودة لك من ربك، فإن عزت عليك الأسباب فلا تيأس، لأن لك ربا أقوى من الأسباب، لأنه سبحانه خالق الأسباب.
لذلك، كثير من الناس يقولون : دعوت الله فلم يستجب لي، نقول : نعم صدقت، وصدق الله معك، لأن الله تعالى أعطاك الأسباب فأهملتها، فساعة تستنفذ أسبابك، فثق أن ربك سيستجيب لك حين تلجأ إليه.
واقرأ قوله تعالى :﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.. ( ٦٢ ) ﴾ [ النمل ] والمضطر هو الذي عزت عليه الأسباب، وخرجت عن نطاق قدرته، كما حدث لسيدنا موسى عليه السلام حين حاصره فرعون وجنوده حتى قال قوم موسى :﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( ٦١ ) ﴾ [ الشعراء ].
نعم، مدركون، لأن البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، هذا رأى البشر وواقع الأمر، لكن لموسى منفذ آخر فقال :( كلا ) يعني لن ندرك ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٦٢ ) ﴾ [ الشعراء ] قالها موسى عن رصيد إيماني وثقة في أن الله سيستجيب له.
والبعض يقول : دعوت الله في كذا وكذا، وأخذت بكل الأسباب، فلم يستجب لي، نقول : نعم لكنك لست مضطرا، بل تدعو الله عن ترف كمن يسكن مثلا في شقة ويدعو الله أن يسكن في فيلا أو قصر، فأنت في هذه الحالة لست مضطرا.
ثم يذكر الحق سبحانه حيثية التوكل على الله، فيقول ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : يكفيك أن يكون الله وكيلك، لأنه لا شيء يتأبى عليه، ولا يستحيل عليه شيء.
وأحكي لكم قصة حدثت بالفعل معنا، وكنا نسير مع بعض الإخوان فرأينا رجلا مكفوف البصر يريد أن يعبر الشارع فقلنا لزميل لنا : اذهب وخذ بيده، فنزل وعبر به الشارع ثم قال له : إلى أين تذهب ؟ قال : إلى المنزل رقم كذا في هذا الشارع، فأخرج صاحبنا من جيبه عشرة جنيهات ووضعها في يد الرجل، فلما أمسك بورقة العشرة جنيهات لم يلتفت إلى المعطي، إنما رفع وجهه إلى السماء وقال : لا شيء يستحيل عليك أبدا، ثم قال لصاحبنا : يا بني أرجعني مكان ما كنت ! ! فقد قضيت حاجته التي كان يسعى لها ! !
نعم ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأنه لا تعزوه أسباب، ولا يثنيه عن إرادته شيء ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ... ( ٩٦ ) ﴾ [ النحل ].
وفي التوكل ملحظ آخر ينبغي أن نتنبه إليه، هو أنك إذا توكلت على أحد يقضي لك أمرا فاضمن له أن يعيش لك حتى يقضي حاجتك، فكيف تتوكل على شخص وتعلق به كل مالك، وفي الصباح تسمع نعيه : مات فلان ؟
إذن : لا ينبغي أن تتوكل إلا على الله الحي الذي لا يموت :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الفرقان ] واستعن بوكالة الله عن كل شيء ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٣ ) ﴾ [ الأحزاب ].
١ المخمصة: الجوع، وهو خلاء البطن من الطعام جوعا. ومعنى الحديث: أي تغدو الطير بكرة وهي جياع، وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. [لسان العرب ـ مادة: خمص]..
٢ أخرجه أحمد في مسنده (١/٣٠، ٢٥)، وابن ماجة في سننه (٤١٦٤)، والترمذي في سننه (٢٣٤٤) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ٣ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ٤ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ( ٤ ) ﴾
ترتبط هذه الآية بالآيات قبلها، فقد ذكر الله تعالى معسكرين : معسكرا يجب أن يطاع، فقال تعالى لرسوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] وقال :﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ.. ( ٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] وبينهما معسكر آخر نهي رسول الله عن طاعته ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ].
إذن : نحن هنا أمام معسكرين : واحد يمثل الحق في أجلى معانيه وصوره، وآخر يمثل الباطل، وللقلب هنا دور لا يقبل المواربة، إما أن ينحاز ويغلب صاحب الحق، وإما أن يغلب جانب الباطل، وما دمت أنت أمام أمرين متناقضين لا يمكن أن يجتمعا، فلا بد أن تغلب الحق، لأن الله تعالى :﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... ( ٤ ) ﴾ [ الأحزاب ].
إما الحق وإما الباطل، ولا يمكن أن تتقي الله وتطيع الكافرين والمنافقين، لأن القلب الذي يميل ويغلب قلب واحد.
ومعلوم أن القلب هو أهم عضو في الجسم البشري، فإذا أصيب الإنسان بمرض مثلا يصف له الطبيب دواء، الدواء يؤخذ عن طريق الفم ويمر بالجهاز الهضمي، ويحتاج إلى وقت ليتمثل في الجسم، فإن كانت الحالة أشد يصف حقنة في العضل فيصب الدواء في الجسم مباشرة، فإن كان المرض أشد يعطي حقنة في الوريد، لماذا ؟
ليصل الدواء المطلوب جاهزا إلى الدم مباشرة، ليضخه القلب إلى جميع الأعضاء في أسرع وقت. إذن : فالدم هو الذي يحمل خصائص الشفاء والعافية إلى البدن كله، والقلب هو ( الموتور ) الذي يؤدي هذه المهمة، لذلك عليك أن تحتفظ به في حالة جيدة، بأن تملأه بالحق حتى لا يفسده الباطل.
وسبق أن أوضحنا أن الحيز الواحد لا يمكن أن يسع شيئين في وقت واحد فما بالك إن كانا متناقضين ؟ وقد مثلنا هذه العملية بالزجاجة الفارغة إن أردت أن تملأها بالماء لا بد أن يخرج منها الهواء أولا ليدخل مكانه الماء.
كذلك الحال في المعاني، فلا يجتمع حق وباطل في قلب واحد أبدا، وليس لك أن تجعل قلبا للحق وقلبا للباطل، لأن الخالق جعل لك قلبا واحدا، وجعله محدودا لا يسع إلا إيمانك بربك، فلا تزاحمه بشيء آخر.
ويروى أنه كان في العرب رجل اسمه جميل بن أسد الفهري٥ وكان مشهورا باللسن٦ والذكاء، فكان يقول : إن لي قلبين، أعقل بواحد منهما مثل ما يعقل محمد، فشاء الله أن يراه أبو سفيان وهو منهزم بعد بدر، فيقول له : يا جميل، وما فعل القوم ؟ قال : منهم مقتول ومنهم هارب، قال : وما لي أراك هكذا ؟ قال : مالي ؟ قال : نعل في كفك، ونعل في رجلك، قال : والله لقد ظننتهما في رجلي، فضحك أبو سفيان وقال له : فأين قلباك ؟
وإذا كان القلب هو المضخة التي تضخ الدم إلى كل الجوارح والأعضاء حاملا معه الغذاء والشفاء والعافية، كذلك حين تستقر عقائد الخير في القلب، يحملها الدم كذلك إلى الجوارح والأعضاء، فتتجه إلى طاعة الله، فالرجل تسعى إلى الخير، والعين لا تنظر إلا إلى الحلال، والأذن تسمع القول فتتبع أحسنه، واللسان لا ينطق إلا حقا.
فكل الجوارح إذن لا تنضح إلا الحق الذي تشربته من طاقات الخير في القلب.
لذلك يعلمنا سيدنا رسول الله هذا الدرس، فيقول : " إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ٧.
ثم يأخذ الحق سبحانه من مسألة اجتماع المتناقضين في قلب واحد مقدمة للحديث عن قضايا المتناقضات التي شاعت عند العرب، فيقول سبحانه :﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ.. ( ٤ ) ﴾ [ الأحزاب ]
وقد شاع في الجاهلية حين يكره الرجل زوجته، يقول لها : أنت علي كظهر أمي، ومعلوم أن ظهر الأم محرم على الابن حرمة مؤبدة، لذلك كانوا يعتبرون هذه الكلمة تقع موقع الطلاق، فلما جاء الإسلام لم يجعلها طلاقا، إنما جعل لها كفارة كذب، لأن الزوجة ليست أما لك، وحدد هذه الكفارة إما : عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكينا، أو صيام ستين يوما٨.
وهذه المسألة تناولتها سورة ( قد سمع ) :﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا.. ( ٢ ) ﴾ [ المجادلة ] أي : كذبا، لأن الزوجة لا تكون أما.
فالحق سبحانه جاء بمتناقض، وأدخل فيه متناقضا آخر، فكما أن القلب الواحد لا تجتمع فيه طاعة الله وطاعة الكافرين والمنافقين، فكذلك الزوجة لا تكون أبدا أما، فهي إما أم، وإما زوجة.
كذلك وجد عند العرب تناقض آخر في مسألة التبني، فكان الرجل يستوسم الولد الصغير، أو يرى فيه علامات النجابة فيتبناه، فيصير الولد ابنا له، يختلط ببيته كولده، ويرثه كما يرثه ولده، وله عليه كل حقوق الابن.
وهذه متناقضة أيضا كالسابقة، فكما أن الرجل لا يكون له قلبان، وكما أن الزوجة لا تكون أما بحال، كذلك المتبنى لا يكون ولدا، فيقول سبحانه ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ.. ( ٤ ) ﴾ [ الأحزاب ].
الدعي : هو الذي تدعى أنه ابن وليس بابن، وكان هذا شائعا عند العرب، وأراد الله سبحانه أن يبطل هذه العادة، ومثلها مسألة الظهار، فألغى القرآن هذه العادات، وقال : ضعوا كل شيء في موضعه، فجعل للظهار كفارة، ونهى عن التبني بهذه الصورة.
والحق سبحانه ساعة يريد أن يلغي حكما يقدم صاحب الدعوى نفسه ليطبق هو أمام الناس، لذلك جعل سيدنا رسول الله يبدأ بنفسه، ويبطل التبني الذي عنده.
تعلمون أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج من السيدة خديجة، وكان لها منزلة عند رسول الله، وقد اشترى لها حكيم بن حزام٩ عبدا من سوق الرقيق هو زيد بن حارثة، وكان من بني كلب، سرقه اللصوص من أهله، وادعوا أنه عبد فباعوه، ثم أهدته السيدة خديجة لسيدنا رسول الله، فصار مولى لرسول الله، يخدمه طيلة عدة سنوات، وما بالكم بمن يكون في خدمة رسول الله ؟
لقد أحب زيد رسول الله، وعشق خدمته، وقال عن معاملته صلى الله عليه وسلم له : " لقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لشيء فعلته : لم فعلته، ولا لشيء تركته لم تركته " ١٠.
وفي يوم من الأيام، رآه واحد من بني كلب في طرقات مكة، فأخبر أهله به، فأسرع أبو زيد إلى مكة يبحث عن ولده، فدلوه عليه، وأنه عند محمد، فذهب إلى سيدنا رسول الله، وأخبره خبر ولده، وطلب منه أن يعود معه إلى بني كلب.
ولكن، ما كان رسول الله ليتخلى عن خادمه الذي يحبه كل هذا الحب، فقال لأبيه : خيره، فإن اختاركم فخذوه، وإن اختارني فأنا له أب، فلما خيروه قال سيدنا زيد : والله ما كنت لأختار على رسول الله أحدا.
عندها أحب رسول الله أن يكافئه على هذا الموقف، وعلى تمسكه بخدمته، فتبناه كما تتبنى العرب، وسموه بعدها : زيد بن محمد١١.
فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني بدأ بمتبني رسول الله، ليكون هو القدوة لغيره في هذه المسألة، فكيف أبطل الله تعالى هذه البنوة ؟
كان سيدنا رسول الله قد زوج زيدا من ابنة عمته زينب بنت جحش، أخت عبد الله بن جحش، وقد تعب رسول الله في إقناع عبد الله وزينب بهذه الزيجة التي رفضتها زينب١٢، تقول : كيف أتزوج زيدا وهو عبد وأنا سيدة قرشية ؟
ثم تزوجته إرضاء لرسول الله، وعملا بقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( ٣٦ ) ﴾ [ الأحزاب ].
لكنها بعد الزواج تعالت عليه، أنها من السادة، وهو من العبيد، فكره زيد ذلك، ولم يطق فأحب أن يطلقها، فذهب إلى رسول الله وشكا إليه ما كان من زينب، وعرض عليه رغبته في طلاقها.
فقال له رسول الله : أمسك عليك زوجك، فعاوده مرة أخرى فقال له : أمسك عليك زوجك فعاوده زيد، عندها علم رسول الله أن رغبتهما في الطلاق، وكراهيتهما للحياة الزوجية أمر قدري، أراده الله لحكمة، ولأمر تشريعي جديد، شاء الله أن يوقع البغض بين زيد وزينب، فبغض زينب لزيد كان تعاليا واستكبارا، وبغض زيد لزينب كان اعتزازا بالنفس.
ولكي يبطل الحق سبحانه تبني رسول الله لزيد قضى بأن يتزوج رسول الله من زينب بعد طلاقها من زيد، ومعلوم أن امرأة الابن تحرم على أبيه، فزواج سيدنا رسول الله من زينب يعني أن زيدا ليس ابنا لرسول الله، ويبطل عادة التبني، والأثر المترتب على هذه العادة.
وقد أحس رسول الله بشيء في نفسه، وتردد في هذا الزواج مخافة أن يقول الناس : إن محمدا أوعز إلى زيد أن يطلق زينب ليتزوجها هو، كما يقول بعض المستشرقين الآن، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يضمر حب زينب في نفسه، وهذه كلها افتراءات على رسول الله، فالذي يحب امرأة لا يسعى جاهدا لأن تتزوج من غيره، وحين يريد زوجها أن يطلقها لا يقول له : أمسك عليك زوجك.
ثم لا ينبغي لأحد أن يخوض فيما أخفاه رسول الله في نفسه، من أنه عاشق أو محب، لكن انظر فيما أبداه الله، فالذي أبداه الله هو الذي يخفيه رسول الله، واقرأ :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
إذن : الذي كان يخفيه رسول الله هو أنه يخاف أن تتكلم به العرب، وأن تقول فيه ما لا يليق به في هذه المسألة.
ويقول تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا١٣ زَوَّجْنَاكَهَا ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] لماذا ؟ ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ... ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وهكذا قرر الحق سبحانه مبدأ إبطال التبني في شخص رسول الله.
والحق سبحانه حينما يبطل عادة التبني إنما يبطل عادة ذميمة، تقوض بناء الأسرة، وتهدم كيانها، تؤدي إلى اختلاط الأنساب وضياع الحقوق، فالولد المتبنى يعيش في الأسرة كابنها، تعامله الأم على أنه ابنها، وهو غريب عنها، كذلك البنت تعامله على أنه أخوها، وهو ليس كذلك، وفي هذا من الفساد ما لا يخفى على أحد.
وأيضا، فكيف يكون الأب الذي جعله الله سببا مباشرا لوجودك وتأتي أنت لترد هذه السببية، وتنقلها إلى غير صاحبها، وأنت حين تنكر البنوة السببية في أبيك فمن السهل عليك إذن أن تنكر المسبب الذي خلق أولا، ولم لا وقد تجرأت على إنكار الجميل.
وكذلك الذي ينكر البنوة السببية يتجرأ على أن ينسب الأشياء إلى غير أهلها، فينسب العبادة لغير مستحقها، وينسب الخلق لغير الخالق.
وإلا فلماذا يحثنا الحق دائما على بر الوالدين ؟ ولماذا قرن بين عبادته سبحانه وبين الإحسان إلى الوالدين في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فقال سبحانه :{ وَاعْب
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥ ) ﴾
معنى ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : قولوا : زيد بن حارثة، لكن كيف ينزع من زيد هذا التاج وهذا الشرف الذي منحه له سيدنا رسول الله ؟ نعم، هذا صعب على زيد رضي الله عنه لكنه ﴿ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] لا عندكم أنتم.
و ﴿ أَقْسَطُ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أفعل تفضيل، نقول هذا قسط وهذا أقسط، مثل عدل وأعدل، ومعنى ذلك أن الذي اختاره رسول الله من نسبة زيد إليه يعد قسطا وعدلا بشريا، في أنه صلى الله عليه وسلم أحس بالبنوة وصار أبا لمن اختاره وفضله على أبيه.
لكن الحق سبحانه يريد لنا الأقسط، والأقسط أن ندعو الأبناء لآبائهم ﴿ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : نعرفهم بأنهم إخواننا في الدين.
ومعنى الموالي : الخدم والنصراء الذين كانوا يقولون لهم " العبيد "، فالولد الذي لا نعرف له أبا هو أخ لك في الله تختار له اسما عاما، فنقول مثلا في زيد : زيد بن عبد الله، وكلنا عبيد الله تعالى.
والنبوة تثبت بأمرين : بالعقل وبالشرع، فالرجل الذي يتزوج زواجا شرعيا، وينجب ولدا، فهو ابنه كونا وشرعا، فإذا زنت المرأة والعياذ بالله على فراش زوجها، فالولد ابن الزوج شرعا لا كونا، لأن القاعدة الفقهية تقول : الولد للفراش، وللعاهر الحجر١.
كذلك في حالة الزوجة التي تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها، لكنها تنجب لستة أشهر، فتقوم هنا شبهة أن يكون الولد للزوج الأول، لذلك يعد ابنا شرعا لا كونا، لأنه ولد على فراشه.
فإن جاء الولد من الزنا والعياذ بالله في غير فراش الزوجية فهو ابنه كونا لا شرعا، لذلك نقول عنه " ابن غير شرعي ".
كما أن في قوله تعالى :﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو قال تعالى : هو قسط لكان عمل النبي إذن جورا وظلما، لكن أقسط تعنى : أن عمل النبي قسط وعدل.
وقوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] يخرجنا من حرج كبير في هذه المسألة، فكثيرا ما نسمع وما نقول لغير أبنائنا : يا بني على سبيل العطف والتودد، ونقول لكبار السن : يا أبي فلان احتراما لهم.
فالحق سبحانه يحتاط لنا ويعفينا من الحرج والإثم، لأننا نقول هذه الكلمات لا نقصد الأبوة الحقيقية، إنما نقصد تعظيم الكبار وتوقيرهم، والعطف والتحنن للصغار، فليس عليكم إثم ولا ذنب في هذه المسألة، إن أخطأتم فيها، والخطأ هو ألا تذهب إلى الصواب، لكن عن غير عمد.
وإذا كان ربنا تبارك وتعالى قد رفع عنا الحرج، وسمح لنا باللغو حتى في الحلف بذاته سبحانه، فقال :﴿ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ( ٨٩ ) ﴾ [ المائدة ] فكيف لا يعفينا من الحرج في هذه المسألة ؟
ثم يقول سبحانه :﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] سبق أن قلنا : أن الفعل إذا أسند إلى الحق سبحانه انحل عنه الزمن، فليس مع الله تعالى زمن ماض، وحاضر، ومستقبل، وهو سبحانه خالق الزمن.
لذلك نقول ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : كان ولا يزال غفورا رحيما : لأن الاختلاف في زمن الحدث إنما ينشأ من صاحب الأغيار، والحق سبحانه لا يطرأ عليه تغيير.
لذلك نخاف نحن من صاحب الأغيار لأنه متقلب، ويقول أهل المعرفة : تغيروا من أجل ربكم يعني : من الانحراف إلى الاستقامة لأن الله لا يتغير من أجلكم، أنت تتغير من أجل الله، لكن الله لا يتغير من أجل أحد، ومادام الحق سبحانه كان غفورا رحيما، وهو سبحانه لا يتغير، فبالتالي سيبقى سبحانه غفورا رحيما.
وتلحظ في أسلوب القرآن أنه يقرن دائما بين هذين الوصفين غفور ورحيم، لأن الغفر سلب عقوبة الذنب، والرحمة مجيء إحسان جديد بعد الذنب الذي غفر، كأن تمسك في بيتك لصا يسرق، فلك أن تذهب به للشرطة، ولك أن تعفو عنه وتتركه ينصرف إلى حال سبيله، وتستر عليه، وبيدك أن تساعده بما تقدر عليه ليستعين به على الحياة، وهذه رحمة به وإحسان إليه بعد المغفرة.
وقد عولجت هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( ١٢٦ ) ﴾ [ النحل ] وهذا التوجيه يضع لنا أول أساس من أسس المغفرة، لأنك لا تستطيع أبدا تقرير هذه المثلية، ولا تضمن أبدا إذا عاقبت أن تعاقب بالمثل، ولا تعتدي، لذلك تلجأ إلى جانب المغفرة، لكي لاتدخل نفسك في متاهة اعتداء جديد، يوجب القصاص منك.
وسبق أن حكينا قصة المرابي الذي اشترط على مدينه إذا لم يسدد ما عليه في الوقت المحدد أن يأخذ رطلا من لحمه، فلما تأخر اشتكاه المرابي عند القاضي، وذكر ما كان بينهما من شروط، فأقره القاضي على شرطه، لكن ألهمه الله أن يقول للمرابي : نعم خذ رطلا من لحمه، لكن بضربة واحدة، فإن زدت عنها أو نقصت وفيناها من لحمك أنت، عندها تراجع المرابي، وتنازل عن شرطه.
إذن : أجاز لك الشرع القصاص بالمثل ليجعل هذه المرحلة صعبة التنفيذ، ثم يفتح لك الحق سبحانه باب العفو والصفح في المرحلة الثانية :﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) ﴾[ التغابن ].
ثم يفسرها بحيثية أخرى، فيقول سبحانه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٤ ) ﴾ [ آل عمران ]
ومعنى كظم الغيظ أنني لم أنفعل انفعالا غضبيا ينتج عنه رد فعل انتقامي، وجعلت غضبي في قلبي، وكظمته في نفسي، وهذه المرحلة الأولى، أما الثانية فتخرج ما في نفسك من غيظ وغضب وتتسامح وتعفو.
ثم المرحلة الثالثة أن ترتقي إلى مرتبة الإحسان، فتحسن إلى من أساء إليك، وهذه رحمة، والرحمة : أن يميل الإنسان بالإحسان لعاجز عنه، فإن كان الأمر بعكس ذلك فلا تسمى رحمة، كأن يميل العبد بإحسان إلى سيده.
هذه صور أتت فيها الرحمة بعد المغفرة، وهذا هو الأصل في المسألة، وقد تأتي الرحمة قبل المغفرة، كأن تمسك باللص الذي يسرق فتشعر أنه مكره على ذلك، وليس عليه أمارات الإجرام، فيرق له قلبك، وتمتد يدك إليه بالمساعدة، ثم تطلق سراحه، وتعفو عنه، فالرحمة هنا أولا وتبعتها المغفرة.
بعد ذلك لقائل أن يقول : ما موقف زيد بعد أن أبطل الله تعالى التبني، فصار زيد بن حارثة بعد أن كان زيد بن محمد ؟ وكيف به بعد أن سلب هذه النعمة وحرم هذا الشرف ؟ أضف إلى ذلك ما يلاقيه من عنت المرجفين، وألسنة الذين يوغرون صدره، ويوقعون بينه وبين رسول الله، وهو الذي اختاره على أبيه.
لا شك أن الجرعة الإيمانية التي تسلح بها زيد جعلته فوق هذا كله، فقد تشرب قلبه حب رسول الله، ووقر في نفسه قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. ( ٣٦ ) ﴾( الأحزاب )
ثم تأتي الآيات لتوضح للناس : لستم أحن على زيد من محمد، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين جميعا من أنفسهم، لا يزيد وحده.
١ هو حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أحمد في مسنده (١/٢٣٩، ٢٨٠، ٣٨٦، ٤٠٩)، وكذا مسلم في صحيحه (١٤٥٨) كتاب الرضاع ـ باب الولد للفراش (١٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( ٦ ) ﴾.
فالمعنى : إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين جميعا من أنفسهم فما بالكم بزيد ؟ إذن : لستم أحن على زيد من الله، ولا من رسول الله، وإذا كنتم تنظرون إلى الوسام الذي نزع من زيد حين صار زيد ابن حارثة بعد أن كان زيد بن محمد.
فلماذا تغمضون أعينكم عن فضل أعظم، ناله زيد من الله تعالى حين ذكر اسمه صراحة في قرآنه وكتابة العزيز الذي يتلى ويتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة، فأي وسام أعظم من هذا ؟ فقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] قول خالد يخلد معه ذكر زيد، وهكذا عوض الله زيدا عما فاته من تغيير اسمه.
وقوله تعالى :﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] ما المراد بهذه الأولوية من النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : هي ارتقاءات في مجال الإحسان إلى النفس، ثم إلى الغير، فالإنسان أولا يحسن إلى نفسه، ثم إلى القرابة القريبة، ثم القرابة البعيدة، ثم على الأباعد، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول " ١.
ويقولون : أوطان الناس تختلف باختلاف هممها، فرجل وطنه نفسه، فيرى كل شيء لنفسه، ولا يرى نفسه لأحد، ورجل وطنه أبناؤه وأهله، ورجل يتعدى الأصول إلى الفروع، ورجل وطنه بلده أو قريته، ورجل وطنه العالم كله والإنسانية كلها.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم تعدى خيره إلى الإنسانية كلها على وجه العموم، والمؤمنين على وجه الخصوص، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل من أمته وعليه دين، وليس عنده وفاء لا يصلى عليه ويقول : " صلوا على أخيكم " ٢
والنظرة السطحية هنا تقول : وما ذنبه إن مات وعليه دين ؟ ولماذا لم يصل عليه الرسول ؟
قالوا : لم يمنع الرسول الصلاة عليه وقال : صلوا على أخيكم لأنه قال في حديث آخر : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها لم يقل أداها أدى الله عنه " ٣.
أما وقد مات دون أن يؤدي ما عليه، فغالب الظن أنه لم يكن ينوي الأداء، لذلك لا أصلي عليه، فلما نزل قوله تعالى :﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] صار رسول الله يتحمل الدين عمن يموت من المسلمين وهو مدين، ويؤدي عنه رسول الله، وهذا معنى ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالنبي أولى بالمسلم من نفسه.
ثم ألم يقل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام عمر : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من : نفسه، وماله، والناس أجمعين " ولصدق عمر رضي الله عنه مع نفسه قال : نعم يا رسول الله، أنت أحب إلي من أهلي ومالي، لكن نفسي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " ٤
فلما رأى عمر أن المسألة عزيمة فطن إلى الجواب الصحيح، فلا بد أن الله أنطق رسوله بحب غير الحب الذي أعرفه، إنه الحب العقلي، فمحمد صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، والإنسان حين يحب الدواء المر إنما يحبه بعقله لا بعاطفته، وكما تحب الولد الذكي حتى لو كان ابنا لعدوك، أما ابنك فتحبه بعواطفك، وتحب من يثني عليه حتى لو كان غبيا متخلفا.
ومشهورة عند العرب قصة الرجل الغني الذي رزقه الله بولد متخلف، وكبر الولد على هذه الحالة حتى صار رجلا، فكان الطالبون للعطاء يأتونه، فيثنون على هذا الولد، ويمدحونه إرضاء لأبيه، وطمعا في عطائه، مع
أنهم يعلمون بلاهته وتخلفه، إلى أن احتاج واحد منهم، فنصحوه بالذهاب إلى هذا الغنى، وأخبروه بنقطة ضعفه في ولده.
وفعلا ذهب الرجل ليطلب المساعدة، وجلس مع هذا الغنى في البهو، وفجأة نزل هذا الولد على السلم كأنه طفل يلعب لا تخفى عليه علامات البله والتخلف، فنظر الرجل إلى صاحب البيت، وقال : أهذا ولدك الذي يدعو الناس له ؟ قال : نعم، قال : أراحك الله منه، والأرزاق على الله.
وقوله تعالى :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، وعليه فخديجة رضي الله عنها أم لرسول الله بهذا المعنى، لأنه أول المؤمنين، لذلك كانت لا تعامله معاملة الزوجة، إنما معاملة الأم الحانية.
ألا تراها كيف كانت تحنو عليه وتحتضنه أول ما تعرض لشدة الوحي ونزول الملك عليه ؟ وكيف كانت تطمئنه ؟ ولو كانت بنتا صغيرة لاختلف الأمر، ولاتهمته في عقله. إذن : رسول الله في هذه المرحلة كان في حاجة إلى أم رحيمة، لا إلى زوجة شابة قليلة الخبرة.
وزوجاته صلى الله عليه وسلم يعتبرون أمهات للمؤمنين به، لأن الله تعالى قال مخاطبا المؤمنين :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] لماذا ؟ لأن الرجال الذين يختلفون على امرأة توجد بينهم دائما ضغائن وأحقاد.
فالرجل يطلق زوجته ويكون كارها لها، لكن حين يتزوجها آخر تحلو في عينه مرة أخرى، فيكره من يتزوجها، وهذه كلها أمور لا تنبغي مع شخص رسول الله، ولا يصح لمن كانت زوجة لرسول الله أن تكون فراشا لغيره أبدا، لذلك جعلهن الله أمهات المؤمنين جميعا، وهذه الحرمة لا تتعدى أمهات المؤمنين إلى بناتهن، فمن كانت لها بنت فلتتزوج بمن تشاء.
إذن : لا يجوز لإنسان مؤمن برسول الله ويقدره قدره أن يخلفه على امرأته.
لذلك كان تعدد الزوجات في الجاهلية ليس له حد معين، فكان للرجل أن يتزوج ما يشاء ما يشاء من النساء، فلما جاء الإسلام أراد أن يحدد العدد في هذه المسألة، فأمر أن يمسك الرجل أربعا منهن، ثم يفارق الباقين٥، بمعنى أنه لا يجمع من الزوجات أكثر من أربع.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمسك تسعا من الزوجات، وهذه المسألة أخذها المستشرقون مأخذا على رسول الله وعلى شرع الله، وكذلك من لف لفهم من المسلمين.
ونقول لهؤلاء : أنتم أغبياء، ومن لف لفكم غبي مثلكم، لأن هذا الاستثناء لرسول الله جاء من قول الله تعالى له :﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
يعني : إن ماتت إحداهن لا تتزوج غيرها، حتى لو متن جميعا لا يحل لك الزواج بغيرهن، في حين أن غيره من أمته له أن يتزوج بدل إحدى زوجاته، إن ماتت، أو إن طلقها وله أن يطلق منهن من يشاء ويتزوج من يشاء، شريطة ألا يجمع منهن أكثر من أربع، فعلى من ضيق هذا الحكم ؟ على رسول الله ؟ أم على أمته ؟ إذن لا تظلموا رسول الله.
ثم ينبغي على هؤلاء أن يفرقوا بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، فكون رسول الله يكتفي بهؤلاء التسع لا يتعداهن إلى غيرهن، فالاستثناء هنا في المعدود، فلو انتهى هذا المعدود لا يحل له غيره، ولو كان الاستثناء في العدد لجاز لكم ما تقولون.
ومن ناحية أخرى : حين يمسك الرجل أربعا، ويفارق الباقين من زوجاته لهن أن يتزوجن بغيره، لكن كيف بزوجاته صلى الله عليه وسلم إن طلق خمسا منهن، وهن أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد من أمته الزواج منهن ؟ إذن : الخير والصلاح في أن تبقى زوجات الرسول في عصمته.
ومادام ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] كذلك يجب أن يكون المؤمنون أولى برسول الله من نفسه، ليردوا له هذه التحية، بحيث إذا أمرهم أطاعوه.
ثم يقول تعالى :﴿ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ].
كلمة ( وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ ) مأخوذة من الرحم، وهو مكان الجنين في بطن أمه، والمراد الأقارب، وجعلهم الله أولى ببعض، لأن المسلمين الأوائل حينما هاجروا إلى المدينة تركوا في مكة أهلهم وأموالهم وديارهم، ولم يشأ أنصار رسول الله أن يتركوهم بقلوب متجهة إلى الأزواج.
فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أن يطلق له إحدى زوجاته ليتزوجها٦، وهذا لون من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها، لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه، إلا مسألة المرأة، فما فعله هؤلاء الصحابة لون فريد من الإيثار.
وحين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة، اقتضت أن يرث المهاجر أخاه الأنصاري، فلما أعز الله الإسلام، ووجد المهاجرون سبيلا للعيش أراد الحق سبحانه أن تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فلم تعد هناك ضرورة لأن يرث المهاجر أخاه الأنصاري.
فقررت الآيات أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في مسألة الميراث، فقال سبحانه :﴿ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ]. فقد استقرت أمور المهاجرين، وعرف كل منهم طريقه ورتب أموره، والأرحام في هذه الحالة أولى بهذا الميراث.
وقوله تعالى :﴿ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] تنبيه إلى أن الإنسان يجب عليه أن يحفظ بضعة اللقاء حتى من آدم عليه السلام، لأنك حين تتأمل مسألة خلق الإنسان تجد أننا جميعا من آدم، لا من آدم وحواء.
يروى أن الحاجب دخل على معاوية، فقال له : رجل بالباب يقول : إنه أخوك، فقال معاوية : كيف لا تعرف إخوتي، وأنت حاجبي ؟ قال : هكذا قال، قال : أدخله، فلما دخل الرجل سأله معاوية : أي إخوتي أنت قال : أخوك من آدم، فقال معاوية : نعم، رحم مقطوعة، والله لأكونن أول من يصلها.
وقوله تعالى :﴿ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا.. ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] الحق سبحانه يترك باب الإحسان إلى المهاجرين مفتوحا، فمن حضر منهم قسمة فليكن له منها نصيب على سبيل التطوع، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( ٨ ) ﴾ [ النساء ].
وقوله سبحانه :﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( ٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في أم الكتاب اللوح المحفوظ، أو الكتاب أي : القرآن.
١ عن جابر بن عبد الله قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من بني عذرة: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذوي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أخرجه مسلم في صحيحه (٩٩٧) كتاب الزكاة ـ باب الابتداء في النفقة بالنفس. أما لفظة "ثم بمن تعول" فقد وردت في حديث آخر عند مسلم أيضا في صحيحه (١٠٣٤) كتا الزكاة عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"..
٢ عن أبي قتادة قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ليصلي عليه، فقال النبي "صلوا على صاحبكم فإن عليه دينا" قال أبو قتادة: هو علي. فقال صلى الله عليه وسلم: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلى عليه. أخرجه الترمذي في سننه (١٠٦٩) وقال هذا حديث حسن صحيح..
٣ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/٣٦١، ٤١٧) والبخاري في صحيحه (٢٣٨٧) وابن ماجة في سننه (٢٤١١) عن أبي هريرة..
٤ عن جد زهرة بن معبد قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: والله يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" قال فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، أخرجه الإمام احمد في مسنده (٤/٣٣٦)..
٥ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعا منهن، أخرجه الترمذي في سننه (١١٢٨)، وابن ماجة في سننه (١٩٥٣) موصولا. وأخرجه الإمام مالك في موطئه مرسلا عن ابن شهاب الزهري بلفظ: "أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن"..
٦ حدث هذا مع عبد الرحمان بن عوف المهاجر من مكة، وسعد بن الربيع الأنصاري "حيث قال له سعد: أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فامظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك. فقال له عبد الرحمان: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق" الخبر بطوله أخرجه ابن سعد في الطبقات (٣/١١٧)..
ثم ينقلها الحق سبحانه إلى قضية عامة لموكب الرسل جميعا :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ٧ ) ﴾.
كلمة ( إذ، إذا ) ظرف لحدث، تقول : إذا جاءك فلان فأكرمه، فالإكرام معلق بالمجيء، والمعنى هنا : واذكر إذ أخذ الله من النبيين ميثاقهم، وهذه القضية عامة في الرسل جميعا، ثم فصلها الحق سبحانه بقوله :﴿ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.. ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ]
الميثاق : هو العهد يؤخذ بين اثنين، كالعهد الذي أخذه الله تعالى أولا على الخلق جميعا، وهم في مرحلة الذر، والذي قال الله عنه :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.. ( ١٧٢ ﴾ [ الأعراف ].
فما العهد الذي أخذه الله على النبيين ؟ العهد هنا هو : الاصطفاء والاختيار من الله لبشر أن يكون رسولا وسفيرا بين الله تعالى والخلق، وحين يصطفي الله رسولا ليبلغ الناس شرع الله، هذا الاصطفاء لا يرد، إذن : فهو عرض مقبول، وحين يقبله الرسول كأنه أخذ عهدا وميثاقا من الله تعالى بأن يحمل رسالة الله إلى الخلق، فهي إذن مسألة إيجاب وقبول.
فقوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ.. ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] الآخذ هو الحق سبحانه، والمأخوذ منه هم النبيون، والميثاق : العهد الموثق، والعهد تعاهد وتعاقد بين طرفين على أمر يحقق الصالح عندهما معا، ولو اختلف واحد منهما ما تم العقد، فإن كان الطرفان متساويين اشترط كل منهما ما يراه لنفسه في العقد.
فإن كان الميثاق من الأعلى إلى الأدنى فهو الذي يأخذ العهد للأدنى، لماذا ؟ لأنك جعلته في مرتبة أن يعطي عهدا، ويوثق بينك وبينه أشياء، لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ.. ( ٧ ) ﴾ [ المائدة ].
والمواثقة مفاعلة بين الطرفين : أنتم واثقتموه به وهو واثقكم به، لأن الرسل حين يختارهم الله، لا شك أنه سبحانه يعلم حيث يجعل رسالته، فإذا اختار الله رسولا، فقبول الرسول للرسالة ارتضاء منه بما يريده الله من العهد.
وهل رأينا رسولا في موكب الرسالات عرضت عليه الرسالة فرفضها ؟ إذن : قبول الرسالة كأنه العهد، جاء من طرف واحد في إملاء شروطه، لأنه الطرف الأعلى، وحيثية التوثيق، في أن الله اختاره، وجعله أهلا للاصطفاء للرسالة.
لذلك رأينا في قصة سيدنا موسى عليه السلام لما اصطفاه الله للرسالة آنس من نفسه أنها مسألة كبيرة بالنسبة له، لكن لم يردها، إنما طلب من الله أن يسانده في هذه المسؤولية أخوه هارون، فقال للحق سبحانه وتعالى :﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا١ يُصَدِّقُنِي.. ( ٣٤ ) ﴾ [ القصص ].
فلم يقل : أنا لا أصلح لهذه المسألة، إنما أذعن لأمر الله، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ومسألة العقدة التي في لسانه يستعين عليها بأخيه.
إذن : كلمة ( الميثاق ) تدور حول الشيء المؤكد الموثق، ومنه قوله تعالى عن الأعداء :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ٢ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.. ( ٤ ) ﴾ [ محمد ].
ثم يأتي تفصيل هذه القضية العامة :﴿ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.. ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
قوله ( منك ) أي من سيدنا رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن لماذا قدم محمدا صلى الله عليه وسلم على نوح عليه السلام، وهو الأب الثاني للبشرية كلها بعد آدم عليه السلام ؟
نعلم أن البشرية كلها من سلالة آدم عليه السلام، إلى أن جاء عهد نوح عليه السلام، فانقسموا إلى مؤمن وكافر، ثم جاء الطوفان ولم يبق على وجه الأرض إلا نوح ومن آمن به، فكان هو الأب الثاني للبشر بعد سيدنا آدم.
لذلك يقول البعض : إن نوحا عليه السلام رسالته عامة، كما أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام عامة. ونقول : عمومية نوح كانت لمن آمن به ولأهل السفينة في زمن معلوم ومكان محدد، أما رسالة محمد فهي عامة في كل الزمان، وفي كل المكان.
أما تقديم ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أولا، لأن الواو هنا عادة لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، إنما هي لمطلق الجمع، ثم قدم رسول الله لأنه المخاطب بهذا الكلام، ومن إكرام الله لرسوله أن يبدأ به في مثل هذا المقام، ثم لهذا التقديم ملحظ آخر نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " ٣.
ثم يخص بالذكر هنا نوحا، لأنه الأب الثاني للبشر، ثم إبراهيم وموسى وعيسى، فإبراهيم، لأن العرب كانت تؤمن به، وتعلم أنه أبو الأنبياء، وتقدر علاقته بالكعبة ورفع قواعدها، وأنه قدوة في مسألة الذبح والسعي وغيرها.
وموسى وعيسى، لأن اليهودية والمسيحية ديانتان معاصرتان لدعوة رسول الله، حيث كان اليهود في المدينة، والنصارى في نجران، وهما أهل الكتاب الذين كان بينهم وبين رسول الله مواقف شتى، وكانت لهم في الجزيرة العربية السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة العمرانية والسيادة الحربية، وكأنهم هم أصحاب هذه البلاد.
ومن العجيب أن هؤلاء كان الله سبحانه في ميثاقهم مع أنبيائهم يدخرهم ليشهدوا لمحمد بصدق دعوته، لذلك كانوا يستفتحون بمحمد على الذين كفروا ويقولون لعبدة الأصنام : لقد أطل زمان نبي سنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فكانوا يعرفون زمان رسول الله وموطنه، وأنه سيبعث في أرض ذات نخل، ومن صفاتها كذا وكذا، لذلك لما قطعهم الله في الأرض أمما وشتتهم، جاء المشتغلون منهم بالعلم إلى يثرب ينتظرون بعثته صلى الله عليه وسلم.
لذلك يقول تعالى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( ٤٣ ) ﴾ [ الرعد ].
إذن : فأهل الكتاب كان من المفترض فيهم أن يشهدوا لرسول الله بصدق الرسالة، لكن يحكي القرآن عنهم بعد هذا كله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ].
فكيف إذن تم هذا التحول ؟ وكيف تنقلب عقيدة القلب إلى تمرد القالب ؟ قالوا : إنها السلطة الزمنية التي أحبوا أن تبقى، وأن تدوم لهم، فقد بعث الرسول وهم أهل مال وتجارة وأهل حرف وعمارة، وخافوا من رسول الله ومن الدين الجديد أن يسلبهم هذه المكانة، وأن يقضي على هذه السيادة، لذلك قال القرآن عنهم :﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( ٩٠ ) ﴾ [ البقرة ].
لهذا خص بالذكر هنا موكب الأنبياء موسى وعيسى عليهما السلام.
ونلحظ أن السياق ذكر موسى عليه السلام، ولم يذكر له أبا، أما في عيسى عليه السلام فقال :﴿ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.. ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهذا دليل على أنه يؤكد الأصالة في الإنجاب، فالأب هو الأصل إن وجد مع الزوجة، فإن لم يوجد الأب فالأبوة للزوجة، لذلك نسب عليه السلام إلى أمه.
وجاءت هذه المسألة لتبرهن على طلاقة القدرة الإلهية، فمسألة الخلق ليست عملية ميكانيكية تخضع لقانون، إنما هي قدرة الله التي خلقت آدم بدون أب ولا أم، وخلقت حواء من أب دون أم، وخلقت عيسى عليه السلام من أم بدون أب، وخلقت سائر الخلق من أب وأم، وهكذا استوفى الخلق القسمة العقلية في كل صورها.
وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : من الأنبياء، والميثاق الغليظ أي المؤكد، فقد وسعه الله وأكده حينما أخبر أنبياءه ورسله أنهم سيضطهدون وسيحاربون من أممهم.
لذلك لم يوصف الميثاق بأنه غليظ إلا في هذا الموضوع، وفي علاقة الرجل بالمرأة حين يطلقها، وقد فرض لها مهرا، فينبغي أن يؤديه إليها، ولو كان قنطارا، يقول سبحانه :﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( ٢١ ) ﴾ [ النساء ].
فسمى الميثاق بين الزوجين ميثاقا غليظا أي : قويا ومتينا، لأنه في العرض، ولم يوصف الميثاق فيما دون ذلك بأنه غليظ.
وهذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الرسل المذكرين المبشرين المنذرين جاء تفصيله في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي٤ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ٨١ ) ﴾ [ آل عمران ].
والشيء الذي شهد الله عليه لا يحتاج إلى قضاء، لكن لماذا أخذ الله هذا العهد ؟ قالوا : لأن الذي لا يؤمن بإله ليس لديه دين يتعصب له حين يأتي رسول جديد، لكن من الصعب على الإنسان أن يكون له دين، ثم يأتي رسول جديد ليزحزحه عن دينه، وهنا تكمن المشقة التي يعانيها الرسل.
لذلك قال الله تعالى للرسل : من تمام ميثاقكم أن تقولوا لأقوامكم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه٥، ثم أقررهم على ذلك، وأشهدهم عليه فشهدوا، والمعنى : إياكم أن تتركوا أممكم التي تؤمن بكم بدون أن تضعوا لهم هذه القاعدة، ففيها الوقاية لهم.
١ ردأه: قواه وأعانه. والردء: المعين والناصر. [القاموس القويم ١/٢٦٠]..
٢ أثخنتموهم: غلبتموهم وكثر فيهم الجراح. وأثخنته الجراح: أوهنته والإثخان في كل شيء: قوته وشدته، بلسان العرب ـ مادة ثخن]..
٣ قال السيوطي في "الدرر المنتثرة" (ص٣٤٢): "لا أصل له بهذا اللفظ" وقد أخرج الترمذي في سننه (٣٦٠٩) من حديث ابي هريرة قال: قالوا يا رسول متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وفي الباب عن مسيرة الفجر..
٤ الإصر: القيد والثقل والعهد المؤكد، وسميت التكاليف الشاقة إصرا، لأنها تشق على المكلف وتثقل عليه، وقوله ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي..(٨١)﴾ [آل عمران] أي: عهدي. [القاموس القويم ١/٢١]..
٥ أخرج ابن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب قال لم يبعث الله نبيا، آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد، لئن بعث وهو ليؤمنن به، ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ..(٨١)﴾ [آل عمران] [ذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير المأثور ٢/٢٥٣]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لِيَسْئلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٨ ) ﴾.
اللام هنا في ﴿ لِيَسْأَلَ.. ( ٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] لام التعليل، فالمعنى أننا أخذنا من النبيين الميثاق، لكن لن نتركهم دون سؤال﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم.. ( ٧ ) ﴾ ( الأحزاب ) لماذا ؟ ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ.. ( ٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] لكن إذا كان المبلغ صادقا، فكيف يسأل عن صدقه ؟
سؤال الصادق عن صدقه ليس تبكيتا للصادق، إنما تبكيتا لمن كذب به، سنسأل الرسل : أبلغتم هؤلاء ؟ ويقول تعالى ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ... ( ١٠٩ ) ﴾ [ المائدة ] ويسأل الله القوم :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا.. ( ١٣٠ ) ﴾ [ الأنعام ].
