تفسير سورة ص

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة ص من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة ص، آيها ثمان وثمانون، هي مكية، نزلت بعد سورة القمر، ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين :
( ١ ) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان.
( ٢ ) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا : لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد الله المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم - بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمله هناك من كفرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ ص والقرآن ذي الذكر١ ﴾ :
تفسير المفردات :
الذكر : الشرف كما قال " وإنه لذكر لك ولقومك " الذين كفروا هم رؤساء قريش.
الإيضاح :
﴿ ص ﴾ تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للإصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا، وياء وينطق بأسمائها فيقال ( صاد ) بالسكون.
﴿ والقرآن ذي الذكر ﴾ أي أقسم بالقرآن ذي الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده :
ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال :﴿ بل الذين كفروا في عزة وشقاق ﴾.
تفسير المفردات :
في عزة : أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه، والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم : من " عز بز " أي : من غلب سلب، شقاق : أي مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم : فلان في شق غير شق صاحبه.
الإيضاح :
﴿ بل الذين كفروا في عزة وشقاق ﴾ أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على مخالفته.
تفسير المفردات :
فنادوا : أي استغاثوا، لات : أي ليس الحين، مناص : أي فرار وهرب.
الإيضاح :
ثم حضرهم وخوفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم، فقال :﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ﴾ أي : وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فقد فات الأوان وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب.
ونحو الآية قوله :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ﴾( غافر : ٨٤ ) وقوله :﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ﴾( المؤمنون : ٦٤ )وقوله :﴿ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون١٢ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ﴾( الأنبياء : ١٢-١٣ ).
الإيضاح :
﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ﴾أي : وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدعي النبوة ويدعو إلى الله وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة، ومن ثم قالوا ما هو إلا خداع كذاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي، ثم ذكر شبهتهم في إثبات كذبه من وجوه ثلاثة :
١ ﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾.
٢ ﴿ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ﴾.
٣ ﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾.
تفسير المفردات :
عجاب : أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلإ الصبر عليه.
الإيضاح :
﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ أي : أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو ؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقا صادقا- ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل.
ونحو الآية قوله :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ﴾( يونس : ٢ ).
روى ابن جرير عن ابن عباس قال :" لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل واحد، قال فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال : وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله فقال يا عم : إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم : ما هي وأبيك، لنعطينكها وعشرا، قال صلى الله عليه وسلم :" لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾فنزل من هذا الموضع إلى قوله :﴿ بل لما يذوقوا عذاب ﴾.
الإيضاح :
﴿ وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ﴾ أي : وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله وشاهدوا تصلبوه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى ويقلبون وجوه الرأي فيما يفعلون، ويقولون : اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغض من شأنها والاستهزاء بأمرها.
ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا :﴿ إن هذا لشيء يراد ﴾ أي : إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم.
تفسير المفردات :
الملة : الآخرة : هي ملة النصارى، اختلاق : أي كذب وافتراء.
الإيضاح :
ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا :
﴿ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ﴾ : أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهي ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾أي : ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوي ولا من عقل فيما يزعمون.
الإيضاح :
ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا :
﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾أي : إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف، والرياسة والكياسة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾( الزخرف : ٣١ ) ثم نعى عليهم تعرضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾( الزخرف : ٣٢ ) فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة.
ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال :﴿ بل هم في شك من ذكري ﴾أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم، إذ هي دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.
ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجيء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجيء العذاب فقال :
﴿ بل لما يذوقوا عذاب ﴾ أي : إنهم لما يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك.
والخلاصة : إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكري.
الإيضاح :
ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال :
﴿ أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ﴾أي بل أيملكون خزائن رحمة الله القهار لخلقه، الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها- فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاؤون، ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم ؟
والخلاصة : إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شيء﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾( الأنعام : ١٢٤ ).
ونحو الآية قوله :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ﴾( الإسراء : ١٠٠ ).
تفسير المفردات :
فليرتقوا : أي فليصعدوا، في الأسباب : أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه***وإن يرق أسبابا السماء بسلم
الإيضاح :
ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب، فقال :﴿ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ﴾أي : بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشؤون الغيبية ويفكروا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء ؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السماوات، وليدبروا شؤونها حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك.
والخلاصة : إنه ليس لهم شيء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاؤون، فذلك من شؤونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.
تفسير المفردات :
جند ما : أي جند كثير عظيم كقولهم " لأمر ما جدع قصير أنفه "، مهزوم : أي مغوب، الأحزاب : أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه.
