تفسير سورة النساء

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير الشعراوي المعروف بـتفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1418 هـ

وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ومعنى ﴿اتقوا رَبَّكُم﴾ أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟
أول التقوى أن تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه - سبحانه - يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ﴾ ولم يقل: اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، والرب هو: المتولى تربية الشىء، خلقاً من عدم وإمدادا من عدم، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة؟
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشىء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكى تؤدوا مهمتكم فى الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾
1985
إذن فالمطلوب منهم ان يتقوا، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه يقول: ﴿اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾ كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له: إنك لم تخلقنا - ولله المثل الأعلى؟
أنت تسمع من يقول لك: أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ﴾ فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد، فأراد - سبحانه - أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشىء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه - سبحانه - خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة «رب» ولم يقل: «اتقوا الله» لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عُدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها: مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلى حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
لو لم يقل الحق: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ لما كملت، لماذا؟ لأنه سيقول فى آيات آخرى عن الإيجاد: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾ [الذاريات: ٤٩] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل فى متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس آدم؟ أناس
1986
قالوا ذلك، وأناس قالوا: لا، ﴿مِنْهَا﴾ تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين: حين يقول الله: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] أأخذالله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نفوسنا وكونه؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشرى، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه: ﴿خَلَقَ مِنْهَا﴾ أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم، أو المراد من قوله: ﴿مِنْهَا﴾ أى من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خُلقنا، وكيف جئنا؟
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء «دارون» وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون: إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول: هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١] وما دام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجىء بادعاء علم فيقول: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا﴾ معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة
1987
في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا﴾ فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق.
فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و «المضللون» هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل. ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشىء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية «دارون» وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي «مونيه» عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا، وقال: أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه «ذكرا» ثم توجد المصادفة شخصا نسميه «أنثى» ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني؟
كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكرا كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني؟ أى مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن «مونيه» - هداه الله إلى الإسلام وغفر له - أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له: إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال: ﴿اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وهذه هى
1988
العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه العالم الفرنسى «مونيه» أخيرا. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ وانظروا عظمة الأسلوب في قوله ﴿وَبَثَّ﴾ أى «نشر» وسنقف عند كلمة «نشر» لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كى يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.
و «النشر» معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شىء مطوى وشىء آخر منشور، والشىء المطوى فيه تجمع، والشىء المنشور فيه تفريق وتوزيع، إذن فحيز الشىء المتجمع ضيق، وحيز الشىء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أى من آدم وحواء ﴿رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ واكتفى بأن يقول ﴿َنِسَآءً﴾ ولم يقل: كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة.
وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخيل، وكم أنثى؟ ستجد ذكراً أو اثنين.
إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً﴾ فالذكورة هى العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر، والقرآن يأتى لينبهك إلى المعطيات فى الألفاظ لأن المتكلم هو الله، ولكن إذا نظرت لقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أى من آدم وحواء وهما اثنان ﴿رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو ﴿بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ
1989
كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق: إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله: ﴿إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان؟ لابد أن أحداً خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ ونأخذ من ﴿َبَثَّ﴾ «الانتشار» ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول: نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين، والاثنان هذان كيف جاءا؟ - إذن لابد أ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من غير شىء.
﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً﴾ لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصا بالرجل، فالحق يقول:
1990
﴿فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾ [الجمعة: ١٠] والحق يقول: ﴿فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه﴾ [الملك: ١٥] والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكنا يسكن إليها، والرجل هو المتحرك في هذا الكون، وهي بذلك تؤدي مهمتها.
وبعدما قال: ﴿اتقوا رَبَّكُمُ﴾ يقول: ﴿اتقوا الله﴾ لقد قدم الدليل أولا على أنه إله قادر، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم، وقدم دليل البث فى الكون المنشور الذى يوضح أنه إله، فلا بد أن تتلقوا تعليماته، ويكون معبودا منكم، أى مطاعا، والطاعة تتطلب منهجا: افعل ولا تفعل، وأنزل الحق القرآن كمنهج خاتم، ويقول: ﴿واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾.
انظر إلى «القفشة»، للخلق الجاحد، إنه - سبحانه - بعد أن أخذهم بما يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم: - أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم.
وأنت إذا أردت إنقاذ أمر من الأمور، وتريد أن تؤثر على من تطلب منه أمراً، تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك، لقد أخذ منهم الدليل، فكونك تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك فلا بد أنك سألته بمعظّم، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر، والمطموس هو المنهج الذي يقول: افعل ولا تفعل. والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو، ويطلب حاجة تهمه من آخر، فهو يقول له: سألتك بالله أن تفعل كذا. ومادام قد قال: سألتك بالله فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق، وأنه هو الذي يُسأل به، ومادام قد سئل بالله فلن يخيّب رجاء من سأله.
إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضا بالأرحام
1991
وتقولون: بحق الرحم الذي بيني وبينك، أنا من أهلك، وأنا قريبك وأمُّنا واحدة، أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر. ولماذا جاءت ﴿الأرحام﴾ هنا؟ لأن الناس حين يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر، فمادمت أنا وأنت من رحم واحد، فيجب أن تقضى لي هذا الشىء. إذن فمرة تسألون بالله الذي خلق، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي، ومثال ذلك قول الحق:
﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [النساء: ٣٦] لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في ايجادنا، والله يريد من كل منا أن يبر والديه، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما، وأن يُصعد الأمر قليلا ليعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه.
ويختم الحق الآية بقوله: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ لأن كلمة ﴿اتقوا﴾ تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة، واجتناب ما نهى الله عنه ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾، والرقيب من «رقب» إذا انظر ويقال: «مرقب»، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة الت تحتاج إلى حراسة، حيث يوجد «كشك» مبنى فوق السور ليجلس فيه الحارس كى يراقب. ومكان الحراسة يكون أعلى دائما من المنطقة المحروسة، وكلمة «رقيب» تعني ناظرا عن قصد أن ينظر، ويقولون: فلان يراقب فلانا أى ينظره، صحيح أن هناك من يراه ذاهبا وآتيا من غير قصد منهم أن يروه، لكن إن كان مراقبا، فمعنى ذلك أن هناك من يرصده وسبحانه يقول: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ فليس الله بصيرا فقط ولكنه رقيب أيضا - ولله - المثل الأعلى.
نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية فى إبصاره، فهو يمر على كثر من الأشياء قيبصرها، لكنه لا يرقب إلا من كان فى باله. والحق سبحانه رقيب علينا جميعا كما في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ [الفجر: ١٤]
1992
وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا أبا وأما وأنه بث منهما رجالا كثيرا ونساء، أراد أن يحمى هذه المسألة وأن يحمى المبثوث. والمبثوث قسمان: قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية فى أن يحقق أموره النفعية بذاته، وقسم ضعيف ليست له صلاحية فى أن يقوم بأمر ذاته، ولأنه سبحانه يريد تنظيم المجتمع؛ لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف فى المجتمع، ومن القسم الضعيف الذى يتكلم الله عنه هنا؟ إنهم اليتامى، لماذا؟
لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى، آدم وحواء، جعل لنا أطوارا طفولية، فالأب يكدح والأم تحضن، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتى ونعرف أن الحنان الذاتى والعاطفة يوجدان فى قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن اليهما، الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير، وهذه عدالة فى التوزيع، لأنك إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر، تجد الأكبر أحظهم زمنا مع أبيه وأمه والصغير أقلهم زمنا، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطى الأب والأم شحنة زائدة من العاطفة تجاهه، وأيضا فإن الكبير قد يستغنى والصغير مازال في حاجة، ولذلك قال سبحانه فى أخوة يوسف: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾
[يوسف: ٨] أى أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء. وهذا الظن دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة، وهذا هو الأمر الطبيعي، فهم جاءوا بالدليل الذى هو ضدهم.
إذن فحين يوجد الناشىء الذى يحتاج إلى أن يربى التربية التي يعين عليها الحنان والعطف، فلا بد من أن نأتى لليتيم الذى فقد الحنان الأساسى ونقنن له، ويأتى الحق سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنسانى قطاعات، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له، فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات، هذا سيذهب لأبيه وأمه ولأولاد أخيه، وهذا كذلك، فتتجمع الدوائر. وبعد ذلك يعيش المجتمع كله في تكافل، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية فى كل نفس، ومادام اليتيم يقيم معنا كفرد فلا بد من العناية له.
1993
إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون: «درة يتيمة» أى وحيدة فريدة، وهكذا اليتيم وحيد فريد، إلا أنهم جاءوا فى الإنسان وفى الأنعام وفى الطير وقالوا: اليتيم فى الإنسان من فقد أباه، واليتيم فى الأنعام من فقد أمه، لماذا؟ لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيها الإناث وتنتهى. والأم هى التى تربى وترضع؛ فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه.
أما اليتيم فى الطير فمن فقدهما معا. فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر؛ ولذلك يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معا ففيه حياة أسرية، والحق سبحانه وتعالى جاء فى اليتيم الذى هو مظهر الضعف فى الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ... ﴾
1994
وكيف نؤتى اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أ، نعطيه المال فيضيعه؟
انظر الى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] وقبل ذلك ماذا نفعل؟ هل ندفع لهم الأموال؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطى هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه
1994
كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أى تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة.
إذن فقوله: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ أى أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا ﴿وابتلوا اليتامى﴾ فهناك أناس يريدون أن يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكى ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه: لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة فى بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا؟
إن قول الحق ﴿وابتلوا اليتامى﴾ أى اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمرى، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعانى من قصور عمرى بل من قصور عقلى، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥] فهل هى أموالكم؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف فى المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق: ﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] إنه سبحانه يقول مرة فى الوصاية: ﴿أَمْوَالَكُمُ﴾ وفى العطاء يقول: ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك، لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه
1995
وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول: ﴿وارزقوهم فِيهَا﴾ [النساء: ٥] اجعلوا الزرق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم؟ إنك تثمر له المال لا أن تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا.
﴿وارزقوهم فِيهَا﴾، و ﴿فى﴾ هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها.
﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شىء جميل، فيأخذه الوصى لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصى فرس قبيح فيأخذه ويقول: فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة، ؟ أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ يعنى إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا؟ تأتى الاجابة: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾ أى إثما فظيعا.
ثم يتنقل الحق إلى قضية آخرى يجتمع فيها ضعف اليتم، وضعف النوع: ضعف اليتم سواء أكان ذكرا أم أنثى، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد؛ فهى قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف النوع، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها، يجوز أن يقول: إنها تملك مالا فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال؟ وهذا يحدث كثيرا.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
1996
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ... ﴾.
1997
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة أن يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم فى غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها. وقوله الحق: ﴿وإن خفتم ألا تقسطوا﴾ من «أقسط» أي عدل، والقسط من الألفاظ التى تختلط الأذهان فيها، و «القسط» مرة يطلق ويراد به «العدل» إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتى الحق سبحانه فيقول: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ وهكذا نعرف أن كلمة «قسط» تأتى مرة للعدل ومرة للجور.
ف «قسط» «يقسط» «قسطا» و «قسوطا» أي ظلم بفتح القاف فى «قسط» وضمها فى «قُسوط».
والقسط بكسر القاف هو العدل. والقسط بفتح القاف - كما قلنا - هو الظلم وهناك مصدر ثان هو «قسوط» لكن الفعل الواحد، وعندما يقول الحق: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾ من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك فى اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك: فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد
1997
على صاحب العتاب: أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.
ويقال: محمد عتب على علىّ. فماذا كان موقف علىّ؟ يقال: أعتب محمدا أي طيبب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك «أقسط» أي أزال القسط والظلم. إذن «القسط» هو العدل من أول الأمر، لكن «أقسط. إقساطا» تعنى أنه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو: قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال «أقسط» و «تقسطوا» بالضم فمعناها أنه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥]
والقاسطون هنا من القسط - بالفتح - ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضاً: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [المائدة: ٤٢] أى أن الله يجب الذين إن رأوا ظلما أزالوه وأحلوا محله العدل.
الحق هنا فى سورة النساء يقول: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى﴾ أى إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل.
أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ
1998
واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة؛ لأن النساء غيرها كثيرات. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾.
وقوله الحق: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ أى غير المحرمات فى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٢٢] وفي قوله سبحانه: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
1999
أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} وهنا يجب أن نفهم لماذا جاء هذا النص؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا؟
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتى إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه: اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أن ناظرا في ضعفها أو لأنها لم يعد لها وليّ يقوم على شأنها غيرك.
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ ما معنى مثنى؟ يقال «مثنى» أي اثنين مكررة، كأن يقال: جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
ويقال: جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة؛ ثلاثة. ويقال: جاء القوم رباع.
أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
ولو قال واحد: إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له: لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاع﴾.
فإذا قال مدرس لتلاميذه: افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب؟ إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
وعندما يقول المدرس: أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
2000
وعندما يقال: اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابله الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء، وثالث ينكح أربع نساء.
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل ما المرجح في فعلك؟ إنه مجرد رغبتك.
ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أمام التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة.
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلا بد للمرأة أن تكره زواج الرجل عليها بإمرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يلزموا أنفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فإن لم تفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال: انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، أو ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة.
فكيف نأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك
2001
يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله - والسطحيون في الفهم يقولون: إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكماً عن الله لابد أن يأخذ كل منهج الله.
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على اخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول: إن الله قال: اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم: بالله أهذا تشريع؟، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٢٩] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغيير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
2002
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة «منامة» صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد، وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة: إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه عندك.
والعدالة المطلوبة - أيضا - هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها، فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا هذا فيقول: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم ويعدل ويقول:» اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك «يعني القلب».
إذن فهذا معنى قول الحق: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: ١٢٩] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك، ولا تدخل في اختيارك، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى، أو ترتاح جنسيا عند واحدة ولا ترتاح عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تدل واحدة على واحدة. وإذا كان هذا في النساء المتعددات - وهن عوارض - حيث من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة - بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لا بد أيضا من العدالة.
2003
والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد، فأخذ إباحة الله في التعدد، ثم لم يعدل، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين، فيأخذون من ذلك حجة على الإسلام. والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما نظروا إلى ذلك، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه للنقد والنيل من أعدائه له. فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور، لا، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام.
إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله. فسدّ كل ثغرة من هذه الثغرات، وإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا لم يقف به عند قدرته، وإن وقف به عند اختياره، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين مرض كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه، ولكنه كان يأمر بأن يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير.
وكان إذا سافر يقرع بينهن، هذه هي العدالة.
وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا، ولا يشرع إلا صدقا، ولا يشرع إلا خيرا. ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله، حتى لا يجد ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم نفسه بواحدة. ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة، هل انتفت العدالة مع النفس الواحدة؟ لا، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه. ولذلك حينما شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس لها ضرائر، فكان عنده أحد الصحابة، فقال له: أفتها «أي أعطها الفتوى».
2004
قال الصحابي: لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال.
ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا، فهي تستحق الليلة الرابعة. وسُر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة.
إذن قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ [النساء: ١٢٩] أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه، لا. إنما العدالة في الأمر الاختياري، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال - سبحانه -: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا: إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا نستطيع العدل.
ولهؤلاء نقول: هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول: اعدلوا وأنا أعلم أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي لا يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم، ولذلك قال: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾.
نقول ذلك للذين يريدون أن يطلقوا الحكم غير واعين ولا فاهمين عن الله، ونقوله كذلك للفاهمين الذين يريدون أن يدلسوا على منهج الله، وهذه المسألة من المسائل التي تتعرض للأسرة، وربها الرجل. فهب أن رجلا ليس له ميل إلى زوجته، فماذا يكون الموقف؟ أمن الأحسن أن يطلقها ويسرحها، أم تظل عنده ويأتي بامرأة تستطيع نفسه أن ترتاح معها؟ أو يطلق غرائزه في أعراض الناس؟
إن الحق حينما شرع، إنما شرع دينا متكاملا، لا تأخذ حكما منه لتترك حكما آخر.
2005
والأحداث التي أرهقت المجتمعات غير المسلمة ألجأتهم إلى كثير من قضايا الإسلام. وأنا لا أحب أن أطيل، هناك بعض الدول تكلمت عن إباحة التعدد لا لأن الإسلام قال به، ولكن لأن ظروفهم الاجتماعية حكمت عليهم أنه لا يحل مشاكلهم إلا هذا، حتى ينهو مسألة الخليلات. والخليلات هنّ اللائي يذهب إليهن الرجال ليهتكوا اعراضهن ويأتوا منهن بلقطاء ليس لهم أب.
إن من الخير أن تكون المرأة الثانية، امرأة واضحة في المجتمع. ومسألة زواج الرجل منها معروفة للجميع، ويتحمل هو عبء الأسرة كلها. ويمكن لمن يريد أن يستوضح كثيرا من أمر هؤلاء الناس أن يرجع إلى كتاب تفسير في هذا الموضوع للدكتور محمد خفاجة حيث أورد قائمة بالدول وقراراتها في إباحة التعدد عند هذه الآية.
وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة وهي: أن التعدد لم يأمر به الله، وإنما أباحه، فالذي ترهقه هذه الحكاية لا يعدد، فالله لم يأمر بالتعدد ولكنه أباح للمؤمن أن يعدد. والمباح أمر يكون المؤمن حرا فيه يستخدم رخصة الإباحة أو لا يستعملها، ثم لنبحث بحثا آخر. إذا كان هناك تعدد في طرف من طرفين فإن كان الطرفان متساويين في العدد، فإن التعدد في واحد لا يتأتى، والمثل هو كالآتي:
إذا دخل عشرة أشخاص حجرة وكان بالحجرة عشرة كراسي فكل واحد يجلس على كرسي، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يأخذ واحد كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليمد عليه ساقيه، لكن إذا كان هناك أحد عشر كرسيا، فواحد من الناس يأخذ كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليستند عليه، إذن فتعدد طرف في طرف لا ينشأ إلا من فائض. فإذا لم يكن هناك فائض، فالتعدد - واقعا - يمتنع، لأن كل رجل سيتزوج امرأة واحدة وتنتهي المسألة، ولو أراد أن يعدد الزواج فلن يجد.
إذن فإباحة التعدد تعطينا أن الله قد أباحه وهو يعلم أنه ممكن لأن هناك فائضا. والفائض كما قلنا معلوم، لأن عدد ذكور كل نوع من الأنواع أقل من عدد الإناث. وضربنا المثل من قبل في النخل وكذلك البيض عندما يتم تفريخه؛ فإننا نجد عددا
2006
قليلا من الديوك والبقية إناث. إذن فالإناث في البنات وفي الحيوان وفي كل شيء أكثر من الذكور.
وإذا كانت الإناث أكثر من الذكور، ثم أخذ كل ذكر مقابله فما مصير الأعداد التي تفيض وتزيد من الإناث؟ إما أن تعف الزائدة فتكبت غرائزها وتحبط، وتنفس في كثير من تصرفاتها بالنسبة للرجل وللمحيط بالرجل، وإما أن تنطلق، تنطلق مع من؟ إنها تنطلق مع متزوج. وإن حدث ذلك فالعلاقات الاجتماعية تفسد.
ولكن الله حين أباح التعدد أراد أن يجعل منه مندوحة لامتصاص الفائض من النساء؛ ولكن بشرط العدالة.
وحين يقول الحق: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة﴾ أي إن لم نستطع العدل الاختياري فليلزم الإنسان الواحدة.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
وهناك من يقف عند ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ويتجادل، ونطمئن هؤلاء الذين يقفون عند هذا القول ونقول: لم يعد هناك مصدر الآن لملك اليمين؛ لأن المسلمين الآن في خنوع، وقد اجترأ عليهم الكفار، وصاروا يقتطعون دولا من دولهم. وما هبّ المسلمون ليقفوا لحماية أرض إسلامية. ولم تعد هناك حرب بين مسلمين وكفار، بحيث يكون فيه أسرى، و «ملك اليمين».
ولكنا ندافع عنه أيام كان هناك ملك يمين. ولنر المعنى الناضج حين يبيح الله متعة السيد بما ملكت يمينه، انظر إلى المعنى، فالإسلام قد جاء ومن بين أهدافه أن يصفي الرقّ، ولم يأت ليجىء بالرق.
وبعد أن كان لتصفية الرق سبب واحد هو إرادة السيد. عدد الإسلام مصاريف تصفية الرق؛ فارتكاب ذنب ما يقال للمذنب: اعتق رقبة كفارة اليمين. وكفارة ظهار فيؤمر رجل ظاهر من زوجته بأن يعتق رقبة وكفارة فطر في صيام، وكفارة قتل.. الخ.. إذن فالإسلام يوسع مصارف العتق.
2007
ومن يوسع مصارف العتق أيريد أن يبقى على الرق، أم يريد أن يصفيه ويمحوه؟
ولنفترض أن مؤمنا لم يذنب، ولم يفعل ما يستحق أن يعتق من أجله رقبة، وعنده جوار، هنا يضع الإسلام القواعد لمعاملة الجواري:
- إن لم يكن عندك ما يستحق التكفير، فعليك أن تطعم الجارية مما تأكل وتلبسها ما يلبس أهل بيتك، لا تكلفها ما لا تطيق، فإن كلفتها فأعنها، أي فضل هذا، يدها بيد سيدها وسيدتها، فما الذي ينقصها؟ إن الذي ينقصها إرواء إلحاح الغريزة، وخاصة أنها تكون في بيت للرجل فيه امرأة، وتراها حين تتزين لزوجها، وتراها تخرج في الصباح لتستحم، والنساء عندهن حساسية لهذا الأمر، فتصوروا أن واحدة مما ملكت يمين السيد بهذه المواقف؟ ألا تهاج فيها الغرائز؟
حين يبيح الله للسيد أن يستمتع بها وأن تستمتع به، فإنه يرحمها من هذه الناحية ويعلمها أنها لا تقل عن سيدتها امرأة الرجل فتتمتع مثلها. ويريد الحق أيضا أن يعمق تصفية الرق، لأنه إن زوجها من رجل رقيق فإنها تظل جارية أمة، والذي تلده يكون رقيقا، لكن عندما تتمتع مع سيدها وتأتي منه بولد، فإنها تكون قد حررت نفسها وحررت ولدها، وفي ذلك زيادة في تصفية الرق، وفي ذلك إكرام لغريزتها. لكن الحمقى يريدون أن يؤاخذوا الإسلام على هذا!!
يقول الحق: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ فالعدل او الاكتفاء بواحدة او ما ملكت اليمين، ذلك أقرب ألا تجوروا. وبعض الناس يقول: ﴿أدنى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم. ونقول لهم: إن كان كذلك فالحق أباح ما ملكت اليمين، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر، وقوله: ﴿ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ أي أقرب ألا تظلموا وتجوروا، لأن العول فيه معنى الميل، والعول في الميراث أن تزيد أسهم الأنصباء على الأصل، وهذا معنى عالت المسألة، وإذا ما زاد العدد فإن النصيب في التوزيع ينقص.
وبعد ذلك يقول الحق:
2008
﴿وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ... ﴾.
2009
والمقصود ب ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ هو المهور، و ﴿نِحْلَةً﴾ هي العطية، وهل الصداق عطية؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا: أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإليهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي:
الرجل يتزوج المرأة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الانجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء ﴿وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة﴾ والأمر في ﴿َآتُواْ﴾ لمن؟ إما أن يكون للزوج فقوله: ﴿وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ﴾ يدل صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون أن يكون دينا على أن المرأة إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإمّا أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية - إذن - إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يُشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.
لذلك يقول: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾.
لقد عرّف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية وأن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب
2009
النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحت ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس. ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا.
والإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام عليّ - كما نعرف - مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
لم يكن الإمام عليّ طبيبا. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام عليّ وإشراقاته.
قال الإمام عليّ للرجل: خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته - أي قريب عهد بالله - واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً﴾ [ق: ٩].
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: ٦٩] وسمعته يقول في مهر الزوجة: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤]
2010
فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام عليّ علاجا من آيات القرآن.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة، فيقول سبحانه: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء... ﴾.
2011
ومن هو السفيه؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرّف ماله بالحكمة. ومَن الذي يعطي ماله إلى سفيه؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال - ومثال على ذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١].
هل أحد منا يلمز نفسه؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ﴾ يعني أن الله يريد أن يقول: إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال، ويفسده، وحين يكون سفيهاً فالمال ليس له - تصرفا وإدارة - ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
2011
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أنّ الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطي لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه: «لا» إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك.
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا﴾ وهل السفيه لا يعيش؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد؟ أيلبس السفيه لبس الرشيد؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه؟ لا؛ لذلك يأمر الحق ويقول: ﴿وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا﴾ ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هم فيه من سفه.
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا... ﴾.
2012
إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار اليتيم
2012
وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك، فقبل أن يبلغ الرشد، لا بد أن تجربه في مسائل جزئية فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده. بل عليك أن تختبره وتدربه وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله ويديره بنفسه. وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك.
فسبحانه يقول: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافا﴾ فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره: ماذا تريد أيها الشره؟ قال الشره: «أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم». أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾.
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول: لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى عن الولي: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً
2013
فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فلا يقولن أحد عن أحد آخر: إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم: إن عليه مسئولية واضحة.
فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به.
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيبا﴾ وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق بعلم خلقه، - وخلقه من الأغيار - والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص، حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له: لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي لليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له: لقد أكلت مالي؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي: كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
لذلك يجب عليك - أيها الولي - حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا وعدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرىء بها من المال فحسب، أما استبراء الّدين فموكل إلى الله ﴿وكفى بالله حَسِيبا﴾.
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي: من لم يطعن برمح
2014
ولم يذد عن حريم أو عن مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ... ﴾.
2015
ومن الذي يفرض هذا النصيب؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو: كيف يكون للمتوفي أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين «مندل» في الوراثة توضح أن الأولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال؟
وحين نسمع قول الحق: ﴿نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ فلا بد من أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين «فرض» و «واجب» فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين،
2015
ويوضح سبحانه الدعوة إلى إعطاء من لا نصيب له، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في التركة.
لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ... ﴾.
2016
وحين يحضر أولو القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين: إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولي القربى واليتامى والمساكين.
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة؛ لذلك يأتي الأمر الحق: ﴿فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا﴾ فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم: قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا
2016
يكون الموقف لو كان الوارث يتيما؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين: إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطبيب للخاطر.
﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، أنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يُلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.
إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة: إياك أن تلحظ يا من تؤدي الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ....﴾.
2017
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان.
2017
فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة: إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية: أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا: وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟.
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي.
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
فقال للخادم: وأنت يا «وردان» ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب الخادم: بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩]
2018
فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام: ﴿قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ [الكهف: ٦٦ - ٧١] لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة - كما توضح الآيات - فقال العبد الصالح: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾ [الكهف: ٧٢ - ٧٣] ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له:
﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾ [الكهف: ٧٤].
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن السبيل طعاما فاعلم أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما؟
2019
يقول الحق: ﴿فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧] إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى: إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا، لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.
لقد غاب عن موسى ما لم يغّيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه: ﴿وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: ٨٢] إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لا بد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذ الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا، قول الحق:
2020
﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩] لماذا؟ لأن الانسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان: إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم.
والقول السديد من الأوصياء: ألاّ يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
وحين يتقى المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتفي الله في أولاده.
وما زال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ... ﴾.
2021
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى
2021
في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون أن الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه: إن إبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة أما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.
﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا﴾ [النساء: ١٠] إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب: «فلان بطنه واسعة» إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم: أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم: فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وإلا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
ويقول الحق سبحانه وتعالى:
2022
﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ... ﴾.
2023
ونعم الرب خالقنا؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند أبائنا. وقوله الكريم: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ توضح أنه رحيم بنا ويحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد - بالاستقراء - أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه: ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] وقال سبحانه: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى: ١٣]
2023
وقال الحق أيضا: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ﴾ [لقمان: ١٤] كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.
لكن عندما وصّى الآباء على الأبناء قال: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية. وما هي الوصية؟ إنها ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ وقلنا من قبل: إن الحق قال: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾ [النساء: ٧] ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.
فقد قال الحق سبحانه أولا: ﴿لرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾ [النساء: ٧]
2024
وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القُربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُم﴾ ويأتي البند الأول في الوصية ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ ولماذا لم يقل «للأنثيين مثل حظ الذكر». أو «للأنثى نصف حظ الذكر»، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب.
لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال: «للأنثى نصف حظ الرجل» لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾.
والذين يقولون: هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم: انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج، وإن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يُرد إليه الأمر؛ لأن الرجل المطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها.
إذن فما تأخذه من نصف الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا: لماذا حابى الله المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك﴾.
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل
2025
إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية.
إنه - سبحانه - لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطي في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وأنه ينقلك من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك: مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا؟ لأن الله يريد لك يا صلحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر.
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام.
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه «الاستغماية»، ويختبىء كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه.
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا لعبة إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الإبن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلىء بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دُربة.
والحق سبحانه أراد أن تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين
2026
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث ﴿وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف﴾ وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للاثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث.
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٧٦] لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة إن لم يكن للمورث ولد - ابن أو بنت - فإذا كان للأختين الثلثان، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالإبنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن
2027
كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد.
ومن العجيب أنه جاء بالجمع في الآية الأولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك - في آية توريث البنات - لينسحب على المثنى هناك.
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى نأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم.
وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله. ﴿إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٧٦] وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث﴾.
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له الأولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أولأب أولأم السدس حسب النص القرآني {فَإِن
2028
كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ}، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدّين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين؛ لأن الدين له مُطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: ١١] فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان: «لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل». والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان: إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمى والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق: إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم؛ فليس لك شأن بهذا الأمر: ﴿لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾.
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون.
ونحن حين نسمع: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أو نسمع: ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيما﴾ فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رحيما فهو لا يزال كذلك إلى الأبد.
فالأغيار لا تأتي إلى الله، وثبت له العلم والحكمة والخبرة والمغفرة والرحمة أزلا وهو غير متغير، وهذه صفات ثابتة لا تتغير. لذلك فعندما تقرأ: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أو ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، فالمسلم منا يقول بينه وبين نفسه: ولا يزال كذلك.
والحق يقول من بعد ذلك:
2029
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... ﴾.
2030
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة - كما قلنا - أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
2030
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء بالثلث، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٧٦] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيم﴾ ؟
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا: إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في
2031
سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
[النساء: ١٧٦] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟
لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما أخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية، وهما المعنيان في الآية ١٧٦ من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط، وإما أن يكون أخا لأب، أو أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال - والعياذ بالله - القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد
2032
على من يقول ذلك: أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه «البعدية» أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدّين.
ولنا أن نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟
والإجابة: لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية - وهي التطوع - على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله ولدا ذكرا يعصّبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات.
ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب أن تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟
وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب
2033
من الأسباب، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: ١١] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى: ١٣] والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: ١٥١] وما دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك أنها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية: ﴿والله عَلِيمٌ حَلِيم﴾ أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل.
2034
مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث شريف: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة.
ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: «عندما
2035
تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك» ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: «إن الصك عندنا» واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه.
وذلك يقول لنا الحق: ﴿والله عَلِيمٌ حَلِيم﴾ حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا: إنه ﴿حَلِيم﴾ فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة.
وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله... ﴾.
2036
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحدّ الله حدودا.. أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى «حد» أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له
2036
من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، هي نوعان: نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجداران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه «حد الجيرة» ليمنع الضرر، وهو ليس «حد الملكية» فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يُروي بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة: «لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك»، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩] وفي النواهي يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: ١٨٧] أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول: «لا تشرب الخمر»، وإنما يقول: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه﴾. أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
2037
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة: أقال الحق: «لا تأكلا من الشجرة» ؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة؟ سبحانه قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ [الأعراف: ١٩] وهذا حد اسمه «حد عدم المضارة» إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة.
وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه « ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول هذا الحديث:»
الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب «.
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٧] إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجة لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾.
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق:
2038
﴿تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم﴾ [النساء: ١٣] وكان يكفي أن يقول الحق -» ومن يطع الله «ولكنه قال:» ومن يطع الله ورسوله «من بعد بيان الحدود - وذلك لبيان أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يُشرّع؛ لذلك فلا تقل في كل شيء:» أريد الحكم من القرآن «.
ونرى من يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض في التشريع وهو القائل: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧] إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرع.
هم يقولون: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا:
يا رسول الله لقد قلت: روي المقدام بن معدي كرب قال: حرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم
2039
كتاب الله فما وجدا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله «.
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام؟
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق، فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي..
والحق يقول: ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين؟
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك: لم تجعل للدين موضوعا، إياك أن تقول: موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل: هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان؟
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدِّين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع؛ لذلك فإياكم أن تقولوا: دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا ُتقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول: إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أواثنتين أو جنات، وهل دلالة «من»
للواحد؟ لا، إن «من» تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع،
2040
مثال ذلك نقول: جاء من لقيته أمس ونقول أيضا: جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا: جاء من لقيتهم أمس.. إذن ف «من» صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن فرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] على الرغم من أن القياس أن تقول: «إياك أعبد وإياك أستعين». لكن قال سبحانه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليوضح لنا أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت: (مَن) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول: إن هذا الكلام غير محقق علميا؛ لأن لفظ «من» لم يقل أحد إنه للمفرد.
بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل: استعمل لفظ «من» مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ «من» موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات: لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] فقلت له: إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان﴾ [الرحمن: ١ - ٣]
2041
وبعد ذلك قال الحق: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: ١٤ - ١٥] وقال سبحانه: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان﴾ [الرحمن: ٣١] وقال تعالى: ﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣] إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٢]
2042
فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ويجب أن نفهم أن النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ فأين تجري الأنهار؟
أتجري الأنهار تحت زروعها، أم تحت بنيانها؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو - سبحانه - يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ومرة أخرى يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار﴾ فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله - سبحانه - ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار﴾ قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات.
لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ حتى لا يظن أحد أن هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها أنهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل: ألا أستطيع أن آخذ من هذه وأنا مهندس أضع تصميمات مباني الدنيا وآخذ من قول الحق إنه من الممكن أن تقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ وبالفعل أخذ البشر هذا الأمر اللافت.
نحن نقيم القناطر وهي مبان وتجري من تحتها الأنهار، وعندما تكون المواصفات
2043
صحيحة في الطوب والاسمنت إلى آخر المواصفات فلا نشع يحدث ولا خلخلة في المبنى. فالخلل الذي يحدث في المباني عندنا، إنما يأتي من آثر الخيانة في التناول. ومن الممكن أن تجري الأنهار تحت قصور الجنة. التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ألا يوحي ذلك للمهندس المسلم أن يحيا في هذه اللفتة الإلهية ويأخذ منها علما ويستطيع أن يقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ لو تنبهت إلى ذلك إيمانية مهندس وأخذ يتعلم عن ربه كيفية أداء العمل. لفعل ذلك بتوفيق الله.
ولنتكلم على مصر التي تعاني من أزمة إسكان، ونجد أن المساحة المائية تأخذ قدرا كبيرا من الأرض، سواء أكانت النيل، أم الفروع التي تأخذ من النيل، وكذلك الترع الصغيرة وكذلك الطرق فلو أن هناك هندسة إيمانية لاستغلت المساحات والمسطحات المعطلة، نقيم عليها مباني تسع مرافق الدولة كلها، ويتم إنجاز المباني فوق الطرق وفوق المياه وفوق المصارف. وليس معنى ذلك أن نبني كل الأماكن حتى تصير مسدودة بالمباني، ولكن نبني الثلث، ونترك فراغا مقدار الثلثين حتى لا نفسد المنظر، ولا نتعدى على أرض خضراء مزروعة، إنها إيحاءات إيمانية على المهندس المسلم أن يفكر فيها.
إن بلدا كالقاهرة تحتاج إلى مرافق مختلفة متنوعة، ونستطيع أن نبني على الفراغات سواء أكانت فراغات في مساحات النيل شرط مراعاة الفراغات والزروع اللازمة لجمال البيئة وتنقيتها من التلوث. أم نبني المرافق تحت الأرض، ولن تكون هناك أزمات للإسكان أو المرافق، هذا بالإضافة إلى الانتفاع بالصحراء في هذا المجال.
والحق يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ صحيح أن الجنة ستكون نعيما ليس على قدر تصورك ولكن على قدر كمال وجمال قدرة الحق، فالنعيم الذي يتنعم فيه الإنسان يكون على قدر التصور في معطيات النعيم، وقلنا قديما: إن عمدة إحدى القرى قال: أريد أن أبني مضيفة وحجرة للتيلفون، ومصطبة نفرشها. هذا هو النعيم في تصور العمدة. ونحن في الحياة نخاف أن نترك النعيم بالموت أو يتركنا النعيم.
لكن كيف يكون النعيم عند صانع كل التصورات وهو
2044
الحق سبحانه وتعالى؟ لذلك تكون جنات النعيم دائمة، فلا أنت تموت ولا هي تذهب.
والخلود هنا له معنى واضح إنه بقاء لا فناء بعده ﴿وذلك الفوز العظيم﴾ وما هو «الفوز» ؟
إنه النصر، إنه الغلبة، إنه النجاح، إنه الظفر بالمطلوب.
فإذا كان فوزنا في الدنيا يعطينا جائزة نفرح بها، فالفرح قد يستمر مدة الدنيا التي يملكها الواحد منا، فما بالنا بالفوز الذي يأتي في الآخرة وهو فوز الخلود في جنة من صنع ربنا، أليس ذلك فوزا عظيما؟
إننا إذا كنا نفرح في الدنيا بالفوز في أمور جزئية فما بالنا بالفوز الذي يمنحه الحق ويليق بعظمته سبحانه وتعالى، ولو قسنا فوز الدنيا بفوز الآخرة لوجدنا فوز الآخرة له مطلق العظمة، ومهما ضحى المؤمن في سبيل الآخرة، فهناك فوز يعوض كل التضحيات، ويسمو على كل هذا.
وإذا قال قائل: ألم يكن من الأفضل أن يقول: ذلك الفوز الأعظم نقول له: إنك سطحي الفهم لأنه لو قال ذلك لكان فوز الدنيا عظيما، لأن الأعظم يقابله العظيم، والعظيم يقابله الحقير فحين يقول الحق عن فوز الآخرة: إنه عظيم، فمعنى ذلك أن فوز الدنيا حقير، والتعبير عن فوز الآخرة هو تعبير من الحق سبحانه.
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: فيقول: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ... ﴾.
2045
وسبحانه قال من قبل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمن يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب. ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ هنا نجد ﴿نَاراً﴾ واحدة، وهناك نجد ﴿جَنَّاتٍ﴾. هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا: «خالدين» لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر. إذن فهناك ﴿جَنَّاتٍ﴾ و ﴿نَار﴾ و ﴿خَالِدِينَ﴾ و ﴿خَالِداً﴾، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر:
2046
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا - إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد.
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.
وأيضا عالجت السورة أمراً آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون - كذلك - من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيشٍ العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحقُ نصيباً محدداً للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حدّ من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن أوجد لها - قبل أن يوجدها - ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أنّ الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولاً ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولاً وأعدها لاستقبال الطارق الجديد - الإنسان - الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود
2047
الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط.
وأراد - سبحانه وتعالى - أن يكون الإمتاع مصاحباً لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقَّات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان.
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.
ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل:
ما دام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنساناً قوياً وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم؟. نقول: جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنيناً أو طفلاً أو صبياً أو رجلاً أو هرماً، بل نحن نجد في الحياة إنساناً هرماً مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا؟.
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائماً على استعداد أن يموت في أي لحظة.
وما دام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقي الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني؛ منهج يجعل المؤمنين جميعاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإذا مات رجل وترك طفلاً يتيماً، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئناناً ويقيناً. ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله.
وما دام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب
2048
السعي في الأرض لتستبقي الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يُغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، ويوضح الحق للإنسان: أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضاً.
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل واحد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاماً أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقاً يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضاً. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثورة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الإنسيابي. كأن نجد واحداً يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتاً انسيابياً وليس بالتوزيع القهري الذي يُنشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦].
هو سبحانه لا يقول لأي واحد: هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا: إنه سبحانه وتعالى يحنن عبداً على عبد فيقول: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: ١١].
2049
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني: إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني - أنا الله - بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني: أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا لأنه سبحانه هو الذي استدعي الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعاً.
. المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الإنسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضاً من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدرة على الحركة، ولذلك قال الحق: ﴿إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦].
إنه سبحانه لا يقول: أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه - سبحانه - هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك: ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد: ٣٧].
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئاً لأولاده؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك؟
2050
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح: أنا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.
ويقول الحق: ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.
وضع أساس للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق - سبحانه وتعالى - لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدوداً ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار - والعياذ بالله - فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك ويحاة من تعول.
وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن الإنسان عمراً محدوداً في الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريماً؛ لذلك يأمرنا الحق - سبحانه - أن نستبقي النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر، فإياك أن تستبقي نوعا من وعاءٍ خبيثٍ نجس، اختلطت فيه مياه أناس متعددين، فلا يدري أحد لمن ينسب الولد فيصير مضيعاً في الكون، مجهول النسب فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقي النوع بكرامة.
والحصول على الأوعية النظيفة يكون بالزواج، فيختار الرجل أنثى عفيفة ذات دين وترضي به زوجاً أمام أعين الناس جميعاً، ويصير معروفا للجميع أن هذه امرأة هذا، وهذا زوجها، دخوله وخروجه غير ممقوت أو موقوت. وما ينشأ من الذرية
2051
بعد ذلك يكون قطعا منسوبا إليه. ويخجل الإنسان أن يكون ابنه مهينا أو عاريا أو جائعا أو غير معترف به؛ لذلك يحاول الأب أن يجعل من ابنه إنساناً مستوفيا لكل حقوقه مرفوع الرأس غير مهين، لا يقدحه واحد فَيَسُّبُهُ وينال منه قائلا: جئت من أين؟ أو من أبوك؟ فلا يعيش الطفل كسير الجناح ذليلا طوال عمره. فأراد سبحانه استبقاء النوع برابطة تكون على عين الجميع، وأن تكون هذه الرابطة على الطريق الشرعي.
ومن العجيب أننا نجد هذه المسألة ذات آثار واضحة في الكون، فالتي تحاول أن تزيل أثر جريمتها يجبرها الحنان الطبيعي كأم ألا تلقي ابنها الوليد في البحر بل أمام مسجد؛ فالطفل مربوط بحنان أمه ولكن الحنان غير شرعي ولذلك ترمي الأم الزانية بطفلها أمام المسجد حتى يلتقطه واحد من الناس الطيبين، فالزانية نفسها تعرف أنه لا يدخل المسجد إلا إنسان طيب قد يحن على الوليد ويأخذ هذا الطفل ويصير مأمونا عليه.
وهي لا تلقي بوليدها عند خمارة أو دار سينما، ولكن دائما تضعه عند أبواب المساجد، فالحنان يدفعها إلى وضع الطفل غير الشرعي في مثل هذا المكان؛ لأنها تخاف عليه، لذلك تلفه وتضعه في أحلى الملابس، وإن كانت غنية فإنها تضع معه بعضا من المال؛ لأن الحنان يدفعها إلى ذلك، والحياء من الذنب هو الذي يجعلها تتخلص من هذا الطفل.