فالاستفهام هنا للتقريع والتبكيت لمن كذب.
أو يكون المعنى ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ.. ( ٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أنتم بشرتم بأن الإله واحد، فأنتم صادقون، لأنكم أخذتم هذه مني، ولما قامت الساعة ولم تجدوا إلها آخر يحمي الكافرين، إذن : فقد صدقت فيما أخبرت به، وصدقتم فيما بلغتم عني، حيث لم تجدوا في الآخرة إلا الإله الواحد.
لذلك يقول سبحانه :﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ( ٣٩ ) ﴾ [ النور ] ولو كان معه سبحانه إله آخر لدافع عن هؤلاء الكافرين، ومنعهم من العذاب.
كذلك يسأل الرسل عن البعث الذي وعد الله به، وبلغوه لأممهم، وعن الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، وكأن الحق سبحانه يسألهم : هل تخلف شيء مما أخبرتكم به ؟ هل قصرت في إثابة المحسن أو معاقبة المسيء ؟ إذن : صدق كلامي كله.
كما تجلس مع ولدك مثلا تراجع معه المواد الدراسية، وتحثه على المذاكرة فيوفق في الامتحان، ثم تسأله : ماذا فعلت في إجابة السؤال الفلاني ؟ فأنت لا تقصد الاستفهام، إنما تستعيد معه أمجاد ما أنجزه بالفعل تسأله عن توفيق الله له، كذلك الحق سبحانه يستعيد مع الرسل وقفتهم لدين الله وإعلاءهم كلمة الحق في هذه الساعة ولا مرد لها.
إذن : فسؤال الصادقين عن صدقهم تكريم لهم، وشهادة بأنهم أدوا ما عليهم، وهو كذلك تبكيت لمن كذب بهم١.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] والفعل الماضي هنا دليل على أن كل شيء معد وموجود سلفا، ولن ينشئ الحق سبحانه شيئا جديدا، كذلك قال عن الجنة ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( ١٣٣ ) ﴾ [ آل عمران ].
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى خلق الجنة لتسع الناس جميعا إن آمنوا، وخلق النار كذلك تسع الناس جميعا إن كفروا، يعني : لن تكون هناك أزمة أماكن، فإذا ما أخذ أهل الإيمان أماكنهم من الجنة تتبقى أماكن الذين كفروا شاغرة، فيقول تعالى للمؤمنين : خذوها أنتم :٢ ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٧٢ ) ﴾ [ الزخرف ].
وقد وصف العذاب مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه شديد، ولكل منها ملحظ، فالأليم يلحظ فيه القسوة والإيلام، والعذاب المهين يلحظ فيه إهانة المعذب والنيل من كرامته، فمن الناس من يحاول التجلد، ويظهر تحمل الألم وعدم الاكتراث به، في حين يؤلمه أن تنال من كرامته، فيناسبه العذاب المهين.
لذلك يروى في التجلد أن رجلا دخل على معاوية في مرضه، وهو يظهر للناس أنه بخير وصحته على ما يرام، فقال له الرجل :
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
ففطن معاوية إلى مقصده، وأجابه من نفس قصيدة أبي ذؤيب٣ :
وتجلدي للشامتين أريهموا
أني لريب الدهر لاأتضعضع٤
أما العذاب العظيم فلعظمه في ذاته، ولكبر حجمه يعني ليس صغيرا، أو يكون صغير الجرم، لكن عظمته في صفاته، أو في بقاء أثره في زمن طويل.
ويوصف العذاب بأنه شديد لشدة المعذب سبحانه، لأنه سبحانه إذا أخذ فأخذه أخذ عزيز مقتدر.
١ قال القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية (٧/٥٣٨٨):
"فيه أربعة أوجه:
أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، حكاه النقاش.
الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، حكاه على بن عيسى.
الثالث: ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة.
الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة"..

٢ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)﴾ [الزخرف].
أورده السيوطي في الدر المنثور (٧/٣٩٤) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردوية..

٣ عزاه شهاب الدين محمود الحلبي في كتابه "حسن التوسل إلى صناعة الترسل" ص ١٣٢ لأبي ذؤيب الهذلي، وانظر ديوان الهذليين القسم الأول ص ٣. [وعزاه ابن منظور لأبي ذؤيب في اللسان ـ مادة: ضعع]..
٤ الضعضعة: الخضوع والتذلل. والضعضاع: الضعيف من كل شيء. ورجل ضعضاع أيك لا رأي له ولا حزم، [لسان العرب ـ مادة: ضعضع]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) ﴾.
أراد الحق سبحانه أن يدلل على قوله لرسوله في الآيات السابقة :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] فجاء بحادثة جمعت كل فلول خصومه، فقد سبق أن انتصر عليهم متفرقين فانتصر أولا على كفار مكة في بدر، وانتصر على اليهود في بني النضير وبني قينقاع، وهذه المرة اجتمعوا جميعا لحربه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لن يؤثر جمعهم في الصد عن دعوتك، وسوف تنصر عليهم بجنود من عند الله.
إذن : فحيثية ( وتوكل على الله ) هي قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. ( ٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
النعمة : الشيء الذي يخالط الإنسان بسعادة وبشر وطلب استدامته، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في الإيمان، لأن استدامة النعمة فيه تعدت زمن الدنيا إلى زمن آخر دائم وباق في الآخرة، وإن كانت نعمة الدنيا على قدر أسبابك وإمكاناتك، فنعمة الآخرة على قدر المنعم سبحانه، فهي إذن : نعمة النعم.
والله تعالى يخاطب هنا المؤمنين، ومعنى الإيمان هو اليقين بوجود إله واحد له كل صفات الجلال والكمال، والله سبحانه يكفي العقل أن يهتدي إلى القوة الخالقة الواحدة التي لا تعاند، لكن ليس من عمل العقل أن يعرف مثلا اسم هذا الإله، ولا أن يعرف مراده، فكان ولا بد من البلاغ عن الله.
وسبق أن مثلنا لذلك بمن يطرق علينا الباب، فنتفق جميعا بالعقل على أن طارقا بالباب، هذا هو عمل العقل، لكن أمن عمل العقل أن نعرف من هو ؟ أو نعرف مقصده من المجيء ؟ وهذا ما نسميه التصور.
فآفة العقل البشري أنه لم يقنع بالتعقل للقوة القاهرة الفاعلة، فكان يكفيه أن يتعقل أن وراء هذا الكون قوة، هذه القوة لها صفات الكمال التي بها أوجدت هذا الكون، فإن أردنا معرفة ما هي هذه القوة فلا بد أن نترك هذا الطارق ليخبرنا عن نفسه، ويفصح عن هدفه وسبب مجيئه، ولا يتم ذلك إلا من خلال رسول يأتي من عند الله يخبرنا عن هذه القوة، عن الله، عن أسمائه وصفاته ومنهجه الذي ارتضاه لخلقه، وما أعده الله لمن أطاعه من النعيم، وما أعده لمن عصاه من العذاب.
فإن كذبنا هذا الرسول، وطلبنا دليلا على صدقه في البلاغ أخرج لنا من المعجزات ما يؤيده وما يحملنا على تصديقه، لأنه أتى بلون مما ننبغ فيه نحن، وفن من فنوننا، ومع ذلك عجزنا عن الإتيان بمثله.
إذن : فالتعقل أول مراحل الإيمان، لذلك فإن أبسط رد على من يعبدون غير الله أن نقول لهم : بماذا أمرتكم آلهتكم ؟ وعم نهتكم ؟ وماذا أعدت لمن أطاعها ؟ وماذا أعدت لمن عصاها ؟ ما المنهج الذي تستعبدكم به ؟
فكان من منطق العقل ساعة يأتينا رسول من عند الله أن نستشرف له، ونقبل عليه، ونسأله عن اللغز الذي لا نعرفه من أمور الحياة والكون، كان علينا أن نستمع له، وأن ننصاع لأوامره، لأنه ما جاء إلا ليخرجنا من مأزق فكري، ومن مأزق عقلي لا يستطيع أحد منا أن يحلله، كان على القوم أن يتلهفوا على هذا الرسول، لا أن يعادوه ويعاندوه، لما لهم من سلطة زمنية ظنوها باقية.
وقوله تعالى :﴿ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. ( ٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] ما هو الذكر ؟ العقل حين يتلقى المعلومات من الحواس يقارن بينها ويغربلها، ثم يحتفظ بها في منطقة منه تمثل خزينة للمعلومات، وما أشبه العقل في تلقي المعلومات بلقطة ( الفوتوغرافيا ) التي تلتقط الصورة من مرة واحدة، والناس جميعا سواء في تلقي المعلومات، المهم أن تصادف المعلومة خلو الذهن مما يشغله.
وهذه المنطقة في العقل يسمونها بؤرة الشعور، وهي لا تلتقط إلا جزئية عقلية واحدة، فإذا أردت استدعاء معلومة من الحافظة، أو من حاشية الشعور، فالذاكرة هي التي تستدعي لك هذه المعلومة، وتخرجها من جديد من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
ثم هناك ما يسمي بتداعي المعاني، حين يذكرك شيء بشيء آخر، وهناك المخيلة، وهي التي تلفق أو تؤلف من المعلومات المختزنة شيئا جديدا، ونسميه التخيل، فالشاعر العربي حين أعجبه الوشم باللون الأخضر على بشرة شابة بيضاء تخيلها هكذا.
خود كأن بنانها في نقشة الوشم المزرد١
سمك من البللور في شبك تكون من زبرجد٢
فهذه صورة تخيلية خاصة بالشاعر، وإلا فمن منا رأى سمكا من البللور في شبك من زبرجد ؟ فللشاعر نظرته الخاصة للصور التي يراها، وسبق أن ذكرنا الصورة التي رسمها الشاعر٣ للأحدب، فقال :
قصرت أخادعه٤ وغاص قذاله٥
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
فأحس ثانية لها فتجمعا
ومنذ القدم يعتبر الشعراء محلا للحب وللمشاعر، لكن يخرج علينا هذا الشاعر بصورة أخرى جديدة من نسج خياله، فيقول :
خطرات ذكرك تستثير مودتي
فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة
فكأن أعضائي خلقن قلوبا
فمعنى :﴿ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. ( ٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] لا تمروا على النعم بغفلة لرتابتها عندكم، بل تذكروها دائما، واجعلوها في بؤرة شعوركم، لذلك جعل الله الذكر عبادة، وهو عبادة بلا مشقة، فأنت حين تصلي مثلا تستغرق وقتا ومجهودا للوضوء وللذهاب للمسجد، كذلك حين تزكي تخرج من مالك، أما الذكر فلا يكلفك شيئا.
لذلك في سورة الجمعة حينما يستدعي الحق سبحانه عباده للصلاة، يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ... ( ٩ ) ﴾ [ الجمعة ] فهنا حركتان : حركة إيجاب بالسعي إلى الصلاة، وحركة سلب بترك البيع والشراء، وكل ما يشغلك عن الصلاة.
ثم يقول تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا.. ( ١٠ ﴾ [ الجمعة ].
وفي موضع آخر قال :﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ] فإياك أن تظن أن الله يريد أن تذكره ساعة الصلاة فحسب، إنما أذكره دائما وأبدا، وإن كانت الصلاة لها ظرف تؤدى فيه، فذكر الله لا وقت له، لذلك جعله الله يسيرا سهلا، لا مشقة فيه، لا بالوقت ولا بالجهد، فيكفي في ذكر الله أن تتأمل المرائي التي بها ويقع عليها نظرك لترى فيها قدرة الله.
والحق سبحانه يذكرنا بنعمه، لأن النعمة بتواليها على النفس البشرية تتعود عليها النفس، ويحدث لها رتابة، فلا تلتفت إليها، فأنت مثلا ترى الشمس كل صباح، لكن قلما تتذكر أنها آية من آيات الخالق عز وجل ونعمة من نعمه، لأنك تعودت على رؤيتها، وأصبحت رتيبة بالنسبة لك.
كذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى نعمه حين يسلبها من الآخرين، فحين ترى السقيم تذكر نعمة العافية، وحين ترى الأعمى تذكر نعمة البصر... الخ وساعتها ينبغي عليك أن تشكر المنعم الذي عافاك مما ابتلى به غيرك، إذن : فهذه الشواذ جعلها الله وسائل للإيضاح وتذكيرا للخلق بنعم الخالق.
والنعمة وردت هنا منفردة، وكذلك في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا( ٣٤ ) ﴾ [ إبراهيم ] وقد وقف أعداء الإسلام من المستشرفين أما هذه الآية يعترضون على أن النعمة فيها مفردة، يقولون : فكيف تعد ؟ وهذا الاعتراض منهم ناشئ عن عدم فهم لمعاني وأساليب القرآن.
ونقول : الذي ترونه نعمة واحدة، لو تأملتم فيها لوجدتم بداخلها نعما متعددة تفوق العد، استخدم القرآن هنا ( إن ) الدالة على الشك، لأن نعم الله ليست مظنة العد والإحصاء كرمال الصحراء، هل تعرض أحد لعدها ؟ لأنك لا تقبل على عد شيء إلا إذا كان مظنة العد، وإحصاء المعدود.
لذلك، فالحق سبحانه يوضح لنا : إن حاولتم إحصاء نعم الله وهذا لن يحدث فلن تستطيعوا عدها، مع أن الإحصاء أصبح علما مستقلا، له جامعات وكليات تبحث فيه وتدرسه.
ولك أن تأخذ نعمة واحدة من نعم الله عليك، ثم تتأمل فيها وفي عناصرها ومكوناتها وفوائدها وصفاتها، وسوف تجد في طيات النعمة الواحدة نعما شتى، فالتفاحة مثلا في ظاهرها نعمة واحدة، لكن في ألوانها ومذاقها وعناصر مكوناتها ورائحتها واختلاف وتنوع هذا كله نعم كثيرة.
والحق سبحانه جعل نعمه عامة للمؤمن وللكافر، لأنه سبحانه جعل لها أسبابا، من أحسن هذه الأسباب أعطته، حتى لو كان كافرا.
ثم نلاحظ في قوله تعالى ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا( ٣٤ ) ﴾ [ إبراهيم ] أنها وردت في القرآن مرتين، ولكل منهما تذييل مختلف، فمرة يقول تعالى :﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ٣٤ ) ﴾ [ إبراهيم ]، ومرة يقول :﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٨ ) ﴾ [ النحل ].
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لو عامل المنعم عليهم من الخلق بما يقتضيه إيمانهم، وما يقتضيه كفرهم، لأعطى المؤمن وسلب الكافر، لكنه سبحانه غفور رحيم بخلقه، فبهاتين الصفتين ينعم سبحانه على الجميع، وما ترفلون فيه من نعم الله عليكم أثر من آثار الغفران والرحمة، فغفر لكم معايبكم أولا، والغفر : أن تستر الشيء القبيح عمن هو دونك.
ثم الرحمة، وهي أن تمتد يدك بالإحسان إلى من دونك، وسبق أن أوضحنا أن المغفرة تسبق الرحمة، وهذه هي القاعدة العامة، لكن قد تسبق الرحمة المغفرة، ذلك لأن السلب للشيء المذموم ينبغي أن يسبق النعمة، أو : أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة.
وقد مثلنا لذلك باللص تجده في دارك، فتستر عليه أولا حين لا تسلمه للبوليس، ثم يرق له قلبك، فتمتد يدك إليه بالإحسان، وهنا تسبق المغفرة الرحمة، وقد تتصرف معه بطريقة أخرى، بحيث تقدم فيها الرحمة على المغفرة، والمغفرة لا تكون إلا من الأعلى للأدنى، فتستر على القبيح قبحه، وأنت أعلى منه، فلا يقال مثلا للخادم : إنه ستر على سيده.
ثم يرسل لنا الحق سبحانه وتعالى هذه البرقية الدالّة على تأييده سبحانه لعباده المؤمنين :﴿ إِذْ٦ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا٧ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فالجنود تؤذن بالحرب، وجاءت نكرة مبهمة، ثم جاءت نهاية هذه المعركة في هاتين الجملتين القصيرتين ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا.. ( ٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يذكر ماهية هؤلاء الجنود، إلا أنهم من عند الله، جاءوا لردّ هؤلاء الكفار وإبطال كيدهم.
١ الخود: الفتاة الحسنة الخلق الشابة، ما لم تحض. وقيل: الجارية الناعمة. [لسان العرب ـ مادة خود]، والمزرد: هي حلق الدرع في بعضها، والمقصود أن الوشم متقن متشابك متداخل..
٢ الزبرجد: الزمرد. وهو الزبردج أيضا. بلسان العرب ـ مادة: زبرجد]..
٣ الشاعر هو: ابن الرومي على بن العباس بن جريج، شاعر كبير من طبقة بشار والمتنبي، رومي الأصل، كان جده من موالي بني العباس، ولد ببغداد ٢٢١ هـ ونشأ بها، ومات فيها مسموما عام ٢٨٣ هـ عن ٦٢ عاما. [الأعلام للزركلي ٤/٢٩٧]..
٤ الأخادع: جمع الأخدع، وهو أحد عرقين في جانبي العنق..
٥ القذال: جماع مؤخر الرأس من الإنسان. [لسان العرب ـ مادة: قذال]..
٦ ذلك يوم الخندق في غزوة الأحزاب، قال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة، وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله: كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي بنو قريظة في يوم واحد. (تفسير القرطبي (٧/٥٣٨٩)..
٧ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٤٧٠): "هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إليّ، فيجتمعون إليه، فيقول: النجاء، النجاء، لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب"..
ثم يأتي بمذكرة تفسيرية توضح من هم هؤلاء الجنود :
﴿ إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ١ وَإِذْ زَاغَتْ٢ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ( ١٠ ) ﴾.
هذا وصف لما جرى في غزوة الأحزاب التي جمعت فلول أعداء رسول الله، فقد سبق أن حاربهم متفرقين، والآن يجتمعون لحربه صلى الله عليه وسلم، فجاءت قريش ومن تبعها من غطفان وأسد وبني فزازة وغيرهم، وجاء اليهود من بني النضير وبني قريظة، وعجيب أن يجتمع كل هؤلاء لحرب الإسلام على ما كان بينهم من العداوة والخلاف.
وقلنا : إن أهل الكتاب كانوا يستفتحون برسول الله على كفار مكة، ثم جاءت الآيات لتجعل من أهل الكتاب شهداء على صدق رسول الله، فقال تعالى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( ٤٣ ) ﴾ [ الرعد ].
ولو قدّر أهل الكتاب هذه الشهادة التي قرنها الحق سبحانه بشهادته، لكان عليهم أن يؤمنوا بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى :﴿ إِذْ جَاءوكُم.. ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : اذكر يا محمد وتخيّل وتصوّر إذ جاءكم الأحزاب، وتجمعوا لحربك ﴿ مِّن فَوْقِكُمْ.. ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : من ناحية الشرق، وهم : غطفان، وبنو قريظة، وبنو النضير ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ.. ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : من ناحية الغرب وهم قريش، ومن تبعهم من الفزاريين والأسديين وغيرهم ﴿ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ.. ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : اذكر إذ زاغت الأبصار، ومعنى زاغ البصر أي : مال، ومنه قوله تعالى :﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( ١٧ ) ﴾[ النجم ].
ف ( زاعت الأبصار ) يعني : مالت عن سمتها وسنمها، وقد خلق الله العين على هيئة خاصة، بحيث تتحرك إلى أعلى، وإلى أسفل، وإلى اليمين، وإلى الشمال، ولكل اتجاه منها اسم في اللغة، فيقولون : رأى أي : بجمع عينه، ولمح بمؤخّر موقه، ورمق أي : من ناحية أنفه.. إلخ.
فسمت العين وسنمها أن تتحرك في هذه الاتجاهات، فإذا فزعت من شيء أخذ البصر، مال عن سمته من التحول، لذلك يقول تعالى :﴿ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. ( ٩٧ ) ﴾ [ الأنبياء ].
وقال :﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( ٤٢ ) ﴾ [ إبراهيم ] وشخوص البصر أن يرتفع الجفن الأعلى، وتثبت العين على شيء، لا تتحرك إلى غيره.
وفي موضع آخر قال تعالى عن المنافقين والمعوقين :﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
لأن الهول ساعة يستولي على الأعين، فمرة تشخص العين على ما ترى لا تتعداه إلى غيره من شدة الهول، ومرة تدور هنا وهناك تبحث عن مفرّ أو مخرج مما هي فيه، فهذه حالات يتعرض لها الخائف المفزّع.
وقوله تعالى :﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.. ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] معلوم أن الحنجرة أعلى القصبة الهوائية في هذا التجويف المعروف، فكيف تبلغ القلوب الحناجر ؟ هذا أثر آخر من آثار الهول والفزع، فحين يفزع الإنسان يضطرب في ذاته، وتزداد دقّات قلبه، وتنشط حركة التنفس، حتى ليخيّل للإنسان من شدة ضربات قلبه أن قلبه سينخلع من مكانه، ويقولون فعلا في العامية ( قلبي هينط منى ).
وقوله تعالى :﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ]
أي : ظنونا مختلفة تأخذهم وتستولي عليهم، فكل له ظن يخدم غرضه، فالمؤمنون يظنون أن الله لن يسلمهم، ولن يتخلى عنهم، والكافرون يظنون أنهم سينتصرون وسيستأصلون المؤمنين، بحيث لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
ونلحظ في هذه الآية أن الحق سبحانه لا يكتفي بأن يحكي له ما حدث، إنما يجعله صلى الله عليه وسلم يستحضر الصورة بنفسه، فيقول له : اذكر إذ حدث كذا وكذا.
١ قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: ذلك يوم الخندق جاءت قريش من هاهنا، واليهود من هاهنا، والنجدية من هاهنا، قال القرطبي: يريد مالك أن الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان. [تفسير القرطبي ٧/٥٣٨٩]..
٢ زاغ البصر: اضطرب ولم يحقق ما يرى، وقوله في وصف فزع بعض الناس في المدينة حين أحاطت بهم الأعداء في غزوة الأحزاب ﴿وإذا زاغت الأبصار.. (١٠)﴾ [الأحزاب] أي: اضطربت لشدة الفزع. القاموس القومي (١/٢٩٤)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ هُنَالِكَ١ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ( ١١ ) ﴾.
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ.. ( ١١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : اختبروا وامتحنوا، فقوي الإيمان قال : لن يسلمنا الله. والمنافق قال : هي نهاية الإسلام والمسلمين ﴿ وَزُلْزِلُوا.. ( ١١ ) ﴾ [ الأحزاب ] الزلزلة هي الهزة العنيفة التي ينشأ عن قوتها تخلخل الأشياء، لكن لا تقتلعها، والمراد أنهم تعرضوا لكرب شديد زلزل كيانهم، وميّز مؤمنهم من منافقهم، لذلك يقول تعالى بعدها :
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ )
١ هنا: للقريب من المكان. وهنالك: للبعيد. وهناك: للوسط. ويشار به إلى الوقت. أي: عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. [قاله القرطبي في تفسيره ٧/٥٤٠٦]..
المنافقون هم أنفسهم الذين في قلوبهم مرض، فهما شيء واحد، وهذا العطف يسمونه " عطف البيان ".
والغرور أن تخدع إنسانا بشيء مفرح في ظاهره، محزن في باطنه، تقول : ما غرّك بالشيء الفلاني كأن في ظاهره شيئا يخدعك ويغرّك، فإذا ما جئت لتختبره لم تجده كذلك١.
١ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قال المنافقون يوم الأحزاب حين رأوا الأحزاب قد اكتنفوهم من كل جانب، فكانوا في شك وريبة من أمر الله، قالوا: إن محمدا كان يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا ههنا حتى ما يستطيع يبرز أحدنا لحاجته، فأنزل الله ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾ [الأحزاب] [ذكره السيوطي في الدر المنثور ٦/٥٧٧]..
﴿ وَإِذْ.. ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] هنا أيضا بمعنى : واذكر ﴿ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ.. ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] يثرب : اسم للبقعة التي تقع فيها المدينة، وقد غيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها إلى ( طيبة ).
ومعنى :﴿ لَا مُقَامَ لَكُمْ.. ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في الحرب ﴿ فَارْجِعُوا.. ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : اتركوا محمدا وأتباعه في أرض المعركة واذهبوا، أو ﴿ لَا مُقَامَ لَكُمْ ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : على هذا الدين الذي تنكرونه بقلوبكم، وتساندونه بقوالبكم.
ثم يكشف القرآن حيلة فريق آخر يريد الفرار ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ.. ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في عدم الخروج للقتال ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.. ( ١٣ ) ﴾ الأحزاب ] أي : ليست محصنة، ولا تمنع من أرادها بسوء. يقال : بيت عورة إذا كان غير محرز، أو غير محكم ضد من يطرقه يريد به الشر، كأن يكون منخفضا أو متهدم الجدران يسهل تسلقه، أو أبوابه غير محكمة.. إلخ.
كما نقول في العامية ( منط )، لكن الحق سبحانه يثبت كذبهم، ويبطل حجتهم، فيقول ﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] إنما العلة في ذلك ﴿ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : من المعركة إشفاقا من نتائجها ومخافة القتل.
ثم يقول سبحانه :
﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ١٤ ) ﴾.
﴿ دُخِلَتْ عَلَيْهِم ( ١٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : البيوت ﴿ مِّنْ أَقْطَارِهَا ( ١٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] من نواحيها ﴿ ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ( ١٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : طلب منهم الكفر ﴿ لَآتَوْهَا ( ١٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : لكفروا. ﴿ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ١٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : ما يجعل الله لهم لبثا وإقامة إلا يسيرا، ثم ينتقم الله منهم١.
١ قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (٣/٤٧٣): " يخبر تعالى عن هؤلاء الذين ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)﴾ [الأحزاب] أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعا، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع. هكذا فسره قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير"..
معنى ﴿ عَاهَدُوا اللَّهَ.. ( ١٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أخذ الله عليهم العهد وقبلوه، وهو ما حدث في بيعة العقبة حين عاهدوا رسول الله على النصرة والمؤازرة. أو : يكون الكلام لقوم١ فاتتهم بدر وفاتتهم أحد، فقالوا : والله لئن وقفنا في حرب أخرى لنبلون فيها بلاء حسنا.
وعهد الله هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عهد لك مع الله تعالى هو الإيمان به، وما دمت قد آمنت بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلفك به، وإياك أن تخل بأمر من أموره، لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يعد نقصا في إيمانك بالله، فلا يليق بك أن تنقض ما أكدته من الإيمان، بل يلزمك أن توفي به، لأنك إن وفّيت بها وفّى لك بها أيضا، فلا تأخذ الأمر من جانبك وحدك، ولكن انظر إلى المقابل.
واعلم أن الله مطلع عليك، يعلم خفايا الضمائر وما تكنه الصدور، فاحذر حينما تعطي العهد أن تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه، إياك أن تعطي العهد خداعا، فربك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل.
١ قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا ألا يعودوا لمثلها، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. [قاله القرطبي في تفسيره ٧/٥٤١٠]..
قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قُل.. ( ١٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : لهؤلاء الذين يريدون الفرار من المعركة ﴿ لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ( ١٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] والقرآن هنا يحتاط لمسألة إزهاق الروح، وسبق أن تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل ؛ لذلك يقول تعالى عن نبيه محمد :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ.. ( ١٤٤ ) ﴾[ آل عمران ].
فالموت لا يقدر عليه إلا واهب الحياة سبحانه، ويكون بنقض الروح أولا بأمر خالقها، ثم يتبعه نقض البنية، أما القتل فيقدر عليه الخلق، ويتم أولا بنقض البنية الذي يترتب عليه إزهاق الروح، لأن البنية لم تعد صالحة لاستمرار الروح فيها، بعد أن فقدت المواصفات المطلوبة لبقاء الروح.
والفرار لن يجدي في هذه المسألة ؛ لأن لها أجلا محددا، سواء أكان بالله واهب الحياة، أو كان بفعل واحد من الخلق عصى أمر الله، فهدم البنية التي بناها الله، وما جدوى الفرار من المعركة، وقد رأينا من شهد المعارك كلها، ثم يموت على فراشه، كخالد بن الوليد الذي يقول : لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء١.
ثم يناقشهم القرآن : هبوا أنكم فررتم من الموت أو القتل، أتدوم لكم هذه السلامة ؟ أتخلدون في هذه الحياة ؟ ﴿ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] وسرعان ما تنتهي الحياة، وتواجهون الموت الذي لا مفرّ منه، وكلنا ذاهب إلى هذا المصير.
١ ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (٧/١١٧) وعزاه للواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) ﴾.
المعنى : قل لهم يا محمد من الذي ﴿ يَعْصِمُكُم.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : يمنعكم ﴿ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] كما قال في موضع آخر :﴿ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ.. ( ٤٣ ) ﴾[ هود ].
فإذا أردا الله بقوم سوءا فلا عاصم لهم ؛ لأنه لا يمتنع أحد مع الله ؛ لأنه لا يوجد معه سبحانه إله آخر يدفع السوء عن هؤلاء.
والإشكال الذي يحتاج إلى توضيح هنا قوله تعالى :﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] فكيف تكون العصمة من الرحمة ؟ قالوا : يعصم هنا بمعنى يمنع، والمعنى : لا يمنع أحد من أعدائكم رحمة الله إن أراد الله بكم رحمة.
ونلحظ على سياق الآية أنها جاءت بأسلوب الاستفهام، ولم تأت على صورة الخبر، فلم يقل القرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد، لا يعصم أحد من الله إن أرادكم بسوء، لأن الجملة الخبرية محتملة للصدق وللكذب، إنما شاء الله أن يجعلها جملة إنشائية استفهامية، ليقرروا هم بأنفسهم هذه الحقيقة، كأنه تعالى يقول لهم : لقد ارتضيت حكمكم أنتم، ولو لم يكن الحق سبحانه واثقا من أن الجواب لن يأتي إلا : لا أحد لما جاء بالأسلوب في صورة استفهام، إذن : فالاستفهام هنا آكد في تقرير صدق هذه الجملة.
كذلك أنت تلجأ إلى هذا الأسلوب في الردّ على من ينكر جميلك، فتقول : ألم أحسن إليك يوم كذا وكذا ؟ فلا يملك عندها إلا الإقرار.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] الولي : هو القريب منك، وأنت لا تقرب منك إلا من ترجو نفعه، هو الذي يليك أو يواليك، فحبّه يسبق الحدث، فإذا ما جاء الحدث حمله حبّه لك على أن يدافع عنك.
والنصير : قريب من معنى الولي، ويدافع أيضا عنك، لكن يأتي دفاعه بعد الحدث، وقد يكون ممن لا قرابة بينك وبينهم.
والمعنى : حين يريد الله أحدا بسوء فلن يجد أحدا يمنعه من الله، لا الولي ولا النصير.
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) ﴾.
قد : حرف يفيد التحقيق، خاصة إذا جاءت من الحق سبحانه، ويأتي معها الفعل في صيغة الماضي، لكن هنا ﴿ قَدْ يَعْلَمُ.. ( ١٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] فجاء الفعل بصيغة المضارع، وهذا يعني أن الحدث الذي يقع الآن سيثبت أن الله يعلم المعوقين، وقد علم أزلا.
فإن قلت : فالحق سبحانه يعلم قبل أن يكون هناك تعويق، نقول : فرق بين أن يعلم الأمر قبل أن يقع، وأن يعلمه إذ يقع، فقد يقول قائل : علمت وسوف تجازيني على ما تعلم سابقا، لكن لو تركتني في المستقبل لن تحدث مني مخالفة. إذن : فالحق سبحانه يريد أن يؤكد هذا الأمر. والمعوّق : هو الذي يضع العوائق أمام مرادك، ويثبط همّتك ويخذلك.
وقوله ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا.. ( ١٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : أقبل وتعال. وكلمة ( هلم ) تأتي هكذا بصيغة المفرد دائما مع المفرد والمثنى والجمع، ومع المذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا.. ( ١٥٠ ) ﴾ [ الأنعام ] أي : هاتوا، وهذه هي اللغة الفصيحة.
وفي لغة من لغات تهامة يلحقون بها علامة التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فيقولون : هلم وهلمي وهلما وهلموا، ولجمع الإناث هلمن.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] البأس أي : الحرب، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. ( ٨٠ ) ﴾ [ الأنبياء ].
وقال سبحانه :﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ.. ( ١٧٧ ) ﴾ [ البقرة ] ففرق بين البأس والبأساء : البأس أي : الحرب. أما البأساء، فكل ما يصيب الإنسان من مكروه في غير ذاته كفقد ولد، أو خسارة مال.. إلخ، أما الضراء فما يصيب الإنسان في ذاته، كمرض أو نحوه.
ومن ذلك قول الله تعالى عن سيدنا داود :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. ( ٨٠ ) ﴾ [ الأنبياء ].
والمراد : صناعة الدروع التي يلبسها الإنسان على مظان المقاتل فيه، وعلى أجهزته الحيوية كالصدر والقلب والرأس، ولها غطاء خاص ( الخوذة )، وتصنع الدروع مسننة. أي : بها تموج وتجاويف، بحيث تتلقى ضربات السيف بإحكام، فلا تنفلت الضربة إلى مكان آخر فتؤذيه.
لذلك يقول تعالى لنبيه داود عن هذه الصنعة ﴿ وقدر في السرد.. ( ١١ ) ﴾ [ سبأ ] أي : في إحكام هذه الحلقات المتداخلة.
وفرق أيضا هنا بين لبوس ولباس : اللباس هو ما يقي الإنسان تقلبات الجو، ويستر عورته أثناء الأمن وسلام الحياة، وهذه هي الملابس العادية التي يرتديها الناس.
وفيها يقول الحق سبحانه :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( ٨١ ) ﴾ [ النحل ].
أما كلمة ( لبوس ) فهي المعدة لحالة الحرب كالدروع ونحوها ؛ لذلك جاءت بصيغة دالة على التضخيم ( لبوس ).
وهذه الآية تلفتنا إلى مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز، فالآية هنا ذكرت ( الحر )، ولم تذكر شيئا عن المقابل له، وهو البرد، والعلماء عادة ما يلجئون إلى تقدير هذا المحذوف عند تفسير الآية، فيقولون : أي تقيكم الحر والبرد، يريدون أن يكملوا أسلوب القرآن، وهذا لا يجوز.
وحين نمعن النظر في هذه الآية، نجد أن الله تعالى خلق الظلال لتقينا حرارة الشمس، وجعل اللباس، وكذلك جعل لنا الأكنان في الجبال، والله خلق الحرّ على هذه الصورة التي لا يتحملها الإنسان، لأن للحر مهمة في حياتنا، فحرارة الشمس تخدمك في أمور كثيرة، وإن كانت تضايقك بعض الوقت، فالحق سبحانه أبقاها لتؤدي مهمة خير لك، ثم حماك بالظل واللباس والأكنان من شرها.
فإن قلت : فهذه الأشياء تقيني أيضا البرد، نقول : إياك أن تظن أن الدفء يأتيك من غطاء ثقيل أو ملابس شتوية، إنما الدفء من ذاتك أنت، فأنت تدفئ ( البطانية ) والفراش الذي تنام عليه، بدليل أنك ساعة تأتي فراشك لتنام تجده باردا، ثم بعد مرور ساعات الليل تجده في الصباح دافئا.
إذن : فحرارتك الذاتية انتقلت إلى الغطاء فأدفأته، وكل ما يؤديه الغطاء أنه يحفظ حرارة جسمك بداخله، فلا تتبدد في الهواء المحيط بك.
لذلك، لما درس العلماء مسألة حرارة جسم الإنسان وجدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله، فالإنسان تشع منه حرارة تكفي في أربع وعشرين ساعة لغلي سبعة لترا من الماء، ومعدل هذه الحرارة في الجسم ٣٧° ثابتة في قيظ الحر وبرد الشتاء، مما يدل على أن لجسمك ذاتية منفصلة تماما عن الجو المحيط بك.
ومن عجائب خلق الإنسان أن هذه الحرارة تتفاوت من عضو إلى عضو آخر، والجسم واحد، فأعضاء حرارتها ما بين ٧° ٩° كالأنف والأذن والعين، ولو زادت حرارة العين عن هذا المعدل تنفجر، أما الكبد فحرارته ٤٠°.. إلخ، ومعلوم أن الحرارة تحدث استطراقا في الجسم الواحد، وفي المكان الواحد.
ومن عجائب خلق الإنسان في هذه المسألة العرق الذي يتصبب منك في حالة تعرضك للحرارة الشديدة، فيخرج العرق من مسامّ الجسم، ليلطف من درجة حرارته، ويحدث عملية تبريد، كالتي نراها مثلا في موتور السيارة، حتى عندنا في الفلاحين تجد الفلاح من كثرة عمله في الأرض وكثرة عرقه تتكون على جسمه طبقة مثل الجير، وهذه أملاح تخرج مع العرق ؛ لذلك يكثر في هؤلاء الفلاحين أكل ( المش ) و( المخللات ) لتعويض نسبة الأملاح المفقودة مع العرق، إذن : فالحق سبحانه لم يقل ( والبرد )، لأن الدفء كما رأينا ذاتي.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهذه القلة مستثناة : إما من الإتيان، أو أنهم يأتون البأس، لكن قلة منهم يقاتلون بهمة ونشاط، والباقون أتوا ذرا للرماد في العيون كما يقولون ولئلا يتهموا بالتخلف عن رسول الله.
١ أخرج ابن حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ.. (١٨)﴾ [الأحزاب] قال: هذا يوم الأحزاب، انصرف رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف، فقال له: أنت ههنا في الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف قال: هلم إليّ، لقد بلغ بك وبصاحبك ـ والذي يحلف به لا يستقى لها محمد أبدا قال: كذبت ـ والذي يحلف به ـ وكان أخاه من أبيه وأمه، والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم بأمرك، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهـ، فوجده قد نزل جبريل عليه السلام بخبره ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)﴾ [الأحزاب]. [أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/٥٨٠]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] الشح في معناه العام هو البخل، لكن الشحيح الذي يبخل على الغير، وقد يكون كريما على نفسه وعلى أهله، أما البخيل فهو الذي يبخل حتى على نفسه، لذلك قال تعالى ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] ليس على أنفسهم١.
وأنت حين تتأمل الصفات المذمومة في الكون تجدها ضرورية لحقائق تكوين الكون، وتجد لها مهمة، لذلك فطن الشاعر إلى هذه المسألة. فقال :
إن الأشحاء أسخى الناس قاطبة
لأنهم ملكوا الدنيا وما انتفعوا
لم يحرموا الناس من بعض الذي ملكوا
إلا ليعطوا هموا كل الذي جمعوا
وآخر يرى للبخيل فضلا عليه، فيقول :
جزي البخيل على صالحة مني لخفته على نفسي
نعم، البخيل خفيف على النفس ؛ لأنه لم يجد عليك بشيء يأسرك به، ولم يستعبدك في يوم من الأيام بالإحسان إليك، فهو خفيف على نفسك، لأنك لست مدينا له بشيء.
وهذا على حد قول الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
وطالما استعبد الإنسان إحسان
فالبخل وإن كان مذموما، فقد ركزه الله في بعض الطباع ليعين التضاد، ومعنى " يعين التضاد " أن البخل مقابله الكرم، والبخيل يعاون الكريم على أداء مهمته، فالكريم عادة ( إيده سايبه )، ينفق هنا وهناك حتى ينفد ما معه، ومن أهل الكرم من يلجأ إلى أن يبيع أرضه أو بيته في سبيل كرمه، فمن يشتري منه إذن إذا لم يكن هناك من يكنز المال ويبخل به ؟
إذن : لو نظرت إلى كل شيء في الوجود تجد له مهمة، حتى إن كان مذموما، ثم إن البخيل كثيرا ما يكون ظريفا لا يخلو مجلسه من ظرفه، فقد كنا في بواكير شبابنا نشرب السجائر، فكان الواحد منا يخرج علبة السجائر يوزعها على الحاضرين، وربما لا تكفي واحدة فأخرج الأخرى، وكان في مجلسنا واحد من هؤلاء، فنظر إليّ في غيظ وقال ( يا قلبك يا أخي ).
وقد كانت هذه السجائر سببا في أننا جرنا على شبابنا، فكان لهذا أثر بالغ علينا في الكبر، فليحم الشباب شبابهم ولا يدمروه بمثل هذه الخبائث المحرمة.
ثم يقول سبحانه :﴿ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في ساعة الفزع، يأخذ الفزع أبصارهم، فينظرون هنا وهناك، لا تستقر أبصارهم، ولا تسكن إلى شيء، زاغت أبصارهم ﴿ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ومن ذلك الخبر : " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ".
كان هذا حالهم عند الخوف والفزع ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] معنى ﴿ سَلَقُوكُم.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] آلموكم وآذوكم بألسنتهم، وقالوا لكم : أعطوها حقنا، فقد حاربنا معكم، ولولا نحن ما انتصرتم على عدوكم، إلى غير ذلك من التطاول بالقول والإيذاء والتأنيب.
وهذا كله من معاني ( السلق ) ومنه : سلق اللحم ونحوه، وهو أن يغلى في الماء دون أن تضيف إليه شيئا، ومثله السلخ، فكلها معان تلتقي في الإيلام.
وعادة ما تجد في اللغة إذا اشترك اللفظان في حرفين، واختلفا في الثالث تجد أن لهما معنى عاما يجمعهما كما في سلق وسلخ، وفي : قطف، وقطر، وقطم. وكلها تلتقي في الانفصال.
وقوله تعالى ﴿ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] حداد يعني : حادة فصيحة بملء الفم، كما في قوله تعالى :﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( ٢٢ ) ﴾ [ ق ].
ومعنى ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] بعد أن قال ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أكد هذا المعنى بقوله ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في عمومه.
﴿ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا.. ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأنهم لو آمنوا لعلموا أن الشحّ، شحّ عليهم هم، وليس في صالحهم، لأن الكريم يستزيد من الله العطاء، أما الشحيح فليس له زيادة، لذلك يقول تعالى :﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ محمد ].
وربك حين يراك تنفق مما أعطاك يزيدك، لأنك مؤتمن على الرزق، لذلك يقول أحد الصالحين : اللهم إنك عودتني خيرا، وعودت خلقك خيرا، فلا تقطع ما عودتني حتى لا أقطع عن الناس ما عودتهم. إذن : فالعطاء استدرار لنعمة الله، وسبب للمزيد منها.
وهب أن لك عدة أولاد، أعطيت لواحد منهم جنيها مثلا، فذهب واشترى به حلوى، ثم وزعها على إخوته، ولم يؤثر نفسه عليهم، لا بدّ أنك ستأتمنه، وتعطيه المزيد، لأن الخير في يده يفيض على الآخرين.
ونتيجة عدم الإيمان ﴿ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أنهم عملوا، لكن أعمالهم لا رصيد لها من إيمان، لذلك أحبطها الله أي : جعلها غير ذات جدوى ولا فائدة تعود عليهم. وهذه القضية أوضحها القرآن في قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ( ١٨ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وهذا الإحباط أمر يسير على الله تعالى، لكن أفي حق الله تعالى نقول : هذا صعب، وهذا يسير ؟ قالوا : كل أمر الله يسير ؛ لأنه تعالى لا يفعل بمعالجة الشيء، إنما يفعل سبحانه بكن، وسبق أن مثلنا لمعالجة الأفعال بمن يريد أن ينقل مثلا عشرة أرادب من القمح، فإنه لا يستطيع إلا أن يحملها مجزأة، فينقل ( الجوال ) من هنا إلى هناك، ثم الآخر، إلى أن ينتهي من الكمية كلها، ويأخذ في هذا العمل وقتا يتناسب مع قوته.
فلما تقدم العلم، وتطور الفكر الإنساني رأينا الآلة التي تحمل كل هذه الكمية وتنقلها في حركة واحدة، وبمجرد الضغط على مجموعة من الأزرار والمفاتيح، فإذا كان العبد المخلوق لله عز وجل قد استطاع أن يصل إلى هذا التيسير، فما بالك بالخالق عز وجل ؟
لذلك يقول تعالى :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] ولا تتعجب من هذه المسألة، لأن ربك أعطاك في ذاتك شيئا منها، لماذا تستعبد فعل الله تعالى بكن، وأنت ترى جوارحك تنفعل لمجرد إرادتك للفعل، مجرد رغبتك في القيام ترى نفسك قد قمت، دون حتى أن تأمر جوارحك وعضلاتك بالقيام.
فإن قلت : فلماذا لا يأمر الإنسان جوارحه وأعضاءه بما يريد ؟ نقول : لأنك لا تملك أن تأمرها، فهي تنقاد لك ولمرادك بأمر الله، فالأشياء كلها إنما تأتمر بأمر الخالق سبحانه، ولا تتخلف عن أمره أبدا، ألم تقرأ عن السماء ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( ٢ ) ﴾ [ الانشقاق ].
فالسماء مع عظم خلقها تسمع وتطيع أمر خالقها، أما أنت أيها العبد، فأي شيء تأمر، وأنت لا تعرف أصلا ما تأمره ؟ وهل تعرف أنت العضلات والأعضاء والأعصاب التي تشترك بداخلك لأداء عملية القيام ؟ لذلك ولعدم علمك بما تأمره جعل الله أعضاءك وجوارحك تنفعل لمجرد إرادتك.
أما هو سبحانه فيقول ( كن ) لأنه خالق كل شيء، وكل شيء مؤتمر بأمره، وقال سبحانه ( كن ) حتى لا تقولها أنت، فكأنها سبقت منه سبحانه لصالحك أنت، وأنت تفعل من باطن كن الأولى التي توزعت علينا جميعا.
١ أورد القرطبي في تفسيره (٧٥٤١٢/٧) عدة أقوال في تأويل قوله تعالى: ﴿أشحة عليكم.. (١٩)﴾ [الأحزاب].
ـ أشحة عليكم: أي: بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله. قال مجاهد وقتادة.
ـ وقيل: بالقتال معكم.
ـ وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم.
ـ وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها. قاله السدي"..

القرآن الكريم يحكي هذا الموقف عن المنافقين، ويكشف نواياهم السيئة، فبعد أن تجمع الأحزاب وخرجوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم ما يزال هؤلاء المنافقون ﴿ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا.. ( ٢٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فهذا التجمع يخيفهم ويروعهم، لذلك لم يصدقوه، فقد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ينتصر على أعدائه متفرقين، وهذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها أعداء الإسلام على اختلافهم.