الإيضاح :
ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال :﴿ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم- جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين- مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها، فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية ؟
وهذا خبر من الله لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند- أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع- وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق كتابه وأنه من عند الله لا من عند البشر.
المعنى الجملي : لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب- بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح :
ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح ﴾أي : كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزؤوا به، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا، فدعا ربه وقال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا٢٦ إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾( نوح : ٢٦-٢٧ ) ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجى الله نوحا ومن آمن معه كما قال :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر١١ وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر١٢ وحملناه على ذات ألواح ودسر١٣ تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ﴾( القمر : ١١-١٤ ).
﴿ وعاد ﴾ : وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية كما قال في سورة الحاقة :﴿ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية٦ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية٧ فهل ترى لهم من باقية ﴾( الحاقة : ٦-٨ ).
﴿ وفرعون ذو الأوتاد ﴾ : وقد بعث الله إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصر على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ونجى موسى وقومه بني إسرائيل كما قال في سورة يونس :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين٩٠ ألآن وقد عصمت قبل وكنت من المفسدين٩١ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ﴾( يونس : ٩٠-٩٢ ).
وقوله ذو الأوتاد : أي ذو الملك الثابت، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة***في ظل ملك ثابت الأوتاد
الإيضاح :
﴿ ثمود ﴾وقد جاء ذكرهم في عدة سورة أرسل الله إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر :﴿ كذبت ثمود بالنذر٢٣ فقالوا أبشرا منا واحدا نتبع إنا إذا لفي ضلال وسعر ﴾( القمر : ٢٣-٢٤ )- إلى أن قال-﴿ إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ﴾( القمر : ٣١ ).
﴿ قوم لوط ﴾وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب، فمنها قوله في سورة القمر :﴿ كذبت قوم لوط بالنذر٣٣ إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر ﴾( القمر : ٣٣-٣٤ ).
﴿ أصحاب الأيكة ﴾الأيكة : الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب، وقد ذكر الله قصصهم في كثير من السور، فمنها ما جاء في سورة الحجر :﴿ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين٧٨ فانتقمنا منهم ﴾( الحجر : ٧٨-٧٩ ).
﴿ أولئك الأحزاب ﴾أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.
ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال :﴿ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ﴾.
الإيضاح :
﴿ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ﴾أي : إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابي ؟
الإيضاح :
ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال :
﴿ وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ﴾ينظر : أي ينتظر كقوله تعالى :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾( الحديد : ١٣ ) وهؤلاء أي كفار مكة، والفواق : الزمن الذي بين الحلبتين، والصيحة : النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة- بلا توقف مقدار فواق.
والخلاصة : إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا.
المعنى الجملي : تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا للشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد، فأشاروا إلى الأولى بقولهم :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ﴾( ص : ٥ ) وإلى الثانية بقولهم :﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾( ص : ٨ ) وهنا أشار إلى الثالثة بقوله :﴿ وقالوا ربنا عجل لنا قطنا ﴾سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد، وأن هنالك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعملون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.
تفسير المفردات :
القط : النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر :
ولا الملك النعمان يوم لقيته***بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ويأفق : أي يصلح.
الإيضاح :
﴿ وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ﴾أي : وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة- ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره لي يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.
وقائل ذلك على ما روي عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه الله تعالى :﴿ سأل سائل بعذاب واقع ﴾( المعارج : ١ ) أو أبو جهل على ما روي عن قتادة، ورضي بهذه المقالة الباقون، ومن ثم أسندها إليهم جميعا.
ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية، إذ قالوا إنه ساحر كذاب، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا- أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال :﴿ اصبر على ما يقولون ﴾.
﴿ اصبر على ما يقولون ﴾أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم جاعلوا الظفر لك على من كذبك وشاقك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك.
قصص داود عليه السلام :﴿ واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ﴾ :
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين- أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاق والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم- ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله.
تفسير المفردات :
الأيد والآد : القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما، أواب : أي رجاع إلى الله وإلى طاعته من قولهم آب، إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص :
وكل ذي غيبة يؤوب ***وغائب الموت لا يؤوب
الإيضاح :
﴿ واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ﴾أي : واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في الطاعة والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر وورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى، وإنه كان أوابا " أي رجاعا إلى الله تعالى في جميع شؤونه، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ".
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال :" كان أعبد البشر ".