إنها - كما قلنا - تحتاط بأن تضعه في مكان يدخله أناس طيبون فيعثر عليه رجل طيب، يأخذه ويكون مأمونا عليه. إذن فحتى الفاسق المنحرف عن دين الله يحتمي في دين الله؛ وهذا شيء عجيب.
والله يريد أن يبني بقاء النوع على النظافة والطهر والعفاف ولا يريد لجراثيم المفاسد أن توجد في البيوت؛ لذلك يشرع العلاقة بين الرجل والمرأة لتكون زواجا أمام أعين الناس. ويأخذ الرجل المرأة بكلمة الله.
وأضرب هذا المثل: نحن نجد الرجل الذي يحيا في بيت مطل على الشارع وله
2052
ابنة وسيمة والشباب يدورون حولها - ولو عرف الرجل أن شابا يجيء ويتعمد لينظر إلى ابنته فماذا يكون موقف الرجل من الشاب؟ إن الرجل قد يسلط عليه من يضربه أو يبلغ ضده الشرطة ويغلى الرجل بالغيظ والغَيْرة.
وما موقف الرجل نفسه عندما تدق الباب أسرة شاب طيب يطلبون الزواج من ابنته؟ يفرح الرجل ويسأل الابنة عن رأيها، ويبارك للأم ويأتي بالمشروبات ويوجه الدعوات لحفل عقد القرآن، فما الفرق بين الموقفين؟
لماذا يغضب الأب من الشاب الذي يتلصص؟ لأن هذا الشاب يريد أن يأخذ البنت بغير حق الله، أما الشاب الذي جاء ليأخذ الابنة زوجة بحق الله وبكلمة الله فالأب يفرح به وينزل الأمر عليه بردا وسلاما.
وبعد ذلك يتسامى الأمر، ويتم الزفاف ويزور الأب ابنته صباح الزفاف ويرغب أن يرى السعادة على وجهها.
إن الفارق بين الموقفين هو ما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عَوانٍ في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
وما دام الله هو الذي خلق الرجل والمرأة وشرع أن يجتمعا وتكون كلمة الشاب: «أريد أن أتزوج ابنتك» بردا وسلاما على قلب الأب، ويكون الفرح والاحتفال الكبير؛ لأن هذه مسألة عفاف وطهر. والله يريد أن يجعل استبقاء النوع الإنساني استبقاءً نظيفا لا يُخجل أن تجيء منه ولادة، ولا يخجل منه المولود نفسه، ولا يُذَم في المجتمع أبدا، إذا استبقينا النوع بهذا الشكل؛ فهذا هو الاستبقاء الجميل للنوع. واستبقاء النوع هو الذي تأتي من أجله العملية الجنسية وأراد الله أن يشرعها حلالا على علم الناس ويعرفها الجميع.
وقد سألني سائل وأنا في الجزائر: لماذا تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على كلمات
2053
نحو: «زوجتك موكلتي، أو تقول هي: زوجتك نفسي» ويقبل الرجل، وتنكسر العلاقة بكلمة «أنت طالق» ؟ وأجبته: لماذا يستبيح الرجل لنفسه أن يمتلك بضع الزوجة بكلمتين؟ ويستكثر أن تخرج من عصمته بكلمتين؟ فكما جاءت بكلمة تذهب بكلمة.
إن الحق سبحانه وتعالى كما استبقى الحياة بالعناصر التي تقدمت، يريد أن يستبقي النوع بالعناصر التي تأتي، وأوضح لنا أن كل كائن يتكاثر لا بد له من إخصاب، والإخصاب يعني أن يأتي الحيوان المنوي من الذكر لبويضة الأنثى كي ينشأ التكاثر، والتكاثر في غير الإنسان يتم بعملية قسرية.
ففي الحيوانات نرى الأنثى وهي تجأر بالصوت العالي عندما تنزل البويضة في رحمها كالبقرة مثلا، حتى يقول الناس جميعا: إن البقرة تطلب الإخصاب، وعندما يذهب بها صاحبها إلى الفحل ليخصبها تهدأ، ولا تمكن فحلا آخر منها من بعد ذلك، وهكذا يتم حفظ النوع في الحيوانات.
أما في النباتات؛ فالأنثى يتم تلقيحها ولو على بعد أميال. ونحن نعرف بعضا من ذكور النبات وإناثها مثل ذكر النخل والجميز، لكننا لا نعرف التفريق بين ذكورة وأنوثة بعض النباتات، وقد يعرفها المتخصصون فقط، وبعض النباتات تكون الذكورة والأنوثة في عود واحد كالذرة مثلا؛ فالأنوثة توجد في «الشراشيب» التي توجد في «كوز» الذرة، وعناصر الذكورة توجد في السنبلة التي يحركها الهواء كي تنزل لتخصب الأنوثة، وكذلك القمح.
وهناك أنواع من النباتات لا نعرف ذكورتها! بالله أيوجد أحدٌ عنده ذكر مانجو أو ذكر برتقال؟
إذن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها، لكن لا بد من أن تتلاقح إخصابا لينشأ التكاثر، فيوضح ربنا: اطمئنوا أنا جعلت الرياح حاملة لوسائل اللقاح، يأخذ الريح اللواقح إلى النباتات، والنبات الذي يكون تحت مستوى الريح يسخر الله له أنواعا من الحشرات غذاؤها في مكانٍ مخصوصٍ من النبات وله لون يجذبها، حشرة يجذبها اللون الأحمر، وحشرة يجذبها اللون الأبيض؛ لأن الحشرة تذهب للذكورة فيعلق بها حيوان الذكورة، فتذهب إلى الأنثى المتبرجة بالزينة، وهذه العملية تحدث
2054
ولا ندري عنها شيئا.
من الذي يلقح؟ من الذي يعلمها؟ إنه الله القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فاستبقى لنا الأنواع غريزيا وقسريا، بدون أن نعرف عن الكثير منها شيئا، حتى المطر لا يمكن أن ينزل إلا إذا حدثت عملية تلقيح. ولذلك يقول الحق: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر: ٢٢].
إذن الحق قد استبقى لك أيها الإنسان أنواع مقومات حياتك بما لا تدريه، وجعل هذه المسائل قسرية بحيث يؤدي كل كائن وظيفته وتنتهي المسألة، لكن حين كان لك اختيار، وتوجد مشقات كثيرة في الإنجاب وحفظ النوع، فقد قرن - سبحانه - حفظ النوع بالمتعة، وإياك أن تعزل حفظ النوع عن المتعة، فإن أخذت المتعة وحدها فقد أخذت الفرع وتركت الأصل، فلا بد أن تفعلها لحفظ النوع المحسوب عليك.
إذن فإياك أن تلقي حيوانك المنوي إلا في وعاء نظيف، محسوب لك وحدك كي لا تنشأ أمراض خبيثة تفتك بك وبغيرك، ولكيلا ينشأ جيل مطموس النسب، ولكيلا يكون مهينا ولا مدنسا في حياته؛ فإياكم أن تأخذوا قضية حفظ النوع منفصلة عن المتعة فيها.
ولذلك - فسبحانه - سيتكلم عن المرأة عندما تتصل بامرأة بالسحاق، أو الرجل يكتفي بالرجل باللواط للمتعة، أو رجل ينتفع بامرأة على غير ما شرع الله. فعندما تنتفع امرأة مع امرأة، وينتفع الرجل بالرجل للاستمتاع، نقول لها: أنت أيتها المرأة أخذتِ المتعة وتركتِ حفظ النوع، وأنت يا رجل أخذت المتعة وتركت حفظ النوع، والحق يريد لك أن تأخذ المتعة وحفظ النوع معا. فيوضح سبحانه أنه لا بد أن تكون المتعة في ضوء منهج الله.
واسمعوا قول الله:
2055
﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة... ﴾.
2056
و ﴿واللاتي﴾ اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة. وماذا يقصد بقوله: ﴿فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً﴾ ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض، فلا يبلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا «أربعة» في الشهادة؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل؟
قال سبحانه: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت﴾ أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ وقد جعل الله.
والذين يقولون: إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له: إن كلمة ﴿واللاتي﴾ هذه اسم موصول لجماعة الإناث، أما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي هذه الحالة يقول الحق: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٦].
2056
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمرأة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود، وسبحانه أعد المرأة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث.
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه. أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول: «حدث ماس كهربائي»، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الأضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر؟
إنني أقول هذا الكلام ليُسَجَّل، لأن العلم سيكشف - إن متأخرا أو متقدما - أن لله سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله «زوجني.. وتقول له زوجتك» فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع.
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة: إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ [فصلت: ٥٣].
2057
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة البشرية، لأن المسألة ذكورة وأنوثة.
والحق سبحانه القائل: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩].
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان؟
وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس:
- لماذا عَدَّدتم للرجل نساءً، ولم تعددوا رجالاً للمرأة؟
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله؛ حتى تقول المرأة الساذجة - متمردة على دينها -: «ليس في هذا الدين عدالة» ؛ لذلك سألت من سألوني: أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا؟
فكان الجواب: نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن.
قلت: بماذا احتطتم لصحة الناس؟
قالوا: بالكشف الطبي الدوري المفاجئ.
قلت: لماذا؟
قالوا: حتى نعزل المصابة بأي مرض.
قلت: أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين؟
قالوا: لا.
قلت: لماذا؟؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت: لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد.
2058
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا؛ لذلك قال:
﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥].
والمقصود ب ﴿نسائكم﴾ هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لأنهم غير مؤمنين بالله، وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت.
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي. وهناك فرق بين من أُصِبْن ب «مرض معدٍ» ومن أصبن ب «العطب والفضيحة».
فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة؛ لذلك يقول الحق: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خذوا عني خذوا عني: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد.. والثيب بالثيب رجم. وبعض من الناس يقول: إن الرجم لم يرد بالقرآن.
2059
نرد فنقول: ومن قال: إن التشريع جاء فقط بالقرآن؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول، وكما قلنا من قبل: إن الحق قال: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧].
وبعد ذلك نتناول المسألة: حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية.
فإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنَّسْخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا والغامدية ورجم اليهودي واليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجل الوارد بالتوارة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضاً.
وقال واحد مرة: إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر؟
والحكم هنا: يُرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه.
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء - المملوكات - قال: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾ [النساء: ٢٥].
ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين جلدة.
2060
وما دام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي - إذن - حد إلا فيما ينصَّف، والرجم لا ينصَّف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو مشرع وليس مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمَةُ نصف عقاب الحرة؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت: أو تزني الحرة؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد.
لذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت، والرجم ليس له نصف.
نقول: الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد:
﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١].
إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له: إن ما تستشهد به باطل؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضاً غير إزهاق الروح بالرجم. إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل:
حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على
2061
عرض الزوج أيضاً، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض.
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون؟ إنها رقعة متسعة، فهل يساوي الله - وهو العادل - بين ثيب وبكر بجلد فقط؟ إن هذا لا يتأتى أبدا.
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفّاه رسول الله وهو المشرِّع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة.
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل من غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك بأن المنهج سليم. ولقد تعرضنا لذلك من قبل مراراً ونكررها حتى تثبت في أذهان الناس قال الحق:
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ [التوبة: ٣٣].
2062
فلا يقولن قائل: إن القرآن أخبر بشيء لم يحدث لأن الإسلام لم يطبق ولم يظهر على الأديان كلها. ونرد عليه: لو فهمت أن الله قال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ وأضاف سبحانه: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾، ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ كما جاء في موقع آخر من القرآن الكريم، لقد أوضح الحق أن الإسلام يظهر ويتجلى مع وجود كاره له وهو الكافر والمشرك. ولم يقل سبحانه: إن الإسلام سيمنع وجود أي كافر أو مشرك.
وكيف يكره الكفار والمشركون إظهار الله للإسلام؟ إنهم لا يدينون بدين الإسلام؛ لذلك يحزنهم أن يظهر الإسلام على بقية الأديان. وهل يظهر الإسلام على الأديان بأن يسيطر عليها ويبطل تلك الأديان؟ لا. إنه هو سبحانه يوضح بالقرآن والسنة كما يوضح لأهل الأديان الأخرى:
بأنكم ستضطرون وتضغط عليكم أحداث الدنيا وتجارب الحياة فلا تجدون مخلصا لكم مما أنتم فيه إلا أن تطبقوا حكما من حكم الإسلام الذي تكرهونه.
وحين تضغط الحياة على الخصم أن ينفذ رأى خصمة فهذا دليل على قوة الحجة، وهذا هو الإظهار على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون، وهذا قد حدث في زماننا، فقد روعت أمة الحضارة الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام ١٩٨١ بما يثبت صدق الإسلام في أنه حين ضمن ووضع للمخالطات التي تبقي النوع نظاما، وهو التعاقد العلني والزواج المشروع، فالحق قد ضمن صحة الخلق. لكن الحضارة الأمريكية لم تنتبه إلى عظمة قانون الحق سبحانه فَرُوِّعت بظهور مرض جديد يسمى «الإيدز» و «إيدز» مأخوذة من بدايات حروف ثلاث كلمات: حرف «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»، وحرف «I» و، «عَزَّ وَجَلَّ».
ومعنى اسم المرض بالترجمة العربية الصحيحة «نقص مناعي مكتسب» والوسيلة الأولى للإصابة به هي المخالطة الشاذة، ونشأت من هذه المخالطات الشاذة فيروسات، هذه الفيروسات مازال العلماء يدرسون تكوينها، وهي تفرز سموما وتسبب آلاما لا حصر لها، وإلى الآن يعيش أهل الحضارة الغربية هول الفزع والهلع من هذا المرض.
2063
ومن العجيب أن هذه الفيروسات تأتي من كل المخالطات الشاذة سواء أكانت بين رجل ورجل، أو بين رجل وامرأة على غير ما شرع الله.
لقد جعل الحق سبحانه وتعالى عناصر الزواج «إيجابا» و «قبولا» و «علانية» إنه جعل من الزواج علاقة واضحة محسوبة أمام الناس، هذا هو النظام الرباني للزوج الذي جعل في التركيب الكيميائي للنفس البشرية «استقبالا» و «إرسالا».
والبشر حين يستخدمون الكهرباء.. فالسلك الموجب والسلك السالب - كما قلنا - يعطيان نورا في حالة استخدامهما بأسلوب طبيعي، لكن لو حدث خلل في استخدام هذه الأسلاك فالذي يحدث هو ماس كهربائي تنتج منه حرائق.
وكذلك الذكورة والأنوثة حين يجمعها الله بمنطق الإيجاب والقبول العلني على مبدأ الإسلام، فإن التكوين الكيميائي الطبيعي للنفس البشرية التي ترسل، والنفس البشرية التي تستقبل تعطي نورا وهو أمر طبيعي.
وأوضحنا من قبل أن الإنسان حين يجد شابا ينظر إلى إحدى محارمه، فهو يتغير وينفعل ويتمنى الفتك به، لكن إن جاء هذا الشاب بطريق الله المشروع وقال والد الشاب لوالد الفتاة: «أنا أريد خطبة ابنتك لابني» فالموقف يتغير وتنفرج الأسارير ويقام الفرح.
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبِشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والأنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف.
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن.
وعلى هذا قول الحق سبحانه:
2064
﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥].
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد. ويقول الحق: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... ﴾.
2065
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل: إنني عندما أقول: «فلان أكاَّل» قد يختلف المعنى عن قولي: «فلان آكل»، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له: «أكَّال»، أي أّنّه أكثر عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها.
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول: إنه «أكول»، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد.
2065
إن قولك: «الله توَّاب» معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة.
والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول: «لم أكن أعلم» ؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع.
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة - مثلا - إنه سبحانه وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني؛ لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد آن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حداً، لماذا؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان.
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة.
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها، لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2066
بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أَنَّ هذا الأمر غير مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث، بدليل أنه لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول: يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا: أنه التواب الرحيم، لماذا؟
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة.
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعاً للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح، اسمه «تكليف» وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يُخِرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمامٍ شهوة، ولصار العاصي متمرداً لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف، يَلِغُ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور.
2067
إذن فساعة شرع الله التوبة سدَ على الناس باب «الفاقدين» الذين يفعلون ذنباً ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل: ﴿إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضاً قال: ﴿تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ أي أنه يرحم بعضاً من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية.
وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ... ﴾
2068
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله﴾ وقد يقول واحد: ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له: إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك أن تلتفت إلى دقة النص القرآني:
﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٧].
وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة؛ لذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2068
«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
فلو كان إيمانه صحيحاً ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.
والحق قد قال: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويُزْهَى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادماً ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك؟
وأضرب مثلاً للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي.
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبيْنما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شِرَّة الشهوة غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية.
والله سبحانه حين قدَّر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعاً بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملاً له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين حدد معنى «من قريب» قال: (
2069
إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾
[الحجر: ٣٩ - ٤٠].
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله - سبحانه - خيَّب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع؟ لن يستفيد المجتمع شيئاً من مثل هذه التوبة؛ لأنه تاب وقت ألاّ شر له؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ﴾ هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه؟
أنه سبحانه يقول: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ [التوبة: ١١٨].
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا: هل يتوب العبد أولاً وبعد ذلك يقبل الله التوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولاً ثم يتوب العبد؟ صريح الآية هو: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ ونقول: وهل يتوب واحد ارتجالاً منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد؟ لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.
نحن إذن أمام ثلاثة أمور: هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحداً لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعاً قدَّر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله «ليتوبوا»
2070
وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل: ﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب﴾ [غافر: ٣].
تأمل كلمة ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله﴾ تجدها في منتهي العطاء، فإذا كان الواحد فقيراً ومديناً وأحال دائنه إلى غني من العباد فإنّ الدائن يفرح؛ لأن الغنيّ سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال: ﴿فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علماً واسعاً بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنينات البشر، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غداً؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم.
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصله خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضاً، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى.
ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة: أي أن ما يجعل الشيء غيباً عن الإنسان هو ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها؛ لذلك فالماضي قد حُجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر﴾ [القصص: ٤٤].
2071
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميّاً لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضاً سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
أي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله.
والأمر الثاني: هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يُضمر الشخصُ الشيء في نفسه. فالحق يقول: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباراً عن الله. وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان.
والأمر الثالث: هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥].
ونلحظ أن كلمة «سيهزم» فيها حرف «السين» التي تُنبئ عن المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون
2072
الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ينفعل ويقول لرسول الله: أي جمع هذا؟
وجاء الجمع في بدر وولَّى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلاً بالنسبة لوجود المسلمين في مكة.
أكان من الممكن أن يقول سبحانه: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ لولا أن ذلك سيحدث بالفعل؟
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به.
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ذلك إبلاغاً عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على لسان رسوله حُجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها.
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول الحق: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ [القلم: ١٦].
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر، فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماضٍ ويأتي بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقُّونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون:
- إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلاً على صدق الأحداث في الآخرة.
2073
ويذيل الحق الآية: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي عليما بالتقنينات فشَرَّع التوبة لعلمه - جل شأنه - بأنه لو لم يشرِّع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سبباً في شقاء العالم؛ لأنه - حينئذ - يكون يائساً من رحمة الله.
إذن فرحمة منه - سبحانه - بالعالم شرّع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله: «كان» فلا نقول ذلك قياساً على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
فقد يقول الكافر: «إن علم الله كان» ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير، وما دام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلاً يثبت له أبداً والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وما دام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء عن علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول:
﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٧].
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قَبِلَ توبتَهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله﴾، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال: على مَن، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال: عل مَن، بل يقال: ليس بالنفي. إنّ الحق عندما قرر التوبة عليه - سبحانه - وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فوراً، إنه يدلنا أيضاً على مقابل هؤلاء، فيقول:
2074
﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ... ﴾.
2075
هنا يوضح الحق أن توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب. وهم يختلفون عن الذين كتب الله قبول توبتهم، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قِيَم المنهج، إلا أن النفوس تضعف مرة. أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي شردت عن المنهج في جهات متعددة، وهم لم يرتكبوا «سوءاً» واحداً بل ارتكبوا السيئات. فالذي ارتكب سوءاً واحداً فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول ستر ضعفه.
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا وتابوا عنها.
ومن ذلك نعلم أن أحداً لا يستطيع أن يمكر مع الله؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح له الله: أنا سآتي بتعبك من نواحٍ أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسيء: أنت استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيراً، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة.
2075
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة «السوء»، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل «السيئات»، فهل ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملاحدة، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين.
مثال ذلك مذهب «الماسونية»، يقال: إن هذا المذهب وضعه اليهود، والظاهر في سلوك الماسونيين أنهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل واحد من هؤلاء: انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام؟
وفي هذا العصر هناك ما يسمّى بأندية «الروتاري» ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول: «أنا عضو في الروتاري» وعندما تسأله: لماذا؟ يجيب: إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة، ونقول له: وهل الإسلام حرم ذلك؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى «الروتاري»، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام؟ إذن فهذا عداء للمنهج.
ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له: ما تريد نفسك الآن؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال: تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق.
إنه يريد فطر رمضان وهو محرّم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه: ولماذا كل هذا التعقيد؟ فقال: حتى تكون هذه الفعلة حراماً أربع مرات.
2076
إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه؟ لا، ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت﴾ وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله؛ فلا تنفعه التوبة.
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه «لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله».
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذاباً على قدر ما فعل من ذنوب، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» فيوضح سبحانه: لن نجعلك كالكافر؛ بدليل أنه عطف عليه ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاصٍ، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة؛ لذلك لم يقل الحق: إنهم خالدون في النار. وإنما قال: ﴿أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ و «أولئك» تعني الصنفين - المؤمن والكافر - فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾.
2077
وقلنا: ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾، فمعناها: يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلهاً له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكامَ التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وإنما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ [البقرة: ٢٥٦].
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم وحيف عليهن. - وسبحانه - قال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ وكلمة «ورث» تدل على أن واحداً قد توفي وله وارث، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح أن يرثه أحدٌ بعده؛ لأنه عندما يقول: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ﴾، فقد مات موّرث؛ ويخاطب وارثاً. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حِلاً، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثاً، ما هو؟
قال سبحانه: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة «النساء» تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾، وهل فيه ميراث للنساء برضى؟ وكيف تورث المرأة؟
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه «كرها»، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات
2078
وعنده امرأة جاء وليه، ويلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك؛ لذلك جاء القول الفصل:
﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾، و «العضل» في الأصل هو المنع، ويقال: «عضلت المرأة بولدها»، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية.
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا.
ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب: قفي فتقف.
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس: إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو يوضح لنا: أنا قيوم لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر.
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تَفْتِنَّاً رتابة الأسباب، ولنذكر الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائماً، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف
2079
الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو شاء لعطلها.
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يُحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩].
بالله أهذا غيظ لهم أم لا؟ هذا غيظ لهم؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم يَنْزِل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى «تعضلوهن» ؟ العضل: أخذنا منه كلمة «المنع» ؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف؟ بأن تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وأن من حقها بعد أن تقضي العدة أَنْ تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق: «ولا تعضلوهن» أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك؟ ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ كأن هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثانٍ.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها: والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي وذلك حتى تفتدي نفسها فتُبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن؟ هنا يقول الحق: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ لأنهم
2080
سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء: للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ وكلمة «المعروف» أوسع دائرة من كلمة المودة؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون: قرآنكم يقول: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ [المجادلة: ٢٢].
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحداً من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول؟ ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: ١٥].
ونقول: إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. ف «الود» شيء و «المعروف» شيء آخر. الود يكون عن حُب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حُب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبي احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الوُد هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للوُد، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف؛ لأنه حتى لو كان كافراً سيعطيه بالمعروف.
2081
ألم يعاتب الحق - سبحانه - إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه: أنه غير مؤمن لذلك لم يضيّفه؟ فقال له ربنا: أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل: ما الذي جعلك تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم: «والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل: أربك عاتبك وأنت رسول فيّ وأنا كفر به، فنعم الرب ربٌ يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يُخربوا البيوت.
إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخُربَ البيت، نقول لهم: لا. بل ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، ولكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة؛ ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها»
.
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له: أَوَ لَمْ تُبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم؟ لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها
2082
هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي، وخذ زوايا متعددة.
واعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالاً، وهذه أعطاها عقلاً، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحاً، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفاً حكيماً فخُذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك: ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. ﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾.
وانظر إلى الدقة في العبارة ﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ﴾ فأنت تكره؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه: ﴿وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزوايا خيراً كثيراً.
وما دام ربنا هو من يجعل هذا الخير الكثير فاطمئن إلى أنك لو تنبهت لزاوية أنت تكرهها ومع ذلك تصبر عليها، فأنت تضمن أن ربنا سيجعل لك خيراً في نواحٍ متعددة، إن أي زاوية تغلبت على كرهك سيجعل الله فيها خيرا كثيرا.
إن الحق يطلق القضية هنا في بناء الأسرة ثم يُعمم، وكان بإمكانه أن يقول: فعسى أن تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا، لا. فقد شاء أن يجعلها سبحانه قضية عامة في كل شيء قد تكرهه، وتأتي الأحداث لتبين صدق الله في ذلك، فكم من أشياء كرهها الإنسان ثم تبين له وجه الخير فيها. وكم من أشياء أحبها الإنسان ثم تبين له وجه الشر فيها، ليدلك على أن حكم الإنسان على الأشياء دائما غير دقيق،
2083
فقد يحكم بكره شيء وهو لا يستحق الكره، وقد يحكم بحب شيء وهو لا يستحق الحب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء مخالفة لأحكامك ﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ فقدر دائما في المقارنة أن الكره منك وجَعْل الخير في المرأة من الله، فلا تجعل جانب الكره منك يتغلب على جانب جعل الخير من الله ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ... ﴾.
2084
فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا تفعل؟ يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن جاءك الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
والحق يقول: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر؟
2084
يقول الحق: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾. كلمة «قنطار» وكلمة «قنطرة» مأخوذة من الشيء العظيم. وقنطار تعني «المال». وقدروه قديما بأنه ملئ مَسْك البقرة، و «المسك» هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء مَسْكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وَزْنِيّة، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله: ﴿فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾. لماذا؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة.
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تَمكّنِك منها. ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور؛ فقالت له المرأة: كيف تقول ذلك والله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ ؟ فقال: اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال: «إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدُقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب»
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلتُ الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك، قال ولَم؟ فقالت: لأن الله تعالى يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ فقال عمر:» امرأة أصابت ورجل أخطأ «.
2085
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ لماذا؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا يحدث أَوَّل ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلاَّ إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط.
ويأتي الحق من بعد ذلك بمزيد من الاستنكار فيقول: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾. إنه استنكار لعملية أخذ شيء من المهر بحيثية الحكم فيقول: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ... ﴾.
2086
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرر لكم الأخذ، لماذا؟ لأن الحق قال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ وانظر للتعليل: ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾. إذن فثمن البُضْع هو الإفضاء، وكلمة ﴿أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ كلمة من إله؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة و «أفضى» مأخوذة من «الفضاء» والفضاء هو المكان الواسع، ﴿أفضى بَعْضُكُمْ﴾ يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق.
إذن فالإفضاء معناه: أنكم دخلتم معا أوسع مدَاخَلة، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك، معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة:
2086
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧].
أي شيء تريد أكثر من هذا!؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له: يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا تغضب، وتذكَّر حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ والميثاق هو: العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت وليها: «زوجني» فقال لك: زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به إلاَّ ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ، ففي هذه الآية ﴿أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء، وما دام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا.
والحق يقول: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع فهو يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال:
﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤].
2087
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكي عن القاضي الذي قال لقومه: أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني؟! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فقالوا له: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم، الفضل. فالعدل: أن كل واحد يأخذ حقه، والفضل: أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة، إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس:
فيقول - جل شأنه -: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧].
ويقول الحق في آية الدَّين: ﴿وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾ [البقرة: ٢٨٢].
ويأمركم الحق أن توثقوا الدَّيْن.. لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدّيْن موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تُحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال: ﴿وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ﴾، وقال بعدها: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
فقد تقول لمن يستدين منك: لا داعي لكتابة إيصال وصكٍّ بيني وبينك، وهذه أريحية لا يمنعها الله فما دام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه.
2088
وما دام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة.. وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفى حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤].
وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أُنسى بين الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن شاء أعطاه كله أو أخّره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق. ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ فهو هبة تخرج عن تراضٍ.
وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى حكم آخر. هَبْ أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة.
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدي منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة، وما دامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩].
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب:
﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢١].
2089
فكأن «وكيف تأخذونه» هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول: «كيف» فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا: إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي إلا حقوقاً دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقاً في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدَيَّة، وقد ينصب إلى أنك تعطية مثلاً المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها وعزتها، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة، والمودة فلا يدخل شيء يفضي على هذه المحبة والمودة، ويُدخل نزغ الشيطان فيها. قال الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ... ﴾
2090
فكأن هذه المسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و «صفوان بن أمية» وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على «فاختة بنت الأسود بن المطلب» كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا؟ لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودَّة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجاً أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
2090
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، ربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه: بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها، ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ والنكاح هنا يُطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول - أي العملية الجنسية - هو الشائع والأوْلى، لأن الله حينما يقول: «الزاني لا ينكح إلا زانية» معناها أنَّه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فما هو السلف هذا؟ إن ما سلف كان موجوداً، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعاً، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال - سبحانه -: ﴿إلا ما قد سلف﴾ فجاء ب (ما) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحداً قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم.. أيقول سلف أن تزوّجتها قبل الحكم! نقول: لا الزمن انتهى، إذن فقوله: ﴿مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يعني الزمن، وما دام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت (ما) ولو جاءت (مَن) بدل (ما) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال (إلا ما قد سلف) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء ألبتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرِّع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة
2091
السليمة. فلم يقل: إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلاً قبيحاً ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أنّ الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من امرأة أبيه كان يُسمَّى عندهم نكاح «المقت» والولد الذي ينشأ يسمُّونه «المقتي» أي المكروه.
إذن فقوله: ﴿إنه كان﴾ أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم ﴿كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾. فالله يوضح: إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك: أن واحداً ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحدٌ عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه ﴿كان فاحشة﴾ أي قبحاً، و ﴿مقتاً﴾ أي مكروهاً، ﴿ساء سبيلا﴾ أي في بناء الأسرة.
ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها، إلا أن الله حين يشرع حكماً كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته، لا. هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه، وكون الجاهلية لم تفعله، فهذا دليل على أنها فطرة لم تستطع الجاهلية أن تغيرها، فقال الحق سبحانه وتعالى:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... ﴾.
2092
من الذي يحلل ويحرم؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت.. إلخ، من أين جاءتهم هذه؟ الحق يوضح: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله: ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى﴾ [طه: ١٢٣].
2093
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، أنزل لهما المنهج، مستوفي الأركان، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة.. أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة.
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضاً، كلما ابتعد النوعان «الذكورة والأنوثة» فالنسل يجيء قوياً في الصفات. أما إذا كان الزوج والزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء: في النبات، في الحيوان، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفاً، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان: «نهجن» أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد. والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول لنا:
(اغتربوا لا تضْوُوا) وقال: «لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا».
فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب، بل علينا الابتعاد، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلاً. وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي؛ أو ضعف جنسي؛ أو ضعف مناعي، فقول رسول الله: «اغتربوا لا تضووا» أي إن أردتم الزواج فلا تأخذوا من الأقارب، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا، فإن «ضَوِي» بمعنى «هزل» فإن أردتم ألا تضووا، أي ألا تهزلوا فابتعدوا، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا. ولذلك يقول الشاعر الجاهلي:
أنصح من كان بعيد الهم...
2094
تزويج أبناءٍ بنات العم... فليس ينجو من ضَوَى وسُقْم... فقد يضوي سليل الأقارب، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحداً يقولون: «فتوة» أي فتى لم تلده بنت عم قريبة. وفي النبات يقولون: إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا، وكذلك البطيخ الشيليان. يأتون ببذوره من أمريكا، فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلاً لذيذا، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها.
فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوى، ويخرج المحصول ضعيفاً. لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغاً كبيراً فهو يأخذ محصولاً طيباً.
وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا؛ ولذلك كان العربي يقول: ما دكّ رءوس الأبطال كابن الأعجمية؛ لأنه جاء من جنس آخر. أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر. فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضاً عملية عضوية. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ لماذا؟ لأن هذه الصلة صلة أصل، والصلة الأخرى صلى فرع، الأمهات صلة الأصل، والبنات صلة الفرع، ﴿وأخواتكم﴾ وهي صلة الأخ بأخته إنّها بنوة من والد واحد ﴿وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة﴾.
إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة. والله يريد قوة النسل، قوة الإنجاب، ويريد أمرا آخر هو: أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ ؛ ويكره منها كذا وكذا، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا؟! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، فيأمر الحق الرجل: ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق.
2095
ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج، أو ما يسمى «بزواج البدل»، حيث يتبادل رجلان الزواج، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائداً. فحسن الفطنة يقول لك: إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته، فقد تتفق زوجة مع زوجها، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى. وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها. ماذا يكون الموقف؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق.
والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة، بل الحكمة الإلهية شاملة، تأخذ كل هذه المسائل، ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من جهة الأم. وما ينشأ منها. وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه، «وبناتكم» وبنات الابن وكل ما ينشأ منها، وكذلك بنات البنت، ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾.
ولماذا يحرم الحق ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ ؟ لأنها بالإرضاع أسهمت في تكوين خلايا فيمن أرضعته؟ ففيه بَضْعَة منها، ولهذه البَضْعَة حُرمة الأمومة، ولذلك قال العلماء: يحرم زواج الرجل بامرأة جمعه معها رضاعة يغلب على الظن أنها تُنشئ خلايا، وحلل البعض زواج من رضع الرجل منها مصة أو مصتين مثلا، إلا أن أبا حنيفة رأى تحريم أي امرأة رضع منها الرجل، وأفتى المحققون وقالوا: لا تحرم المرأة إلا أن تكون قد أرضعت الرجل، أو رضع الرجل معها خمس رضعات مشبعات، أو يرضع من المرأة يوما وليلة ويكتفى بها، وأن يكون ذلك في مدة الرضاع، وهي بنص القرآن سنتان، ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾.
وهذه المسألة حدث الكلام فيها بين سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله
2096
وجهه - وسيدنا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما جاءوا بامرأة ولدت لستة شهور وكان الحمل الشائع يمكث تسعة أشهر، وأحيانا نادرة يولد الطفل بعد سبعة أشهر، لكن أن تلد امرأة بعد ستة شهور فهذا أمر غير متوقع.. ولذلك أراد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن يقيم الحد عليها؛ لأنها ما دام ولدت لستة أشهر تكون خاطئة، لكنْ سيدنا علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - أدرك المسألة.
قال: يا أمير المؤمنين؛ لماذا تقيم عليها الحد؟ فقال عثمان بن عفان: لأنها ولدت لستة أشهر وهذا لا يكون. وأجرى الله فتوحاته على سيدنا علي، وأجرى النصوص على خياله ساعة الفتيا، وهذا هو الفتح، فقد يوجد النص في القرآن لكن النفس لا تنتبه له، وقد تكون المسألة ليست من نص واحد. بل من اجتماع نصين أو أكثر، ومن الذي يأتي في خاطره ساعة الفتيا أن يطوف بكتاب الله ويأتي بالنص الذي يسعفه على الفتيا، إنه الإمام علي، وقال لسيدنا عثمان: الله يقول غير ذلك، قال له: وماذا قال الله في هذا؟ قال: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ [البقرة: ٢٣٣].
إذن فإتمام الرضاعة يكون في حولين كاملين أي في أربعة وعشرين شهرا، - والتاريخ محسوب بالتوقيت العربي - والحق سبحانه قال أيضا: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥].
فإذا كان مجموع أشهر الحمل والرضاع، ثلاثين شهرا، والرضاع التام أربعة وعشرون شهرا، إذن فمدة الحمل تساوي ستة أشهر.
هكذا استنبط سيدنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه - والإنسان قد يعرف آية وتغيب عنه آيات، والله لم يختص زمنا معينا بحسن الفتيا وحرم الأزمنة الأخرى، وإنما فيوضات الله تكون لكل الأزمان، فقد يقول قائل: لا يوجد في المسلمين من يصل بعمله إلى مرتبة الصحابة، ومن يقول ذلك ينسى ما قاله الحق في سورة الواقعة:
2097
﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين﴾ [الواقعة: ١٠ - ١٤].
أي أن الآخرين أيضا لن يحرموا من أن يكون فيهم مقربون قادرون على استيعاب النصوص لاستنباط الحكم، إذن فالرضاع: مصة أو مصتان؛ هذا مذهب، وعشر رضعات مذهب آخر، وخمس رضعات مشبعات مذهب ثالث، وأخذ جمهور الفقهاء بالمتوسط وهو خمس رضعات مشبعات تحرمن الزواج، لكن بشرط أن تكون في مدة الرضاع، فلو رضع في غير مدة الرضاعة، نقول: إنه استغنى بالأكل وأصبح الأكل هو الذي يعطيه مقومات البنية.
إذن فمسألة الرضاع متشعبة؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
والمحرم من الرضاع هو: الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وهكذا نرى أنها عملية متشعبة تحتاج من كل أسرة إلى اليقظة، لأننا حين نرى أن بركة الله لا تحوم حول كثير من البيوت لا بد أن ندرك لها أسبابا، أسباب البعد عن استقبال البركة من الله.. فالإرسال الإلهي مستمر، ونحن نريد أجهزة استقبال حساسة تحسن الاستقبال، فإذا كانت أجهزة الاستقبال خربة، والإرسال مستمراً فلن يستفيد أحد من الإرسال، وهب أن محطة الإذاعة تذيع، لكن المذياع خرب، فكيف يصل الإرسال للناس؟
إذن فمدد الله وبركات الله المتنزلة موجودة دائما.. ويوجد أناس لا يأخذون هذه البركات؛ لأن أجهزة استقبالها ليست سليمة، وأول جهاز لاستقبال البركة أن البيت يبنى على حل في كل شيء.. يعني: لقاء الزوج والزوجة على حل، وكثير من
2098
الناس يدخلون في الحرمة وإن لم يكن بقصد، وهذا ناشئ من الهوس والاختلاط والفوضى في شأن الرضاعة، والناس يرضعون أبناءهم هكذا دون ضابط وليس الحكم في بالهم. وبعد ذلك نقول لهم: يا قوم أنتم احتطتم لأولادكم فيما يؤدي إلى سلامة بنيتهم، فكان لكل ولد ملف فيه: شهادة الميلاد، وفيه ميعاد تلقي التطعيمات ضد الدفتريا، وشلل الأطفال وغير ذلك.
فلماذا يا أسرة الإسلام لا تضعون ورقة في هذا الملف لتضمنوا سلامة أسركم، ويكتب في تلك الورقة من الذي أرضع الطفل غير أمه، وساعة يأتي للزواج نقول: يا موثق هذا ملفه إنه رضع من فلانة، في هذا الملف تُدْرج أسماء النساء اللاتي رضع منهن.. فنبني بذلك أسرة جديدة على أسس إيمانية سليمة، بدلا من أن نفاجئ رجلا تزوج امرأة، وعاشا معا وأنجبا وبعد ذلك يتبين أنهما رضعا معا، وبذلك تصير المسألة إلى إشكال شرعي وإشكال مدني وإشكال اجتماعي ناشيء من أن الناس لم تُعد لمنهجها الإيماني ما أعدته لمنهجها المادي.
إذن فلا بد من التزام كل أسرة أن تأتي في ملف ابنها أو بنتها وتضع ورقة فيها أسماء من رضع منهن المولود.
وعلى كل حال لم تعد هناك الآن ضرورة أن نأتي بمرضعة للأولاد، فاللبن الجاف من الحيوانات يكفي ويؤدي المهمة، وصرنا لا ندخل في المتاهة التي قد تؤدي بنا في المستقبل إلى أن الإنسان يتزوج أخته من الرضاعة أو أمه من الرضاعة، أو أي شيء من ذلك، وبعد ذلك تمتنع بركة الله من أن تمتد إلى هذه الأسرة. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة﴾. ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
وجاء القرآن بالأمور البارزة فيها فقط، ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ﴾ فإذا تزوج رجل من امرأة ولها أم، بالله أيتزوج أمها أيضا؟ إنها عملية غير مقبولة، ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾. الربيبة هي بنت المرأة من غير زوجها، فقد يتزوج رجل من امرأة كانت متزوجة من قبل وترملت أو طلقت بعد أن ولدت
2099
بنتا. هذه البنت يسمونها «ربيبة» وزوج الأم الجديد سيُدخلها في حمايته وفي تربيته، وبذلك تأخذ مرتبة البنوة. والأمر هنا مشروط: ﴿مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ فما دام الرجل قد عقد على المرأة ولم يدخل بها تكون بنتها غير محرمة. أما العقد على البنت حتى دون دخول فإنه يحرم الأمهات.
﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ أي زوجة الابن، وكلمة ﴿مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ تدل على أنه كان يطلق لفظ «الأبناء» على أناس ليسوا من الأصلاب، وإلا لو أن كلمة «الأبناء» اقتصرت في الاستعمال على أولاد الإنسان من صلبه، لما قال: ﴿أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾.
إذن كان يوجد في البيئة الجاهلية أبناء ليسوا من الأصلاب هم أبناء التبني، وكانت هذه المسألة شائعة عند العرب، فكان الرجل يتبنى طفلا ويلحقه بنسبه ويطلق عليه اسمه ويرثه. وجاء الإسلام ليقول: لا، لا يصح أن تنسب لنفسك من لم تنجبه، لأنه سيدخل في مسألة أخوة لابنتك مثلا، وسيدخل على محارمك، ولذلك أنهى الله هذه المسألة، وجاء هذا الإنهاء على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كانت المسألة متأصلة عند العرب.
ونعلم أن زيد بن حارثة خُطف من أهله، وبعد ذلك بيع على أنه رقيق، واشتراه حكيم بن حزام. وأخذته سيدتنا خديجة وبعد ذلك وهبته لسيدنا رسول الله. وصار زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما علم أهل زيد أن ولدهم الذي خُطف قديما موجود في مكة جاءوا إليها، فرأوا زيد بن حارثة، ولما سألوه أن يعود معهم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنا أخيره بين أن يذهب معكم أو أن يبقى معي، انظروا إلى زيد بن حارثة كيف صنع به إيمانه وحبه لسيدنا رسول الله: قال: ما كنت لأختار على رسول الله أحداً.
وظل مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأراد الرسول أن يكرمه على العادة التي كانت شائعة فسماه «زيد بن محمد» وتبناه.
إذن فالمسألة وصلت إلى بيت النبوة. التبني وصل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
2100
وأراد الله أن ينهى هذه المسألة فقال سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠].
هذا يدل على أن صرامة التشريع لا تجامل أحداً حتى ولا محمدا بن عبد الله وهو رسول، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾.
وبعض الناس الذين يتسقطون للقرآن يقولون: إن رسول الله كان عنده إبراهيم وكان عنده الطيب وكان عنده القاسم، ونقول: أكان هؤلاء رجالا؟! لقد ماتوا أطفالا، والكلام ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾، وهب أنهم كبروا وصاروا رجالا، أقال من رجالكم أم من رجاله؟ قال: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ أي لا يمنع أن يكون أبا أحد من رجاله، هو أبو القاسم وأبو الطيب وأبو إبراهيم هم أولاده فافهموا القول.
وهذه المسألة أخذت ضجة عند خصوم الاسلام والمستشرقين والحق سبحانه وتعالى وإن كان قد عدل لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعديل الله لرسوله يشرف رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن من الذي يعدل لمحمد؟ إنه الله الذي أرسله.