إذن : استبعد المنافقون تجمع الأحزاب هذا التجمع، وبعد ذلك ينفضون دون أن يصنعوا حدثا يذكر في التاريخ.
والحسبان : ظن، أي : ليس حقيقة.
﴿ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ.. ( ٢٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : إن يتجمع الأحزاب يود المنافقون لو أنهم بادون أي : مقيمون في البادية بعيدا عن المدينة ؛ لأنهم يخافون من مطلق التجمع، ولأنهم إن بقوا في المدينة إما أن يحاربوا الأحزاب وهم غير واثقين من النصر، وإما ألاّ يحاربوا فيصيرون أعداء للمسلمين.
فهم يريدون إذن أن يعيشوا في النفاق، وألاّ يخرجوا منه، لذلك يودون عيشة البادية مع الأعراب، ومن بعيد ﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ.. ( ٢٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : ما حدث لكم في هذه المواجهة.
ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة :﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : درءا للشبهات، وذرا للرماد في العيون، إذن : لا تأس عليهم، ولا تحزن لتخلفهم.
أسوة : قدوة ونموذج سلوكي، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله منهجه لصيانة حركة الإنسان في الحياة، وهو أيضا صلى الله عليه وسلم أسوة سلوك، فما أيسر أن يعظ الإنسان، وأن يتكلم، المهم أن يعمل على وفق منطوق كلامه ومراده، وكذلك كان سيدنا رسول الله مبلغا وأسوة سلوكية، لذلك قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها : " كان خلقه القرآن ".
لكن، ما الأسوة الحسنة التي قدمها رسول الله في مسألة الأحزاب ؟ لمّا تجمّع الأحزاب كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " ١.
وجعل شعاره الإيماني فيما بعد " لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده " ٢ وما دام هذا شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم. فهو لكم أسوة.
وقال تعالى عن المؤمنين في هذه الغزوة :﴿ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ.. ( ٢١٤ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي بدر يقول أبو بكر : يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
ولقائل أن يقول : إذا كان الله تعالى قد وعد نبيه بالنصر، فلم الإلحاح في الدعاء ؟ نقول : ما كان سيدنا رسول الله يلح في الدعاء من أجل النصر، لأنه وعد محقق من الله تعالى.
واقرأ قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( ٧ ) ﴾ [ الأنفال ].
فالرسول لا يريد الانتصار على العير، وعلى تجارة قريش، إنما يريد النفير الذي خرج للحرب.
وقوله تعالى :﴿ فِي رَسُولِ اللَّهِ.. ( ٢١ ) ﴾ [ الأحزاب ] كأن الأسوة الحسنة مكانها كل رسول الله، فهو صلى الله عليه وسلم ظرف للأسوة الحسنة في كل عضو فيه صلى الله عليه وسلم، ففي لسانه أسوة حسنة، وفي عينه أسوة حسنة، وفي يده أسوة حسنة.. إلخ، كله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
هذه الأسوة لمن ؟ ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وصف ذكر الله بالكثرة، لأن التكاليف الإيمانية تتطلب من النفس استعدادا وتهيؤا لها، وتؤدي إلى مشقة، أما ذكر الله فكما قلنا لا يكلفك شيئا، ولا يشق عليك، لذلك قال تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ].
يعني : أكبر من أي طاعة أخرى، لأنه يسير على لسانك، تستطيعه في كل عمل من أعمالك، وفي كل وقت، وفي أي مكان، ولذلك قلنا في آية الجمعة :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا.. ( ١٠ ) ﴾ [ الجمعة ].
١ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٢٩٣٣)، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٤٢) كتاب الجهاد ـ باب استحباب الدعاء بالنصر (٧) من حديث عبد الله بن أبي أوفى..
٢ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٤١١٤)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٧٢٤) كتاب الذكر والدعاء ـ باب (١٨) من حديث أ[ي هريرة رضي الله عنه ولفظهما: "لا إله إلا الله وحده، أعزّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده"..
أي : لما رأى المؤمنون الأحزاب منصرفين مهزومين ﴿ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : هذا النصر، وهذا الوعد الذي تحقق ما زادهم ﴿ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وهذه المسألة دليل من أدلة أن الإيمان يزيد وينقص، فالإيمان يزيد بزيادة الجزئيات التي تعليه، فبعد الإيمان بالحق سبحانه وتعالى هناك إيمان بالجزئيات التي تثبت صدق الحق في كل تصرف.
وتسليما : أي لله في كل ما يجريه على العباد.
نزلت هذه الآية في جماعة من المؤمنين صادقي الإيمان١، إلا أنهم لم يشهدوا بدرا ولا أحد، ولكنهم عاهدوا الله إن جاءت معركة أخرى ليبادرن إليها، ويبلون فيها بلاء حسنا.
وورد أنها نزلت في أنس بن النضر، فقد عاهد الله لما فاتته بدر لو جاءت مع المشركين حرب أخرى ليبلون فيها بلاء حسنا، وفعلا لما جاءت أحد أبلى فيها بلاء حسنا حتى استشهد فيها، فوجدوا في جسده نيفا وثمانين طعنة برمح، وضربة بسيف٢، وهذا معنى ﴿ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وساعة تسمع كلمة ﴿ رِجَالٌ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] في القرآن، فاعلم أن المقام مقام جدّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صلبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال. وهؤلاء الرجال وفوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأن يبلوا في سبيل نصرة الإسلام، ولو يصل الأمر إلى الشهادة.
وقوله تعالى :﴿ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] قضى نحبه : أي أذى العهد ومات، والنحب في الأصل هو النذر، فالمراد : أدى ما نذره، أو ما عاهد الله عليه من القتال، ثم استعملت ( النحب ) بمعنى الموت.
لكن، ما العلاقة بين النذر والموت ؟ قالوا : المعنى إذا نذرت فاجعل الحياة ثمنا للوفاء بهذا النذر، وجاء هذا التعبير ﴿ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] لتعلم أن الموت يجب أن يكون منك نذرا. أي : انذر لله أن تموت، لكن في نصرة الحق وفي سبيل الله، فكأن المؤمن هو الذي ينذر نفسه وروحه لله، وكأن الموت عنده مطلوب ليكون في سبيل الله.
فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخلق يموتون من لدن آدم عليه السلام حتى الآن، لذلك تهون عليه حياته ما دامت في سبيل الله، فينذرها ويقدمها لله عن رضا، ولم لا وقد ضحيت بحياة، مصيرها إلى زوال، واشتريت بها حياة باقية وخالدة منعّمة.
وقد ورد في الأثر : " ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت " ومع أننا نرى الموت لا يبقى على أحد فينا إلا أن كل إنسان في نفسه يتصور أنه لن يموت.
وحق للمؤمن أن ينذر نفسه، وأن يضحى بها في سبيل الله : لأن الله يقول :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ١٦٩ ) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٧٠ ) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٧١ ) ﴾ [ آل عمران ].
وهذه الحياة التي عند الله حياة على الحقيقة، لأن الرزق سمة الحيّ الذي يعيش ويأكل ويشرب.. إلخ، وإياك أن تظن أنها حياة معنوية فحسب.
وقد تسمع من يقول لك : هذا يعني أنني لو فتحت القبر على أحد الشهداء أجده حيا في قبره ؟ ونقول لمن يحب أن يجادل في هذه المسألة : الله تعالى قال :﴿ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ.. ( ١٦٩ ) ﴾ [ آل عمران ] ولم يقل : أحياء عندك، فلا تحكم على هذه الحياة بقانونك أنت، لا تنقل قانون الدنيا إلى قانون الآخرة.
والمؤمن ينبغي أن يكون اعتقاده في الموت، كما قال بعض العارفين : الموت سهم أرسل إليك بالفعل، وعمرك بقدر سفره إليك.
والقرآن حين يعالج هذه المسألة يقول تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١ ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.. ( ٢ ) ﴾[ الملك ] فقدم الموت على الحياة، حتى لا نستقبل الحياة بغرور الحياة، إنما نستقبلها مع نقيضها حتى لا نغترّ بها.
وقوله تعالى :﴿ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : ينتظر الوفاء بعهده مع الله، وكأن الله تعالى يقول : الخير فيكم يا أمة محمد باق إلى يوم القيامة ﴿ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] معنى التبديل هنا : أي ما تخاذلوا في شيء عاهدوا الله عليه ونذروه، فما جاءت بعد ذلك حرب، وتخاذل أحد منهم عنها، ولا أدخل أحد منهم الحرب مواربة ورياء، فقاتل من بعيد، أو تراجع خوفا من الموت، بل كانوا في المعمعة حتى الشهادة.
١ قال علي بن أبي طالب عن طلحة بن عبيد الله: ذلك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى ﴿فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. (٢٣)﴾ [الأحزاب]: طلحة ممن قضى نحبه، لا حساب عليه فيما يستقبل. وقال عيسى بن طلحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ عليه طلحة فقال: هذا ممن قضى نحبه. أوردهما الواحدي النيسابوري في (أسباب النزول ص ٢٠٢، ٢٠٣)..
٢ عن أنس بن مالك قال: غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر، فشق عليه، وقال غبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لئن أشهدني اله سبحانه قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتلهم حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم، وقد مثلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه، ونزلت هذه الآية. [أسباب النزول للواحدي ص ٢٠٢، وابن سعد في الطبقات الكبير (٤/٣٢٩)]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) ﴾.
تأمل هنا رحمة الخالق بالخلق، هذه الرحمة التي ما حرم منها حتى المنافق، فقال سبحانه ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وسبق أن تحدثنا عن صفتي المغفرة والرحمة وقلنا : غفور رحيم من صيغ المبالغة، الدالة على كثرة المغفرة وكثرة الرحمة، وأن القرآن كثيرا ما يقرن بينهما، فالمغفرة أولا لتستر العيب والنقائص، ثم يتلوها الرحمة من الله، بأن تمتد يده سبحانه بالإحسان.
وقد أوضحنا ذلك باللص تجده في بيتك، فتشفق عليه، ثم تمتد إليه يدك بالمساعدة التي تعينه على عدم تكرار ذلك. وقلنا : إن الغالب أن تسبق المغفرة الرحمة، وقليلا ما تسبق الرحمة المغفرة.
وقلنا : إنه يشترط في المغفرة أن تكون من الأعلى للأدنى، فإذا ستر العبد على سيده قبحا لا يقال : غفر له، وكذلك في الرحمة فإن مال الأقل بالإحسان إلى الأعلى لا يقال رحمة، لأنه قد يعطيه عوضا عما قدّم له أو يعطيه انتظار أن يرد إليه ما أعطاه مرة أخرى.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾.
الغيظ : احتدام حقد القلب على مقابل منافس، والمعنى : أن الله تعالى ردّ الكافرين والغيظ يملأ قلوبهم، لأنهم جاءوا وانصرفوا دون أن ينالوا من المسلمين شيئا ﴿ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] ليس الخير المطلق، إنما لم ينالوا الخير في نظرهم، وما يبتغونه من النصر على المسلمين، فهو خير لهم وإن كان شرا يراد بالإسلام.
وقد رد الله الكافرين إلى غير رجعة، ولن يفكروا بعدها في الهجوم على الإسلام ؛ لذلك قال سيدنا رسول الله بعد انصرافهم خائبين : " لا يغزونا أبدا، بل نغزوهم نحن " ١ وفعلا كان بعدها فتح مكة.
وقوله تعالى :﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أن ردّ الكافرين لم يكن بسبب قوتكم وقتالكم، إنما تولى الله ردّهم وكفاكم القتال، صحيح كانت هناك مناوشات لم تصل إلى حجم المعركة، ولو حدثت معركة بالفعل لكانت في غير صالح المؤمنين، لأنهم كانوا ثلاثة آلاف، في حين كان المشركون عشرة آلاف.
إذن : كانت رحمة الله بالمؤمنين هي السبب الأساسي في النصر ؛ لذلك ذيلت الآية بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] قويا ينصركم دون قتال منكم، وعزيزا : أي يغلب ولا يغلب.
هذا ما كان من أمر قريش وحلفائها، أما بنو قريظة فيقول الله فيهم :
﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ( ٢٦ ) ﴾.
١ أخرجه البخاري في صحيحه (٤١٠٩، ٤١١٠)، وأحمد في مسنده (٤/٢٦٢) من حديث سليمان بن صرد، قال العسقلاني في (فتح الباري ٧/٤٠٥): "فيه علم من أعلام النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في السنة المقلبة فصدته قريش عن البيت ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال"..
معنى ﴿ ظَاهَرُوهُم.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : عاونوهم ﴿ مِن صَيَاصِيهِمْ.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : من حصونهم وقلاعهم ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : الخوف وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. ( ٤ ) ﴾ [ المنافقون ].
ألم يحدثنا صحابة رسول الله أنهم كانوا يستعملون السواك، فظن الكفار أنهم يسنون أسنانهم ليأكلوهم، هذا هو الرعب الذي نصر الله به عباده المؤمنين. ومعنى ﴿ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ.. ( ٢٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : المقاتلين الذين يحملون السلاح ﴿ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ( ٢٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهم النساء والذراري وغيرهم ممّن لا يحملون السلاح.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢٧ ) ﴾.
معنى ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أعطاكم أرض وديار وأموال أعدائكم من بعد زوالهم وانهزامهم ﴿ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئووهَا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أماكن جديدة لم تذهبوا إليها بعد، والمراد بها خيبر، وكأن الله يقول لهم : انتظروا فسوف تأخذون منهم الكثير ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وهكذا انتهى التعبير القرآني من قصة الأحزاب.
وينبغي علينا الآن أن نستعرض القصة بفلسفة أحداثها، وأن نتحدث عمّا في هذه القصة من بطولات، ففيها بطولات متعددة، لكل بطل فيها دور.
وتبدأ القصة حين ذهب كل من حيى بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكانا من قريظة، ذهبا إلى قريش في أماكنها، وقالوا : جئناكم لنتعاون معكم على إبطال دعوة محمد، فأتوا أنتم من أسفل، وننزل نحن من أعلى، ونحيط محمدا ومن معه ونقضي عليهم.
وكان في قريش بعض التعقل فقالوا لحيى بن أخطب وصاحبه : أنتم أهل كتاب، وأعلم بأمر الأديان فقولوا لنا : أديننا الذي نحن عليه خير أم دين محمد ؟ فقال : بل أنتم أصحاب الحق.
سمعت قريش هذا الكلام بما لديها من أهواء، وكما يقال : آفة الرأي الهوى ؛ لذلك لم يناقشوه في هذه القضية، بل نسجوا على منواله، ولم يذكروا ما كان من أهل الكتاب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يستفتحون على الكافرين برسول الله ويقولون لهم : لقد أطلّ زمان نبي جديد نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، لقد فات قريشا أن تراجع حيى بن أخطب، وأن تسأله لماذا غيرتم رأيكم في محمد ؟
ثم جاء القرآن بعد ذلك، وفضح هؤلاء وهؤلاء، فقال سبحانه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ [ النساء ].
فكانت هذه أول مسألة تغيب فيها العقول، ويفسد فيها الرأي، فتنتهز قريش أول فرصة حين تجد من يناصرها ضد محمد ودعوته، ومن هنا اجتمع أهل الباطل من قريش وأحلافها من بني فزارة، ومن بني مرة، ومن غطفان وبني أسد والأشجعيين وغيرهم، اجتمعوا جميعا للقضاء على الدين الوليد.
ثم كانت أولى بطولات هذه المعركة، لرجل ليس من العرب، بل من فارس عبدة النار والعياذ بالله، وكان الحق سبحانه يعد لنصرة الحق حتى من جهة الباطل، إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي١، الذي قضى حياته جوالا يبحث عن الحقيقة، إلى أن ساقته الأقدار إلى المدينة، وصادف بعثة رسول الله وآمن به.
وكان سلمان أول بطل في هذه المعركة، حين أشار على رسول الله بحفر الخندق، وقال : يا رسول الله كنا يعني في فارس إذا حزبنا أمر القتال خندقنا يعني : جعلنا بيننا وبين أعدائنا خندقا، ولاقت هذه الفكرة استحسانا من المهاجرين ومن الأنصار، فأراد كل منهم أن يأخذ سلمان في صفّه، فلما تنازعا عليه، قال سيدنا رسول الله لهم " بل سلمان منا آل البيت " ٢ وهذا أعظم وسام يوضع على صدر سلمان رضي الله عنه.
وهذه الفكرة دليل على أن الحق سبحانه يجند حتى الباطل لخدمة الحق، فنحن لم يسبق لنا أن رأينا خندقا ولا أهل الفارسي الذين جاءوا بهذه الفكرة، لكن ساقها الله لنا، وجعلها جندا من جنوده على يد هذا الصحابي الجليل، لنعلم كما قال تعالى ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الأنفال ].
وقد أوضحنا هذا المعنى في قصة فرعون الذي كان يذبح الأطفال بعد النبوة التي سمعها، ثم يأتيه طفل على غير العادة يحمله إليه الماء، وهو في صندوقه، ولا يخفى على أحد أن أهله قصدوا بذلك إبعاده عن خطر فرعون، ومع ذلك حال الله بين فرعون وبين ما في قلبه، فأخذ الولد وربّاه في بيته.
وقد أحسن الشاعر الذي عبّر عن هذا المعنى، فقال :
إذا لم تصادف في بنيك عناية
فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي ربّاه جبريل كافر
وموسى الذي ربّاه فرعون مرسل
البطل الثاني في هذه المعركة رجل يدعى نعيم بن مسعود الأشجعي٣، جاء لرسول الله يقول : يا رسول الله لقد مال قلبي للإسلام، ولا أحد يعلم ذلك من قومي، فقال له رسول الله : " وما تغني أنت ؟ ولكن خذّل عنا " ٤ أي : ادفع عنا القوم بأي طريقة، أبعدهم عنّا، أو ضللهم عن طريقنا، أو قل لهم أننا كثير ليرهبونا.. إلخ.
هذا رجل كان بالأمس كافرا، فماذا فعل الإيمان في قلبه، وهو حديث عهد به ؟ نظر نعيم، فرأى قريشا وأتباعها يأتون من أسفل، وبنى قريظة وأتباعهم يأتون من أعلى، فأراد أن يدخل بالدسيسة بينهما، فذهب لأبي سفيان، وقال : يا أبا سفيان، أنا صديقكم، وأنتم تعلمون مفارقتي لدين محمد، ولكني سمعت همسا أن بني قريظة تداركوا أمرهم مع محمد، وقالوا : إن قريشا وأحلافهم ليسوا مقيمين في المدينة مثلنا، فإن صادفوا نصرا ينتصرون، وإن صادفوا هزيمة فروا إلى بلادهم، ثم يتركون بني قريظة لمحمد، لذلك قرروا ألاّ يقاتلوا معكم إلا أن تعطوهم عشرة من كبرائكم ليكونوا رهائن عندهم.
سمع أبو سفيان هذا الكلام، فذهب إلى قومه فقال لهم : أنتم المقيمون هنا، وليس هذا موطن بني قريظة، وسوف يتركونكم لمواجهة محمد وحدكم، فإن أردتم البقاء على عهدهم في محاربة محمد، فاطلبوا منهم رهائن تضمنوا بها مناصرتهم لكم.
بعدها ذهب أبو سفيان ليكلم بني قريظة في هذه المسألة، فقال : هلك الخف والحافز يعني : الإبل والخيل ولسنا بدار مقام لنا، فهيا بنا نناجز٥ محمدا هذا بعد أن مكثوا نيفا وعشرين يوما يعدون ويتشاورون فقالوا له : هذا يوم السبت، ولن نفسد ديننا من أجل قتال محمد وعلى كل حال نحن لن نشترك معكم في قتال، إلا أن تعطونا عشرة من كبرائكم يكونون رهائن عندنا، ساعتها علم أبو سفيان أن كلام نعيم الأشجعي صدق، فجمع قومه وقال لهم : الأرض ليست أرض مقام لنا، وقد هلك الخف والحافز، فهيا بنا ننجو.
قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء نعيم بن مسعود، وأخبر رسول الله بما حدث، ووجد رسول الله الجو هادئا، فقال : " ألا رجل منكم يذهب فيحدثنا الآن عنهم، وهو رفيقي في الجنة ؟ " والمراد : أن يندس بين صفوف الأعداء ليعلم أخبارهم.
ومع هذه البشارة التي بشر بها سيدنا رسول الله من يؤدي هذه المهمة، لم يقم من الحاضرين أحد، ودلّ هذا على أن الهول ساعتها كان شديدا، والخطر كان عظيما، وكان القوم في حال من الجهد والجوع والخوف، جعلهم يتخاذلون عن القيام، فلم يأنس أحد منهم قوة في نفسه يؤدي بها هذه المهمة.
لذلك كلّف رسول الله رجلا يدعى حذيفة بن اليمان بهذه المهمة قال حذيفة : ولكن رسول الله قال لي : لا تحدث أمرا حتى ترجع إليّ، فلما ذهبت وتسللت ليلا جلست بين القوم، فجاء أبو سفيان بالنبأ من بني قريظة، يريد أن يرحل بمن معه، فقال : ليتعرّف كل واحد منكم على جليسه، مخافة أن يكون بين القوم غريب.
وهنا تظهر لباقة حذيفة وحسن تصرفه قال : فأسرعت وقلت لمن على يميني : من أنت ؟ قال : معاوية بن أبي سفيان، وقلت لمن على يساري : من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص٦، وسمعت أبا سفيان يقول للقوم : هلك الحف والحافر، وليست الأرض دار مقام فهيا بنا، وأنا أولكم، وركب راحلته وهي معقولة٧ من شدة تسرعه، قال حذيفة : فهممت أن أقتله، فأخرجت قوسي ووترتها، وجعلت السهم في كبدها، لكني تذكرت قول رسول الله " لا تحدثن شيئا حتى تأتيني " فلم أشأ أن أقتله، فلما ذهبت إلى رسول الله وجدته يصلي، فلما أحسّ بي فرج بين رجليه وكان الجو شديد البرودة فدخلت بين رجليه فنثر عليّ مرطه ليدفئني، فلما سلم قال لي : ما خطبك فقصصت عليه قصتي٨.
وبعد أن جند الحق سبحانه كلا من نعيم الأشجعي وحذيفة لنصرة الحق، جاءت جنود أخرى لم يروها، وكانت هذه الليلة باردة، شديدة الرياح، وهبّت عاصفة اقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم وشردتهم، ففرّ من بقي منهم.
وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ( ٣١ ) ﴾ [ المدثر ].
بعد أن ردّ الحق سبحانه كفار مكة بغيظهم، وكفى المؤمنين القتال أراد أن يتحول إلى الجبهة الأخرى، جبهة بني قريظة، فلما رجع رسول الله من الأحزاب لقيه جبريل عليه السلام فقال : أوضعت لأمتك٩ يا محمد، ولم تضع الملائكة لأمتها للحرب ؟ اذهب فانتصر لنفسك من بني قريظة، فقال رسول الله للقوم : " من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة١٠ ".
فاختلف الصحابة حول هذا الأمر : منهم من انصاع له حرفيا، وأسرع إلى بني قريظة ينوي صلاة العصر بها، ومنهم من خاف أن يفوته وقت العصر فصلى ثم ذهب، فلما اجتمعوا عند رسول الله أقرّ الفريقين، وصوّب الرأيين.
وكانت هذه المسألة مرجعا من مراجع الاجتهاد في الفكر الإسلامي، والعصر حدث، والحدث له زمان، وله مكان، فبعض الصحابة نظر إلى الزمان فرأي الشمس توشك أن تغيب فصلّى، وبعضهم نظر إلى المكان فلم يصل إلا في بني قريظة ؛ لذلك أقر رسول الله هذا وهذا١١.
وينبغي على المسلم أن يحذر تأخير الصلاة عن وقتها، لأن العصر مثلا وقته حين يصير ظل كل شيء مثليه وينتهي بالمغرب، وهذا لا يعني أن تؤخر العصر لآخر وقته، صحيح إن صليت آخر الوقت لا شيء عليك، لكن من يضمن لك أن تعيش لآخر الوقت.
إذن أنت لا تأثم إن صليت آخر الوقت، لكن تأثم في آخر لحظة من حياتك حين يحضرك الموت وأنت لم تصلّ ؛ لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خير الأعمال الصلاة لوقتها ) ١٢ فليس معنى امتداد الوقت إباحة أن تؤخر.
وفي مسألة الأحزاب بطولة أخرى لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ظهرت هذه البطولة عندما وجد الكفار في الخندقة نقطة ضعيفة، استطاعوا أن يجترئوا على المسلمين منها، وأن يقذفوا منها خيولهم، فلما قذفوا بخيولهم إلى الناحية الأخرى، فجالت الخيل في السبخة بين الخندق وجبل سلع، ووقف واحد من الكفار وهو عمرو بن ود العامري١٣ وهو يومئذ أشجع العرب وأقواها حتى عدّوه في المعارك بألف فارس.
وقف عمرو بن ود أمام معسكر المسلمين يقول وهو مشهر سيفه : من يبارز ؟ فقال علي لرسول الله : أبارزه يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم :( اجلس يا علي، إنه عمرو ) فأعاد عمرو : أين جنتكم التي وعدتم بها من قتل في هذا السبيل ؟ أجيبوني.
فقال علي : أبارزه يا رسول الله ؟ قال " اجلس يا علي، إنه عمرو " وفي الثالثة قال عمرو :
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع موقف القرن المناجز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير العرائز
عندها انتفض علي رضي الله عنه وقال : أنا له يا رسول الله، فأذن له رسول الله، فأشار علي لعمرو، وقال :
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء١٤ يبقى ذكرها ع
١ سلمان الفارسي، صحابي من مقدميهم، أصله من مجرس أصبهان، رحل إلى الشام، فالموصل، فنصيبين، قرأ كتب الفرس والروم واليهود، وعلم بخبر الإسلام فقصد النبي فسمع كلامه، ولم يدخل الإسلام إلا بعد أن تحرر من العبودية، كان ينسج الصوف وياكل خبز الشعير من كسب يده. توفي ٣٦ ه [الأعلام للزركلي ٣/١١٢]..
٢ عن عمرو بن عوف المزني قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب من أجم السمر طرف بني حارثة حين بلغ المداد، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقالت الأنصار: سلمان منا. وقالت المهاجرون: سلمان منا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣/٤١٨) والحاكم في مستدركه (٣/٥٩٨) وضعف الذهبي إسناده من أجل كثير بن عبد الله..
٣ نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، أبو سلمة. صحابي مشهور، أسلم ليالي الخندق، وهو الذي أوقع الخلف بين الحيين قريظة وغطفان في وقعة الخندق، فخالف بعضهم بعضا ورحلوا عن المدينة، قتل نعيم في أول خلافة على قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل، وقيل: مات في خلافة عثمان، والله أعلم. [الإصابة في تمييز الصحابة ترجمة رقم ٨٧٨٠]..
٤ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٣/٢٤٧) أن نعيم بم مسعود أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة)..
٥ المناجزة في القتال: المبارزة والمقاتلة، وهو أن يتبارز الفارسان فيتمارسا حتى يقتل كل واحد منهما صاحبه أو يقتل أحدهما، وتناجز القوم: تسافكوا دماءهم كأنهم أسرعوا في ذلك. [لسان العرب، مادة: نجز]..
٦ ذكر البيهقي في دلائل النبوة (٣/٤٥١) من حديث حذيفة "أن أبا سفيان أحس أنه دخل فيهم من غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فضربت بيدي على الندى عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده" (أخرجه الحاكم في مستدركه ٣/٣١) وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير في تفسيره (٣/٤٧١) وعزاها لمحمد بن إسحاق "أن أبا سفيان قال: يا معشر قريش لينظر كل امرئ من جليسه. قال حذيفة بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان" ولم يذكر أمر معاوية ولا أمر عمرو بن العاص. والله أعلم..
٧ عقل البعير: قيده وربطه. [لسان العرب ـ مادة: عقل] بتصرف..
٨ ذكره البيهقي في دلائل النبوة (٣/٤٥١). وانظر تفسير ابن كثير (٣/٤٧١)..
٩ اللأمة: الدرع. وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداتها. وقال بعضهم: اللأمة الدرع الحصينة، سميت لأمة إحكامها وجودة حلقها. [لسان العرب ـ مادة: لأم]..
١٠ ذكره بهذا اللفظ ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري (فتح الباري ٧/٤٠٨) من قول ابن إسحاق. وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه (٤١١٩) من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"..
١١ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٤١١٩)، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٧٠) كتاب الجهاد ـ باب المبادرة بالغزو (٢٣) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه أن بعض الصحابة أدركه العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صبى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهما..
١٢ عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله. حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٢٧٨٢) وكذا مسلم في صحيحه (٨٥) كتاب الإيمان..
١٣ هو: عمرو بن عبد ود، قرشي من بني لؤى، فارس قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، عاش إلى أن كانت وقعة الخندق فحضرها وقد تجاوز الثمانين، وأصر على المقاتلة، فقاتله علي بن أبي طالب فقتله عام ٥ هجرية. الأعلام للزركلي (٥/٨١)..
١٤ طعنة نجلاء: أي واسعة بينة النجل. وسنان منجل: واسع الجرح. ونجله بالرمح: طعنه وأوسع شقه. [لسان العرب ـ مادة: نجل]..
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فيقول سبحانه١ :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( ٢٨ ) ﴾
لسائل أن يسأل : ما سر هذه النقلة الكبيرة من الكلام عن حرب الأحزاب وحرب بني قريظة إلى هذا التوجيه لزوجاته صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : لأن مسألة الأحزاب انتهت بقوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئوُوهَا.. [ ٢٧ ] ﴾ [ الأحزاب ] فربما طلبت زوجات الرسول أن يمتعهن وينفق عليهن. مما يفتح الله عليه من خيرات هذه البلاد. فجاءت هذه الآية :﴿ يأيها النبي قل لأزواجك[ ٢٨ ] ﴾ [ الأحزاب ] لتقرر أن الإسلام ما جاء ليحقق مزية لرسول الله، ولا لآل رسول الله، حتى الزكاة لا تصح لأحد من فقراء بني هاشم.
لكن مجيء الآية هكذا بصيغة الأمر :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] دليل على حدوث شيء منهن يدلّ على تطلعهن إلى زينة الحياة ومتعها. وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنهن اجتمعن يسألن رسول الله النفقة. وأن يوسع عليهن بعد أن قال صلى الله عليه وسلم عن الكفار : لن يغزونا. بل نغزوهم وبعد أن بشرتهم الآيات بما سيفتح من أرض
جديدة.
وقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : ليس عندي ما تتطلعن إليه من زينة الدنيا وزخرفها. ومعنى ﴿ فَتَعَالَيْنَ.. [ ٢٨ ] ﴾ [ الأحزاب ] نقول : تعالين يعني : أقبلن. لكنها هنا بمعنى ارتفعن من العلو. ارتفعن عن مناهج البشر والأرض، وارتقين إلى مناهج خالق البشر. وخالق الأرض ؛ لأن السيادة في منهج الله، لا في متع الحياة وزخرفها.
وقد ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى :﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. [ ١٥١ ] ﴾ [ الأنعام ] فتعالوا أي : ارتفعوا عن قوانين البشر وقوانين الأرض إلى قوانين السماء ؛ لأنه يشترط فيمن يضع القانون ألا يفيد من هذا القانون، وأن يكون ملما بكل الجزئيات التي يتعرض لها القانون والبشر مهما بلغت قدرتهم، فإنهم يعلمون شيئا ويجهلون آخر ؛ لذلك لا ينبغي أن يقنن لهم إلا خالقهم عز وجل.
ومعنى ﴿ أُمَتِّعْكُنَّ.. [ ٢٨ ] ﴾ [ الأحزاب ] أي : أعطيكن المتعة الشرعية التي تفرض للزوجة عند مفارقة زوجها، والتي قال الله فيها :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( ٢٤١ ) ﴾ [ البقرة ]
وقوله :﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ.. [ ٢٨ ] ﴾ [ الأحزاب ] ذلك التسريح هنا يعني الطلاق ﴿ سَرَاحًا جَمِيلا [ ٢٨ ] ﴾ [ الأحزاب ] ذلك يدل على أن المفارقة بين الزوجين إن تمت إنما تتم بالجمال أي : اللطف والرقة والرحمة بدون بشاعة وبدون عنف ؛ لأن التسريح في ذاته مفارقة مؤلمة، فلا يجمع الله عليها شدتين : شدة الطلاق، وشدة العنف والقسوة.
ولك أن تلحظ أن لفظ الجمال يأتي في القرآن مع الأمور الصعبة التي تحتاج شدة، واقرأ قوله تعالى :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.. ( ٨٣ ) ﴾ [ يوسف ] والصبر يكون جميلا حين لا يصاحبه ضجر، أو شكوى، أو خروج عن حد الاعتدال.
ورسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض على زوجاته التسريح الجميل الذي لا مشاحنة فيه ولا خصومة إن اخترنه بأنفسهن. وما كان رسول الله ليمسك زوجة اختارت عليه أمرا آخر مهما كان.
وللعلماء كلام طويل في هذه المسألة : هل يقع الطلاق بهذا التخيير ؟ قالوا : التخيير لون من حب المفارقة الذي يعطي للمرأة كما نقول مثلا : العصمة في يدها فهي إذن تختار لنفسها. فإن قبلت الخيار الأول وقع الطلاق. وإن اختارت الآخر فيها ونعمت. وانتهت المسألة ؟
وأمر الله لرسوله أن يقول لزوجاته هذا الكلام لا بد أن يكون له رصيد من خواطر خطرت على زوجاته صلى الله عليه وسلم لمّا رأين الإسلام تفتح له البلاد، وتجبى إليه الخيرات، فتطلعن إلى شيء من النفقة.
وكلمة الأزواج، جمع زوج، وتقال للرجل وللمرأة، والزوج لا يعني اثنين معا كما يظن البعض. إنما الزوج يعني الفرد الذي معه مثله من جنسه، ومثله تماما كلمة التوأم، فهي تعني ( واحد ) لكن معه مثله، والدليل على ذلك قوله تعالى :﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ.. ( ٤٩ ) ﴾[ الذاريات ] يعني : ذكر وأنثى، فالذكر وحده زوج، والأنثى وحدها زوج، وهذه القسمة موجودة في كل المخلوقات. وتجمع زوج أيضا على زوجات.
ونلحظ في الأسلوب هنا أن الحق سبحانه حين يعرض على رسوله أن يخير زوجاته بين زينة الدنيا ونعيم الآخرة يستخدم ( إن ) الدالة على الشك، ولا يستخدم مثلا ( إذا ) الدالة على التحقيق، وفي هذا إشارة إلى عدم المبالغة في اتهامهن، فالأمر لا يعدو أن يكون خواطر جالت في أذهان بعض زوجاته.
وتعلمون أن سيدنا رسول الله جمع من النساء تسعا معا، منهن خمس من قريش، وهنّ : عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة ابنة أبي أمية، ومن غير قريش : صفية بنت حيى بن أخطب الذي ذكرنا قصته في الأحزاب، ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ومن ذهب عند التنعيم وجد هناك بئر ميمونة، ثم زينب بنت جحش من بني أسد، هؤلاء هن أمهات المؤمنين التسعة اللائي جمعهن رسول الله معا.
فلما سألن رسول الله النفقة كانت أجرأهن في ذلك السيدة حفصة بنت عمر، وقد حدث بينها وبين رسول الله مشادة في الكلام، فقال لها : " ألا تحبين أن أستدعي رجلا بيننا ؟ " فوافقت، فأرسل إلى عمر، فلما جاء قال لها رسول الله : تكلمي أنت يعني : اعرضي حاجتك فقالت : بل تكلم أنت، ولا تقل إلا حقا.
أثارت هذه الكلمة حفيظة سيدنا عمر، فهاج وقام إلى ابنته فوجأها، فحجزه رسول الله فتناولها ثانية فوجأها، ثم قال لها : إن رسول الله لا يقول إلا حقا، ووالله لولا أنا في مجلسه ما تركتك حتى تموتي، فقام رسول الله من المجلس ليفض هذا النزاع، وذهب إلى حجرته، واعتكف بها، وقاطع الأمر كله مدة شهر٢.
وتأمل قول الله تعالى :﴿ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] فأي وصف أحقر، وأقل لهذه الحياة من أنها دنيا ؟ وما فيها من متع إنما هي زينة، يعني : ترف في المظهر، لا في الجوهر، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ.. ( ٢٠ ) ﴾ [ الحديد ].
١ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٤٢٢): "قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: أذيته بغيرة بعضهن على بعض"..
٢ هذا الأمر اختلفت فيه الروايات، فبعضها يورد هذا في حق عائشة وأبيها أبي بكر، وبعضها الآخر في حق حفصة وأبيها عمر، أما الأول فقد أخرجه أبي سعد في الطبقات (١٠/٧٩). وأما الثاني فقد أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٦٨) ضمن حديث طويل. ويجوز أن الواقعة قد تكررت، والله تعالى أعلم..
ثم يعرض رسول الله على زوجاته الخيار الثاني المقابل للحياة الدنيا :﴿ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) ﴾.
المتأمل جانبي التخيير هنا يجد أن المقارنة بينهما أمر صعب يوحي برفض التخيير بين طرفي هذه المسألة، فمن يقبل أن تكون له حياة دنيا مقابل الله، وأن تكون له زينتها مقابل رسول الله، ثم زد على ذلك الدار الآخرة التي لم يذكر قبالتها شيء في الجانب الآخر، ثم إن الحياة الدنيا التي نعيشها حتى لو لم توصف بأنها دنيا كان يجب أن يزهد فيها.
والحق أنهن فهمن هذا النص واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ومن يرضى بها بديلا : والحمد لله.
﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ثم يأتي جزاء من اختار الله ورسوله والدار الآخرة ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] المحسنة هي الزوجة التي تعطي من الرحمة والمودة الزوجية فوق ما طلب منها.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن خيّر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة أراد سبحانه أن يعطيهن المنهج والمبادئ التي سيسرن عليها في حياتهن، ونلحظ أن آية التخيير كانت من كلام النبي عن ربه، أما هنا فالكلام من الله مباشرة لنساء النبي.
﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فبداية المسألة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] فلما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كأنهن ارتفعن إلى مستوى الخطاب المباشر من الله تعالى، كأنهن حققن المراد من الأمر السابق ﴿ فَتَعَالَيْنَ.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الأحزاب ].
كلمة ﴿ نِسَاء.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] نعلم أنها جمع، لكن لا نجد لها مفردا من لفظها، إنما مفردها من لفظ آخر وهو امرأة١، وفي اللغة جموع تنوسي مفردها بشهرة مفرد آخر أرق أو أسهل في الاستعمال، وامرأة أو ( مرة ) يصح أيضا من ( امرؤ )٢، وهذه اللفظة تختلف عن ألفاظ اللغة كلها، بأن حركة الإعراب فيها لا تقتصر على الحرف الأخير إنما تمتد أيضا إلى الحرف قبل الأخير، فنقول : قال امرؤ القيس، وسمعت امرأ القيس، وقرأت لامرئ القيس.
وبعض الباحثين في اللغة قال : إن ( نساء ) من النسأ والتأخير، على اعتبار أن خلقها جاء متأخرا عن خلق الرجل، ومفردها إذن ( نسء ) وإن كان هذا تكلفا لا داعي له.
وبعد هذا النداء ﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] يأتي الحكم الأول من المنهج الموجه إليهن :﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] نلحظ أن الحق سبحانه لم يبدأ الكلام مع نساء النبي بقوله مثلا : من يتق الله منكن، إنما بدأ بالتحذير من إتيان الفاحشة ؛ لأن القاعدة الشرعية في التقنين والإصلاح تقوم على أن " درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة " كما أننا قبل أن نتوضأ للصلاة نبرئ أنفسنا من النجاسة.
ومثلنا لذلك وقلنا : هب أن واحدا رماك بتفاحة، وآخر رماك بحجر، فأيهما أولى باهتمامك ؟ لا شك أنك تحرص أولا على ردّ الحجر والنجاة من أذاه، وكذلك لو أردت أن تكوي ثوبك مثلا وهو متسخ، لا بدّ أن تغسله أولا.
لذلك بدأ الحق سبحانه التوجيه لنساء النبي بقوله ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] لكن الفاحشة أمر مستبعد، فكيف يتوقع منتهى الذنوب من نساء رسول الله ؟ قالوا : ولم لا، وقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك.. ( ٦٥ ) ﴾ [ الزمر ].
ومعلوم أن رسول الله ليس مظنة الوقوع في الشرك، إذن : فالمعنى، يا محمد ليس اصطفاؤك يعني أنك فوق المحاسبة، كذلك الحال بالنسبة لنسائه : إن فعلت إحداكن فاحشة، فسوف نضاعف لها العذاب، ولن نستر عليها لمكانتها من رسول الله، فإياكن أن تظننّ أن هذه المكانة ستشفع لكنّ، وإلا دخلت المسألة في نطاق : إذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه٣.
إذن : منزلة الواحدة منكن ليست في كونها مجرد زوجة لرسول الله، إنما منزلتها بمدى التزامها بأوامر الله، وإلا فهناك زوجات للرسل خن٤ أزواجهن واقرأ :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ١٠ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ولك أن تسأل : هذا حكم الفاحشة المبينة، أن يضاعف لها العذاب، فما بال الفاحشة منهن إن كانت غير مبينة ؟
قالوا : هذا الحكم خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حدث من إحداهن ذنب بينها وبين نفسها فهو ذنب واحد مقصور عليها، فإن كان علانية فهو مضاعف، لأنهن أسوة وقدوة تتطلع العيون إلى سلوكهن، فإن ظهرت منهن فاحشة كان تشجيعا للأخريات، ولم لا وقد جاءت الفاحشة من زوجة النبي.
فمضاعفة العذاب إذن لأن الفساد تعدّى الذات إلى الآخرين، وأحدث قدوة سوء في بيت النبي، فاستحقت مضاعفة العذاب، لأنها آذت شعور رسول الله، ولم تقدّر منزلته وفضلت عليه غيره لتأتي معه الفاحشة، وهذا يستوجب أضعاف العذاب، فإن ضاعف لها الله العذاب، ضعفين فحسب، فهو رفق بها، ومراعاة لماضيها في زوجية رسول الله.
كذلك إن فعلت إحداهن حسنة، فلها أجرها أيضا مضاعفا، لأنها فعلت صالحا في ذاتها كأيّ إنسانة أخرى، ثم أعطت قدوة حسنة، وأسوة طيبة لغيرها.
فإن أخذنا في الاعتبار حديث النبي صلى الله عليه وسلم :( من سنّ سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ٥.
علمنا أن أجر الحسنة لا يضاعف فقط مرتين، إنما بعدد ما أثرت فيه الأسوة، وفرق بين الضعف والضعف، الضعف : ضعف الشيء أي مثله، أما الضعف فهو فقد هذا المثل، فهو أقل٦.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : مسألة مضاعفة العذاب أمر يسير، ولن تغني عنكن منزلتكن من رسول الله شيئا، فهذا أمر لا يسألني فيه أحد، ولا أحابى فيه أحدا، ولا بدّ أن أسيّر الأمور كما يجب أن تكون، ولا يعارضني فيها أحد، لذلك كثيرا ما تذيّل أحكام الحق سبحانه بقوله :﴿ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٠ ) ﴾ [ البقرة ] فالعزة تقتضي أن يكون الحكم ماضيا لا يعدله أحد، ولا يعترض عليه أحد.
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام :﴿ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ١١٧ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) ﴾ [ المائدة ].
فقوله :﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ.. ( ١١٨ ) ﴾ [ المائدة ] يقتضي أن يقول : فإنك غفور رحيم، لكن الحق سبحانه عدل إلى ﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١١٨ ) ﴾ [ المائدة ] لأن الذنب الذي وقع فيه القوم ذنب في القمة، في الألوهية التي أخذوها من الله وجعلوها لعيسى عليه السلام، وهذا بمقتضى العقل يستوجب العذاب الشديد، لكن الحق سبحانه لا يسأل عما يفعل، يعذّب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، فإن غفر لهم فبصفة العزة التي لا يعارضها أحد، فكأن المنطق أن يسأل الله : لماذا لم تعذب هؤلاء على ما ارتكبوه ؟ لذلك دخل هنا من ناحية العزة، التي لا تعارض، والحكمة التي لا تخطئ.
١ قال ابن منظور في [لسان العرب ـ مادة: نسا]: "النساء، والنسوان والنسوان: جمع المرأة من غير لفظه. وقال ابن سيده: والنساء جمع نسوة إذا كثرن"..
٢ قال الليث: امرأة تأنيث امرئ: وقال ابن الأنباري: للعرب في المرأة ثلاث لغات، يقال: هي امرأته، وهي امرأته، وهي مرته. [لسان العرب ـ مادة: مرأ]..
٣ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٦٧٨٨)، وكذا مسلم في صحيحه (١٦٨٨) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)..
٤ قال ابن كثير في تفسيره (٤/٣٩٣): "ليس المراد بقوله (فخانتاهما) في فاحشة بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء.. قال ابن عباس: ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه"..
٥ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٤/٣٦١، ٣٦٢)، وابن ماجة في سننه (٢٠٧) والترمذي في سننه (٢٦٧٥) عن جرير بن عبد الله، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"..
٦ الضعف والضعف: خلاف القوة سواء كان في الجسد أو في الرأي والعقل. وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾ [الروم]..
وبعد أن ذكر الحث سبحانه مسألة الفاحشة، وما يترتب عليها من عقاب ذكر سبحانه المقابل، فقال تعالى :
﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) ﴾.
معنى ﴿ يَقْنُتْ.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : يخضع لله تعالى الخضوع التام، ويخشع ويتذلل لله في دعائه، واختار الحق سبحانه القنوت، لأنه سبحانه لا يحب من الطائع أن يدلّ على الناس بطاعته ؛ لذلك يقول العارفون : ربّ معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا١.
أو ﴿ وَمَن يَقْنُتْ.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : بالغ في الصلاح، وبالغ في الورع حتى ذهب إلى القنوت، وهو الخضوع والخشوع.