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود ".
تفسير المفردات :
والإشراق : أي وقت الإشراق، يقال أشرقت الشمس : أضاءت، وشرقت : طلعت.
الإيضاح :
ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ﴾أي : إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار، وتسبيحها معه تقديسها لله بحال تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات.
تفسير المفردات :
محشورة : أي محبوسة في الهواء، أواب : أي منقاد يسبح تبعا له.
الإيضاح :
﴿ والطير محشورة ﴾أي : وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه.
وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبل الذي يعجب به الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان ؟
تفسير المفردات :
شددنا ملكه : أي قويناه بالهيبة والنصر، والحكمة : هي إصابة الصواب في القول والعمل، الفصل : الحاجز بين الشيئين، وفصل الخطاب : الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل.
الإيضاح :
ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال :
﴿ كل له أواب ﴾أي : كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له.
( ٢ )﴿ وشددنا ملكه ﴾أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء.
( ٣ )﴿ وآتيناه الحكمة ﴾أي وأعطيناه العلم الكامل، والإتقان للعمل، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر :
قدم لرجلك قبل الخطو موضعها*** فمن علا زلقا عن غرة زلجا
( ٤ )﴿ وفصل الخطاب ﴾أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق فلا جنف ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم، ومزيد في الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكر الذي لا يتوافر لكثير من الناس.
المعنى الجملي : بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف- أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوقا إليه السامع، ومعجبا له.
تفسير المفردات :
هل : هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها، والخصم : جماعة المخاصمين، ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر :
وخصم عضاب ينفضون لحاهم***كنفض البرازين العراب المخاليا
وتسوروا : أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل، والمحراب : الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه.
الإيضاح :
﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب* إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ﴾أي : هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم فزع منهم ظنا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة، فقالوا له : لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوي، ولا تشطط في الحكومة.
تفسير المفردات :
والفزع : انقباض ونفار يعتري الإنسان من شيء مخيف، بغي : أي جار وظلم، ولا تشطط : أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة، سواء الصراط : أي وسط الطريق.
تفسير المفردات :
والنعجة : أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له***حرمت علي وليتها لمن تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي***فتحسسي أخبارها لي واعلم
قالت رأيت من الأعادي غرة***والشاة ممكنة لمن هو مرتمي
أكفلنيها : أي ملكنيها، وأصل ذلك اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وعزني : أي غلبني، وفي المثل : من عز بز أي من غلب سلب، وقال الشاعر :
قطاة عزها شرك فبانت***تجاذبه وقد علق الجناح
في الخطاب : أي في مخاطبته إياي ومحاجته، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده.
الإيضاح :
ثم فصلوا موضع الخصومة فقالوا :
﴿ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ﴾أي : إن أخي هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة، فقال ملكنيها وغلبني في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردا ولا دفعا.
ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال :﴿ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾.
تفسير المفردات :
والخلطاء : هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج : واحدهم خليط، فتناه : أي ابتليناه، خر : أي سقط، ، راكعا : أي ساجدا، وقد يعبر بالركوع عن السجود، قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعا***وتاب إلى الله من كل ذنب
وأناب : أي رجع إلى ربه.
الإيضاح :
﴿ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾ أي : قال داود بعد أن أقر المدعى عليه بما قال المدعي : لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه.
ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال :﴿ وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ﴾أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد***ذا عفة فلعلة لا يظلم
إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوي خشية من خالقها، وما أقل هؤلاء عددا، وأنذرهم وجودا كما قال :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾( سبأ : ١٣ ).
ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال :﴿ وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ﴾أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى لأجل أن يغتالوه، فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن، إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخر ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.
تفسير المفردات :
والزلفى : القرب من الله، والمآب : المرجع.
الإيضاح :
ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال :
﴿ فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ﴾أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن، وإنه لمن المقربين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.
هذا خلاصة ما رآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص، وهو حسن. بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال- ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه- إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة، ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي في غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة- فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما، ذلك الغرض هم إرادة الاغتيال، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئهما للاستفتاء فيما خفي عليهما، ولأجله تسورا المحراب، ومما يرشد إلى هذه النية المبيتة نية الاغتيال أن تهجم الناس على البيوت للتقاضي ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود، فهي فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوغ لهما دخول القصر في ذلك الحين، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بني إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله :﴿ ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾( البقرة : ٦١ ) وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة هم أن ينتقم منهما ويجازي السيئة بمثلها﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾( الشورى : ٤٠ ) ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال :﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾( الشورى : ٤٠ ) ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما.
وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك في كلام العرب كما قال :
كنعاج الفلا تعسفن رملا***............
فذلك يتوقف على أن كلمة ( نعجة ) في اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هي في العربية، وتأباه كلمة ( الخلطاء ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن ( تسوروا ) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسور، إلى أن ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجيء الملكين مما يخل بمنصب النبوة، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء، فيجب علينا أن تطرحه، إذ يبطل الوثوق بالشرائع- إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجل مقامهم عنه، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن ثم أثر عن علي رضي الله عنه أنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين.
﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ﴾( ص : ٢٦ ).
المعنى الجملي : بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين- أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب، إذ قد نسي يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافد الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرا، ولا يقيمون في وجهك عصا.
ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال :﴿ فاحكم بين الناس بالحق ﴾المنزل من عندي، والذي شرعته لعبادي لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة.
ثم أكد ما سلف بالنهي عن ضده فقال :
﴿ ولا تتبع الهوى ﴾في الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.
ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال :﴿ فيضلك عن سبيل الله ﴾أي فيكون اتباعك الهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت، والأعلام التي وضعت، للإرشاد إلى سبل السلام، بإصلاح حال المجتمع في دينه ودنياه، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال :﴿ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ﴾أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه- لهم من الله العذاب الشديد يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن- أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقهم لعبادته وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها، سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع.
تفسير المفردات :
باطلا : أي عبثا ولعبا، ويل : أي هلاك.
الإيضاح :
﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ﴾أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون- لهوا ولعبا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا بالله وجحدوا آياته فقال :﴿ ذلك ظن الذين كفروا ﴾أي إن الذين كفروا بالله وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدال على قدرة خالقه وعظيم تصرفه أنكروا الحكمة في خلقه، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه، وبرهانا على وحدانيته كما ورد في الحديث القدسي :" كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ".
ونحو الآية قوله :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾( المؤمنون ١١٥ ).
ثم بين أن لهم سوء المنقلب، على بطلان ما اعتقدوا، وقبيح ما فعلوا فقال :
﴿ فويل للذين كفروا من النار ﴾أي فيا ويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم، وإنكارهم لليوم الذي تجازي فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾( الزلزلة ٧-٨ ).
الإيضاح :
ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوي بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب، فقال :﴿ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ﴾أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم فأدوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسوا أنفسهم بفعل شيء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾( الإسراء : ١٣-١٤ ). ﴿ يوم يفر المرء من أخيه٢٤ وأمه وأبيه٢٥ وصاحبته وبنيه٢٦ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾( عبس : ٣٤-٣٧ ) كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون : ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غي، أو يكفوا عن معصية ؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات، بما وسوس إليهم به الشيطان، أن لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وخزعبلات الموسوسين المتزمتين.
وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازي فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي على ما دنس به نفسه من شرك بربه واجتراح للإثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.
والعقول السليمة، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده، وتدل عليه وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا، ويتمتع بصنوف اللذات، من الدور والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهمة والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينما نرى المطيع لربه، المظلوم من بني جنسه قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسد به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاؤوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه ؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف، والكيل بالقسط والميزان، وتلك في الدار التي وعد بها الرحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده الحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزي كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال : الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر.
تفسير المفردات :
مبارك : أي كثير المنافع الدينية والدنيوية، ليدبروا : أي ليتفكروا، ليتذكر : أي ليتعظ، الألباب : واحدها لب، وهو العقل، وقد يجمع على ألب ويفك إدغامه في ضرورة الشعر قال الكميت :
إليكم ذوي آل النبي تطلعت***نوازع من قلبي ظماء وألبب
الإيضاح :
ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة قال :
﴿ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ﴾أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، في دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، فيتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا.
وما تدبره بحسن تلاوته وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثم قال الحسن البصري : قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء.
الإيضاح :
﴿ ووهبنا لداود سليمان ﴾أي : وآتينا داود ابنا يسمى سليمان. ونحو الآية قوله :﴿ وورث سليمان داود ﴾( النمل : ١٦ ).
ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال :﴿ نعم العبد إنه أواب ﴾أي ما أحقه بالمدح والثناء ! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات، اعتقادا منه بأن كل شيء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
تفسير المفردات :
الصافن من الخيل : الذي يرفع أحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال :
ألف الصفون فما يزال كأنه***مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال النابغة :
لنا قبة مضروبة بفنائها***عتاق المهارى والجياد الصوافن
والجياد : واحدها جواد، وهو السريع العدو، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد.
الإيضاح :
ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال :﴿ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ﴾أي امدحه حين عرضت عليه الحياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار، لينظر إليها ويتعرف أحوالها، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهام التي توكل إليها حين الغزو وغيره.
وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلص.
تفسير المفردات :
والخير هنا : الخيل : توارت : أي غيبت عن البصر.
الإيضاح :
﴿ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي ﴾قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه، كالمريض الذي يشتهي ما يزيد مرضه، والوالد الذي يحب ولده السيء السيرة والخلق، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه، ومن الخير أن يزداد شغفه به، وتلك هي غاية المحبة، فسليمان عليه السلام يقول : إني أحب حبي لهذه الخيل، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربي وأمره لا عن الشهوة والهوى.
﴿ حتى توارت بالحجاب ﴾أي حتى غابت عني بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي :
أثارت سنابكها عليها عثيرا***لو تبتغي عتقا عليه لأمكنا
فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة :﴿ إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي ﴾وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة، ولبعد المسافة من جهة أخرى.
وبعد أن اطمأن إلى حالها، وحمد جميل أمرها قال :﴿ ردوها علي ﴾.
تفسير المفردات :
طفق : شرع، المسح إمرار اليد على الجسم.
الإيضاح :
﴿ ردوها علي ﴾فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمات، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات، من غزو وغيره.
ولما تراح إليها وسر بما بذلته من جهد، وما ينتظر منها إذا جد الجد- أظهر استحسانه لها ولفرسانها.
﴿ فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه، إذ هي أعظم الأعوان، في دفع العدوان، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء.
والخلاصة : إن سليمان احتياطا للغزو أراد ان يعرف قوة خيوله التي تتكون منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال : إني ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما
أحببتها لأمر الله وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضي.
تفسير المفردات :
فتنا سليمان : أي ابتليناه بمرض، جسدا : أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، أناب : أي رجع إلى صحته.
الإيضاح :
﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ﴾أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه، لشدة وطأته عليه ( والعرب تقول في الضعيف : إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح ) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.
تفسير المفردات :
لا ينبغي لأحد من بعدي : أي لا ينتقل مني إلى غيري.
الإيضاح :
﴿ قال رب اغفر لي ﴾طلب المغفرة من ربه، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج على طلب المغفرة من ربه، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن هذا في مقام التذلل والخضوع كما قال عليه السلام :" إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ".
وما روي من قصص الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود دسوها على المسلمين، وأبى قبولها العلماء الراسخون.
ومن ثم قال الحافظ ابن كثير : وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب اه.
﴿ وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾أي هب لي ملكا لا يكون لأحد غيري لعظمه.
قال صاحب الكشاف : كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك ذليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة، فذلك معنى قوله : لا ينبغي لأحد من بعدي اه.
وقيل إنه أراد بقوله :﴿ لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ الدلالة على عظمه وسعته كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
ثم علل المغفرة والهبة معا فقال :
﴿ إنك أنت الوهاب ﴾أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبي، وحقق رجائي.
تفسير المفردات :
رخاء : أي لينة، أصاب : أي قصد وأراد، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول : أصاب الصواب فأخطأ الجواب، قال الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل
الإيضاح :
ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدد نعمه عليه فقال :
( ١ )﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ﴾أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجري لينة طيعة له لا تمتنع عليه إلى أي جهة قصد.
ولا تنافي بين وصف الريح هنا بالرخاء، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال :﴿ ولسليمان الريح عاصفة ﴾( الأنبياء : ٨١ ) لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليه، ا فهي تشتد حين الحل، وتلين حين السير.
الإيضاح :
﴿ والشياطين كل بناء وغواص ﴾أي : وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغواصين في البحار منهم، يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بنا العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبوا طلبه سراعا.
تفسير المفردات :
مقرنين : أي مربوطين، والأصفاد : واحدها صفد ( بالتحريك ) وهو الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، قال عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا***وأبنا بالملوك مصفدينا
الإيضاح :
﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾أي : وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلال والأغلال ليتقي شرهم.
وخلاصة ما سلف : إن سليمان قد استعمل االشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال، كفا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره.
وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون ؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخر معهم الجن فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبته، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيد فيه.
الإيضاح :
ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال :
﴿ هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ﴾أي وقلنا له : إن هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى- عطاؤنا الخاص بك، فأعط من شئت، وامنع من شئت غير محاسب على شيء من ذلك، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.
تفسير المفردات :
والزلفى : الكرامة، والمآب : المرجع.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها، أبان ماله في الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال :
﴿ وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ﴾أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، ويفوز برضا ربه، وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة في الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم.
تفسير المفردات :
أيوب : هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، فهو من بني إسرائيل قاله ابن جرير. والنصب :( بضم فسكون ) والنصب ( بفتحتين ) كالرشد والرشد : المشقة والتعب، عذاب : أي ألم مضر كما جاء في قوله :" أني مسني الضر ".
الإيضاح :
﴿ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾أي : واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال : رب إني أصبت بالمرض، وتفرق الأهل وضياع الولد.
ومن حديث مس الشيطان له ما روى- إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ماله وولده ووافر صحته، فابتلاه الله بالأمراض والأسقام، وأضاع ماله وتفرق ولده في أنحاء البلاد، وهلك منهم من هلك، فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممض، وحسرة تقطع نياط القلب.
ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه، لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء :﴿ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ﴾.
تفسير المفردات :
اركض برجلك : أي اضرب بها على الأرض، مغتسل : أي ماء تغتسل به وتشرب منه.
الإيضاح :
﴿ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ﴾ : أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالأكزيما والحكة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد- كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض، وهي كما تفيد بالاستعمال الظاهري، تفيد بالشرب أيضا كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوربا ومصر وغيرها، واستعملت مشاتي ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشي وسويسرا وحلوان.
وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب- ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.
وعن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب : لا أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ".
ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعي لا شك فيه.
الإيضاح :
وكما دفع عنه سبحانه الضر إجابة لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال :﴿ ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ﴾أي : وجمعنا له أهله بعد التفرق والتشتت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه، رحمة منا وتذكرة لأولي العقول السليمة، لنعتبر ونعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة :
عسى فرج يأتي به الله إنه***له كل يوم في خليقته أمر
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ما له، فنمسك عن الكلام كما أمسك.
تفسير المفردات :
والضغث : الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان، ويقال حنث في يمينه : إذا لم يفعل ما حلف عليه.
الإيضاح :
ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال :
﴿ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ﴾أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب لم يبين لنا علام حلف ؟ وعلى من حلف ؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت، فحلف ليضربنها إن بريء مائة ضربة، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباتها المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى الله وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه :
﴿ إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ﴾أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه في النفس والأهل والمال من أذى، فجازيناه بما فرج كربته، وأذهب لوعته، وليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شيء من الجزع، فهو كتمني العافية وطلب الشفاء.
وقد روي أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان.
تفسير المفردات :
الأيدي : أي القوى في طاعة الله، والأبصار : واحدها بصر، ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره.
الإيضاح :
﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ﴾أي : واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة في الدين، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه.
ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله :﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ﴾.
تفسير المفردات :
أخلصناهم : أي جعلناهم خالصين لنا، بخالصة : أي بخصلة خالصة لا شوب فيها، هي تذكر الدار الآخرة والعمل لها.
الإيضاح :
﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ﴾أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لاتصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال، وهي تذكرهم الدار الآخرة، فهي مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.
تفسير المفردات :
المصطفين : أي المختارين من أبناء جنسهم، والأخيار : واحدهم خير وهو المطبوع على فعل الخير.
الإيضاح :
﴿ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير، فلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام.
الإيضاح :
﴿ واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل ﴾أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتي الأنعام والأنبياء.
﴿ وكل من الأخيار ﴾أي وكل منهم ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه.
تفسير المفردات :
هذا ذكر : أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن.
الإيضاح :
﴿ هذا ذكر ﴾أي هذه الآيات الناطقة بمحاسنهم شرف لهم يذكر بين الناس، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر، كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وكان كيت وكيت، وعلى هذا جاء قوله :﴿ هذا وإن للطاغين لشر مآب ﴾( ص : ٥٥ ) كما سيأتي بعد.
﴿ وإن للمتقين لحسن مآب ﴾( ص : ٤٩ ).
المعنى الجملي : لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء : ربنا عجل لنا قطنا. أمره بالصبر على أذاهم لوجهين :
( ١ ) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدي بهم ويجعلهم أسوة له.