ويقول: ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾. ومفهوم هذه العبارة أن المحرمة إنما هي حليلة الابن من الصلب. وقوله: ﴿مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ يدل على أنه كان هناك أبناء ليسوا من الصلب، إذن فالتبني كان موجوداً قبل نزول هذا الحكم، وأراد الله أن يبطل عادة التبني، وكانت متغلغلة في الأمة العربية، فأبطلها على يد سيدنا رسول الله، لا مشرعا ينقل حكم الله فحسب، ولكن مطبقا يطبق حكم الله في ذاته وفي نفسه حتى يأخذ الحكم قداسته، ويجب أن نفطن إلى أن فكرة التبني كانت في ذاتها تهدف إلى أن ولداً نجيبا يلحقه رجل به ليعطيه كل حقوق أولاده كلون من التكريم.
ولذلك علينا أن نلحظ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصرف بالكمال البشري
2101
في إطار العدل البشري، والعدل هو: القسط، وساعة تبنى زيد بن حارثة وسماه زيد بن محمد إنما كان يهدف إلى أن يعوضه والده، لأن زيداً اختار رسول الله على أبيه، إذن فكان ذلك التبنى من رسول الله كمالا وعدلا بشريا بالنسبة للوفاء لواحد آثر اختياره على اختيار أهله فإذا أراد الله أن يصوب فيكون كمالا إلهيا وعدلا إلهيا، فلا غضاضة عند أحد أن يُصوِّب الكمال البشري بالكمال الإلهي، ولا أن يصوب العدل البشري والقسط البشري بالعدل الإلهي والقسط الإلهي، وأنزل الله وهو أحكم القائلين هذا الحكم بعبارة تعطي ذلك كله.
﴿﴾ [الأحزاب: ٥].
أي: إن دعاءهم لآبائهم ﴿أقسط عند الله﴾. وكلمة «أقسط» إياكم أن تكونوا بعدتم ونأيتم عن «عظيم» و «أعظم»، إنك ساعة تأتي بصيغة التفضيل يكون المقابل لها وصفا من جنسها، ف «أعظم» المقابل لها «عظيم»، و «أقسط» المقابل لها «قِسْط»، فما فعله رسول الله هو قِسْطٌ وعدل، ولكن ما عدله الله أقسط مما صنعه رسول الله. إذن فيجب أن نفطن إلى أن الكمال البشري والعدل البشري شيء، والكمال الإلهي والعدل الإلهي شيء آخر. ومن نقله الله من عدل بشريته إلى عدل ألوهيته يكون قد تلقى نعمة كبرى.
وإذا ما حاول المستشرقون أن يأخذوا هذه المسألة على أن ربنا عدل له ويحاولوا أن يلصقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطأ ما، نقول لهم: أنتم لا تحسنون تقدير الأمر ولا تفهمون المراد من ذلك، فالذي صوب هو الله الذي أرسله، وقد صوب له فعلا فعله في إطار البشرية، وقال الحق: ﴿هو أقسط عند الله﴾ ومن الذي يجعل البشر متساوين مع الله في القسط والعدل والكمال؟
إن هناك قصة طار بها المستشرقون فرحا وكذلك يروجها خصوم الإسلام من أبناء الإسلام؛ لأن من مصلحة خصوم الإسلام، وكذلك الذين لا يحملون من الإسلام إلا أسمه؛ يرجون أن هذا الدين يحتوي على أكاذيب - والعياذ بالله - فما دام الواحد منهم لا يقدر أن يحمل نفسه على منهج الدين لا يكون له مندوحة ولا نجاة إلا أن يقول
2102
هذا الدين غير صحيح؛ لأن هذا الدين إن كان صحيحا فسوف يهلك هو ومن على شاكلته، فيكذبون أنفسهم وينكرون على الدين أملاً في النجاة في ظنهم إذ لا منجي ولا أمل لهؤلاء إلا أن يكون الدين كذبا كله.
لننظر إلى القصة التي طار بها المستشرقون فرحا: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وكان عبد المطلب له بنت اسمها: أميمة بنتا اسمها «برّة»، وغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها «برة» وغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها «برّة» والاسم جميل لأنه من البر وهو صفة تجمع كل خصال الخير، لكن رسول الله كره أن يقال فيما بعد: خرج رسول الله من عند «برّة» فسماها «زينب».
«برّة» هذه هي بنت أميمة فهي ابنة عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وزيد ابن حارثة - كما قلنا - كان طفلاً ثم خُطف وَسُرِق، وبيع وانصرف إلى ملكية رسول الله، وبعد ذلك أراد رسول الله أن يكرمه على ما يقتضيه كماله البشري وعدله البشري فسماه «زيد بن محمد».
وعندما أراد زيد بن محمد أن يتزوج.. زوّجه رسول الله من «برة» على مضض منها، لأنه مَوْلى، وهي بنت سيد قريش. وكان ملحظ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يريد أن يجعل من المسلمين مزيجاً واحداً، فلا فرق بين مَوْلى وسيد، وزوَّج بنت عمته لزيد، وبعد الزواج لم ينشأ بينهما ودّ، وكل هذه تمهيدات الأقدار للأقدار.
بالله لو أنها كانت أخذته عن حب وكان بينهما وئام، وبعد ذلك أراد الله أن يشرِّع فهل يشرع على حساب قلبين متعاطفين متحابين ليمزقهما؟ لا، المسألة - إذن - تمهيد من أولها، فلم تكن لها رغبة فيه. وعندما يجد الرجل أن المرأة ليس لها رغبة فيه، تهيج كرامته، وخصوصا أنه صار ابنا بالتبني لرسول الله، ويكون رفض امرأةٍ له مسألة ليست هينة، وتصعب عليه نفسه، فيأتي لرسول الله شاكياً، وقال له: لم
2103
تعجبني معاشرة «برّة» وأريد أن أفارقها، وكان ذلك تمهيداً من الله سبحانه لأنه يريد أن ينهى مسألة التبني، فقد كانوا في الجاهلية يحرمون أن يتزوج الرجل امرأة ابنه المتبني، ولذلك يقول الحق: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧].
وما دام يقول له: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ فالكلام إذن قد جاء معبراً عن رغبة زيد في أن يفارقها، لكن خصوم الإسلام وأبواقهم من المسلمين يقولون في قوله: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ﴾ إن محمداً كان معجباً بالمرأة ويريد أن يتزوجها، ويخفى هذه الحكاية.
نقول لهم: كونوا منطقيين وافهموا النص، فربنا يقول: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ﴾، أنتم أخذتم منها أن النبي كان يريد أن يتزوجها. والحق قال: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾. فإذا كنت تريد أن تعرف ما أخفاه رسول الله، فاعرف ما أبداه الله، هذه هي عدالة الاستقبال، وبدلا من أن تقول هذا الكلام كي تشفي مرض نفسك انظر كيف أعطاك ربنا من تفاصيل الحكاية. قال سبحانه: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ فماذا أبدى ربنا؟ وحين يبدي ربنا أمراً يكون هو عين ما أخفاه رسوله، فلما ذهب زيد للنبي وقال له: أريد أن أفارق «برّة» قال له: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ لأن رسول الله عَلِم مِنَ الله أنه يريد أن يزوجه «برة» التي هي امرأة زيد الذي تبناه كي ينهى مسألة التبني، وأن امرأة المتبني لا تحرم على الرجل، ويطبقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نفسه.
2104
لكنْ هناك أناس مازال عندهم مرض في قلوبهم، وأناس منافقون، والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يكون هذا الأمر وارادا من الله في قرآنه. فلو كان قد قال هذا الأمر بمجرد الإيحاء الذي جعله الله بينه وبينه لقالوا: هذا كلام منه هو؛ لذلك قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لزيد: أمسك عليك زوجك، فينزل ربنا الأمر كله قرآنا، فلم يقل محمد: ألهمَني ربنا، أو ألقَى في رُوعي، لا، جاء هذا الأمر قرآنا، ولذلك يقدم الحق سبحانه وتعالى لهذه المسألة في سورة الأحزاب فيقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: ٣٦ - ٣٧].
فالله أنعم على زيد بالإسلام وأنعمت أنت يا رسول الله عليه بالتبني فلا تخش الناس أن يقولوا: طلق المرأة من زيد ليتزوجها. كأن زواج «زيد» من «زينب»، كان لغاية واحدة وهي أن تكون «برة» التي سماها رسول الله «زينب» منكوحة لزيد الذي تبناه رسول الله بدليل: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً﴾ أي أدى المهمة، فأردنا أن نعطي الحكم: «زوّجنا» فمن الذي زوَّج؟ إنه الله، وليس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي تزوج.
فإن كنتم تريدون أن تصعدوا المسألة فاتركوا رسول الله في حاله، وصعدوها إلى ربنا، فقوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً﴾ يدل على أن أصل الزواج من البداية ممهد له، فالغاية منه أن يقضي زيد منها وطرا وهو متبنى رسول الله، ويكون هذا الزواج عن كره منها، إنها غير موافقة عليه، وتنتقل المسألة عند زيد إلى عزة
2105
ويقول: لا أريدها. ويذهب إلى الرسول ويقول: أريد أن أطلق «برّة» فيقول له الرسول: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾ كأن الغاية من النكاح أن يقضي زيد منها وطرا وتنتهي الحكاية بالنسبة لزيد، ويأتي الحكم بالنسبة لرسول الله فيقول ربُّنا «زوجناكها».
فالذي يريد أن يمسك المسألة لا يمسكها على الرسول، لكن عليه أن يصعدها إلى ربنا، ﴿زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً﴾. كأن العملية جاءت من أجل أن ما أبداه ربنا في زواج الرجل من مطلقة الولد المتبنى إذا قضى منها وطرا، هذا ما أبداه ربنا، إن الله حكم بأن الذي أخفاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيبديه، إن الوحي هو الذي بيّن السبب الباعث على زواج الرسول بزينب إنه قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً﴾.
فالعلة في هذه العملية: يا ناس، يا محمد، يا زيد، يا زينب، أو يا من يحب أن يرجف، العلة في كل ذلك علة إلهية من كمال إلهي وعدل إلهي يتركز في قوله سبحانه: ﴿لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾، والأدعياء: هم الذين يتبنونهم من غير ولادة.
وما دام ربنا يريد أمرا فلا بد أن يفعل، وأنتم آمنتم بأنه رسول، وإن لم تؤمنوا بأنه رسول يكون تكذيبكم برسالته أكبر من أنكم تنقدون تصرفه، فإن كنتم مكذبين أنه رسول، فما شأنكم إذن؟ إن تكذيبكم له كرسول هو أشد من أن تنقدوا تصرفا من تصرفاته بأنه تزوج ممن كانت امرأة ابنه المتبنى. وإن آمنتم بأنه رسول، فهذا الرسول مبلغ عن الله.
إذن ففعل الرسول المبلغ عن الله هو الميزان للأعمال لا ما تنصبونه أنتم من موازين. أتقولون للرسول الذي أرسله ربنا كي يبلغ منهجه ويطبق هذا المنهج ويكون هو ميزاناً للتصرفات، تقولون له: سنأخذ تصرفاتك ونعيدها على الميزان
2106
الذي نضعه؟ ما كان يصح أن يفعل أحد هذا، فإن قلت ذلك فقد عملت الميزان من عندك، ونقلت الأمر إلى غير الحق، وهذا أول خطأ؛ فالأصل في الرسول أن كل فعل له هو الكمال، ولا تأتي أنت بميزان الكمال وتأتي للرسول وتقول له: كيف فعلت هذه العملية؟ لأنك عندما تقول ذلك فقد نصبت ميزان كمال من عندك، وتأخذ تصرف الرسول لتزنه بميزان الكمال من عندك، وهذا مناقض للحق لأنك آمنت بأنه رسول.
وبعد ذلك يأتي بالقضية العامة ليقول سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [الأحزاب: ٤٠].
وكلمة ﴿أبا أحد﴾ أي لم يكن أباً لأحد، ماذا تفهم منها؟ نفهم منها أنه أبوكم كلكم، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ﴾ لأنه أبو الجميع، بدليل أن أزواجه أمهاتكم، ومحرمات عليكم، فهو إذن والدكم كلكم؛ إذن فخذ بالك من دقة الأداء ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ وبمنطق الواقع هو أب لكم كلكم؛ لذلك هو لا يأخذ واحداً فقط ويقول: هذا ابني، لا، هو أب لكم كلكم. وكل المؤمنين أولاده بدليل أن أزواجه أمهات لهم، قد يقول واحد: لقد كان عنده أبناء.
نقول له: إن أبناءه لم يبلغوا سن الرجولة، وهب أنهم بلغوا سن الرجولة حتى باعتبار ما سيكون فهؤلاء ليسوا رجالكم ولكنهم رجاله.
﴿ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين﴾ والرسالة وختم النبوة به فوق شرف الأبوة. وجاء الحق بذلك حتى لا يحزن زيد، فرسول الله قد شرفه، وإن شرفك يا زيد أنك كنت تدعى ابن محمد، فما يشرفك أكثر أنك مؤمن بمحمد كرسول، فالعظمة في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه جاء رسولاً.
ولذلك قلنا: إن هذه جعلت بنوة الدم بلا قيمة عند الأنبياء، ونجد أن النبي جاء بسلمان وهو من فارس وليس من قبيلته ولا هو بعربي وقال: «
2107
سلمان منا آل البيت».
وقول الحق: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ بمفهوم العبارة ونضحها الذوقي والأدائي والأسلوبي أنه أبوكم كلكم، فلا ينفرد به أحد دون الآخر، ﴿ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ وبعدما كان زيدٌ ابنَ محمد، أصبح زيدا ابن حارثة، ومحمد هو رسول الله، وما دمت أنت مؤمنا به - يا زيد - فرسول الله هذه تعوض إلغاء الأبوة بالتبني بالنسبة لك، ثم إنك داخل في الأبوة العامة من رسول الله للمؤمنين؛ لأنك آمنت به كرسول، إذن فعندما نحقق في هذه العبارة نجد أنه يُسلِّي زيداً أيضا. وخير من هذا - أنك يا زيد - إن فقدت بين الناس اسم زيد ابن محمد، وكنت تجعل ذلك شرفاً لك، فأنت الوحيد من صحابة رسول الله الذي يُذكر في القرآن باسمه الشخصي، وتصبح كلمة «زيد» قرآنا يُذْكر ويُتلى، ويتُعبد بتلاوته، ومحفوظا على الألسنة؛ ومرفوع الذِّكر، إذن فقد عوضك الله يا زيد، فقد قال الحق: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً﴾ وهب أنه بقي زيد ابن محمد، فما الذي يحدث؟ سنقرأها في السيرة، لكن يرتفع شرف ذلك عندما نقرأها في كتاب الله المعجزة المتعبد بتلاوته، الذي ضمن الله حفظه، فقد ضمن الله تخليد اسم زيد إلى أن تقوم الساعة، إذن فذكره كزيد ابن محمد في حياته أوْلى أو ذكر زيد في القرآن؟ إن ذكر اسمه في القرآن أولى، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾.
إذن فقول الحق سبحانه: ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ يدل على أن حلائل الأبناء المتبنين حل لكم، بعد أن كانوا - في الجاهلية - يحرمون ذلك، ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين﴾ وتحريم الجمع في الزواج بين الأختين لأن بينهما رحماً يجب أن تظل معه المودّة والرحمة والصفاء، لكن إذا كانتا تحت رجل واحد تحدث عداوة، ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ وهذا الجزء من الآية ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين﴾ مع استثناء الحق.
في قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ قد حصل في فهمهما والمراد منهما خلاف.
2108
ونقول أولا المرأة في ملك اليمين ليس لها حق قِبَلَ سيدها في أن يطأها أو يستمتع بها، فملك اليمين لا يوجب على السيد أن يجعل إماءه أمهات أولاد.
إن الأمام عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرّم الله وجهه - وسيدنا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أخذ كل واحد منهما موقفاً، فسيدنا عثمان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين؟ فقال «لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرّمتهما آية» فتوقف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ولم يفت. أما سيدنا علي فقد حرم الجمع في وطء الأختين بملك اليمين، أما التملك من غير وطء فهو حلال، وهذا هو الذي عليه أهل العلم بكتاب الله ولا اعتبار برأي من شذ عن ذلك من أهل الظاهر.
ويتابع الحق: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي أن هذا الأمر ما دام قد سلف قبل أن يشرع الله، فهو سبحانه من غفرانه ورحمته لم يؤاخذنا بالقانون الرجعي، فلا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم، وما دام الحكم لم يأت إلا الآن فيطبق من الآن ولا يصح أن يجمع أحدٌ أختين تحته في نكاح أو في وطء بملك يمين، ولا يجمع أيضا بينهما في زواج من إحداهما ووطء بملك يمين لأخرى.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء... ﴾.
2109
وقول الحق: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾ هو قول معطوف على ما جاء في الآية السابقة من المحرمات، أي سيضم إلى المحرمات السابقات المحصنات من النساء، ومن هن المحصنات من النساء؟ الأصل في الاشتقاق عادة يوجد معنى مشتركا. فهذه مأخوذة من «الحصن»، وهو مكان يتحصن فيه القوم من عدوهم، فإذا تحصنوا فيه امتنعوا على عدوهم.. أما إذا لم يكونوا محصنين فهم عرضة أن يُغير عليهم عدوهم ويأخذهم، هذا هو أصل الحصن، والاشتقاقات التي أخذت من هذه كثيرة: منها ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ [التحريم: ١٢].
و ﴿أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ يعني أنها عفت ومنعت أي إنسان أن يقترب منها، وهنا قوله: ﴿والمحصنات﴾ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، المقصود بها المتزوجات، فما دامت المرأة متزوجة، فيكون بضعها مشغولاً بالغير، فيمتنع أن يأخذه أحد، وهي تمتنع عن أي طارئ جديد يفد على عقدها مع زوجها. هذا معنى ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾، فالمحصنات هنا هن العفيفات بالزواج، والحق يقول: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾ [النساء: ٢٥].
فما دامت الإماء قد أحصن بالزواج، هل يكن من المحصنات كالحرائر؟ لا، فهذه غير تلك، فهن لا يدخلن في المحصنات من الحرائر، وإلا لو دخلن في المحصنات يكون الحكم واحداً، فهو سبحانه يقول: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾، وأصل الإحصان وهو العفة.. توصف به الحرة؛ لأن الحرة عادة لا يقربها أحد. وهذه امرأة أبي سفيان في بيعة النساء قالت: وهل تزني الحرة؟ كأن الزنا كان خاصا بالإماء؛ لأنهن المهينات وليس لهن أب أو أم أو عرض، قد يجترئ عليها أي واحد، وليس لها شوكة
2110
ولا أهل، ولذلك جاء عقابها نصف عقاب الحرة؛ لأن الأمة يحوم حولها من الناس من تسوّل له نفسه فعل الفاحشة.
إذن فالإحصان يُطلق ويراد به العفة، ويطلق الإحصان ويراد به أن تكون حرة، ويطلق الإحصان ويقصد به أن تكون متزوجة، وتُطلق المحصنات على الحرائر. فالوضع العام للحرة هو الذي يجعل لها أهلاً ولا يجترئ عليها أحد، لكن هَبْ أن امرأة متزوجة ثم حدث خلاف أو حرب بين قومها وبين المؤمنين وصارت أسيرة لدى المسلمين مع أنها متزوجة بطريقتهم في بلادها، وهي بالأسر قد انتقلت من هذا الزواج وجاءت في البيئة الإسلامية وصارت مملوكة، ومملوكيتها وأَسْرُها أسقطت عنها الإحصان، فقال: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾.
إذن فهي بملك اليمين يسقط عنها الإحصان، وللمسلم أن يتزوجها أو أن يستمتع بها إذا دخلت في ملكه وإن كانت متزوجة لأن هناك اختلافاً في الدارين، هي في دار الإسلام، وخرجت من دار حرب فصارت ملك يمين، ولا يكون هذا إلاَّ بعد استبرائها والاستيثاق من خلو رحمها من جنين يكون قد جاءت به من قومها لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سبايا أوْطاس:
«لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» وهذا تكريم لها لأنها عندما بعدت عن زوجها وصارت مملوكة ملك يمين فلم يرد الحق أن يعضلها بل جعلها تتمتع بسيدها وتعيش في كنفه كي لا تكون محرومة من التواصل العاطفي والجسدي، بدلاً من أن يلغ سيدها في أعراض الناس.
﴿والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ و ﴿كِتَابَ الله﴾ يعني: كَتَبَ الله ذلك كتاباً عليكم، وهو أمر مسجل موثق، وكما هو كتاب عليكم فهو لكم أيضاً، ويقول الحق: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾. إذن فالمحرمات هن: محرمات نسب، ومحرمات رضاع، ومحرمات إحصان بزواج.
﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي أحل لكم أن تتزوجوهن، ولذلك قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ﴾ أي تطلبوا ﴿بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ﴾ والمال نعلم أنه ثمرة الحركة. والحركة تقتضي التعب والمشقة، وكل إنسان يحب ثمرة عمله، وقد يدافع عنها إلى أن يموت دون ماله؛ لأن المال ما جاء إلا ثمرة جدّ، وحتى إذا
2111
ما جاء المال عن ميراث؛ فالذي وّرثك أيضاً ما ورَّثك إلا نتيجة كدّ وتعب، وعرفنا أن الذي يتعب مدّة من الزمن تساوي عشر سنوات قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش بعدها مرتاحاً، والذي يتعب عشرين سنة قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش ولده مرتاحاً، والذي يتعب ثلاثين سنة يعيش حفيده مرتاحا.
إذن فكل ما تراه من مال موروث كان نتيجة جدّ وكدّ ومشقة من الآباء، وإذا ما قال الحق: ﴿أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ﴾ دلّ على أن مقابل البضع يكون من جهة الرجل.. ﴿أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ﴾ التي قال عنها سيدنا رسول الله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
وما دام المال عزيزاً على الإنسان وأخذه من طريق الحركة وطريق الجدّ وطريق العرق فيجب ألا ينفقه إلا فيما يعود عليه بالخير العاجل ولا ينسى الخير الآجل، فإن هو حقق به خيراً عاجلاً ثم سها وغفل عن شرّ آجل فهو لم يضع المال في موضعه. ﴿أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ﴾ و «محصنين» كما عرفنا لها معان متعددة.. «محصنين» أي متعففين أن تَلِغُوا وتقعوا في أعراض الناس. بأموالكم، أي ضع مالك الذي كسبته بكدّ فيما يعود عليك بالخير العاجل والآجل، فلا تلغوا به في أعراض الناس؛ لأنه من الممكن أن يبتغي إنسان لقاء امرأة بأمواله لكنه غير محصن، ونقول له: أنت حققت لذة ونفعاً عاجلاً ولكنك ذهلت عن شرّ آجل، يقول فيها ربنا: ﴿مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ ومنه أخذ السِفاح.
فإياك أن تدفع أموالك لكي تأخذ واحدة تقضي معها وطراً. فكلمة «محصنين» تعني التزام العفة، وشرح الحق كلمة محصنين بمقابلها وهو: مسافحين، من السفح وهو: الصب، والصب هطول ونزول الماء بقوة، فالماء قد ينزل نقطة نقطة، إنما السفح صبّ، ولذلك سمي سفح الجبل بذلك لأن الماء ينزل من كل الجبل مصبوباً.
2112
هنا يلاحظ أن الحق حين يتكلم عن الرجال يقول: «محصنين» بكسر الصاد، وحين يتكلم عن النساء يقول: «محصَنات» بالفتحة. لم يقل «محصِنات» بالكسرة، لأن العادة أن الذكورة هي الطالبة دائماً للأنوثة، والأنوثة مطلوبة دائما.
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ والاستمتاع هو إدراك متعة للنفس، والمتعة توجد أولا في الخطبة، فساعة يخطب رجل امرأة فهذا استمتاع، وساعة يعقد عليها وساعة تزف له، هذه كلها مقدمات طويلة في الاستمتاع، لكن الاستمتاع ليس هو الغرض فقط، يقول لك: إذا استمتعت بهن فلا بد أن تعطيهن مهورهن، ولذلك إذا تزوج رجل بامرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها نقول له: ادفع نصف المهر؛ لأنك أخذت نصف المتعة، فلو أن المتعة هي العملية الجنسية فقط لم يكن قد أخذ شيئا وبالتالي فلا شيء عليه من المهر، لكن نقول: إن المتعة في أنه تقدم إلى بنت فلان وخطب وعقد، كل هذه مقدمات متعة، فعندما يكون ذلك فإنه يكون قد استمتع بعض الشيء.
الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نبني حياة الأسرة على طهر، وعلى أمن ملكات، فأنت تجد الرجل حين يكون بين أهله لا يجد غضاضة في أن يغلق عليها الباب، لكن تصور وجوده مع امرأة دون زواج، فالملكات النفسية تتصارع فيه، ويتربص، ويمكننا أن ننظر رجفته إذا سمع أي شيء، لأن ملكاته ليست منسجمة، هو سيمتع ملكة واحدة. لكن الملكات النفسية الباقية ملكات مفزعة، مما يدل على أن ما يفعله ليس أمرا طبيعيا، وما دام ليس أمرا طبيعيا فالملكات النفسية تناقضه، الحق سبحانه وتعالى يريد أن تُبِنى الأسرة على طهر وعلى أمن، وهذا الأمن النفسي يعطي لكل ملكات النفس متعة.
وقلنا من قبل إن الإنسان إذا كان له بنت ثم رأى شابا يمر كثيرا على البيت ويلتفت كثيرا إلى الشرفة، ثم يقع بصر والد البنت عليه، ماذا يكون موقفه؟ تهيج كل جوارحه، فإذا ما جاء الولد أو أبوه وطرق الباب وقال: يا فلان أنا أريد أن أخطب ابنتك لنفسي، أو أريد ابنتك لابني. ماذا يكون موقف والد الفتاة؟ إنه السرور والانشراح وتصبح الملكات راضية والنفس مطمئنة، ويتم اعلان البهجة وهو الذي
2113
يدعو الناس ويقيم فرحا؛ لأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى حينما شرع الالتقاء، أعطى في النفس البشرية وفي ذراتها رضا بهذا الحكم بالالتقاء.
ولذلك رُوى: «جَدَعَ الحلال أنف الغيْرة».
أي أن من يغار على ابنته هو الذي يوجه الدعوات لزواجها، فكأن الغيرة فيها حمية، وإن طُلِبَ عرض عن غير طريق خالق الأعراض فلا بد أن تهيج النفس، فإن طلبها على وفق ما شرع خالق الأعراض تطمئن النفس. وهذه عملية قد يكون من الصعب تصورها، فما الذي يسبب الرضا، ومن الذي يدفع في القلب الحمية والغضب والثورة؟ إنه - سبحانه - هو الذي يفعل ذلك.
والإنسان عليه أن يلتفت إلى أن كلاً منا مكون من ملكات متعددة، فعقد الزواج وقول: «زوجني» و «زوجتك» وحضور الشهود، ماذا يعمل في ذرات تكوين النفس لكي تُسر؟ إنها إرادة الحق. وهذا شيء معروف وأنت حين يكون لك إنسان تعرفه فقط، والإلف السيال بينك وبينه مالز في أوله ما يكفي عندما تقابله أن تلقي عليه السلام وينتهي الأمر، لكنْ هناك إنسان آخر لا يكفي هذا السيال الودي بينك وبينه، بل لا بد أن تسلم عليه بيدك؛ لأن هناك جاذبية ومودة ولكل منهما تأثير.
إذن فعملية الود والولاء أمر يصنع تغييرا كيماويا في النفس، ويكون التنافر إذا ما جاء اللقاء عن طريق ما حرم الله، والذي يأتي عن طريق ما شرع الله يحقق التجاذب. والشاعر عندما خاطب من يحبه قال:
وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضع
بأبي من وددته فافترقنا وقضي الله بعد ذاك اجتماعا
وتمنيته فلما التقينا كان تسليمه عليَّ وداعا
كأن الشاعر يريد تطويل أمد التسليم ومسافته كي يغذي ما عنده من الود، وكأنه يريد أن يقول: أنا التقيت مع من أوده فاختفى في واختفيت فيه، وهذا ناشيء من الامتزاج.
2114
إذن فالتكوين العاطفي أو السيال أوجده الله كسيال التقاء. هذا إذا ما كان على شرع الله، أما في الحالة الأخرى فهو سيال كراهية. وما الذي يسبب ذلك؟ إنه عطاء من الله وهو خالق الرجل وخالق المرأة، فساعة يجيء اللقاء على وفق ما شرع الله فلا تستبعد أن يعدل الخالق الذرات، فعندما يحدث الامتزاج فلا بد أن الوفاء يأتي كنتيجة طبيعية وكذلك الولاء، ويتحقق الانسجام هذا إيجاب، أما إذا كان اللقاء على غير طريق الله فلا انسجام فيه وهذا سلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبني الأسرة على هذا المعنى. وأنتم تعلمون أن الالتقاءات التي تحدث عن غير طريق الله إنما تحدث في الخفاء، ومنكورة الثمرة، فإن جاء منها أثر وحمل فسيلقى الوليد في الشارع ويكون لقيطا وقد يميتونه، إنما الثمرة التي تأتي بالحل فالكل يفرح بها.
فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ والاستمتاع أشياء كثيرة، وجاء الشيعة في قوله: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾.
وقالوا: هذا نكاح المتعة بدليل أنه سبحانه سمى ما أخذ في نظير ذلك أجراً ونقول: كلمة «أجر» هذه واردة في الزواج، فسيدنا شعيب عندما جاءه سيدنا موسى عليه السلام قال له: أعطني أجر ثماني حجج. وسيأتي في الآية نفسها التي يتقولون بها ويقول: «وآتوهن أجورهن بالمعروف». فسمى المهر «أجراً» أيضا، فلماذا تأخذون هذا المعنى؟ هم يقولون: نكاح المتعة حدث، ونقول لهم: نكاح المتعة حدث ولننظر إلى أسبابه.
إن هذا النكاح قد حصل على يد مشرع وله حكمة، ولكن ماذا بعد أن أنهى المشرع هذا الحكم وانتقل إلى الرفيق الأعلى؟ لقد أنهى الحكم، إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحل زواج المتعة في فترة وجيزة حينما كانوا في غزوة من الغزوات، وذهب قوم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم يريدون أن يبنوا حركة حياتهم على الإيمان الناصع. كان من الممكن أن يواروا هذه المسألة عن الرسول، إنهم قالوا له: يا رسول الله أنستخصي؟ أي نخصي أنفسنا؟ فما دام الجهاد يَطلب منا أن نكون
2115
في هذا الموقع بعيدا عن أهلنا فلنستخص حتى لا يكون عندنا رغبة. فأباح لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زواج المتعة؛ ولكنه أنهاه، والدليل على أنه أنهاه، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وأنتم تعلمون منزلته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من التشريع في أحكام الله، إنه كان يقترح الاقتراح فينزل القرآن موافقا له، يقول عمر: ما يجيء واحد ليستمتع إلى أجل إلا رجمته.
إذن فانتهت المسألة، وسيدنا علي - كرم الله وجهه - أقر نَهْي سيدنا عمر، وقالوا: إن ابن عباس قال به: لكنه قال: إنني كنت قد أخطأت فيه، ونعلم أن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجلسوا في فصول تعليمية لسماع الوحي، بل كان كل منهم يذهب إلى رسول الله بعد أن يفرغ من عمله، فهذا سمع وذلك لم يسمع. وهذا هو السبب في أن هذا يروى وذاك لم يرو، فسيدنا ابن عباس قال: إنني كنت أعرف مسألة المتعة، ولم يصح عندي خبر منعها إلا في آخر حياتي.
إذن فقول الشيعة: إن المتعة موجودة هو نتيجة استدلال خاطئ، فقوله سبحانه: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ علينا أن نقرنه بقوله أيضاً في المهور في الآية التالية: ﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ لأن هناك فرقاً بين الثمن وبين الأجر، فالثمن للعين، والأجر للمنفعة من العين، ولم يملك الرجل بمهره المرأة. إنما ملك الانتفاع بالمرأة، وما دام هو ملْكَ انتفاع فيقال له أجر أيضاً.
﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي أن الذي فرض ذلك هو ربنا. ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة﴾ ونلحظ هنا أن هناك فرقاً بين أن يشرع الحق لحق، وأن يترك باب الفضل مفتوحا، فمن حقها أنها تأخذ المهر. لكن ماذا إن تراضت المرأة مع الرجل في ألا تأخذ المهر وتتنازل له عنه؟ أو أن يعطيها أكثر من المهر؟ هذا ما يدخل في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ﴾، فلا لوم ولا تثريب فيما يتراضى به الزوجان من بعد الفريضة، وكلمة «تراضيتم» تدخل في قوله سبحانه: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤].
2116
وفي عصرنا نجد أن المرأة تأخذ مهرها من الرجل وتجهز منه أثاث البيت، مع أن المفروض أن يجهز الرجل لزوجته البيت وأن يبقى المهر كاملاً لها، ولكن التعاون هو الذي يعطي العطف والتكاتف.
ويذيل الحق الآية: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ إذن فكل أحكام الله مبنية على العلم بما يصلح خلقه، ولا يغيب عنه أمر كي يؤخر تشريعه، فتأخير التشريع يعني: أن الذي شرع غاب عن ذهنه جزئيات ما كانت في باله ساعة شرع، وحين يأتي الواقع يأتي له بجزئيات لم تكن موجودة، فيضطر إلى إصدار تشريع جديد يستدرك به ما لم يكن في باله. والذين يقولون: إن التشريع الإلهي لا يغطي حاجة البشر نقول لهم: من الذي سيغطيه؟ أنتم يا مفكرون أتعدلون على الله؟ إن الله يكشفكم أنكم تأتون بتقنينات، وبعد ذلك يظهر عيبها وعوارها وأخطاؤها فتضطرون أن تعدلوا، فسبحانه عليم حكيم. فإن أخر حكما عن ميعاده فقد اقتضت الحكمة أن يكون كذلك.
ومثال ذلك تحريم الخمر، لم يجيء به مرة واحدة، لأن الشيء الذي تحكمه العادة والإلف، لا بد فيه من التريث، وأن يصدر التشريع على مراحل، وكل مرحلة تسهل المسألة بالنسبة لما سبقها، ويكون الأمر صعبا إذا كان التشريع دفعة واحدة لأن ترك العادة دون تدرج يكون عسيرا شاقا؛ لأن أهم شيء في الخمر أنها تقود إلى الاعتياد، بدليل أن مدمن الخمر عندما يمر عليه الوقت يضطرب فيأخذ كأسا ليستريح، وأول مرحلة في التحريم أن الحق كسر الاعتياد، وما دامت هي عادة متغلغلة فمن الصعب جدا أن ينزعها صاحبها من نفسه مرة واحدة. فأولا جاء الأمر كعظة، وبعد ذلك يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾. وما دامت لا تشربها وأنت تصلي فكم مرة تصلي؟ خمس مرات في النهار، إذن فعودك أن تترك وقتا من الأوقات غير ملتبس بالخمر، وتكون قد تعودت على ترك الخمر طوال النهار، وبعد ذلك يتدرج فيقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾
[البقرة: ٢١٩].
2117
لكن الأحمق عادة يرجح الإثم ويفعله، وما دام سبحانه قال: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ إذن فالإثم يترجح. وبعد ذلك جعلها بعلمه - سبحانه - أمراً نهائيا، والحكمة شاءت أن يكون التحريم بالتدريج. ويطمئننا الحق على أن علمه وحكمته منوط بها إخراج الأحكام، ولذلك قال: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦].
وسبحانه عليم لا يخفى عليه شيء، ويعلم أن امرأة أحبت زوجها لدرجة أن هذا الأجر ليس له قيمة، أو رجل أحب زوجته أيضاً لدرجة أن النقود ليس لها قيمة عنده، وما دام سبحانه حكيم. فهو قد يجري الأمور لا بحتمية ما افترض، ولكن بإبقاءٍ على فضل المتعاملين.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً... ﴾.
2118
والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصى ولا يتأبى علي، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال: ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ [المائدة: ٢٧].
فماذا كان ردُّ الذي تلقى التهديد؟ قال: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ [المائدة: ٢٨ - ٣٠].
ما معنى «طوعت له» ؟ طوعت يعني: جعلته في استطاعته، وعندما نمعن النظر في ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ نجد أن «الهاء» تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة؛ ملكة تقول: اقتله، وملكة أخرى تقول له: لا تقتله. ضميره يقول له: لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له: اقتل، ويكون هو مترددا بين الأمرين.
وقوله الحق « ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ﴾ دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس
2119
الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل نَدم، ويأتي هذا الندم على لسانه: ﴿يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين﴾ [المائدة: ٣١].
أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا؟ لأن ملكات الخير دائما تُصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريرا، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلا ثم يصعده، فيقول في نفسه: فلان فعل فيَّ كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول:» أو أضربه ضربة «. لكن إذا كان الإنسان خيِّراً، فيقول:» فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه «إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف: ٨ - ١٠].
إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، يخففونه مباشرة قائلين: ﴿أَوِ اطرحوه أَرْضاً﴾ يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضا؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾.
2120
إذن فقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ﴾ أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، «فطالته يده» يعني صار في استطاعته، وفلان تطول عليّ، أي تفضل عليّ بشيء، «وفلان تطاول عليّ» أي ما كان يصح أن يجتريء عليّ، وكلها من الطول، و «طولا» : تعني قدرة تطول به الزواج بمن تحب أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غالٍ غالبا؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات﴾.. والذي نلمحه في الآية أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير.
إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءاً من وقتها وخدمتها لمن يملك ورقبتها، فلا بد أن يُستَأذَن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزوج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضا سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يُؤدي لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأَنَّ المملوكة لا تملك؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده.
نقول له: نعم، ولكن إذا قلت: العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكا أولا ثم يكون ما تملكه لسيدها.. أما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك: العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تُعطي الأجر تكريما لها، أما كون ما لها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طوْلا لا تنكح الإماء؟ لا. وهل هذا يقلل من شأن الإماء؟ لا. لماذا؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب.
الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره
2121
فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد والأم، فإذا ما تزوج إنسان أَمَةً مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيدا.
وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمن تلده من سيدها يكون حرا، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج: التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعاليا على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعاليا على الزوج؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمةً ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم: ليس لكم خال مثلا. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال: ﴿والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾ [النور: ٢٦].
وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم: إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على من يقولون: ما دام ربنا يقول: ﴿والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾ فكيف يتزوج فلان بفلانه وأحدهما طيب والآخر خبيث؟
ونقول: إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبيات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثا وقال لها: أنت كذا وكذا تقول له: أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة.
﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات﴾ كلمة ﴿المحصنات﴾ تعني هنا الحرائر؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. ﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات﴾ وكلمة «فتى» نطلقها في الحر على من له
2122
فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أَمَة ولو كانت عجوزاً، وعلمنا رسول الله ألا نقول: هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول: «فتاي» و «فتاتي».
﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ ويتساءل البعض: وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها؟ نقول له: لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».
ويقول الحق: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١].
ويقول في موضع آخر: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله﴾ [النور: ٦١].
فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على من دخل عليهم؟
إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضا:
﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩].
أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاتفين في وحدة.
﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾. وقد تقول:
2123
إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق: لا ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾ ولعل أمة خير في الإيمان منك؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر.
والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب. يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولا أوضح: أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولا أن تنكحوا المحصنات فانكحا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق.
بعد ذلك يقول: ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمرا هو: أن ﴿بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾. أي أنكم جميعا من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوَّى بينكما، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعا.
ويقول بعد ذلك: ﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾. وهذا إشعار بأن من تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوّضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر.
إذن فالذي يملك لا بد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح: فإن لم يُدخل واحد منكم مَن يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقاً، وإذن فعليه أن يعطمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملاً يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه؟ إنها معاملة أهل.
انظر كم مسألة يعالجها الحق: يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع ربّ الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. وما دامت ملك يمين ولها سيّد فهذا السيد له مصالح لا بد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال: ﴿بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾، لكن في المهور قال:
2124
﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف﴾ فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكا له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يُستأذن السيد ويزوّجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج.
﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف﴾ فإياكم أن تقولوا: هذه مملوكة يمين وأي شيء يرضيها ويكفيها، لا. فلها مهر بالمعروف أي بالمتعارف الذي يعطيها ميزان الكرامة في البيئة، ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ وقلنا: إن المحصنة هي العفيفة، ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ والمسافحة؛ هي من تمارس وتزاول عملية الزنا، ويسمونها:
امرأة عامة، ومتخذات أخدان: أي يتخذن عشاقا وأخدانا.
﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾ أي إذا تزوجت الإماء وجاءت الواحدة منهن بفاحشة فلها عقاب. أما إن لم تحصن فليس عليهن حاكم ويقوم سيدها بتعزيرها وتأديبها؛ لأن الأمة عادة مبتذلة، لكن عندما تتزوج تصير محصنة، فإن أتت بفاحشة نقول لها: أنت لك عقابك الخصوصي، لن نعاقبك عقاب الحرّة، لأن الحرة يصعب عليها الزنا، لكن الأمة قد لا يصعب عليها أن يحدث منها ذلك، فليس لها أب ولا أخ ولا أسرة، فقال: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾، أي نصف ما على الحرائر من العذاب.
لكن الخوارج أخذوا الكلمة في معنى من معانيها ليخدم قضية عندهم وقالوا: إن ﴿المحصنات﴾ هن المتزوجات، هم يريدون أن يأخذوها بمعنى المتزوجات كي يقولوا: ما دامت الأمة عليها نصف ما على المتزوجة، إذن فالمتزوجة ليس عليها رجم؛ لأن الرجم لا ينصف.. والخوارج أخذوا هذه وقالوا: إن القرآن لا يوجد فيه رجم واكتفوا بجلد الزانية مائة جلدة.
ونقول لهم: أنتم أخذتم المحصنة على معنى أنها المتزوجة، ونسيتم {وَمَن لَّمْ
2125
يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات}.. فالمحصنات هن الحرائر، فلماذا أخذتم المحصنات هناك بمعنى الحرائر والمحصنات هنا بمعنى المتزوجات؟! إن عليكم أن تأخذوها بمعنى الحرائر ولا حجة لكم في مثل هذا الباطل. وبذلك تسقط الحجة، فالدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ثم نبحث بحثاً آخر، نقول: يقول الحق: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ لو أن الحكم على إطلاقه لما قال الحق: ﴿مِنَ العذاب﴾، فكأن الذي عليها فيه النصف هو العذاب، وما هو العذاب؟ العذاب هو إيلام من يتألم، والرجم ليس فيه عذاب لأنه عملية إنهاء حياة، والآية تبين المناصفة فيما يكون عذاباً، أما ما لا يكون عذاباً فهو لا ينصّف والحكم غير متعلق به. فالعذاب إنما يأتي لمن يتألم، والألم فرع الحياة. والرجم مزيل للحياة، إذن فالرجم لا يعتبر من العذاب، والدليل على أن العذاب مقابل للموت أن الحق سبحانه وتعالى حينما حكى عن سيدنا سليمان وتفقده الطير قال: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢٠ - ٢١].
فالذبح وإزهاق الحياة مقابل للعذاب، فقوله: ﴿نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ فالمتكلم فيه الآن العذاب وليس الرجم، وليس إزهاق الحياة وبهذا يسقط الاستدلال.
والذين يقولون: إن آيات القرآن لا تدل على رجم نقول لهم: ومن الذي قال لكم إن القرآن جامع لكل أحكام منهج الله في الإسلام وأنه فصل كل شيء؟.. القرآن لم يجيء كتاب منهج فقط، وإنما جاء معجزة وكتاب منهج للأصول، ثم ترك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبين للناس ما نزل إليهم فضلا على أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنص القرآن عنده تفويض من الله أن يشرع، وتلك ميزة تميّز بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم الأنبياء والمرسلين فالله قد أعطاه الحق في أن يشرع، بدليل أنه سبحانه قال في صلب القرآن الذي يشتمل على أصول منهج الإسلام.
2126
﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
إذن فللرسول عمل مع القرآن، وإلا فليقل لي من يدّعي أنّ في القرآن كل حكم من أحكام دين الله، من أين أخذ تفصيل حكم الصلوات الخمس؟ ومن أي آية أخذ أن الصبح ركعتان؟ وأخذ الظهر أربعاً وأخذ العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، من أين أخذها؟! إذن لا يوجد شيء من ذلك، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن القرآن جاء كتاب معجزة وفيه منهج يتعلق بالأصول. وما دام المنهج الذي تعلق بأصول الأشياء قد أعطى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرع، إذن فتشريعه مأمور به ومأذون فيه من صلب القرآن. ولذلك إذا جاء لك حكم من الأحكام وقال لك المتعنت: هات لي هذا الحكم من القرآن، ونظرت في كتاب الله فلم تجد، فقل له: دليل الحكم في القرآن هو قول الله: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾، وأي حكم من الأحكام يأتي ولا تجد له سنداً من كتاب الله ويقال لك: ما سنده؟ قل: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾.