والنتيجة ﴿ نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالآية السابقة تقر مضاعفة العذاب لمن تأتي بالفاحشة، وهذه تقرر مضاعفة الأجر لمن تخضع لله وتخشع وتعمل صالحا.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أعددناه وجهزناه لها من الآن، فهو ينتظرها.
وحين نتأمل الأسلوب القرآني في هاتين الآيتين تطالعك عظمة الأداء، فحين ذكر الفاحشة ومضاعفة العذاب جاء الفعل ﴿ يُضَاعَفْ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] مبنيا لما لم يسمّ فاعله، أما في الكلام عن القنوت لله، فقال ﴿ نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] فجاء الفعل مسندا إلى الحق سبحانه مباشرة، وكأن الحق سبحانه لم يرد أن يواجه بذاته في مقام العذاب، إنما واجه بالعذاب فقط.
ومجرد بناء الفعل ﴿ يُضَاعَفْ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] للمجهول يدل على رحمة الله ولطفه في العبارة، فالحق سبحانه يحب خلقه جميعا، ويتحبب ويتودد إليهم، ويرجو من العاصي أن يرجع ويفرح سبحانه بتوبة عبده المؤمن أكثر من فرح أحدكم حين يجد راحلته وقد ضلت منه في فلاة٢.
وجاء في الأثر : " يا ابن آدم، لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيا وسلطاني لا ينفد أبدا، يا ابن آدم، لا تخش من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبدا، يا ابن آدم، خلقتك للعبادة فلا تلعب والمراد باللعب العمل الذي لا جدوى منه وقسمت لك رزقك فلا تتعب ".
والمراد هنا لا تتعب، ولا تشغل قلبك، فالتعب يكون للجوارح، كما جاء في الحديث النبوي الشريف : " من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له " ٣ ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدا خشنة من العمل قال : " هذه يد يحبها الله ورسوله " ٤.
فالتعب تعب القلب، فالشيء الذي يطيقه صدرك، وتقدر على تحمله لا يتعبك، لذلك نجد خالي الصدر من الهموم يعمل في الصخر وهو هادئ البال، يغني بحداء جميل ونشيد رائع يقوّي عزيمته، ويعينه على المواصلة، فتراه مع هذا المجهود فرحا منشرح الصدر.
وقد فطن الشاعر العربي لهذه المسألة فقال :
ليس بحمل ما أطاق الظهر
ما الحمل إلا ما وعاه الصدر
فالمعنى : أتعب جوارحك، لكن لا تتعب قلبك، والكلل والتعب لا يأتي على الجوارح إنما على القلب، فأتعب جوارحك في العمل الجاد النافع الذي تأخذ من ثمرته على قدر حاجتك، وتفيض بالباقي على غير القادرين.
ثم يقول : " فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك، وكنت عندي محمودا، وإن أنت لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذموما، يا ابن آدم، خلقت السموات والأرض ولم أعي٥ بخلقهن، أيعييني رغيف أسوقه لك.. يا ابن آدم، لا تطالبني برزق غد كما لم أطالبك بعمل غد، يا ابن آدم أنا لم أنس من عصاني، فكيف بمن أطاعني ؟ ".
وشاهدنا هنا قوله تعالى في آخر الحديث القدسي : " يا ابن آدم، أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محبا " ٦.
فربّك يظهر لك بذاته في مقام الخير وجلب النفع لك، أما في الشر فيشير إليك من بعيد، ويلفت نظرك برفق.
كما نلحظ في أسلوب الآية قوله تعالى والخطاب لنساء النبي ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ]
ولم يقل تقنت، ثم أنّث الفعل في ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحًا.. ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] فمرة يراعي اللفظ، ومرة يراعي المعنى، وسبق أن قلنا إن ( من ) اسم موصول يأتي للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث.
ونقف أيضا هنا عند وصف الرزق بأنه كريم ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] قلنا : إن الرزق كل ما ينتفع به من مأكل، أو مشرب، أو ملبس، أو مسكن، أو مرافق، وقد يأتي في صورة معنوية كالعلم والحلم.. إلخ، وهذا الرزق في الدنيا لا يوصف بأنه كريم، إنما الكريم هو الرازق سبحانه، فلماذا وصف الرزق بأنه كريم ؟
قالوا : فرق بين الرزق في الدنيا والرزق في الآخرة، الرزق في الدنيا له أسباب، فالسبب هو الرازق من والد أو وال أو أجير أو تاجر.. إلخ فالذي يجري لك الرزق على يديه هو الذي يوصف بالكرم، أما في الآخرة فالرزق يأتيك بلا أسباب، فناسب أن يوصف هو نفسه بأنه كريم، ثم فيها ملحظ آخر : إذا كان الرزق يوصف بالكرم، فما بال الرازق الحقيقي سبحانه ؟
١ هذه الحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري (متصوف شاذلي، من العلماء ـ توفي ٧٠٩ ه)، وقد ذكر عبد العال كحيل هذه الحكمة لابن عطاء الله في كتابه "أبو العينين الدسوقي" طبعة دار الشعب ـ ص ٧٦..
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٤٧) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
٣ أورده السيوطي بهذا اللفظ في "الدرر المنتثرة" (حديث ٤٠١) من حديث أنس مرفوعا وعزاه لابن عساكر. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٤/٦٣) من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له" وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه جماعة لم أعرفهم" قال الحافظ العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء (٢/٩٠): "فيه ضعف"..
٤ مما روي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده. وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" أخرجه البخاري في صحيحه (٢٠٧٢) من حديث المقدام بن معديكرب..
٥ عيّ بالأمر فهو عيّ وعييّ: عجز عنه ولم يطق إحكامه. [لسان العرب ـ مادة: عيا]..
٦ أورد هذه القطعة من الأثر الإمام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (٤/٢٩٦) قال: "في بعض الكتب: عبدي أنا وحقك لك محب، فبحقي عليك كن لي محبا"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ( ٣٢ ) ﴾.
كلمة ( أحد ) تستخدم في اللغة عدة استخدامات، فنقول مثلا في العدد : أحد عشر إن كان المعدود مذكرا، وإحدى عشرة إن كان المعدود مؤنثا، أما في حالة النفي فلا تستعمل إلا بصيغة واحدة ( أحد )، وتدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المذكر والمؤنث، فتقول : ما عندي أحد، لا رجل ولا امرأة ولا رجلان ولا امرأتان، ولا رجال ولا نساء، لذلك جاء قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( ٤ ) ﴾ [ الإخلاص ].
وقوله سبحانه :﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] هذه خصوصية لهن، لأن الأشياء تمثل أجناسا وتحت الجنس النوع، فالإنسان مثلا جنس، منه ذكر ومنه أنثى، وكل نوع منهما تحته أفراد، والذكر والأنثى لم يفترقا إلى نوعين بعد أن كانا جنسا واحدا، إلا لاختلاف نشأ عنهما بعد اتفاق في الجنس فالجنس حدّ مشترك : حي ناطق مفكر، فلما افترقا إلى نوعين صار لكل منهما خصوصيته التي تميزه عن الآخر.
كما قلنا في الزمن مثلا، فهو ظرف للأحداث، فإن كانت أحداث حركة فهي النهار، وإن كانت أحداث سكون فهي الليل، فالليل والنهار نوعان تحت جنس واحد هو الزمن، ولكل منهما خصوصيته، وعلينا أن نراعي هذه الخصوصية، فلا نخلط بينهما.
وتأمل قول الله تعالى :﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( ١ ) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( ٢ ) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( ٣ ) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( ٤ ) ﴾ [ الليل ].
فالليل والنهار متقابلان متكاملان لا متضادان، كذلك الذكر والأنثى، ولكلّ دوره ومهمته الخاصة، فإن حاولت أن تجعل الليل نهارا، أو الذكر أنثى أو العكس، فقد خالفت هذه الطبيعة التي اختارها الخالق سبحانه.
وحكينا قصة الرجل الذي مرّ على عمدة القرية، فوجده يضرب غفيرا عنده، فدافع عن الغفير وقال للعمدة : لماذا تضربه يا عم إبراهيم ؟ قال : مررت عليه ووجدته نائما، فقال الرجل : نام، لأنه قضى النهار يروى لك أرضك، ومن يحرث لا يحرس.
إذن : تحت الجنس النوع، وهذا النوع غير متكافئ ؛ لأنه لو تساوى لكان مكررا لا فائدة منه، إنما يختلف الأفراد ويتميزون ؛ لذلك لا تظن أنك تمتاز عن الآخرين ؛ لأن الله تعالى وزّع المواهب بين خلقه، فأنت تمتاز في شيء، وغيرك يمتاز في شيء آخر، ذلك ليرتبط الناس في حركة الحياة ارتباط حاجة، لا ارتباط تفضل كما قلنا.
لذلك، فالرجل الذي يكنس لك الشارع مميز عنك، لأنه يؤدي عملا تستنكف أنت عن أدائه، وإذا أدّى لك هذا العامل عملا لابدّ أن تعطيه أجره، في حين إذا سألك مثلا سؤالا وأنت العالم أو صاحب المنصب.. إلخ فإنك تجيبه، لكن دون أن تأخذ منه أجرا على هذا الجواب، وقد مكثت أنت السنوات الطوال تجمع العلم وتقرأ وتسمع، إلى أن وصلت إلى هذه الدرجة، وصارت لك خصوصية، إذن : لكل منا، ذكر أو أنثى، فردية شخصية تميزه.
هنا يقول الحق سبحانه لنساء النبي ﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] هذه هي الخصوصية التي تميزهن عن غيرهن من مطلق النساء، فمطلق النساء لسن قدوة، إنما نساء النبي خاصة قدوة لغيرهن من النساء، وأسوة تقتدى.
والشرط بعد هذا النفي ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : أن زوجيتهن لرسول الله ليست هذه ميزة، إنما الميزة والخصوصية في تقواهن لله، وإلا فهناك من زوجات الأنبياء من كانت غير تقية.
وقوله تعالى :﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : اقطعن طريق الفاحشة من بدايته، ولا تقربن أسبابها، واتركن الأمور المشتبهة فيها. ومعنى الخضوع بالقول أن يكون في قول المرأة حين تخاطب الرجال ليونة، أو تكسّر، أو ميوعة، أو أن يكون مع القول نظرات أو اقتراب.
فإذا اضطررتن لمحادثة الرجال فاحذرن هذه الصفات ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] والمعنى : أنا لا أتهمكن، إنما الواحدة منكن لا تضمن الرجل الذي تحدثه، فربما كان في قلبه مرض١، فلا تعطيه الفرصة.
وليس معنى عدم الخضوع بالقول أن تكلمن الناس بغلظة وخشونة، إنما المراد أن تكون الأمور عند حدودها، لذلك يقول سبحانه بعدها ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ( ٣٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] فلما نهى القرآن عن التصرف غير المناسب عرض البديل المناسب، وهو القول المعروف، وهو من المرأة القول المعتدل، والسماع بالأذن دون أن تمتد عينها إلى محدثها، لأن ذلك ربما أطمعه فيها، وجرأه عليها، وهذا ما يريد الحق سبحانه أن يمنعه.
لذلك حكى أن رجلا رأى خادمته على الباب تحدث شابا وسيما، وكان يسألها عن شيء، إلا أنها أطالت معه الحديث، فضربها ربّ البيت ونهرها على هذا التصرف، وفي اليوم التالي جاء شاب آخر يسألها عن نفس الشيء الذي سأل عنه صاحبه بالأمس، فبادرته بالشتائم والسباب بعد أن ظهر لها ما في قلب هذا، وأمثاله من مرض.
وفي موضع آخر من هذه السورة سيأتي :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] ؛ لأن الرجل حين يجد المرأة محتشمة تستر مفاتن جسمها لا يتجرأ عليها، ويعلم أنها ليست من هذا الصنف الرخيص، فيقف عند حدوده.
وقد قال الحكماء : أما إذا رأيت امرأة تظهر محاسنها لغير محارمها، وتلح في عرض نفسها على الرجال، فكأنها تقول للرجل ( فتح يا بجم ) تقول للغافل تنبه. فتستثير فيه شهوته، فيتجرأ عليها.
فالحق سبحانه يريد لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أولا أن يكلمن الناس من وراء حجاب، وأن يكلمن الناس بالمعروف كلاما لا لين فيه، ولا ميوعة حتى لا يتعرضن لسوء، ولا يتجرأ عليهن بذئ أو مستهتر.
١ قال ابن عرفة: المرض في القلب فتور عن الحق، وفي الأبدان فتور الأعضاء وفي العين فتور النظر. وعين مريضة: فيها فتور، ومنه قوله: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.. (٣٢)﴾ [الأحزاب] أي: فتور عما أمر به ونهي عنه، نقله ابن منظور في [لسان العرب ـ مادة: مرض] وقال ابن كثير في تفسيره: "مرض أي: دغل" والدغل هو الفساد وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يكمن أهل الفساد فيه [لسان العرب ـ مادة: دغل]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) ﴾.
معنى ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] ألزمنها ولا تكثرن الخروج منها، وهذا أدب للنساء عامة، لأن المرأة إذا شغلت نفسها بعمل المطلوب منها في بيتها وفي خدمة زوجها وأولادها ومصالحهم لما اتسع الوقت للخروج، لذلك كثيرا ما يعود الزوج، فيجد زوجته منهمكة في أعمال البيت، وربما ضاق هو نفسه بذلك ؛ لأنه لا يجدها متفرغة له.
إذن : المرأة المفلسة في بيتها هي التي تكثر الخروج، وتقضي مصالح بيتها من خارج البيت، لو أنها تعلمت الصناعات البسيطة لقضت مصالح بيتها، ووفرت على زوجها، وقد حكوا لنا عن النساء في دمياط مثلا، كيف أن المرأة هناك تعمل كل شيء وتساعد زوجها، حتى أن البنت تتعلم حرفة، ولا ترهق أباها عند زواجها، بل وتوفر من المال ما يساعد زوجها بعد أن تتزوج.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] كلمة التبرج من البرج، وهو الحصن، ومعنى تبرج أي : خرج من البرج وبرز منه، والمعنى : لا تخرجن من حصن التستر، ولا تبدين الزينة والمحاسن الواجب سترها.
وقال ﴿ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : ما كان من التبرج قبل الإسلام، وكانت المرأة ونعني بها الأمة لا الحرة تبدي مفاتن جسمها، بل وتظهر شبه عارية، وكنّ لا يجدن غضاضة في ذلك، وقد رأينا مثل هذا مثلا في إفريقيا.
أما الحرائر في الجاهلية، فكانت لهنّ كرامة وعفّة، في حين كانت تقام للإماء أماكن خاصة للدعارة والعياذ بالله، لذلك لما أخذ رسول الله العهد على النساء المؤمنات ألا يزنين قالت امرأة أبي سفيان١ : أو تزني الحرة يا رسول الله ؟ يعني : هذا شيء مستنكف من الحرة، حتى في الجاهلية.
ومن معاني البرج : الاتساع، فيكون المعنى : لا توسعن دائرة التبرج التي حددها الشرع، وهي الوجه والكفان.
وفي موضع آخر، قال تعالى :﴿ وَالْقَوَاعِدُ٢ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ.. ( ٦٠ ) ﴾ [ النور ].
وتعجب من المرأة تبلغ الخمسين والستين، ثم تراها تضع الأحمر والأبيض، ولا تخجل من تجاعيد وجهها، ولا تحترم السنّ التي بلغتها.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] كثيرا ما قرن القرآن بين الصلاة والزكاة، وبدأ بالصلاة، لأنها عمدة التكاليف كلها، وإن كنت في الزكاة تنفق بعض المال، والمال فرع العمل، والعمل فرع الزمن، فأنت في الصلاة تنفق الزمن نفسه وتضحي به، فكأنك في الصلاة تنفق نسبة سبعة وتسعين ونصف بالمائة، فضلا عن الاثنين ونصف نسبة الزكاة.
كما يفهم من إيتاء الزكاة هنا أن للمرأة ذمتها المالية الخاصة المستقلة عن ذمة الغير من أب أو زوج أو غيره، بدليل أن الله كلفها بإيتاء الزكاة، لكن الحضارة الحديثة جعلت مال المرأة قبل الزواج للأب، وبعد الزواج للزوج، ثم سلبت المرأة نسبتها إلى أبيها، ونسبتها بعد الزواج لزوجها.
وهذه المسألة أشد على المرأة من سلبها المال ؛ لأن نسبتها لزوجها طمس وتعد على هويتها، وانظر مثلا إلى السيدة عائشة، فما زلنا حتى الآن نقول " عائشة بنت أبي بكر " ولم يقل أحد أنها عائشة امرأة محمد.
ثم يقول تعالى :﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ]لأن المسألة لاتقتصر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إنما هناك أمور أخرى كثيرة تحتاج طاعة الله وطاعة رسول الله.
ونلحظ هنا أن الآية عطفت رسول الله على ربه تعالى، وجاء الأمر واحدا ﴿ وأطعن الله ورسوله.. ٣٣ ﴾( الأحزاب ) وحين نستقرئ هذا الأمر في القرآن الكريم نجده مرة يكرر الفعل، فيقول :﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.. ( ١٢ ) ﴾[ التغابن ].
ومرة :﴿ وَأَطِيعُوا اللَّه والرَّسُولََ.. ( ١٣٢ ) ﴾[ آل عمران ].
ومرة يقول تعالى :﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.. ( ٥٩ ) ﴾[ النساء ].
وهذه الصيغ، لكل منها مدلول ومعنى، فساعة يقول : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، كأن لله في الأمر طاعة في الإجمال، وللرسول طاعة في التفصيل، فالحق سبحانه أمر بالصلاة وأمر بالزكاة أمر إجمال، ثم بيّن الرسول ذلك وفصّل هذا الإجمال، فقال :( صلوا كما رأيتموني أصلي )٣ وقال :( خذوا عني مناسككم )٤.
إذن : تكرر الفعل هنا، لأن لله طاعة في إجمال الحكم، وللرسول طاعة في تفصيله، فإن جاء الفعل واحدا ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ.. ( ١٣٢ ) ﴾ [ آل عمران ] فهذا يعني توارد أمر الله تعالى مع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالطاعة إذن واحدة، وهب أن الله تعالى له فعل، ورسوله له فعل، فلا يفصل أحدهما عن الآخر، بدليل قوله تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ.. ( ٧٤ ) ﴾ [ التوبة ].
فلم يقل : وأغناهم رسوله حتى يقول قائل : كل منهما يغني بقدره، إنما جاء الفعل واحدا ﴿ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ.. ( ٧٤ ) ﴾ [ التوبة ].
واقرأ أيضا قوله تعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ٦٢ ﴾( التوبة )ولم يقل : يرضوهما. أما قوله تعالى :﴿ أطيعوااللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ.. ( ٥٩ ) ﴾ [ النساء ] فلم يكرر الأمر بالطاعة مع أولي الأمر، لأنه لا طاعة لولي الأمر إلا من باطن طاعة الله، وطاعة رسول الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] الرجس بالسين هو الرجز بالزاي، وهو القذارة، سواء أكانت حسية كالميتة مثلا، وكالخمر، أو معنوية كالآثام والذنوب، وقد جمعتها الآية :﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٩٠ ) ﴾ [ المائدة ] وقد يراد بالرجس : النفاق والمرض.
وكلمة ( أهل ) تقال : لعشيرة الرجل، لكنها تطلق في عرف الاستعمال على امرأته، ومن بقية الاصطلاحات لهذا المعنى ما نقوله الآن حين نذهب لزيارة صديق مثلا فنقول : معي الأهل أو الجماعة، والبعض يقول : معي الأولاد، ونقصد بذلك الزوجة، لماذا ؟ قالوا : لأن أمر المرأة مبني على الستر، فإذا كان اسمها مبنيا على الستر، فكذلك معظم تكليفاتها مبنية على الستر في الرجل، ونادرا ما يأتي الحكم خاصا بها.
لذلك، السيدة أسماء بنت عميس٥ زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، وكانت قد هاجرت إلى الحبشة، فلما عادت سألت : أنزل شيء في أمر المرأة في غيبتي ؟ فقالوا لها : لم ينزل شيء، فذهبت إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله، ما أعظم خيبتنا وخسارتنا، فليس لنا في الأحكام شيء، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنكن مستورات في الرجال )٦.
ومع ذلك نزل القرآن الكريم بقوله تعالى :
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وتلحظ في هذه الآية أيضا ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أنها تتحدث عن النساء، لكنها تراعي مسألة ستر المرأة فتعود إلى ضمير الذكور ﴿ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم تقل عنكن، كذلك في ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] ويصحّ أنه يريد أهل البيت جميعا رجالا ونساء.
١ هي: هند بنت عتبة بن ربيعة، أخبارها قبل الإسلام مشهورة، وشهدت أحدا كافرة وفعلت ما فعلت بحمزة، أسلمت يوم الفتح بعد زوجها أبي سفيان، ماتت في خلافة عثمان. [الإصابة لابن حجر ٨/٢٠٦] وقد ذكر ابن سعد في طبقاته (١٠/٢٢٦) أن هذا حدث عند مبايعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهند هي أم معاوية بن أبي سفيان..
٢ الواعد: هن اللواتي قعدن عن الأزواج. وهي جمع قاعد، وهي المرأة الكبيرة المسنة. وقعدت المرأة عن الحيض والولد تقعد قعودا وهي قاعد: انقطع عنها. [لسان العرب ـ مادة: قعد]..
٣ أخرجه البخاري في صحيحه (٢٣١)، وأحمد في مسنده (٥/٥٣) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما، وصلّوا كما تروني أصلي)..
٤ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر يقول لنا: خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي أن لا أحج بعد حجتي هذه" أخرجه أحمد في مسنده (٣/٣١٨) والنسائي في سننه (٥/٢٧٠)، ومسلم في صحيحه (١٢٩٧)..
٥ هي: أسماء بنت عميس بن الحارث الخثعمي: صحابية، أسلمت قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بمكة، وهاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، ثم قتل عنها جعفر شهيدا في وقعة مؤتة (٨ه) فتزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر، وتوفي عنها أبو بكر فتزوجها على بن أبي طالب فولدت له، وماتت بعد علي. وصفها أبو نعيم بمهاجرة الهجرتين ومصلية القبلتين. [الأعلام للزركلي ١/٣٠٦]..
٦ لم أقف على هذا الحديث، ولكن أخرج الإمام أحمد في مسنده (٦/٢٥٦) من حديث عائشة رضي الله عنها: "النساء شقائق الرجال" وكذا الترمذي في سننه (١١٣) قال الخطابي في "معالم السنن" ١/٧٩: "أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شققن من الرجال"..
قوله تعالى ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : نساء النبي ﴿ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : آيات القرآن الكريم ﴿ وَالْحِكْمَة.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو : أن عطف الحكمة على آيات الله من عطف الصفة على الموصوف، لكن القول الأول أولى ما دام أن الأمر فيه سعة.
ومعنى ﴿ وَاذْكُرْنَ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] قلنا : إن الذكر استحضار واستدعاء معلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، والمعنى : استحضر ذكر الله واجعله على بالك دائما ؛ لذلك قال تعالى ﴿ ولذكر الله أكبر.. ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ] أي : أكبر من أي عبادة، لأن العبادات كما ذكرنا تحتاج إلى استعداد، وإلى وقت، وإلى مشقة، وإلى تفرغ وعدم مشغولية.
أمّا ذكر الله فهو يجري على لسانك في أيّ وقت، وبدون استعداد أو مشقة، ويلهج به لسانك في أي وقت، وعلى أي حال أنت فيه، واقرأ في ذلك قوله تعالى من سورة الجمعة :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٠ ) ﴾[ الجمعة ] فما دام أن الذكر هو أن تجعل الله على بالك، فلا يمنعك من ذلك سعي ولا عمل، لأن الذكر أخف العبادات وأيسرها على النفس، وأثقلها في الميزان.
ثم تأمل :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فمن عظمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن باله لم يخل لحظة من ذكر ربه أبدا، لذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه : " تنام عيني، ولا ينام قلبي " ١.
ثم تختم الآية بقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( ٣٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] اللطف هو الدقّة في تناول الأشياء وحسن تأتي الأمور مهما كانت وسائلها ضيقة، وسبق أن أوضحنا هذا المعنى وقلنا : إن الأشياء الضارة مثلا كلما لطفت عنفت، فالحديد الذي تجعله على النوافذ ليحميك من الذئاب، غير الحديد الذي يحميك من الثعابين، أو من الناموس والذباب.. إلخ، لذلك نجد أن أفتك الأمراض تأتي من الفيروسات اللطيفة التي لم تعرف.
وحسن التأتّي للأمور يعني التغلغل في الأشياء مهما دقّت، فقد تضطر مثلا لأن تدخل يدك في شيء ضيق لتتناول شيئا بداخله، فلا تستطيع، فتستعين على ذلك بالولد الصغير، لأن يده ألطف من يدك، أو تستعين على ذلك بآلة أدق لتؤدي بها هذا الغرض.
ووصف اللطيف يتممه وصف الخبير، فإذا كان اللطيف يعني الدقة في تناول الأشياء وحسن التأتي، فالخبرة تعني معرفة الموضع، فاللطف لا يتأتى إلا بالخبرة.
١ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٢١١٣) كتاب صلاة التراويح، وكذا أخرجه مسلم في صحيحه (٧٣٨) كتاب صلاة المسافرين من حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي"..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٣٥ ) ﴾.
قلنا : إن هذه الآية نزلت تطييبا لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، لما حدّثت سيدنا رسول الله في أمر الأحكام، وأنها تنزل وتتوجّه في الغالب إلى الرجال، ويبدو أنها حدّثت رسول الله في أمر النساء، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات.. إلخ.
ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام، ثم الإيمان، فأيهما يسبق الآخر ؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ].
فالإسلام أن تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر، أكان أداؤك لها عن إيمان أو غير إيمان ؟ لأن الإسلام تلقّى حكم، أما الإيمان فأن تؤمن بمن حكم، وتصدق من بلّغك هذا الحكم، وعليه فالإيمان سابق للإسلام.
لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام، وهم غير مؤمنين بها، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدى أعمال الإسلام فتحلو لك، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق.
لذلك، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] وقالوا الحمد لله، لأن ( لمّا ) لا تدخل إلا على ما يمكن أن يجيء، كأن تقول : لمّا يثمر بستاننا، وقد أثمرت البساتين، والمعنى : أنه سيثمر فيما بعد.
قالوا : لأن هناك كثيرا من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركت وذقت حلاوتها، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وطلب منه أن يبيت عنده، أو : أن يضيفه، فسأله إبراهيم عليه السلام عن دينه فقال : إنه مجوسي، فردّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له : يا إبراهيم تريده أن يغير دينه لضيافة ليلة، وأنا أسعه طوال عمره وهو كافر بي ؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته، فقال الرجل : ألم تنهرني منذ قليل، فماذا حدث ؟ فقال : لقد عاتبني ربي فيك، فقال الرجل : نعم الربّ ربّ يعاتب أحبابه في أعدائه، أشهد ألا إله إلا الله.
وقد اشتملت هذه الآية على عشر صفات، بدأت بالمسلمين والمسلمات، وانتهت بالذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عميس في هذه الصفات العشر التي جمعت الرجال والنساء، واشتملت على كل أنواع التكليف، وهي برقية تدلّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل، وهذه هي الأصول.
ومعنى ﴿ وَالْقَانِتِينَ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرع كما نفهم من قوله تعالى ﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثا أو هبة من زوجها أو من غيره، فلا ولاية عليها من أحد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة، وهذه من ميزات المرأة في الإسلام، حيث كانت قبل الإسلام، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها، والصدقة تشمل الزكاة، لأن الله قال فيها :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا.. ( ٦٠ ) ﴾ [ التوبة ].
فالصدقة هي العنوان الأعم، ومعناها أنك صدّقت الحق سبحانه حين استأمنك على خير، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها، فكأنك تحقق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة ؟ قال : تصدقت به كله، فقال له : " وماذا أبقيت لأهلك ؟ " قال : أبقيت لهم الله ورسوله. فلما سأل عمر رضي الله عنه قال : تصدقت بنصفه، ولله عندي نصفه٢.
فكلّ منهما تصرّف في ماله تصرفا منطقيا يناسبه.
وإن كانت الزكاة يراد بها نماء المال وطهارته، فالصدقة عطاء لا يراد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة، فكأن المتصدق يريد أن يبرّ، وأن يعترف لله المعطي بالفضل، لأن الله مكّنه من مال لم يمكّن منه الضعيف، ولا غير القادر.
ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] والصوم أخذ حكما فريدا من بين أحكام التكاليف كلها، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف ( كادر خاص ) في الجزاء إلا الصوم، فليس له ( كادر ) محدد، لذلك قال عنه الحق سبحانه : " إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به " ٣ يعني : قرار عال فوق الجميع، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة ؟
قالوا : لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشر بشرا أبدا، فمن الممكن مثلا في شهادة أن لا إله إلا الله أن يأتي من يمدح آخر، فيقول له : ليس في الكون إلا أنت، أنت النافع وأنت الضار، وهناك من قال عن نفسه : أنا الزعيم الأوحد، كذلك في الصلاة نرى من يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله.
لكن، هل قال بشر لبشر : أنا أصوم شهرا، أو يوما تقربا إليك ؟ لا.. لأن الصيام للغير المماثل تدنيب للمصوم له لا للصائم ؛ لأنه سيضطر لأن يظل طوال اليوم يراقبك، أكلت أم لم تأكل ؟
ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي :( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به )٤ يعني : جزاؤه خارج المقرر كما قلنا.
ومن عظمة تكليف الصوم أيضا أن الله تعالى أحلّ لنا أشياء، وحرّم علينا أشياء أخرى تحريما أبديا، فالذي تحمّل التكليف ألف الحلال ولم يألف ما حرّم عليه، ورسخت هذه العقيدة في نفسه، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبدا، فلم يأت على باله مرة مثلا أن يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له، فأراد الله تعالى أن يديم لذة التكليف على البشر، ففرض الصوم الذي يحرّم عليك اليوم ما كان محللا لك بالأمس ومألوفا حتى صار عادة.
إذن : هناك فرق بين دوام العادة ولذة العبادة، وتأمل مثلا يوم الفطر، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم، وأنت حر تفطر أولا تفطر، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى العبادة، وجعله تكليفا أن تفطر قبل الخروج للصلاة٥.
ثم يقول تعالى :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] جاءت مسألة حفظ الفروج بعد ذكر الصيام، لأن الصيام امتناع عن شهوتي البطن والفرج، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل.
قلنا : إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رضي الله عنها الممثلة لجنس النساء، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكّر، ومرة للمؤنث، لكنه راعى في ذلك ستر المرأة، وهنا أيضا يراعى هذه المسألة، فيقول :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] حينما تكلم عن المذكر قال ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يقل : والحافظات فروجهن، لأن أمر النساء ينبغي أن يستر وأن يصان.
ثم يقول سبحانه ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] ويعود إلى مسألة الستر مرة أخرى في قوله :﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] فقال ( لهم ) على سبيل التغليب، وستر المرأة في الرجل، وهذه مسألة مقصودة يراد بها شرف للمرأة، وصيانة لها، لا إهمالها كما يدّعي البعض، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة : معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة، ونقصد بذلك سترها وصيانتها لا إهمالها، أو التقليل من شأنها.
فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابة عن المرأة المسلمة، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر، أراد أن يبني حول المرأة سياجا من الستر في كل شيء حتى في التكاليف.
ونلحظ على سياق الآية هنا أيضا أنه قدّم المغفرة على الأجر، لأن القاعدة كما قلنا : إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والحق سبحانه يعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نفعها على المكلف نفسه، فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة.
أما الحق سبحانه فغني عنّا، وعن طاعتنا، واقرأ الحديث القدسي : " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " ٦.
إذن : نحن المستفيدون من التكاليف، ففيها صلاحنا في الدنيا، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة.
لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم :﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.. ( ١٠٩ ) ﴾ [ الشعراء ] كأنه يقول : الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أن آخذ عليه أجرا، لأنني أؤدي لكم خدمة، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجرى عال لا يقدر عليه المكلّف ﴿ إن أجري إلا على الله.. ( ٧٢ ) ﴾ [ يونس ] فهو وحده القادر على أن يجازيني بما أستحق.
ووصف الأجر بأنه عظيم يدلّ على كبر في الحجم، ونفاسة في الصفات، وامتداد في الزمن، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء، وأي أجر أعظم من أجر الله لعباده في الآخرة ؟
١ سبب نزول الآية: أخرج الإمام أحمد في مسنده (٦/٣٠١، ٣٠٥) عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال. قالت: فلم يرعني منه يوما إلا ونداؤه على المنبر يا أيها الناس قالت: وأنا أسرح رأسي فلففت شعري ثم دنوت من الباب فجعلت سمعي عند الجريد، فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقول: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات." هذه الآية.
وأخرج الترمذي في سننه (٣٢١١) من حديث أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. (٣٥)﴾ [الأحزاب] قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"..

٢ أخرجه أبو داود في سننه (١٦٧٨)، والترمذي في سننه (٣٦٧٥) والحاكم في مستدركه (١/٤١٤) وصححه. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٩٠٤)، وكذا مسلم في صحيحه (٢/٨٠٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث قدسي عن رب العزة سبحانه..
٤ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٩٠٤)، وكذا مسلم في صحيحه (٢/٨٠٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٥ عن بريدة الأسلمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع فيأكل من أضحيته" أخرجه أحمد في مسنده (٥/٣٥٣). قال الشيخ سيد سابق في "فقه السنة" (١/٢٦٨): "قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافا"..
٦ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥٧٧)، وكذا الترمذي في سننه (٢٤٩٥) من حديث أبي ذر رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ( ٣٦ ) ﴾.
جمعت هذه الآية أيضا بين المذكر والمؤنث في ﴿ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] فهي امتداد للآية السابقة، فهي تخدم ما قبلها، وتخدم أيضا ما بعدها، وما به أصل السبب، لأنها نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب، حين رفضا زواج زينب من زيد بن حارثة، فالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة أخته زينب من حيث هما سبب لنزول الآية، وإلا فهي لجميع المؤمنين وجميع المؤمنات.
وسبق أن ذكرنا قصة زيد بن حارثة، وملخصها أنه سرق من أهله، وبيع في سوق العبيد على أنه عبد، فاشتراه حكيم بن حزام، ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين، فوهبته خديجة رضي الله عنها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار مولى لرسول الله.
وبينما هو ذات يوم بالسوق، إذ رآه جماعة من قومه فعرفوه، وأخبروا أباه أنه بالمدينة، فجاءه أبوه وأعمامه، وحكوا لرسول الله قصته، وطلبوا عودته معهم، فقال رسول الله : خيروه، فإن اختاركم فهنيئا لكم، وإن اختارني، فما كان لي أن أسلمه، فردّ زيد وقال : والله ما كنت لأختار على رسول الله أحدا.
فأراد سيدنا رسول الله أن يكافئ زيدا على هذا التصرف، فنسبه إليه على عادة العرب في هذا الوقت، فسمّاه زيد بن محمد٢.
فلما أراد الحق سبحانه أن ينهي هذه العادة ومثلها عادة الظهار، نزل قوله سبحانه :﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ.. ( ٤ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فكما أن الرجل لا يكون له إلا قلب واحد، كذلك لا يكون له إلا أب واحد، وشاء الله أن يبدأ بمتبنى رسول الله، ليكون نموذجا تطبيقيا عمليا أمام الناس، وكانت هذه الظاهرة يترتب عليها أن يرث المتبنّى من المتبني بعد موته، وأن تحرم زوجة المتبنى أن يتزوجها المتبني.
صحيح أن القضاء على هذه العادة قضاء على نظام اجتماعي فاسد موجود في الجزيرة العربية، لكنه في الوقت نفسه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى كما يتبنى العرب، وأن الله تعالى أبطل من رسول الله هذا التصرف، وهذا سيفتح الباب أمام معاندي رسول الله أن يشمتوا فيه، وأن تتناوله ألسنتهم، لذلك عالج الحق سبحانه هذه القضية علاج ربّ بإنفاذ الأمر في نصرة حبيب له، فلم يشوه عمل الرسول، إنما جعل فعله عدلا، وحكمه سبحانه أعدل، فقال :﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ].
والمعنى : إن كنتم جعلتم من العدل والمحبة أن تكفلوا هؤلاء الأولاد، وأن تنسبوهم إليكم، فهذا عدل بشرى، لكن حكم الله أعدل وأقسط، وشرف لرسول الله أن يردّ الله حكمه إلى حكم ربه، وشرف لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة، وأنه يحكم، فيردّ الله حكمه إلى حكمه، فهذا تكريم لرسول الله.
فقوله تعالى ﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. ( ٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : أن فعل محمد كان قسطا وعدلا بقانون البشر، وقد جاء محمد ليغير قوانين البشر بقوانين ربّ البشر، وبهذا خرج سيدنا رسول الله من هذا المأزق.
أما زيد فقد عوّضه الله عما لحقه من ضرر بسبب انتهاء نسبه إلى رسول الله، فصار زيد بن حارثة بعد أن كان زيد بن محمد، عوّضه الله وأنصفه بأن جعله العلم الوحيد من صحابة رسول الله الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم بنصّه وفصّه، فقال سبحانه :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] فخلد زيد في كتاب يتلى، ويتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة.
وعلاقة زيد بن حارثة بما نحن بصدده من قوله تعالى ﴿ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] أنه تزوج من السيدة زينب بنت جحش، زوّجه إياها رسول الله، وقد نزلت هذه الآية في زينب، وفي أخيها عبد الله٣.
ومعنى ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] معنى ( ما كان ) أي أنه شيء بعيد، لا يمكن أن يرد على العقل، أي : أنه أمر مستبعد غير متصور، وكان المنفية تدل على جحد هذه المسألة، فالمؤمن والمؤمنة، ما دام أن الإيمان باشر قلبيهما لا يمكن أن يتركا أمر الله وحكمه، أو أمر رسوله إلى اختيارهما.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] وإلا فلا إيمان لا بالله، ولا برسول الله.
فإن قلت : كيف وقد أثبت الله الاختيار ؟ نقول : هناك فرق بين اختيار داخل في التكليف، إن شئت فعلته أو لم تفعله، وشيء في إيجاد التكليف بداية، فليس للعباد دخل في إيجاد الشيء المكلف به، إنما إذا كلفتهم أنا، فأنا صاحب التكليف، وكونهم يطيعونه أو لا يطيعونه، فهذا أمر آخر، ليس للعباد أن يقترحوا التكليف على هواهم، لأن التكليف لي، ولهم الاختيار في طاعته وفي قبوله، وما دام قد ثبت أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسول الله فكان من الواجب عليهم أن يرتضوا الأمر، وألا يعرضوا عنه إلى غيره.
وقصة طلاق زيد وزينب، ثم زواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة خاض فيها المستشرقون والمغرضون كثيرا، وتجرأوا على سيدنا رسول الله بكلام لا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم، ومن قولهم أن محمدا أحب زينب وأرادها لنفسه، فأمرها أن تشاغب زيدا حتى يطلقها فيتزوجها.
ونقول لهؤلاء الأغبياء : أولا زينب بنت جحش الأسدية هي بنت عمة رسول الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلفا بإدارة أموالها ورعاية شئونها، وقد نشأت تحت عينه، ولو أرادها لنفسه لتزوجها بداية، وهذا بنص القرآن :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فإن أردت أن تعرف ما أخفاه رسول الله فخذه مما أبداه الله، والذي أبداه الله قوله تعالى :﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهذا يهدم كل ادعاءاتكم على رسول الله.
أما قولهم بانشغال قلب رسول الله بزينب، فنقول : ولماذا تجعلون انشغال قلب محمد انشغالا جنسيا ؟ ولو تتبعتم القصة من أولها لظهر لكم غير ذلك، فحينما أرسل رسول الله من يخطب زينب ظن أخوها عبد الله وأختها حمنة أنه جاء ليخطبها لرسول الله، فلما علموا أنه يخطبها لمولاه زيد غضبوا جميعا، فكيف تتزوج السيدة القرشية وبنت عمة رسول الله من عبد، لكن لما علموا أن الأمر من الله أذعنوا له ووافقوا.
ثم بعد أن تزوجت زينب من زيد تعالت عليه، بل وشعر أنها تحتقره لهذا الفارق بينهما، فكان زيد يشتكي لرسول الله سوء معاملة زوجته له، وأنها كما نقول ( منكدة عليه عيشته )، وأنها تعيش معه في بيت الزوجية بالقالب لا بالقلب، لكن حبه لرسول الله كان يمنعه من طلاقها، وهو أيضا لا يريد أن يخسر هذا الشرف الذي ناله بالزواج من ابنة عمة رسول الله.
وكان سيدنا رسول الله في كل مرة يشتكي فيها زيد من زينب يقول له ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولو أرادها الرسول لنفسه لقال له طلقها، ولوجد الفرصة أمامه سانحة.
ويجب أن نبحث هنا علاقة المرأة بالرجل، فالخالق سبحانه خلق الرجل للمرأة، والمرأة للرجل، لذلك
نجد المرأة العربية أم إياس، وهي توصي ابنتها لما خطبها الحارث، تقول : " أي بنية، إنك لو تركت بلا نصيحة لكنت أغنى الناس عنها، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها لكنت أغنى الناس، ولكن الرجال للنساء خلقن، ولهن خلق الرجال، وأن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل ".
وقلنا : إن الإنسان يستطيع أن يعيش أفضل ما يكون من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، لكنه مع ذلك لا يستغني بحال عن الزوجة والمرأة كذلك، لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها " ٤.
لماذا ؟ لأن الزوج يعطيها ما يعطيه الأب والأم والإخوة، ويزيد على ذلك مما لا يقدرون ولا يستطيعون.
الشاهد أن المرأة للرجل، والرجل للمرأة، مهما وضعوا من أسوار من عز أو من جبروت، أو غيره.
إن المسألة بالنسبة لزيد كانت صعبة، لأن الله تعالى جعل للزواج ثلاث مراحل، وردت في قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.. ( ٢١ ) ﴾ [ الروم ].
فالأولى أن يسكن الزوج إلى زوجته، وأن يطمئن إليها، ويرتاح بجوارها حين تمسح عنه عرقه، وتحتويه بعد تعب اليوم ومشاق الحياة، فإن امتنع السكن بسبب منغصات الحياة، فليكن بينهما مودة تجمعهما، ولم لا، وأنت حين تصاحب صديقا مثلا مدة طويلة تجد له مودة في قلبك، وتجد أن لهذه المودة ثمنا، فتتحمله إن أخطأ، وتسامحه إن أساء، فما بالك بالزوجة، أليست أحق بهذه المودة ؟
فإذا ما فقدت المودة أيضا، فليبق بين الزوجين التراحم، فليرحم كل منهما الآخر إن أصابه الكبر أو المرض، أو غير ذلك.
وقد وصل زيد مع زينب إلى مرحلة فقد فيها السكن والمودة والرحمة بسبب ما بينهما من فارق.
أمر آخر، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فكر في أمر زينب، فلماذا تعدلون به إلى التفكير في الغريزة ؟ ولماذا لا تعدلون به إلى مرتبة الإنصاف، وهو الذي أرغم زينب على الزواج من زيد، وهي الشريفة القرشية، وهو العبد المملوك، فلما وضعها في هذا المأزق أراد أن يطيب خاطرها، ويصلح ما كان منه بأن يضمها إليه، فتصير إحدى أمهات المؤمنين.
ثم من الذي منع رسولا قال الله عنه أنه بشر من أن تكون له هذه الرغبة، وكل الرسل السابقين كان لهم هذه هذا على فرض رغبة رسول الله في زينب لكن الناس لم يحسنوا الظن.
والذي يدلنا على أن هذه المسألة كانت ترتيبا ربانيا صرفا ما نجده من الرياضة الإيمانية بين كل من سيدنا رسول الله، ومولاه زيد، وابنة عمته زينب، فقد جمعهم الثلاثة رياضة إيمانية كما نقول نحن الآن : فلان عنده روح رياضية.
يعني : يتقبل الهزيمة بروح عالية بدون عداوات أو أحقاد، فلقد انصاع الجميع لأمر الله بهذه الروح الإيمانية.
أما الذين يأخذون من قوله تعالى في حق رسوله ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] يأخذونها سبة في حق الرسول، فعليهم أن يعلموا أن الخشية نوعان : خشية من شيء تخاف أن يضرك، وخشية استحياء، فالخشية في ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] خشية استحياء، ويكفي أن الحق سبحانه قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم٥ :﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.. ( ٥٣ ) ﴾ [
١ سبب نزول الآية: قال ابن عباس: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. (٣٦)﴾ [الأحزاب] أورده ابن كثير في تفسيره (٣/٤٨٩)، والسيوطي في "أسباب النزول". (ص٢٢٠)..
٢ انظر سيرة النبي لابن هشام (١/٢٤٨، ٢٤٩)..
٣ هو: عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، صحابي، قديم الإسلام، هاجر إلى بلاد الحبشة، ثم إلى المدينة، وكان من أمراء السرايا، وهو صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخو زينب بنت جحش أم المؤمنين، قتل يوم أحد شهيدا، فدفن هو والحمزة في قبر واحد عام ٣ هجرية، [الأعلام للزركلي ٤/٧٦]. والحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله هو خال عبد الله بن جحش، فأمه هي أميمة بنت عبد المطلب..
٤ أخرجه أحمد في مسنده (٤/٣٨١) عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدي المرأة حق الله عز وجل عليها كله حتى تؤدي حق زوجها عليها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لأعطته إياها". والقتب: رحل صغير على قدر سنام الجمل..
٥ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى (دخل) بزينب بنت جحش، صنع وليمة خبز ولحم فدعا الناس إليها، فأخذ يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون وبقى ثلاثة رهط يتحدثون لم يخرجوا ورسول الله يريد أن يخلو بزينب. عروسه وهم جالسون، فخرج ثم عاد، ثم خرج. ثم عاد حتى أخبر ان القوم قد خرجوا، وكان شديد الحياء، فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ..(٥٣)﴾ [الأحزاب] انظر: أسباب النزول للواحدي (ص٢٠٥)، وتفسير ابن كثير (٣/٥٠٣)..