( ٢ ) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره.
الإيضاح :
﴿ وإن للمتقين لحسن مآب ﴾أي وإن الله أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا، ولهم في الآخرة حسن المرجع. ثم بين هذا المآب الحسن بقوله :﴿ جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ﴾.
تفسير المفردات :
جنات عدن : أي جنات استقرار وثبات، من قولهم : عدن بالمكان أي أقام به،
الإيضاح :
﴿ جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ﴾أي : هو جنات استقرار وإقامة، أبوابها فتحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسر الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
تفسير المفردات :
متكئين فيها : أي متكئين فيها على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى.
الإيضاح :
ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال :﴿ متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ﴾أي : يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئين على الأرائك، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها.
تفسير المفردات :
أتراب : أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن.
الإيضاح :
وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال :﴿ وعندهم قاصرات الطرف أتراب ﴾أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال يحب بعضهن بعضا، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النصب والتعب والهم الكثير للزوج ولهن.
الإيضاح :
﴿ هذا ما توعدون ليوم الحساب ﴾أي : هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد الله به عباده المتقين، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم.
تفسير المفردات :
نفاد : أي انقطاع.
الإيضاح :
ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال :﴿ إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ﴾أي : إن هذا النعيم وتلك الكرامة- لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع. ونحو الآية قوله :﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾( النحل : ٩٦ ) وقوله :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾( هود : ١٠٨ ) أي مقطوع، وقوله :﴿ لهم أجر غير ممنون ﴾( فصلت : ٨ ) أي منقطع. وقوله :﴿ أكلها دائم وظلها ﴾( الرعد : ٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين- أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.
تفسير المفردات :
الطاغي : المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي، الطاغين : هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله وكذبوا رسله.
الإيضاح :
﴿ هذا ﴾أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدموا من أعمال صالحة.
﴿ وإن للطاغين لشر مآب ﴾أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة، ثم فسر ذلك بقوله :
تفسير المفردات :
يصلونها : أي يدخلونها ويقاسون حرها، والمهاد : كالفراش لفظا ومعنى.
الإيضاح :
﴿ جهنم يصلونها فبئس المهاد ﴾ أي : هم يدخلونها جهنم ويقاسون شديد حرها، فبئس فراشا هي، ونحو الآية قوله :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾( الأعراف : ٤١ ).
تفسير المفردات :
والحميم : الماء الشديد الحرارة، والغساق : شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار، يقال غسقت العين : أي سال دمعها.
الإيضاح :
ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال :﴿ هذا فليذوقوه ﴾أي : العذاب هذا، فليذوقوه.
ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال :
﴿ حميم وغساق ﴾أي : لهم فيها ماء حار يشوي الوجوه، وماء بارد لا يستطاع شربه لبرودته.
قال الحسن رضي الله عنه : الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾( السجدة : ١٧ ) وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
تفسير المفردات :
من شكله : أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة، أزواج : أي أجناس.
الإيضاح :
ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال :
﴿ وآخر من شكله أزواج ﴾أي : ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم.
تفسير المفردات :
فوج : أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة : العرب تقول لا مرحبا بك : أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت.
الإيضاح :
وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض :﴿ هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم ﴾أي هم يتلاعنون ويتكاذبون، فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية : هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم.
قال ابن عباس في تفسير الآية : إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة : هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة : لا مرحبا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم، قال النابغة :
لا مرحبا بغد ولا أهلا به*** إن كان تفريق الأحبة في غد
ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله :﴿ إنهم صالو النار ﴾أي : إنهم ذائقو حر النار مثلكم. وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يرد عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم :﴿ بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ﴾.
الإيضاح :
﴿ بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ﴾أي : قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء : بل أنتم أحق منا بما قلتم ( لا مرحبا بكم ) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، وبئس النار المنزل والمستقر. وهذا كلام يراد به التشفي منهم، لأنه مشترك بينهم.
ونحو الآية قوله :﴿ كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾( الأعراف : ٣٨ ).
الإيضاح :
ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذما لهم أيضا فقال :﴿ قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ﴾أي : قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب-عذابا مضاعفا في النار-عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما ورد في الحديث " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ".
ونحو الآية قوله :﴿ ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ﴾( الأعراف : ٣٨ ) وقوله :﴿ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ٦٧ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ﴾( الأحزاب : ٦٧-٦٨ ).