والمنهج أوامر ونواهٍ. إذن فالطاعة أن تمتثل أمراً وتجتنب نهياً، تلك هي الطاعة، كل منهج أو دين أمر ونهي، فامتثل الأمر واجتنب النهي. وأنت إذا تصفحت القرآن وجدت آيات الطاعة المطلوبة من المؤمن بمنهج الله والذي شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تتمثل في الأمر والنهي. فإذا ما استقرأت القرآن وجدت - كما قلنا سابقاً - أن الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في الطاعة: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول﴾ [آل عمران: ٣٢].
ولم يكرر الحق هنا أمر الطاعة، فالمطاع هو المكرر، ف «أطيعوا» أمر واحد، نطيع من؟.. الله والرسول. المطاع هنا هو الله والرسول، ومرة يكرر أمر الطاعة فيقول: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ [المائدة: ٩٢].
2127
ورمة ثالثة يقول: ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: ٥٦].
ومرة رابعة يقول: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩].
وأدخل هنا أولي الأمر أيضاً، إذن فمرة يأمر بالطاعة ويكرر المطاع فقط. أي: يوحد أمر الطاعة، ويكرر المطاع ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول﴾، فوحد أمر الطاعة وكررالمطاع، ومرة يكرر أمر الطاعة، ويكرر معها المطاع: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾، ومرة يقول: ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ فإذا قال لك: «أطيعوا الله والرسول» فالأمر قد توارد فيه حكم الله وحكم الرسول.
إذن فتطيع فيه الله والرسول، وإذا كان الله أمر إجماليٌّ وللرسول أمر تفصيليٌّ كالصلاة والزكاة والحج، إذن فتطيع الله وتطيع الرسول.
وإذا لم يكن لله أمر فيه بل جاء من باطن التفويض في قوله سبحانه: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾، فهذا الأمر أطيع فيه الرسول، لأنه جاء في آية أخرى قوله: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾، لماذا؟ لأن الرسول عمل بالتفويض الذي أعطاه الله له حسب قول الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾.
2128
لقد قلنا: إن الطاعة امتثال أمر واجتناب نهي.. والموجود هنا «آتاكم» و «نهاكم» ؛ ف «آتى» هذه جاءت بدل وما أمركم والنهي موجود بلفظة ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ الأمر هو «آتاكم»، ولماذا لم يقل: وما أمركم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟ ولماذا لم يختصر فيقول: وما آتاكم الرسول فخذوه؟ ﴿لأن الإتيان من الرسول إما أن يكون قولاً، وإما أن يكون فعلاً، ولكن أيكون المنهيّ عنه فعلاً يفعله الرسول؟﴾ لا يمكن.
إذن فالنهي لا يتأتى إلا نهياً ومنعا من الفعل، لكن الإيتاء يكون قولاً أو فعلاً؛ لأنه عندما يقول لك: لا تشرب الخمر، فماذا كان يفعل النبي كي نأخذه من الفعل؟ إن الرسول قطعا لم يشرب الخمر. إذن فقول الرسول وفعله يتأتى في المأمور به، وأما في المنهي عنه فلا يتأتى إلا قولاً. بالله أمِنَ الممكن أن يأتي بهذا عقل بشرى؟ لا يمكن، ولا يقولها إلا الله.
ثم نبحث بحثاً آخر يا خوارج. إن الرسول إنما جاء ليبلغ عن الله - ومراد التبليغ أن يعلمنا بالحكم، لنؤدي مدلولة، فإذا جاء حكم قولاً بالنص، فالذي يشرحه لنا هو ما يفعله الرسول، وحين يفعله الرسول أيوجد مجال للكلام في هذا النص؟ لا يوجد، بل تكون المسألة منتهية. إذن فالفعل أقوى ألوان النص في الأوامر؛ لأن الأمر قد يأتي كلاماً نظرياً، وقد يتأول فيه البعض. لكن عندما يفعل الرسول يكون الحكم لازماً؛ لأن الذي فعل هو المشرع.
أرجم رسول الله أم لم يرجم؟ قد فعل رسول الله ذلك، وفعله هو نص عمليّ. إنّ الفعل ليس نصاً قوليّاً يُتأول فيه. لقد رجم الرسول ماعزاً والغامدية ورجم اليهودي واليهودية وكانا قد أحصنا بالزواج والحرية.. وفعل الرسول هو الأصل في الحكم. فدليل الخوارج إذن قد سقط به الاستدلال وبقي ما فعله المشرع وهو الرسول المفوض من الله في أن يشرع قولاً أو فعلاً أو تقريراً، أي يرى أحداً يفعل فعلاً فيقرّه عليه.
ثم نبحثها بالعقل: إذا كنت تريد ألا يوجد في الزنا حد إلا الجلد، أتسوي بين من لم يتزوج ومن تزوج؟ إن المتزوجة لها عرض ولها زوج ولها نسب ونسل.
هل
2129
هذه مثل تلك التي لم تتزوج؟! إن هذا لا يتأتى أبدا بالعقل، إذن فحكم الرجم موجود من فعل الرسول، والدليل الذي استدل به الخوارج هو دليل تسرب إليه الاحتمال. والدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ﴾. ومن هو المقصود ب «ذلك» ؟ المقصود به إباحة نكاح الإماء لِمن لم يجد طوْلا أن ينكح من الحرائر. وما هو «العنت» ؟ «العنت» هو المشقة والجهد، وإرهاق الأعصاب، وتلف الأخلاق والقيم، لأن الإنسان إذا هاجت غرائزه إما أن يعف وإما أن ينفلت. فإن انفلت فقد تسرب الفساد إلى قيمه وإلى خلقه، وإن لم ينفلت والتزم، ماذا يحدث؟ سيقع بين أنياب المرض النفسي وتأتيه الأمراض العصبية. فأباح له الله أن يتزوج الأَمَةَ، إن لم يجد طوْلا في الزواج من الحرائر.
وبذلك يكون مفهوم الآية: إن الذي لا يخشى العنت فليس ضروريا أن يتزوج الأَمَةَ. وليس هذا تزهيداً في الأَمَةِ بل فيه احترام لها، لأنها إن تزوجت ثم ولدت ممن تزوجته فسيصبح ولدها عبدا، والله يريد أن يصفي الرق والعبودية، فيوضح له: دعها لسيدها فإن أعجبته وَحَلَت في عينيه ووطئها وجاءت منه بولد فستكون هي والولد من الأحرار إنهما قد دخلا في دائرة الحرية.
إذن فالحق يريد أن يصفي الرق، ثم قال: ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي وصبركم عن نكاح الإماء. وأنتم في عفة وطهر عن مقارفة الإثم إن ذلك خير لكم من زواجهن، فنكاح الحرائر أفضل.
ويذيل الحق الآية: بقوله: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إنه (غفور) لما قد بدر وحصل منكم من ذنوب استغفرتم ربكم منها ﴿رحيم﴾ بكم فلا يعاجلكم بالعقوبة شفقة عليكم وحبا في رجوعكم إليه.
2130
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ... ﴾.
2131
ماذا يبين لنا؟ إنه - سبحانه - يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة.. وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك: هذه جريمة ويُنص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك: فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته؛ لأنك قد تقول له: فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق.
إن سبحانه - وحده - الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم - ولله المثل الأعلى - وقلنا سابقا: إن المهندس الذي يصنع التليفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا: المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة وهذا للصوت.
إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في «افعل ولا تفعل»، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول: ﴿سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: ٦٢].
2131
والرسل سبقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.. وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠].
فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حُكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، ﴿والله عَلِيمٌ﴾ لأنه خالق، ﴿حَكِيمٌ﴾ يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه.
وبعد ذلك يقول سبحانه: ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ... ﴾.
2132
سبحانه قال في الآية السابقة: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾، وبعد ذلك يقول: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ﴾، وبعد ذلك: ﴿يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، فلماذا جاء أولا ب ﴿يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ وجاء هنا ثانيا ب ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ؟
2132
نقول: التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة؟ أتصحُّ هذه التوبة؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل: أولا مشروعية التوبة من الله رحمة منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه - سبحانه - إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب: توبة تشريع، وتوبة قبول.
﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، ما دام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها؟! لا، فما دام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وَفْتَحُ باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين - أيضا - صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، وصالح أن تذكر الله به قائلا: لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاته صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعاً في الطريق.
هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئاً عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد. فالذي يرفع يده ماذا يفعل؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع؟ وأنت ترى ذلك مثلاً في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال - الونش - التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك؟ أنت لا تعلم شيئاً عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة.
والحق حين يسلب قدرة الإنسان - والعياذ بالله - يصيبه بالشلل، إنه يريد
2133
فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة.
إذن فالإنسان - عندما يريد الحركة - يوَجِّه الطاعة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إنْ أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأنيّ وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئاً فهذا صحيح؛ لأن أحداً لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار - إذن - أن تكون صالحاً للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك.
وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك: وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه «افعل» ولا «تفعل» فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك.
وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح: أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شٍرّته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شرّ؛ لذلك شرعت التوبة لماذا؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شرّ لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شروراً، وهذا هو الذي نسميه «فاقداً»، فيشرع الحق: إن فعلت ذنباً فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.
فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاصٍ، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق: ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ وتنبيهه أن الذنوب التي فعلت قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة؛ لذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ﴾ والميل هو ملطق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.
2134
هذه الجادة من الذي صنعها؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية، ويقول له: «أنا تبت عليك»، إنه - سبحانه - يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة، بل يريدون لكم ميلاً موصوفاً بأنه ميل عظيم. لماذا؟.. لأن الإنسان بطبيعته - كما قلنا سابقاً - إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائناً فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائناً وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحداً أميناً ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة اليم، ووجد هذا الإنسان واحداً آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفاً مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفاً مثله فقط بل يريده أشد انحرافاً؛ ليكون هو متميزاً عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضاً حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيداً أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٢٦].
هم في السجن مع يوسف، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمراً جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا،
2135
فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل أنهم قالوا له: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾. ومن يقول: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ لا بد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يُعرف؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.
ومثال ذلك: هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال: ﴿ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩].
لقد نقلهم من حكايتها لحكايته، فما داما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله؟ وكأنه يقول لهما: أنتما جئتما إلي لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف:
﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٧] أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه: فليس هذا العلم من عندي: ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي﴾ [يوسف: ٣٧].
وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلاً من الآلهة المتعددة
2136
التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع. ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩].
إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزاً يحقّرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضاً ويقولون لأنفسهم: «إن كنا شريرين فهناك أناس شرٌّ منا».
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ... ﴾.
2137
فسبحانه بعد أن قال: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ ليبصر، و ﴿يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ليغفر، والآن يقول: ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ ليسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن أبيه -: «في سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب:
الأولى قول الحق: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: ٢٦].
والثانية هي قول الحق: ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾ [النساء: ٢٧].
2137
والثالثة هي قول الحق:
﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ [النساء: ٢٨]. والرابعة هي قول الحق: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾ [النساء: ٣١].
والخامسة هي قول الحق: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: ٤٨].
والسادسة هي قوله سبحانه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١١٠].
والسابعة هي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: ٤٠]. ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً﴾ [النساء: ١٤٧].
هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أ] أمة إلا أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ومنها قول الحق: ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾. وما هو ضعف الإنسان؟. الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالباً - خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في
2138
ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول: أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظي بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة.
وقول الحق: ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختاراً وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختاراً يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته. ، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبله فهو يغلب دائماً جانب الحاضر على جانب المستقبل.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾.
2139
وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر. التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفاً، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك
2139
وطواعيتك. وما دامت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل: لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب؟ بل يكفي أن تقول: الذي آمنت به إلها حكيماً قادراً هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به.
إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره.
وإذا لفتَّ إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صَلَّ، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ هنا يجب أن تقول له: أنت لم تفهم معنى قول الحق: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ فأصل التدين والإيمان بالله ألاّ يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في «افعل» و «لا تفعل» فحين يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلّة الحكم أنك آمنت بالله آلهاً حكيماً قادراً. وما دمت آمنت بالله إلهاً حكيماً قادراً فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهى عن شيء فراجع إيمانك بالله.
إذن فقوله: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكماً من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكماً من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب.
والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر تكاثراً نقياً طاهراً، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات؛ وها هو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالاً، إلا أن المال ينقسم قسمين: مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك
2140
الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو «النقد» ولا ينتفع به مباشرة، بل يُنتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة.
وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع؟ تتعطل حركة الحياة.
وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه: لماذا أعمل؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمناً على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضرورياً أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه.
لقد ضربنا هذا المثل سابقاً: إنسان مثلاً عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل: لماذا أضعها في خزانة؟ لماذا لا أبني بها بيتاً آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد؟ هل كان المجمع في بال مثل هذا الإنسان؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطي أناساً أجورهم؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبني يعطي المهندس والعمال أجورهم؛ لذلك أقول: اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهراً عنك.
ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيُبَيِّنَ لك ربنا: أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحداً سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك.
2141
إذن فمن حظ المجتمع أنْ نصون حركة الحياة. ونؤمن كل متحرك في الحياة على ماله. لكن إن كنا حاكمين يجب أن تكون أعيننا مبصرة: أيكسب من حلّ أم لا؟ فإذا كان الكسب حلالاً نشكره، أما إذا كان يكسب من حرام، فنحن نسائله، وإن عمل على غير هذا توقفت حركة الحياة، وإن توقفت حركة الحياة فهذا أمر ضار بالذين لا يقدرون على الحركة، لماذا؟ لأن الله قسم المواهب على الناس، فليس كل واحد من الناس يملك الطموح الحركي، ولا يملك كل إنسان فكراص يخطط به، فقد لا يكون في المجتمع إلا قلة تخطط، والباقون هم جوارح تنفعل للفكر المخطط، والفكر يعمل لجوارح كثيرة، فكذلك يكون هناك مفكر واحد هو الذي يضع خطة ينتفع بها الكثير من الناس.
إذن فلا بد أن نرعي حركة المتحرك وننميها؛ لأن المجتمع ينتفع منها، وإن لم يقصد المتحرك إلا مصلحة نفسه، صحيح أن الي ليس في باله إلا نفسه إنما يحبط ثواب عمله، وصحيح أن من يضع الناس في باله إنما يُعطي ثمرة عمله ويأخذ ثواباً أيضاً من الله.
والحق سبحانه وتعالى يأتي في مسائل المال ويوضحها توضيحا تامّاً ليحمي حركة الحياة ويُغري الناس بالحركة - وبذلك يتعدد المتحركون وتتعدد الحركات، ويستفيد المجتمع، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ وساعة تجد أمراً لجماعة في جمع مأمور به فقسّم الأفراد على الأفراد.
مثال ذلك: عندما نقول لجماعة: اركبوا سياراتكم أي: ليركب كل واحد منكم سيارته، والمدرس يدخل الفصل ويقول للتلاميذ: أخرجوا كتبكم. أي أن كل تلميذ عليه أن يخرج كتابه. فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، وقول الحق: ﴿لاَ تأكلوا﴾ فهذا أمر لجمع. و «أموالكم» أيضاً جمع، فيكون معناه: لا يأكل كل واحد ماله، وكيف لا يأكل كل واحد منكم ماله؟ - يوضح الحق: «بالباطل». فيكون مطلوبا من كل واحد منكم ألا يأكل ماله بالباطل. والإنسان يأكل الشيء لينتفع به. والحق يوصيك ويأمرك: إياك أن تصرف قرشاً من مالك وتضيعه إلا في حق، هذا إذا كنا سنقابل المفرد، فلا يأكل واحد منكم ماله
2142
بالباطل، بل يوجهه إلى الأمر النافع، الذي ليس فيه حرمة، والذي لا يأتي بعذاب في الآخرة.
وإذا كان المراد أن لا أحد يأكل مال الآخر، فسنوضحه بالمثل الآتي: لنفترض أن تلميذا قال لمدرسه: يا أستاذ قلمي كان هنا وضاع. فيقول الأستاذ للتلاميذ: لا تسرقوا أقلامكم، فهل معني ذلك أن الأستاذ يقول: لا يسرق كل واحد قلمه أو لا يسرق كل واحد قلم أخيه، إذن فيكون المعنى الثاني: ﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ﴾، أي لا يأكل كل واحد منك مال أخيه بالباطل.
وكيف يقول: «أموالكم» ؟ وما دام ما لهم فليس عليهم حرج؟ لا؛ لأن معناها المقصود: لا يأكل كل واحد منكم مال أخيه. ولماذا لم يقل ذلك وقال: «أموالكم» ؟ لأن عادة الأوامر من الحق ليست موجهة إلى طائفة خُلِقت على أن تكون آكلة، وطائفة خُلِقت على أن تكون مأكولة، بل كل واحد عرضة في مرة أن يكون آكلاً لمال غيره؛ ومرة أخرى يكون ماله مأكولاً. فأنا إذا أكلت مال غيري فسوف يأكل غيري مالي. فأكون قد عملت له أسوة ويأكل مالي أيضاً، فكأنه سبحانه عندما يقول لك: لا تأكل مالك إنما ليحمي لك مالك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يصنع من المجتمع الإيماني مجتمعاً واحداً.
ويقول إن المال الذي عند كل واحد هو للكل. وأنك إن حافظت على مال غيرك حافظ غيرك على مالك. وأنت إن اجترأت على مال غيرك فسيجترئ المجموع على مالك. وأنت ساعة تأكل مال واحد تجرِّيء آلاف الناس على أن يأكلوا مالك. وحين لا تأكل مال غيرك كأنك لم تأكل مالك.
﴿لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ وكلمة «أكل» معناها: الأخذ؛ لأنّ الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمركن وتلبس جلباباً كل ستة أشهر، ولكن أنت تتناول الأكل كل يوم، وحينما نزلت الآية قال المسلمون: نحن لا نأكل أموالنا بالباطل. وتحرجوا أن يأكلوا عند إخوانهم. وبعد ذلك رفع الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح أن
2143
أكل التكارم ليس بالباطل - أنزل الله قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ [النور: ٦١].
هذه رفعت عندهم الحرج، إنما ساعة سمعوا أكل الباطل قالوا: لا آخذ حاجة من أحد إلا بمقابل.
وما هو «الباطل» ؟.. الباطل هو أن تأخذ الشيء بغير حقه. مثال ذلك الربا، لأن معنى «ربا» أن واحداَ عنده فائض وآخر يحتاج، والمحتاج ليس عنده الأصل أنطلب منه أن يرد الأصل وزيادة، ويعطي الزيادة لمن عنده؟
كيف يتأتيّ هذا؟ هذا هو الآخذ بالربا، أو الأخذ بالسرقة، بالاختلاس أو بالرشوة أو بالغش في السلع، كل ذلك هو أكل مال بالباطل، وساعة تريد أن تأكل مالاً بالباطل؛ كأنك تريدج أن تتمتع بثمرة عمل غيرك، وأنت بذلك تتعود على التمتع بثمرة عمل غيرك، وتضمحل عندك قدرة العمل ويصير أخذك من غير أخذاً لماله كَرْهاً وبغير وجه حق وبذلك تتعطل حركة متحرك في الحياة وهو ذلك العاطل «البلطجي»، ويخاف المتحرك في الحياة وهو من تُفرض عليه الإتاوة فيقل ويضعف نشاطه في الحياة، كيف يكون شكل هذا المجتمع؟ إن المجتمع في هذه الحالة سيعاني من كرب وصعوبات في الحياة.
فقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ هو أمر لكل مسلم: لا ترابِ، ولا تسرق، ولا تغش، ولا تدلس، ولا تلعب ميسراً، ولا تختلس،
2144
ولا ترتش؛ لأن كل هذه الأمور هي أكل أموال بالباطل. وعندما ندقق في مسألة لعب الميسر نجد أمراً عجيباً؛ فالذين يلعبون الميسر يدعون أنهم أصدقاء، وينتظر بعضهم بعضاً ويأكلون معاً، وكل واحد منهم يجلس أمام الآخر وهو حريص أن يأخذ ما في جيبه، فأي صداقة هذه؟
إذن فساعة يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾، وساعة يأمرك الحق: إياك أن يصعب عليك التكليف؛ لأنه شاق عليك، ولكن قدر ما يأخذه منك التكليف من تضييق حركة تصرفك، وما يعطيك التكليف من تضييق حركة الآخرين، الحق قال لك: لا تأخذ مال غيرك لكي لا يأخذ غيرك مالك، وبذلك تكسب أنت ويكسب كل المجتمع، فحين يصدر أمر لإنسان أن يكف يده عن السرقة فهو أمر للناس جميعاً كي يكفوا عن سرقة هذا الإنسان؛ لذلك فحين تستقبل أي حكم عن الله لا تنظر إلى ما أخذه الحكم من حريتك، ولكن انظر إلى ما أعطاه الحكم لصالحك من حرية الآخرين.
ومثال ذلك: حين يوضح الحق وينهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية فإياك أن تمد عينك إلى محارم غيرك، هو أمر لا يخصك وحدك، ولكنه أمر لملايين الناس ألا يمدوا عيونهم إلى محارمك، وعندما توازن الأمر فأنت الذي تكون أكثر كسباً.
إنني لذلك أقول دائماً: لا تنظر إلى ما في التكليف من مشقة أو إلى ما أخذ منك، ولكن انظر فيه إلى ما يعطي لك؛ فإن نظرت هذه النظرة وجدت كل تكليف من الحق هو ربح لك أنت. وإلا لو أننا أطلقنا يدك في الناس جميعاً لا بد أن تقدر أننا نطلق أيدي الناس جميعاص فيك. وأنت إذا أطلقت يدك في الناس فلن تؤثر فيهم مثلما يؤثرون فيك لو أطلقوا أيديهم فيك فيما يخصك، فمن مصلحتك ألا تطلق يدك في الناس.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ وكلمة ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ أي إلاّ في النفعية المتبادلة تبادل الأعواض، فشيء عوض شيء. وجاءت التجارة؛ لأن التجارة هي
2145
الحلقة الجامعة لأعمال الحياة؛ فالتاجر هو وسيط بين من ينتج سلعة ومن يستهلكها. والسلع في حركتها إنتاج واستهلاك. والإنتاج قد يكون زراعيا أو صناعياً أو خدمياً. إذن فالتجارة جامعة لذلك كله.
وكلمة ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ تدل على أن رضا النفس البشرية في الأعواض مشروط، حتى ما أخذ بسيف الحياء يكون حراما؛ لذلك أقوال: على كل واحد أن يغربل إيمانه، وينظر هل حياته في أعواض الأموال وأعواض التجارة وأعواض المبادلات مستوية أو غير مستوية؟ فإن لم تكن مستوية؛ فعلية أن يفكر فيها قليلاً حتى يُعطي كل ذي حق حقه. وحتى لا يدخل في دائرة حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
ويتابع الحق: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وهنا أيضاً مقابلة جمع بجمع، ويعني: لا يقتل كل واحد منكم نفسه، وهذا ما يفعله المنتحر - ولا يقتل نفسه إلا إنسان وجد نفسه في ظرف لا يستطيع في حدود أسبابه أن يخرج منه. ونقول له: أنت نظرت لنفسك كإنسان معزول عن خالق أعلى، لكن المؤمن لا يعزل نفسه عن خالقه؛ فساعة يأتيه ظرف فوق أسبابه ولا يقوي عليه فعليه أن يفكر: وهل أنا في الكون وحدي؟ لا، إن لي ربّاً. وما دام لي رب فأنا لا أقدر وهو - سبحانه - يقدر، وهنا يطرد فكرة الانتحار؛ لأن المنتحر هو إنسان تضيق أسبابه عن مواجهة ظروفه فيقتل نفسه.
وإن فائدة الإيمان أنه ساعة يأتي ظرف عليك وتنتهي أسبابك تقول: إن الله لن يخذلني وهو يرزقني من حيث لا أحتسب، ويفتح لي أبواباً ليست في بالي، وضربنا مثلاً كي نقرب المعنى، وقلنا: هب أن إنساناً يسير في الطريق ومعه «جنيه واحد»
2146
في جيبه، ثم ضاع الجنيه، وليس في بيته إلا هو؛ لذلك يحزن جداً على ذلك الجنيه. لكن من يضيع منه «جنيه» وعنده في البيت خمسة «جنيهات» فالمصيبة تكون خفيفة، كذلك من فقد أسبابه فعليه أن يخفف الأمر على نفسه فلا ييأس، فَلِمَ يقتل نفسه؟ الله يقول في الحديث القدسي:
«بادَرَني عبدي بنفسه حرمت عليه جنتي».
وهل أنت من وهبت الحياة لنفسك؟ لا، ولذلك فواهب الحياة هو الذي يأخذها، ومن ينتحر لا يدخل الجنة، لأنه لم يتذكر أن له إلهاً. ولنذكر هنا موقف قوم موسى عليه السلام عندما خرجوا، وطاردهم قوم فرعون. فماذا قال قوم موسى؟ قالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١].
وهذا كلام صحيح فأمامهم البحر ومن ورائهم فرعون، وهم قد قالوا ذلك بأسبابهم وبشربتهم. لكن ماذا قال سيدنا موسى. ﴿قَالَ كَلاَّ﴾ [الشعراء: ٦٢].
و «كلا» هذه نفي، وكيف يقول موسى: «كلا» وما رصيدها؟ إنه لم يقل: «كلا» ببشريته، ولكن قالها برصيده من الإيمان بالإله العظيم فقال:
﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
إذن فقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ولا يقتل كل واحد منكم نفسه؛ لأنك لا تقتل نفسك إلا إذا ضاقت أسبابك عن مواجهة ما تعانيه، وهذا يدل على أنك
2147
عزلت نفسك عن ربك، ولو ظللت على الإيمان بأن لك خالقاً لانفرجت عنك الكروب، وأي مسألة تأتي تقول: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
إن الإيمان يعطيك صلابة استقبال الصعاب. وقد تأخذ ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ معنى آخر أي، ولا تؤدوا بأنفسكم لأن تقتلوا، أي لا تلق بنفسك إلى التهلكة، أو ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ على أن المؤمنين هم وحدة إيمانية، أو أنّ المشرع لهذه الوحدة قال: الذي يَقْتَل فإياك أن تقتل نفسك، أي لا تقتل غيرك حتى لا يصير الأمر إلى أن تَقْتُل نفسك لأنه سيتقص منك.
فقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى القتل، ويحنن الحق الإنسان على نفسه وليس على الناس فحسب، فلا يقول لك: لا تَقْتُل حتى لا تُقْتَل، لأنه سبق أن قال: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٩]. وعندما يعرف القاتل أنه إن قَتَلَ يُقْتَل، فهو يتجنب ذلك، ونلحظ أن الحق قال في آية أخرى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١].
وهل أنا سأسلم على نفسي أو على الناس الداخل عليهم؟ إن الإنسان يسلم على هؤلاء الناس، وعندما تقول: «السلام عليكم»، يعني الأمان لكم. فسيقولون لك: «وعليكم السلام» فكأنك قد سلمت على نفسك. أو أن الحق قد جعل المؤمنين وحدة واحدة، ومعنى «وحدة» يعني أن ما يحدث لواحد يكون للكل.
إذن فقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ولا يقتل واحد منكم نفسه، فتصلح ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ بمعنى: ولا يقتل واحد منكم نفسه بأن ينتحر، هذه واحدة، ولا يقتل واحدٌّ منكم نفسه بأن يلقي بها إلى التهلكة، أو لا يقتل واحد منكم نفسه بأن يقتل غيره فيقتل قصاصاً، أو لا تقتلوا أنفسكم يعني: لا يقتل أحد منكم نفس
2148
غيره لأنكم وحدة إيمانية وليس واحداً بعينه هو المأمور بل الكل مأمور، فلا يقتل واحد منكم نفس غيره.
ويذيل الحق الآية: ﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾. وبالله، ساعة ينهاني الحق عن أن أقتل نفسي أو أقتل غيري، أليست هذه منتهي رحمة الصانع بصنعته؟ إنها منتهى الرحمة.
ويقول سبحانه بعد ذلك: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً... ﴾.
2149
«ذلك» :«ذا» وحدها للإشارة، و «الكاف» للخطاب، والخطاب إذا أُفرد، فالمراد به خطاب الله لرسوله، والمؤمنون في طي ذلك الخطاب. ومرة يقول: «ذلكم» أي أنه يخاطبنا نحن، مثل ﴿ذلكم أزكى لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٢].
وذلك إشارة لما تقدم مباشرة في الآية الخاصة بقتل النفس، وكذلك ما قبلها وهو أكل الأموال. والبعض يأخذها لكل ما تقدم من أول قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾، والبعض الآخر يأخذها من أول الأوامر والنواهي من أول السورة إلى هنا، وكلها تصح.
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾. والعدوان هو التعدي، والتعدي قد يكون ظلماً وقد يكون نسياناً. ومن يتعدي بالظلم يكون عارفاً ويأخذ حق غيره، أما
2149
التعدي بالنسيان فيقتضي أن يراجع الإنسان سلوكه، لماذا؟ لأن العاقبة مريرة.
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ والفعل إذا أسند لفاعله أخذ قوته من فاعله. فعندما يقول لك أحد: إن عملت هذه فابني الصغير سيصفعك صفعة، وهو قول يختلف عن التهديد بأن يضربك شاب قوي، لماذا؟ لأن قوة الحدث نأخذها من فاعل الحدث، من الذي يُصْلي المعتدي النار؟ إنه الله، وسبحانه سيجعله يصطلي بها.
ويقول الحق: ﴿وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً﴾ لأن فعل الله ليس عن معالجة بل ينفذ فوراً. ونعلم أن فعل المعالجة هو كل فعل يحتاج لوقت، فهناك عمل يحتاج لساعة وكل دقيقة من هذه الساعة تأخذ جزئية من العمل، وعندما تقسم العمل لستين جزئية، ينتهي العمل في ساعة، وإن كان العمل ينتهي في عشرة أيام تقول له: أسقط أوقات الراحة وعدم مزاولة العمل، وقسم العمل على الباقي من الوقت. هذا هو ما يسمى علاجاً؛ لأن ذلك من عمل الإنسان، لكن عمل الله يختلف، فالحق يقول للشيء: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ إذن فكل فعل على الله يسير ما دامت المسألة: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ قال سبحانه: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: ٢٨].
وسبحانه يوضح: أنا لا أُوجِد كل واحد مثلما خلقت آدم وأشكله وأخلقه ثم أبعثه، لا، بل كل الخلق كنفس واحدة.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ... ﴾.
2150
هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في هذه السورة - سورة النساء - ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا: إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾، ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾، ثم جاءت: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾. و «الاجتناب» ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسدّ المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له.
هذه الآيات الكريمات كانت خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيَّراً وَمُكْرَهاً على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغترّ بمزيته على سائر خلق الله، والميزة التي ميِّز الله بها الإنسان هي العَقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: ٧٢].
فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آلياً وارتاح من حمق الاختيار - فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح: أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأنَّ عندك مسلكين: كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يُغري، وشهوة النفس العاجلة تُغري.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ؛ لذلك يوضح
2151
سبحانه: أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار.
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يُحبُّ أن يأتي لربه راغباً محبّاً: لأن هناك فارقاً بين أن يسخَّر المسخَّر ولا يستطيع أن ينفلَت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط الله صفة المحبوبية؛ لأن المحبوبية أن تكون مختاراً أن تطيع ومختاراً أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.
﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ كأن الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح: إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالاً يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوي: فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل: سأفعل الذنب ثم أستغفر، هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربّه.
﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ - في السيئات يقول: ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ وقلنا: إن «الكفر» هو الستر «أي يسترها - ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمراً يستحق عليه عقاباً وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أَماّ مَن عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير - كما قلنا - إماطة العقاب، و» الإحباط «إماطة للثواب كما في قوله: ﴿فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧].
2152
أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
(فعلت ليقال وقد قيل).
أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا: إنك بنيت المسجد، وقرأوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣].
أنت فعلت ليقال وقد قيل؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصاً على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم:
» ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه «.
فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ﴾، و»
الاجتناب «هو إعطاء الشيء جانباً، ولذلك يقولون: فلان ازورّ جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ﴾ هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحدٍ فعندما يقول الحق:
﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠].
2153
وعندما يقول: ﴿واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ [الحج: ٣٠].
فاجتنبوه أي: ابتعدوا عنه. لماذا؟ لأن حمى الله محارمه.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه..».
والحق يقول: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠].
واجتنابه يكون بألا توجد معه في مكان واحد يخايلك ويشاغلك ويتمثل لك، فعندما تكون مثلاً في منطقة الذين يشربون الخمر يقول لك الحق: اجتنبها. أي لا تذهب إليها؛ لأن الخمر عندما توجد أمامك وترى من يشربون وهم مستريحون مسرورون.. فقد تشربها، لكن عندما تجتنب الخمر ومجالسها فأنت لا تقع في براثنها وإغرائها، ولذلك قلنا: إن الاجتناب أبلغ من التحريم، وهناك أناس يبررون الخمر لأنفسهم ويقولون: إن الخمر لم يرد فيها تحريم بالنص!! نقول لكل واحد منهم: حسبك أن شرب الخمر قُرن بالرجس من الأوثان، فالحق يقول: ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ [النحل: ٣٦].
فاجتناب الطاغوت ليس معناه ألا تعبده، بل إياك أن تراه، إذن فاجتناب الخمر ليس بألا تشربها، بل إياك أن تكون في محضرها.
2154
«والكبائر» جميع «كبيرة»، وما دام فيه «كبيرة» يكون هناك مقابل لها وهي «صغيرة» و «أصغر»، فالأقل من «الكبيرة»، ليس «صغيرة» فقد؛ لأن فيه «صغيرة»، وفيه «أصغر» من «الصغيرة» وهو «اللمم».
والحق يقول: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ و «السيئات» منوطة بالأمر الصغير وبالأصغر، لكن هذه المسألة وقف فيها العلماء، قالوا: معنى ذلك أننا سنغري الناس بفعل السيئات ما داموا قد اجتنبوا الكبائر فقد يفعلون الصغائر. نقول: لا، فالإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر؛ لذلك لا تجز الصغائر لنفسك؛ فالحق يُكَفّر ما فلت منك فقط؛ ولذلك يقول الحق: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ [النساء: ١٧].
يفعلون الأمر السيء بدون ترتيب وتقدير سابق وهو سبحانه قال بعد ذلك: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ [النساء: ١٨].
إذن فمعنى أنك تصرّ على صغيرة وتكررها إنّها بذلك تكون كبيرة، وإن لم نجتنب الكبائر ووقعنا فيها فماذا يكون؟.
يقول العلماء الذين جعلهم الله هبات لطف ورحمة على الخلق: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن أخذت هذه فخذ تلك، خذ الاثنتين، فلا كبيرة مع الاستغفار، ومقابلها لا صغيرة مع الإصرار.
وحينما أراد العلماء أن يعرفوا الكبيرة قالوا: الكبيرة هي ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلاً فهذه كبيرة، والتي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر.
وأن سيدنا عمرو بن عبيد عالم من علماء البصرة وزاهد من زهادها، وهو الذي قال فيه أحد الخلفاء: كلهم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، أي أن كل العلماء
2155
يذهبون إلى هناك ليأخذوا هبات وهدايا إلا عمرو بن عبيد، إذن فقد شهد له، هذا العالم عندما أراد أن يعرف مدلول الكبيرة، وأصر ألا يعرف مدلولها بكلام علماء، بل قال: أريد أن أعرفها من نص القرآن، الذي يقول لي على الكبيرة يأتيني بنص من القرآن. ودخل ابن عبيد البصري على سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ونعرف سيدنا جعفر الصادق وهو أولى الناس بأن يُسأل؛ لأنه عالم أهل البيت، ولأنه قد بحث في كنوز القرآن وأخرج منها الأسرار وعاش في رحاب الفيض، فقال ابن عبيد: هذا هو من أسأله، فلما سلّم وجلس قرأ قول الله سبحانه: ﴿الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم﴾ [النجم: ٣٢].
ثم سكت!! فقال له سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق: ما أسكتك يا بن عبيد؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله.
وانظروا إلى الثقة بمعرفة كنوز القرآن، ساعة قال له: «أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله» قال أبو عبد الله: نعم، أي على خبير بها سقطت، أي جئت لمن يعرفها، ثم قال: «الشرك بالله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨].
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة﴾ [المائدة: ٧٢].
وأضاف: واليأس من رحمة الله فإن الحق قال: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧].
وهكذا جاء سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق بالحكم وجاء بدليله، وأضاف: ومن أمن مكر الله؛ لأنه سبحانه قال: ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون﴾ [الأعراف: ٩٩].
2156
والكبيرة الرابعة: عقوق الوالدين؛ لأن الله وصف صاحبها بأنه جبار شقي قال تعالى: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ [مريم: ٣٢].
وقتل النفس. قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ [النساء: ٩٣].
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ٢٣].
وأكل الربا. قال تعالى:
﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ [البقرة: ٢٧٥].
والفرار يوم الزحف، أي إن هوجم المسلمون من أعدائهم وزحف المسلمون فرّ واحد من الزحف. فقد قال تعالى في شأنه: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ [الأنفال: ١٦].
وأكل مال اليتيم. قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: ١٠].
والزنا. قال تعالى:
2157
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩].
وكتمان الشهادة. قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
واليمين الغموس وهو أن يحلف إنسان على شيء فَعَله وهو لم يفعله أو أقسم أنه لم يفعله، وهو قد فعله، أي القسم الذي لا يتعلق بشيء مستقبل. قال تعالى: ﴿ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٧].
والغلول أي أن يخون في الغنيمة. قال تعالى: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ١٦١].
وشرب الخمر؛ لأن الله قرنه بالوثنية. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠].
وترك الصلاة؛ لأن الله قال: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾ [المدثر: ٤٢ - ٤٣].
ونقض العهد، وقطيعة الرحم وهو مما أمر الله به أن يوصل. قال تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ
2158
وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك هُمُ الخاسرون} [البقرة: ٢٧].
إذن فكل هذه، هي الكبائر بنص القرآن، وكل كبيرة معها حكمة، عرضها لنا سيدنا ابن عبيد لأنه خاطب عالما، فإذا ما نظرنا إلى الاستنباط الذي جاء به سيدنا ابن سيدنا «جعفر الصادق» عندما سأله، ثم يجيبه بهذا الترتيب وبشجاعة من يقول لابن عبيد.. «نعم» أي إن جوابك عندي، ثم يذكرها رتيبة بدون تفكير، وهذا دليل على أنها مسألة قد اختمرت في ذهنه، وخصوصاً أنها ليست آيات رتيبة مسلسلة متتابعة! بل هي آيات يختارها من هنا ومن هناك، مما يدل على أنه يُعايش أسرار القرآن.
لقد نشأ هذا الرجل في بيت سيدنا جعفر الصادق وهو الذي وضع للمؤمن منهجاً بحيث لا يصيبه شيء في نفسه إلا وجد له علاجاً ودواء في كتاب الله، إنه وجد أن الزوايا التي تعكِّر على الإنسان أَنّه يخاف من شيء، والذي يخاف من شيء يكون هذا الشيء - غالبا - محدوداً معروفاً.
أنا أخاف من الشيء الفلاني، ولكنَّ واحداً يصيبه غمّ وهمّ لا يدري سببه، فيقول لك: أنا مغتمّ دون أعرف السبب.
إذن ففيه انقباض لا يعرف سببه، وهناك مثلاً إنسان يكيد له أناس كثيرون ويمكرون ويأتمرون به، وهناك ثالث يحب الدنيا ويريد أن تكون الدنيا عنده، كل هذه هي مشاغل النفس البشرية: أن تخاف من شيء، أن تغمّ من شيء، أن تشفق من مكر بك وكيد لك، أن تتطلب أمراً من أمور الدنيا، وسيدنا جعفر هو الذي قال: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ [آل عمران: ١٧٣].
انظر لاستنباط الدليل، الذي يقوله سيدنا جعفر: فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ [آل عمران: ١٧٤].
2159
انظر دقة الأداء، يقول: سمعت الله، ولم يقل: قرأت، كأن الإنسان ساعة يقرأ قرآنا لا بد أن يتأكد أن الله هو الذي يتكلم. وجلال القديم يغطي على جدية الحادث، فالذي يقرأ أمامك حادث، لكنه يقرأ كلام الله، إذن فجلال القديم يغطي على جدية الحادث. ويضيف سيدنا جعفر: وعجبت لمن اغتم ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧].
ثم يقول: فإني سمعت الله يعقبها يقول: ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨].
ويضيف سيدنا جعفر: وعجبت لم مُكِرَ به ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد﴾ [غافر: ٤٤].
فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾ [غافر: ٤٥].
وعجبت لمن طلب الدنيا كيف لا يفزع إلى قول الله سبحانه: ﴿مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله﴾ [الكهف: ٣٩].
فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: ٣٩ - ٤٠].
هذه هي الاستنباطات الإيمانية، والاستنباطات هنا كالاستنباطات هناك، وإذا ما نظرت إلى الاستنباطات التي قالها سيدنا جعفر تجدها تغطي زوايا النفس الاجترائية؛ لأن التكليف حينما يأتي يحدّ حركة الإنسان عن الشهوات، فالآيات
2160
جاءت لتحدّ من الاجتراء، وتجدها تأخذ بالقمة من أول الاجتراء على الوحدانية في الألوهية إلى قطيعة الرحم، وقد غطت الآيات كل جوانب الاجتراءات في النفس البشرية، أول اجتراء: هو الشرك.. لأنه قال: «إن الشرك لظلم عظيم» والظلم الذي نعرفه: أنك تحكم بشيء للغير وليس من حقه، فبالله عندما تحكم أن ربنا له شريك، أليس هذا أعظم الظلم، وهو ظلم لنفسك، فإياك أن تظن أنك تظلم الله؛ لأن ربنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ ولذلك يقول في الحديث القدسي:
«أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
إن هذا ظلم لنفسك؛ لأنك حين تعتقد أنّ لله شركاء فقد أتعبت نفسك تعب الأغبياء. واقرأ قول الله: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾
[الزمر: ٢٩].
فعبد مملوك لعشرة أسياد، ويا ليت العشرة الأسياد متفقون، بل هذا يقول له: اذهب، وهذا يقول له: تعال، إذن فقد أتعب نفسه وأرهقها. إذن فقد ظلمها.. قال تعالى: ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤].
إن الإيمان بإله واحد يجعلك غير خاضع إلا لوجهة واحدة، ولا أوامر من جهة أخرى أبداً، إذن فقد أرحت نفسك، وهذه قضية يثبتها الواقع؛ لأن الله قد أنزل في قرآنه المحفوظ المتلو المقروء: ﴿لا إله إلا أَنَاْ﴾ [طه: ١٤].
فالمؤمن يقول: هذه كلمة صدق، والكافر يقول - والعياذ بالله -: هذه الكلمة غير صدق، والمسألة على أي تقدير منتهية، واحد جاء وأخذ الكون وقال: لا يوجد
2161
إله إلا أنا، والذي أخذ منه الكون إله ولكن أَعَلِمَ أن الكون أخذ منه أم لم يعلم بذلك؟ إن لم يكن قد دري تكون مصيبة في هذا الإله، وإن كان قد دري فما الذي أسكته؟ فالمسألة - إذن - محلولة، هذه مسألة الشرك.
إن الإيمان بوحدانية إله جاءت لتريح النفس البشرية من كثرة تلفتاتها إلى آلهة متعددين، إنّه هو الحق، وهو الذي ينفع ويضر، إنكم حين تكونون لإله واحد كمثل العبد يكون لمالك واحد، أما عندما تعبدون آلهة متعددين تكونون كمثل العبد الذي له شركاء وياليتهم متفقون؛ بل هم مختلفون.