وكأن رسول الله أراد أن يطيب خاطرها، أو يرفع من روحها نظير ما أجبرها عليه من الزواج بزيد، ونظير أنها تعيش معه على مضض، فلما جاء زيد قالت له : لقد جاء رسول الله وسأل عنك وقال لي : تبارك الله أحسن الخالقين، فقال لها : يا زينب أرى أن تكوني لرسول الله، لأنك وقعت في قلبه، وأرى أن أطلقك ليتزوجك رسول الله، فبدا عليها الارتياح، وتعجبت كأنها لم تصدق : إذا طلقتني أتزوج برسول الله، كان هذا الحوار مجرد كلام.
وبالله لو قيل هذا الكلام في غير هذا الموقف، ولواحد غير زيد لغلى الدم في عروقه، وفعل ما فعل، إنما تأمل الرياضة الإيمانية التي تحلى بها زيد.
يقول تعالى في هذه المسألة :
﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ( ٣٧ ) ﴾
معنى ﴿ وَإِذْ تَقُولُ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] واذكر جيدا وأدر مسألة زيد في رأسك، أذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإيمان والمراد زيد أنعمت عليه بالعتق أولا، وأنعمت عليه بقانون البشرية بأن جعلته ابنا لك وأنعمت عليه بأن زوجته، وهو عبد، من قرشية، هي ابنة عمتك، ثم أنعمت عليه حين قلت له ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
لكن، لماذا قلت له هذه الكلمة يا محمد ؟ أخوفا من كلام الناس أن يقولوا : تزوج من امرأة متبناه ؟ كيف وهذا مقصود من الله تعالى : إنه يريد أن ينهى عادة التبني، وأن ينهيها على يدك أنت، فأنت تخفيه خوفا من كلام الناس، وقد أبداه الله حين أخبرك بهذه المسألة، وأن نهايتها ستكون على يديك بأن تتزوج امرأة متبناك ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] فدعك من الناس.
لذلك قال سبحانه في موضع آخر :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ.. ( ٣٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وسبق أن أوضحنا أن خشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن خشية خوف من شيء يضره، إنما خشية استحياء ليدفع رسول الله الشبهة عن نفسه.
وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] الوطر : هو الأشياء التي تناسب معاش الرجل، فمعناه الغاية أو الحاجة، وسبق أن قلنا : إن وطر الرجل من زوجته أن تكون سكنا، فإن لم يكن، فمودة تجمعهما، فإن لم يكن فرحمة متبادلة.
وقد افتقد زيد في زوجته كل هذه المراحل، فلك يجد معها، لا السكن، ولا المودة، ولا الرحمة، فلماذا إذن يستمر في الارتباط بها ؟ لذلك كان يذهب إلى رسول الله، فيشتكي له ما يلاقي من زينب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له :
﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ]
وتأمل هنا هذه الرياضة الإيمانية بين سيدنا رسول الله وزيد وزينب رضي الله عنهما : لما طلق زيد زينب تركها رسول الله لتقضي عدتها، فلما قضت العدة قال : يا زيد اذهب إلى زينب فاخطبها علي١، فما هذه العظمة ؟ رسول الله يبعث المطلق ليخطب له المطلقة، وهذا يدل على ثقته في زيد، ، وأنه قد قضى وطره من زينب ولم يعد له فيها حاجة.
ويدخل زيد على زينب، فيقول لها : أبشري يا زينب، لقد بعثني رسول الله لأخطبك له، فقالت : والله لا أجيب حتى أسجد شكرا لله، فقامت زينب فسجدت، عندها عاد زيد إلى رسول الله، فأخبره ما كان من زينب فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بلا استئذان٢.
ترى لماذا يدخل عليها سيدنا رسول الله بلا استئذان ؟ قالوا : لأنها حينئذ صارت زوجته، كما قال سبحانه ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : زوجه الله بها من فوق سبع سموات.
لذلك كانت السيدة زينب حين تجلس مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهذه أيضا من الرياضات الإيمانية تقول لهن : إني لأفتخر عليكن جميعا بأنكن زوجكن أولياؤكن، أما أنا فزوجني ربي، فلا تجرؤ إحداهن على الرد عليها٣.
ليس هذا فحسب، إنما تدل أيضا على سيدنا رسول الله، فتقول له : يا رسول الله، أنا أدل عليك بثلاث، فيضحك سيدنا رسول الله ويقول : أما الأولى ؟ فتقول : أما الأولى فجدي وجدك واحد، وأما الثانية فلأن الله زوجني من فوق سبع سموات، وأما الثالثة فلان سفيري في الزواج لم يكن زيدا، إنما كان جبريل٤.
فأي عظمة هذه التي نلاحظها في هذه القصة، وأي رياضة إيمانية عالية من رسول الله وصحابته ؟
إذن : لم يتزوج رسول الله من زينب، إنما زوجه ربه، لذلك نقول للمغرمين بالخوض في هذه المسألة، يحسبونها سبة في حق رسول الله : افهموا الفرق بين زوج وتزوج. تزوج أي : بنفسه وبرغبته، إنما زوج أي زوجه غيره، وكلمة ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] تحتوي على الفعل زوج والضمير ( نا ) فاعل يعود على الحق سبحانه، والكاف لخطاب رسول الله، وهي مفعول أول، والهاء تعود على السيدة زينب، وهي مفعول ثان للفعل زوج.
فرسول الله في هذه المسألة، وفي كل زوجاته لم يخالف عن أمر الله. فلتكونوا منصفين، لأن المسألة ليست عند محمد، إنما عند رب محمد، واقرأوا إن شئتم :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ٥ ثَيِّبَاتٍ٦ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾ { التحريم ].
ثم هبوا جدلا أن محمد فعلها، ما العيب فيها وقد كان التعدد موجودا، ولم ينشئ رسول الله تعددا، كان التعدد موجودا في الأنبياء والرسل، وفيكم وعندكم.
أما الذين يتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه وسع على نفسه، فتزوج تسعا، وضيق على أمته بأربعة، فالرد على ذلك أن الله تعالى حكم بأن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، وما دمن أمهات للمؤمنين، فليس لأحد أن يتزوجهن بعد رسول الله، أما غيرهن من المؤمنات فإن كان مع الرجل سبعة مثلا، فعليه أن يفارق ثلاثة منهن، وهؤلاء الثلاثة سيجدن من يتزوج بهن، إذن : على الرسول أن يمسك زوجاته كلهن، وعلى غيره من المؤمنين أن يفارقوا ما زاد على أربع.
شيء آخر : تظنون أن رسول الله وسع الله له هذه المسألة، والحقيقة أن الله ضيق عليه إذا ما قارناه بغيره من عامة المؤمنين، فالمؤمن له أن يمسك أربع زوجات، فإذا ماتت إحداهن تزوج بأخرى، وإن طلق إحداهن تزوج بدلا منها، فإن متن جميعا أو طلقهن، فله أن يتزوج غيرهن حتى يكمل الأربعة، وهكذا يكون للمؤمن أن يتزوج بعدد كثير من النساء.
أما رسول الله، نعم تزوج تسعا لكن خاطبه ربه بقوله :﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] فمن الذي ضيق عليه إذن ؟ محمد أم أمته ؟
ثم يا قوم تنبهوا إلى الفرق بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، هل استثنى الله نبيه في العدد من أربع إلى تسع، أم استثناه في معدود بذاته، استثناه في المعدود لا في العدد، لأنه لو استثناه في العدد لكان له إذا ماتت إحدى زوجاته أن يتزوج بأخرى، إنما وقف به عند معدود بذاته، بحيث لو ماتوا جميعا ما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بعدهن.
وبعد ذلك أظل الحكم على رسول الله هكذا ؟ لا، إنما كان في بداية الأمر وبعد ذلك حينما استقرت الأمور وأمن الله رسوله قال له : افعل ما تشاء، لأنك مأمون على أمتك٧.
ثم نقول : هبوا أن رسول الله له اختيار في هذه المسألة، ولم تكن مسبقة، ألم يؤد فعله هذا إلى إلغاء عادة التبني ؟ ثم أنزعت الرسالة من رسول الله بعد أن فعل ما فعل ؟ إذن : لا يتناقض مراد الله ومراد رسول الله.
والذين تناولوا سيدنا رسول الله في هذه المسألة مثل الذين تناولوا سيدنا يوسف عليه السلام لما قال الله فيه :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا.. ( ٢٤ ) ﴾ [ يوسف ] وكأنهم أكثر غيرة على يوسف من ربه عز وجل، نعم هم بها يوسف أي : فكر فيها أو غير ذلك، ولن نقول لكم على الصواب لتظلوا في حيرتكم، لكن أنزع الله منه الرسالة بعد ما هم بها ؟ إذن : همه بها لم يناقض الرسالة، فما تقولونه في هذه المسألة فضول منكم.
ثم تأتي العلة في هذه المسألة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] ثم تختم الآية بما لا يدع مجالا للشك في رسول الله :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : لا بد أن يحدث، ولن يترك لأي شخص آخر، حتى لا تفسد القضية في إلغاء عادة التبني، إذن : فزواج رسول الله من امرأة متبناه ما كان إلا لرفع الحرج عن جميع المؤمنين، والآن يصح لكل متبن أن يتزوج امرأة متبناه.
١ أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (١٠/١٠١) من حديث أنس قال: "لما انقضت عدة زينب بنت جحش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: ما أجد أحدا آمن عندي أو أوثق في نفسي منك، ائت إلى زينب فاخطبها علي... قال زيد: يا زينب، ابشري، عن رسول الله يذكرك". ولكن أخرج ابن سعد أيضا في الطبقات (١٠/٩٩) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدة زينب أخذته غشية فسري عنه وهو يبتسم وهو يقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء. قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله، تشتد فتحدثها بذلك فأعطتها أوضاحا عليها..
٢ قاله أنس بن مالك رضي الله عنه "أن زينب ردت على زيد: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.. (٣٧)﴾ [الأحزاب] قال: فجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن" أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (١٠/١٠١)، وابن الأثير في أسد ا لغابة (٧/١٢٥)..
٣ أخرجه البخاري في صحيحه (٧٤٢٠) من حديث أنس بن مالك أن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات"..
٤ ذكره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (١٣/٤١٢) ببعض هذه الألفاظ من مرسل الشعبي "قالت زينب: يا رسول الله، أنا أعظم نسائك عليك حقا، أنا خيركن منكحا، وأكرمهن سفيرا، وأقربهن رحما، فزوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك وليس لك من نسائك قريبة غيري" أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في "كتاب الحجة والتبيان" له"..
٥ سائحات: أي: صائمات. قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم كثير ذكر ابن كثير في تفسيره (٤/٣٩٠) ثلاثة عشر عالما آخر قالوا بهذا القول ثم اقل: وقال زيد ابن أسلم وابنة عبد الرحمن: سائحات أي مهاجرات، والقول الأول أولى والله أعلم..
٦ الثيب: المرأة التي سبق لها الزواج سواء كانت مطلقة أو أرملة. قال ابن منظور في [لسان العرب ـ مادة: ثيب]: "الثيب من النساء التي تزوجت وفارقت زوجها أي وجه كان بعد أن مسها"..
٧ وذلك قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء.. (٥١)﴾ [الأحزاب] ولكن ضعف القرطبي في تفسيره القول القائل بأن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ.. (٥٢)﴾ [الأحزاب] ورجح القرطبي (٨/٥٤٨٣) ان معناها التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته، قال: "وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح هن عائشة قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله، وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما انزل الله ﴿تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ..(٥١)﴾ [الأحزاب] قالت عائشة: والله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"..
قوله تعالى ﴿ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : إثم أو ملامة ﴿ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : كيف تلومون رسول الله على تنفيذ أمر فرضه الله له وتأمل ﴿ فَرَضَ اللَّهُ لَهُ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : لصالحه ولم يقل فرض عليه ؟ ما دام أن الله هو الذي فرض هذا، فلتصعدوا الأمر إليه، فليس لرسوله ذنب فيه.
وهذه المسألة تشبه تماما مسألة الإسراء، فحين أخبر سيدنا رسول الله قومه بخبر الإسراء قالوا : يا محمد أتدعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا١ ؟ وهذا غباء منهم لأن محمدا لم يقل : سريت إنما قال : أسري بي. فالذي أسرى به ربه عز وجل إذن : المسألة ليست من فعل محمد، ولكن من فعل الله.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلا توضيحيا والله المثل الأعلى قلنا : هب أن رجلا قال لك : أنا صعدت بولدي الصغير قمة ( إفرست ) أتقول له : كيف صعد ولدك قمة ( إفرست ) ؟
لكن انتفعنا الآن بقول المكذبين : أتدعي يا محمد أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا، لأن غباء المكذب يؤدي به إلى عكس ما قصده من غبائه، فهذا القول اتخذناه الآن دليلا للرد على من يقولون بأن الإسراء كان رؤيا، أو كان بالروح دون الجسد.
فلو قال رسول الله : رأيت في الرؤيا أني أتيت بيت المقدس ما قالوا هذه المقالة، إذن : فهم القوم أن رسول الله أتى بيت المقدس بروحه وجسده، وإلا ما قارنوا بين ذهابهم وذهابه، فالذين عاصروا هذه الحادثة قالوا هذه المقالة، فكيف نأتي اليوم لنقول : إن الإسراء كان مناما أو كان بالروح دون الجسد ؟
وقوله تعالى :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ.. ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : إخوانه من الرسل السابقين، أو فيما كان قبل الإسلام من التعدد، فلم يكن رسول الله بدعا في هذه المسألة.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] تلحظ أن الآية السابقة ختمت بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] فلقائل أن يقول نعم مفعولا في هذا الوقت الذي حدثت فيه هذه الأحداث، لذلك قال هنا :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ( ٣٨ ) ﴾ [ الأحزاب ]أي : أن ما حدث لرسول الله كان مقدرا أزلا، ولا شيء يخرج عن تقرير الله، وقد صح أن القلم قد جف على ما كتب، وعلى ما قدر٢.
١ ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤): لما أصبح رسول الله ـ بعد الإسراء به ـ إذا على قريش، فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البين، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟"..
٢ أخرج البخاري في صحيحه (٥٠٧٦) أن أبا هريرة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني. ثم قلت له مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاق" وكذا أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (١/٥٠، ٥١)، والنسائي في سننه (٦/٥٩)..
وكان الحق سبحانه يعيدنا إلى قوله تعالى في نبيه محمد :﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالرسل لا يخشون شيئا في البلاغ عن الله، فكأنه تعالى نفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون خشيته في البلاغ، إنما خشيته استحياؤه مخافة أن تلوكه ألسنة قومه، وإلا فهم لا يملكون له شيئا يضره أو يخيفه.
نلحظ هنا أن ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ.. ( ٣٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] هذه العبارة مبتدأ١ لم يخبر عنه، لأن قوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( ٣٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] ليس خبرا لهذا المبتدأ، إنما هو تعليق عليه، فأين خبر هذا المبتدأ ؟ قالوا : تقديره، الذين يبلغون رسالات الله.. لا يمكن أن يتهموا بأنهم خشوا الناس من أجل البلاغ.
﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( ٣٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أنكم لن تحاسبوهم، إنما سيحاسبهم الله، وكان مقتضى الحساب مع رسول الله إن فعل ما لا يصح منه أن تسحب منه الرسالة، وأن يأتي الله بنبي آخر، ولم يحدث شيء من هذا.
١ يجوز ان يكون قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ.. (٣٩)﴾ [الأحزاب] صفة ل ﴿الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ.. (٣٨)﴾ [الأحزاب]..
ثم يعود السياق إلى أمر آخر في قضية التبني، فيقول سبحانه :
﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٤٠ ) ﴾قال سبحانه ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأن علاج قضية التبني أهم من أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد منكم أن يكون أبوه رسول الله، لأن أبوته لآخر لا تنفعه بشيء، إنما ينفعه البلاغ عن الله، وأن يحمل له منهج ربه الذي يسعده في دينه ودنياه.
إذن : ففرحكم برسول الله كرسول أولى من فرحكم به كأب، وإلا فما أكثر من لهم آباء، وهم أشقياء في الحياة لا قيمة لهم.
وقوله ﴿ مَّا كَانَ.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] النفي هنا يفيد الجحود، فهو ينكر ويجحد أن يكون أبا لأحد من رجالكم، وتأمل عظمة الأداء القرآني في كلمة ﴿ مِّن رِّجَالِكُمْ.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يقل مثلا أبا أحد منكم، لماذا ؟ قالوا : لأنه صلى الله عليه وسلم كان أبا لعبد الله وللقاسم ولإبراهيم، وكانوا جميعا منهم، وهو صلى الله عليه وسلم أبوهم، فجاءت كلمة ﴿ رِّجَالِكُمْ.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] لتخرج هؤلاء الثلاثة : لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال، فمحمد ما كان أبدا أبا أحد من الرجال، وإن كان أبا لأولاد صغار لم يصلوا إلى مرحلة الرجولة.
وقوله ﴿ وَلَكِن.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أهم من أبوته أن يكون رسول الله { وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ.. ( ٤٠ ) [ الأحزاب ] ليس هذا فحسب، ولكن أيضا { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ.. ( ٤٠ ) [ الأحزاب ] أي : الرسول والنبي الذي يختم الرسالات، فلا يستدرك عليه برسالة جديدة.
وهذه المسألة التي وقف عندها المستشرقون معترضين، يقولون : جاء في القرآن :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.. ( ٨١ ) ﴾ [ آل عمران ].
ومحمد صلى الله عليه وسلم من ضمن الأنبياء الذين أخذ عليهم هذا العهد، بدليل :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ.. ( ٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
إذن : أخذ الله العهد على الأنبياء أنه من ضمن مبادئهم أن يبلغوا قومهم بمقدم رسول جديد، وأنه إذا جاءهم عليهم أن يؤمنوا به، وأن ينصروه، كما بشر مثلا عيسى عليه السلام برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.. ( ٦ ) ﴾ [ الصف ]
فكيف يخبر الله عن محمد أنه خاتم النبيين وهو واحد منهم ؟ نقول : نعم هو واحد منهم، لكن إن كانوا قد أمروا بأن يبشروا وأن يبلغوا أقوامهم برسول يأتي، فقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه أنه خاتم الأنبياء والرسل.
لذلك يروى أن رجلا ادعى النبوة في زمن المأمون، فأمر به فوضع في السجن، وبعد عدة أشهر ظهر رجل آخر يدعي النبوة، فرأى المأمون أن يواجه كل منهما الآخر، فأحضر المدعى الأول وقال له : إن هذا الرجل يدعي أنه نبي، فماذا تقول فيه ؟ قال : هو كذاب، لأنني لم أرسل أحدا فارتقى إلى منزلة الألوهية، لا مجرد أنه نبي.
والمرأة التي ادعت النبوة أيضا في زمن المأمون لما أوقفها أمامه يسألها قال لها : ألم تعلمي أن رسول الله قال : لا نبي بعدي١ ؟ قالت : بلى، ولكنه لم يقل لا نبية بعدي !
ثم يختم الحق سبحانه هذه المسألة بقوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٤٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] وما دام أن الله تعالى عليم بكل شيء فليس لأحد أن يعترض، لأنه سبحانه هو الذي يضع الرسول المناسب في المكان المناسب والزمان المناسب، وقد علم سبحانه أن رسالة محمد تستوعب كل الزمان وكل المكان.
١ مما روي دليلا على أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سعد بن أبي وقاص قال: "حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان. قال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون وهوسى، غير أنه لا نبي بعدي، أخرجه أحمد في مسنده (١/١٨٢)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( ٤١ ) ﴾
أمرنا ربنا سبحانه بذكره ذكرا كثيرا، لأن الذكر عمدة العبادات وأيسرها على المؤمن، لذلك نجد ربنا يأمرنا به عند الانتهاء من العبادات كالصلاة والصيام والحج، وجعله سبحانه أكبر فقال :﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ]
والذكر شغل الذاكرة، وهي منطقة في المخ، قلنا : إن المعلومة يستقبلها الإنسان في بؤرة شعوره، فإذا أراد أن يحتفظ بها لحين الحاجة إليها حفظها في الحافظة، أو في حاشية الشعور، فأنت مثلا ترى شخصا فتقول : هذا الرجل لم أره منذ عشرين سنة، وآخر مرة رأيته كان في المكان الفلاني.
إذن : الذكر لشيء كان موجودا في بؤرة الشعور، الذكر يعني قضية موجودة عندك بواقع كان لها ساعة وجودها، لكن حصلت عنها غفلة نقلتها إلى حاشية الشعور أو الحافظة، بعد ذلك نريد منك ألا تنساها في الحاشية أو في منطقة بعيدة بحيث تحتاج إلى مجهود لتذكرها، إنما أجعلها دائما في منطقة قريبة لك، بحيث يسهل عليك تذكرها دون عناء.
وكذلك ينبغي أن يكون ذكرك لله، فهو القضية الحيوية التي ينبغي أن تظل على ذكر لها دائما وأبدا، وكيف تنسى ذكر ربك وقد أخذ عليك العهد، وأنت في عالم الذر، وأخذ منك الإقرار بأنه سبحانه ربك، الحق سبحانه خلق العقل ليستقبل المعلومات بوسائل الإدراك، كما قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) ﴾ [ النحل ]
فكأن السمع والبصر هما عمدة الحواس، وبهما نعلم ما لم نكن نعلمه حين نزولنا من بطون أمهاتنا، ونحن حين نستقبل المعلومات يظن بعض الناس أن الناس يختلفون في ذلك ذكاء وبلادة، فواحد يلتقط المعلومة من مرة واحدة، وآخر يحتاج إلى أن تعيدها له عدة مرات.
والواقع أن العقل مثل آلة ( الفوتوغرافيا ) يلتقط المعلومة من مرة واحدة شريطة أن يكون خاليا ومستعدا لاستقبالها غير مشغول بغيرها، لأن بؤرة الشعور لا تسع ولا تستوعب إلا فكرة واحدة، وهذه المسألة تناولناها في قوله تعالى :﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.. ( ٤ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فالإنسان الذكي هو الذي لا يشغل باله بأمرين في وقت واحد، ولا يفكر في شيء وهو بصدد شيء آخر، فإذا كانت بؤرة الشعور خالية فالناس جميعا سواسية في التقاط المعلومة.
لذلك، المدرس الموفق هو الذي يستطيع أن يجتذب إليه انتباه التلاميذ، ولا يعطيهم الفرصة للانشغال بغير الدرس، وهذا لا يتأتى إلا بالتلطف إليهم وإشراكهم في الدرس بالأسئلة من حين لآخر، ليظل التلميذ متوقعا لأن يسأل فلا ينشغل، لذلك رأينا أن الطريقة الحوارية هي أنجح طرق التدريس، أما طريقة سرد المعلومات فهي تجعل المدرس في واد والتلاميذ في واد آخر، كل منهم يفكر في شيء يشغله.
وسبق أن قلنا : إن الطالب حين يعلم بأهمية درس من الدروس فيذاكره وهو ذاهب للامتحان وهو يصعد السلم إذا جاءه هذا الدرس يجيب عنه بنصه، لماذا ؟ لأنه ذكره في الوقت الحرج والفرصة ضيقة لا تحتمل انشغالا ولا تهاونا، فيلتقط العقل كل كلمة ويسجلها، فإن أراد استرجاعها جاءت كما هي، لماذا ؟ لأنها صادفت العقل خاليا غير مشغول.
وتأمل عظمة الخالق سبحانه في مسألة التذكر، فالذاكرة جزء صغير في المخ، فكيف بالطفل الصغير الذي لا يتجاوز الثامنة يحفظ القرآن كاملا ويعيده عليك في أي وقت، ونحن نتعجب من شريط التسجيل الذي يحفظ لنا حلقة أو حلقتين.
والقرآن ليس حفظا فحسب، إنما معايشة، فحروف القرآن ملائكة، لكل حرف منه ملك، والملك يحب من يوده، فإذا كنت على صلة بالقرآن تكثر من تلاوته فكأنك تود الملائكة، فساعة تريد استرجاع ما حفظت تراصت لك الملائكة، وجرى القرآن على لسانك. فإن هجرته هجرك، وتفلت من ذاكرتك، لذلك حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجر القرآن، فقال : " تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا١ من الإبل في عقلها " ٢.
وسبق أن قلنا : إن الذكر هو العبادة الوحيدة التي لا تكلفك شيئا، ولا تعطل جارحة من جوارحك، ولا يحتاج منك إلى وقت، ولا إلى مجهود، وليس له وقت مخصوص، فمن ذكر الله قائما وذكر الله قاعدا وذكر الله على جنبه عد من الذاكرين هذا بالنسبة لوضعك ومن ذكر الله بكرة، وذكر الله أصيلا، أو غدوا وعشيا، أصبح من الذاكرين هذا بالنسبة للزمان.
ومن قال : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثلاثين مرة في اليوم كتب من الذاكرين، ومن استيقظ ليلا فأيقظ أهله، وصلى ركعتين فهو من الذاكرين.
إذن : فذكر الله مسألة سهلة تستطيع أن تذكر الله، وأنت تعمل بالفأس، أو تكتب بالقلم، تذكر الله وأنت تأكل أو تشرب.. إلخ فذكر الله وإن كان أكبر إلا أنه على المؤمن سهل هين.
١ تفصى من الشيء: تخلص. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن القرآن: "هو أشد تفصيا من قلوب الرجال من النعم من عقلها" أي: أشد تفلتا وخروجا. [لسان العرب ت مادة: فصى]..
٢ أخرجه أحمد في مسنده (١/٤٢٣) من حديث ابن مسعود، وأخرجه مسلم في صحيحه (٧٩١) كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي موسى الأشعري..
وقوله تعالى :
﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٤٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] التسبيح : هو التقديس، والتقديس هو التنزيه، فعن أي شيء ننزه الله ؟ قالوا : ننزه الله في ذاته، وفي أفعاله، وفي صفاته، فالله تعالى له وجود، ولك أنت وجود، وللنهر وللجبل وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجود ما سواه، وجوده تعالى عن غير عدم، أما وجود ما سواه فوجود عن عدم، هذا في الذات.
أما في الأفعال، فالله تعالى له فعل كما أن لك فعلا، لكن نزه ربك أن يكون فعله كفعلك، وهذا ما قلناه في حادثة الإسراء والمعراج، وفي الفرق بين سرى وأسري به، فإذا كان الفعل لله تعالى فلا تنظر إلى الزمن لأنه ليس فعلك أنت، بل فعل الله، وفعل الله بلا علاج، إنما يقول للشيء : كن فيكون.
وقلنا : إنه حتى في طاقات البشر نجد الفعل يأخذ من الزمن على قدر قوة فاعلة، فالولد الصغير ينقل في ساعة ما ينقله الكبير في دقيقة، فلو قست فعل الله بقدرته تعالى وجدت الفعل بلا زمن.
كذلك ننزه الله في صفاته، فالله تعالى له سمع نزه أن يكون كسمعك، وله وجه نزه أن يكون كوجهك.. إلخ كل هذا في إطار ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. ( ١١ ) ﴾ [ الشورى ].
وحين تستعرض آيات التسبيح في القرآن تجدها كثيرة، لكن للتسبيح طابع خاص إذا جاء في استهلالات السور، ففي أول الإسراء :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ.. ( ١ ) ﴾[ الإسراء ].
فبدأت السورة بتنزيه الله لما تحتويه من أحداث عجيبة وغريبة، لذلك قال بداية ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ.. ( ١ ) ﴾ [ الإسراء ] فالله له التسبيح والتقديس ثابت قبل أن يفعل، وسبحان الله قبل أن يوجد المسبح، كما أنه تعالى خالق قبل أن يوجد من خلق، فهو بالخالقية فيه أولا خلق، كما قلنا في الشاعر : تقول فلان شاعر، هل لأنك سمعت له قصيدة أم هو شاعر قبل أن يقولها ؟ هو شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.
والمتتبع لألفاظ التسبيح في القرآن يجد أنه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق المسبحين في قوله ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ.. ( ١ ) ﴾[ الإسراء ] ثم بعد أن خلق الله الخلق ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.. ( ١ ) ﴾ [ الحشر ].
وما يزال الخلق يسبح في الحاضر :﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ( ١ ) ﴾ [ الجمعة ] فتسبيح الله كان وما يزال إلى قيام الساعة، لذلك يأمر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ومعه أمته ألا يخرج عن هذه المنظومة المسبحة، فيقول له :
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( ١ ) ﴾ [ الأعلى ].
وجاء الأمر بذكر الله وبعد الأمر بتسبيحه تعالى، وكأنه يقول لك كلما ذكرته : نزهه ذاتا وصفاتا وأفعالا، فمن مصلحتك في رحلة الحياة ألا يكون لله مثيل ولا شبيه ولا نظير ولا ند، لأن الجميع سيكونون تحت عدله سبحانه، فتنزيه الله لمصلحتك أنت أيها المسبح.
وسبق أن ذكرنا في ذلك قول أهل الريف ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير )، فوجود كبير فوق الجميع يحميك أن يتكبر أحد عليك، إذن : عظمته تعالى وكبرياؤه من أعظم النعم علينا، فساعة تسبحه وتنزهه أحمد الله لأنه منزه، أحمد الله أنه لا شريك له، وأن الناس جميعا عنده سواء، احمد الله لأن كلامه وأمره نافذ على الجميع، أحمد الله أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب.
وكيف لا نذكر الله ولا نسبحه ونحمده، وهو سبحانه الذي خلق الخلق، وقبل أن يخلقهم رتب لهم غاياتهم والخلق : إيجاد على تقدير لغاية بل وأعد لهم ما يخدمهم، فطرأ الإنسان على كون معد لاستقباله، فقبل أن يخلقه خلق له.
ثم ما كلفك بمنهجه مباشرة، إنما تركك تربع في نعمه، منذ ميلادك إلى سن البلوغ بدون تكليف، ومعنى البلوغ أن تصل سن الرشد فتقبل على الله بعقل وفكر. فالدين ليس تقليدا إنما عقيدة واقنتاع.
وسبق أن شبهنا نضج الإنسان بنضج الثمرة، فالثمرة لا تحلو إلا حين تنضج بذرتها، وتصير صالحة للإنبات إن زرعت، وهذه من عظمة الخالق سبحانه، ولو أن الثمرة تحلو وتستوي قبل نضج بذرتها لأكلنا الثمار مرة واحدة، ولما انتفع بها أحد بعدنا، ومثلنا لذلك ببذرة البطيخ إن وجدتها سوداء صلبة فاعلم أن ثمرتها استوت وحلت وصارت صالحة للأكل، وهذه المسألة جعلها الخالق سبحانه لحفظ النوع.
شيء آخر : بعد أن بلغت سن التكليف، أجاءك التكليف مستوعبا لكل حركة في حياتك ؟ أجاءك قيدا لك ؟ حين تتأمل مسائل التكليف تجدها في نطاق محدود أمرك الله فيه بافعل كذا ولا تفعل كذا، وهذه المنطقة لا تشغل أكثر من خمسة في المائة من حركة حياتك، وترك لك نسبة الخمسة والتسعين أنت حر فيها، تفعل أو لا تفعل، فأي عظمة هذه ! وأي رحمة التي يعاملنا بها ربنا عز وجل ! وهذا إن دل فإنما يدل على حب الخالق سبحانه لخلقه وصنعته. أفلا يستوجب ذلك منا ألا نغفل عن ذكره، وأن نكثر من تسبيحه وشكره، في كل غدوة وعشية.
والأعظم من هذا كله أنه سبحانه وتعالى جعل ذكرك له وتسبيحك إياه لصالحك أنت، وفي ميزانك، لذلك قال في الآية التي بعدها :
﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( ٤٣ ) ﴾
معنى ﴿ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ.. ( ٤٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] الصلاة هي الدعاء، والدعاء لا يكون إلا بطلب الخير للداعي، ولا يدعو إلا قادرا على هذا الخير، وعليه كيف نفهم هذا المعنى ؟ أيدعو ربنا نفسه تبارك وتعالى ؟ قالوا : إذا كانت نهاية الصلاة طلب الخير، وهذا الخير إذا طلب حصل، فالحق سبحانه هو الداعي، وهو الذي يملك مفاتح الخير كله، فهو الذي يصلي عليكم، وهو الذي يعطيكم، وهو الذي يرحمكم.
وأيضا يصلي عليكم الملائكة ﴿ وَمَلَائِكَتُهُ.. ( ٤٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] وقد أخبرنا سبحانه عنهم أنهم ﴿ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ( ٢٦ ) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( ٢٧ ) ﴾ [ الأنبياء ]
وقال :﴿ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ٦ ) ﴾ [ التحريم ].
والملائكة أقسام : منهم المكلفون بخدمتنا ومنافعنا في الأرض، ومنهم من يحفظنا من الأحداث التي قد تفاجئنا بإقدار الله لهم عليها، ومنهم الحفظة والكرام الكاتبون، وهؤلاء الملائكة المتعلقون بنا هم الذين أمروا بالسجود لآدم عليه السلام في قوله تعالى :﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( ٢٩ ) ﴾ [ الحجر ].
وهذا دليل على أنهم سيكونون في خدمته.
وكأن الله تعالى قال لإبليس : طلبت منك أن تسجد لآدم، وطلبت من الملائكة وأنت معهم، فإن كنت من الملائكة فينبغي أن تستجيب، وإن لم تكن من الملائكة وحشرتك بطاعتك في زمرتهم كان يجب عليك أن تطيع لأن الأعلى منك سجد.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثل، ولله تعالى المثل الأعلى قلنا :
إذا أعلن في أحد الدواوين الحكومية أن الرئيس سيزور هذا الديوان يوم كذا، وعلى الوزراء أن يصطفوا لتحيته، ألم يشمل هذا الأمر وكلاء الوزارة من باب أولى ؟
فإذا قال الله للملائكة : اسجدوا لآدم وكان معهم إبليس وهو أقل منهم، فكان عليه أن يسجد. ثم إن كنت يا إبليس أخذت منزلة أعلى من الملائكة بالطاعة، فلا بد أن تكون طاعتك لله على هذه المنزلة فأنت ملوم على أي حال، إلا أنه كان من الجن، والجن مختار، ففسق عن أمر ربه.
وهناك نوع آخر من الملائكة لا دخل لهم بالإنسان ولا بدنياه، وهم الملائكة العالون أو المهيمون، وهم الذين قال الله فيهم لما أبى إبليس أن يسجد قال له ربه :
﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( ٧٥ ) ﴾ [ ص ].
وهؤلاء العالون لم يشملهم الأمر بالسجود، لأنهم لا يدرون شيئا عن آدم، وليس لهم علاقة به، وأخصهم حملة العرش وهم أكرم الملائكة، وهؤلاء هم الذين يصلون عليكم بعد أن صلى الله عليكم، لذلك يبين لنا الحق سبحانه هؤلاء الملائكة ودورهم في الصلاة علينا والاستغفار لنا، فيقول سبحانه :
﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا.. ( ٧ ) ﴾ [ غافر ].
فهؤلاء هم أخص الملائكة وأكرمهم يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، لكن ما فائدة ( يؤمنون به ) بعد أن سبحوه ؟ قالوا : لأن التسبيح قد يكون عن خوف ورهبة، أما تسبيح هؤلاء فتسبيح عن حب وعن إيمان، وأنه سبحانه وتعالى يستحق أن يسبح، ومن مهام هؤلاء أيضا أنهم يستغفرون للذين آمنوا، وإن لم تكن لهم علاقة بالناس وليسوا في خدمتهم، إلا أنهم يصلون عليهم ويستغفرون لهم.
إذن : نقول الصلاة من مالك الدعوة القادر على الإجابة رحمة وعطف وحنان، والصلاة ممن دونه دعاء للقادر المالك للخير، فهم يدعون الله للمؤمنين ويستغفرون الله لهم، بل ويبالغون في الدعاء ويتعطفون فيه :﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ٧ ) ﴾ [ غافر ].
بل لم يقفوا عند حد طلب النجاة للمؤمنين من النار، إنما يطلبون لهم الجنة ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٨ ) ﴾ [ غافر ].
ثم يزيدون على ذلك :﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٩ ) ﴾ [ غافر ].
ووالله، لو أراد المؤمن أن يدعوا لنفسه ما وجد أعم ولا أشمل من دعاء الملائكة له، فبعد أن طلبوا له المغفرة والنجاة من النار لم يتركوه هكذا في أهل الأعراف، لا هم في الجنة، ولا هم في النار، إنما سألوا الله لهم الجنة عملا بقوله تعالى :﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.. ( ١٨٥ ) ﴾ [ آل عمران ].
وهذه المسألة من المسائل التي وقف أمامها المستشرقون، فقالوا : إنها تتناقض مع الحديث النبوي : " ما من يوم تطلع شمسه إلا وينادي ملكان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " ١، فكيف تقولون : إن الملائكة يدعون للناس بالخير وهم يدعون عليهم بالشر ؟
وهم معذورون في اعتراضهم، لأن ملكاتهم لا تستطيع فهم المعاني في الحديث الشريف، والتناقض في نظرهم في قوله صلى الله عليه وسلم : " ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلف "، فالأولى واضحة لا تناقض فيها، لأنها دعوة بالخير، أما الثانية فهي دعوة بالشر. " اللهم أعط ممسكا تلفا ".
ولو تأملوا نص هذه العبارة لوجدوا فيها الجواب، فالتلف يعطي أم يأخذ ؟ المفروض أنه يؤخذ، فحين يقول رسول الله : " اللهم أعط ممسكا تلفا " فاعلم أنه عطاء لا أخذ وإن كان في ظاهره تلفا، والمعنى أن شيئا شغلك وفتنك فتصيبك فيه مصيبة تخلصك منه فتعود إلى ربك، إذن : هو أخذ في الظاهر عطاء في الحقيقة.
ثم يبين لنا الحق سبحانه العلة في صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين، فيقول ﴿ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور.. ( ٤٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] فكأن منهج الله بافعل ولا تفعل هو أول صلاة الله علينا، لأنه الوسيلة التي تخرجنا من الظلمات إلى النور، وجاء هنا بالشيء الحسي لنقيس عليه المعنوي، فأنت في النور ترى طريقك وتهتدي إلى غايتك بلا معاطب، أما في الظلام فتتخبط خطاك وتضل الطريق في الظلام، تسير على غير هدى، وعلى غير بصيرة، فتحطم الأضعف منك، ويحطمك الأقوى منك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا حين ننام بالليل أن نطفئ المصابيح فيقول :
" وأطفئوا المصابيح إذا رقدتم " ٢ وقد أثبت العلم أن للأنوار المضاءة أثناء النوم تأثيرا ضارا على صحة الإنسان، وأنه لا يرتاح في الضوء الراحة التامة لما يصيبه أثناء النوم من إشعاع الضوء، كما حذرونا أيضا من التعرض لأضواء التليفزيون مثلا.
إذن : للنور مهمة، وللظلمة مهمة هذا في الحسيات.
كذلك منهج الله بافعل ولا تفعل هو النور المعنوي الذي يقيك العطب، ويمنحك الإشراقات التي تهتدي بها في دروب الحياة، لذلك قال تعالى بعدها :﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( ٤٣ ) ﴾ [ الأحزاب ].
لكن إن كان سبحانه رحيما بالمؤمنين، فما بال الكافرين ؟ قالوا : هو سبحانه بالكافرين رحمن، فالله تعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن رحمن الدنيا يعني أن خيره يعم الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما في الآخرة فتتجلى صفة الرحيم، لأن رحمته في الآخرة تخص المؤمنين دون غيرهم.
والحق سبحانه حين يقول :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] لا يعني هذا وصفا لذاته سبحانه، إنما يعني أنه سبحانه نور السموات والأرض أي : منورهما كما نقول : المصباح نور المسجد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بقول أبي تمام في مدح المعتصم :
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
وعمرو مضرب المثل عند العرب في الشجاعة، وحاتم في الكرم، وأحنف بن قيس في الحلم، وإياس بن معاوية في الذكاء.
فقام إليه أحد الحاضرين وقال له وكان حاقدا عليه : أمير المؤمنين فوق ما تقول، أتشبهه بأجلاف العرب ؟ وأنشأ يقول :
وشبهه المداح في البأس والندى
بمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفا كعتنر
وفي خزانه ألف حاتم
عندها أطرق أبو تمام هنيهة، ثم قال :
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
إذن : فالنور المعنوي يجنبك العطب المعنوي، كما أن النور الحسي ينجيك العطب الحسي، لذلك قال سبحانه عن نوره ﴿ نُورٌ عَلَى نُور.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] يعني : نور حسي يقيكم المعاطب الحسية، ونور معنوي يقيكم المعاطب المعنوية ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] والمراد به هنا النور المعنوي الذي يهتدي به المؤمن ويسير عليه، أما الكافر فهو لا يعرف إلا النور الحسي فقط.
فإن سألت : فأين نجد هذا النور يا رب ؟ يجيبك ربك :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.. ( ٣٧ ) ﴾ [ النور ]
فإن أردت النور الحق فهو في خلوتك مع ربك وفي بيته، حيث تتجلى عليك إشراقاته ويغمرك نوره.
وقبل أن نترك مسألة صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين نذكر صلاتنا نحن على النبي صلى الله عليه وسلم، عملا بقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾ بالأحزاب ].
فالصلاة من الله تعالى تعني الحنان والرحمة والعطف، والصلاة من الملائكة تعني الدعاء والطلب من الذي يملك، أما الصلاة منا نحن على سيدنا رسول الله، فالبعض يظن أنها دعاء منا لرسول الله، وهي ليست كذلك، لأنك تقول في الصلاة على رسول الله : اللهم صل على محمد، فأنت لا تصلي عليه صلى الله عليه وسلم، إنما تطلب من الله تعالى أن يصلي عليه، لكن كيف تطلب من الله أن يصلي على رسوله ؟ قالوا : لأن كل خير ينال الرسول منثور على أمته.
والحق سبحانه وتعالى لم يدع محمدا يصلي عليه كل من آمن به، ثم لا يرد رسول الله عليه هذه التحية بصلاة مثلها، فقال سبحانه :﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ التوبة ] وكأنها رد للتحية ولصلاة المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١ أخرجه مسلم في صحيحه (١٠١٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ أخرج البخاري في صحيحه (٣٢٢٨٠) من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استجنح الليل ـ أو كان جنح الليل ـ فكفوا صبيانكم، فإن لشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم وأغلق بابك، واذكر بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله وخمر إناءك، واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( ٤٤ ) ﴾
الكلام هنا عن الآخرة، وهذه التحية، وهذا السلام ليس منا، ولكن من الله، كما قال في موضع آخر ﴿ سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( ٥٨ ) ﴾ [ يس ]
فالرحمة التي ننالها، والعطف والحنان من الله لنا في الدنيا يعني : سدادا في حركة الحياة، واستقامة في السلوك، وراحة للبال، واطمئنانا للنفس، لكن مع هذا لا تخلو الدنيا من منغصات وأحداث تصيبك، أما رحمة الله في الآخرة فهي سلام تام، لا ينغصه شيء. والإنسان أيضا يتمتع بنعم الله في الدنيا، لكن ينغصها عليه خشية فواتها.
أما في الآخرة فيتمتع متعة خالصة، لا ينغصها شيء، فالنعمة دائمة باقية لا يفوتها ولا تفوته، لقد كان في الدنيا في عالم الأسباب وهو الآن في الآخرة مع المسبب سبحانه الذي يقول :﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
لكن : ما المراد بقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أيوم القيامة للثواب، أم يوم يلقونه بالموت وبانتهاء الحياة، كما نقول مثلا في الموت، فلان لقي ربه ؟ قالوا : المؤمن لا يأتيه ملك الموت إلا إذا سلم عليه أولا قبل أن يقبض روحه، فإذا سلم عليه فهذا يعني أنه من أهل السلام، وهذه أول مراتبه. وقد يكون المراد السلام التام الذي يلقاه المؤمن يوم القيامة حيث يجد سلاما لا منغصات بعده.
لذلك نجد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرات الموت تقول له السيدة فاطمة لما رأت ما يعانيه : واكرباه يا أبتاه، فيقول لها " لا كرب على أبيك بعد اليوم " ١ فأي كرب على رسول الله بعد أن ينتقل إلى جوار ربه، إلى السلام النهائي الذي لا خوف بعده.
ثم يقول سبحانه ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( ٤٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] فوصف الأجر نفسه بأنه كريم، والذي يوصف بالكرم الذي أعد الأجر، فوصف الأجر بأنه كريم يعني أن الكرم تعدى من الرب سبحانه الذي أعده إلى الأجر نفسه، حتى صار هو أيضا كريما.
ومثال ذلك قوله تعالى :﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ] فتعدى الكرم من الرازق إلى الرزق، لأن الرزق في الدنيا له أسباب بأيدي الخلق، لكن الرزق في الآخرة يأتيك بلا أسباب، وليس لأحد فيه شيء، ولماذا لا يوصف بالكرم وهو يأتيك دون سعي منك، وبمجرد الخاطر تستدعيه فتراه بين يديك.
١ أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة في سننه (١٦٢٩) من حديث أنس بن مالك ان رسول الله قال لفاطمة عندما سمع مقالتها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة". واصله في البخاري (٤٤٦٢) أنه ثقال: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٤٥ ) ﴾ الشاهد : هو الذي يؤيد ويثبت الحق لصاحبه، لذلك يطلب القاضي شهادة الشهود ليأتي حكمه في القضية عن تحقيق وبينة ودليل، لذلك يقولون إن القاضي لا يحكم بعمله، إنما بالبينة حتى إن علم شيئا في حياته العامة، ثم جاء أمامه في القضاء يتركه ويتنحى عنه لقاض آخر يحكم فيه حتى لا يبني حكمه على علمه هو.
وحين تتأمل هذه المسألة تجد أن الله تعالى يريد أن يوزع مسئولية الحكم على عدة جهات، حتى إذا ما صدر الحكم يصدر بعد تدقيق وتمحيص وتصفية لضمان الحق.
فنرى مثلا إذا حدثت حادثة نذهب إلى القسم لعمل ( محضر ) بالحادث، ( المحضر ) يحيله ضابط الشرطة إلى النيابة، فتحيله النيابة للقاضي ليحكم فيه، ثم يعاد مرة أخرى للسلطة التنفيذية لينفذ، كل هذه الدورة يراد بها تحري الحق ووضعه في نصابه.