تفسير المفردات :
من الأشرار : أي الأراذل الذين لا خير فيهم، يريدون بذلك المؤمنين.
الإيضاح :
وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال :﴿ وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ﴾أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار : ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم ؟
قال ابن عباس : يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول أبو جهل : أين بلال، أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس. واعجبا لأبي جهل ! مسكين، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال :
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا*** وموضع رجلي منه أسود مظلم
تفسير المفردات :
زاغت عنهم : أي مالت عنهم.
الإيضاح :
﴿ أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ﴾ أي : ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا ؟. وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.
والخلاصة : إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا : ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم في الدنيا سخريا ؟ ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا ؟
تفسير المفردات :
والتخاصم : مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر.
الإيضاح :
ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال :﴿ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ﴾أي : إن الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضا- حق لا مرية فيه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبي، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب، ثم صبره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار- عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهي تقرير التوحيد والنبوة والبعث.
الإيضاح :
﴿ قل إنما أنا منذر ﴾أي قل أيها الرسول لمشركي مكة : إنما أنا نذير مرسل من ربي لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود، ولست بالساحر ولا الكذاب، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله :﴿ لست عليهم بمسيطر ﴾( الغاشية : ٢٢ ) وقوله :﴿ وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾( ق : ٤٥ ).
وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال :﴿ وما من إله إلا الله الواحد القهار ﴾أي إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شيء وغلبه بعزته وجبروته.
وهو مالك السماوات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب، جلت أو حقرت.
الإيضاح :
ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلي لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيرهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :﴿ قل هو نبأ عظيم* أنتم عنه معرضون ﴾أي قل لهم إن ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا، ومن أن الله واحد لا شريك له- خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال،
لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة. وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علهم يرجعون عن غيهم.
الإيضاح :
ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾أي : ولولا الوحي ما كنت أدري باختلاف الملإ الأعلى، يعني في شأن ادم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه، وهو ما ذكر بعد.
الإيضاح :
ثم أكد نبوته بقوله :﴿ إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ﴾أي : ما يوحى إلي إلا للإنذار، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا.
قصص آدم عليه السلام :
المعنى الجملي : قد سلف ذكر هذه القصة في سور : البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا، والعبرة منها النهي عن الحسد والكبر، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدا صلى الله عليه وسلم بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما، والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة في النصح والإرشاد.
الإيضاح : خلاصة هذه القصة : إن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من خلقه وتسويته، إجلالا وإعظاما له، فامتثل الملائكة كلهم لذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة قدسه مذموما مدحورا، فسأل النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين ﴾فقال تعالى :﴿ فالحق والحق أقول* لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾.
تفسير المفردات :
فقعوا له : أي اسجدوا له.
تفسير المفردات :
ما منعك : أي ما صرفك وصدك، واليد : القدرة قال :
تحملت من عفراء ما ليس لي به*** ولا للجبال الراسيات يدان
من العالين : أي المستحقين للترفع عن طاعة الله المتعالين عن ذلك.
تفسير المفردات :
رجيم : أي مرجوم ومطرود من كل خير.
تفسير المفردات :
لعنتي : أي طردي.
تفسير المفردات :
أنظرني : أي أمهلني.
تفسير المفردات :
من المنظرين : أي الممهلين.
تفسير المفردات :
لأغوينهم : أي لأضلنهم.
تفسير المفردات :
المخلصين : أي الذين أخلصتهم للعبادة.
تفسير المفردات :
من المتكلفين : أي المدعين معرفة ما ليس عندهم.
الإيضاح :
﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ﴾أي قل يا أيها الرسول لمشركي قومك : ما أسألكم على تبليغ ما يوحي إلي أجرا لا قليلا ولا كثيرا، وما عرفتموني أتكلف ما ليس عندي حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن.
أخرج ابن عدي عن أب برزة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأهل الجنة ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله، قال :" هم الرحماء بينهم "، قال :" ألا أنبئكم بأهل النار ؟ " قلنا : بلى، قال :" هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون ".
وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال :" أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله تعالى أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ﴾ ".
الإيضاح :
﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة، وكل ذي عقل سليم، وطبع مستقيم، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد.
تفسير المفردات :
نبأه : أي ما أنبأه به من وعد ووعيد، بعد حين : أي بعد الموت.
الإيضاح :
ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال :﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾ أي : إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتهم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين.
وكان الحسن البصري يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
Icon