بعد ذلك يأتي في المرحلة الثانية وهي: اليأس من رَوْح الله، و «الرَّوْح» من «الرائحة» وهي النسيم، فساعة تكون في ضيق والجو حار تلتفت لتجد واحة فتأوي إلى ظلها وهوائها وتلجأ إلى حضنها، هذه الراحة يعطيها الله لمن لا ييأس من روْح الله فتعطيه صلابة إيمانية لاستقبال أحداث الحياة؛ لأن الحياة أغيار، وأحداثها متعددة، وللعالم وللكون الظاهر سنن في الأسباب والمسببات.
هَبْ أن أسبابك ضاقت بشيء ولم يعد عندك أسباب له أبداً، فالذي لا يؤمن بإله قوي يخرق الأسباب، ماذا يفعل؟ ينتحر كما قلنا.
إذن فاليأس من روْح الله هو من جعل قوة الله العليا التي خلقت النواميس متساوية مع النواميس بحيث إذا ضاقت وعزت أسبابها البشرية في شيء يئس منها، أما المؤمن فنقول له: أنت لا تيأس؛ لأنك مؤمن بإله قادر فوق النواميس؛ فالذي ييأس من روْح الله كأنه يعطل طلاقة القدرة الإلهية على النواميس الكونية، إنّ الله، هو خالق هذه النواميس. فعندما ييأس إنسان من روح الله، يكون قد سوّى الله - بطلاقة قدرته - بالنواميس، إنّ الذي تأباه النواميس فسبحانه قادر أن ييسره.
وبعد ذلك جاء ب «عقوق الوالدين» وهما الخلية الأولى التي يواجهها الإنسان، وهما السبب المباشر في إيجادك؛ لأنك حين تعق وتعصي من كان سبباً مباشراً لوجودك تكون قد عققت وعصيت من كان سبباً أولياً لوجودك، وهو الله الذي لم تره،
2162
إذن فاحترامهما والبرّ بهما ليس - فقط - لأنهما سبب في وجودك وإنما - أيضا - لأنهما ربياك صغيراً فعليك بالبر بهما، وهذا يحثك ويدفعك إلى أن تحفظ الجميل لمن كان سبباً في إيجادك، وتربيتك، وعندما ترقيها وتتساءل: من أوجد أباك؟ جدّك؟ تصل إلى أين؟ لا يمكن أن تكون لها نهاية إلا أن تتصل بمن لا نهاية له، وهو أن الله قد خلق آدم.
ثم قال: قتل النفس، والقتل هو نقض بنية الكائن، وهو يختلف عن الموت، فالموت أن يموت الإنسان وبنيته سليمة، لكن إن تلقى ضربة على رأسه فهو يموت منها، هذا هو نقض البنية سواء أكان الضرب بحجر أم برصاصة أم بأي شيء. ولنقرأ القرآن بإمعان، إنَّ الحق يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
فالموت هو سلب الحياة بدون نقض بنية، وهذا لا يجريه إلا الله، إنما القتل بهدم البنية، فأي إنسان يستطيع أن يفعله، فتخرج الروح بإذن الله، وليس معنى ذلك أن أحداً عجّل بأجل القتيل، لا، ولكنه تدخل في بنيان أقامه الله فهدمه، ولو لم يتدخل أحد في بنيان الله ليهدمه لكان أجله قد جاء. إذن فالقاتل يُعاقب لأنه تدخل في هدم البنية وهو يعرف أن هذه الروح لا تحل إلا في بنيان له مواصفات خاصة تقتضي أن يكون المخ سليماً، وكذلك القلب، وبقية أجزاء الجسم. لكن حين يجيء الأجل يموت الإنسان ولو لم ينقض أحد البنية.
وضربنا مثلاً لنقرِّب هذا الأمر - ولله المثل الأعلى:
إنّ هذه الروح نشبهها بالكهرباء، فأنت لا تعرف الروح ولم ترها ولم تسمعها ولم تشمّها ولم تذقها، إذن فبأي وسيلة من وسائل الإدراك أنت لا تعرفها. لكنك تعرف أنها تدير حياة جسمك كله، بدليل أن الروح عندما تُسحب من الجسم يصير رِمّة. وقد جعلها الله كدليل ذاتي في النفس البشرية على وجود إله لا تدركه الأبصار وهو
2163
يدرك الأبصار، تقول: لا نرى الله. نقول لك: نعم، فهو سبحانه يقول: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١].
إن الحق لا يطالبك بأن تبصر ما في الكون فقط من آيات، بل إن الأدلة لا تتعداك أنت أولاً، فروحك التي تدير جسمك أين هي؟ ما شكلها؟ ما لونها؟ ما رائحتها؟ أتعرف؟ لا، ولكنها موجودة فيك وأنت لا تراها، فكيف تطلب أن ترى إلهاً وقد خلق شيئاً لم تقو على أن تراه؟ أمخلوق لا تقدر أن تراه، وبعد ذلك تريد أن ترى خالقه. إذن فمن عظمته أنه لا يُدْرَك، ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لحظة تنزل الروح في الجسم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢].
لأنه سيكون إنساناً سوياً، فإن شبهنا تلك الروح بالكهرباء - ولله المثل الأعلى - هل تعرف ما هي هل رأيتها؟.
لم ترها، هل أحد عرفها؟ الذين اكتشفوها، أعرفوا ما هي؟ لم يعرفوا، إنما نعرفها بآثارها، فساعة نرى المصباح منيراً نقول: جاءت الكهرباء، وساعة تدور المروحة تقول: الكهرباء جاءت. إذن فأنت تعرفها بآثارها، كذلك تعرف الشخص أنه مات عندما لا تجد له حركة. وعندما تخف الحركة وتَخْفُت يقولون: خذ الحركة من شيء إن وقف يكون الموت، وليس من اليد، لأن اليد قد لا تتحرك لإصابتها بالشلل، بينما الإنسان مازال حيا؛ ولذلك هات المرأة وضعها أمام مخرج النفس، فإن وجدت بخاراً على المرآة فهذا يعني أن هذا الإنسان مازال حياً، وفيه روح، وكذلك عندما ينكسر المصباح الكهربائي فالكهرباء لا تعمل عملها؛ لأن الكهرباء لا تظهر إلا في قالب من هذا النوع، زجاجة مفرغة الهواء مصنوعة بشكل خاص إن انكسرت أو تلفت يذهب النور.
إذن فعندما نهدم الجسم لا تجد الروح الوعاء الذي تظهر فيه، فكذلك المصباح الكهربائي إن انكسر تكون الكهرباء موجودة في الأسلاك إنما لا يوجد نور وعندما تأتي بمصباح جديد يأتي النور، كذلك الروح لا تظهر إلا في الجسد الذي له مواصفات خاصة، هذا وإن القتل هو دليل عجز القاتل، لأن القاتل حين يقتل خصمه فهذه شهادة
2164
منه أنه أعجز من خصمه، صحيح أنه قد قدر عليه وضربه وأماته وهذا مظهر قدرة بشرية حمقاء. لكن في الواقع أن هذا عجز.
إن معنى القتل ونقض الحياة أن القاتل يعلن أمام الملأ أنه لا يستطيع أن يواجه حركة حياة خصمه، ولا يرتاح إلا إذا مات هذا الإنسان، إذن فقد شهد القاتل حين يقتل بعجزه. فلو علم القاتل أن قتله لنفس أخرى ليس دليل قدرة وقوة له ولكنها شهادة عجز، وأنه لا يمكن أن يواجه حياة هذا الحي إلا بأن يميته لما قتله، والحق يحمي النفس البشرية من القتل حتى لا يكون أي إنسان مهددا، وحتى لا تتعطل الخلافة التي أرادها الله في الكون.
ثم تأتي كبيرة أخرى وهي: قذف المحصنات الحرائر، ونعرف أن ركناً من أركان المجتمع السليم أن تظل الحرائر مصونات كي لا يعاني النشء والنسل الذي ينسل منهم من ظن الريبة والعار، وحين لا تظن النفس البشرية بريبة فهي تواجه الحياة بمنتهى طلاقتها وبمنتهى قدرتها؛ لذلك فالذي يحب أن تشيع الفاحشة ويقذف المحصنات والحرائر بغير ما اكتسبن فهو يحدث زلزلة في المجتمع، زلزلة في نسب أفراد المجتمع، ويضاربها من ليس له ذنب، يضار بها الأولاد الصغار، وما ذنبهم وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨].
وبعد ذلك قال: أكل الربا؛ لأن الربا يصنع خللاً إقتصادياً فهو يحمل غير الواجد أن يزيد ثروة الواجد.
والزنا كبيرة من الكبائر والحق يقول:
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢].
فالزنا يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة استمتاع فقط، والعلاقة الأولى التي أرادها الله حينما أوجد حواء لآدم هي أن تكون المرأة سكناً وليست أداة استمتاع
2165
فقط، والاستمتاع إنما جاء لحفظ النوع وأطلقه في النفس البشرية؛ لأن آثار هذا الاستمتاع تبعتها طويلة من تربية للأطفال الذين تطول طفولتهم ويحتاجون لرعاية، ولو لم يربطها بهذا الاستمتاع لكان كثير من الناس يزهد في الأولاد.
وكذلك الفرار يوم الزحف كبيرة من الكبائر، لأن الفرار يصنع خللاً في المجتمع الإيماني؛ لأن معنى الزحف أن أعداء الإسلام أغاروا علينا، وما داموا قد أغاروا علينا فكل مسلم يقف على ثغرة من ثغور الإسلام، حتى لا يمكِّن أعداء الإسلام من ديار الإسلام، ولتظل كلمة الله هي العليا، ففرار المسلم يعطي أسوة على ضعف الإيمان في النفس، ولذلك لا تغتروا بأن هذا صار مؤمناً وذاك صار مؤمناً، فلو كان مؤمناً حقاً ووثق بالغاية فهو لا يهاب القتال؛ لأنه إن قتل صار شهيداً ومبشراً من الله بكذا وكذا؛ لذلك فالفرار في يوم الزحف يعطي أسوة سيئة ليس في الحرب فقط، بل سيعطي شيوع خلخلة إيمانية في النفس البشرية، والحق سبحانه وتعالى أوضح أن المؤمن عندما يدخل الحرب يرغب في أحد أمرين كلاهما حسن: النصر أو الشهادة، فقال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ [التوبة: ٥٢].
والمؤمن يتربص بالكافر ليحقق ما قاله الله: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة: ٥٢].
فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يثبت يقين إيمانه بأن يفقد الحياة التي هي سبب التمسك بمظاهر الحياة لأنه ذاهب لحياة أحسن، ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يحب للمؤمنين أن يقدموا على عمليات انتحارية إلا حين تكون هناك مظنة للنصر بدليل قوله الحق: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [الأنفال: ١٦].
2166
فالإنسان لا يدخل في معركة وهو غير مستعد لها، أو ليس لديه مظنة النصر، إنه إن فعل ذلك فإنما ينقص المسلمين واحداً، فماذا أفادنا؟ إن على المؤمن أن يقبل على الاستشهاد بثمن يخصه وهو الجنة، وبثمن يُبقي للجماعة الأمان أو النصر.
وبعد ذلك: واليمين الغموس. واليمين الغموس تمثل قضية من قضايا خلل المجتمع؛ لأن اليمين الغموس هي السبب الذي يغمس صاحبه في النار؛ لأنه حلف على شيء أنه كان وهو لم يكن، أو على شيء لم يكن وهو قد كان، وبهذا يتسلل الكذب إلى الصدق، ولا يعرف القاضي التمييز حين يفصل في الحقوق، هناك إنسان يكذب ويسشهد ويحلف اليمين أن هذا حدث ويؤدي ذلك إلى ضرر بالغير، فمن يريد أن يظلم لن يعدم شاهدين على باب المحكمة يحلفان له، عندئذ يصبح الإنسان غير مطمئن إلى حركة حياته ولا إلى مصالحه.
وتأتي كبيرة أخرى وهي الغلول. وتعني أن المسلمين حين يلتحمون بأعدائهم ويأخذون منهم الغنائم وهي ما نسميها «السَلَب».. وهي أسلحة الأعداء وما عندهم من أشياء.. فبالله من يدخل معركة بهذا الشكل ويجد غنيمة ويأخذها، أيكون قد نقض عملية الحرب في سبيل الله أم لا؟ إنه ينقض عملية الحرب في سبيل الله، إن الحرب في سبيل الله شرعت لتكون كلمة الله هي العليا، ولذلك يقول الحق: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ١٦١].
لقد قلنا: إن كان قد غلّ بقرة.. فسيحملها يوم القيامة، وسيكون لها خوار..
وإن غل في أسمنت فسيأتي حامله يوم القيامة، ومن غلّ في حديد أو استورد لحوما فاسدة أو سمكا نتنا فإنه سيأتي وهو يحمله يوم القيامة.
ثم تأتي كبيرة وهي شهادة الزور. فشهادة الزور أيضا ركن من أركان فساد المجتمعات كلها؛ لأنها لا تجعل المؤمن مطمئنا على حقه.
أما السحر فهو كبيرة تهدد المجتمع بما يفزع كيانه؛ لأنه ينتهي إلى قوة خفية، إذ
2167
ليس أمام الذي يتعرض للإصابة به عدو مباشر يواجهه، حتى يرتب لنفسه الحماية منه. ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ [البقرة: ١٠٢].
أي ليس له نصيب في الآخرة، وربما يقول قائل: إذا كانت هذه مضرة السحر في هدم كيان المجتمع وتفزيعه، فلماذا وجد؟ نقول له: إن الكائنات مخلوقة لله، وكل كائن له قانون، وقد يكون قانون كائن أخف وأسرع من قانون آخر، فأفراد الجنس الواحد محكومون بقانون واحد. وحين يوجد لأفراد الجنس الواحد قانون يحكم حركته يكون قد وجد في ذلك الجنس تكافؤ الفرص، بمعنى أن لك فرصة هي لغيرك. أما أن توجد لك فرصة ولا توجد لغيرك، فهذا يمثل خللاً في تكافؤ الفرص في الجنس الواحد.
إن تكافؤ الفرص هو الأمر الذي يحمي المجتمع، بأن تكون فرصك أنت وفرصي أنا متساوية، فيكون صاحب الحركة في مادة الكون هو الذي يتغلب، وبذلك لا آخذ أنا فرصة غير موجودة عندك. فتكافؤ الفرص هو الذي يرحم البشرية.
وإذا كانت قوة الشرق تتمثل في الشيوعية في روسيا قد سقطت وبقيت قوة في الغرب تتمثل في أمريكا، فهناك قوي جديدة تحاول أن تعدل الميزان، اليابان، ألمانيا الموحدة، وأوروبا التي تبحث عن الوحدة، وكل ذلك من أجل أن تتوازن القوي في الفرص المادية الموجودة. وهذا هو ما يحمي الكون من الدمار؛ لأن أي واحد يفكر في أي شر جارف يخاف من رد الفعل، ويخاف أن يردوا عليه بشر أشد، ولو تيقنوا أن واحدة أقوي من الأخرى لجاء الخراب، إذن فحماية الجنس البشري إنما تنشأ من تكافؤ الفرص بين أفراده، ولكن الإنسان جنس، والجن جنس آخر، والإنس والجن مكلفان من الله، فعنصر الاختيار موجود فيهما، ولذلك حكي القرآن:
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً﴾ [الجن: ١ - ٢].
2168
وعندما قسموا قال القرآن: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً﴾ [الجن: ١١].
إذن فهم مثلنا.. لكنهم لهم قانون ولنا قانون: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧].
إذن فقانون الجن أنه يرى الإنسان، والإنسان لا يراه، وقانونه أخف من قانون الإنسان؛ لأن كل جنس يستمد قانونه من جرثومة تكوينه الأولى، فنحن البشر مخلوقون من طين.. أي أن لنا مادية محسة وكثيفة. والجن مخلوق من النار، والمخلوق من مادة الطين مثلنا، النبات والحيوان، تفاحة مثلاً مخلوقة من مادة الطين لأنها أخذت عناصر غذائها وتكوينها من تربة الأرض وخصوبتها. هب أنها خلف جدار وأنت جالس. أيتعدّى طعمها لك؟ أتتعدّى رائحتها لك؟ أيتعدّى لونها لك؟ لا، إذن فالجرمية المحيزة لا تجعلك تنتفع به.
لكن هب أن ناراً موضوعة وراء الجدار، وبعد مضي مدة ستشعر بالحرارة، أي أن الحرارة قد نفذت. والجن له شفافية وله خفة في قانونه وفي انتقاله ولا توجد مثل هذه الشفافية والخفة للإنسان، ولذلك لاحظوا أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد أن يبين لنا هذا، ضرب لنا المثل بسيدنا سليمان عليه وعلى نبينا السلام الذي سخر الله له الجن: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: ١٣].
وحينما اجتمع في جنوده ومن حوله من الناس قال: ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ [النمل: ٢٠].
وبعد ذلك جاءه الهدهد وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ
2169
وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: ٢٢ - ٢٣].
وهذا كله ليس بمهم، إنما المهم هو قول الهدهد: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ [النمل: ٢٤].
وهذا ما يهم سيدنا سليمان كرسول. فسيدنا سليمان يتميز بأنه رسول وملك، فجاء بالملكية أولاً: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ هذه مقومات المُلك، أما المسألة التي تهم سيدنا سليمان: ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾، والسجود للشمس من دون الله ضايق الهدهد وهو الطائر، كأن الهدهد عارف لقضية التوحيد وقضية الإيمان بدليل أنه غضب ثم يقول: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض﴾ [النمل: ٢٥].
إذن فهو يعرف من الذي يستحق السجود، ولاحظ أنه جاء ب «الخَبْء» لأن طعامه دائماً من تحت الأرض، ينقر ويُخرج رزقه.
واستمرت القصة حتى قال سليمان لمن يجلس معه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾
[النمل: ٣٨].
وهذا يدل على أن سليمان عليه السلام كان على علم بأن بلقيس - ملكة سبأ - في الطريق إليه، ومعنى أن يقول: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ معناها أن الذي يتصدّى لهذا الأمر عليه أن يذهب من عند بيت المقدس إلى اليمن ويحلّ ويحمل العرش ويأتي به قبل أن تأتي بلقيس.
بالله هل من قانون بشري يأتي به؟ وكيف ذلك؟. ولذلك لم يتكلم إنسيُّ عادي، فالإنس العادي يعرف أن قانونه البشري لا يقدر على تلك المهمة، لأن سليمان قال:
2170
﴿قَبْلَ أَن يَأْتُونِي﴾، وما دام قال ذلك فقد علم أنهم في الطريق. فهل يذهب إنسان عادي ويحلّ العرش ويحمله ويأتي به قبل أن يأتوا؟ لا، ولذلك عرفنا من هذه قول الحق: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦].
وهنا يتصدّى أحد الأذكياء من الجن قائلاً: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل: ٣٩].
ومن يقول ذلك ليس بجن عادي، فالجن أيضاً فيهم عفاريت أذكياء وفيهم من هو عاجز قليل الذكاء، مثل الإنسان، ومن قال ذلك أكد أنه قادر على أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فكم يمكث من الوقت؟ لا نعرف، تُرى هل يجلس سليمان مع القوم ساعتين أو ثلاث ساعات لا نعرف، إذن فتأخذ هذه العملية زمن مقامه، لكن ها هو ذلك الإنْسيّ الذي أعطاه الله فتحاً من الكتاب وعلماً يقول: ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠].
الإنسيّ العادي لم يتكلم، والعفريت من الجن قال: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أما الإنسيّ الذي أعطاه الله الفتح من الكتاب فقد قال: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ ولذلك انظر إلى الأداء العاجل في القرآن أداء الحركة: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ﴾ [النمل: ٤٠].
فالمسألة حدثت على الفور.
والمهم لنا هنا أن نعرف أن الجن قال: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾، ومنها نعرف أن له قانوناً في الحركة والسرعة، والإنسان الذي وهبه الله علماً بالكتاب له قدرة وحركة. إذن فكل جنس من الأجناس له القانون المناسب له.
2171
وقد يقف بعض الناس كما وقف كثير من سطحيي المفكرين قائلين: ما الجن والملائكة والعالم الخفيّ الذين تحدثوننا به؟ نقول: ألا تؤمن إلا بالمحُسّ بالنسبة لك؟ فما رأيك في الميكروبات التي ظهرت الآن بعدما اختُرع المجهر؟ لقد كانت موجودة، أكنت تعرفها؟ لقد كانت غيباً عنك، فلماذا لا تأخذ من أن شيئاً لم يكن موجوداً تحت حسّك وغير مُدرٍك بإدراكك، كان موجوداً وكنت لا تملك آلة إدراكه، لماذا لا تأخذ من ذلك دليلاً على وجود أجناس غير مُدركة، وعندما يحدثك القرآن عن هذه الأجناس غير المدركة تتساءل عنها؟ فما المشكلة في هذا؟
وبعد ذلك عندما يقول سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف:
«وإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
قد تتساءل: وهل الشيطان يجري مجرى الدم، أهو سائل أم ماذا؟
نقول: هو خلق لطيف خفيّ له قانونه الخاص، فربنا فضح الفكر الملحد وفضح التشكيك في الغيبيات التي يذكرها الله، واكتشفنا أن هناك مخلوقات هي الميكروبات، وهي من الجنس المادي من الطين، لكنها ضئيلة جداً، وماذا يفعل الميكروب؟ إنه ينفذ في الجسم ولا تدري أنت به وهو داخل في جسمك، وبعد ذلك ماذا يفعل في حرارتك؟ وماذا يفعل في جسمك؟ - فعندما يقول لك الرسول المبلغ عن الله: إن الشيطان سيجري منك مجري الدم فما التناقض في هذا؟ إذا كان هناك شيء من مادتك ضئيل ولا تعرف كيف دخل، ولا تشعر به وهو داخل، ثم يقلب ميزانك في الحرارة ويمارس العبث بكل جسمك، فتهيج الكرات البيضاء لتقاومه وتخرج الصديد. أي تناقض إذن؟
إن ربنا ترك من غيبيات كونه المادي ما يثبت صدقه في التحدث بغيبيات أخرى: ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، لقد جاء
2172
الحق بواحد من الإنس حتى لا يظنن الجن أنه أخذ خفة قانونه وشفافيته وسرعته من عنصر تكوينه بل إنه أخذها بإرادة المكون - سبحانه - إذن فالمسألة ليست عنصرية بل هي إرادة الله إنه - جلت قدرته - أوضح: أنا أستطيع أن أجعل من الجنس القوي بقانونه وهو الجن محكوماً لواحد من الإنس، ويجعله يعمل ما يريده. ولم يطلقها الله كطاقة ممنوحة لكل البشر حتى لا تحدث فتنة عند من يعرفها؛ لأنها ستعطيه فرصة ليست موجودة عند غيره. وقد يطغي بها وهذا هو السحر. وأوضحنا ذلك عند قوله سبحانه: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢].
فتنة، لماذا؟، لأنك تأخذ فرصة ليست موجودة لغيرك، وعندما توجد عندك فرصة ليست موجودة لغيرك فأنت لا تضمن نفسك أن تستعملها في الضار فقد تستعملها في ذلك؛ فستذهب بك إلى النار. والحق يقول: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ [البقرة: ١٠٢].
إذن فالحق سبحانه وتعالى من طلاقة قدرته يعطي للجنس الضعيف وهو الإنسان شيئا يستطيع به أن يسخرّ الأقوى وهو الجن، والجن يعرف هذه الحكاية. ولذلك فكل الذين يتمثل لهم الجن لا يَأتي ويَدوم بل يَأتي لمحة خاطفة؛ لأنه لا يستطيع أن يستقر على صورته التي يتمثل فيها، فلو تمثل بإنسان أو بحيوان مثلا لحكمته الصورة، وإن حكمته الصورة، واستطاع من يراه أن يطلق عليه رصاصة من «مسدسه» لقتله!
ولذلك الجن يأتي لمحة مثل ومضة البرق ويختفي، إنها طلاقة قدرة الحق التي
2173
يمكن أن تعطي للجنس الأقل - الإنسان - قوة القدرة على أن يُسخِّر الجنس الأقوى - الجن -، لكن هذه ليست في مصلحة الإنسان، ولذلك فالمؤمن من الجنّ يقول: أنا أكتفي في جنسي بقانوني، فربما يجعلني عدم تكافؤ الفُرص طاغياً، لأن من يملكون هذه القُدرة يطغون في الناس.
والذي يقوم بعمل تكره به المرأة زوجَها ويكره به الزوج امرأته هو نفسه من يَحِلّ مثل هذ العمل، وَمن مصلحته أن تستمر هذه الحكاية.
ولذلك لا أحد يتغلب على تلك المسألة إلا إذا استحضر قول الحق: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ فالسحر وارد بنص القرآن، لكن يجب أن تعلم أن هذه ليست طبيعية في السحرة ولا ذاتية فيهم، وإذا أراد الله ألا يضار الإنسان بالسحر فلن ينفع السحر، وإن اتسعت المعرفة بهذا الأمر تكون فتنة للناس، والذي يتبع هؤلاء السحرة ويذهب لهم ليفكّوا له السحر، ويذهب لهم ليسحروا له الخصوم، وينفتن فيهم يعيش طوال عمره مُرهقاً مصداقاً لقوله الحق: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ [الجن: ٦].
صحيح أنهم يقدرون أن يسحروا، لكن ذلك السحر يزيد المتسبب فيه رهقاً وتعباً.
وعلى المؤمن أن يحمي نفسه بهذا الدعاء: «اللهم قد أقدرت بعض خلقك على السحر، واحتفظت لذاتك بإذن الضر، فأعوذ مما أقدرت عليه بما احتفظت به».
عندئذ لن يخافهم ولن يجدوا سبيلاً لهم إليه، فهم يستغلون الضعيف فقط، والسحر يُوجد عدم تكافؤ فرص، ويفتن الناس في الناس، ويؤدي إلى إخلال توازن المجتمع.
وبعد ذلك تجيء كبيرة منع الزكاة، والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا أن نُزكي، إنما يلفتنا إلى أننا لم نأت بشيء من عندنا؛ فالعقل الذي يخطط للعمل مخلوق لله، والجوارح التي تعمل مخلوقة لله، والأرض التي تعمل فيها أو الصنعة التي
2174
نصنعها مخلوقة لله. إذن فكل حاجة لله، لكنه أوضح لك: سأحترم عملك، وعليك أن تعطي أخاك الفقير بعضاً مما رزقتك به.
ويقول قائل: ما دام هو ربُّ الكلّ، فلماذا يترك واحداً فقيراً؟ نقول: لكي يُثبت الأغيار في الكون، ويعرف الغنيّ أن الفقر قد يلحقه، ويعرف القوي أن الضعف قد يلحقه، إذن فالمسألة جاءت لنظام الكون، فيحُنن الخالق قلب الواجد على المعدم ليعطيه، فيوم تمنع الزكاة يظهر أثر ذلك في الكون لأنها مسألة محسوبة بحساب دقيق، ولذلك فإذا رأيت واحداً جوعان بحق فاعرف أن واحداً ضيع زكاته فلم يؤدها، وإن رأيت عورة في المجتمع فاعرف أن فيه حداً مضيّعاً لله، لأن ربنا جعل المجتمع متساوياً والنقص هنا يكمّله من هناك، فإن رأيت نقصاً عاماً فاعرف أن فيه حقاً لله مضيعاً.
وبعد ذلك حدثنا سيدنا جعفر الصادق عن كبيرة ترك الصلاة، ونعرف أن الصلاة هي إعلان دوام الولاء للإله الواحد، فأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرّة واحدة في العمر، وتُزكيّ إن كنت واجداً وقادراً مرّة واحدة في السنة، وتحجُ مرّة واحدة في العمر، وتصوم شهراً واحداً في السنة، وإن كنت مريضاً لا تصوم وقد يسقط عنك هذا الركن إذا كان هناك مرض لا يرجى شفاؤه أو أصبح الشخص لا يقوى على الصوم لكبر سنه، وإذا كنت فقيراً لا تزكي، فقد سقطت الزكاة عنك أيضاً، وإن كنت غير مستطيع فلا تحج ويسقط عنك الحج.
ها هي ذي ثلاثة أركان لك عذر إن لم تفعلها. وبقي ركنان اثنان من أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وشهادة أن لا إله إلا الله يكفي أن تقولها في العمر مرة، فماذا بقي من أركان الإسلام؟ بقيت الصلاة، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«الصلاة عمود الدين».
2175
إذن فترك الصلاة معناه: أنه تمرد على إعلان العبودية والولاء للحق. وقد طلبها الله في اليوم خمس مرات، وحتم الجماعة فيها في يوم الجمعة في الأسبوع. لماذا؟ حتى يرانا كل العبيد لله عبيداً لله. فلا يعبد واحد ربنا سراً وبعد ذلك لا يرى أحد منا أحداً فكلنا نسجد لله ولا بد من إعلان الولاء لله، فيوم تُترك الصلاة ينعدم إعلان الولاء له - سبحانه -.
ومن العجيب أن الصلاة فرضها الله عليك بأنك تذهب له خمس مرات في اليوم، هذا بالأمر والتكليف، وإن لم تذهب تأثم إنه ما أغلق الباب اذهب له في أي وقت تجده في استقبالك في أي مكان تقف وتقول: الله أكبر تكون في حضرة ربنا، وقلنا سابقاً: إن من له السيادة في الدنيا حين تطلب لقاءه تقدم طلباً حتى تلقاه. ويحدد لك الميعاد، وبعد ذلك يسألك أحد رجاله: ستتكلم في ماذا. وقد يقف المسئول أو السيد في الدنيا وينهي المحادثة. لكن ربنا ليس كذلك. أنت تذهب له في أي وقت وفي أي زمان وتطيل كما تحب ولن ينهي المقابلة إلا إذا أنهيتها أنت. ولذلك يقولون:
حسبُ نفسي عزاً بأني عبد يحتفي بي بلا مواعيد ربّ
هو في قدسه الأعزُّ ولكن أنا ألقَى متى وأيْن أُحِبّ
صحيح هو يأمرني أن ألقاه خمس مرات في اليوم، لكن الباب مفتوح للقائه في أي وقت، وأوضحنا سابقاً - ولله المثل الأعلى - هب أن صنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم - أيوجد فيها عطب؟ لا.
وأنت تعرض على خالقك وصانعك كل يوم خمس مرات. والصنعة العادية يُصلحها صانعها بسلك أو بمسمار أو بوصلة يضعها، أما أنت المخلوق لله وربّك غيب وهو يُصلح جهازك بما يراه مناسباً.
وبعد ذلك بقي من الكبائر نقض العهد وقطيعة الرحم، ونقض العهد لا يجعل إنساناً يثق في وعد إنسان آخر. فينتشر التشكك في نفوس الجماعة الإيمانية بعضها من بعض، والوعد قد يحل مشاكل للناس/المعْسرين، فعندما يقول قادر لغير قادر: أعدك بكذا. ويعطيه ما وعده به، فإن وعده المدين بسداد الدين وأخلفه مرة فلن
2176
يصدقه بعد ذلك. وإن وعده وصدق ثم وعده وصدق ثم وعده وصدق، يصبح صادقاً، وكل ما عند الناس يصبح عنده، ولذلك يقولون: من يأخذ ويعطي يكون المال ماله.
وبعد ذلك تأتي كبيرة قطيعة الرحم: لأن الحق سبحانه وتعالى اشتق للرحم اسماً من اسمه فهو القائل في الحديث القدسي:
«أنا الرحمن خلقت الرحِم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته».
ونعلم جميعاً حكاية سيدنا معاوية عندما دخل عليه الحاجب وقال له: يا أمير المؤمنين هناك واحد بالباب يقول: إنه أخوك، فيقول معاوية للحاجب: أي إخوتي هو؟ ألا تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب: إنه يقول: إنه أخوك. فلما دخل الرجل، سأله معاوية: أأنت أخي؟ قال: نعم فقال معاوية: وأي إخوتي أنت؟. فقال: أنا أخوك من آدم! فقال معاوية: رَحِمٌ مقطوعة، لأكونن أول من وصلها.
تلك هي الكبائر التي ذكرها سيدنا جعفر الصادق وهي تمثل ما يمكن أن يكون نقضاً للمجتمع كله من أساسه، فكل كبيرة تنقض ناحية من نواحي المجتمع، وهذا يخالف الإيمان، لأن الإيمان هو منهج إن اتبعناه جميعاً عشنا في أمن. والإسلام أيضاً منهج إن اتبعناه جميعاً عشنا في سلام، فيوم تأتي - أيها المسلم - كبيرة من هذه الكبائر فأنت تزلزل بها ركناً من الأركان، وحينئذ لا يكون هناك أمان ولا سلام، ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ وعندما ندقق في كلمة ﴿تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ نلتفت إلى أن أصل الفضائل: أن تسلب نقيصة وأن توجب كمالاً، فقبلما توجب الكمال بالأوامر اسلب النقائص بالنواهي؛ ولذلك يقولون: التخلية قبل التحلية.
﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ و «نكفر» أي نستر، لأن
2177
الكفر هو الستر، وقلنا: إن التكفير للذنوب إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب، ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾ فلن نسقط عنكم العذاب فقط بل نعطيكم المدخل الكريم - يقول الحق: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦].
وقد كان يكفي ألا تعاقب، لكنك حينما تتجنب الكبائر لا يسقط عنك العقاب فقط، بل يدخلك الله مدخلاً كريماً، والمدخل الكريم يتناسب مع من يدخلك في مدخله، فانظر، إلى المدخل الكريم من الله وما شكله؟ يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال الله تعالى:
«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ ».
وبذلك تنتقل الصورة إلى شيء جديد، وهو: التوازن بين أفراد الجنس الإنساني، كل هذا الكلام كي يُحفظ الجنس الإنساني مع بعضه، وبعد ذلك يريد الله أن يقيم توازناً ومصالحة إيمانية بين نوعي الجنس الإنساني فيه ذكورة وفيه أنوثة. ونعرف أن كل جنس من الأجناس لا ينقسم إلى نوعين إلا إذا كان فيه قدر مشترك يجمع النوعين من الجنس، وفيه شيء مفترق يجعل هذا نوعاً وهذا نوعاً ولو لم يكن فيه شيء مفترق لما كان نوعين، إذن فما دام الجنس الواحد نوعين فلا بد أن يجمعهما في شيء مشترك، وما دام الجنس الواحد قد انقسم لنوعين فكل نوع له مهمة. والذكورة والأنوثة هما نوعان لجنس البشر، فالذكر والأنثى يشتركان في مطلوبات الجنس، وبعد ذلك ينفردان في مطلوبات النوع، وبعد ذلك كل نوع ينقسم إلى أفراد. والأفراد أيضاً ليسوا مكررين، بل فيه قدر مشترك يجمع كل الأفراد، وبعد ذلك كل واحد له موهبة وله ريادة وله شطارة في مجال كذا أو كذا، وبذلك يتكامل أفراد الجنس البشري.
وما دام الجنس البشري قد انقسم لنوعين، فيكون للرجال خصوصية وللنساء
2178
خصوصية. وربنا سبحانه وتعالى لا يأتي حتى في البنية العامة ليجعل الجنسين مستويين في خصائص البنية، صحيح البنية واحدة: رأس وجذع وأرجل، إنما يأتي ويميز بنية كل نوع بشيء، الرجل له شكل مميز، والمرأة لها شكل مميز. ولذلك فالذين يقولون: نسوي الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل نقول لهم: المرأة لها تكوين خاص، والرجل له تكوينه الخاص، فإذا سويت المرأة بالرجل أعطيت لها مجالات الرجل، وبقيت مجالاتها التي لا يمكن للرجل أن يشاركها فيها، معطلة لا يقوم بها أحد. إذن فأنت حملتها فوق ما تطيق وأنت مخطئ؛ لأنك تأتيها بمتاعب أخرى.
إن الحق سبحانه وتعالى ساعة يخلق جنساً، وساعة يقسم الجنس إلى نوعين، يوضح: تنبهوا أن كل نوع له مهمة وفيه شيء مشترك، المشترك بين الأنوثة والذكورة، ما هو؟ إن هذا إنسان وذلك إنسان، وإن هذا من ناحية الإيمان مُطالب منه أن يكون له عقيدة إيمانية ولا أحد يسيطر على الآخر في عقيدته الإيمانية، الاثنان متساويان فيها، ولا يفرضها واحد على الآخر، وضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً على تشخص الذكورة وتشخص الأنوثة في الأمر الأولى للإيمان، وإن اختلفت في الأمر الثانوي للأحكام، فيقول:
﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين﴾ [التحريم: ١٠].
وهذان رسولان، ومع ذلك لم يستطيعا إقناع زوجتيهما بالتوحيد إذن فكل إنسان له حرية العقيدة والتعقل، ولا أحد تابع لآخر في هذه المسألة أبداً. ويقول الحق: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ [التحريم: ١١].
فرعون الذي ادعي الألوهية لم يقدر أن يرغم إمرأته على أن تكفر والحق سبحانه وتعالى قال فيها:
2179
﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ [التحريم: ١١].
إذن ففي مسألة العْقيدة الكل فيها سواء، الذكورة والأنوثة، فيها عقل وفيها تفكير. ولعل المرأة تشير برأي قد يعزّ على كثير من الرجال. ولنا المثل من زوج رسول الله (أم سلمة) وموقفها في صلح الحديبية فعندما يأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعقد المعاهدة، ويحزن أصحابه ومنهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذي قال: أنقبل الدنية في ديننا فيقول له سيدنا أبو بكر: الزم غرزك يا عمر إنه رسول الله. فدخل رسول الله مغضباً، طبعاً من حمية عمر وحزن الصحابة، لأنها مسألة تعز على النفس البشرية، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذهب فيجد أم سلمة فيقول لها: هلك المسلمون «ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي؟ فقالت يا رسول الله: لا تلمهم فإنه قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصْلح ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج إليهم ولا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك».
لقد وقّع رسول الله صلح الحديبية وانتهت المسألة. ولكن رحمة الله بالمؤمنين الذين وقفوا أمام رسول الله في هذه المسألة، ورحمة الله لهم بأم سلمة أوضح لهم الرسول: سأبين لكم: أنتم لو دخلتم مكة وفيها أناس مسلمون لاتعرفونهم إنهم يكتمون إيمانهم وإسلامهم، والبيت الكافر قد يكون فيه واحد مسلم، وقد تقتلون أناساً مسلمين لا تعرفونهم فتصيبكم معرة أي ما تكرهونه ويشق عليكم مصداقاً لقول الحق تعالى: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥].
لو تزيلوا أي لو تميز المؤمنون في منطقة لعاقبنا الكافرين عقابا شديداً. إذن لقد أوضح لهم العلة، فرضي الكل، ولنا أن نلتفت إلى أن المسألة جاءت من سيدتنا
2180
أم سلمة، وهذا دليل على أن الله لا يمنع أن يكون لامرأة عقل وتفكير ناضج، ولذلك نجد القرآن يؤكد ذلك في قصة بلقيس، لقد فكرت بلقيس في الرجل الآتي ليزلزل ملكها؛ يا ترى هل هو طالب ملك، فجاء على لسانها في القرآن الكريم.
﴿قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٢٩ - ٣٢].
فماذا قال القادة؟ قالوا: لا، هذه ليست مسألتنا، وجاء القرآن بقولهم: ﴿قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: ٣٣].
كان رجل الحرب يُؤتمر فقط، يحارب أو لا يحارب، لكن الذي يقدر هذا هم الساسة الذين ليس عندهم حمية وحركية القتال. نقول لقائد الجند: أنت تنتظر الأمر، وتجعل الساسة الهادئين يفكرون في عواقب الأمور؛ لذلك قال قادة الجند لبلقيس: ﴿نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ﴾ لقد وضعوا الأمر في رقبتها وهي امرأة، ففكرت: سأجرب وأختبره وأنظر أهو طالب مُلك أم صاحب دين - فأرسلت هدية له، فلما جاءته الهدية جاء القرآن بما قاله سيدنا سليمان عندما تلقي الهدية: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦].
فعرفت بلقيس أن المُلْك ليس هدفه، وبعد ذلك عرفت أنه صاحب رسالة، فقالت: أذهب له وأسلم، انظر أداء العبارة القرآنية عندما تصور إيمان ملكه قالت: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [النمل: ٤٤].
2181
يعني: أن وهو أصحبنا عبيداً لله، هذه رفعة الإيمان؛ فلا غضاضة ما دامت هي وهو عبيداً لإله واحد، وبلقيس امرأة ولم يحرمها ربنا من الرأي الحسن أيضاً ومن الأداء الجميل، وهي عندما ذهبت ووجدت عرشها وقد جاء به من عنده علم من الكتاب وأقامه، لقد تركت العرش في بلدها وجاءت إلى سليمان فوجدت عرشها، وكان لا بد أن يلتبس عليها الأمر، وقالوا لها: أهكذا عرشك؟ :﴿فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ [النمل: ٤٢]. فأجابت إجابة دبلوماسية وكياسة: ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ [النمل: ٤٢].
هي امرأة ولم يحرمها الله من تميز الفكر؛ لذلك لا يصح أن نحرم المرأة من أن يكون لها فكر. لكن المهم أن تعلم أن لها حدوداً في إطار نوعيتها، ولا تعتبر النقص في شيء للرجل أنه نقص فيها، فإذا ما كان عندها كمال لا يوجد عند الرجل فلتعلم أنه حتى في البنية يختلف الرجل عن المرأة؛ الرجل فيه خشونة وفيه صلابة وفيه قوة، والمرأة فيها رقة وفيها ليونة ومستميلة، ولها عاطفة فياضة، وفيض حنان، والرجل فيه صلابة حزم وعزم، إذن فكل واحد معدّ لمهمة. فلا يقولن أحد: أنا ناقص في هذه، لكن انظر غيرك إنه ناقص في ماذا وهو عندك أيضاً كامل.
ويأتي الدين ليوضح: يا مؤمنون.. الحرير حرام على الذكور وحلال للإناث الذهب حرام على الذكور وحلال للإناث، أي تدليل أكثر من هذا؟ لقد حرم على الرجال التمتع بالحرير والذهب وأعطاهما للنساء، والدين يطلب أن تكون المرأة سكناً للرجل، فالمفروض أن الرجل هو الذي يتحرك حركة الحياة خارجاً، وعندما يعود لمنزلة فهو يسكن لزوجه، والذي يصقل السيف ويحده، مثل الشجاع الذي يضرب به تماماً كل له عمل يكمل عمل الآخر، وكذلك الرجل عندما يدخل منزله ويجد حياته مرتبة بفضل جهد زوجته فهو يرتاح ويشكر لها ما شاركته من أعباء الحياة.
ويقول الحق من بعد ذلك:
2182
﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ... ﴾.
2183
الحق سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعاً أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد. فإذا ما رأيت جنساً من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجماد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلاً إذا أردنا إقامة بناء، فهذا البناء يتطلب رملاً، ويتطلب أسمنتاً، ويتطلب آجُراً، ويتطلب حديداً، فجنس الجماد كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو - وهو الزلط - مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعاً مكان نوع لما استطعت.
إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول: إن هذا النوع يجب أن يكون مثل هذا النوع. وأيضاً نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي أن كل حدث لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه، والليل أيضاً ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين.
لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه، فيبين
2183
لك: هذا الذي تختلف فيه ردّه إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل الليل سكناً ولباساً وراحة وهدوءاً، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق سبحانه وتعالى يوضح: كما جعل الزمن ظرفاً لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان؟
إنهما متكاملان؛ لأن راحة الليل إنما جُعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطاً جديداً. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته.. ولو أن إنساناً استيقظ ليلة ثم جاء صباحاً لما استطاع أن يفعل شيئاً. إذن فما الذي أعان حركة النهار؟.. إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بيّن: أن ذلك أمر متفق عليه بين الناس جميعاً متدينين وغير متدينين.. فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا ما اتفقتم عليه دليلاً على صحة ما اختلفتم فيه.
ولذلك ضرب الله المثل فقال: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١].
فعندما يغشي الليل يأتي السكون، وقال الحق بعد ذلك: ﴿والنهار إِذَا تجلى﴾ [الليل: ٢] ﴿وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾ [الليل: ٣ - ٤].
أي أن لكل جنس مهمة.
وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين: الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون.
2184
إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أشارت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعرفنا قصة بلقيس - ملكة سبأ - التي استطاعت أن تبرم أمراً تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في نوع مهمتها.