فما بالك إذا كان الحق سبحانه هو الذي يشهد، وهو الذي يحكم، وهو الذي ينفذ الحكم ؟ لا شك أن العدالة هنا ستكون عدالة مطلقة، فإن قلت : إذن علام يشهد رسول الله ؟
قالوا : يشهد رسول الله أنه بلغ أمته، كما يشهد الرسل جميعا أنهم بلغوا أممهم كما قال سبحانه :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ( ٤١ ) ﴾ [ النساء ].
إذن : كل رسول شهيد على أمته، وأنت شهيد على هذه الأمة أنك قد بلغتها، لكن ميزتك على من سبقك من إخوانك الرسل أن تكون خاتمهم، فلا نبي بعدك، ولذلك سأجعل من أمتك من يخلف الأنبياء الذين يأتون بعد الرسل في مهمتهم.
لذلك جاء في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " ١.
إذن : ضمن الحق سبحانه في أمة محمد أن يوجد فيهم من يقوم بمهمة الأنبياء في البلاغ، وهذا معنى ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.. ١٤٣ ) ﴾ [ البقرة ].
وكلمة الناس هنا عامة، تشمل آدم عليه السلام وذريته إلى قيام الساعة، فإن قلت كيف ؟ نقول : يشهدون على الناس بشهادة القرآن أن الرسل قد بلغت أممها، هذا بالنسبة لمن مضى منهم، أما من سيأتي فأنتم مطالبون بأن تشهدوا عليهم أنكم قد بلغتموهم، كما يشهد عليكم رسول الله أنه قد بلغكم.
إذن : فأمة محمد أخذت حظا من النبوة، وهو أنها ستستدعى وتشهد على الناس.
لذلك يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لهذه المهمة، فيقول : " نضر الله امرءا، سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع " ٢.
واقرأ أيضا في ذلك قول الله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.. ( ١٤٣ ) ﴾ [ البقرة ] لماذا ؟ ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.. ( ١٤٣ ) ﴾ [ البقرة ] فهذه الأمة في الوسط، بحيث لا إفراط ولا تفريط، وما أشبهها بالميزان الذي لا تميل كفة عن الأخرى إلا بما يوضع فيها، فهي كالميزان العادل الذي لا يميل هنا أو هناك.
وقوله سبحانه ﴿ وَمُبَشِّرًا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] لمن استجاب لك بثواب الله، والبشارة هي الإخبار بالخير قبل أوانه ﴿ وَنَذِيرًا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : منذرا لمن لم يصدقك بعقاب الله، والإنذار هو التخويف بشر لم يأت أوانه
١ قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص٢٨٦): "قال ابن حجر والزركشي: لا أصل له". وكذا قال السيوطي في "الدرر المنتثرة" (ص٣٠٩) قال العلجوني في كشف الخفاء (١٧٤٤): "زاد بعضهم: ولا يعرف في كتاب معتبر.. وأشار إلى الأخذ بمعناه التفتازاني وفتح الدين الشهيد وأبو بكر الموصلي والسيوطي في الخصائص"..
٢ أخرجه أحمد في مسنده (١/٤٣٧) والترمذي في سننه (٢٦٥٧، ٢٦٥٨) وابن ماجة في سننه (٢٣٢) والحميدي (١/٤٧) من حديث عبد الله بن مسعود..
أي : بأمر منه، لا تطوعا من عندك، فقد يأتي زعيم من الزعماء أو مصلح من المصلحين بمنهج أو بأفكار من عنده ويبثها في مجتمعه.
فقوله تعالى ﴿ بِإِذْنِهِ.. ( ٤٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] يبين الفرق بين الرسول والمصلح من البشر، فهذا الذي جاء به محمد من عند الله، وما بلغكم به إلا بأمر الله.
ويشترط فيمن يدعو إلى منهج الخير ثلاثة شروط :
الأول : ألا ينتفع بشيء مما يدعو إليه، وهذا لا يوجد في بشر أبدا، وقد رأينا : حينما قنن الرأسماليون غبنوا العمال، وحينما قنن الاشتراكيون غبنوا الرأسماليون.. وهكذا.
وذلك لأن البشر لهم أهواء مختلفة متعددة، وكل يريد أن يقنن على هواه، وبما يخدم مصالحه، يريد أن يسخر غيره لخدمة هواه، وبعد فترة قد تطول تفضحهم التجارب، ويفضحهم الواقع، وتظهر لهم أنفسهم مساوئ ما قننوا حتى يثوروا هم على قوانينهم، وينتفضوا على أنفسهم، ويعودوا إلى تعديل هذه القوانين.
الشرط الثاني : أن يكون عل علم بالأحداث المحتملة بعد أن يقنن، وألا تغيب عنه جزئية من جزئيات الموضوع، فيحتاج إلى تعديل القانون أو الاستدراك عليه.
ثالثا : يشترط فيمن يقنن أن يكون حكيما فيما يقنن، بحيث يضع الأمر في موضعه، فلا ينصف جماعة على حساب أخرى، وأن يكون الجميع أمامه سواء.
وحين تتأمل هذه الشروط الثلاثة تجدها لا تتوفر إلا في الحق سبحانه وتعالى، إذن : ينبغي ألا يقنن للبشر إلا رب البشر، وسبق أن أوضحنا هذهالسألة بمثال من المحسوسات، فالناس في الظلمة يحتاجون لبعض النور، ليهتدوا به إلى قضاء مصالحهم في الليل، فينير كل منا ليله بما يناسبه من وسائل الإضاءة، فواحد يشعل شمعة، وآخر لمبة ( نمرة خمسة ) وآخر لمبة ( نمرة عشرة )، وبعد ما استخدمنا الكهرباء رأينا اللمبة العادية والفلوروسنت والنيون والكرستال.. إلخ.
إذن : أنتم تنيرون ظلمتكم على قدر إمكاناتكم، فإذا ما أشرقت شمس الصباح، أتبقون على هذه الأنوار ؟ لا بل يطفئ الجميع أنواره، لأن نور الشمس يأتي على قدر إمكانات خالقها عز وجل، لذلك نقول : أطفئوا مصابيحكم، فقد طلعت شمس الله، فإذا كان ذلك في النور الحسي فهو أيضا ومن باب أولى في النور المعنوي، فإذا جاءك نور التشريع ونور المنهج من الله، فأطفئ ما عداه من تشريعات ومناهج.
وقوله تعالى :﴿ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا( ٤٦ ) ﴾ شبه الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالسراج، ولا تستقل هذا الوصف في حق رسول الله، فليس معنى السراج أنه كالسراج الذي يضيء لك الحجرة مثلا، إنما هو كالسراج الذي قال له عنه :﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( ١٣ ) ﴾ [ النبأ ] والمراد الشمس.
فإذا قلت : فلماذا لم يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شمس، وقد قال تعالى عنها :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً.. ( ٥ ) ﴾ [ يونس ]
والشمس أقوى من السراج ؟ قالوا : الكلام هنا كلام رب والأسلوب دقيق معجز، صحيح أن الشمس تنير الدنيا كلها، إنما أمة محمد مكلفة أن تقوم بدعوته من بعده، فكان رسول الله سراج، والسراج تأخذ منه النور دون أن ينقص نوره، لكن لا تستطيع أن تأخذ من الشمس.
وحين سطعت أنوار الهداية على لسان رسول الله محمد لم يعد للشرائع الأولى أن تتدخل على حدّ قول المادح :
كأنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ثم يقول الحق سبحانه :١
﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ( ٤٧ ) ﴾.
نقول في الدعاء اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل ؛ لأن العدل أن تأخذ الجزاء المساوي للعمل، أو تأخذ حقك، أما الفضل فأن تأخذ فوق حقك وزيادة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ يونس ].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " لأنني حين أحسب عملي مقابل ما أعطاني ربي من نعم قبل أن أخلق، وإلى أن أبلغ وأكلف، أجد أنني لو قضيت حياتي كلها في طاعة ربي ما وفيّت بحقه عليّ.
ثم من ناحية أخرى تجد أن العبادة والطاعة نفعها يعود إليك أنت، ولا ينتفع الله تعالى منها بشيء، فإذا كانت الطاعة والعبادة يعود نفعها إليك، إذن : فالثواب عليها يكون فضلا من الله.
ومثّلنا لذلك ولله المثل الأعلى بولدك تشجعه على المذاكرة، وتحضر له أدواته، وتنفق عليه طوال العام، فإذا ما نجح آخر العام أعطيته هدية أو مكافأة، فهذه الهدية من باب الفضل.
لذلك، إن أردت أن تصلح بين متخاصمين، أو تؤلف بينهما، فقل لهم : أتحبون أن أحكم بينكم بالعدل أم بالفضل ؟ سيقولون لك : ليس هناك أفضل من العدل، وعندها لك أن تقول : بل الفضل أحسن من العدل ؛ لأن العدل أن تأخذ حقك من خصمك، والفضل أن تترك حقك لخصمك لتأخذه من يد ربك عز وجل.
وهذا ما رأيناه مطبقا في قصة الإفك بين سيدنا أبي بكر حين عفا عن مسطح٢ بعد أن نزل قوله تعالى :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ].
فمن أراد أن يغفر الله له ذنوبه فليغفر لأخيه زلّته وسوأته.
١ قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بيّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) [الشورى]. [نقله القرطبي في تفسيره ٨/٥٤٧٠]..
٢ هو: مسطح بن أثاثة بن عباس بن المطلب، كان اسمه عوفا، أما مسطح فهو لقبه وأمه بنت خالة أبي بكر، كان أبو بكر يمونه لقرابته منه، فلما خاض مع أهل الإفك في أمر عائشة حلف أبو بكر ألا ينفق عليه فنزلت {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى.. (٢٢)﴾ [النور] فعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليه، وقد توفي مسطح عام ٣٤ ه في خلافة عثمان ويقال: مات عام ٣٧ ه وشهد صفين مع علي. [الإصابة في تمييز الصحابة (٧٩٢٩)]..

ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٤٨ ) ﴾.
في أول السورة خاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهنا خاطبه ربه بقوله :﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٤٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالأولى كانت في بداية الدعوة، حين أخذ الكفار يكيدون لرسول الله، فما بالك وقد قويت الدعوة، واشتد عودها، لا بدّ أن يتضاعف كيد الكافرين لرسول الله.
لذلك يكرر له مسألة ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ.. ( ٤٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولا يعني ذلك أنني سأسلمك، إنما أنا وكيلك ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٤٨ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فإن قلت : كيف والوكيل أقل من الأصيل ؟ نقول : لا، فالأصيل ما وكّل غيره، إلا لأنه عجز أن يفعل، فاختار الأقوى ليفعل له.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٤٩ ) ﴾.
تتحدث الآية عن مسألة اجتماعية تخص حفظ النوع، وحفظ النوع الإنساني لا يتأتى إلا بالزواج، وهو وسيلة التكاثر، وأولى مراحل الزواج مرحلة الخطبة، وكثيرون لا يفهمون معنى الخطبة وحدودها لكل من الرجل والمرأة، فالخطبة مجرد أن يذهب طالب البنت إلى وليّها ليقول له : أإذا تقدمت لطلب يد ابنتك أكون أهلا للقبول ؟
فيقول وليّها : مرحبا بك، هذه تسمى خطبة، وربما لا يتقدم، فإن تقدم لها، له أن يراها مرة واحدة بين محارمها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشاب الذي أراد الخطبة : " انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ١.
وعجيب أن يخلط الناس بين الخطبة والعقد، فيعطون الخطبة صفة العقد، فإذا قبل الولي الخاطب اتفق معه على المهر أو الشبكة وعلى كلّ تفاصيل الزواج، وأباح له أن يجلس مع ابنته، وأن يتحدث معها، وربما يختلى بها، وياليتهم جعلوها عقدا، فأخرجوا أنفسهم من هذا الحرج.
فالخطبة إن عدل عنها الخاطب ما عليهم إلا أن يذهب إلى وليّ البنت فيقول له : لقد طلبت منك يد ابنتك وأنا في حلّ من هذا الأمر، أما العقد فلا يفسخ قبل الدخول إلا بالطلاق، إذن : لا تجعلوها صورة خطبة وموضوعية عقد.
والحق سبحانه وتعالى يبين لنا في هذه الآية الكريمة ما يتعلق بأحكام الطلاق إن وقع قبل الدخول بالزوجة :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فالنكاح هنا مقصود به العقد فقط، وإلا لو قصد به المعنى الآخر لما قال ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] والمسّ كناية عن الجماع، وهو عملية دائما يسترها القرآن بألفاظ لا تدل عليه حقيقة.
والحكم هنا ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] فليس للزوج على زوجته عدّة إن طلقها٢ قبل أن يدخل بها ؛ لأن العدة إنما كانت لحكمة : فالعدة في حالة الطلاق الرجعي تعطي للزوج فرصة أن يراجع زوجته، وأن يعيدها بنفسه إلى عصمته، والعدة تكون لاستبراء الرحم والتأكد من خلوّه من الحمل، وقد تكون العدّة، لا لهذا ولا لذاك، ولكن لأنه توفي عنها٣.
فالعدّة قبل الدخول لها حكم، وبعد الدخول لها حكم آخر، وهذا الفرق يتضح كذلك في مسألة المهر، فقبل الدخول للزوجة نصف مهرها، كما قال سبحانه :﴿ فنصف ما فرضتم.. ( ٢٣٧ ) ﴾ [ البقرة ] وقال هنا :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] فإن سمى المهر بين الطرفين فلها نصفه، وإن لم يسمّ فلها نصف مهر المثل.
أما العدّة بعد الدخول ففيها تفصيل، بحيث تختلف من حالة لأخرى بما يناسب الحالة التي تشرع فيها العدة، والعدة كما قلنا : تدل على أنها شيء معدود، فإن كانت المرأة من ذوات الحيض، فهي ثلاث حيضات، ليتأكد خلالها استبراء الرحم، لكن الرحم يستبرئ من مرة واحدة، فلماذا جعلها الله ثلاث حيضات ؟
قالوا : الهدف من ذلك إعطاء الزوج فرصة، فقد يراجع نفسه وتهدأ نفسه، فيراجع زوجته في هذه المدة، فالشرع هنا يراعي بناء الأسرة، ألا ترى أن الحق سبحانه شرع التقاء الزوج بزوجته بكلمة : زوجني وزوجتك، أما في حالة الطلاق والفراق بين الزوجين، فجعله على ثلاث مراحل، لأن الله تعالى يريد ألاّ يجعل للغضب العابر سبيلا لنقض كلمة الله في الزواج.
وأذكر أنهم كانوا يسألوننا سؤالا وكأنه لغز : أو يعتدّ الرجل ؟ أو : أو ليس للمرأة عدة عند الرجل ؟ قالوا : نعم، يعتدّ الرجل في حالة واحدة وهي : إذا تزوج امرأة ثم طلقها، وأراد أن يتزوج بأختها، فعليه أن يمضي العدة ليحل له الزواج بأختها.
أما عدّة التي انقطع عنها الحيض فثلاثة أشهر، وعدة الحامل أن تضع حملها، أما عدة المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيام، لكن ما الحكم إذا اجتمع للمرأة مع وفاة الزوج، فكيف تعتد ؟ قالوا : تعتد في هذه الحالة بأبعد الأجلين : الحمل، أو الأربعة أشهر وعشرة أيام.
ولك أن تسأل : لماذا كانت عدة المطلقة ثلاثة أشهر، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ؟ قالوا : لأن هناك فرقا بين الطلاق والوفاة بالنسبة لعلاقة الزوج بزوجته، سببه أن الذي خلق الذكر والأنثى جعل هناك كلمة تجمعهما، هذه الكلمة هي : زوجني وزوّجتك شريطة أن تكون علانية على رءوس الأشهاد، ولا تستهن بهذه الكلمة، فأنت لا تعلم ما الذي تصنعه هذه الكلمة في ذرات التكوين الإنساني، ولكنك تعرفها بآثارها.
وقلنا : هب أنك تعرضت لشاب تعودّ معاكسة ابنتك مثلا، ماذا تصنع أنت ؟ لا شكّ أنك ستثور، ويفور دمك، وتأخذك الغيرة، وربما تعرضت له بالإيذاء، أما إن جاء من الباب، وطلب يدها منك ترحب به وتسعد ويفرح الجميع، فما الذي حدث ؟ وما الفرق بين الموقفين ؟ فالذي أهاجك انه تلصّص عليها من غير إذن خالقها، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم :( اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله )٤.
ويقول رسول الله لرجل كان مشهورا بالغيرة على بناته، وقد جاء يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زواج إحدى بناته، فضحك رسول الله وقال : " جدع الحلال أنف الغيرة ".
فالعقد الذي يجمع الزوجين على كلمة الله يجعل الله به بين الزوجين سيالا حلالا عند كل منهما، ويلتقي هذان السيالان في الحلال وتحت مظلة الشرع الذي جمعهما.
وعادة ما يصاحب الطلاق بغض من الطرفين، أو كره من أحدهما للآخر، لذلك تكون العدة بينهما ثلاثة أشهر أو وضع الحمل، لأن الكراهية التي حدثت بينهما تميت خلايا الالتقاء بين الأنسجة، وتسرع بانتهاء ما بينهما من سيال وتطمسه.
أما في حالة موت الزوج، فقد قطع النكاح قدريا من الله، فعادة ما تكون الزوجة محبة لزوجها، حزينة على فقده، وتأتي فاجعة الموت، فتزيدها حبا له، وفي هذه الحالة ليس من السهل أن ينتهي السيال بينهما ؛ لذلك يشاء الخالق سبحانه أن يطيل أمد العدة إلى أن ينتهي هذا السيال الذي جمعهما، فلا يدخل على سيال الرجل سيال جديد، فيحدث صراع بين السيالين، لذلك كانت عدّة المتوفي عنها زوجها أطول من عدة المطلقة.
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : أن الطلاق قبل المسّ والدخول كان موجودا كما هو موجود الآن، ونحن نرى الطرفين أو أحدهما يتعجل العقد، رغم أنه غير مستعد لنفقات الزواج، إنما يتعجله لمصلحة تعود عليه من هذا الارتباط.
وقد ذكر لنا التاريخ أن كثيرا من الأسر، خاصة الأسر العربية الأصيلة كانت تفعل ذلك، لكنهم لم يكونوا يسمحون للزوج في هذه الحالة أن يختلي بالزوجة، وإن كان عاقدا عليها، وبعض فتياتنا لهن قصص مشرّفة في هذه المسألة.
ومما روى في هذا الصدد قصة بهيثة بنت أوس بن حارثة الطائي والحارث بن عوف، وهو سيد من سادات بني مرة، وكان للحارث ابن عوف صديق اسمه ابن سنان، وفي ليلة جلس الحارث يتسامر مع صديقه ابن سنان فقال له : ترني لو أنني خطبت إلى أحد من العرب ابنته أيردّني ؟ قالها وهو معتز بنفسه فخور بسيادته على قومه.
فلما رآه صاحبه على هذه الحالة قال له : نعم هناك من يردّك، قال : من ؟ قال : أوس بن حارثة الطائي، فنادى الحارث على غلامه وقال : أحضر المراكب، وهيا بنا إلى أوس بن حارثة الطائي، فذهبوا إليه، فوجدوه جالسا في فناء بيته، فلما رآه أوس قال له : مرحبا بك يا حارث، فأقبل عليه الحارث، وقال : ويك يا أوس، ما الذي جاء بك ؟ وتركه على دابته قال : جئتك خاطبا لابنتك، فقال له : لست هناك يعني لست أهلا لها فلوى الحارث زمام دابته منصرفا، في حين بدا على ابن سنان الارتياح، لأن كلامه صدق في صاحبه.
فلما دخل أوس على امرأته سألته : من رجل وقف معك فلم يطل ولم ينزل ؟ قال : إنه الحارث بن عوف سيد من سادات بني مرة، فقالت : ولماذا لم تستنزله عندك ؟ قال : لقد استحمق يعني : ارتكب حمقا قالت : وكيف هذا ؟ قال : إنه جاء يخطب ابنتي، قالت : عجبا أو لا تريد أن تزوج بناتك ؟ قال : بلى، قالت : فإذا كنت لا تزوجهن من سادات العرب، فمن تزوجهن ؟ يا أوس، اذهب فتدارك الأمر، قال : كيف وقد فرط مني ما فرط ؟ قالت : الحق به، وقل له : إنك جئتني وأنا مغضب من أمر لا دخل لك فيه، ولما راجعت نفسي جئتك معتذرا أطلب منك أن تعود، ولك عندي ما تحب.
فذهب الرجل، فلم يجد الركب، فشدّ على راحلته، حتى صار بينهما في الركب، فالتفت ابن سنان، وقال : يا ابن عوف، هذا أوس يلحق بنا، فقال : وماذا أصنع به امض، فناداه أوس : يا حارث : اربع٥ عليّ ساعة، يعني : انتظرني ولك عندي ما تحب، ففرح الحارث وعاد معه.
عاد أوس إلى بيته، وقال لامرأته : ادعى ابنتك الكبرى، فجاءت، فقال : يا بنية إن الحارث بن عوف سيد بني مرة جاء ليخطبك، فقالت : لا تفعل يا أبي، فقال : ولم ؟ قالت : إنني امرأة في وجهي ردّة يعني قبح يردّ من يراني وفي خلقي عهدة أي عيب وليس بابن عم لي فيرعى رحمي، ولا بجار لك في بلدك فيستحي منك، وأخاف أن يكره مني شيئا، فيطلقني فيكون عليّ فيه ما تعرف. فقال لها : قومي، بارك الله فيك.
ثم قال لامرأته : ادعى ابنتك الوسطى فجاءت، فقال لها ما قال لأختها، فقالت : لا تفعل يا أبي، قال : ولم ؟ قالت : أنا امرأة خرقاء يعني : لا تحسن عملا وليست لي صناعة، وأخاف أن يرى مني ما يكره فيطلقني، ويكون فيّ ما يكون. فقال لها : قومي بارك الله فيك، وادعى أختك الصغرى، وكانت هذه هي بهيثة التي نضرب بها المثل في هذا الموقف.
لما عرض عليها أبوها الأمر قالت : افعل ما ترى يا أبي، قال : يا بنيتي، لقد عرضته على أختيك فأبتاه، قالت : لكني أنا الجميلة وجها، الصناع يدا، الرفيعة خلقا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه، فقال : بارك الله فيك. ثم قام إلى الحارث وقال : بورك لك يا حارث، فإني زوّجتك ابنتي بهيثة، فبارك الله لكما، قال : وأنا قبلت زواجها.
ثم قال لامرأته : هيئي ابنتك، واصنعي لها فسطاطا بفناء البيت، ولما صنع الفسطاط حملت إليه بهيثة، ودخل عليها الحارث، لكنه لم يلبث طويلا حتى خرج، فسأله ابن سنان : أفرغت من شأنك ؟ قال : لا والله، يا بن سنان، قال : ولم ؟ قال : جئت لأقترب منها. فقالت : أعند أبي وإخوتي ؟ والله لا يكون ذلك أبدا، فخرجت.
فقال : ما دامت لا ترضى وهي عند أبيها وإخوتها، فهيّا بنا نرحل، فأمر بالرحيل، وسار الركب بهم طويلا، ثم قال : يا بن سنان تقدم أنت يعني : أعطنا الفرصة فتقدم ابن سنان بالركب، وانحاز الحارث بزوجته إلى ناحية من الطريق ونصب خيمته، ثم دخل عليها فقالت له : ما شاء الله، أتفعل بي كما يفعل بالسبية الأخيذة، والأمة الجليبة ؟ والله لا
١ عن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قلت: لا. قال: فأنظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. أخرجه أحمد في مسنده (٤/٢٤٥، ٢٤٦٠)، والترمذي في سننه (١٠٨٧)، وابن ماجة في سننه (١٨٦٥) قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات"..
٢ هذا طلقها قبل الدخول بها، أما إذا توفي الزوج قبل أن يدخل بها فعليها العدة ولكن عدة المتوفى عنها زوجها كما لو كان قد دخل بها، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (٢٣٤)﴾ [البقرة]، وإنما وجبت العدة عليها وإن لم يدخل بها وفاء للزوج المتوفى ومراعاة لحقه" [فقه السنة ٢/٣٤٢]. وقال ابن قدامة في المغنى (٩/٧٨): "كل من توفى عنها زوجها، ولا حمل بها، قبل الدخول أو بعده، حرة أو أمة، فعدتها بالشهور"..
٣ العدة: مأخوذة من العدد والإحصاء، أي: ما تحصيه المرأة وتعده من الأيام والأقراء. وهي اسم للمدة التي تنتظر فيها المرأة وتمتنع عن التزويج بعد وفاة زوجها، أو فراقه لها. [فقه السنة ـ الشيخ سيد سابق ٢/٢٤١]..
٤ أخرجه مسلم في صحيحه (١٢١٨) كتاب الحج، وابن ماجة في سننه (٣٠٧٤)، وأبو داود في سننه (١٩٠٥) من حديث جابر بن عبد الله، في حديث طويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حجة الوداع..
٥ اربع على نفسك: كف وارفق. كذلك معناه: انتظر. فهو بمعنى التوفق والانتظار. [لسان العرب ـ مادة: ربع]..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ٢ الَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٠ ) ﴾.
الحق تبارك وتعالى لم يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باسمه العلم أبدا، كما خاطب غيره من الأنبياء فقال : يا نوح، يا عيسى، يا موسى، يا إبراهيم.. إلخ، أما رسول الله، فناداه ربه بقوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] و{ يا أيها الرسول.. ( ٤١ ) ؛ [ المائدة ].
ونداء الشخص باسمه العلم دليل على أنه ليست له صفة مميزة، فإن ملك صفة مميزة نودي بها تقول : يا شجاع، يا شاعر.. إلخ، الآن الجميع يشتركون في العلمية، إذن : فنداء النبي صلى الله عليه وسلم بيأيها النبي، ويأيها الرسول تكريم له صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] ما معنى ﴿ أَحْلَلْنَا.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] هنا ما دام الحديث عن أزواجه صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : معناها أنها كانت في منطقة محرّمة ثم أحلها الله له أي : جعلها حلالا، وهذا المعنى يتضح بقوله تعالى بعدها ﴿ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] كأن رسول الله أخذ بالحل أولا، بدليل أنه آتى الأجر والمهر.
ولقد كان للعلماء وقفة عند تسمية المهر أجرا، قالوا : كيف يسمى المهر أجرا، ومعنى الأجر في اللغة : جعل على منفعة موقوتة يؤديها المستأجر للمستأجر، أما النكاح فليس موقوتا، إنما من شروطه نية التأبيد والدوام ؟
وللجواب على هذه المسألة نقول : لا يصح أن تؤخذ الآيات، منفصلة بعضها عن بعض، إنما ينبغي أن نجمع الآيات الواردة في نفس الموضوع جنبا إلى جنب، ليأتي فهمها تاما متكاملا.
فالحق سبحانه يقول في موضع آخر مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم في شأن زوجاته :﴿ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : تؤخر استمتاعك بها ﴿ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : تضمها إليك.
إذن : ما دام لك أن ترجئ أزواجا منهن وتمنعهن من القسمة، ثم تضم غيرهن، فكأن المنفعة هنا موقوتة، فناسب ذلك أن يسمى المهر أجرا.
والحق سبحانه يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم في كل مراحل سيرته أزكى المواقف وأطهرها وأنبلها، فقوله تعالى ﴿ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما انتفع بهن إلا بعد أن أدّى مهرهن، في حين أن للإنسان أن يسمي المهر، ويدخل بزوجته دون أن يدفع من المهر شيئا، ويكون المهر كله أو بعضه مؤخرا، لكن تأخير المهر يعطي للمرأة حق أن تمتنع عن مضاجعته، فإن سمحت له فهو تفضل منها. إذن : فرسول الله اختار أكمل شيء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليبين للناس ما نزّل إليهم، وجعله ربه أسوة سلوكية في الأمور التي يعزّ على الناس أن يستقبلوها، فنفّذها رسول الله في نفسه أولا كما قلنا في مسألة التبني.
كذلك في مسألة تعدد الزوجات، فرسول الله أرسل والتعدد موجود عند العرب وموجود حتى عند الأنبياء السابقين، لكن أراد الله أن يحدد هذا التعدد تحديدا يمتص الزائد من النساء، ولا يجعله مباحا في كل عدد، فأمر رسوله أن يقول لأمته : من كان عنده أكثر من أربع فليمسك معه أربعا، ويفارق ما زاد عنهن، في حين كان عنده صلى الله عليه وسلم تسع زوجات.
فلو أن الحكم شمله، فأمسك أربعا، وسرّح خمسا لأصابهن ضرر كبير، ولصرن معلقات، لأنهن زوجات رسول الله وأمهات المؤمنين، وليس لأحد أن يتزوج إحداهن بعد رسول الله.
إذن : الحكم يختلف مع رسول الله، والعدد بالنسبة له أن يقتصر على هؤلاء التسعة بذواتهن، بحيث لو ماتت إحداهن أو طلقت فليس له أن يتزوج بغيرها، لأن الله خاطبه بقوله :﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وقد بيّنا للمستشرقين الذين خاضوا في هذه المسألة أن رسول الله لم يستثن في العدد، إنما استثني في المعدود، حيث وقف عند هؤلاء التسع بذواتهن، وليس له أن يتزوج بأخرى، أما غيره من أمته فله أن يتزوج ضعف أو أضعاف هذا العدد، شريطة ألاّ يزيد عن أربع في وقت واحد.
وكلمة ﴿ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] جاءت قبل ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] وقد ورد عن السيدة عائشة أنها قالت٣ : ما مات رسول الله حتى أبيح له أن يتزوج ما شاء، فكيف ذلك ؟
قالوا : لأن الله تعالى أراد أن يعطي لرسوله تميز الوفاء لأزواجه، فمع أن الله أباح له أن يتزوج بغيرهن، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل وفاء لهن، والرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك لأنه كان إذا حيى بتحية يحييّ بأحسن منها أو يردها بمثلها، وقد رأى صلى الله عليه وسلم من أزواجه سابقة خير حين خيرهن فاخترنه وفضلن العيش معه على زينة الدنيا ومتعها، فكأنه يردّ لهم هذه التحية بأحسن منها.
ومجيء ﴿ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] قبل ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] دليل على تكريم الرسول ومعاملته معاملة خاصة، فالله قد أحل له قبل أن يحرّم عليه، ومثال هذا التكريم قوله تعالى :﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.. ( ٤٣ ) ﴾ [ التوبة ] فسبق العتاب بالعفو.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أن الأزواج جاءت بصيغة المذكر ولم يقل زوجاتك، لأن الزوج يطلق على الرجل وعلى المرأة، والزوج في اللغة هو الواحد المفرد ومعه غيره من جنسه، وليس الزوج يعني الاثنين كما يعتقد البعض، ومثلها كلمة ( توأم ) فهي تعني الواحد الذي معه غيره، فكل منهما يسمّى توأما، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. ( ١٤٣ ) ﴾[ الأنعام ].
ثم يقول تعالى :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] نعرف أن ملك اليمين يقصد به المرأة المملوكة، وجاء قوله تعالى :﴿ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] احتياط، فملك اليمين بالنسبة لرسول الله جاء من طريق شرعي، جاء من الفيء والمراد أسرى الحروب.
وقد باشر صلى الله عليه وسلم السّبي بنفسه ؛ لأن من الإماء حرائر أخذن عنوة أو سرقن، ومنهن من بيعت في سوق الرقيق على أنها أمة، وهذا ما رأيناه فعلا في قصة سيدنا زيد بن حارثة، إذن : فقوله تعالى ﴿ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أنك ملكتها، وأنت واثق تمام الثقة أنها أمة وفىء أحله الله لك.
﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وكذلك أحلّ الله لنبيه أن يتزوج من بنات عمه، أو بنات عماته، أو بنات خاله، أو بنات خالاته، والعمومة : أقاربه من جهة أبيه، والخئولة أقاربه من جهة أمه، ونلاحظ أن رسول الله لم يتزوج لا من بنات عمه ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته.
والمعنى أن الله تعالى أحلّ له أن يتزوج من هؤلاء ما وجد، لأن قرابته سيكونون مأمونين عليه، ومعينين له على أمره.
وحين تتأمل هذه الآية نجد أن العم والخال جاءت مفردة، في حين جاءت العمات والخالات جمعا، لماذا ؟ قالوا : لأن العم والخال اسم جنس، واسم الجنس يطلق على المفرد وعلى الجمع، بدليل أنك تجد اسم الجنس في القرآن يستثنى منه الجمع، كما في ﴿ وَالْعَصْرِ ( ١ ) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( ٢ ) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ٣ ) ﴾[ العصر ].
فالإنسان اسم جنس مفرد، واستثنى منه الذين آمنوا وهي جمع، أما العمّات والخالات فليست اسم جنس، لذلك جاءت بصيغة الجمع المؤنث.
وأيضا، لأن العم صنو الأب، فعلى فرض أنهم أعمام كثيرون، فهم في منزلة الأب، واقرأ في ذلك قوله تعالى :﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ.. ( ١٣٣ ) ﴾ [ البقرة ] فدخل العمّ في مجمل الآباء.
وكذلك سمّى العمّ أبا في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ.. ( ٧٤ ) ﴾[ الأنعام ] ومعلوم أنه كان عمه.
وفي موضع آخر، جاءت عم بصيغة الجمع، وهو قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ.. ( ٦١ ) ﴾ [ النور ].
فجاءت العم والخال هنا بصيغة الجمع، لماذا ؟ قالوا : لأن الحديث هنا عن البيوت التي يباح لك أن تأكل منها، وجاءت ( بيوت ) بصيغة الجمع، والعم له بيت واحد، فما دام قال بيوت فلا بدّ أن تأتي ( أعمامكم و( أخوالكم ) بصيغة الجمع.
ثم يقول تعالى :﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ٤.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] الوهب : انتقال ملكية بلا مقابل، نقول : فلان وهبك كذا يعني : أعطاه لك بلا مقابل، ليس بيعا وليس بدلا مثلا.
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة : أتعجب لامرأة تبتذل نفسها، وتعطي نفسها لرجل هكذا مجانا بلا مقابل، فنزل النص ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] عندها قالت السيدة عائشة لسيدنا رسول الله : يا رسول الله، أرى الله يسارع إلى هواك، فقال لها صلى الله عليه وسلم : " وأنت يا عائشة، لو اتقيت الله لسارع في هواك " ٥.
والمعنى : أن الله يسارع في هواي، لأنني سارعت في هواه، طلب مني فأديت، لذلك يلبى لي ما أريد من قبل أن أطلب منه.
وقال ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأن الهبة هنا خاصة بالمؤمنة، فإن كانت كتابية لا يصح أن تهب نفسها لل
١ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٤٩٩): "هذه الآية عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت"..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٨/٥٤٧٥): "معلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء..
٣ أخرجه الترمذي في سننه (٣٢١٦)، والنسائي في سننه (٦/٥٦) من قول عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: هذا حديث حسن..
٤ في قوله (النبي) هنا دليل على أن هذا أمر خاص برسول الله، فليس لأحد من أمته أن يتزوج امرأة على سبيل الهبة بأن تهب نفسها، له، وهذا من الأمور التي خص بها رسول الله، لذلك قال تعالى: ﴿خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.. (٥٠)﴾ [الأحزاب]..
٥ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٨٨، ٥١١٣)، وكذا مسلم في صحيحه (١٤٦٤) كتاب الرضاع، وأحمد في مسنده (٦/١٣٤، ١٥٨، ٢٦١) من حديث عائشة رضي الله عنها..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُئوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) ﴾.
قوله﴿ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : تؤخر من تشاء من زوجاتك عن ليلتها ﴿ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : تضم إليك، وتضاجع من تشاء منهن ﴿ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] من طلبت من زوجاتك وقربت ﴿ مِمَّنْ عَزَلْتَ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : اجتنبت بالإرجاء والتأخير ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : لا إثم ولا حرج.
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أنهن جميعا سيفرحن، التي تضمها إليك، والتي ترجئها وتؤخرها، وسوف يرضين بذلك، لأنهن يعلمن أن مشيئتك في ذلك بأمر الله، فالتي ضمها رسول الله إليه تفرح بحب رسول الله ولقائه، والتي أخرت تفرح ؛ لأن رسول الله أبقى عليها، ثم عاد إليها مرة أخرى وضمها إليه وقرّبها، وهذا يدل على أن لها دورا ومنزلة، وأيضا حين يكون ذلك من تشريع رب محمد لمحمد، فإنه لا يعني أنه كرهها أو زهد فيها، فإن فعلت ذلك يا محمد مع أن فيه مشقة فإنما فعلته طاعة لأمر من ؟ لأمر الله، فتأخذ ثواب الله عليه.
وحين نتأمل كلمة ﴿ تَقَرَّ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] تجد أنها كعامة كلمات القرآن ( كالألماس )، لكل ذرة تكوينية فيه بريق خاص وإشعاع ؛ لذلك يقولون عنه :( دا بيلالي ) ومع كثرة بريقه لا يطمس شعاع فيه شعاعا آخر، كذلك كلمات القرآن.
( قرّ ) وردت كثيرا في القرآن كما في ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ.. ( ٩ ) ﴾ [ قصص ]
كلمة قرّ معناها سكن، نقول : قرّ بالمكان أي : استقر فيه وسكن، والقرّ هو البرد، وقرّة العين تأتي بالمعنيين، فالعين تسكن عند شيء ما، ولا تنتقل إلى غيره إن كان جميلا يأسرها فلا تفارقه، يقولون : فلان قيد النظر.
وفي المقابل يقولون : فلان عينه زائغة يعني : لا تستقر على شيء أو ( عينه دشعة ) عند إخواننا الذين ينطقون الجيم دالا مثل ( دردة ) يقصدون جرجا، والعين الجشعة١ بنفس المعنى، وفي المعنى السياسي يقولون : فلان له تطلعات يعني كلما وصل إلى منصب نظر إلى الأعلى منه.
أما القرّ بمعنى البرودة، فقرة العين تعني : برودتها، وهي كناية عن سرورها، لأن العين لا تسخن إلا في الحزن والألم ؛ لذلك ثبت أخيرا أن حبة العين ( ترمومتر ) دقيق لحالة الجسم كله، وميزان لصحته أو مرضه.
ولأهمية العين نقول في التوكيد : جاءني فلان عينه، وسبق أن تحدثنا عن ظاهرة الاستطراق الحراري في جسم الإنسان وقلنا : إن من المعجزات في تكوين الإنسان أن الاستطراق الحراري في جسمه يتم بنظام خاص، بحيث يحتفظ كل عضو في الجسم بحرارة تناسبه، فإن كانت حرارة الجسم العامة والمثالية ٣٧° ومن العجيب أنها كذلك عند سكان القطب الشمالي، وهي كذلك عند سكان خط الاستواء فإن حرارة الكبد مثلا لا تقل عن ٤٠° مئوية، أما العين فإذا زادت حرارتها عن عشر درجات تنفجر.
إذن : فقرة عين زوجات النبي وسرورهن في مشيئته، حين يقرب إليه من يقرب، أو يؤخر من يؤخر، لأن مشيئته نابعة من أمر الله له.
وقوله تعالى :﴿ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : في أي الحالات، ثم جاء قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] ليشير إلى أن الرضا هنا ليس هو رضا القوالب، إنما يراد رضا القلب بتنفيذ أوامر الله دون أن يكون في النفوس دخائل أو اعتراض.
فالله سبحانه ﴿ كَانَ عَلِيمًا.. ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعلم ما في القلوب ﴿ حَلِيمًا ( ٥١ ) ﴾ [ الأحزاب ] لا يجازيكم على ما يعلم من قلوبكم، ولو جازاكم على قدر ما يعلم لأتعبكم ذلك.
وتأمل حلم الله علينا ورحمته بنا في مسألة البدء ببسم الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن كل عمل لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر أي : مقطوع البركة، فالإنسان حين يبدأ في الفعل لا يفعله بقدرته عليه، ولكن بتسخير من خلقه له، فحين تقول : بسم الله أفعل كذا وكذا، فإنك تفعل باسم الذي سخر لك هذا الشيء.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( ١٢ ) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( ١٣ ) ﴾[ الزخرف ].
فعليك أن تبدأ ببسم الله حتى إن كنت عاصيا لله، إياك أن تظنّ أنك لست أهلا لهذه الكلمة ؛ لأن ربك حليم، ورحمن رحيم.
١ الجشع/ أسوأ الحرص، وقيل: هو أشد الحرص على الأكل وغيره، وقيل: هو أن تأخذ نصيبك وتطمع في نصيب غيرك. [لسان العرب ـ مادة: جشع]..
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ٢ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( ٥٢ ) ﴾.
سبق أن تناولنا تفسير هذه الآية في إطار سياق الآيات السابقة، ونلخصها هنا في أن الحق سبحانه بدأ رسوله أولا بأن أحل له في قوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] ثم قيد هذا التحليل هنا، فقال :
﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ]. فالحق سبحانه يأتي بالمخفف في أشياء، ثم يأتي بالمثقل ؛ ليعلم القوم أن الله تعالى بدأ رسوله بالعطف والرحمة والحنان، ويبين فضله عليه، كما قال له سبحانه ﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ.. ( ٤٣ ) ﴾ [ التوبة ] قبل أن يعاتبه بقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.. ( ٤٣ ) ﴾ [ التوبة ].
وهذه الآية ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] توضح أنّ ما شرع لرسول الله في مسألة تعدد الزوجات غير ما شرع لأمته، فرسول الله استثناه الله تعالى في المعدود لا في العدد، والفرق بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود أن العدد يدار في أشياء متعددة، فلو أنه أباح له عدد تسع ثم توفّين لكان له أن يتزوج بتسع أخر، وإن ماتت واحدة منهن له أن يتزوج بواحدة بدلا منها.
لكن الاستثناء لم يكن لرسول الله في العدد كأمته، إنما في المعدود، بحيث يقتصر على هؤلاء بخصوصهن، والحكمة في ذلك أن التي يفارقها زوجها من عامة نساء المؤمنين لها أن تتزوج بغيره، على خلاف زوجات رسول الله، فإنهن أمهات للمؤمنين، فلا يحل لهنّ الزواج بعد رسول الله.
ثم أوضحنا أن مسألة ملك اليمين ليست سبّة في جبين الإسلام، إنما هي ميزة من ميزاته، فالله ملك الرقبة ليحميها من القتل، والمقارنة هنا ليست بين رق وحرية، إنما بين رق وقتل كما أوضحنا، والذي يتأمل حال المملوك أو المملوكة في ظل الإسلام لا يسعه إلا الاعتراف بحكمة الشرع في هذه المسألة.
١ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٥٠١): "ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لمّا خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية، فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن"..
٢ قال القرطبي في تفسيره (٨/٥٤٩١): "اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين:
الأول: تحل لعموم قوله ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.. (٥٢)﴾ [الأحزاب] قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم.
الثاني: لا تحل تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى ﴿ولا تمسكوا بعصم الكوافر.. (١٠)﴾ [الممتحنة] فكيف به صلى الله عليه وسلم؟"..

ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ( ٥٣ ) ﴾.
الحق سبحانه وتعالى وزّع الأمر بين رسول الله
وبين أمته، فكما قال للرسول في أول السورة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.. ( ١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أمر أمته بذكره وطاعته، وكما تكلم عن أمر يتعلق برسول الله تكلم كذلك عن أمر يتعلق بأمته في قوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
بعد ذلك قال لرسول الله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٤٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] ليبين عموم نفعه لأمته، فجازاه عن الأمة بأن يصلوا عليه، وأن يتأدبوا حين دخولهم بيته صلى الله عليه وسلم، فقال هنا :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأن التكليف لا بدّ أن يكون لمن آمن بالله. وقلنا : إن الحق سبحانه رب وإله، ومعنى ( رب ( أنه سبحانه خلق وربّى وأنعم وتفضل، والخلق والتربية والإنعام والتفضل ليس خاصا بالمؤمنين، بل لكل من استدعاه الله للوجود من مؤمنين وكافرين.
فالشمس تشرق على الجميع، والمطر يروي أرض المؤمن والكافر، والأرض تستجيب للكل، فالذي يحسن أخذ أسباب الله من عطاء الربوبية يأخذ النتيجة، وينال نصيبه موقوتا بمدى الربوبية في الدنيا ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( ٢٠ ) ﴾[ الشورى ] والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
فالمؤمن الذي لا يأخذ يد الله الممدودة له بالأسباب ويهملها يعيش متخلفا عالة على غيره، يعيش شحاذا يستجدي قوته حتى من الكافر، فإذا ما خلت الساحة للكافر، وأخذ هو بالأسباب، وأعطاها حقوقها أخذ هو عطاء الرب، وكان أولى بالمؤمن ألاّ يترك عطاء ربه، يأخذه من لا يؤمن بالله، ثم يتخلف هو عن ركب الحضارة، وإن كانت الحضارة التي وصل إليها الكفار اليوم حضارة في الماديات فحسب.
أما القيم والأخلاقيات فقد انحدرت في هذه المجتمعات، بدليل أنك حين تذهب إلى هذه البلاد وتنزل في فندق كما نزلنا تجد مكتوبا على باب الحجرة : إذا دخل عليك اللصوص فلا تقاوم، فإن حياتك أثمن مما معك، إذا خرجت إلى الشارع فلا تحمل من المال إلا بقدر ضرورياتك. إذن : ارتقوا في شيء، وانحدروا في أشياء.
وإذا كان مظهر ارتقائهم في الناحية الاقتصادية، فانظر إلى أعلى دخل للفرد في العالم تجده في السويد، ومع ذلك تكثر عندهم الأمراض النفسية والعصبية والانتحار والجنون والشذوذ وغيرها من الأمراض الاجتماعية.
لقد تحضرت هذه البلاد حضارة مادية، لأنهم أخذوا بأسبابها، فأتقن كل عمله، وأعطى وقت العمل للعمل، فما بين الثامنة إلى الثانية عشرة لا تجد إنسانا في الشارع، ولا تجد أحدا يجلس على ( القهوة ) مثلا أو يضيع وقت العمل، وفي وقت الراحة يذهب الجميع إلى المطعم ليأكل ( السندوتش ) الجاهز، ثم يعود إلى عمله.
هكذا يعيش المجتمع المادي، فالذي لا يعمل فيه يموت من الجوع، والحمد لله أن شبابنا تنبهوا إلى أهمية العمل وتخلوا عن الطفولة التي كانوا يعيشون فيها حتى الثلاثين، وهم عالة على الأبوين.