فمثلاً يحدثنا التاريخ أن ملك «كندة» سمع عن جمال امرأة اسمها «أم إياس» بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من «كِندة» يقال لها: «عصام» وكانت ذات أدب وبيان وعقل لسان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة «أم إياس» واسمها «أمامة بنت الحارث» وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها: هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق ونَاطقِِيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت «عصام» بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة «عصام» عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة: «ترك الخداع» ما انكشف القناع «، وصار هذا القول مثلاً، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة» عصام «إلى الملك فسألها: ما وراءك يا» عصام «إنه يسأل: أي خبر جئت به من عند» أم إياس «؟. فقالت: أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو: هزّ الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها: أخبريني.
قالت: أخبرك حقاً وصدقاً. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفاً أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان
2185
أمومتها، في ميدان أنوثتها، قالت الأم لابنتها:» أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك - أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة - ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل.
إنك غداً ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمةً يكن لك عبداً. واحفظي عني عشر خصال تك لك ذخراً «.
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم:»
أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة: التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة: فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة: فألا تفشي له سرّاً ولا تعصي له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحاً والحزن إن كان فرحاً «.
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء؟. في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالباً إلا في ميدانها. ولأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخاً باكياً، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظاً مثل:»
اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح «. وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها.
فمثلاً: سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بوادٍ غير ذي
2186
زرع، قالت له: أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك فيه؟. قال لها: أنزلني الله هذا المكان. فقالت له: ساذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا. هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء. فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن أنهكت قواها.
إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن تتحمله المرأة في سبيل ابنها؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب.
وكأن الله قال لها: إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها: إنه لا يضيعنا، ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعاً أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزّاق الأعلى، تلك مسألة ظاهرة في أمنا هاجر.
وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم بحزمه وعزمه ونبوته. ورأي في الرؤيا أنه يذبح ابنه، أين أمه في هذا؟ اختفت من المسرح؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة. والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ فساعة ترى جنساً أخذ شيئاً وجنساً آخر أخذ شيئاً، إياك تشغل بالك وتتمنى وتقول: «أريد هذه»، ولكن اسأل الله من فضله؛ لأن كلمة «ولا تتمنوا» هي نهي عن أن تتمنى ما فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول: ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾. وما دمت تسأل الله من فضله؛ فهنا أمل أن يعطيك.
وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل: كيف ينهانا الله عن أن نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض فقال: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ مع أن فضل الله من شأنه أن يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ فضلاً على أنني أطمع في أن أسأل الله ليعطيني؛ لأنه - سبحانه -
2187
ما أمرنا بالسؤال إلاّ ليعطينا.
ونقول: لا، التمني عادة أن تطلب شيئاً يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح: لا تذهب إلى منطقة التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
تمنىّ الشاعر أن يعود الشباب يوماً فهل هذا يتأتى؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن بالنسبة لك. والحق يوضح: لا تنظروا إلى ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام الله قد فضل بعضاً على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به؛ ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول:
﴿والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق﴾ [النحل: ٧١].
وما هو الرزق؟ هل هو نقود فقط. لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق، والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق: ﴿مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ يجعلنا نتساءل: من هو المفضل ومن هو المفضل عليه؟ لأنه قال: «بعضكم». لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه.
وسؤال آخر: وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في شيء آخر، فإنسان يأخذ درجة الكمال في ناحية، وإنسان يفتقد أدنى درجة في تلك الناحية، لكنه يملك موهبة أخرى قد تكون كامنة
2188
ومكتومة. وهذا يعني التكامل في المواهب، وهذا التكامل هو أسنان الحركة في المجتمع.
لننتبه إلى التروس، نحن نجد الترس الزائد يدخل في الترس الأقل، فتدور الحركة، لكن إذا وضعنا ترساً زائدا مقابل ترس زائد مثله فلن تحدث الحركة. إذن فلا بد أن يكون متميزا في شيء والآخر متميزاً في شيء آخر فيحدث التكامل بينهما، ومثل ذلك قلنا: الليل والنهار، الليل يعينني على حركة النهار، وقلنا: إن السيف في يد الفارس يضرب به ويقتل، ولو لم يسنّه خبير في الحدادة ويشحذه ويصقله لما أدى السيف مهمته، وقد لا يستطيع هذا الخبير في صقل السيوف الذهاب للمعركة، وقد يخاف أن يضرب بالسيف، لكن له فضل مثل فضل المحارب بالسيف.
إن كل واحد له مهمة يؤديها، والأقدار تعطي الناس مواهبهم المتكاملة وليست المتكررة المتعاندة، وما دامت المواهب متكاملة فلا أحسد من تفوّق عليّ في مجال ما؛ لأنني أحتاج إليه، وهو لا يحسدني إن تفوقت عليه في موهبة أو عمل لأنه يحتاج إلى، إذن فأنا أريده أن يتفوق، وهو يريدني أن أتفوق، وذلك مما يحبب الناس في نعم ومواهب الناس، فأنا أحب النعمة التي وهبها الله للآخر، وهو يحب النعمة والموهبة التي عندي.
مثال ذلك عندما نجد رجلا موهوبا في تفصيل الملابس ويحيك أجود الجلابيب فالكل يفرح به، وهذا الرجل يحتاج إلى نجار موهوب ليصنع له باباً جيداً لدكانه، ومن مصلحة الاثنين أن تكون كل نعمة عند واحد محمودة، ولذلك سمانا الله «بعضا» و «بعضا» ويتكون الكل من بعض وبعض، فأنت موهوب في بعض الأمور ولا تؤدي كل الأمور أبداً، ولكن بضميمة البعض الآخر نملك جميعاً مواهب بعضنا بعضا.
ويتابع الحق: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن﴾ فمهمة النجاح للرجل أو المرأة هو أن يكون كل منهما صالحاً ومؤديا للمهمة التي خُلق من أجلها، بعد ذلك يكون حساب الثواب والعقاب وكل واحد على قدر تكليفه.
2189
فالثواب والعقاب يأتي على مقدار ما يقوم كل مخلوق مما كلف به.
والمثال على اختلاف مهمة الرجل عن مهمة المرأة، يتجلى في أننا نجد الرجل عندما تغضب امرأته أو تمرض، ويكون عنده ولد رضيع، فهل يستطيع هو أن يرضع الطفل؟ طبعاً لا؛ لأن لكل واحد مهمة؛ فالعاقل هو من يحترم قدر الله في خلقه، ويحترم مواهب الله حين أعطاها، وهو يسأل الله من فضله، أي مما فضله به ليعطي له البركة في مقامه. وحين يقول الحق: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن﴾ نلحظ أن هذه تساوي تلك تماماً.
﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ ومن واسع علمه سبحانه أنه وزع المواهب في خلقه حتى يتكامل المجتمع ولا يتكرر؛ لأن تكرار المجتمع هو الذي يولد الشقاق، أما تكامله فيولد الوفاق، وسبب نزول الآية ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ أن النساء قلن: إننا لم يكتب علينا الجهاد وأعطانا ربنا نصف الرجل من الميراث، وقد أوضح الحق من قبل للمرأة أنها أخذت نصف الرجل لأنها محسوبة على غيرها ولن تصرف وتنفق من دخلها على نفسها، بل سيصرف الرجل وينفق عليها، والمسألة بذلك تكون عادلة. وكذلك قال الرجال: ما دام الله قد فضلنا في الميراث، وأعطانا ضعف نصيب المرأة فلعله يفضلنا في الآخرة ويعطينا ضعف ثوابها، فيصنع الرجل العمل الواحد ويريد الضِّعف!.
وانظر لذكاء المرأة، حينما قالت: ما دام ربنا أعطانا نصف ميراثكم فلماذا لا يعطينا نصف العقوبة إذن؟ فأوضح لهم الله: اهدأوا ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ أي أن على كل واحد أن يرضي بما قسمه الله له.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ... ﴾.
2190
وساعة ترى لفظة «لكل» وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها «لكل إنسان» وحذف الاسم وجاء بدلاً منه التنوين، مثل قوله: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٣ - ٨٤].
ونجد التنوين في «حينئذٍ» أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في «حينئذٍ» إذن فالتنوين جاء بدلاً من المحذوف.
وقول الحق: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾، و «الموالي» جمع «مَوْلى». وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه «مولى المناصرة» وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر: أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي أن فعلتُ جناية تدفع عني، وإن فعلتَ أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفي، فالحق يبيّن: لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك. فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا: لا، لا بد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطاً لهم وهو السدس.
لكن ظل ذلك الحكم؟ لا لقد نسخ وأنزل الله قوله: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٥].
2191
فما دام الله قد قال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا: هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقاً لقوله الحق: ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون.
وبعد ذلك جاء ليتكلم في قضية متصلة بقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ فقال: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء... ﴾.
2192
﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلاّ على الرجل وزوجته على الرغم من أنَّ الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولاً ﴿الرجال قَوَّامُونَ﴾ وماذا تعني؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز
2192
أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ والذي يخالف فيها عليه أن يوضح - إن وجد - ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها: لماذا إذن؟ تقول: أريد ابناً ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر؟
ولنفهم ما معنى «قوَّام»، القوَّام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول: فلان يقوم على القوم؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ ﴿قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ على أنه كتم أنفاس؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعى في مصالحهن؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة «الرجال» على عمومها، وكلمة «النساء» على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله: ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ فما وجه التفضيل؟
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دُعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها: ﴿قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١].
وأوضح الحق لآدم: إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك؛ لأنه لا يريد أن يكون عاصياً بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم: ﴿إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة﴾ [طه: ١١٧].
2193
وهل قال الحق بعدها: فتشقيا أو فتشقى؟ قال سبحانه: ﴿فتشقى﴾ [طه: ١١٧].
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأةوكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ لقد جاء ب «بعضهم» لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوّام فضل المرأة أيضاً لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة: ﴿وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذي يتعب نقول له: أنت قوّام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولاً فيها: الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله: «قوامون» يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء: لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ «قوام» على أنها السيطرة؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
﴿وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان استبقاء النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على
2194
الرجل فقط... صداقاً ونفقة حتى ولو كانت المرأة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذا فقوامه الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المرأة منها؟ ف ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ أي قائمون إقامة دائمة؛ لأنه لا يقال قوّام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن «قوّام» تعين أنه مستمر في القوامة.
﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل أيضاً.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يُلتزم به؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ ثم جاء بالحيثيات فقال: ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ويتابع الحق: ﴿فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾ والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فما دامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، ﴿فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾ وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة.
فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ غيبته؛ ولذلك فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما حدد المرأة الصالحة قال في حديث عن الدنيا:
«الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة».
2195
لقد وضع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قانوناً للمرأة الصالحة يقول فيه:
«خير النساء التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره».
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة «إن نظرت إليها سرّتك» إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة ولا تترك صفة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حذرنا من أن نأخذ صفة في المرأة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها فقال:
«تنكح المرأة لأربع: لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المرأة؛ لأن عمر هذه المسألة «شهر عسل» - كما يقولون - وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون! ونقول لك: هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شِرَّته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل؛ لذلك لا بد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المرأة للزوج، أيضاً خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
2196
«إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: زَوّجها من ذي الدين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا: لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحه فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملابسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغني عن مدرس خصوصي يأخذ نقوداً من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة.
وتستطيع المرأة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من «حافظات الغيب» ليس بارتجالٍ من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحداً يفتنها أو يفتن بها؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها: «حافظي على الغيب» بل عليها أن تنظر ما بيّنه الله في ذلك. فإن اضطررت أن تخرجي فلتغضي البصر؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: ٣١].
2197
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل: مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائماً المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة؟ ثلاث مراحل: إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائماً. يقول لك: أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئاً، لكن ساعة جئت لتمدّ يدك لتأخذها قلنا لك: لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حرّ في أن تدرك، وحرّ في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك: لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلاً.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالاً، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع؛ لأنك - كرجل - مركب تركيباً كيميائياً بحيث إذ أدركت جمالاً ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبيّن لك الشرع: أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من أول المسألة.
وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد تدخلت فيها من أول الإدراك؛ لذلك أمر الحق الرجل أن يغض البصر، وكذلك أمر المرأة.
لماذا؟ لأنك إن أدركت فستجد، وإن وجدت فستحاول أن تنزع ونزوعك سيكون عربدة في أعراض الناس، وإن لم تنزع فسيبقى عندك كبت؛ لذلك حسم الحق المسألة من أولها قال: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله
2198
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: ٣٠ - ٣١].
فامنعو المسألة من أول مراحلها لماذا؟ لأنني عندما أرى وردة، ثم قالوا لي: هي ليست لك فلا تقطفها، فلا يحدث عندي ارتباك في مادتي، لكن عندما يرى الرجل امرأة جميلة وتدخل في وجدانه فسيحدث عنده النزوع؛ لأن له أجهزة مخصوصة تنفعل لهذا الجمال، ولذلك يوضح لك الحق: أنا خالقك وسأتدخل في المسألة من أول الأمر، فقوله: ﴿بِمَا حَفِظَ الله﴾ أي بالمنهج الذي وضعه الله للحفظ: ألا أعرض نفسي إلى إدراك، فينشأ عنه وجدان، وبعد ذلك أفكر في النزوع، فإن نزعت أفسدت، وإن لم تنزع تعقدت، فيأتي شرّ من ذلك، هذا معنى: ﴿بِمَا حَفِظَ الله﴾، يعني انظروا إلى المنهج الذي وضعه الله لأن تحفظ المرأة غيبة زوجها، وهي تحفظه ليس بمنهج من عندها. بل بالمنهج الذي وضعه خالقها وخالقه.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى حينما يربّى من عبده حاسة اليقظة قال: ﴿واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث، فاليقظة تقتضي الترقب من أول الأمر، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز، و «النشوز» من «نشز» أي ارتفع في المكان. ومنه «النشز» وهو المكان المرتفع، وما دام الحق قد قال: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ فالمعنى هنا: مَن تريد أن تتعالى وتوضع في مكانة عالية؟؛ ولذلك فالنشاز حتى في النغم هو: صوت خارج عن قواعد النغم فيقولون: هذه النغمة النشاز، أي خرجت عن قاعدة النغمة التي سبقتها. وكذلك المرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة، فإن شعرت أن في بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع. بل عليك التصرف من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه، ومعنى قوله: ﴿واللاتي تَخَافُونَ﴾ يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد.
وكيف يكون العلاج؟ يقول الحق: «فعظوهن» أي ساعة تراها تنوي هذا فعظها، والوعظ: النصح بالرقة والرفق، قالوا في النصح بالرقة: أن تنتهز فرصة
2199
انسجام المرأة معك، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان وتعظه إلا وقلبه متعلق بك.
ولنفترض أن ابناً طلب من والده طلباً، ولم يحضره الأب، ثم جاءت الأم لتشكو للأب سلوك الابن، فيحاول الأب إحضار الطلب الذي تمناه الابن، ويقول له:
- تعال هنا يا بني، إن الله قد وفقني أن أحضر لك ما طلبت.
وفي لحظة فرح الابن بالحصول على ما تمنى، يقول له الأب: لو تذكرت ما قالته لي أمك من سلوكك الرديء لما أحضرته لك.
ولو سب الأب ابنه في هذه اللحظة فإن الابن يضحك.
لماذا؟ لأن الأب أعطى الابن الدرس والعظة في وقت ارتباط قلبه وعاطفته به. ولكن نحن نفعل غير ذلك. فالواحد يأتي للولد في الوقت الذي يكون هناك نفور بينهما، ويحاول أن يعظه؛ لذلك لا تنفع الموعظة، وإذا أردنا أن تنفع الموعظة يجب أن نغير من أنفسنا، وأن ننتهز فرصة التصاق عواطف من نرغب في وعظه فنأتي ونعطي العظة.
هكذا «فعظوهن» هذه معناها: برفق وبلطف، ومن الرفق واللطف أن تختار وقت العظة، وتعرف وقت العظة عندما يكون هناك انسجام، فإن لم تنفع هذه العظة ورأيت الأمر داخلاً إلى ناحية الربوة؛ والنشوز فانتبه. والمرأة عادة تَدِل على الرجل بما يعرف فيه من إقباله عليها. وقد تصبر المرأة على الرجل أكثر من صبر الرجل عليها؛ لأن تكوين الرجل له جهاز لا يهدأ إلا أن يفعل. لكن المرأة تستثار ببطء، فعندما تنفعل أجهزة الرجل فهو لا يقدر أن يصبر، لكن المرأة لا تنفعل ولا تستثار بسرعة، فأنت ساعة ترى هذه الحكاية، وهي تعرفك أنك رجل تحب نتائج العواطف والاسترسال؛ فأعط لها درساً في هذه الناحية، اهجرها في المضجع.
2200
وانظر إلى الدقة، لا تهجرها في البيت، لا تهجرها في الحجرة، بل تنام في جانب وهي في جانب آخر، حتى لا تفضح ما بينكما من غضب، اهجرها في المضجع؛ لأنك إن هجرتها وكل البيت علم أنك تنام في حجرة مستقلة أو تركت البيت وهربت، فأنت تثير فيها غريزة العناد، لكن عندما تهجرها في المضجع فذلك أمرٍ يكون بينك وبينها فقط، وسيأتيها ظرف عاطفي فتتغاضى، وسيأتيك أنت أيضاً ظرف عاطفي فتتغاضى، وقد يتمنى كل منكما أن يصالح الآخر.
إذن فقوله: ﴿واهجروهن فِي المضاجع﴾ كأنك تقول لها: إن كنت سَتُدِلِّينَ بهذه فأنا أقدر على نفسي. ويتساءل بعضهم: وماذا يعني بأن يهجرها في المضاجع؟. نقول: ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة، بل ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب قليلاً، يرجع ويتلمسها، وهي أيضاً تتلمسه.
والذي يفسد البيوت أن عناصر من الخارج تتدخل، وهذه العناصر تورث في المرأة عناداً وفي الرجل عناداً؛ لذلك لا يصح أن يفضح الرجل ما بينه وبينه المرأة عند الأم والأب والأخ، ولنجعل الخلاف دائماً محصوراً بين الرجل والمرأة فقط. فهناك أمر بينهما سيلجئهما إلى أن يتسامحا معاً.
﴿فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن﴾ وقالوا: إن الضرب بشرط ألا يسيل دما ولا يكسر عظما.. أي يكون ضرباً خفيفاً يدل على عدم الرضا؛ ولذلك فبعض العلماء قالوا: يضربها بالسواك.
وعلمنا ربنا هذا الأمر في قصة سيدنا أيوب عندما حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة، قال له ربنا: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤].
والضغث هو الحزمة من الحشيش يكون فيها مائة عود، ويضربها ضربة واحدة فكأنه ضربها مائة ضربة وانتهت. فالمرأة عندما تجد الضرب مشوباً بحنان الضارب
2201
فهي تطيع من نفسها، وعلى كل حال فإياكم أن تفهموا أن الذي خلقنا يشرع حكماً تأباه العواطف، إنما يأباه كبرياء العواطف، فالذي شرع وقال هذا لا بد أن يكون هكذا.
﴿واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن﴾ أي ضرباً غير مبرح، ومعنى: غير مبرح أي ألا يسيل دماً أو يكسر عظماً ويتابع الحق: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾.
فالمسألة ليست استذلالاً. بل إصلاحا وتقويما، وأنت لك الظاهر من أمرها، إياك أن تقول: إنها تطيعني لكن قلبها ليس معي؛ وتدخل في دوامة الغيب، نقول لك: ليس لك شأن لأن المحكوم عليه في كل التصرفات هو ظاهر الأحداث. أما باطن الأحداث فليس لك به شأن ما دام الحق قال «» أطعنكم «؛ فظاهر الحدث إذن أن المسألة انتهت ولا نشوز تخافه، وأنت إن بغيت عليها سبيلاً بعد أن أطاعتك، كنت قوياً عليها فيجب أن تتنبه إلى أن الذي أحلها لك بكلمة هو أقوى عليك منك عليها وهذا تهديد من الله.
ومعنى التهديد من الله لنا أنه أوضح: هذه صنعتي، وأنا الذي جعلتك تأخذها بكلمتيّ»
زوجني.. زوجتك «.. وما دمت قد ملكتها بكلمة مني فلا تتعال عليها؛ لأنني كما حميت حقك أحمى حقها. فلا أحد منكما أولى بي من الآخر، لأنكما صنعتي وأنا أريد أن تستقر الأمور، وبعد هذا الخطاب للأزواج يأتي خطاب جديد في قول الحق من بعد ذلك: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا... ﴾.
2202
وقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ يعني أن الشقاق لم يقع بعد، إنما تخافون أن يقع الشقاق، وما هو «الشقاق» ؟ الشقاق مادته من الشق، وشق: أي أبعد شيئاً عن شيء، شققت اللوح: أي أبعدت نصفيه عن بعضهما، إذن فكلمة «شقاق بينهما» تدل على أنهما التحما بالزواج وصارا شيئاً واحداً، فأي شيء يبعد بين الاثنين يكون «شقاقاً» إذ بالزواج والمعاشرة يكون الرجل قد التحم بزوجه هذا ما قاله الله: ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢١].
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧].
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعدّاهما الأمر، يقول الحق: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ من الذين يخافون؟.. أهو وليّ الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كأن الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل إناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أباً أم أخاً أم قريباً عليه أن يكون متنبهاً لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا﴾ وهذا القول هو لوليّ الأمر العام أيضاً إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون: نرى كذا وكذا.
ونأخذ حَكَماً من هنا وحكماً من هناك وننظر المسألة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن
2203
تحدث العاصفة؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حُكْمٌ مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكَم من أهل الزوج والحكَم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، وما دام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا صلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يُصْلِحُون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا.
فنحن نختار حكماً من هنا وحكماً من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسألة في الحكمين فقال: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾.. فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكأن الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسألة إلى فضيحة له. الذي خلق الجميع: الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾ فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرّا بإخلاص على التوفيق بينهما؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣].
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جندياً لله؛ لأنه إن انهزم فسنقول له: أنت لم تكن جندياً لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائماً: إياك أن تغتر بالأسباب؛ لأن كل شيء من
2204
المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم: ﴿يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾ فسبحانه لم يقل: إن يريدا إصلاحاً يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين «عليم» و «خبير» ؟.. فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
وبعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولاً وتكلم عن المال.. وحذرنا أن نأكله بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه: ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ... ﴾.
2205
وعندما يقول لنا الحق: ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ أي: إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا؟ على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي: طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من: الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ لأن هذه أركان الإسلام، وما دامت هذه هي الأركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت؛ لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون: إن العبادات هي: الصلاة وما يتعلق بها.. والزكاة والصوم والحج؛ لأنها تسمى في كتب الفقه «العبادات» فلقد قلنا: إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو عبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع﴾ [الجمعة: ٩].
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب «البيع» لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة؛ لأنك عندما تزرع زرعاً ستنتظر مدة تطول أو تقصر لتخرج الثمار، لكن البيع تأتي ثمرته مباشرة، تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع - كما نعلم - ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع: أنه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتجٍ، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستتهلك، وهذا المستهلك تجده منتجاً أيضاً، والمنتج تجده أيضاً مستهلكاً. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، وما دام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائماً يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري؛ لأن المشتري
2206
سيدفع مالاً والبائع يكسب مالاً، فيوضح الله: أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبّوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة؟ يقول الحق: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: ١٠].
إذن فهذا أمر أيضاً. فإن أطعنا الأمر الأول: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ فالأمر في ﴿فانتشروا فِي الأرض﴾ يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة: إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.
. ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك؟ إنها طعام وشراب ومسكن ومَلْبس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١].
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه «قسم العبادات» و «قسم المعاملات».. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي
2207
خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقي بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلحظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئاً؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٢٩].
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، أغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمراً إلا من سيد واحد ونهياً من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق: «هل يستويان» ؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلاً: لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالاً منه إليك؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جواباً سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيداً في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله: ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾
2208
لأن الإشراك بالله - والعياذ بالله - يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول:
«أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله - جل شأنه -: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ والوالدان هما الأب والأم؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. وما دامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والأم. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعّدت السبب فالوالدان من أين جاءا؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد؛ لأن التكليف من المُكلِّف إلى المُكلَّف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما «الوالدان»، وعندما تسلسلها تصل لله إنه - سبحانه - أمر: اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.. كلمة «الإحسان» تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان..
﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته، لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما؛ لأن هناك آية أخرى
2209
يقول فيها: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: ١٥].
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفاً لمن أنشأه وأوجده وهو الله - جلت قدرته - ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقاً بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفاً؛ ولذلك قال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا﴾ أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفاً منك.
والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب.
والحق يقول: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة أن قال لنا: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [البقرة: ٨٣].
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.
وبعد ذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الأنعام: ١٥١].
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥].
2210
ويأتي أيضاً في سورة العنكبوت فيقول: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ [العنكبوت: ٨].
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها، فإن كان الوالدان مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو: الودادة القلبية؛ ولذلك قال: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢].
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية وبالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾ [الأحقاف: ١٥].
وفي قوله سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ [العنكبوت: ٨].
ففيه «إحسان» وفيه «حسن»، «الإحسان» : هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعراً أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و «الإحسان» من «أحسن»، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما كلفه الله أن يصلي الخمس المطلوبة ثم يجعلها عشرة، ويصوم شهر رمضان، ثم يصوم يومي الاثنين والخميس أو كذا من الشهور، ويزكي حسب ما قرر الشرع باثنين ونصف في المائة وقد يزيد الزكاة إلى عشرة في المائة، ويحج ثم يزيد الحج مرتين. إذن فالمسألة أن تزيد على ما افترض الله، فيكون قد أدخلك الله في مقام الإحسان؛ لأنك حين جربت أداء الفرائض ذقت حلاوتها. وعلمت مما أفاضه الله عليك من معين التقوى ومن رصيد قوله:
2211
﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ [البقرة: ٢٨٢].
علمت أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به؛ ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحاته قال: «اللهم إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها».. أي صارت شهوة نفس، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة فيقول: يا رب إنني أصبحت أحبها، ومفروض منا أننا نمنع شهوات أنفسنا لكنها أصبحت شهوة فماذا أفعل؟
إذن فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان واطمأنت نفسه ورضيت وأصبح هواه تبعا لما أمر به الله ورضيه.
ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين قال: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٥ - ١٦].
لماذا هم محسنون يا رب؟.
يقول الحق: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧].
وهل كلفني الله. ألا أهجع إلا قليلاً من الليل؟ إن الإنسان يصلي العشاء من أول الليل وينام حتى الفجر، هذا هو التكليف، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يَرُدَّ مثل هذا العبد بل إنّه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ
2212
وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: ١٦ - ١٨].
وربنا لم يكلفهم بذلك، إنما كلفهم فقط بخمسة فروض. ونعرف قصة الأعرابي الذي قال للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل عليّ غيرها؟ قال له: لا، إلا أن تَطّوَّعَ، وذكر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطّوّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفلح إن صدق».
وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين. إذن فالذي يزيد على هذا يدخله الله في نطاق المحسنين. ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٧ - ١٩].
ولنلحظ دقة الأداء، إن الحق لم يذكر أن للمحرومين في أموال المحسنين حقاً معلوماً. لماذا؟؛ لأن الحق سبحانه - ترك للمحسن الحرية في أن يزيد على نسبة الزكاة التي يمنحها للسائل والمحروم، وحينما يتكلم سبحانه عن مطلوب الإيمان يقول: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥].
إذن فالذي يزيد على ذلك ينتقل من مقام الإيمان ليدخل في مقام الإحسان. كأنه يقول لك في الآية التي نحن بصددها: إياك أن تعمل مع والديك القدر المفروض فقط، بل ادخل في برّهما والإنعام عليهما والتلطف بهما والرحمة لهما وذلّة الانكسار فوق ما يطلب منك، ادخل في مقام الإحسان، ثم يأتي في آية أخرى ليرشدنا بعد أن أدخلنا في مقام الإحسان، إنّه يصف ذلك الإحسان بشيء آخر وهو «الحسن» :
2213
﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ [العنبكوت: ٨].
وما هو المقابل «للحسن» ؟ إنه «القبح»، إذن فالحق أدخلنا في مقام الجمال مرة، وفي مقام الإحسان مرة أخرى، وهنا أكثر من ملحظ يجب ألا يغيب عن بال المسلم، أولاً: نجد أن المفروض في الشائع الغالب أنّ الوالدين يربيان أبناءهما، ومن النادر أن يصبح الولد يتيماً ويربيه غير والديه، فقال: الحظ سبب التربية بعد الوجود، فسبب الوجود: يوجب عليك أن تعطيهما حقوقهما وفوق حقوقهما وتدخل في مقام الإحسان، ولكنه جاء في آية وعلل ذلك فقال:
﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء: ٢٤].
لقد جاء الحق بالتربية حيثية في الدعاء لهما وفي البر التوصية بهما، لكن لو أن إنساناً أخذ فيك منزلة التربية ولم يأخذ فيك سببية الإيجاد، أله حق عليك أن يكون كوالديك؟
إن الحق يقول: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي﴾، فإذا كان والدي لهما هذا الحق، فكذلك من قام بتربيتي من غير الوالدين له هذا الحق أيضاً! ما دام جاء الحق بالوالدين في علة الإحسان: ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.. فمرة نلحظ أنه لا يجيء بمسألة التربية كي نعلم أن الوالدين هما سبب الوجود، ومرة يلفتنا إلى أن من يتولى التربية يأخذ حظ الوالدين، وشيء آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى حينما وصى بالوالدين إحسانا، جاء في الحيثيات بما يتعلق بالأم ولم يأت بما يتعلق بالأب: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥].
هنا جاء الحق بالحيثيات للأم وترك الأب بدون حيثية، وهذا كلام رب؛ لأن إحسان الوالدة لولدها وجد وقت أن صار جنيناً. فهي قد حافظت على نفسها وسارت بحساب وحرص فانشغلت به وهو مازال جنيناً. وحاولت أن توفر كل المطالب قبلما يتكون له عقل وفكر. بينما والده قد يكون بعيداً لا يعرفه إلا عندما يكبر ويصير غلاماً ليربيه لكفاح الحياة، أما في الحمل والمهد فكل الخدمات تؤديها الأم ولم يكن
2214
للطفل عقل حتى يدرك هذا، إنما بمجرد أن وجد العقل وجد أباه يعايشه ويعاشره، وكلما احتاج إلى شيء قالت له الأم: أبوك يحققه لك، وكل حاجة يحتاج إليها الطفل يسأل أباه أن يأتيه بها، وينسي الطفل حكاية أمه وحملها له في بطنها وأنها أرضعته وسهرت عليه؛ لأنه لم يكن عنده إدراك ساعة فعلت كل ذلك، فمن الذي - إذن - يحتاج إلى الحيثية؟ إنها الأم، أما حيثية إكرام الأب فموجودة للإنسان منذ بدء وعيه لأنه رأى كل حاجته معه؛ لذلك قال الحق: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ [الأحقاف: ١٥].
والطفل لا يعرف حكاية الحمل هذه، وعندما يتنبه يجد أن والده هو الذي يأتي بكل حاجة، وما دام أبوه هو الذي في الصورة، فتكون الحيثية عنه موجودة، والأم حيثيتها مغفولة ومستورة، فكان لا بد من أن يذكرنا الله بالحيثية المتروكة عند الإنسان مكتفياً بالحيثية للأب الموجودة والواضحة عند الابن، ولذلك تجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يوصيّ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، وبعد ذلك قال: ثم أبوك.
كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك».
ولو حسبتها تجدها واضحة، وأيضا فالأبوة رجولة، والرجولة كفاح وسعي. والأمومة حنان وستر، فهي تحتاج ألا تخرج لسؤال الناس لقضاء مصالحها، أبوك إن خرج ليعمل فعمله شرف له. إنما خروج الأم للسعي للرزق فأمر صعب على النفس، فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.. أو «بوالديه حسنا» إنها.. مقرونة في ثلاث آيات بعبادة الله وعدم الإشراك به، ثم أفردهما بالإحسان في آيتين، ويلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم قال:
2215
﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان: ١٥].
لكن هذا لا يمنع أن تعطيهما المعروف وما يحتاجان إليه، ونلحظ أن الحق لم يأت لهما بطلب الرحمة وهما على الشرك والكفر كما طلبها لهما في قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء: ٢٤].
لأنهما وإن ربي جسد الولد فلم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يستحقان أن يقول: ارحمهما؛ لأن الحق أراد أن يسع الولد والديه في الدنيا وإن كانا على الكفر.
والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يشيع الإحسان في الكون كله، يبتدئ بالأقرب فالقريب فالجار، فقال: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى﴾. إذن ففيه دوائر. ولو أن كل واحد أحسن إلى أبوية. فلن نَجد واحداً في شيوخته مهيناً أبداً، لذلك يوسع سبحانه دوائر الهمّة الإيمانية فجاء بالوالدين ثم قال بعدها: ﴿وَبِذِي القربى﴾ أي صاحب القربى، وما القربى؟ إن كل من له علاقة نَسَبيَّة بالإنسان يكون قريباً. هذه هي الدائرة الثانية، ولو أن كل إنسان موسعاً عليه وقادراً أخذ دائرة الوالدين ثم أخذ دائرة القربى فستتداخل ألوان البر من أقرباء متعددين على القريب الواحد، وما دامت الدوائر ستتداخل، فالواحد القريب سيجد له كثيرين يقومون على شأنه فلا يكون أحد محتاجا.
وبعد ذلك يتكلم سبحانه عن اليتامى، واليتيم - كما نعلم - هو: من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال، إنه يحتاج إلى حنان أولي. ولكن بعد أن يبلغ مبلغ الرجال فهو لا يُعتبر يتيماً؛ فقد أصبح له ذاتية مستقلة؛ ولذلك يتخلى عنه الوصف باليتيم، والذي تموت أمه لا نسميه «يتيماً»، لكن اليتيم في الحيوانات ليس من فقد أباه بل من فقد أمه، وإن كانت طفولة الحيوانات تنتهي بسرعة؛ لأن والدة الحيوان هي التي ترعاه في طفولته القصيرة نسبياً.
إذن فيتم الحيوان من جهة الأم، والإنسان يتمه هو فَقْد الأب؛ لأن الإنسان أطول الحيوانات طفولة لأنه مُربيَّ لمهمة أسمى من الحيوانية، وعرفنا من قبل أنك عندما تأتي لتزرع - مثلاً - فِجلاً.. فبعد خمسة عشر يوماً تأكل منه، لكنك حينما تزرع نخلة أو تزرع شجرة «مانجو» تمكث كذا سنة،
2216
حتى تثمر.. إذن فطول مدة الطفولة وعدم النسل للمثل يتوقف على المهمة الموكلة للشيء، فإن كانت مهمته كبيرة، تكن مدة طفولته أطول.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يوسع دائرة الإحسان. فإياك أن تقتصر على الوالدين فقط أو أصحاب القربى فقط. خذ في الدائرة أيضاً «اليتيم»، لأن اليتيم فقد أباه، ثم يرى كثيراً من زملائه وأقربائه لهم آباء، ولو لم يوصّ الحق سبحانه وتعالى بهذا اليتيم لنشأ هذا الولد وفي قلبه جذوة من الحقد على المجتمع، وقد يتمرد على الله، ويتساءل: لماذا لا يكون لي أب وكل واحد من أقراني له أب يأتيه بحاجته، لكن حين يرى أنه فقد أباً واحداً ثم وجد في الجو الإيماني آباء متعددين فهو لا يسخط على أن الله أمات أباه.
إن الذين يخافون أن يموتوا ويتركوا من بعدهم ذرية ضعافا، عليهم بالإحسان إلى اليتيم. فلو رأى الواحد منا يتيماً يُكَرم في بيئة إيوة إيمانية لما شغل نفسه ولما خاف أن يموت ويترك ولداً صغيراً، بل يقول الإنسان لنفسه: إن المجتمع فيه خير كثير، وبذلك يستقبل الإنسان قدر الله بنفس راضية، ولا يؤرق نفسه، وهذه مسألة تشغل الناس فنقول لكل إنسان قادر: إذا كنت في بيئة إيمانية. واليتيم يجد رعاية من آباء إيمانيين متعددين فسينشأ اليتيم وليس فيه حقد؛ ولذلك يقول الحق: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩].
لأنك إن رأيت المجتمع الإيماني قد رعى أيتام غيرك فستكون على ثقة من أنه يرعى أيتامك، فإن جاء الموت أو لم يأت فلا تشغل نفسك به، لكن إذا رأى الإنسان يتيماً مضيعاً، فهو يعض على أسباب الحياة ويريد أن يأتي بالدنيا كلها لولده، ونقول لمثل هذا الأب: اعمل لابنك بأن تضع ما تريد أن تدخره له في يد الله؛ لأن الذي خلق آمن من المخلوق؛ ولذلك قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص كانا يجلسان - في أخريات حياتهما - يتكلمان معاً، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين: ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية: أما الطعام فقد سئمت
2217
أطيبه، وأما اللباس فقد مللت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة.
وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال: حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف، وهذه توجد عند ناس كثيرين.
كأن الطموح انتهى إلى ما يوجد عند كل أحد: شربة ماء بارد، ثم قال معاوية لعمرو: وأنت يا عمرو. ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال عمرو بن العاص: بقي لي أرض خوارة - يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر - فيها عين خرارة.. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه «وردان». أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له: وأنت يا وردان، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ انظروا إلى جواب العبد كي تعرفوا أن الإيمان ليس فيه سيد ومسود، فقال له: حظي يا أمير المؤمنين: «صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي» أي لا يرون هذا الجميل لي. حتى تبقي لعقبي في عقبهم. إذن فحظه صنيعة معروف يضعه في أعناق قوم كرام لا يؤدونه إليه في حياته حتى تكون لعقبة أي لمن سيترك من أولاده.
كأنه يفهمنا أنه لا شيء يضيع، فكما تمد يدك يمد غيرك يده لك، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا هذه المنزلة فيقول: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،» وأشار بإصبعيه متجاورين «، أيّ منزلة هذه، فبالله بعد ذلك ألا يبحث كل واحد منّا عن يتيم يكفله لكي يكون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة. وهذه المنزلة كانت أمنية كل صحابي.
فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو محزون فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
يا فلان مالي أراك محزونا؟ «فقال: يا نبيَّ الله شيء فكرت فيه فقال:» ما هو؟ «قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونزل عليه جبريل بهذه الآية:
2218
﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ [النساء: ٦٩].
فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبشره».
فالحق يقول لهؤلاء: لا تحزنوا، فما دمتم تحبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتفرحون في الدنيا لأنكم معه فلا تخشوا مسألة وجودكم معه بالجنة فسوف أبعثكم معه في الجنة، فالمرء مع من أحب، ولذلك أقول لكل مسلم: ابحث عن يتيم تكفله كي تأخذ المنزلة الإيمانية، المنزلة العلية في الآخرة.
فقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما».
فقل لي: إذا عاملنا اليتيم في ضوء هذه التعاليم فماذا يحدث؟ سينتشر التكافل في المجتمع.
ويقول الحق بعد ذلك: «والمساكين».. ونعرف أن المساكين.. كما قال الفقهاء عنهم وعن الفقراء: إن كلهم في حاجة، فهل المسكين هو من لا يملك حاجة، أو الفقير هو الذي لا يملك حاجة أو يملك دون حاجته. كأن يكون إيراده مثلاً عشرة بينما حاجتهُ تحتاج إلى عشرين؟ المهم أنه يكون محتاجاً. وكلمة «فقير» مأخوذة من فقار الظهر أي مصاب بما يقصم الوسط والظهر. وهو اسم معبر.
و «مسكين» أيضاً اسم معبر من المسكنة والسكن أي ليس له استعلاء في شيء.. مغلوب ومقهور.. فاللفظ نفسه جاءه معبراً، و «الجار» كلمة «جار» تعني: عدل، كقولنا: جار عن الطريق أي عدل عنه، فكيف أسمى من في جانبي «جاراً» ؟ لأن مَن في جانبك حدد مكاناً له من دنيا واسعة، فيكون قد ترك الكثير
2219
وجاء للقليل، وأصبح جارك، أي أنه عدل عن دنيا واسعة وجاء جانبك، فيسموا الجار لمن جار، أي عدل عن كل الأمكنة الواسعة وجاء إلى مكان بجانبك.
وهذا الجار يوصي به الله سبحانه وتعالى كما أوصي بالقريب، وباليتيم وبالمسكين، للجار حقوق كثيرة؛ لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما جاء في الحديث: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا. وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق: فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم».
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حق الجار:
«مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «.
أي سيجعل له من الميراث، وما هي حدود الجار؟ حدوده: الأقرب بابا إليك، إلى أربعين ذراعاً، وقالوا: إلى أربعين داراً، هنا يقول الحق: ﴿والجار ذِي القربى﴾. فأعطاه حق القربى وحق الجوار، وقال؛ ﴿والجار الجنب﴾. لأن فيه جاراً قريباً وجاراً بعدياً وقوله:»
الجنب «أي البعيد، ﴿والصاحب بالجنب﴾ » الصاحب «هو المرافق.» بالجَنْب «أي بجانبه. قالوا: هو الزوجة أو رفيق السفر؛ لأن الرفقاء في السفر مع بعضهم دائماً، أو التابع الذي يتبعك طمعاً فيما عندك من الرزق سواء كان الرزق مالاً أو علماً أو حرفة يريد أن يتعلمها منك؛ فهو الملازم لك، والخادم أيضاً يكون» بالجنب «وكل هذا يوسع الدائرة للإحسان، ولو حسبت هذه الدوائر لوجدتها كلها متداخلة.
وها هو ذا النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول لأبي ذَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
2220
«يا أبا ذر إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك».
والمهم أن تتواصل مع جارك، أو الجار ذي القربى: أي الذي قربته المعرفة، وكثير من الجيران يكون بينهم ودّ، وهناك جار لا تعرف حتى اسمه، فهذا هو «الجار الجنب»، و «الصاحب بالجنب وابن السبيل» وابن السبيل، فقد تقول مثلاً: فلان بن فلان، كأنك لا تعرف أباه، أو تقول: فلان ابن البلد الفلانية أي لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه منسوب لبلد معين، وعندما تقول: ابن سبيل تعني أنه غريب انقطعت به كل الأسباب حتى الأسباب التي يمكن أن تعرفه بها، فساعة تراه تقول «ابن السبيل» أي ابن طريق، ولا تَجد مكانا ينسب إليه إلا الطريق، لا يجد أبا ينسب إليه، لا يجد أمّا، لا يجد قبيلة، لا تعرف عه شيئا.
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وسبق أن تكلمنا عن ملك اليمين وقلنا: إن الإسلام إنما جاء لا ليشرع رقاً.. ولكن جاء لينهي رقاً، ويسد منابعه التي كانت موجودة قبل الإسلام، ولا يبقى إلا منبع واحد. هذا المنبع الواحد هو الحرب المشروعة، ولماذا لم يطلقهم؟. لأن الحرب المشروعة عرضة أن يأخذ الخصوم من أبنائي وأنا آخذ من أبنائهم، فلا أطلق أبناءهم إن جاءوا في يدي حتى يطلقوا أبنائي الذين في أيديهم، ويصير الأمر إلى المعاملة بالمثل، التي انتهى إليها العالم الحديث وهي تبادل الأسرى.
وقد نهانا الإسلام في ملك اليمين عن أن يقال: «عبدي» بل يقال: فتاي. ولا يقال: «أمتي» بل يقال: فتأتي، حتى التسمية أراد الشرع أن يهذبها، كي لا تنصرف العبودية إلا لله.