والحق سبحانه هنا يعلمنا الأدب مع رسول الله، ويجعله لنا قدوة، فهو صلى الله عليه وسلم عاش عيشة الكفاف مطعما وملبسا ومسكنا، فليس عنده إلا عدة حجرات، لكل زوجة من زوجاته حجرة واحدة، فليس لديه حجرة صالون أو استقبال، فلا بدّ أن تتعلم الأمة آداب الدخول وآداب الزيارة في مثل هذه الحالة، وخاصة مع رسول الله في بيوته.
فقال سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] كلمة ( بيوت ) جمع بيت، وهو ما أعدّ للبيتوتة أي : للمبيت فيه، والميت في الأغلب الأعم لليل، فهو محل السكوت والبيات، أما النهار فهو محلّ الحركة، ولا بد للإنسان بعد التعب والجهد أن يأوي بالليل إلى مكان يستريح فيه ويفيء إليه، لذلك سمّي البيت سكنا، كذلك سميت الزوجة سكنا للسبب نفسه.
فالبيت مسكن لإيواء القالب وراحته، والمرأة سكن لإيواء القلب وراحة النفس، فكلاهما ينبغي أن يكون مصدرا للراحة.
والبيت يجمع على بيوت إن أردنا المسكن، ويجمع على أبيات إن أردنا البيت الشعري، وسمّي الشعر بيتا عند العرب وهم أمة فصاحة وبيان، لأنه تأوي إليه المعاني، كما نأوي نحن إلى بيوتنا ونسكن فيها، كذلك المعاني تسكن بيت الشعر، فيصير البيت نفسه حكمة.
لذلك يقول أحمد شوقي رحمه الله : لا يزال الشعر عاقلا يعني : لا زينة له من قولهم المرأة العاقل أي : التي لا زينة لها٢ ما لم تزينه الحكمة، فهو بدونها هراء لا فائدة منه.
ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر يحفظ ويتداول على مر العصور، كما نستشهد نحن الآن بأبيات المتنبي والمعرى وشوقي.. إلخ.
والبيتوتة في كل شيء بحسبها، فالذين يعملون بالنهار بيتوتهم بالليل، والذين يعملون بالليل بيتوتهم بالنهار، وإن كان الأصل في البيات أن يكون ليلا. وإياك أن تشغل إنسانا وقت بيتوته سواء أكانت بالليل أو بالنهار، فوقت العمل للعمل، ووقت السكن للسكن.
لذلك فإن أهل الحكمة عندنا في الفلاحين يقولون :( من يحرس ) يعني : بالليل ( لا يحرث ) يعني : بالنهار ؛ لأن الإنسان إن انشغل وقت راحته لا يجيد عمله ولا يتقنه.
بصرف النظر، أكان وقت الراحة في الليل أو في النهار، فأنت مثلا حين تتأمل البلاد التي تشرق فيها الشمس ثلاثة أشهر أو ستة أشهر، وتغيب أيضا ثلاثة أشهر أو ستة أشهر، هل نتصور أن يعمل أهل هذه البلاد طوال الثلاثة أشهر، وينامون ثلاثة أشهر ؟ لا إنما يقسّمون هذه الفترة في ليل أو نهار إلى فترات : فترة للعمل، وفترة للراحة.
لذلك تجد من عظمة القرآن أن يحتاط لمثل هذه الأمور، فيقول سبحانه :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الروم ] فالنوم يكون بالليل، ويكون أيضا بالنهار لمن تستدعي طبيعة عمله أن يعمل بالليل.
والبيت يكون على قدر إمكانات صاحبه، المهم أن يكون له مكان يأوي إليه ويستريح فيه، مهما قلّ، حتى لو كان مكانا ضيقا على قدر ما يسع الإنسان أن يضع جنبه على الأرض، فإن كان فيه متّسع فبها ونعمت، وعلى طارق البيت أن يراعى مدى البيتوتة لمن يطرق عليه.
وكما يتفاوت الناس في البيوت، كذلك يتفاوتون في ترف الحياة وأسباب الراحة في البيت على حسب الإمكانات، وما دامت الراحة على قدر الإمكانات، فينبغي أن يتحلّى كلّ بالرضا، وأن يربط بين عمله ودخله وبين ترف حياته، فقبل أن تفرض لنفسك حياة مترفة، افرض لها أولا عملا مترفا بنفس المستوى، بحيث توفر منه إمكانات هذا الترف.
وكما يقول المثل ( على قدر لحافك مدّ رجليك ) فإذا كانت إمكاناتك لا توفر لك إلا الكفاف، فلتكن راضيا به، وإن تمردّت وطلبت المزيد فلتتمرد أولا على نفسك، ولتعمل العمل الذي يوفر لك ما تتطلع إليه.
وآفة الناس في اقتصادهم أن يحددوا مستوى الحياة أولا، ثم يرغمون دخولهم وإمكاناتهم على هذا المستوى، فيحدث العجز، ولا تفي الإمكانات بالمتطلبات، إنما الواجب أن أحدد مستوى حياتي على ضوء دخلي وإمكاناتي، وبذلك يعيش الإنسان سعيدا مرتاحا لا يرهقه شيء، ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الدخول والإمكانات أن نراعي الحلال في الكسب وفي الإنفاق.
وإذا كانت البيوت وأسباب الراحة فيها بحسب إمكانات أصحابها، فينبغي أن تكون أحوالهم النفسية أيضا على قدر إمكاناتهم حتى لا يمتلئ قلب الفقير حقدا على صاحب النعمة.
إذن : لا بدّ لنا أن نتحلّى بالرضا، وأن نقنع بما في أيدينا، ومن يدريك لعل صاحب النعمة هذا ورثها، وإن كان لم يتعب هو فيها فقد تعب آباؤه وأجداده، وسبق أن قلنا : إن الذي يعرق عشر سنين من حياته يرتاح بقية عمره، والذي يعرق عشرين سنة يريح أولاده، والذي يعرق ثلاثين يريح أحفاده، ومن ذا الذي عرق وكدّ ولم يجد ثمرة عرقه ؟
فمن أراد أن يعيش محترما مكرما حال شيخوخته فليعمل في شبابه وحال قدرته، وليعرق قبل أن يأتيه يوم لا يجد فيه هذه القدرة، لذلك يراعي سيدنا رسول الله هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : " أعطوا الأجير حقه قبل أن يجفّ عرقه " ٣.
أما الذين يتسكعون في الشوارع أو على القهاوي فليسوا أهلا لهذه الحياة الكريمة حال شيخوختهم، كذلك العامل الذي لا يعطي للعمل حقه، أو لا يتقنه، أو يجلس يراقب صاحب العمل يتحيّن الفرصة لإضاعة الوقت. ومعلوم أن القرش إذا اكتسبه صاحبه دون وجه حق كان وبالا عليه وفسادا لحاله، لأنه لم يعرق به.
واقرأ إن شئت قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أصاب مالا من مهاوش، أذهبه الله في نهابر )٤ والمهاوش هي الطرق غير المشروعة لجمع المال، وهو نفس المعنى الذي نقصده حين نقول مثلا : فلان جمع هذا المال من ( الهبش ) أو ( النتش )، والنهابر هي الأبواب التي تفتح لصرف هذا المال فيما لا فائدة منه. وكثيرا ما نرى بعض الناس دخولهم ورواتبهم كبيرة، ومع ذلك يعيشون عيشة الفقراء، لا ترى عليهم ولا على أولادهم أثرا لهذه النعمة.
والناس يختلفون في نظرتهم إلى النعمة في أيدي الآخرين فقويّ الإيمان ساعة يرى النعمة في يد غيره لا يحسده عليها، إنما يرى أنها فضل الله على عباده، وتراه يدعو لصاحب النعمة بالبركة، ويقول : والله إنه يستحق هذه النعمة وأكثر منها ؛ لأنه جدّ واجتهد.
المؤمن يقول : ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم بارك له وأعطني من نعمك، المؤمن يرى في نعمة الدنيا نموذجا مصغرا لنعمة الآخرة، فيقول : هذا ما أعدّه البشر لأنفسهم، فكيف بما أعدّه الله لخلقه ؟ عندها يتراءى له نعيم الجنة، فيقبل عليها بقلب يملؤه الإيمان واليقين، وهذه النظرة للنعمة عند الآخرين تسمى غبطة.
أما غير المؤمن والعياذ بالله فيحقد على صاحب النعمة، ويراه غير أهل لها، ويتمنى زوالها من عنده، ويحسده عليها، وهذا كله دليل على ضعف الإيمان والاعتراض على أقدار الله في خلقه.
ونسمّي المساجد بيوت الله، وسمّي المسجد بيت الله، لأنه جعل خصيصا لكي نقابل فيه الله حينما نسمع ند
١ قال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء، فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال أنس: فانطلق صلى الله عليه وسلم حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل هذه الآية.. أورده القرطبي في تفسيره (٨/٥٤٩٢)..
٢ قال ابن منظور في لسان العرب (مادة: عقل): "لا تحمل السّنّ والإصبع والموضحة وأشباه ذلك". والأوضاح: حلي من الدراهم الصحاح..
٣ أخرجه ابن ماجة في سننه (٢٤٤٣) من حديث ابن عمر، قال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف، فيه ضعيفان، وأخرجه بهذا اللفظ أيضا الطبراني في معجمه الصغير (١/٢٠) من حديث جابر، وأبو نعيم في الحلية (٧/١٤٢) من حديث أبي هريرة، فهو بمجموع هذه الطرق والروايات يرقى إلى مرتبة الحسن، وله أصل في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ كتاب البيوع..
٤ أورده العجلوني في كشف الخفاء (٢/٣١٣) وعزاه للقضائي عن أبي سلمة الحمصي مرفوعا، وأبو سلمة ضعيف ولا صحبة له. قال التقى السبكي: لا يصح والمهاوش: مكاسب السوء، فهو كل مال يصاب من غير حله ولا يدري ما وجهه كالغصب والسرقة ونحو ذلك [لسان العرب ـ مادة: هوش] والنهابر: المهالك أي: أذهبه اله في مهالك وأمور متبددة [لسان العرب ـ مادة: نهبر]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٥٤ ) ﴾.
فكأن في الآية إشارة تحذير : إياكم أن تسرقكم خواطركم في هذه المسألة، لأن ربكم لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شيء، وإن كانت الخواطر والهواجس لا يحاسب عليها المرء، إلا أنها محظورة منهي عنها، إن كانت في حق رسول الله.
لقد ورد في هذا الحديث الشريف : " من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " ١ هذا في الأمور العامة، أما إن تعلق الأمر برسول الله فلا، لأن مراد الحق سبحانه أن يوفر طاقة رسول الله للمهمة التي أرسل بها، وألاّ يشغله عنها شاغل، وأيّ مهمة أعظم من مهمة هداية العالم كله، ليس في زمنه صلى الله عليه وسلم، وإنما منذ بعثته وحتى قيام الساعة.
وقوله تعالى :﴿ إِن تُبْدُوا شَيْئًا.. ( ٥٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أيّ شيء مهما كان ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٥٤ ) ﴾( الأحزاب ) وعليم صيغة مبالغة في العلم، لأن علم الله تعالى علم أزلي ليس متجددا بتجددالحدث، فالله يعلم قبل الفعل وأثناء الفعل وبعده.
لذلك قلنا : إن الزمن عندنا نحن ماض وحاضر ومستقبل، أما بالنسبة للحق سبحانه فليس هناك ماض وحاضر ولا مستقبل، لذلك يتكلم سبحانه عن المستقبل وكأنه ماض.
واقرأ مثلا :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه.. ١ ﴾( النحل ) وأتى فعل ماض ومع ذلك قال بعده ﴿ فلا تستعجلوه.. ١ ﴾( النحل ) والاستعجال لايكون إلا لشيء لم يأت وقته، فكأن ( أتى )معناها بالنسبة لكم سيأتي، أما بالنسبة للحق سبحانه فإنه أتى بالفعل، لأن الزمن كله في علم الله سواء.
ومعنى :﴿ فإن الله كان بكل شيء عليما ٥٤ ﴾( الأحزاب ) أي : كان ومايزال عليما، لأنه سبحانه ما دام كان عليما، وهو سبحانه لايتأتى فيه الأخيار، فهو سبحانه عليم فيما مضى ولا يزال، لأنه لايتغير، فكان هنا لاتعني أن علمه تعالى نتيجة لحدثكم نتيجة لحدثكم الذي أحدثتموه إنما هو سبحانه عالم قبل أن يحدث منكم.
وهذه الآية من الآيات التي وقف عندها المستشرقون، ليستدركوا كما يظطنون على كلام الله لأنهم دائما يتهمونناأننا ننظر إلى القرآن بقداسة، وأنه كلام الله فلا نعمل فيه عقولنا، وأنهم حين يدققون في القرآن ويتجرأون على البحث فيه يجدون فيه مآخذ على حد زعمهم.
ووجه اعتراضهم في قوله تعالى ﴿ إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما ٥٤ ﴾( الأحزاب ) ومثله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾ [ النور ].
يقولون : إذا كان الله يمتنّ بعلم ما نخفى، فما الميزة وما العظمة في علم ما نبدي ؟
نقول : إياك حين تقرأ كلام الله أن تحكم فيه عقلك قبل أن تؤمن أنه صادر من الله تعالى، وأن هذا كلامه سبحانه، وعندها أدر المسألة في عقلك وابحثها حتى تصل إلى الحكمة ووجه الإعجاز فيها.
فقوله تعالى ﴿ إِن تُبْدُوا.. ( ٥٤ ) ﴾ [ الأحزاب ] الله لا يخاطب فردا، إنما يخاطب جمهرة الناس، والإبداء من الجمهرة لا يمكن لك أن تحدد مصدر الفعل فيه، بحيث تردّ كلّ صوت، وكلّ حركة إلى صاحبها.
وسبق أن مثلنا لذلك بالمظاهرة مثلا التي تختلط فيها الأصوات وتعلوا الهتافات، وسمعنا مثلا من ينادي بسقوط فلان، أنستطيع في هذه الحالة أن نحدد صاحب هذا الهتاف ؟ لا لا نستطيع بسبب اختلاط وتداخل الأصوات، مع أنه جهر أعلنه صاحبه بأعلى صوته وأبداه على الملأ، ومع ذلك لا تستطيع أنت تحديده.
أما الحق سبحانه، فيعلم الصوت، ويعلم صاحبه، ويعلم أثره ونتيجته، ويرد كل كلمة، بل وكل نفس إلى صاحبه، فالذين يحاولون التستر والاستخفاء في جمهرة الناس عليهم أن يحذروا إن شوشوا على الخلق، واستخفوا منهم، فلن يستخفوا من الله، فالله لا تشتبه عليه اللغات، ولا تختلط عليه الأصوات.
١ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب وإن عملها كتبت" أخرجه مسلم في صحيحه (١٣٠) كتاب الإيمان..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ١ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( ٥٥ ) ﴾.
بعد أن نزلت آية الحجاب :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] اشتكى أقارب أمهات المؤمنين وقالوا : حتى نحن يا رسول الله ؟ فأنزل الله هذه الآية. ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ومعنى ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : لا حرج ولا إثم أن يدخل عليهن هؤلاء المذكورون ؛ لأن مكانتهم من المرأة معلومة، ولا يخشى من دخولهم عليها، وهم : الأب، والابن، والأخ، وابن الأخ، وابن الأخت.
والكلام في ﴿ وَلَا نِسَائِهِنَّ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهي مضاف ومضاف إليه، والإضافة في اللغة تأتي بمعان ثلاثة : بمعنى ( من ) مثل أردب شعير يعني : من شعير، وبمعنى ( في ) مثل ( مكر الليل ) أي : في الليل، وتأتي بمعنى ( اللام ) مثل مال زيد يعني لزيد، واللام هنا للملكية أو للاختصاص، فمعنى مال زيد يعني : ملك لزيد، وتقول : لجام الفرس، فاللجام ليس ملكا للفرس، إنما يختص به.
فهنا كلمة ﴿ نِسَائِهِنَّ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] تأتي بمعنى ( من ) وبمعنى اللام أي : نساء لهن، أو نساء منهن، ولا تأتي هنا بمعنى ( في ) إذن : فالمراد نساء منهن يعني : من قرابتهن أو نسائهن يعني : التابعين لهن مثل الخدم شريطة أن يكنّ مؤمنات، لأن المؤمنة هي المؤتمنة على المؤمنة، أما الكتابية أو الكافرة فلا يصح أن تقوم على خدمة المؤمنة، لأنها ربما تصفها لقومها.
لذلك نلحظ دقة التعبير هنا في عدم ذكر الأعمام والأخوال، لأن العم أو الخال رغم أنه في منزلة الوالد، إلا أنه قد يصف البنت لابنه، فإن كان العم أو الخال ليس له ولد، فالعلة مفقودة، ويجوز التساهل معهما إذن، في الدخول على المرأة، وإبداء الزينة أمامهما.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] قلنا : إن ملك اليمين يأتي من الأسرى في حرب مشروعة، وقد باشرت أسره بنفسك، بمعنى أنه لم يكن حرا، ثم أخذ وبيع على أنه عبد، ثم بعد الأسر يمكن أن تأخذ ملك اليمين بأن تشتريه، أو تأخذه إرثا، أو تأخذه هبة، وملك اليمين قد يكون من النساء فتدخل في نسائهن، أو يكون من الصبيان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال.
كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ].
ويدخل في ذلك أيضا التابعون الذين يعملون في البيت كالبوابين والسائقين والطباخين.. إلخ، والشرع يتساهل مع هؤلاء ؛ لأن العرف الاجتماعي يأبى أن تنشأ علاقة بين هؤلاء وبين أهل البيت، فهؤلاء التابعون يعملون في البيوت، وبها نساء وبنات جميلات، لكن كم من هؤلاء تجرّأ على أن ينظر إلى سيدته، ذلك لأن المركز الاجتماعي جعل بينهما حاجزا.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَاتَّقِينَ اللَّهَ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ] كأن الحق سبحانه يقول : لقد بينت لكنّ الحكم في الدخول على المرأة، وبينت الأنواع التي لا جناح عليكن في دخولهم، والحارس عليكن في هذا تقواكن لله، فتقوى الله هي التي تحملك على طاعته، وتمنعك من الخروج عنها، ويكفي بعد الأمر بالتقوى أن تعلم ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ.. ( ٥٥ ) ﴾ [ الأحزاب ]. وما يزال ﴿ على كل شيء شهيدا ٥٥ ﴾( الأحزاب )
١ قال القرطبي في تفسيره (٨/٥٤٩٩): "لم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.. (١٣٣)﴾ [البقرة]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالخير لأمته مبشرا، للمؤمنين، نذيرا للكافرين، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ].
كان صلى الله عليه وسلم يألم ويحزن إن تفلت أحد من يده، وخرج عن ساحة الإيمان، وكان يكلف نفسه في أمر الدعوة فوق ما يطيق، وفوق ما طلب منه، حتى خاطبه ربه بقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ١ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( ٦ ) ﴾ [ الكهف ].
ومعلوم أن سيدنا رسول الله لم يطلب منه إلا البلاغ فحسب، أما الهداية فمن الله عز وجل، لأنه تعالى قال :﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ٤ ) ﴾ [ الشعراء ].
فلشدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية قومه عاتبه ربه، لأنه شقّ على نفسه، فالعتاب هنا لصالحه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَات أَزْوَاجِكَ.. ( ١ ) ﴾ [ التحريم ].
وهذا العتاب أشبه بعتابك لولدك الذي أرهق نفسه في المذاكرة، حتى أنك أشفقت عليه، فأنت لا تلومه على تقصير، إنما على المبالغة في عمل لا تطيقه قوته.
وقد ظهرت قمة حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته حين أنزل الله عليه :﴿ وَالضُّحَى ( ١ ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ( ٢ ) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( ٣ ) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى ( ٤ ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( ٥ ) ﴾ [ الضحى ].
فالتقطها رسول الله من ربه وجعلها لأمته، فقال : " إذن : لا أرضى وواحد من أمتي في النار " ٢.
فإذا كان رسول الله حريصا عليكم بهذا الشكل، فهو يستحق منكم أن تصلوا عليه ؛ لأن كل خير يناله يعمّ عليكم، ويعود إليكم ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وتلحظ أن الخبر ﴿ يُصَلُّونَ.. ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] خبر عن الله والملائكة، فجمع الحق سبحانه بين صلاته وصلاة ملائكته، والنبي صلى الله عليه وسلم سمع مرة خطيبا يخطب، يقول : من يتّق الله ورسوله يثبه الله، ومن يعصهما يعاقبه الله، فقال صلى الله عليه وسلم له : " بئس خطيب القوم أنت " ٣ لماذا ؟
قالوا : لأنه جمع بين الله تعالى ورسوله في :( ومن يعصمها )، وكان عليه أن يقول : ومن يعص الله ورسوله، فالله وحده هو الذي يجمع معه سبحانه من يشاء. قال سبحانه :﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.. ( ٧٤ ) ﴾ [ التوبة ].
أما نحن، فليس لنا أبدا أن نأتي بصيغة تشريكية بين الله تعالى وأحد من خلقه.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] هكذا قال الله، وجمع معه سبحانه من يشاء من خلقه، وأنت لا يجوز لك أن تجمع هذا الجمع إلا إذا كنت تقرأه على أنه قرآن، فإن أردت أن تنشئ كلاما من عندك فلا بدّ أن تقول : الله يصلّي على النبي، والملائكة يصلون على النبي.
لذلك احتاط علماء التفسير٤ لهذه المسألة فقالوا أن ( يصلون ) ليست خبرا للكل، إنما تقدير الخبر أن الله يصلي على النبي، والملائكة يصلون على النبي.
وإذا كان الله يصلي على النبي، والملائكة يصلون على النبي، فماذا عنكم أنتم ؟ يجب أن تصلوا أنتم كذلك على النبي ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ].
سبق أن بينا أن الصلاة من الله لها معنى، ومن الملائكة لها معنى، ومن المؤمنين المأمورين بها لها معنى، فكلّ بحسبه، والصلاة في الأصل هي الدعاء، والدعاء يقتضي داعيا ومدعوا له ومدعوا، فمثلا حين أدعو الله أن يغفر لفلان، فأنا الداعي، والله تعالى مدعو، وفلان مدعو له، فإذا كان المصلي والداعي هو الله عز وجل، فمن يدعو ؟ إذن : معنى الدعاء لا يأتي مع الله تعالى.
لذلك قلنا : إنك لو نظرت إلى الأحداث تجد أن صاحبك مثلا إذا قال لك أعدك أن أعطيك غدا كذا وكذا، فهذا وعد منه، لا يملك هو من أسباب الوفاء به شيئا، أما إن قال لك : أدعو الله أن يعطيك كذا وكذا، ونسب العطاء لله تعالى، فهذا أرجى للتحقيق، لأنه منسوب إلى الله، فإن قبل الدعاء تحقق المطلوب، فإن كان الله تعالى هو الذي يأمر لك بهذا العطاء فلا بدّ أن تناله لا محالة.
إذن : الصلاة من الله ليست بمعنى الدعاء، إنما هي تنفيذ مباشر ورحمة شاملة وعامة، ويكفي من رحمته تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن جعله خاتم الرسل، فلا يستدرك عليه أحد، يكفيه من رحمته وإنعامه وثنائه عليه أن قرن اسمه باسمه، لذلك خاطبه بقوله :﴿ ورفعنا لك ذكرك ( ٤ ) ﴾ [ الشرح ].
يكفيه من تكريم الله له أنه يستقبل شفاعته يوم القيامة، لا لأمته فحسب، إنما للخلق جميعا، يكفيه أن الله تعالى خاطب كل رسله بأسمائهم المشخصة لهم، وخاطبه هو بالوصف المكرم في ﴿ يأيها النبي.. ( ١٢ ) ﴾ [ الممتحنة ] و﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ.. ( ٤١ ) ﴾ [ المائدة ].
أما عن صلاة الملائكة، فهي دعاء، واقرأ، ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ٧ ) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٨ ) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٩ ) ﴾ [ غافر ].
فإذا كان الخلق جميعا محل صلاة الملائكة واستغفارهم ودعائهم، حتى الذين أذنبوا منهم، ثم تابوا، فما بالك برسول الله، وهو هادي الناس جميعا ؟
أما الصلاة من المؤمنين، فهي الاستغفار، واستغفارهم ليس لرسول الله ؟، إنما هو استغفارهم لأنفسهم، لأن رسول الله جاء رحمة لهم، وما دام جاء رحمة لهم كان من الواجب ألاّ يغيب توقيره عن بالهم أبدا، فهم إن استغفروا، فاستغفار عن الغفلة عنه صلى الله عليه وسلم، أو عن أنهم لم يتقدم اسمه، فيصلون عليه.
والمؤمن حين يصلّي على رسول الله، ماذا يملك من عطاء يؤديه لرسول الله ؟ ماذا بأيدينا ؟ لذلك تأمل لفظ صلاتك على رسول الله، إنك لا تقول أصلي، ولكن تقول : اللهم صلّ على محمد، أو صلّى الله على محمد، فتطلب ممّن هو أعلى منك أن يصلي على رسول الله، لأنه لا يوجد عطاء عندك تؤديه لرسول الله.
إذن : فالصلاة من الله الرحمة العامة المطلقة، والصلاة من الملائكة الدعاء، والصلاة من المؤمنين الاستغفار.
لذلك سئل سيدنا رسول الله : يا رسول الله تلك صلاة الله، وتلك صلاة الملائكة، فما الصلاة عليك ؟ يعني كيف ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليّت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد " ٥.
ودخل عليه صحابي، فقال : يا رسول الله، ما رأيتك بهذه الطلاقة والبشر قبل اليوم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إن جبريل جاءني فأخبرني أن من صلّى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشرا، وكتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات " ٦.
وقال عمر رضي الله عنه : دخل رجل على رسول الله، فسأله : ما الصلاة عليك يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " ذلك من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني ما قلته : إن الله وكلّ بي ملكين، فإذا صلّى واحدا عليّ قال الملكان : غفر الله لك. ويقول الله : آمين وتقول الملائكة : أمين " ٧.
سبحان الله : الله عز وجل بذاته يؤمّن على دعاء الملكين.
وقالوا : الصلاة على رسول الله فرض على المؤمن، كالحج مرة واحدة في العمر، لكنها واجبة عليه عند كل ذكر لرسول الله، لذلك جاء في الحديث : " أبخل البخلاء من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ " ٨.
وقوله تعالى بعدها :﴿ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] لك أن تلحظ في صدر الآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يقل سبحانه ويسلمون، فلما أمر المؤمنين قال ﴿ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾ [ الأحزاب ] فزاد : وسلموا تسليما.
قال العلماء : لأن الصلاة على رسول الله لا تكون إلا مع التسليم له بمعنى طاعته والإذعان لأمره، وأن تسلم زمامك له في كل صغيرة وكبيرة، وإلاّ فكيف تصلّي عليه وأنت تعصى أوامره، وقد قال تعالى :﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٦٥ ) ﴾ [ النساء ].
ومن معاني التسليم أن نقول : السلام عليك أيها النبي كما نقول في التشهد، والسلام اسم من أسماء الله، ومعنى : السلام عليك يا رسول الله أي : جعل الله لك وقاية، فلا ينالك أحد بسوء.
١ بخع نفسه: قتلها غيظا أو غما. قال الفراء في معنى الآية، أي: مخرج نفسك وقاتل نفسك. [لسان العرب ـ مادة: بخع]..
٢ أخرج الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لا يرضى محمد، وواحد من أمته في النار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أيضا أنه قال: رضاه أن تدخل أمته الجنة كلهم..
٣ عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت. قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى". أخرجه مسلم في صحيحه (٨٧٠)، وأحمد في مسنده (٤/٣٧٩، ٢٥٦)، وأبو داود في سننه (١٠٩٩)..
٤ قال القرطبي في تفسيره (٨/٥٥٠٠): "اختلف العلماء في الضمير في قوله "يصلون": فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرّف به ملائكته. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله ان يفعل في ذلك ما يشاء. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع ضمير، وذلك جائز للبشر فعله..
٥ أخرج البخاري في صحيحه (٤٧٩٧) من حديث كعب بن عجرة، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف عليك؟ قال: قالوا اللهم صلّ على محمد وآل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"..
٦ أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٦٥٠) وعزاه للبخاري في الأدب المفرد عن أنس ومالك بن أوس بن الحدثان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبريل عليه السلام جاءني فقال: من صلى عليك واحدة صلى الله عليه عشرا، ورفع له عشر درجات"..
٧ ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٦٥٢) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه وعزاه للطبراني وابن مردويه وابن النجار، ولفظه: "قال الحسن قالوا: يا رسول الله، أرأيت قول الله ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي.. (٥٦)﴾ [الأحزاب] قال: "إن هذا لمن المكتوم، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم، إن الله وكل بي ملكين لا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين. ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته لذينك الملكين: آمين". قال ابن كثير في تفسيره (٣/٥١٥) عن هذا الحديث: "غريب جدا، وإسناده به ضعيف شديد"..
٨ أخرج أحمد في مسنده (١/٢٠١)، وابن حبان في صحيحه (٢٣٨٨ ـ موارد الظمآن) من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل عليّ"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٥٧ ) ﴾.
الإيذاء : إيقاع الألم من المؤذي للمؤذى، سواء أكان الإيذاء بالقول أم بالفعل، والإيذاء بهذا المعنى أمر لا يتناسب مع الحق سبحانه وتعالى. إذن ما معنى : يؤذون الله ؟
قالوا : الله تعالى لا يؤذى بالفعل، لأنهم لا يستطيعون ذلك، فهو أمر غير ممكن، أما القول فممكن، والإيذاء هنا يكون بمعنى إغضاب الله تعالى بالقول الذي لا يليق به سبحانه، كقولهم :﴿ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ.. ( ١٨١ ) ﴾[ آل عمران ] وبعضهم أنكر وجود الله.
وقولهم :﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ.. ( ٦٤ ) ﴾ [ المائدة ].
وقولهم :﴿ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ التوبة ].
وبعضهم يسّب الدهر، والله يقول في الحديث القدسي : " يؤذيني عبدي، وما كان له أن يؤذيني، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " ١.
وهل الزمن له ذنب في الأحداث التي تؤلمك ؟ الزمن مجرد ظرف للحدث، أما الفاعل فهو الله عز وجل، إذن : لا تسبّوا الدهر، فالدهر هو الله، وهم أنفسهم قالوا :﴿ مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ.. ( ٢٤ ) ﴾[ الجاثية ].
كل هذا إيذاء بالقول، لكن ينبغي ان ننظر فيه : أهو كذب وبهتان ؟ أم قول صادق يقوم عليه دليل ؟ وقد يؤذيك شخص بكلمة، لكنك لا تؤذى منها، وفي هذه الحالة يأخذ هو إثمها، وتسلم أنت من شرها وتسلم من ألمها.. فهذه الأقوال منهم في الواقع فيها إيذاء، لكن ليس لله تعالى، إنما إيذاء لهم، كيف ؟
الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض خلق له الكون قبل أن يخلقه فطرأ الإنسان على كون معدّ لاستقباله، فيه مقومات بقاء الحياة، ومقومات بقاء النوع، ثم أعدّ له أيضا قانون صيانته، بحيث إن أصابه عطب استطاع أن يصلحه، هذا القانون هو منهجه سبحانه المحفوظ في كتابه، واقرأ قول الحق سبحانه :﴿ الرَّحْمَنُ ( ١ ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( ٢ ) خَلَقَ الإِنْسَانَ ( ٣ ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( ٤ ) ﴾[ الرحمن ].
فقانون الصيانة في القرآن موجود قبل أن يخلق الإنسان ؛ لأن الإنسان خلق الله وصنعته خلقه الله في أحسن تقويم، وعلى أحسن هيئة، ويريد له أن يظل هكذا سوى التكوين في كل شيء، فإذا ما خرج هذا الخليفة المخلوق لله على قانون صيانته، فإنه ولا شكّ لا بدّ أن يغضب الله، لأن الله يريد أن تظل صنعته جميلة، كما أبدعها سبحانه.
إذن : فالذين أنكروا وجود الله، أو الذين أشركوا به، والذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " أو قالوا : الملائكة بنات الله.. إلخ هذه الأقوال التي ترتب عليها غضب الحق سبحانه، لأنه خليفته في الأرض لم يؤدّ المطلوب منه على حسب منهج الله.
ونقول لهؤلاء : إياكم أن تظنوا أنكم بكفركم خرجتم من قبضة الحق سبحانه، بل أنتم في قبضته، وتحت مشيئته، ولو شاء سبحانه لقهركم على طاعته، أو خلقكم على هيئة الصلاح لا تأتي منكم المعصية كما خلق الملائكة، إنما جعلكم مختارين فيما كلفكم به، من شاء آمن، ومن شاء كفر، ليعلم من يقبل عليه بحب لا بقهر.
والدليل على ذلك أنكم مخلوقون، على هيئتين. هيئة لكم فيها اختيار وهي التكاليف، وهيئة مقبوضين في قبضة الحق سبحانه وهي القضاء، فما دمتم تعودتم التمرد على التكاليف، فلماذا لا تتمردون على أقدار الله فيكم، كالمرض والموت مثلا ؟
ومع ذلك ما دمت قد اخترت الكفر وأنا رب، ومطلوب مني أن أعينك على ما تحب، فسوف أختم على قلبك، بحيث لا يدخله الإيمان، ولا يخرج منه الكفر الذي تحبه. إذن : أنا جئت على مرادك مما يدل على أن كفرك بي لا يضرني ولا يؤذيني.
وقد ورد في الحديث القدسي :( يا عبادي، إنكم لن تغبلوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني )٢.
وإن كانت لكم منطقة اختيار في الدنيا هي أمور التكاليف، فسيأتي يوم القيامة، ويمتنع الاختيار كله، فلا اختيار لأحد في شيء يوم يقول الحق سبحانه ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ.. ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ] فلا يجيب أحد، لا مالك ولا مملوك، فيجيب الحق سبحانه على ذاته :﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
هذا في معنى الله تعالى، أما الإيذاء في حق سيدنا رسول الله، فرسول الله بشر، يمكن أن يصيبه الإيذاء بالفعل والإيذاء بالقول، فكما قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء قالوا عن رسول الله : كاهن وساحر ومجنون وشاعر، ثم تعدّى الإيذاء إلى الفعل الذي أصاب رسول الله وآلمه بالفعل.
ألم يرم بالحجارة حتى دميت قدماه في الطائف٣ ؟ ألم يضعوا على ظهره الشريف سلا البعير في مكة٤ أي سقط البعير ألم تكسر رباعيته يوم أحد٥ ويشجّ ويسيل دمه صلى الله عليه وسلم ؟
فرسول الله ناله مع ربه، عز وجل إيذاء بالقول، ثم ناله إيذاء آخر بالفعل، إيذاء بشرى فيه إيلام، وقمة الإيذاء بالفعل ما يتعرض لأمر محارمه وأزواجه صلى الله عليه وسلم.
لذلك قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : بمخالفة ما جاء به، أو بأن تتهموه بما ليس فيه، أو تتعرضوا له بإيلام حسي، ثم لم يخص من ألوان الإيذاء إلا مسألة الأزواج، فقال :﴿ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا.. ( ٥٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] وذكر هذه المسألة بالذات صراحة مراعاة لطبيعة النفس البشرية، فقد قلنا : إن الرجل يمكن أن يتجمل على أصحابه أو أحبابه بأغلى ما يملك، لكنه أبدا لا يقبل أن ينظر أحد إلى زوجته، يحميها ويغار عليها من مجرد النظر.
لذلك فإن سيدنا حذيفة، وكان يحب امرأته، فقال لها : ألا تحبين أن تكوني معي في الجنة ؟ فقالت : بلى، فقال لها : إذن إذا متّ فلا تتزوجي بعدي فهو يغار عليها حتى بعد موته لأني سمعت رسول الله يقول : " المرأة لآخر أزواجها " ٦.
لكن هذا الحديث ووجه بحديث آخر لما سئل رسول الله : أيّ نساء الرجل تكون معه في الجنة ؟ فقال : " أحسنهن خلقا معه " ٧.
وقد رأى البعض تعارضا بين هذين الحديثين، والواقع أنه ليس بينهما تعارض، لأن الآخرية هنا لا يراد بها آخرية الزمن، إنما آخرية الانتقال، كما لو تمتعت برحلة جميلة مع أحد الأصدقاء منذ عشرين سنة، فلما ذكّرته بها قال : كانت آخر متعة، مع أنك تمتعت بعدها برحلات أخرى.
فالمعنى : تكون لآخر أزواجها في المتعة، وإن كان متقدما بحسن الخلق، إذن : فالمعنيان متفقان، لا تعارض بينهما.
ومسألة غيرة الرجل على المرأة لها جذور في تاريخنا وأدبنا العربي، ومن ذلك قول الشاعر٨ :
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فوا أسفى من ذا يهيم بها بعدي
فهو مشغول بها حتى بعد أن يموت، لكن يؤخذ عليه أنه شغل بمن يحل محله في هيامه بمحبوبته، لذلك كان أبلغ منه قول الآخر٩ :
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
إذن : فهذه الغيرة مراتب ودرجات.
ويحدثنا التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين أظنه الهادي كان يحب جارية اسمها غادر، ولشدة حبه لها قالوا إنه تزوجها، وفي خلوة من خلوات الهيام والعشق قال لها : عاهديني لأن صحته لم تكن على ما يرام إذا أنا متّ ان لا تتزوجي بعدي، وفعلا أعطته هذا العهد، فلما مات الهادي لم تلبث أن نسيت غادر عشقها للهادي، ونسيت حزنها عليه وهذا من رحمة الله بنا أن كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر إلا المصائب، فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر.
بعدها تزوجت غادر من أخي الهادي، وفي يوم من الأيام استيقظت فزعة صارخة، حتى اجتمع عليها من في القصر، وسألوها : ماذا بك ؟ قالت : جاءني الهادي في المنام، وقال لي :
خالفت عهدي بعدما جاورت سكان المقابر
ونكحت غادرة أخي صدق الذي سمّاك غادر
لا يهنك الإلف الجديد ولا عدت عنك الدوائر
ولحقت بي منذ الصباح وصرت حيث ذهبت صائر
وما كادت تنتهي من قولها حتى لفظت أنفساها الأخيرة، وماتت.
لذلك، فالحق سبحانه يراعي هذه الغرائز الإنسانية وهذه الطبيعة، ألا ترى أن عدّة المتوفّى عنها زوجها كانت سنة كاملة، كما في قوله تعالى١٠ :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ.. ( ٢٤٠ ) ﴾ [ البقرة ].
ثم جعلت عدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام احتراما لهذه الغريزة في المرأة.
ثم يبين الحق سبحانه الجزاء العادل لمن يؤذي الله ويؤذي رسول الله، فيقول سبحانه :﴿ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.. ( ٥٧ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : طردهم من رحمته ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٥٧ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ثم يعطينا الحق سبحانه إشارة إلى أن هذا الجزاء العادل الذي أعدّه لمن يؤذي الله ورسوله ليس تعصبا لله، ولا تعصبا لرسول الله، بدليل أن الذي يؤذي مؤمنا أو مؤمنة لا بدّ أن يجازي عن هذا الإيذاء، فسوّى المؤمن والمؤمنة في إرادة الإيذاء بإيذاء الله، وبإيذاء رسول الله، فقال سبحانه :
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٨ ) ﴾.
١ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٨٢٦، ٦١٨١، ٧٤٩١)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٢٤٦) كتاب الألفاظ من الأدب، وأحمد في مسنده (٢/٢٣٨، ٢٧٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥٧٧)، وأحمد في مسنده (٥/١٦٠)، والبيهقي في سننه الكبرى (٦/٩٣) والبخاري في الأدب المفرد (ص ١٧٢، ٤٩٠) من حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل وقد شرح فضيلة الشيخ الشعراوي قطعة منه في شرح الأحاديث القدسية بتحقيقي (المجلد ٢/ ص ٣ ـ ٤٠) نشر: دار الروضة ـ القاهرة..
٣ ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤٢١) "أن أهل الطائف أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط (بستان) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة". أما إدماء رجليه صلى الله عليه وسلم فقد ذكره البيهقي في دلائل النبوة (٢/٤١٥) فقال "قعدوا له صفين على طريقه، وجعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، وكانوا أعدوها حتى أدموا رجليه"..
٤ أخرج البيهقي في دلائل النبوة (٢/٢٧٨) من حديث" عبد الله بن مسعود قال "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، وثمّ سلا بعير (السلا هو لفاقة من الجلد تكون حول الجنين في البطن) فقالوا: من يأخذ سلا هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره، فجاءه عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك". وهو في صحيح البخاري (٣١٨٥)، وكذا في صحيح مسلم (١٠٨) كتاب الجهاد والسير..
٥ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (ص ١٤٢٨) غزوة أحد، عن انس بن مالك، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمسح الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"..
٦ أورده العجلوني في كشف الخفاء (٢/٤١٠) وعزاه للطبراني عن أبي الدرداء وللخطيب عن عائشة. قال: وهذا هو الصحيح. وقيل: لأحسنهم خلقا. وقيل: تخير..
٧ أخرج ابن عدي في (الكامل في ضعفاء الرجال) (٣/٢٦٢) من حديث أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: يا أم سلمة، إنها تخيّر أحسنهم خلقا، فتقول: أي رب، إن هذا كان أحسنهم خلقا معي في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة، ذهب الخلق الحسن بخير الدنيا والآخرة. قال ابن عدي: هذا حديث منكر. قال ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص ٢١٦): "ضعّفه أبو حاتم"..
٨ هو: نصيب بن رباح، أبو محجن، توفي عام ١٠٨ ه. مولى عبد العزيز بن مروان، شاعر له شهرة ذائعة. [الموسوعة الشعرية]..
٩ هو: عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وقد عاب بيت نصيب السابق..
١٠ قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة] نقل ابن كثير في تفسيره (١/٢٩٦) ان ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها. قال: يا بن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه..
لما تكلم الحق سبحانه عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات خصّ هذا الإيذاء بقوله ﴿ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأن هناك إيذاء مشروعا أوجبه الله للذين يخرجون على حدوده، فحدّ الزنا والقذف وشرب الخمر.. إلخ كلها فيها إيذاء للمؤمن وللمؤمنة، لكنه إيذاء مشروع لا يعاقب من قام به، كما في إيذاء الله ورسوله.
لذلك يقول تعالى في اللذين يأتيان الفاحشة :﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما.. ( ١٦ ) ﴾ [ النساء ].
والحق سبحانه حين شرع هذه الحدود وهذا الإيذاء، إنما شرعه ليكون عقوبة لمن يتعدّى حدود الله، وتطهيرا له من ذنبه، ثم لتكون رادعا للآخرين، فسيدنا عمر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] بكى فقال له جليسه : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأنني آذيت المؤمنين والمؤمنات، قال : يا أمير المؤمنين إنك تؤذي لتعلّم ولتقوّم والله تعالى أمرنا أن نرجم، وأن نقطع، فضحك عمر وسرّ١.
بل أكثر من هذا يأمرنا الحق سبحانه في الحدود :﴿ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ].
لأن الرأفة في حدود الله رحمة حمقاء، ولسنا أرحم بالخلق من الخالق سبحانه، والله تعالى حين يضخم العقوبة ويؤكد عليها، إنما يريد ألا نجترئ على حدوده، وألاّ نعرّض أنفسنا لهذه العقوبات، ولك أن تسأل حين تقرأ قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة.. ( ١٧٩ ) ﴾ [ البقرة ].
كيف تكون الحياة في القتل ؟ نعم، في القصاص حياة، لأنك حين تعلم أنك إن قتلت تقتل، فلن تقدم أبدا على القتل، وبذلك حمى الله القاتل والمقتول، وهل يعدّ هذا إيذاء ؟
ومعنى ﴿ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : بغير جريمة تستحق الإيذاء، وكلمة ﴿ اكْتَسَبُوا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] قلنا : هناك فرق بين : فعل وافتعل، فعل أي الفعل الطبيعي الذي ليس فيه مبالغة ولا تكلّف، أما افتعل ففعل فيه تكلف ومبالغة، كذلك كسب واكتسب، كسب : أن تأخذ في الشيء فوق ما أعطيت، كما لو اشتريت بخمسة وبعت بسبعة مثلا فهذا كسب، أما اكتسب ففيها زيادة وافتعال.
لذلك تجد في العرف اللغوي العام أن كسب تأتى في الخير واكتسب تأتى في الشر، مثل قوله تعالى :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.. ( ٢٨٦ ) ﴾ [ البقرة ] لها ما كسبت تفيد الملكية، وعليها تفيد الدّين.
ذلك لأن الأمر الحلال يأتي طبيعيا تلقائيا، أما الحرام فيحتاج إلى محاولة وافتعال واحتياط، فحين تنظر مثلا إلى زوجتك تكون طبيعيا لا تتكلف شيئا، أما حين تنظر إلى امرأة جميلة في الشارع، فإنك تتلصص لذلك وتسرق النظرات، خشية أن يطلع أحد على فعلتك، هذا هو الفرق بين الحلال والحرام.
وفي آية واحدة في كتاب الله جاء الفعل كسب في الشر، وذلك في قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار.. ( ٨١ ) ﴾ [ البقرة ].
فلماذا ؟ قالوا : لأن الآية فيمن تعوّد السيئات، وأحاطت به الخطايا حتى أصبحت عادة، وسهلت عليه حتى صارت عنده كالحلال، يفعله بلا تكلّف، بل ويجاهر به ويتباهى، هذا هو المجاهر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " ٢ وفيه : " ستر الله عليه وأصبح يفضح نفسه ".
وهذا الذي يسرّ بالمعصية ويتباهى بها بلغ به الاحتراف أنه يستطيع أن يستر حركات انفعاله في الحرام، كأنها الحلال بعينه، لذلك جاء الفعل كسب هنا، وكأن السيئة أصبحت ملكة.
أذكر بمناسبة التكلف والافتعال في الحرام رجلا من بلدتنا اسمه الشيخ مصطفى، ذهب إلى السوق لشراء بقرة، وأخذ النقود في جيبه، ومن حرصه وضع يده على جبيه خوفا من اللصوص، فلما رأوا في السوق يمسك جيبه بيده عرفوا أنه ضالتهم، فكيف احتالوا ليسرقوه ؟ لطخ أحدهم كتفه بروث البهائم، ثم احتكّ بالشيخ مصطفى، حتى اتسخت ملابسه فغضب، وأخذ ينظف ملابسه من الروث، ونسى مسألة النقود التي في جيبه فسرقوه.
وكما يأتي الحرام بافتعال، كذلك يكون العقاب فيه أيضا افتعال ومبالغة تناسب افتعال الفعل، لذلك يقول سبحانه في عقاب الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا :﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولم يقل حملوا، وفرق بين حمل واحتمل، حمل تقال لما في طاقتك حمله، إنما احتمل يعني فوق الطاقة، وإن حملته تحمله بمشقة، فالجزاء هنا من جنس العمل، فكما تفاعلت وتكلفت في المعصية كذلك يكون الجزاء عليها.
﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] البهتان : أن تقول في غيرك ما ليس فيه، فالبهتان كذب، أمّا الإثم : فأن ترتكب ذنبا في حقه بأن تؤذيه بصفة هي فيه بالفعل، لكنه يكره أن تصفه بها، كما تقول للأعمى مثلا : يا أعمى.
لذلك ورد في الحديث لما سئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " ٣ أي : كذبت وافتريت عليه.
ووصف الحق سبحانه الإثم هنا بأنه مبين ﴿ وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٨ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : جليّ واضح، لأن الوضوح في الإثم إما أن يكون بأن تقر أنت به وتعترف بذنبك، وإما أن يكون بالبينة، فلو سألناك : أنت قلت لهذا الرجل يا أعمى، أتحب أن توصف أنت بصفة تكرهها ؟ لا بدّ أن تقول : لا أحب. إذن : فالإثم هنا واضح، ويكفي إقرارك به.
وينبغي أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك كما علمنا سيدنا رسول الله، فكما أنه لا يرضيك أن يسرق الناس منك، كذلك أنت لا تسرق منهم، وكما يؤذيك الإثم كذلك يؤذيهم.
١ ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٦٥٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: إياكم وأذى المؤمنين فإن الله يحوطهم ويغضب لهم، وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعه ذلك حتى ذهب إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر، إني قرأت آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. (٥٨)﴾ [الأحزاب] والله إني لأعاقبهم وأضربهم، فقال له: إنك لست منهم، إنما أنت معلم. وانظر تفسير القرطبي (٨/٥٥٠٩): "إنما أنت معلم ومقوم"..
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٠٦٩)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٩٩٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه"..
٣ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٥٨٩) كتاب البر والصلة، وكذا احمد في مسنده (٢/٢٣٠، ٣٨٤، ٣٨٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته"..
ثم يأخذنا الحق سبحانه إلى أدب آخر من آداب الأسرة، فيقول سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٩ ) ﴾.
نلحظ أن الأمر توجّه أولا لأزواج النبي، ثم لبناته صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن رسول الله لا يأمر أمته بشيء هو عنه بنجوى، إنما يأمرهم بشيء بدأ فيه بأهل بيته، وهذا أدعى لقبول الأمر وتنفيذه، فقبل أن آمركم أمرت نفسي فلم أتميز عنكم بشيء.
لذلك جاء في سيرة القائد المسلم " طارق بن زياد " ١ أنه لما ذهب لفتح الأندلس وقف بجنوده على شاطئ البحر، وأعداؤه على الشاطئ الآخر، ثم قال للجنود : أيها الناس أنا لن آمركم بأمر أنا عنه بنجوى، وإنني عند ملتقى القوم سابقكم، فمبارز سيّد القوم، فإن قتلته فقد كفيتم أمره، وإن قتلني فلن يعوزكم أمير بعدي.
أي : أنني سابقكم إلى القتال، ولن أرسلكم وأجلس أتفرج وأرقب ما يحدث، يعني : أنا لا أتميز عنكم بشيء.
وبهذه المساواة أيضا ساد عمر رضي الله عنه القوم وقاد العالم وهو يرتدي مرقعته بالمدينة، لذلك لما رآه رجل وهو نائم تحت شجرة كعامة الناس قال : حكمت فعدلت فأمنت، فنمت يا عمر.
وكان رضي الله عنه إذا أراد أن يأخذ قرارا في أمر من أمور رعيته يعلم أن الفساد إنما يأتي أولا من الحاشية والأقارب والأتباع ومن مراكز القوى التي تحيط به، لذلك كان يجمع قرابته ويحذرهم : أنا اعتزمت أن أصدر قرارا في كذا وكذا، فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء منه لجعلته نكالا للمسلمين، أيها القوم إياكم أن يدخل عليكم من يدعي صلته بي، فتعطونه غير حق من لم يعرفني، والله إن فعلتم لأجعلنكم نكالا للمسلمين.
وورود النص القرآني بلفظ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] دليل على أن سيدنا رسول الله كان ينقل النص الذي جاءه، والصيغة التي تكلم الله بها دون أن يغير فيها شيئا، وإلا فقد كان بإمكانه أن ينقل الأمر لأزواجه، فيقول : يا أيها النبي أزواجك وبناتك يدنين عليهن من جلابيبهن. إنما نقل النص القرآني كما أنزل عليه، ليعلم الجميع أن الأمر من الله، وما محمد إلا مبلغ عن الله، فمن أراد أن يناقش الأمر فليناقش صاحبه.
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ساعة نزلت عليه هذه الآية كن تسعة أزواج، كرمهن الله وخيرهن فاخترن رسول الله، كان منهن خمس من قريش هن : عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وثلاث من سائر العرب هن : ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وواحدة من نسل هارون أخى موسى عليهما السلام هي السيدة صفية بنت حيى بن أخطب.
أما بنات رسول الله، فرسول الله أنجب البنين والبنات، البنون ماتوا جميعا في الصغر، أما البنات فأبقاهن الله حتى تزوجن جميعا، وهن زينب، ورقية، وأم كلثوم.
وأصغرهن فاطمة، وهي الوحيدة التي بقيت بعد موت سيدنا رسول الله، أما زينب ورقية وأم كلثوم فقد متن في حياة رسول الله.
ولفاطمة قصة في الضحك والبكاء، لذلك بعض العارفين كان يقول في قوله تعالى :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ( ٤٣ ) ﴾ [ النجم ] أن السيدة فاطمة حينما سئلت ما الذي أبكاك وما الذي أضحكك ؟ قالت : لأنني لما دخلت على أبي وهو مريض قال لي : إن هذا هو مرض الموت يا فاطمة فبكيت، ثم انصرفت فأشار إلي وقال لي : يا فاطمة ستكونين أول أهل بيتي لحوقا بي فضحكت. لذلك لم تمكث فاطمة بعد رسول الله إلا ستة أشهر٢.
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أن لقاء الأموات يكون بمجرد الموت، وإلا لو كان اللقاء في البعث والقيامة لاستوى في ذلك من مات أولا، ومن مات آخرا، فدل قوله : " ستكونين أول أهل بيتي لحوقا بي " على أن لقاءه صلى الله عليه وسلم بها سيكون بمجرد أن تموت.
الشاهد في هذه القصة أن أحدهم أظنه الإمام عليا قال لفاطمة : الله يقول ﴿ وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) ﴾ [ النجم ] أما رسول الله فأبكاك أولا، ثم أضحكك حتى لا يكون أضحك وأبكى كربه.
أما السيدة زينب٣ فتزوجت العاص بن الربيع٤ قبل أن يحرم الزواج من الكفار، وقد أسر العاص في غزوة بدر، فذهبت زينب لتفديه، وقدمت قلادة كانت معها، فلما رآها رسول الله وجد أنها قلادة خديجة رضي الله عنها وقد وهبتها لابنتها، فقال : إن رأيتم أن تردوا لها قلادتها وتفكوا لها أسيرها فافعلوا، فرد صلى الله عليه وسلم الأمر إلى من ينتفع به، فتنازلوا عن القلادة٥.
أما رقية وأم كلثوم فلهما حوادث، منها حوادث مؤسفة، ومنها حوادث مبهجة، أما المؤسف فإن عتبة بن أبي لهب عقد على رقية، وأخوه عتيبة عقد على أم كلثوم، وكان هذا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث رسول الله وحدث ما حدث بينه وبين أبي لهب وأنزل الله تعالى :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( ٢ ) ﴾ [ المسد ].
قال لابنه عتبة، رأسي ورأسك علي حرام حتى تطلق رقية فطلقها، بعدها مر عتبة على رسول الله، وفعل فعلة فيها استهزاء برسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : " أكلك كلب من كلاب الله " ٦.
أخبر عتبة أباه بما كان من دعاء رسول الله عليه، وكان أبو لهب يعلم صدق رسول الله، وأن دعاءه مستجاب لا يرد، فخاف على ابنه، وأخذ يحتاط له، ويوصي به رفاقه في رحلات تجارته وعجيب أنه مع هذا كله لم يؤمن.
وفعلا كان عتبة في رحلات التجارة ينام في وسط القوم، وهم يحيطون به من كل جانب، وفي إحدى الليالي جاءه أسد، فأخذه من بين القوم، ولم يبق منه إلا ما يعرف به.
علق على هذه الحادثة أحد المغرضين فقال : إن رسول الله قال : " أكلك كلب " وهذا أسد، فرد عليه أحد العارفين فقال : إذا نسب الكلب إلى الله، فلا بد أن يكون أسدا، فرسول الله لم يقل : كلب من كلابكم، إنما من كلاب الله٧. هذا ما كان من أمر عتبة، أما عتيبة فقد طلق أم كلثوم، لكنه لم يتعرض لرسول الله بإيذاء، بل قالوا : إنه كان يستحي أن يواجه رسول الله، لذلك لم يدع عليه رسول الله.
أما الحادث المبهج في حياة رقية وأم كلثوم، فقد أبدلهما الله خيرا من عتبة وعتيبة، حيث تزوجت رقية من سيدنا عثمان، فلما ماتت تزوج بعدها من أم كلثوم، لذلك لقب رضي الله عنه بذي النورين، وكانت النساء يغنين حين تزوج عثمان برقية :
أحسن ما رأى إنسان رقية وزوجها عثمان٨
فانظر إلى عظم هذا العوض أن يبدلهما الله بعتبة وعتيبة من ؟ عثمان، نعم العوض هذا، والعوض في مثل هذه المسائل إنما يتأتى بقبول القضاء في نظائره، فإذا أصيب الإنسان فاستسلم وسلم الأمر لله، فقال كما علمنا رسول الله : " إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي أيا كانت المصيبة واخلفني خيرا منها " ٩.
إذا قال ذلك وعلم أن لله حكمة في كل قضاء يقضيه لا بد أن يعوضه الله خيرا، وأظن أن قصة السيدة أم سلمة مشهورة في هذا المقام، فلما توفي زوجها أبو سلمة حزنت عليه حزنا شديدا، ولما جاءها النسوة يعزينها في زوجها قالت إحداهن : يا أم سلمة، قولي كما قال رسول الله، : إنا لله وإن إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منها، فقالت : وهل هناك خير من أبي سلمة، يعني : هو في نظرها أحسن الناس وخيرهم.
لكنها مع هذا رضيت بقضاء الله فما انقضت عدتها حتى طرق عليها طارق يقول : يا أم سلمة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك لنفسه، فضحكت لأن الله عوضها بمن هو خير من أبي سلمة١٠.
بعد ان أمر الحق سبحانه أزواج النبي وبناته أولا بهذا الأدب ثنى بنساء المؤمنين، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] لأن أسرة رسول الله ليست أزواجه وبناته فحسب، إنما العالم كله، وكلمة ( نساء ) جمع، لا واحد له من لفظه، فمفرد أزواج زوج، ومفرد بنات بنت، أما ( نساء ) فمفردها من معناها، لا من لفظها، فتقول : امرأة، واستثقل جمع امرأة على امرآت فقالوا : نساء وأصلها في اللغة من النسئ، قالوا : لأن المرأة أجل خلقها بعد خلق الرجل. وفي اللغة : النسئ أي : التأخير والتأجيل، فقالوا : نساء.
ثم يذكر سبحانه الأمر الذي وجه إلى زوجات النبي، وبناته ونساء المؤمنين جميعا، ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالفعل ﴿ يُدْنِينَ.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] مجزوم في جواب الطلب ( قل ) مثل : اسكت تسلم، ذاكر تنجح، وفي الآية شرط مقدر : إن تقل لهن ادنين يدنين.
كما في ﴿ أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا( ٢٧ ) ﴾ [ الحج ] لأن الخطاب هنا للمؤمنات، وعلى رأسهن أزواج النبي وبناته، وإن لم يستجب هؤلاء للأمر، فقد اختل فيهن شرط الإيمان.
ومعنى : الإدناء : تقريب شيء من شيء، ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة ﴿ قطوفها دانية( ٢٣ ) ﴾ [ الحاقة ] أي : قريبة التناول سهلة الجني، والمراد : يدنين جلابيبهن أي : من الأرض لتستر الجسم. وقوله :﴿ عليهن.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] يدل على أنها تشمل الجسم كله، وأنها ملفوفة حوله مسدولة حتى الأرض.
وكلمة ﴿ جلابيبهن.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] مفردها جلباب، وقد اختلفوا في تعريفه فقالوا : هو الثوب الذي يلبس فوق الثوب الداخلي، فتحت الجلباب مثلا ( فانلة ) أو قميص وسروال، ويجوز أن تكون الملابس الداخلية قصيرة، أما الجلباب فيجب أن يكون سابغا طويلا قريبا من الأرض١١.
وقالوا : الجلباب هو الخمار الذي يغطي الرأس، ويضرب على الجيوب، أي فتحة الرقبة لكن هذا غير كاف، فلا بد أن يسدل إلى الأرض ليستر المرأة كلها، لأن جسم المرأة عورة، ومن اللباس ما يكشف، ومنه ما يصف، ومنه ما يلفت النظر.
وشرط في لباس المرأة الشرعي ألا يكون كاشفا، ولا واصفا، ولا ملفتا للنظر، لأن من النساء من ترتدي الجلباب الطويل السابغ الذي لا يكشف شيئا من جسمها، إلا أنه ضيق يصف الصدر، ويصف الأرداف، ويجسم المفاتن، حتى تبدو وكأنها عارية١٢.
لذلك من التعبيرات الأدبية في هذه المسألة قول أحدهم وهو على حق إن مبالغة المرأة في تبرجها إلحاح منها في عرض نفسها على الرجل. يعني : تريد أن تلفت نظره، تريد أن تنبه الغافل وكأنها تقول : نحن هنا. وإن تساهلنا في ذلك مع البنت التي لم تتزوج، ربما كان لها عذر، لكن ما عذر التي تزوجت ؟
ثم يبين الحق تبارك وتعالى الحكمة من هذا الأدب في مسألة اللباس، فيقول :﴿ ذلك.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : إدناء الجلباب إلى الأرض، وستر الجسم، وعدم إبداء الزينة ﴿ أدنى.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أقرب :﴿ أن يعرفن فلا يؤذين.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فالمرأة المسلمة تعرف بزيها وحشمتها، فلا يجرؤ أحد على التعرض لها بسوء أو مضايقتها، فلباسها ووقارها يقول لك : إنها ليست من هذا النوع الرخيص الذي ينتظر إشارة منك، وليست ممن يعرض نفسه عرضا مهيجا مستميلا ملفتا.
وقوله تعالى بعد ذلك وف
١ طارق بن زياد الليثي بالولاء، فاتح الأندلس، أصله من البربر، أسلم على يد موسى بن نصير، ولى طارقا ١٢ ألفا معظمهم من البربر، فنزل بهم البحر واستولى على الجبل (جبل طارق الذي سمى باسمه)، وواصل فتوحه في الأندلس مع موسى بن نصير، مولده عام ٥٠ ه ووفاته ١٠٢ ه هن ٥٢ عاما. [الأعلام للزركلي ٣/٢١٧]..
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٦/٧٧، ٢٤٠) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة ابنته فسارها فبكت، ثم سارها فضحكت، فقالت عائشة: فقلت لفاطمة: ما هذا الذي سارك به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، ثم سارت فضحكت؟ قالت: سارني فأخبرني بموته فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول من أتبعه من أهله فضحكت..
٣ زينب بنت سيد البشر محمد بن عبد الله، كبرى بناته، تزوج بها ابن خالتها أبو العاص ابن الربيع، ولدت له عليا وأمامة، فمات علي صغيرا، وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة الزهراء. توفيت زينب عام ٨ هـ، أي قبل وفاة رسول الله بعامين [الأعلام للزركلي]..
٤ هو: أبو العاص القاسم بن الربيع بن عبد العزي، صحابي، زوج زينب كبرى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها في الجاهلية بمكة وتأخر إسلامه، فكانت عند أبيها بالمدينة وأسلم فأعيدت إليه. غلب عليه لقب (أبو العاص) وكان يلقب "جرو البطحاء" ويقال له "الأمين" توفي عام ١٢ هجرية. [الأعلام للزركلي ٥/١٧٦]..
٥ أخرجه ابن سعد في الطبقات (١٠/٣١)، أسره عبد الله بن جبير في بدر، وجاء أخوه عمرو بن الربيع ليفتديه، وبعثت معه زينب بنت رسول الله، وهي يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لأمها خديجة، كانت خديجة قد أدخلتها بها على ابي العاص حين تزوج بها..
٦ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٣٨، ٣٣٩)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/١٩) وعزاه للطبراني مرسلا وقال: "فيه زهير بن العلاء وهو ضعيف" وقد أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/٥٣٩) من حديث أبي عقرب وصححه. وحسنه ابن حجر في الفتح (٤/٣٩)..
٧ الكلب: كل سبع عقور، ومنه الأسد. وقال ابن سيده: غلب الكلب على هذا النوع النابح، وقد يكون التكليب واقعا على الفهد وسباع الطير، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو العقور. [انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني ٤/٣٩]..
٨ لفظ تفسير القرطبي (٨/٥٥١٠):
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان.

٩ أخرج مسلم في صحيحه (٩١٨) كتاب الجنائز من حديث أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: ما أمره الله: إن لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف له خيرا منها" وكذا أخرجه أحمد في مسنده (٦/٣٠٩)..
١٠ أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (١٠/٨٧) من حديث أم سلمة أن أبا سلمة لما احتضر قال: اللهم اخلفني في أهلي بخير، فلما قبض قلت: إن لله وإن غليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأخرجني فيها، وأردت ان أقول: وأبدلني بها خيرا منها. فقلت: من خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها. فلما انقضت عدتها خطبها أب بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحبا برسول الله وبرسوله. الحديث..
١١ وهذا ما ذهب إليه القرطبي في تفسيره (٨/٥٥١١) قال: "الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن"..
١٢ أخرج الحاكم في مستدركه (٤/١٨٧) من حديث دحية بن خليفة الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى هرقل، فلما رجع أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيه (ثوب مصري) فقال: اجهل صديعها (نصفها) قميصا، وأعط صاحبتك (امرأتك) صديعا تختمر به، فلما ولى قال: مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: "فيه انقطاع"..
ثم يقول الحق سبحانه :
{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) المتتبع لموكب الرسالات يجد أن الرسل واجهوا في نشر رسالتهم ثلاثة أصناف من البشر : صنف آمن، وصنف كفر، وصنف وقف مترددا بين الكفر والإيمان، وهؤلاء هم المنافقون.
ذلك ؛ لأن الرسول حين يبعث إنما يبعث لتغيير وضع اجتماعي بلغ من السوء درجة لا يحتملها الناس، فالذي يعاني من هذا الوضع ينتظر هذا الرسول الجديد، فما أن يبعث حتى يبادر إلى الإيمان به ؛ لأنه جاء بمبادىء جديدة، لا ظلم فيها، ولا قهر، ولا استبداد، ولا رشوة، ولا فساد.
إذن : من عضته هذه الأحداث، وشقى بهذا الفساد سارع إلى الإيمان، وكذلك آمن أهل مصر، وما إن دخلها الإسلام حتى أسرعوا إليه، لماذا ؟ لأنهم شقوا قبله بحكم الرومان، وكذلك آمن الفرس بمجرد أن سمعوا بالإسلام، ورأوا الأسوة الحسنة في المسلمين بعد أن عضهم فساد غير المسلمين.
ساعة يشقى الناس بفساد الأوضاع يتطلعون إلى منقذ،
فإن جاءهم اتبعوه. خاصة إن كان منهم وله فيهم ماض مشرف لم يجربوا عليه كذبا ولانقيصة.
وهذا ما رأيناه مثلا في قصة إسلام سيدنا أبي بكر، فما أن أعلن محمد أنه رسول الله حتى سارع إلى الإيمان به دون أن يسأله عن شيء، لماذا ؟ لأنه عرف صدقه، وعرف أمانته، ووثق من ذلك.
ومثله كان إيمان السيدة خديجة رضي الله عنها فما إن جاءها رسول الله مضطربا مما لاقى من نزول الملك عليه حتى احتضنته، وهدأت من روعه، وأنصفته، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل لتثبت له أنه على الحق، وأن الله تعالى لن يسلمه ولن يتخلى عنه.
وكان مما قالت : " والله إنك لتقرى الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعينه على نوائب الدهر... ".
لذلك قال العلماء : إن السيدة خديجة كانت أول فقيهة في الإسلام قبل أن ينزل الإسلام.
وطبيعي أن يكون أهل الفساد والمستفيدون منه على النقيض، فهم ينتفعون بالفساد والاستبداد، ويريدون أن تظل لهم سيادتهم ومكانتهم، وإن يظل الناس عبيدا لهم، يأكلن خيراتهم ويستذلونهم.
وهؤلاء الذين استعبدوا الناس، وجعلوا من أنفسهم سادة بل آلهة، ويعلمون أن الرسول ما جاء إلا للقضاء على سيادتهم وألوهيتهم الكاذبة، هؤلاء لا بد أن يصادموا الدعوة، لا بد أن يكفروا بها، وأن يحاربوها، حفاظا على سيادتهم وسلطتهم الزمنية.
وعجيب أن نرى من عامة الناس من ألف هذه العبودية، ورضي هذه المذلة، واكتفى بأن يعيش في كنف هؤلاء السادة مهما كانت التبعات، هؤلاء وأمثالهم هم الذين قالوا :﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ٣١ ) ﴾[ الزخرف ]
فبعد أن جاءهم الرسول المنقذ ما زالوا يتطلعون إلى عظيم يستعبدهم.
وكل من هذين الفريقين ( المؤمن، والكافر ) كان منطقيا مع نفسه، فالمؤمن آمن بقلبه، ونطق بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، ، لأنه لم ينطق بكلمة التوحيد، والإنسان قلب وقالب، ولا بد في الإيمان أن يوافق القالب ما في القلب.
أما الصنف الثالث وهو المنافق، فليس منطقيا مع نفسه، لأنه آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، فهو جبان يظهر لك الحب، ويضمر الكره ؛ لذلك جعلهم الله في الدرك الأسفل من النار.
لذلك، فالعرب لما سألهم رسول الله أن يقولوا : لا إله إلا الله، ليبطل بها سيادة زعماء الكفر أبوا أن يقولوها، لماذا ؟ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال، إنما لها تبعات، ويترتب عليها مسئوليات لا يقدرون هم على القيام بها، ولو أنها كلمة تقال لقالوها، وانتهى العداء بينهم وبين رسول الله.
فمعنى لا إله إلا الله : لا عبودية إلا لله، ولا خضوع إلا لله، ولا تشريع إلا لله، ولا نافع إلا الله.... إلخ، وكيف تستقيم هذه المعاني مع من ألف العبودية والخضوع لغير الله ؟
والحق تبارك وتعالى لما تكلم هنا عن المنافقين خص المدينة، فقال سبحانه ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالنفاق لم يظهر في مكة، وهي معقل الكفر والأصنام، إنما ظهر في المدينة، وهي التي آوت مهاجري رسول الله، وكان غالبية أهلها من أهل الكتاب، وهم أقرب إلى الإيمان من الكفار، فلماذا هذه الظاهرة ؟
قالوا : لأن الإسلام كان ضعيفا في مكة، وصار قويا في المدينة، فالنفاق ظاهرة صحية للإسلام ؛ لأنه لولا قوته ما نافقه المنافقون، فظهور النفاق في المدينة دليل على قوة الإسلام فيها، وأنه صارت له شوكة، وصارت له سطوة ؛ لذلك نافق ضعاف الإيمان ؛ ليأخذوا خير الإسلام، وليحتموا بحماه، وإلا فالضعيف لا ينافق.
نعم، ظهر النفاق في المدينة التي قال ا لله في حق أهلها :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ( ٩ ) ﴾[ الحشر ]
ويقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ".
وأيضا القرآن هو الذي قال عن أهل المدينة :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ.. ( ١٠١ ) ﴾ [ التوبة ] وهذا ليس استضعافا للمدينة، إنما إظهار لقوة الإسلام فيها، بحيث أصبحت له سطوة وقوة تنافق.
هنا قوله تعالى :﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ... ( ٦٠ ) ﴾ ؛ [ الأحزاب ] ساعة تسمع ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فأعلم أن الله تعالى أقسم بشيء، وهذا القول هو جواب القسم، والحق سبحانه لا يقسم إلا على الشيء العظيم، ونحن البشر نقسم لنؤكد كلامنا، كما تقول : والله إن ما حدث من فلان كذا وكذا سأفعل كذا وكذا.
أما الحق سبحانه، فكلامه صادق ونافذ دون قسم، فما بالك إن أقسم ؟ لذلك يقول بعض العارفين إذا سمع الله تعالى يقسم : من أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم ؟
كلمة ﴿ الْمُنَافِقُونَ... ( ٦٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] مفردها منافق، مأخوذ من نافقاء اليربوع، واليربوع حيوان صغير يشبه الفأر، يعرفه أهل البادية، يعيش في جحور، فيترصدونه ليصطادوه ساعة يخرج من جحره، لكن هذا الحيوان الصغير فيه لؤم ودهاء، فماذا يفعل ؟ يجعل لجحرة مدخلين، واحد معروف، والآخر مستتر بشيء، فإذا أحس بالصياد على هذا المدخل ذهب إلى المدخل الآخر ؛ لذلك أشبه المنافق تماما الذي له قلب كافر ولسان مؤمن.
وتلحظ أن المنافقين وصفهم الله هنا بصفات ثلاث ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الأحزاب ] فالعطف هنا لا يقتضي المغايرة، إنما عطف صفات مختلفة لشيء واحد، وجاءت هذه الصفات مستقلة ؛ لأنها أصبحت من الوضوح فيهم، بحيث تكاد تكون نوعا منفردا بذاته.
وقد وصف القرآن في موضع آخر المنافقين بأن في قلوبهم مرضا فقال سبحانه :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( ٨ ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ( ٩ ) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( ١٠ ) ﴾
وفي هذا دليل على أن الواو هنا أفادت عطف صفة على صفة، لا طائفة على طائفة، ومثله العطف في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.. ( ٩ ) ﴾ [ الحشر ] فالدار أي المدينة، وكذلك الإيمان يراد به المدينة أيضا.
ومعنى ﴿ الْمُرْجِفُونَ.. ٦٠ ﴾ [ الأحزاب ] المرجف من الإرجاف، وهو الهزة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى :﴿ يوم ترجف الراجفة ( ٦ ) تتبعها الرادفة( ٧ ) ﴾[ النازعات ] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابث، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأوا للإسلام قوة حاولوا زعزعتها وهزها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث ( الطابور الخامس )، وهم الجماعة الذين يروجون الإشاعات، ويذيعون الأباطيل التي تضعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيرا ما قعد المنافقون يقولون : إن قبيلة فلان وقبيلة فلان اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى من يفكر في الإسلام، أويرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له : ألم تعلم أن فلانا أخذ قومه أو أخذه سيده وعذبه حتى الموت لأنه اتبع محمدا، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن : المرجف يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب ؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه : لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس ليكونن لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول : لقد سكتنا على جرائمهم إلى أن قويت شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإن نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أن يظنوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( ٢٩ ) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( ٣٠ ) ﴾ [ محمد ] ومعنى لحن القول : أن يميلوا بالكلام عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله : السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة ( راعنا ) فقالوا : راعونا يقصدون الرعونة.
وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم :﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ.. ( ٨ ) ﴾ [ المجادلة ].
فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولا : لأنهم يتمنون العذاب.
ثانيا : لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض، لأن ( يقولون ) جمع، و ( في أنفسهم ) جمع، فكأن كلا منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن : ألم يسأل واحد منهم نفسه : من الذي أعلم رسول الله بما في نفسي ؟ ألا يدل ذلك على أن محمدا موصول بربه، وأنه لا بد فاضحهم، وكاشف مكنونات صدورهم، إذن : هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرة، إنما أعطاهم العهد وأمنهم ووسع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يؤذوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يتناجون بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، ك
الملعون : المطرود من رحمة الله، أو مطرودون من المدينة بعد أن كشف الله دخائل نفوسهم الخبيثة، لذلك طردهم رسول الله من المسجد، لأنهم كانوا من خبثهم ولؤمهم يدخلون المسجد، بل ويصلون في الصف الأول، يظنون أن ذلك يستر نفاقهم.
لكن رسول الله كان يطردهم بالاسم : يا فلان، يا فلان١ فكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم، ولم لا وقد قال الله له :﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ محمد ].
ومعنى ﴿ أينما ثقفوا.. ( ٦١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : وجدوا ﴿ أخذوا.. ( ٦١ ) ﴾ [ الأحزاب ] أي : أسروا ﴿ وقتلوا تقتيلا ( ٦١ ) ﴾ [ الأحزاب ] ولاحظ المبالغة في ﴿ وقتلوا.. ٦١ ﴾( الأحزاب ) والتوكيد في ﴿ تقتيلا ٦١ ﴾ ( الأحزاب ) يعني : اقتلوهم بعنف، ولا تأخذكم فيهم رحمة جزاء ما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين.
ولأن المنافق الذي طبع على النفاق صارت طبيعته مسمومة ملوثة لا تصفو أبدا، فالنفاق في دمه يلازمه أينما ذهب، ولا بد أن ينتهي أمره إلى الطرد من أي مكان يحل فيه.
لذلك، فمع أن الله تعالى قطعهم في الأرض أمما، إلا أن كل قطعة منهم في بلد من البلاد لها تماسك بينها، بحيث لا يذوبون في المجتمعات الأخرى فتظل لهم أماكن خاصة تعرف بهم، وفي كل البلاد تعرف حارة اليهود، لكن لا بد أن يكتشف الناس فضائحهم، وينتهي الأمر بطردهم وإبادتهم، وآخر طرد لهم ما حدث مثلا في ألمانيا.
وصدق الله حين قال فيهم ﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( ١٦٧ ) ﴾ [ الأعراف ].
١ أورد القرطبي في تفسيره (٨/٥٥١٥) أنه لما نزلت سورة "براءة" جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان قم فاخرج فإنك منافق، ويا فلان قم" فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. وانظر أيضا (زاد المسير) لابن الجوزي (٣/٤٩٢)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٦٢ ) ﴾
بعد أن بين الحق سبحانه نهاية أعدائه بالتقتيل وانتصار رسوله صلى الله عليه وسلم، أوضح أن هذا ليس شيئا جديدا في موكب الرسالات، إنما هي سنة متبعة ومتواترة، وهل رأيتم في موكب الرسالات رسولا أرسله الله، ثم خذله أو تخلى عنه، وانتهى أمره بنصر أعدائه عليه ؟
والسنة : هي الطريقة الفطرية الطبيعية المتواترة التي لا تتخلف أبدا، فالأمر إذا حدث مرة أو مرتين لا يسمى سنة، فالسنة إذن لها رتابة واستدامة.
فالمراد بالسنة هنا غلبة الحق على الباطل ﴿ في الذين خلوا.. ( ٦٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] يعني : الذين مضوا من الأمم السابقة، وما زالت سنة الله في نصر الحق قائمة، وستظل إلى قيام الساعة، لأنها سنة.
﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٦٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] نعم لا تتبدل ولا تتغير، لأنها سنة من ؟ سنة الله، والله سبحانه ليس له نظير، وليس له شريك يبدل عليه، أو يستدرك على حكمه بشيء.
بعد ذلك أراد الحق سبحانه أن يخبرنا أن المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وفيه أوامره، وفيه نواهيه، وفيه سبل الخلاص من الخصوم، هذا المنهج لا بد أن يحترم، لأنه سيسلم الناس جميعا إلى حياة أخرى يستقبلون فيها استقبالا، لا ينفعهم فيه إلا أعمالهم.
حياة أخرى يعيشون فيها مع المسبب سبحانه، لا مع الأسباب فإياكم أن تظنوا أن الله خلقكم ورزقكم وتنعمتم بنعمه في الدنيا، وانتهت المسألة، وأفلت من عقابه من خرج على منهجه، لا بل تذكروا دائما أنكم راجعون إليه، ولن تفلتوا من يده.
سئل رسول الله كثيرا عن الساعة، والسؤال ظاهرة صحية إذا كان في الأمر التكليفي، لأن السؤال عن التكاليف الشرعية دليل على أن السائل آمن برسول الله، وأحب التكليف، فأراد أن يبني حركة حياته على أسس إسلامية من البداية.
فعلى فرض أن الإسلام جاء على أشياء كانت متوارثة من الجاهلية فأقرها الإسلام، فيأتي من يسأل عن رأي الإسلام فيها حرصا منه على سلامة دينه وحركة حياته.
لكن أراد الحق سبحانه أن يهون المسائل على الناس، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.. ( ١٠١ ) ﴾ [ المائدة ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " ١.
إذن : السؤال المطلوب هو السؤال عن الأمور التكليفية التي تهم المسلم، حتى وإن كانت من أمور الجاهلية، وقد أقر الإسلام كثيرا منها، فالدية مثلا في الإسلام جاءت من جذور كانت موجودة عند الجاهليين وأقرها الإسلام، وقد أمر الله تعالى المسلم بأن يسأل عن مثل هذه المسائل في قوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٤٣ ) ﴾ [ النحل ].
أما السؤال عن الساعة، فالساعة أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، فهو سؤال لا جدوى منه، لذلك لما سئل رسول الله : متى الساعة ؟ قال للسائل : " وماذا أعددت لها " ٢ فأخذه إلى ما ينبغي له أن يسأل عنه ويهتم به،
وهذه الآية الكريمة ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] جاءت بعد معركة الإيذاء لله تعالى، والإيذاء لرسوله وللمؤمنين به، هذا الإيذاء جاء ممن لا يؤمنون بالسماء، ولا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبلاغ عن الله بواسطة رسوله.
وإيذاء هؤلاء لله تعالى في الحقيقة إيذاء لأنفسهم، لأنه لا يصل إلى الله تعالى، والله يريد لهم الخير، لأنهم عباده وصنعته، فحين يخرجون على منهجه فإنما يؤذون أنفسهم، أما إيذاؤهم لرسول الله فقد آذوه صلى الله عليه وسلم في أهله وفي نفسه، فقد تعرضوا له صلى الله عليه وسلم بما يتأبى عنه أي إنسان كريم، آذوه بالقول وبالفعل، ومع ذلك صبر صلى الله عليه وسلم، وصبر أصحابه، وقد أذوا في أنفسهم وفي أموالهم.
والمتأمل يجد أن هذا الإيذاء مقصود وله فلسفة، فقد أراده الله تعالى ليمحص المؤمنين، وليرى وهو أعلم سبحانه من يثبت على الإيمان، لذلك قال تعالى :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( ٢ ) ﴾ [ العنكبوت ].
وسبق أن أوضحنا أن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما الإيمان مسئولية وعمل، ولهذا السبب امتنع كفار مكة عن النطق بكلمة الإيمان، لأنهم يعلمون حقيقتها، وهم أهل الإيمان وفهم للأساليب وللمعاني.
وثبات سيدنا رسول الله وصبره هو والذين آمنوا معه دليل على أنهم أجروا مقارنة بين هذا الإيذاء في الدنيا من بشر له قدرة محدودة، وإيذاء الله سبحانه في الآخرة، وهذا إيذاء يناسب قدرته تعالى، ولا يمكن أن يفر منه أحد.
إذن : نقول : إن للإيذاء فلسفة مقصودة، وإلا فقد كان من الممكن أن يأخذ الله أعداء دينه أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، وكما خسف بقارون الأرض، لكن أراد سبحانه أن يعذب هؤلاء بأيدي المؤمنين وبأيدي رسول الله، وربما لو نزلت بهم أخذة عامة لقالوا : آية كونية كالزلازل والبراكين مثلا، لذلك قال تعالى مخاطبا المؤمنين :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.. ( ١٤ ) ﴾ [ التوبة ].
ثم يصبر الحق سبحانه نبيه ويسليه :﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ٧٧ ) ﴾[ غافر ]
إذن : رد الحق سبحانه على هذا الإيذاء جاء على نوعين : نوع في الدنيا بأن ينصر الله نبيه عليهم، كما بشره الله بقوله :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( ٤٥ ) ﴾ [ القمر ].
والآخر رد أخروي يوم القيامة، لذلك قال تعالى :﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الأحزاب ].
والسؤال الذي سئله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متوجها إلى أمرين : الأول : إعجازي لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم وأنبيائهم بعض الأمور، فيريدون أن يحرجوا بها رسول الله حين يسألونه عنها، فلم يجدوا جوابا، وهم يعرفون أن رسول الله أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس أبدا إلى معلم، لكن الحق سبحانه كان يسعف رسوله ويعلمه الجواب، فيجيب عليهم الجواب الصحيح، فيموتون غيظا، ويتحكمون في أي مسألة ليثبتوا لأنفسهم أن محمدا لا يعلمها.
من ذلك مثلا سؤالهم عن أهل الكهف : كم لبثوا ؟ فأجابهم الله تعالى :﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( ٢٥ ) ﴾ [ الكهف ] فقالوا : نحن نعلم أنها ثلاثمائة، فمن أين هذه الزيادة ؟ وجهلوا أن توقيت المناسك الإلهية في الدين إنما يقوم على التقويم الهلالي لا على حركة الشمس، لأن مقتضى ما تعطيه لنا الشمس أن نعلم بها بداية اليوم ونهايته، لكن لا نعرف بها أول الشهر ولا آخره.
أما التوقيت العربي الهلالي، فله علامة مميزة هي ظهور الهلال أول الشهر، وإذا ما قارنت بين التقويم الهلالي والتقويم الميلادي تجد أن كل سنة هجرية تنقص أحد عشر يوما عن السنة الشمسية، فالثلاثمائة سنة الميلادية تساوي في السنة الهجرية ثلاثمائة وتسعة.
فكأنهم أرادوا تجهيل محمد، فنبههم الله إلى أنهم هم الجهلة. وعجيب أن يعترض اليهود على هذا التوقيت، مع أنه التوقيت العبادي لسيدنا موسى عليه السلام، ألم يقل سبحانه :﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ.. ( ١٤٢ ) ﴾ [ الأعراف ].
إذن : فقوله تعالى :﴿ وازدادوا تسعا ( ٢٥ ) ﴾ [ الكهف ] فيه إعجاز أدائي بليغ، يدل على أن التسع سنين إنما جاءت زيادة من داخل الثلاثمائة، وليست خارجة عنها.
ثم سألوه عن رجل جوال، فأنزل الله :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين.. ( ٨٣ ) ﴾ [ الكهف ].
فكان ينبغي أن يلفتهم ذلك إلى صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يسألوا أنفسهم : من أين له هذا العلم، وهو الأمي الذي لم يجلس مرة إلى معلم ؟
لذلك قلنا : إن الأمية عيب كل إنسان، إلا أنها كانت شرفا وميزة في رسول الله بالذات، لأنها تعني في حق رسول الله أنه لم يعلمه بشر كما اتهموه، إنما علمه ربه.
كذلك كانت الأمة التي نزل فيها القرآن أمة أمية، وهذا أيضا شرف في حقها، فلو أن هذه الأمة كانت أمةعلم وثقافة لقالوا عن الإسلام : إنه قفزة حضارية، لكنها كانت أمة أمية يسودها النظام القلبي، فلكل قبيلة قانونها ونظامها، ولكل قبيلة رئيسها، ومع ذلك خرج منهم من جاء بنظام عدم الصلح لسياسة الدنيا كلها، إلى أن تقوم الساعة، وهذا لا يتأتى إلا بمنهج إلهي.
إذن : الأمية في العرب شرف، وعجزهم عن محاكاة القرآن، والإتيان بمثله أيضا شرف لهم، فكون الحق سبحانه يتحداهم بأسلوب القرآن دليل على عظمتهم في هذا المجال، وإلا فأنت لا تتحدى الضعيف إنما تتحدى القوى في مجال التحدي، فكأن تحدي الله للعرب شهادة منه سبحانه بأنهم أفصح الخلق، لذلك جاءهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه.
ثم يسأل اليهود رسول الله عن الساعة ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ.. ( ٦٣ ) ﴾ [ الأحزاب ] وهم يسألون عن الساعة يعني، عن يوم القيامة، لأنهم ينكرون، ومن مصلحتهم ألا يكون هذا اليوم، حتى لا يقفوا موقف المساءلة والحساب على ما أجرموه في الدنيا من ظلم وشرك وعربدة وسفك للدماء، ولغو في أعراض الناس.
ولو بحث هؤلاء قضية القيامة والحساب بالعقل لا بنصوص القرآن لوجدوا أنها أمر منطقي لا بد أن يحدث، فمثلا نحن عاصرنا الحزب الشيوعي في روسيا سنة ١٩١٧، ورأينا كيف أخذوا الإقطاعيين والرأسماليين وعذبوهم، وفعلوا بهم الأفاعيل، وصادروا ممتلكاتهم جزاء لهم على ظلمهم للناس، وكنا نقول لهم : نعم هذا أمر منطقي أن تقتص من الظالم، لكن ما بال كثير من الظلمة الذين ماتوا أو لم تدركوهم وأفلتوا من قبضتكم ؟
بالله، لو جاء شخص ودلكم على مكان أحد الظلمة هؤلاء، ألستم تحمدون له هذه المساعدة ؟ فكيف به لو قال : بل سأحضره وأحاسبه وأقتص منه، أليست هذه إعانة لكم على مهمة الانتقام من الظالمين ؟
لذلك نقول : كان من الواجب أن يكون الشيوعيون أول الناس إيمانا بيوم القيامة وبالبعث والحساب ليتداركوا من أفلت من أيديهم.
شيء آخر : ألستم تضعون في أي نظام من أنظمتكم الوضعية القوانين المنظمة ؟ ما معنى القانون : القانون قواعد تحدد للمواطن ما له وما عليه، أليس في قوانينكم هذه مبدأ الثواب للمحسن، والعقاب للمقصر ؟
إذن : كل مجتمع لابد أن تكون فيه عناصر خارجة على نظامه، وتستحق العقوبة، فمن استطاع أن يدلس على المجتمع، وأن يداري جريمته ما حظه من العقوبة، وقد استشرى فساده وكثر ظلمه ؟
إذن : لا بد أن نؤمن بقدرة أخرى لا يخفى عليها أحد، ولا يدلس عليها أحد، ولا يهرب منها أحد، قدرة تعرف الخفايا وتفضحها وتحاسب أصحابها. هذه القضية لا بد أن تسوقك إلى فطرية الإيمان بالله تعالى، وأنه سبحانه خبير عالم ﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
لماذا إذن تنكرون القيامة وأنتم في أنظمتكم الدنيوية تجندون الجواسيس والمخابرات، وتحصون همس الناس لمعرفة الذين يحتالون في ألا يراهم القانون ؟ أليس من فضل الله عليكم أنه سبحانه يعلم ما خفي عليكم ويقتص لكم من خصومكم ؟
فقضية القيامة والحساب واضحة بالفطرة، لذلك تجد أن المنكرين لها هم الذين أسرفوا على أنفسهم ويخافون ما ينتظرهم من العقاب في هذا اليوم، ولا يملكون إلا إنكاره وعدم الاعتراف به، وكأن هذا الهروب هو الحل.
وسورة الكهف تعطينا نموذجا لهؤلاء، وهو صاحب الجنة الذي قال :﴿ وما أظن الساعة قائمة.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الكهف ] بعد أن أسرف على نفسه وجحد نعمة الله عليه، ولما تنبه وراجع فطرته قال :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ( ٣٦ ) ﴾ [ الكهف ].
فالتكذيب بيوم القيامة هو الأغلب والآكد والشك في ﴿ ولئن رددت إلى ربي.. ( ٣٦ ) ﴾ [ الكهف ] يعني : وعلى فرض أني رددت إلى ربي يوم القيامة فسوف يكون لي عنده أفضل مما أعطاني في الدنيا، فكما أكرمني هنا سيكرمني هناك.
وهذا اعتقاد خاطئ وفهم أحمق، فالله تعالى لا يكرم في الآخرة إلا من أكرم نفسه باتباع منهجه في الدنيا، ومن لم يكرم نفسه هنا بمنهج الله لا يكرمه الله في الآخرة.
لذلك كثيرا ما نسمع : دعوت فلم يستجب لي، خصوصا السيدات، جاءتني إحداهن تشتكي أنها توجهت إلى الله بالدعاء، ومع ذلك البنت لم تتزوج والولد كذا والزوج كذا فكنت أقول لها ( كتر خيرك ) أولا أنك عرفت أن لك ربا تفزعين إليه وقت الشدة كما قال سبحانه :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.. ( ٤٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
إنما أسألك : هل أنت أجبت الله أولا فيما طلبه منك كي تنتظري منه أن يجيبك إلى ما طلبت ؟ أأجبت الله في شعرك هذا ؟ أأجبت الله في ( شفايفك ) وتغييرك لخلقة الله ؟ فكانت لا تجد جوابا، إلا أن تقول : وال
١ أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٤٧)، ومسلم في صحيحه (١٣٣٧) متاب الحج، وابن ماجة في سننه (٢) من حديث أبي هريرة، ولفظ الحديث: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا"..
٢ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت"، أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٣٩)، والبخاري في صحيحه (٦١٦٧، ٦١٧١) وفي لفظ عند البخاري أن الرجل قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت ممن أحببت"..
Icon