الحق سبحانه وتعالى جاء بالإسلام والرق كان موجوداً، وله ينابيع متعددة فوق العشرين، وليس له إلا مصرف واحد هو إرادة السيد، فجاء الإسلام ليصفي الرق، وأول تصفية لشيء هو أن تسد منابعه. وبدل أن يكون مجرد مصرف واحد، وهي رغبة السيد، جعل له الإسلام مصارف متعددة، إذن فنكون قد حددنا المنابع في نبع واحد، وعددنا المصارف.. فالذنب بينك وبين الله تكفره بأن تعتق رقبة،
2221
أي أحدثت ظهاراً مثلا تُعتق رقبة، وهذه رغبة من يريد أن يصفي الرق، فإذا لم توجد عند أي مالك أسباب لتصفية الرق وظل الفتى أو الفتاة تحت يمينه، فالإسلام يرشدك ويهديك: ما دمت لم تؤثر أن تعتقه واستبقيته فأحسن معاملته، أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كلفته فيدك معه، وهات لي واحداً يلبس من ملابس سيده ويأكل مثله وعندما يعمل عملاً فوق طاقته تجدُ يَد السيد بيده.. أليست هذه هي المعاملة الطيبة! قال الله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
وبعد ذلك يجيء الحق سبحانه وتعالى في ختام الآية بما يدك كبرياء ذي الإحسان، فإياك أن تكون النعمة أو البذل الذي ستبذله يعطيك في نفسك غرور الاستعلاء؛ لأن غرور الاستعلاء هذا يكون استعلاء كاذباً. وأنت إذا استعليت على غيرك بأعراض الحياة، فهذه الأعراض تتغير، ومعنى «أعراض» أنها تأتي وتزول. فالذي يريد أن يستعلي ويستكبر فعليه أن يستعلي ويستكبر بحاجة ذاتية فيه؛ ولذلك لا يوجد كبرياء إلا الله، إنما الأغيار من البشر. فنحن نرى من كان قوياً يصير إلى ضعف، ومن كان غنياً يصير إلى فقر، ومن كان عالماً يصبح كمن لا يعلم: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ [الحج: ٥].
فلا كبرياء إذن لمخلوق، ومن يريد أن يستعلي ويتكبر على غيره فليتكبر - كما قلنا - بحاجة ذاتية فيه، أي بشيء لا يسلب منه، والخلق كلهم في أغيار، والوجود الإنساني تطرأ عليه الأغيار، إذن فاجعل الكبرياء لصاحبه، وإياك أن تظن أنه عندما قلنا لك: اعمل كذا وأحسن لذي القربى واليتامى والمساكين، إياك أن تحبط هذه الأعمال بأن تستعلي بها؛ لأنها موهوبة لك من الله، وما دامت موهوبة لك من الله فاستح؛ لأن الذي يتكبر هو الذي لا يجد أمام عينه من هو أكبر منه.
هات واحداً يتكبر لأن عنده مليوناً من الجنيهات ثم دخل عليه واحد آخر عنده أكثر منه ماذا يفعل؟ إنه يستحي ويتضاءل، ولا يتكبر الإنسان إلا إذا وجد كل الموجودين أقل منه، لكنه لو ظل ناظراً إلى الله لعلم أن الكبرياء لله وحده.
2222
إذن فعندما يتكبر المتكبر، إنما يفعل ذلك لأن الله ليس في باله. لكن لو كان الحق المتكبر بذاته في باله لاستحي، فإذا كان في بالك من يعطيك لاستحييت.
إذن فمعنى المتكبر أن ربنا غائب عن باله؛ لذلك يقول الحق في ختام الآية: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ وما «الاختيال» ؟ وما «الفخر» ؟
إن المادة كلها تدل على زهو الحركة، ولذلك نسمي الحصان «خيلا» ؛ لأنها تتخايل في حركتها، وعندما يركبها أحد تتبختر به؛ ولذلك نسمي الخيلاء من هذه. إّن «الاختيال» : حركة مرئية، «والفخر» حركة مسموعة، فالحق ينهي الإنسان عن أن يمشي بعنجهية، كما نهاه عن أن يسير مائلا بجانبه ولا أن يعتبر نفسه مصدراً للنعمة حتى لا ينطبق عليه قوله سبحانه: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ [الحج: ٩ - ١٠].
أما الفخر فهو أن يتشدق الإنسان بالكلام فيحكي عما فعل وكأنه مصدر كل عطاء للبشر، والخيلاء والفخر ممنوعان، وعلى المسلم أن يمتنع عن الحركة المرئية وعن كلام الفخر، ولماذا جاء الحق بهذا هنا؟ إنه جاء به حتى لا يظن عبد أنه يحسن إلى غيره من ذاتيته، إنه يحسن مما وهبه الله.
ولا يصح أن تستخدم من أحسنت إليهم وتتخذهم عبيداً؛ لأنّك تحسن عليهم. وعندما تنظر إلى سيادتك على هؤلاء لأنك تعطيهم، فلماذا لا تنظر إلى سيادة من أعطاك؟ إنك عندما تفعل ذلك وتنظر إلى سيادة خالقك فإنك قد التزمت الأدب معه وبعدت عن الاختيال والفخر بما قدمت لغيرك، يقول الحق:
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ [النساء: ٣٦].
وبعدما قال الحق: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ قال: ﴿وَبِذِي القربى واليتامى﴾.
2223
وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، أتى سبحانه بالحديث عن المقابل وهو: ﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس... ﴾.
2224
وما معنى البخل؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف، إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه؛ لأنه لا يريد أن يعطي. وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل؛ لأنه أولاً قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس؟
والشاعر يصور بخيلاً اسمه «عيسى» ويريد أن يذمه؛ لأنه بخيل جداً، ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضاً، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه. وما دام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمراً متوقعاً:
يقتر عيسى على نفسه... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره... تنفس من منخر واحد
إنه بخيل لدرجة أنه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضاً توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية
2224
والإنسانية فيقول:
لو أن بيتك يا بن عم محمد إبر يضيق بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ليخيط قد قيمصه لم تفعل
فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له: أعطني أبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زِليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فِناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل: هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٨٠].
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقاً حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلاً، لكان الطوق خفيفاً حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلاً.
ولقد قال الحق أيضاً عن الذين يكنزون الذهب والفضة: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٤ - ٣٥].
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيراً، ويكوَوْن
2225
به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكيّ، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبُّون أيضاً أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل، ويؤلمهم أن يروا إنساناً جواداً؛ يقول لك البخيل: لا تنفق؛ لأنه يتألم حين يرى إنساناً جواداً، ويريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء، والبخل: ضن بما أوتيته على من لم يُؤت. وهل البخل يكون في المال فقط؟. لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علمٍ على من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضاً، فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه: أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم - مثلا - عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة؛ يكون قد بخل.
﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضاً في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب كانوا يعرفون صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم مصدقاً لما معهم كفروا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتموا معرفتهم به عن الناس، وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل.
وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيْرة عليها من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارهاً لها، وهي نعمة المرأة؛ لأن الرجل حتى وإن كره امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من
2226
رجل كان متزوجاً من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له: انظر إلى إحدى زوجتي أو إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها.
أية أريحية سامية هذه؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدي أثر نعمتك إلى غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المرأة، لا. لكن هذه الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا: هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاءً إيمانياً في ذات الأنصار.
لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري: لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، وليتزوجها أخي المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراماً. لكنَّ اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول القرآن الكريم في هذا الموقف:
﴿هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٧].
لقد أخطأوا الظن بمن آمنوا برسول الله، ظنوا أنهم ن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئاً؟ لا؛ لأنه ترك كل شيء في سبيل الله. وها هوذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه النعمة وهو صاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأصحابه: انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما يقول المنافقون كعبد الله بن أبيّ للأنصار: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي يبيع إيمانه باللقمة هو من يُحمل على مبدأُ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه
2227
لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
«فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروة، وكان أنعم غلام بمكة وأَرْفَهَ، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا غُدي على أحدكم بجفنة من خبز ولحم؟ فقلنا: نحن يومئذ خير نُكفَي المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال:» بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ «.
وقلنا: يجب أن تذكروا جيداً أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحّي بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها إلا إن دفعوا الثمن مقدماً، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشتري البشر فاعرف أنه مبدأ باطل.. ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا.
ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما أخذ العهد لنفسه في بيعة العقبة، قال له الأنصار: فإن نحن وفَّينا بهذا فماذا يكون لنا؟ كأنهم يقولون: أنت أخذت مَالك فماذا يبقى لنا؟..
انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم سيملكون الأرض؟ هل بشرهم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها؟ لا، بل قال لهم: لكم الجنة. فلو قال لهم: لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة؟
إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن يموت.
قال لهم: لكم الجنة. فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحوله
2228
عصابة من أصحابه -: «تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه».
لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم: أنتم ستجلسون على البُسُط والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة: لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد منكم في شيء إلا في الجنة؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرين بعضاً من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء، وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم:
«ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم» فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار «.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً»
.
أي سمّو إيماني هذا؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على من عند رسول الله حتى ينفضّوا.
لكنّ المؤمنين لم ينفضّوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيماً مظنوناً محدوداً قليلاً، وحسبهم ما وعدوا به من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت وإمّا أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حدّ ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا تفوته.
2229
ثم سبحانه يقول: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾، وساعة ترى شيئاً يكتم شيئاً، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه: منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته، وكما يقولون: اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكأن الفطرة الطبيعية في كل رزق سواءً أكان رزقاً مادياً أم رزقاً معنوياً أنه يستطرق؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي إنسان ويحوز شيئاً مما هو مخلوق لخدمة الإنسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء، المكتوم من رسالته؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما نعوقه عن هذه الخدمة فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضاً.
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾ [الدخان: ٢٩].
فالسماء والأرض لهما بكاء، ليس بكاء دموع إنما بكاء يعلم الله كنهه وحقيقته، إذن فقوله: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾. كأنه يقول: ما آتاه لك الله من فضله ليس ملكك، وليس ذاتية فيك، فأنت لم تأت به من عندك. وانظر إلى الكون حولك تجده كله أغيارا، ألم تر في حياتك قادراً أصبح عاجزاً؟ ألم تر غنياً أصبح فقيراً؟ فالدنيا دول، وما من واحد إلا ويمر أمام عينيه وفي تاريخه وفي سماع من يثق بكلامه أنه «كان» هناك غنيٌّ ثم صار فقيراً، فلماذا لا تعتبر بالأغيار التي قد تمر بك، وبعد أن كان يُطلب منك أن تعطي، صرت في حال يطلب الحق سبحانه من غيرك أن يعطيك، ادخر لنفسك الآن - بالخير تبذله - حتى إذا جاءتك الأغيار تجد لك ما ينتظرك.
﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ انظر ماذا فعل فيه البخل، إنه جعل صاحبه كافراً؛ لأن البخيل ستر نعمة كان من الممكن أن تتسع له ولغيره، فجاء له بالشيء الذي يخيف: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ «أعتدنا» أي أعددنا وهيأنا. فالمسألة موجودة وقد أعدت، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يتكلم عن الجنة يقول:
«عُرضت عليّ الجنة لو مددتُ يدي لتناولت من قطوفها».
2230
هذه ثقة اليقين في أنها مسألة جاهزة وليست تحت الإعداد، ومن الذي أعد؟ إنه الله، قوي القوي، قدرة القدر هي التي تُعد، وهو يعدها على قدر سعة قدرته، عذاب مهين؛ لأنه قد يتطاول أحد ويقول: أنا أتحمل العذاب، كما قال الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فسبحانه يوضح: لن يلقى البخيل العذاب فقط، بل سيلقى عذابا مهينا. ثم يأتي الحق سبحانه بالمقابل، يأتي بغير البخيل، فيقول:
﴿والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ....﴾.
2231
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله: اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئاً لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلاً أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يُثَمِّنه سبحانه؟ لا بد أن يكون الثمن غالياً.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم: جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم: أنا بعتها لله - إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له: أنت خائب؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك،
2231
فلماذا ترائيهم؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة؛ ولذلك قال الحق: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١].
وما دام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمناً، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله: ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ [البقرة: ٢٦٤].
و «الصفوان» هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكنْ بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب؛ ولأن المروة ناعمة جداً فقليل من الماء ولو كان رذاذاً يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق: ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلاً، ولذلك قلنا: ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
«رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
إنّ العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال:
2232
﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٧١].
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح: إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معطٍ؛ لأنه سبحانه يؤكد: خذوا منه وهو الخاسر؛ لأنه لن يأخذ ثواباً، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾ فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة.. أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله؛ لأنه لم يستطيع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث:
«إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟
قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يُقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال....»
.
لكن هل قال لك الدين: لا تفعل؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
2233
والبخيل عندما يُكَثَّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف: مال الكُنزي للنزُهي، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبداً!! فسبحانه يوضح: أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً «وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه» لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً، وأيضاً فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل.
كيف؟ لنفترض أن إنساناً كريماً، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده «فدانان» فهو يبيع فداناً ليفرج به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له: إياك أن نعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ [هود: ١١٤].
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيراً كثيراً، كذلك البخيل نقول له: ستيسر سبيلاً لكريم بذّال، والحق سبحانه وتعالى بيّن في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة «شيطان»، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداءً من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنّها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إنّ وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم «شيطاناً» لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألاّ يلتزم بالمنهج؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة - هي شيطان. إنّ النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها - هي شيطان. فالشيطان إذن هو الذي جعلهم
2234
يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.. وهذا الشيطان وساعة يكون قريناً للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقِرن بكسر القاف - هو من تنازله.
وكلمة «قَرْن» تطلق أيضاً على فترة من الزمن هي مائة عام؛ لأنها تقرن الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين أي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق: ﴿وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً﴾، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار.
ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة فماذا يفعلون؟ يقول الحق: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه: كنت تعينني على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرأ منّا؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾
[إبراهيم: ٢٢].
والسلطان هو: القوة العالية التي تجبر مَنْ دونها، فالإنسان تُجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي، ويُقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفاً أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطا وتقول له: اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضاً.
2235
إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين: سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهراً عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضي منك، والشيطان يقول لمن اتبعوه: يا من جعلتموني قريناً لكم لا تفارقوني، أنتم أغبياء؛ فليس ليَ عليكم سلطان، وما كان ليَ من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، ولكنكم كنتم غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢].
إذن فالخيبة منكم وأنتم، ولذلك يقول الحق: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢].
ماذا يعني «مصرخكم» ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له: أزال صراخه، إذن فاصرخه يعني سارع وأجاب صرخته، والشيطان يقول: إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣].
فمن يتخذ الشيطان قريناً، «فساء قرينا» وكلمة «ساء» مثل كلمة «بئس» كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان قريناً لك؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي مَن سواهم من الناس أجمعين.
2236
وعندما نتأمل الآية، نجد أن الحق يقول: ﴿والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً﴾. فالآية إذن تتناول لونا من الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه.
والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حياته على منهاج ربه، هذه المعوقات تظهر في النفس البشرية وفي شهواتها التي تزين الإقبال على المعصية للشهوة العاجلة، وتزين الراحة في ترك الأوامر، والشيطان أيضاً يتمثل في المعوقات، والشيطان كما نعلم: اسم للعاصي من الجنس الثاني من المكلفين وهم الجن ويتمثل في إبليس وفي جنوده، ويطلق على كل متمرد من الإنس يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً﴾ وأنت حين تريد أن تعرف المعوق أهو من نفسك أن تأتيها وحدها، أم معصية إن عزّ عليك أن تفعلها فأنت تنتقل إلى معصية سواها؟ هل هي معصية ملازمة أو معصية تنتقل منها إلى غيرها؟
فهب أن إنساناً كانت معصية نفسه في أن يشتهي ما حُرّم عليه، أو أن يسرق مال غيره، نقول له: أوقفت في المعصية عند هذه بحيث لا تتعداها إلى غيرها؟ يقول نعم.
فبقية المعاصي لا ألتفت إليها. نقول: تلك شهوة نفس، فإن كانت المعصية حين تمتنع عليك من سرقة مثلاً فأنت تلتفت إلى معصية أخرى. فهذا لون من المعاصي ليس من حظ النفس، وإما هو حظ الشيطان منك؛ لأن الشيطان يريد العاصي عاصياً على أي لون من المعصية، فإن عزّ عليه أن يلوي زمامه إلى لون من المعصية، انتقل إلى معصية أخرى لعلّه يصادف ناحية الضعف فيه.
لكن النفس حين تشتهي فإنها تشتهي شيئاً بعينه، فأنت إذن تستطيع أن تعرف المعوق من قبل نفسك أم من قبل الشيطان، فإن وقفت عند معصية واحدة لا تتعداها وتلح عليك هذه المعصية، وكلما عزّ عليك باب من أبوابها تجد باباً آخر
2237
لتصل إليها، فتلك شهوة نفسك. وإن عزّت عليك معصية تنتقل إلى معصية أخرى فهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريد عاصياً من لون واحد، وإنما يريدك عاصياً على إطلاقك.
وعداوة الشيطان - كما نعلم - هي عداوة مسبقة؛ فقد امتنع اليشطان عن السجود لآدم بحجة أنه خير من آدم. وحذر الله آدم. ولا بد أن آدم عليه السلام قد نقل هذا التحذير لذريته وأَعْلَمَهٌم أن الشيطان عدو. ولكن الغفلة حين تسيطر على النفوس تفسح مجالا للشيطان لينفذ إلى نفس الإنسان، والشيطان - كما نعرف - للطائع ليفسد عليه طاعته، ولهذا يقول الله عنه: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦].
إذن فمقعد الشيطان ليس في الخمارة أو في مكان فساد، إنما يجلس على باب المسجد، لكي يفسد على كل ذاهب إلى الطاعة طاعته. وهذا معنى: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ ؛ ولذلك كانوا يقولون: إن الطوائف الأقلية غير المسلمة في أي بلد إسلامي لا تحدث بينهم الشحناء، ولا البغضاء، ولا حرق الزروع ولا سمّ الشيطان ضمن أن هؤلاء وصلوا إلى قمة المعصية فابتعد عن إغوائهم، أما المسلمون فهم أهل الطريق المستقيم، لذلك يركز الشيطان في عمله معهم، إذن فما دام عمل الشيطان على الطريق المستقيم فهو يأتي لأصحاب منهج الهداية، أما الفاسق بطبيعته، والذي كَفَرَ كُفر القمة فالشيطان ليس له عمل معه؛ لأنه فعل أكثر مما يطلب الشيطان من النفس البشرية.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس﴾ أي: أنفقوا وأنقصوا ما لهم فلماذا المراءاة إذن؟ لأن الشيطان قرينهم، وعندما ينفقون فهذا عمل طاعة، ولماذا يترك لهم هذا العمل ليسلم الثواب لهم؟ فلا بد أن يفسد لهم هذا العمل الذي عملوه، وهو يقول: ﴿وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً﴾ مثل هذا القرين أيمدح أم يذم؟ إنه يذم بطبيعة الحال؛ ولذلك قال الله: {فَسَآءَ
2238
قِرِيناً} أي بئس ذلك القرين، فالقرين الذي يلفتك عن فعل الخير هو الذي بعد أن أنقص مالك بالنفقة أفسد عليك الثواب بالرياء.
2239
وقوله سبحانه: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ وأي تبعه ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه - جل شأنه - يَذُمُّهُمْ ويوبخهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له: وماذا عليك لو أنك ذاكرت؟ ﴿يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته أن يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلاً ثم نقول لك: ماذا عليك لو كنت طويلاً؟﴾ هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبريّة قالت: إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافراً، لكنهم لم يلتفتوا إلى قول ربنا: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر﴾ فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبريَّة، بل تهدم مذهب الجبريَّة كله. فالإنسان ليس مجبراً على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون: كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر:
2239
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
نقول لهم: أنتم نسبتم لله - والعياذ بالله - الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات. وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلاً فأخذتم منها الشيء الذي لا بد للناس أن تنفذه ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقاً بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد كتب لأنه علم.
هو سبحانه كتب لماذا؟ لأنه علم أزلاً أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول: إن الصفات نوعان: صفة تكشف الأشياء على ما هي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد: جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختباراً للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة: لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجدّ ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقنع عميد الكلية ويضع هو اختباراً أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ.
وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقاً بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولاً لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار
2240
بين البديلات، لكنه أوضح: أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذا سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله﴾ فقوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة «عليهم» دائماً تكشف للإنسان ما عليه؛ لذلك لا يقول «لهم» بل يقول: أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله؛ ولذلك يقول الحق: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦].
لم يقل سبحانه: الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقناً؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت «المعرّي» عما أتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال:
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يُعاد لنا سَبْكُ
فقالوا: إن قوله «لا يعاد له سبك» معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك: إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثاً، نقول له: إما أن يجيء بعث فيكذب من قال: لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث يخسر ولا يكسب، لكن من قال: إن هناك بعثاً لا يخسر، وهكذا.
2241
وقول الحق: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم ﴿لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله﴾ إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة.
﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً﴾. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكلّ شيء علما؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ... ﴾.
2242
والظلم: الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحداً فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قوياً. لكن ماذا عن الذي يظلم إنساناً لحساب إنسان آخر؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شرّ من الأول: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله عليه السلام قال: «بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا».
لأن ظلم إنساناً لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئاً لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه - وهو قوة القوى - إذا أراد أن يظلم - وحاشا لله أن يظلم - فماذا يكون شكل ظلمه؟ إن الظلم يتناسب مع قوة
2242
الظالم، إذن فقوة القوى عندما تظلم فظلمها لا يُطاق، ثم لماذا يظلم؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب؟ إنه سبحانه مستغنٍ، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، كلهم متساوون، فلماذا يظلم؟
إن الظلم بالنسبة لله محال عقلياً ومحال منطقياً، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، وتلك لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعاً. وما دام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].
فكلمة «ظلاّم» مثل قولنا: فلان «أكّال» وفلان «نوّام» وهي تختلف عن قولنا: فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن «نوام» فهذا يعني مداومته على النوم كثيراً، أي أنه إما أن يكون مبالغاً في الحدث، وإما أن يكون مكرراً للحدث، فالمبالغة - كما نعرف - تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عادياً لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ﴾ نفي للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول: الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيراً كثيراً، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعَمّ الخلق جميعا فيكون كذلك كبيراً كثيراً ولكن الله - سبحانه - يقول: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ «مثقال» : يعني ثقل ووزن، والثقل هو: مقدار جاذبية الأرض للشيء.
فعندما يكون وزن الشيء قليلاً وتُلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة «مثقال» ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا «الذرة». وما «الذرة» ؟
قال العلماء فيها: هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سُئل عنها: أخذ شيئاً
2243
من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم: كل واحدة من هذه اسمها «ذرة» وهو ما نسميه «الهباء»، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئاً من الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية - أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس - فساعة ترى ثقباً يُدخل أشعة الشمس ترى غباراً كثيراً يسبح. والمهم أنك لا تراه جارياً إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجوداً ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغاً فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه «الهباء» وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يُفتّت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديماً، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضاً يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة؛ فأخرجوا أرقام السيارات التي كانت تسير!. كيف حدث هذا؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل أكثر دقة لا تراها العين المجردة، وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى أرقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجوداً في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها؟ لا يمكن أن تظهر.
. لماذا؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوماً، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تظهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
2244
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفي على نور الخالق ذرة؟ لا يمكن أن تخفي عليه سبحانه ذرة؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجوداً ولا نراه، فلن يخفي على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسألة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه «اسطوانة» وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يُعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، وما دامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جداً، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقاً يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذاً. قالوا: إن الله قال: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء: أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صُب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.
وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلاً كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح؛ لأن من
2245
يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحاً لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكماً ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكماً آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضاً معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك: لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل؟ لا.. فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتها أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون: إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم: أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا - كما قلنا - إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فُتت. والآية التي نحن بصددها الآن: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس: ٦١].
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن «أصغر» هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير
2246
عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول: لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح؟.
ونقول لك: إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يُرى، وأيضاً لا يُدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلاً كبيراً على بعد اثنين من الكيلو مترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يَدِقُّ لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ﴾.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرحيم الغفور﴾ [سبأ: ٢].
وانظروا إلى دقة الحق في الدر على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور.. فيقول سبحانه: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٣].
كان يكفي أن يقول: إن الساعة آتية، لكنه أوضح: اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون: لا تأتي الساعة؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم يعملوا على مقتضى ما يتطلبه قيام الساعة، فالذي لم يعمل لذلك يود
2247
لأن من مصلحته ذلك - أن تكون مسألة الساعة كذب؛ لأنه قد عمل أشياء يخاف أن يحاسب عليها، فجاء سبحانه بالآية لكي تردّ على المقولة وعلى الدافع للمقولة. وكل مقولة لها دافع. لقد كان الدافع لمقولتهم هو إسرافهم على أنفسهم فلم يقدموا عملاً صالحاً فمن مصلحتهم الآمالية ألا تأتي الساعة، كي لا يعاقبوا، وسبحانه يعلم أزلا ما فعلوا وردّ على المقولة وردّ على الدافع الذهني للمقولة، فأوضح سبحانه: أنا عالم كل أمر ولن يغيب عني عمل من أعمالكم.
وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً﴾ يعني: وإن يكن الوزن لحسنة يضاعفها الله، وعندما يحدثنا سبحانه عن الحسنة وأنها تُضاعف ثم لا يتكلم عن السيئة فها يدل على أن السيئة بمثلها، والحق قد تكلم عن المضاعفة للحسنة في كثير من الآيات ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾.
وفي آية أخرى يقول الحق: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١].
وبعد ذلك يقول: ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٦١].
ففيه فرق بين نظام حساب الحسنات ونظام حساب السيئات، فالحسنة تضاعف لعشر أمثالها لسبعمائة ضعف، هذا هو نظام الحساب، وإرادة خالق هذا النظام تعطي كما تريد، إذا كنا نحن - كبشر - عندما توظف واحداً نقول: أنت تدخل السلم الوظيفي، وتبدأ السلم الوظيفي من أول درجاته ثم تترقي درجة بعد درجة، ثم يأتي رئيس الدولة ليعينك في درجة أعلى من ذلك بكثير، فما بالنا بحساب الرب الأعلى؟ إنه يعطي بعملية حسابية فيها زيادة فضل؛ ولذلك قال بعد هذه الآية: ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي إنه سبحانه يعطي من عنده ذلك الأجر العظيم، وهذا اسمه «محض الفضل» وكيف يسميه الله أجراً مع
2248
أنه زائد؟ لأن هذا الفضل جاء تابعا للأجر، فإذا لم يعمل الإنسان هذا العمل فإنه لا يستحق أجرا، وبالتالي فلا ينال فضلاً وحين يضرب الله الأمثال للناس فذلك لتقريب المعاني؛ لأن الله قاله والله صادق فيما يقول، فيعطي الحق سبحانه وتعالى مُثلاً إيناسية في الكون، حتى لا تستبعد أن الحسنة تذهب لهذه الأضعاف المضاعفة.
فيوضح لك: هذه الأرض أمامك هات حبة واحدة وضعها في الأرض تخرج لك سبع سنابل وكل سنبلة فيها مائة حبة فإذا كانت الأرض - وهي مخلوقة لله - أعطت سبعمائة ضعف، فكم يعطي من خلق الأرض؟ إنه يعطي بغير حساب.
إذن فكلمة «من لدنه» هذه تعطيك الباب الواسع الذي يتناسب مع الله. فالأرض تعطيك على قدر جهدك، وعلى قدر العناصر الغذائية الموجودة فيها.. والذي عنده وبيده الخير وخلق كل الكون يوضح: إذا كان خلق من خلقي يعطي حتى الكافر، سبعمائة ضعف فالذي خلق هذا يعطي للمؤمن أجراً للحسنة بلا حدود؛ ولذلك فالإيناسات التمثيلية في الكون يتركها الله لتقرب للعقل المعنى البعيد الذي قد يقف فيه. فالإنسان منا مادة: هي البدن وتحل فيه الروح. وعندما تسحب الروح من البدن، ماذا يصير؟ يصير الجسد رِمة، ويتحلل لعوامله الأولى وتنتهي منه مظاهر الحياة.
إذن فالروح هي السبب في الحركة، وفي أن كل جهاز يقوم بعمله، وفي النمو، وعندما تسحب الروح ينتهي الأمر، إن الروح هي التي تدير كل هذا الجسم، والروح لا لون لها، ولا أحد يراها، ولا يشمها كائن، فكيف ندركها إذن؟
نقول: إن الجوهر الذي يدخل في جسدك ويعطيه الحركة فيديره. أنت لا تراه ولا تحسّه، وهو غيب بالنسبة لك، فإذا حُدّثت أن ربك غيب فلا تتعجب، فروحك التي بين جنبيك لا تعرف كُنهها، وعليك إذن أن تصدق عندما يقال لك: ربك ليس بمحدود بمكان وعنما يقول سبحانه: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣].
فكلنا نقول: نعم هذا كلام صحيح؛ لأنه إذا كان هناك مخلوق لله وهو الروح لم
2249
تدركه الأبصار، أفتريد أن يُدرَك من خَلَقَ؟ لا يمكن وهو سبحانه من عظمته أنه لا يُدَرك.
وسبحانه يقول: ﴿وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ ونقف عند كلمة «من لدنه». ونعرف أن فيه فرقا بين الإتيان بالناموس - وهو النظام الموضوع - والعطاء المباشر، وعندما يقول الحق: «من لدنه» فهذا يعني أن الوسائط تمتنع. ونعلم قصة سيدنا موسى عندما ذهب ليقابل العبد الصالح قال تعالى في وصف العبد الصالح: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا﴾ [الكهف: ٦٥].
وهذا يعني أن العبد الصالح قد تعلم ليس بوساطة أحد. بل من الله مباشرة، بدليل أن الذي جاء ليتعلم منه وتعلم منه ثم وقف معه في أمور جاءت على خلاف ما تجري به النواميس والعادات فكلمة «من لدنا» تعني تجاوز الحجب، والوسائط، والأنظمة.
والحق سبحانه يحترم أصل عملك ويسمي عطاءه لك «أجراً» ؛ لأنه أعطى من لدنه بعدما أعطى له النصيب المقدر كأجر، وهذا الأجر موصوف بأنه عظيم؛ لأنه مناسب للمعطي.
ثم يقول الحق: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ... ﴾.
2250
وساعة تسمع كلمة «كيف» فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلاً: أنت سببت السلطان فكيف إذا واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل؟ كأن مواجهة
2250
السلطان ذاتها مسألة فوق التصور.. فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب «كيف»، ومثال ذلك قوله الحق: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨].
وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا: كيف جاءت هذه؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول: فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العٌصاة، في يوم العرض الأخير، ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ و «الشهيد» هو: الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤].
وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء﴾ من هم؟ ننظر قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وهو رسولها الذي بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال: أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر لهم لأنني أعلمتهم به، ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد - صلى الله عليك وسلم ﴿على هؤلاء﴾ فهل المعنى ب «هؤلاء» هم الشهداء الذين هم الرسل أو على هؤلاء المكذبين لك؟ وتكون أيضاً شهيداً على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك؟ إن كلا من الحالين يصح، لماذا؟
لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكأن الرسول حين سُجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد أيضاً: هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا شهيداً على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس غالٍ ونفيس؛ لأنه قاسٍ ويُكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته تعطي إشعاعاً.
2251
والحق سبحانه وتعالى يوضح: أن حال هؤلاء سيكون فظيعاً حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، ويقولون: إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضاً سنكون شهداء: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣].
وهذه ميزة لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبداً بعد رسول الله، فيقول: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة.
عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«اقرأ عليّ القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟.
قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع»
.
فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم؛ لأنك تعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملئ قلبه رحمة بأمته؛ ولذلك قلنا: إن حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الأمة: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣].
2252
فأمر أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقلقه جداً على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له: أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له: لو شئت جعلت أمر أمتك إليك.
وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له: لا يا رب. أنت أرحم بهم مني.
وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول للخالق: «أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم، إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول الله: نعم أعطني أمر أمتي لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: يا رب أنت أرحم بهم مني. فكيف يكون ردّ الرب عليه؟. قال سبحانه: فلا أخزيك فيهم أبداً، وسبحانه يعلم رحمة سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمته».
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: «رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني..» وقول عيسى عليه السلام: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله:» يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك «.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين.. ﴿إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ أنه أدّى وبلغ عن الله مراده من خلقه. ﴿وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ ؟
2253
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ... ﴾.
2254
وساعة ترى «يومئذ» وتجد فيها هذا التنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى: يوم إذْ نجيء من كل أمة بشهيد وتكون أنت عليهم شهيداً، في هذا اليوم ﴿يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول﴾ لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون موقفهم؟ ﴿يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض﴾ وما معنى ﴿تسوى بِهِمُ الأرض﴾ ؟ كما تقول: سأسوِّي بفلان الأرض؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض.
﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾. فكيف لا يكتمون الله حديثا؟ وهو قد قال في آية أخرى: ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل: فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما يقولون: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣].
2254
إذن فقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ دليل على أن الحديث مندفع ولا يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم: أن تعوق شيئاً يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه. والواحد منهم في الآخرة: لا يقدر أن يكتم حديثاً؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون أنفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم، وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد، والجلود تشهد، واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد.
إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا؟؛ لأن هناك ما نسميه «ولاية الاقتدار»، ومعناها أن: هناك قادراً، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة، عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون العام في هذه المهمة: أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته؛ وألا يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمراً تسبب في فشل معركة ما، وذهب الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا: هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره.
أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي عنه فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق لِلرَّجُلِ الذي يعطيه الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي تقوم بهذه العملية هي خاضعة لقادرية إرادته، فقد خلقها ربنا هكذا، وبعد ذلك، حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في الآخرة تقول له: يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت:
﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، وما دام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف: عمل بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فمبجرد ما يريد
2255
فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحداً لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبّه لفلان، أو مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح حين تصنع غير مرادات اللله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة؛ لذلك تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١].
«يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوَّي بهم الأرض»، لأن الكافر سيقول: ﴿ياليتني كُنتُ تُرَاباً﴾ [النبأ: ٤٠].
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة... ﴾.
2256
هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحداً وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل إلا ظله، بعد ذلك أراد أن يصلنا به وصل العِبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل يوم، خمس مرات، وسبحانه يريدك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب منك شيء.
هو سبحانه يقول: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ ولم يقل: لا تصلوا وأنتم سكارى؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة إلى ترك المسكرات، فما معنى ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ ؟ معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مرّ هذا الأمر على مراحل؛ لأن الدين حينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر العقائد فيتكلم فيها كلاماً حاسماً باتّاً لا مَرْحليَّة فيه، فالإيمان بإله واحد وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة ما دام هناك شيء يقود إلى التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ والصلاة هي: الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحياً في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هي: مطلق الدعاء.
و «سُكارى» جمع «سكران» وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل المسألة مأخوذة من السَّكرْ ما سد به النهر؛ فالماء حين ينساب يضعون سداً، هذ السد يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل، فأخذ من هذا المعنى، ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ المفهوم أن الصلاة تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسَّكر والخُمار؛ وهو ما يمكث من أثر المسْكِر في النفس، وما دام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار. إذن فقد حملهم على أن
2257
يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السَّكَر. وما داموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل، وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما جاء ليتكلم عن الخمر قال:
﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ [النحل: ٦٧].
ويلاحظ هنا أن السَّكَر «مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه حسن. لكنهم كانوا أيضاً يأخذون العنب ويصنعون منه خمراً، فقدم ربنا» السَّكَرَ «لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً﴾، لكن كلمة رزق وُصفت بالحسن.
بالله عندما نسمع ﴿سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ ألا نفهم أن كونه سكراً يعني غير حسن، لأن مقابل الحسن: قبيح. وكأنه قال: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أي شرابا قبيحا ورزقاً حسناً، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا حدث؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة؛ فالنصيحة ليست حكماً شرعياً، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩].
هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا نفعل؟ لا؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه، فسبحانه قال: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ فما دام الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل؟ مرجحات البدائل تظهر لك حين تقارن بين بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرّاً وأكثر البديلين خيراً.
2258
فحين يقول الحق: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ إذن فهذه نصيحة، وما دامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سدّ قال: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن يؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف.
﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ وما دام لا نقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الخمر، فقالوا للنبي: بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزل قوله الحق: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه﴾ [المائدة: ٩٠].
إذن فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمناً، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنّه أوضح لك: اعملها بعيداً، لكن عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، ﴿حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ فكأن هذه أعطتنا حكماً: أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة، وما دام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحدّ، وعندما تصل إلى هذا الحدّ يتدخل ربنا فيقول: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾.
ثم جاء بحكم آخر: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ﴾ ومعروف ما هي الجنابة: إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال: إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها «جماع اللذات» ؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم؛ ولذلك قيل: إنه نور عينيك ومخّ ساقِك فأكثر منه أو أقلل يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت حرّ ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل ما دامت تتم في ضوء
2259
شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم.
﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا الصلاة، بالسكر أو بالجنابة ولم يقل: «لا تصلوا». والصلاة مكانها المسجد، فقول: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً﴾، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول: لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا منه.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ﴾ أي كان عندكم عذر يمنع من الماء. ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط﴾، و «الغائط» هو: الأرض الوطيئة، الهابطة قليلاً، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علماً على قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد: أنا أريد أن أذهب إلى «بيت الماء» ويتساءل آخر أين «دورة المياه؟» وفي هذا بلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة: أنا ذاهب - أعمل زي الناس - يعني أنا لست بدعاً أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ ومن رحمة الله بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء ليقبل عليه الإنسان؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا: أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا نقول لك: هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا، إنّه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي: توضأ فإن لم تجد ماءً فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كَفَّيَّ بالتراب ثم ألمس بهما وجهي؟! نعم؛ لأن المسألة أمر من الله فُهمت علّته أو لم تُفهم؛ ولذلك فالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول:
«أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة
2260
وبعثت إلى الناس عامة».
﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾، أي أن تكون واثقاً أنه ليس عليه نجاسة، ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، المسألة فيها «جنب» وفيها كذا وكذا.. «وتيمم»، إذن فكلمة ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ ليس ذلك معناه أن التيمم خَلَف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس والأذنين.. مثلاً، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق: ما دامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين.
﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، وبعض العلماء قال: ضربة واحدة، وبعضهم قال: ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة؟ لأنه غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ... ﴾.
2261
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2261
بقوله: «ألم تر». والرؤية عمل العين - وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين - والشيء المرئي دليله معه؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مظنون، أيكذب أم يصدق؟ أما المرئي فدليله معه؛ ولذلك قالوا: ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئاً فلا تقل: أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال: دلل على أن فلاناً يلبس جلباباً أبيض وأنت تراه.
إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول: أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنساناً عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسراً أو يشرب خمراً ثم تقول لمن حدثته من قبل: أرأيت من قلت لك عليه، كأن الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «أرأيت» ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «أرأيت» ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يراه بذلك تكون «أرأيت» على حقيقتها، كما يقول له: ﴿أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى﴾ [العلق: ٩ - ١٠].
هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رآه، فتكون «أرأيت» على حقيقتها أم ليست على حقيقتها؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفام «أرأيت» ؛ على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رأى من ينهى إنساناً عن الصلاة ولماذا لم يقل: «رأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى»، لا؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبراً تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له: أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب «أرأيت» لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله: «أرأيت» نقول: أكان ذلك مشهداً لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصراً لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١].
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو حين
2262
يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه «ف ﴿ألم تر﴾ هنا بمعنى أعلمت.
ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله: «ألم تر»
؟. لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له: إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه: «ألم تر» فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك؛ لأنك قد تكون غافلاً فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال: ﴿أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى﴾ [العلق: ٩ - ١٠].
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١].
كأنك تراهم الآن، ف «ألم تر» تعني كأن المشهد أمامك.
إذن فوسائل تأكيد الأشياء: خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل أنها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأنهم أهل الكتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وحينما أرسل الله محمداً جعله ختاماً للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني: أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن
2263
تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد.
إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالاً إقليمياً وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى؛ لذلك كان الحق يرسل رسولاً لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام؛ فلا بد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعاً؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء خاتماً؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خَلْفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون: لقد قالت لنا رسلنا؛ ولذلك قال الحق: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١].
ثم قال: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٨١].
2264
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل؛ ولذلك أكد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم: سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيباً من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يا محمد ﴿إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب؛ لأنه سيقول في آية أخرى. ﴿ْوَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ [المائدة: ١٣].
وما داموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين ﴿أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرفة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل؛ لذلك يقول لنا ربنا: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ﴾ [البقرة: ٨٩].
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب: نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي: إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ إن كفار قريش لم يقولوا: إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها؛ فيقول الحق: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣].
2265
لقد جعلكم الحق شهوداً على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة:
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له: لا أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلاً في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانتظر ماذا ستفعل هذه الكلمة؟. لكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل! وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون: إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا.
إذن أخدموا الإيمان أم لا؟. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاصٍ إنه يقدر أن يطفيء نور الله؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح: يا محمد أنا أعرف أنك مستشرف ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولاً لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء «وهم اليهود» :﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢].
فهم يتساءلون: ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضاً، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل:
2266
﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: ١٤٢].
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق أصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾، لجمعوا بعضهم وقالوا: القرآن قال: إننا سنقول كذا وكذا، فهيَّا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق. لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول:
«إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فالحق سبحانه وتعالى يبيّن: هؤلاء أوتوا نصيباً من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيباً من الكتاب أن يكونوا أول من آمن.
لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشرّ على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يُضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يَضِل في ذاته وهو حرّ، لكن أن يحاول إضلال غيره فهذا كفر مركب. أنت ضَلَلْت وانتهيت، فلماذا تريدني أن أضل؟ لأن الضال أو المنحرف أو الذي ليس على طريق مستقيم إنما يعرف الطريق المستقيم جيداً. ولكن الصعوبة في أنه لا يستطيع أن يحمل نفسه عليه. فإذا ما وجد إنساناً مؤمناً فهو يستصغر نفسه، «لماذا آمن هو وأنا لم أؤمن» ؟
إذن فلا أقل من أن يحاول جذبه في صفه حتى لا يكون هو المنحرف الوحيد، فإذا رأيت مثلاً في بلد من البلاد بعض المنحرفين، ويرون واحداً مستقيماً فهم يتضاءلون أمامه، وينظرون إليه نظرة حقد، ويقولون: لماذا هو مستقيم؟ لا بد أن نسحبه للانحراف.
2267
ولذلك يجب على المستقيمين أن ينتبهوا جيداً إلى أن شياطين الإنس لن تتركهم في طاعتهم، بل إنهم سيحاولون أن يستميلوهم؛ لأنه يعزّ عليهم أنهم لا يقدرون على أنفسهم ويحزّ في نفوسهم أكثر أن يجدوا بشراً مثلهم قد قدر على نفسه واستقام. ولذلك يقولون: هيا نكون كلنا معاً في المعصية حتى لا يرفع أحد رأسه على الآخر. فلنكن كلنا كذابين حتى لا يوجد فينا واحد صادق يذلنا. والكذاب كلما رأى الصادق يشعر أن هناك حربة تنغرز في قلبه!! والخائن ساعة يرى الأمين تكون الرؤية حربة تنزل في قلبه؛ فيريد أن يكون الكل مثله، هذه معنى ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾.
والحق يقول لهم: أنتم أحرار بشرائكم الضلالة وستجدون الجزاء في النار، فلماذا تريدون أن تضلوا الناس؟ إذن فيجب أن ينتبه أهل الطاعة إلى هذا الأمر، وعندما يستهزئ أحد من طاعتهم فعليهم أن يلتفتوا إلى قول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٠].
وهذا ما يحدث إذا رأى بعض المنحرفين واحداً يذهب إلى المسجد أو يصلي، يقولون له: «خذنا على جناحك» ويسخرون منه ويستهزئون، لأنهم ساعة يرونه مقبلاً على الطاعة وهم غير قادرين على أن يكونوا طائعين يتضاءلون أمام أنفسهم؛ لذلك يريدون أن يكون الكل الكل غير طائع، وهذه هي الصورة التي نراها الآن، وعندما يقابل هؤلاء أهاليهم يتضاحكون بسرور من أنهم ضايقوا مؤمناً، ويقولون: قابلنا مؤمناً واستهزأنا به، ويتابع الحق. ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٣٠].
فالله سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن هؤلاء المستهزئين بالدين يتهمون المتدينين بأنهم على ضلال. فإياكم أن تيأسوا أمام هؤلاء، إياكم أن تهزموا أمام هؤلاء لأنني سأنتقم عياناً من هؤلاء، وذلك يأتي يوم الآخرة ويقول الله بعد أن ينزل بهم النكال والعذاب:
﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٦].
2268
فالحق يتساءل ليأتي الجواب على ألسنتنا، والسؤال هو: هل قدرنا أن نجازيهم على ما فعلوه فيكم؟ فاسخروا أنتم منهم، واضحكوا عليهم كما سخروا منكم في الدنيا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ وهم اليهود: ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾، وساعة تسمع كلمة «يشتري» أعرف أن هناك معاوضة ومبادلة، سلعة وثمنا، فيشترون الضلالة بماذا؟ ماذا سيدفعون؟ الحق يقول في آية أخرى: ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦].
أي أنهم دفعوا الهدى ثمناً وأخذوا الضلالة سلعة، وعادة ما ندفعه يضيع من يدنا، وما نشتريه نأخذه لنا. فحين تشتري سلعة بجنيه. فالجنيه يضيع، بعد أن كان معك أولاً، فحين يقول: ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ فهل كان معهم هدى وقدموه وأخذوا الضلالة؟ {نعم، كان معهم هدى الفطرة. فكل واحد عنده هدى الفطرة.
إياك أن تظن أن العقل الواعي ينتظر رسولاً ليدله على الله، إنما هو ينتظر رسولا ليبلغه مرادات الله منه، ذلك أن الإيمان بالله أمر من أمور الفطرة، فالإنسان عندما يتفتح وعيه يجد أشياء في الكون تخدمه، خدمة مستقيمة رتيبة، ولا تتخلف عن خدمته أبداً، هناك شمس تطلع كل يوم، وهواء يمر، أرض عندما تزرعها تعطيك خيراً كثيرا. ألك قدرة على شيء من هذا؟ هل ادعي إنسان مثلك أن له قدرة عليه؟ كل هذه الكائنات أنت تطرأ عليها، ولم تأت بها.
وعندما يولد الإنسان ويرى كل هذه النعم موجودة. ألا يؤمن بأنها من عطاء خالق؟ الإنسان فوجيء عندما ولد بوجود النعم. وأيضاً آدم عندما خلق فوجيء بالنعم موجودة، إذن فهو طرأ عليها، بالله ما دام هو قد طرأ عليها ألا يفكر من الذي أقام هذه النعم له؟ كان لا بد أن يفكر من الذي صنع له كل هذه النعم، وضربنا من
2269
قبل مثلاً بمن انقطعت به الوسائل وهو في الصحراء ولم يجد ماءً ولم يجد طعاماً، ثم يئس فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبلما يأكل ألا ينظر ويفكر ويقول في نفسه: من الذي أعدّ وأقام تلك المائدة؟ أنت - إذن - وارد على الكون بخيره كله، ولا أحد قال لك: أنا الذي فعلته، لا أبوك ولا جدك ولا جد جدك قال هذا، فلا بد أن تنتبه إلى أن له خالقاً.
إذن فالذين اشتروا الضلالة بالهدى، أكان معهم هدى فقدموه وأخذوا الضلالة؟} نعم كان معهم هدى الفطرة، ولذلك حين سئل الإمام علي - كرّم الله وجهه -: أعرفت ربك بمحمد أم عرفت محمداً بربك؟
قال: لو عرفت محمداً بربي ما احتجت إلى رسول، إذن فلا يصلح أيضاً أن يقال لأحد «عرفت ربك بمحمد» ؛ لذلك قال علي كرم الله وجهه: ولكني عرفت ربي بربي، وجاء فبلغني مراد ربي مني.
إذن فقوله: ﴿الذين اشتروا الضلالة﴾ ماذا فعلوا؟ باعوا هدى الفطرة واشتروا الضلالة. وهنا يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة﴾.
ولم يأت ب «هدى» هنا، وهذا يدل على أن الفطرة انطمست عندهم انطماسا بحيث لم يقدموا ثمناً للضلالة من الهدى.
﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ والإرادة هي: أن يرجح الشخص المختارُ حكماً على حكم، ومثال ذلك: أنت أمامك جوربان مثلا، فلك أن تختار واحداً منهما، لكن لو كان أمامك جورب واحد فإرادتك لا ترجح. إن الإرادة ترجح اختيارا على اختيار، وما معنى «تضلوا» ؟ الضلال يطلق بإطلاقات متعددة، فحواها كلها أن هناك أمراً من الحق ليس على بالك، فهل يحدث ذلك لأنك نسيته أو عرفته وتعمدت أن تتركه؟. فالذي نسي هذا الأمر معذور. لكنْ هناك إنسان آخر يعرف هذا الأمر لكنه تعمد أن يتركه، إذن فالضلال يطلق مرة على النسيان كما في قول الحق: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى﴾ [البقرة: ٢٨٢].
2270
فالضلال هنا نسيان لكن هناك من يضل لأنه يفتقد المنهج الحق ويتشوف ويتطلع إليه ليتبعه، كما في قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧].
أي أن المسائل متشعبة على الإنسان فيرى هذا وذاك، فأوضح الحق لك: لا تتعب نفسك لأني سأعطيك السبيل المستقيم. إذن فالضلالة لها معان متعددة، وفحواها جميعاً أنها لا توصلك إلى الغاية، والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض قضية إيمانية عقدية معنوية يستعمل فيها الألفاظ التي يستعملها الناس في الكونيات، ولذلك فما هو السبيل؟. السبيل - عندنا - هو الطريق، وكلنا حتى غير المؤمنين يعرفون أن الطريق يُصنع ليوصل إلى غاية، ولكن لا بد أن نعرف الهدف أولاً وبعد ذلك نرصف الطريق ونعبّده، ففيه فرق بين السبب الدافع والواقع.
نحن قبلما نرصف الطريق نرى إلى أين يذهب؟ إذن فالغاية أولاً وبعد ذلك نلتمس أقصر طريق يوصلنا إلى المطلوب، وعندما نكتشف أقصر طريق يوصلنا للمطلوب نمهده ونعبّده لكيلا نتعب الناس، إذن فالسبيل هو: الطريق الموصل إلى الغاية. ولذلك أوضح لنا الحق أن الطريق إلى الإيمان مستقيم كي لا يأخذ مسافات، فالخط المستقيم هو أقصر الخطوط.
إننا لا بد أن نعرف الغاية قبل أن نعرف السبيل إلى الغاية. وآفة الدنيا وأهلها أنهم يعيشون فيها ولا يعرفون غاياتهم النهائية، إنما يعرفون غايتهم الجزئية، فالطالب يريد أن يتعلم كي يكون موظفا، لكي يتزوج ويقيم أسرة، والتاجر يتاجر لكي يعمل كذا، هذه هي الغايات الجزئية، والذكي هو من لا يذهب للغايات القريبة المنتهية، بل ينظر إلى الغايات الاخيرة، لأن الناس تختلف في الغايات المنتهية، فواحد يعيش خمسين سنة، وآخر يعيش ستين عاماً، وثالث يعيش لمدة سنة، إذن فلا بد أن تنظر إلى الغاية التي سيذهب لها الكل، وآفة الناس أنها تعمل للدنيا، يعني للغايات القريبة، برغم أن «الدنيا» تعني الأقل والأتفه، ولذلك اسمها «الدنيا»، وما دامت «دنيا» إذن فهناك «عليا».
2271
إن تعب الناس يأتي من أنها تعمل للغايات الدنيا؛ لذلك نقول لكل إنسان: انظر الغاية العليا التي سيكون الكل شركاء فيها، والكل لا بد أن يصل لها. فإذا ما عرفنا الغاية العليا نجونا من إرهاق قصر النظر والغرق في الغايات المحدودة، مثلاً: أنت تبعث ابنك ليتعلم من سن الحضانة ثم إلى الروضة ثم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم التعليم العالي ثم يتخصص في مجال معين في التعليم العالي، وتصل سنوات عمره إلى العشرين سنة ليتخرج ويتوظف ويقدر أن يعيش بكده وعرقه، والأب يعمل لهذه الغاية، وقد لا يصل الابن إلى الوظيفة، وقد يُتعب الابن والده ولا يكمل تعليمه وبذلك تفلت منه الغاية. لكن نحن نريد الغاية التي لا تفلت، فأنت الآن تعيش في أسباب خلقها لك الحق، فاجعل غايتك أن تعيش مع الحق.
إنك في الدنيا تعيش مع الأسباب التي خلقها لك الحق، لكنك في الآخرة ستكون مع الحق نفسه. أنت في الدنيا تعيش بالأسباب، ولكنك تعيش في الآخرة بالمسبب، ومهما ارتقت أسبابك. فأنت لن تستطيع أن تصل إلى مستوى رفاهة الآخرة. صحيح أنه إذا ارتقت حياتك في الدنيا فقد تضغط على زر في الحجرة ويأتيك فنجان قهوة، أو تضغط على زر فيأتيك الأكل، ولكن قل لي مهما ارتقت الحياة أيوجد بحيث إذا خطر الشيء على بالك يأتيك؟ لا يمكن، وهذا ما سيكون لنا في الآخرة، إذن فهذه هي الغاية الحسنة، ونحن نعيش في الدنيا مع أسباب الله الممدودة لنا، أما في الآخرة فسوف نعيش مع الله ولذلك أوضح سبحانه: سأعطي المؤمن والكافر الأسباب في الدنيا، فالكافر عندما يزرع يجد نتاجاً، وعندما يبحث في الكون وينظر أسراره فالأسرار تتكشف له؛ لأن الأسباب خلقها الله لمن يأخذ بها سواء أكان مؤمناً أم كافراً. لكن المسبب لا يذهب له إلا من آمن به، أما الكافر فقد آمن بالأسباب فأخذ الأسباب، ولم يمنعها الله منه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
إذن فهل غايتك أن تبقى مع الأسباب أو تذهب إلى المسبب انظر إلى غايتك
2272
الدنيا القريبة، ستجد أنها قد تنتهي قبل أن تصل إليها ويكون تعبك قد ذهب هباء. ولذلك أخفى الله الموت وأسبابه وزمنه كي يختبر الإنسان، فهناك من يحقق كل ما رغب فيه وفي آخر الأمر تنتهي المسألة بالموت، وهو قد أخذ الهباء لأنه لم يؤمن بالمسبب، هب أنه أخذ الدنيا كلها عنده، نقول له: سيأتيك الموت، يعني إما أن تفارق أنت النعمة وإما أن تفارقك النعمة، ولكن في الحياة الآخرة أنت لا تفارق النعمة ولا النعمة تفارقك فهذه - إذن - هي الغاية الحقة، غاية العقلاء.
ومتعتك في دنياك كما قلنا على قدر أسبابك أما متعتك في الآخرة فهي على قدر المسبب، وسبحانه لا يقادر قدره ولا أحد يماثله في فعله. والعاقل هو من ينظر إلى الغاية البعيدة.
إذن فالسبيل لا يمكن أن يكون طريقاً إلا إذا علمت الغاية، والذي يجعل الناس تتعب في الدنيا، أنهم لا يعرفون إلا الغايات القريبة، ولذلك سماها «الدنيا» ولا يوجد اسم أدنى من ذلك لها، وكان يجب أن يوحي هذا الاسم بأنها فانية وهناك باقية. إذن فقبلما ترسم السبيل لا بد أن تحدد الغاية. وبعدما تحدد الغاية تختار السبيل الذي يوصلك للغاية، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين واقع ودافع، الشيء الدافع هو أن تنصب الغاية أولاً وتحددها، فالتلميذ يجتهد كي ينجح، وينجح لكي يأخذ حظه في الحياة، وهذه الغاية لا بد أن توجد في ذهنه قبلما يتعلم، وعندما يتصور النجاح ولذته في ذهنه فهو يبدأ في المذاكرة، وعندما يذاكر يصل إلى الغاية وهي النجاح، فالغاية نوعان: غاية دافعة، وغاية واقعة، فالغاية الدافعة تسبق الطريق، والغاية الواقعة تتأخر عن الطريق، ومن الذي يحدد الغاية؟
إن الذي يحدد غاية كل شيء هو من صنعه، وغايتك أنت من الذي يحددها؟ أنت تحدد الغايات الدنيا، أما الغايات العليا فعليك أن تتركها للأعلى ليحددها وهو الله. وما دام هو سبحانه الذي يحددها لأنك صنعته وخَلقه؛ لذلك تسأله: أنت سبحانك الذي تعلم موقعها فهيئ لنا الطريق الذي يوصلنا لها. لا بد إذن من الإيمان إذا ما كانت الغاية هي أن تعيش مع الحق، والسبيل هو المنهج: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
أي أن سبلكم أنتم لا توصلكم إليَّ؛ لأنكم حددتموها بغاياتكم، أمّا أنا فقد
2273
حددت السبيل بغايتي فمن أراد أن يصل إليّ فلينظر إلى طريقي. وكلمة «السبيل»، و «الطريق» كلها أمور حسية، والحق يستعملها لنا ليدلنا على المعاني العقدية والمعاني المعنوية يوضحها - سبحانه - بأمور حسية أمامنا، وعندما توجد في مفترق طرق وتريد أن تصل إلى المنطقة الفلانية. فانحرافك بمقدار ملليمتر واحد في بداية الطريق، يبعدك عن الهدف، وكلما أمتد بك السير اتسع المشوار وتبعد المسافة، فأنت تتوه، ونمثل لهذا بشيء بسيط جداً: كلنا نركب القطارات، والقطارات تسير على قضبان مستقيمة.
فإذا أردنا أن نحول القطار فنحن لا نرفعه ونضعه على قضيب آخر، بل نأتي بتحويلة لا تتجاوز اثنين من الملليمتر ونقربها إلى حد الالتصاق في القضيب الأصلي، وهذا ما يفعله «المحولجي»، فينحرف القطار لينتظم الخط وليصل إلى المحطة المطلوبة.
ولفتنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ذلك بما رواه سيدنا حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال - أي أن الإيمان فطري - ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.
ثم حدثنا رسول الله عن رفع الأمانة قال:
«ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت - وهو اللسعة التي توجد أثراً على الجلد - ثم ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجْل» (والمجل هو أثر الجمرة التي تظل مدة طويلة على جلد الإنسان فتسبب ورماً فيه مياه - كجمر دحرجته على رجلك فنفط - أي انتفخ - فتراه منتبراً وليس به شيء) فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال: «إن في بني فلان رجلاً أميناً».
ويستمر سيدنا حذيفة قائلاً:
ولقد مر عليّ زمان وما كنت أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه علىّ دينه
2274
ولئن كان نصرانياً ليردنه عليّ ساعيه - أي المحتسب - وأما الآن فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً.
إن الإيمان فطري. إنّ قصارى ما يعطيك هذا الإيمان الفطري أن وراء هذا الكون الدقيق قوة عظمى؛ فالكون المنظم، الرتيب، الذي لا يدخل تحت طاقتك ولا تحت قدرتك، هذا الكون يسير على أحسن نظام. والقوة العظمى القادرة التي وراء ذلك الكون تتصف بالقدرة، وبالعلم، وبالحكمة، وبكل صفات الكمال.
لكن أيعطيك فكرك وعقلك اسم هذه القوة؟ لا يمكن أن يعطي العقل اسم هذه القوة. أيعطيك فكرك وعقلك مرادات هذه القوة؟ إنك لا تستطيع أن تعرف مرادات هذه القوة إلا برسول ترسله ليبلغ عنها. والرسول عندما يأتي تقول: إن القوة التي تبحثون عنها، والتي آمنتم بها إيماناً مجملاً اسمها «الله». فلا بد أن نصدق الرسول. فالعقل لا يقول لنا اسم القوة الخالقة. ولكن الذي يقول لنا اسم هذه القوة هو البلاغ، ويعطينا الحق هذا البلاغ من خلال الرسول بكل مراداته من وجودنا.
وهذا هو أقصر طريق للوصول إلى الحق بعيداً عن تعقيدات الفلسفة أو تعقيدات المنطق، وسفسطة الجدل، هذا الطريق الذي يثبت أن من يعبد أي قوة غير الله لا حق له في مثل هذه العبادة.
فالذي يعبد الشمس مثلاً هل يستطيع أن يقول لنا ما هو منهج الشمس الذي تطلبه من الإنسان؟ وماذا قالت لمن يعبدها جزاءً للفعل الحسن أو عقاباً على الفعل السيئ؟ ماذا تستطيع هذه الشمس أن تفعل لمن لا يعبدها؟. إنها لا تملك ثواباً ولا عقاباً، ولا منهج لها، وإله بلا منهج لا يصلح أن يكون إلهاً. فالإله لا بد له من منهج يدل الناس على صواب الفعل وينهي عن سوء الفعل ويملك سلطان الثواب والعقاب. والشمس لا تملك منهجاً تعطيه، وكذلك الحجر أو القمر.
إذن فهذه الأشياء مخلوقة بدورها من قبل خالق ولا تصلح أن تكون آلهة. ووجود الرسل المبلغين عن الله دليل على صدق الدعوة. فالحق سبحانه وتعالى يعطينا إيماناً بوجوده من خلال المنهج.. ونحن قبل البلاغ نعرف أن هناك قوة خالقة لا نعرف
2275
اسمها ولا مرادها؛ ولذلك فعندما يأتي الرسول بالبلاغ فهذه رحمة من الله بالخلق. أما من يحاول أن يخطط بعقله لحياته بدون الرسول فنقول له: أنت تصيب نفسك وروحك بالتعب ولن تصل إلى شيء. ونضرب هذا المثل دائماً - ولله المثل الأعلى - هب أننا نجلس في غرفة والباب مغلق ثم طرق الباب طارق. هنا نتفق نحن الجلوس في الغرفة في أن وراء الباب طارقاً.
ولكن إذا أردنا تحديد هذا الطارق وتعيينه فسنختلف فيقول قائل: إنه رجل.. ويقول آخر: لا إنه امرأة. ويقول ثالث: لا. إنه طفل. ويقول رابع: هذا بشير. ويقول خامس: هذا نذير. ويقول سادس: إنه القادم لنا بالقهوة. ويقول السابع: إنه رجل مكلف بالقبض علينا.
هكذا نتفق على أن طارقاً بالباب ونختلف في تحديد «من الطارق». وهكذا الكون، الكون وراءه قوة هائلة وعندما يحاول الإنسان أن يقول اسم هذه القوة بعقله أو مرادات هذه القوة فهذا يسبب الخلاف. ولكن حينما ترسل القوة عن نفسها رسولاً ليقول: إن القوة الخالقة اسمها الله ومرادات الله كذا، ففي ذلك حسم للخلاف.
إن الذي أرهق الفلاسفة ووصل ببعضهم إلى دهاليز التيه، هو أن بعضهم لم يكتف بتعقل القوة التي خلقت الكون. بل إنهم أرادوا أن يتصوروا القوة وما هياتها ومراداتها. ونقول: إن نظرة الفلاسفة إلى الخالق لا تصلح؛ لأنهم بتلك النظرة يظلون في التيه، ولكن البلاغ عن طريق رسول هو الذي يحسم هذه المسألة. والحديث الذي رواه لنا سيدنا حذيفة عن الأمانة يصور لنا مهمة الإيمان وكيف يتعلم المؤمن من القرآن والسنة، وعندما يهمل هذا العلم، فما الذي يحدث؟
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمثل لنا مراحل فقدان الأمانة. وينبهنا: احذروا من أن تتسلل الانحرافات بنومة قليلة، ثم إلى أخرى أكبر منها، ثم إلى ثالثة أكبر وأوسع. وشرحنا ذلك بمثل الانحراف المقصود لقطارات السكك الحديدية.
2276
إن قوله الحق سبحانه: ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ كي لا ينفردوا - وحدهم - بالضلال، والحق سبحانه يعطينا مناعة ضد كلامهم، فهم لهم حظّ من علم الكتاب وهذا قد يجعلنا نحسن الظن بأن لهم صلة بالسماء؛ لأنهم أتباع رسل، فسبحانه يوضح لنا: هؤلاء يريدون أن تضلوا السبيل ويتخذوا من نصيب الكتاب الذي عندهم وسيلة كي يضلوكم.
وفي عصرنا نجد أن أعدى أعداء أي عقيدة ليسوا أعداءها الظاهرين وإنما أعداؤها من أنفسهم. لأن عدوّي الظاهر الكافر يجابهني وأنا واثق أنه يريد أن يدس لديني ويدلس ويحرف فيه، لكن عندما يكون هناك مسلم مثلي يأتي ليكلمني فربما آخذ كلامه على أنه مسلم؛ ولذلك فخصوم الإسلام يئسوا أن يواجهوا الإسلام مواجهة صريحة؛ ولذلك نجد الغرب قد توقف الآن عن مسألة الاستشراق، وما بقي من الاستشراق فهذا هو القديم. وكان المستشرق من هؤلاء يؤلف كتاباً؛ ساعة يقرأه المسلم قد يقول: إنه رجل يعمل على خدمة العلم وعلى خدمة الثقافة، وخدمة سنة رسول الله. وقد يكتفي هذا المؤلف بأن يدس في الكتاب الواحد فكرة واحدة بعد أن يجعل القارئ يثق فيه.
وعندما علموا أننا فطنا لهذا دخلوا علينا بالمستغربين. وهم أناس منا ذهبوا إلى الغرب فأخذوا الداءات من هناك وجاءوا فبثوها في مناهج تعليمنا، وفي برامجنا، وفي وسائل الإعلام، وفي الصحافة، والواحد من هؤلاء المستغربين يفعل ذلك وهو مسلم، فيكون محل ثقة، ووجد الغرب أيسر طريق لهم الآن أن يدخلوا إلينا عن طريق بعض المسلمين الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأن الإنسان سيكون مطمئناً إلى أن هؤلاء مسلمون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا: أن خصومك الظاهرين أهون عليك من خصومك المنسوبين إلى دينك؛ لأن هؤلاء يدخلون عليك بالثقة الأولى، ثقة انتسابهم للإسلام؛ ولذلك يوضح لنا ربنا هذا الأمر لأنه قد يتعب ويصيب المؤمنين بالعنت لذلك يقول: ﴿أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾. وهم يعيشون على هذه.
2277
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ... ﴾.
2278
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال: أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا؛ لأنه قد يكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العدوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون؛ لذلك يقول: ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾.
وجاء بها بعد قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ أي مخافة أن نقول: إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. وما دام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها: ﴿وكفى بالله وَلِيّاً﴾ وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليّاً بعد ذلك، كما يقولون: كفاني فلانٌ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول: لكنَّ فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
﴿وكفى بالله وَلِيّاً﴾.. نعم كفى به وليّاً لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢].
و «الولي» دائماً هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. ﴿وكفى بالله نَصِيراً﴾ إذن فهناك قريب، وهناك أيضاً نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله وليّ ونصير، فما دامت المسألة مسألة معركة ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً﴾، كأن الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس
2278
النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا: إياكم أن تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا؟ لا تقولوا ذلك؛ لأن الله أعلمنا: أنا أنصركم بالرعب بأن أُلْقِيَ في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. وما دام سينصرنا بالرعب فهذه كافية؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب؛ يلقي عدوى سلاحه وأنا آخذه؛ ولذلك قال: اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل: أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله﴾ [آل عمران: ١٥١].
وما دام ألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ... ﴾.
2279
تكلم الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح: أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي «آدم» وبعد ذلك خلقت منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيراً ونساء، والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك؟ أوضح سبحانه: أريد مجتمعاً قوياً، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك ما دمت أريد استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيباً، وتكلم - سبحانه - عن التركة، ثم تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملاً؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعاف فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بدأن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسهم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه: أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام: ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً﴾، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه - سبحانه - يرجع بنا مرة ثانية لليهود؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا: أن هناك ناساً ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، فإياكم أن تكونوا كذلك. واعلموا أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً، ويعلمون مثلكم تماماً، إنما اشتروا الضلالة، إذن فهو شَرَح لنا؛ إنّه الواقع الملموس ولا يأتينا - سبحانه - بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول: يحدث أو لا يحدث، إنّه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا: إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال: ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ والتحريف: أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين: معنى خير، ومعنى شرّ، ولكنك تريد منه الشرّ، مثل الذي يقول: «السام عليكم» - والعياذ بالله - «هي في ظاهرها أنه يقول: السلام عليكم، لكنه يقول: السام. يعني» الموت «، إذن ففي اللفظ ما يُلحظ مَلحظً الخير، ولكن العدو يميله إلى الشرّ.
2280
ومثل هذا ما قالوه للنبي:» قالوا راعنا «وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر: اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على الكلمة التي تحتمل التوجهين؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها شرّاً، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا.
والمثال على ذلك: الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قَباء - وكان الخياط كريم العين - أي له عين واحدة - فلم يُعجب الرجُل بِخياطة القَباء فقال: والله ما دمتُ أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس، فقال:
خاط لي عمرو قَباء... ليت عينيه سواء
فقوله: ليت عينيه سواء يظهر ماذا؟. هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحداً من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليّاً - كرم الله وجهه وآله - وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب: اعفني.
فقال الوالي: لا، عزمت عليك إلاَّ فعلت.
فقال له الخطيب: إن كنت عزمت على إلاّ فعلتُ، فسأصعد المنبر وأقول: طلب مني فلان أن أسب عليّاً فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له: لا تقل شيئاً. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.
والحق يقول: ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة
2281
إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة: ﴿يشترون الضلالة بالهدى﴾ ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول: ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: ٤١].
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾، فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع - أولا - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾. فهم يقولون قولاً مسموعاً «سمعنا» ثم يقولون في أنفسهم «إنّا عصينا». فقولهم: «سمعنا وعصينا» ففي نيتهم «عصينا»، إذن فقولهم «سمعنا» يعني سماع أذن فقط. إنما «عصينا» فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سِرّاً أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، «واسمع غير مسمع» ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم: «غير مُسْمع» ما يسرّك، أو «غير مسمع» أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له - معاذ الله - الصمم، وقد تكون سباباً من قولهم: أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل.
2282
﴿واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ لم يقولوا: «راعنا» من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا. اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و «اللي» : هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين﴾، وما داموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرّاً، لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يرد؟.. إنه يريد ﴿وَطَعْناً فِي الدين﴾، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا﴾، وبدلاً من إضمار المعصية يقولون: ﴿وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا﴾ بدلاً من «راعنا»، ف «انظرنا» لا تحتمل معنى سيئاً.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شرّ. فلو قالوا سمعنا وأطعنا ﴿واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن﴾، وساعة تسمع كلمة «لكن» فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ﴾، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ و «اللعن» هو: الطرد والإبعاد، فهل تجنىَّ الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. وساعة تسمع نفي حدث «لا يؤمنون» ثم يأتي استثناء «إلا»، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلاً لا يأكل إلا قليلاً، كلمة «لا يأكل» نفت الأكل، «وإلا قليلاً» أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. والإيمان حدث يقتضي محدثاً
2283
هو: من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، وصالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ تعني: فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً؛ لأنهم يؤمنون قليلاً بالصلاة، وبأنهم لا يعملون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلاً فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضاً أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم قليلاً بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتُلى القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، أو آمن قليل منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبد الله بن سَلاَم، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صُورْيَا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضاً «قليلاً منهم» هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضاً أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه «صيانة الاحتمال» ؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز - وهذا ما حدث - أن هناك أناساً من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال: «فلا يؤمنون» فقد لكان من الصعب عليهم أن يعلنون الإيمان - لكن عندما يقول: «إلا قليلاً» فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين... ﴾.
2284
نعلم أن كل التشريعات التي جاءت من السماء لا يوجد فيها تضارب؛ فالمشرع واحد. ولن يشرع اليوم شريعة ثم يأتي رسول آخر يشرع شريعة أخرى جديدة. فأصول الاديان كلها التي جاء بها ركب الرسالات واحدة، ولا تختلف إلا في بعض الأحكام التي تتطلبها ظروف العصور، وفي التشريع الواحد تتطور الأحكام وخصوصاً ما يتعلق بالعادات. وما كان الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده يأتي المسألة من المسائل تعرض الناس فيها لعادة فتمكنت منهم تلك العادة، وأصبحت تقودهم أن يفعلوها ثم يأتي لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج إلى التعود فالحق يتلطف في أن يخرجها خروجاً ميسوراً، بمعنى أنه يجعلها مرحليات كي لا توجد فجوة الانتقال.
ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال: مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له: اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين، وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلاً من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءاً من الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾. فالحق يوضح: لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل: ما دامت مما عندهم فما الداعي لها؟. نقول: لأن هناك جديداً في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة،
2285
ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء؛ بالمعجزة بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف.
﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ إلزام لهم بالحجة، وتعني: نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه؛ لأنه يقول: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ إنّهم يعلمون ما معهم جيداً، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما عندهم، فإن وجدوه مصدقاً لما عندهم فقد انتهت المسألة.
ثم انظر إلى التهديد ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ سبحانه يناديهم: بادروا، كما نقول مثلاً: «الحق نفسك وآمن» ويقول الحق: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾. والطمس هو: المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي مُحي بعدما كان شيئاً مميزاً، وكلمة «وجوه» وردت في القرآن بمعانٍ متعددة، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو «الوجه» كما في قوله:
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦].
ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى: ﴿بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢].
و «أسلم وجهه» تعني قصده ووجهته ونيته.
إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما العلاقة بين القصد، والنية، والوجه؟. لأن الإنسان إذا قصد شيئاً اتجه إليه بوجهه، وسار له. إذن فالوجه يطلق على هذه الجارحة «الوجه»، ويطلق على القصد والنية. وما دام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان.
2286
وقوله: ﴿نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ لأنه سبحانه أوضح: أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم، بشكلها: حواجب، وعينين، وأنفاً جميلاً، وفَماً، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن: أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا بقوله: «وجوهاً»، الوجه الذي في البدن.
وإن أردنا بالوجه «القصد» نقول: الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون ان تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون: «راعنا»، والذين يقولون: «اسمع غير مسمع». أليس لهم وجهة؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم؟
إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن اتباع محمد، فكأنه يقول لهم: بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه مِنْ صدكم عن الإيمان برسول الله، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال: والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يُطْمس وجهي.
وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ. وفي عهد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفاً أن يُطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ.
وقد يقول قائل: ولكنْ منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول: أهو قال سنطمس الوجوه فقط؟ لا، بل قال أيضاً: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾ ويكفي أن هناك أناساً اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2287
أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود فيَّ شرّاً فقبل أن أُسلم أسألهم عني، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحبار اليهود: ماذا تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فقالوا: هو ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام: يا رسول الله ألم أقل لك: إنهم قوم بهت.
فقد روى «أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول شرائط الساعة؟ وما أول طعام ياكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال عليه السلام:» أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته «فقال: أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر» قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾.
﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ فإن أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سَلام وكعب الأحبار، هذا ذهب إلى رسول الله
2288
وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس، إذن فقوله: ﴿نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ أي نجعلها مثل «القفا» مجرد قطعة لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله.. ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا، فيقول الحق:
﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٧].
ما داموا هم قد كفروا نقول لكل منهم: ألم تكن تريد أن تكفر؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضاً قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠].
فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك ﴿فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾ وسبحانه يخاطب اليهود، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً عظيماً. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد يسبقه رصيد.. أنتم - يا معشر يهود - تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم ﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى، و «السْبت» وهو السكون والراحة، ومنه السُّبات أي النوم، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح.
﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾، واللعن قالوا فيه: إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه: إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون: أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم: أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه - واللعن - إذا كان
2289
معناه الطرد - كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طارداً، ويقتضي مطروداً ويقتضي مطروداً منه.
ومن الذي يَطْرد؟.
ومن الذي يُطرد؟
وعن أي شيء يُطرد؟.
حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له؟. تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أنّ ابنك مثلاً صنع شيئاً وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له: اذهب عند أمك، هذا طرد.
وإذا كان ذنب الابن كبيراً ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يُحتمل فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي؛ لأننا سبينا نساءهم وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات، وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم، ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه.
وحين يقول الحق: ﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾ فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد، يوم الأحد يعني واحداً ويوم الاثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس، ففيه خمسة أيام بأعداد موجودة إلا يومين اثنين لم يؤثر فيهما العدد: يوم «الجمعة
2290
ويوم» السبت «، وهذان اللفظان أخذا معاني غير العددية، ولكنهما يأخذان معنى العددية بالبعدية أو القبلية.
يعني عندما نقول مثلاً»
الخميس «فيكون يوم الجمعة يعني» ستة، إنما لم يقل «ستة» وقال «الجمعة» ويوم «السبت» يكون سبعة، إذن فأنت تستطيع أن تصنع العدد البعدي بعد الأعداد: واحد. اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، لكننا نجد أن لهما اسمين مختلفين؛ لأن في كل واحد منهما حدثاً غلب العددية. ف «الجمعة» للاجتماع، فتركنا كلمة «ستة» وأخذنا بدلا منها «الجمعة»، و «السبت» للسكون؛ لأن مادتها في اللغة: سبت يسبت، أي سكن وهداً ولم يتحرك، مثل قول الحق: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً﴾ [النبأ: ٩].
أي سكوناً وهدوءاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يريد ابتلاء بعض خلقه ليعْلَم منازلهم منازلهم من الإيمان واليقين والانصياع لأوامر الحق، يأتي فيحرم حدثاً في زمن وهو مباح في غير ذلك الزمن، فقد يحرم الصيد في أحد الأيام وكان مسموحاً بأن يصطادوا في كل يوم. وكانوا يأتون بالسمك كرزق من البحر، فجاء في هذا اليوم خصوصاً وقال لهم: لا تصطادوا في هذا اليوم، أي أن يسكنوا عن الحركة، هذا هو «السبت» بمعنى السكون، و «أصحاب السبت» هم الجماعة الذين اجتمعوا على حادثة تتعلق بالسبت أو تتعلق بالسكون، أي تتعلق بعدم العمل وبعدم الحركة، وقضية أصحاب السبت شرحها الحق وتكلم عنها إجمالياً في سورة البقرة: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت﴾ [البقرة: ٦٥].
وقوله هنا: ﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾، لكن القصة بالتفصيل ذكرها الحق سبحانه وتعالى وقال مخاطباً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله الآمر، والرسول هو الذي سأله الله أن يسأل، والمسئولون هم أصحاب الحكاية وهم اليهود، وحين
2291
يطلب الحق خبراً مؤكداً من الأخبار، قد يلقيه خبراً فيصدقه أهل اليقين الذين يثقون في الله ويصدقونه، وقد لا يتركه خبراً، بل يأتي به في صيغة الاستفهام؛ لأنه واثق أن المستفهم منه لا يجد جواباً إلا الحق الذي يريده سبحانه وتعالى، وعندما يقول ربنا لنبيه: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾
[الأعراف: ١٦٣].
ذلك حدث لا يستطيعون إنكاره، وكان من الممكن أن يقص الله الحدث من عنده، ولكنه يريد أن يوثق الحدث توثيقاً لا يحتمل إنكار منكر ولا مكابرة مكابر، فأوضح: أنا لا أقول عن الحدث، ولكن يا محمد اسألهم أنت عن هذه الحادثة فسيكون جوابهم جواباً مطابقاً لما حدث؛ لأنها مسألة واضحة لا تنكر.
﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾. والقِرَى هو أن تكرم واحداً مقبلاً عليك كضيف مثلاً. ولكن ليس عندك ما يعطيه «قرى كاملاً» أي ما يقيم حياته لأيام أو شهور، بل عندك «قَرْيَة واحدة» أي أكلة واحدة تكفيه لوجبة واحدة، فما دام قد مر عليك فأنت تعطيه قرية واحدة - وجبة واحدة - فإن كانت البلد «أم القرى» : فيكون فيها حاجات كثيرة؛ أو لأنها أعظم القرى شأناً والقَرْية التي جاء ذكرها في سورة الأعراف يتم تعريفها بأنها: «حاضرة البحر» والحاضر هو القريب. فيقال: حضر فلان أي أصبح على مقربة مني، و «الحاضرة» أيضاً هي: التي إن طلبت فيها شيئاً وجدته، كما قال شوقي - رحمة الله عليه:
ليلي بجانبي كل شيء إذن حضر.
فكذلك «الحضر» معناه: أن كل حاجة فيها موجودة، أما البادية فحاجاتها تكون على قدر أهلها فقط، ولذلك ف «حضر» ضد «بادية» وأخذوا منها «الحواضر» مثل العواصم الآن، إذن فقوله «حاضرة البحر» تأخذها بمعنى قريبة
2292
من البحر، أو أنها هي البلد المتحضر على البحر، أو الجامعة لأنواع الخير على البحر، وهي التي كانت بين «مدين» و «الطور» واسمها «أيلة».
وقصتهم: أن الله أراد أن يبتليهم بشيء وهو: تحريم الصيد في ذلك اليوم، وما دامت «حاضرة البحر»، فرزقهم على الصيد، فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم، ولكن الله حين يريد أن يحكم الابتلاء ليعلمَ علم إبراز لخلقه مدى تنفيذهم للابتلاء، وإلا فهو عالم ماذا سيفعلون. فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم. قد يقول قائل: لماذا حرم هذا الحدث في ذلك الزمن؟. نقول له: أنت تريد أن تعلم من الله أن كل تحريم له مضارة، نقول لك: لا، فقد يكون تحريم ابتلاء واختبار، ولذلك قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠].
«الطيبات» هي الحلال، لكنهم هم فعلوا ما يستحقون عليه العقاب، فقلنا لهم: ما دمتم تجاوزتم حدودكم وأخذتم ما ليس حلاً، فجعلتموه حلاً فلا بد أن أجعل من الحل الذي هو لكم حراماً عليكم، هذه مقابل تلك، فلماذا اجترأت على محرم فأحللته؟ وما دمت قد فعلت ذلك ولم ترتض تحليلي وتحريمي فأنا سآخذ شيئاً من الذي كان حلاً لك وأحرمك منه.
إذن فلا يتطلب من كل تحريم أن يكون فيه مضارة، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون الإيمان له أصول ثابتة، ولذلك يقول: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والأخرة ذلك هُوَ الخسران المبين﴾ [الحج: ١١].
إذن فالحق لا يريد من الناس أن يعبدوه على حرف.. أي على طرف من الدين بل في وسطه وقلبه.. أي أنهم على قلق واضطرابات في دينهم لا على سكون وطمأنينة، كالذي على طرف العسكر والجيش.. فإن أحسٍّ بظفر ونصر وغنيمة سكن واطمأن، وإلاِّ فرّ وطار على وجهه. هو يريد منك إيماناً حقاً، ولذلك فبعض الناس
2293
يقول: سأزكي لأزيد من مالي. نقول له: اخرج من بالك ظنك أن مالك سيزيد، بل أنت تزكي لأن الله طلب منك أن تزكي. أما أن يزيد مالك فهذا شيء آخر، فلعل الله يبتلي إيمانك ويريد أن يرى: أأنت مقبلٍ على الحكم لأن الله قاله، أم لأنه سيعطيك ربحاً زائداً؟ وسبحانه حين يعطي ربحاً زائداً ستزكيه أيضاً، لكن هو يريد من يقبل على الحكم لأنه سبحانه قد قاله.
وقد حرم الحق سبحانه وتعالى عليهم الصيد يوم السبت بظلم منهم، وكان من الجائز جداً ألاَّ يكون هناك مغريات على المخالفة، ولكنه أراد أن يبلوهم بلاءً حقاً فيأتي في اليوم المحرم فيه الصيد ويُكْثِر من السمك، ترى السمكة ظاهرة مثل شراع المركب، وهذا معناه إغراء بالمخالفة، فلو لم يظهر السمك في هذا اليوم لكانت المسألة عادية، لكنهم حين ينظرون السمك وقد «شرع» مثل المراكب سابحاً في الماء، ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾.
إذن فالابتلاء جاء من أكثر من زاوية: يوم سبتهم تأتي الحيتان شُرَّعاً، وفي غير يوم السبت لا تأتي، وهذا الأمر يجعلهم في حالة قلق. فلو كانوا على اليقين والإيمان لالتزموا بالأمر.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحصهم التمحيص الدقيق، فماذا هم فاعلون؟ هم يريدون أن ينفذوا الأمر، إنما طمعهم المادي يصعب عليهم ألا يصطادوا هاذا السمك الذي يأتيهم يوم السبت، ولو أنهم وثقوا بعطاء الله في المنع لنجحوا في الاختبار. ذلك أن الحق قد يجعل في المنع عطاء، لكن مَن الذي يتنبه لذلك؟
لم يقولوا: ما عند الله خير من هذا السمك الشُّرع الذي يأتينا ويلفتنا. لكنهم احتالوا حيلاً، مثلاً: صنعوا من الإسلاك والحبال «مصايد» و «جُبًى». و «ملاقف» يحجزون بها هذا السمك الشُّرع في الماء ثم يأتون في اليوم التالي فيجدونه محبوساً، وظنوا أنهم بذلك احتالوا على الله ولم يتفهموا معنى الصيد، فالصيد هو جعل السمك في حيازتك، وما دمت قد عملت بحيث تتمكن من حيازة السمك في أي وقت تكون قد اصطدت.
إذن فهم يحتالون على الله؛ ولذلك قال سبحانه:
2294
﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٤].
وهذا دليل على وجود عناصر خير فيما بينهم، وقالت عناصر الخير: اتقوا الله. فقال لهم آخرون: لِمَ تعظون قوماً لله مهلكهم، إذن فهناك ثلاث جماعات: جماعة خالفوا، وجماعة أرادوا أن يعظوهم كي لا يقعوا في المخالفة، وجماعة لاموا من يعظونهم وقالوا: دعوهم ليهلكهم الله أو يعذبهم.. «الله مهلهكم أو معذبهم عذاباً شديداً»، فقالت الجماعة التي تعظ: نحن نريد بالوعظ أن يكون لنا عذر أمام الله بأننا لم نسكت على المنكر ونحن نعمل لأنفسنا. «قالوا معذرة إلى ربكم» وأيضا فلعلهم يتقون ربّهم بترك ماهم فيه من المعصية والفسق. فماذا حدث؟.. يقول الحق: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٥].
وما دام قد قال: «أنجينا»، فهناك مقابلها وهو «أهلكنا»، إذن فجاء هنا «اللعن» بمعنى الهلاك.
ويختم الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ نعم لأن الحق سبحانه وتعالى بقدرته الشاملة وصفات جلاله الكاملة، لا يتخلف شيء في
2295
وجوده عن أمره، فإذا وعد بشيء فلا بد أن يحدث، فأمر الله غير أوامر البشر، فأوامر البشر هي التي تتخلف أحياناً سواء أكانت وعداً أم وعيداً، لأنك قد تعد إنساناً بخير، ولكنك ساعة آداء الخير لا تستطيعه، فتكون قدرتك هي التي تحتاج إلى أداء الخير. أو توعد إنساناً وتهدده بشرّ، وستعمل فيه كذا غداً، وقد يأتيك غداً مرض يقعدك فلا تستطيع إنفاذ وعيدك.
إذن فأنت قد لا تستطيع إنفاذ شيء من وعدك ولا شيء من وعيدك؛ لأن قدرتك من الأغيار، وما دامت قدرتكم من الأغيار فقد توجد أو لا توجد. لكن الحق سبحانه وتعالى إذا قال بوعد أو قال بوعيد أيوجد شيء يغير هذا؟ لا. إذن فساعة يقول ربنا بوعد أو وعيد فاعرف أن هذا سيحدث في الوعد، أما في الوعيد فإن الله قد يتجاوز عنه كرما وفضلا ما عدا الشرك بالله.
ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى يوزع الأحداث على الزمن، فلا زمن يقيده؛ لأنه يملك كل الزمن، أما أنت كواحد من البشر فتتكلم عن الحدث حسب زمانه. فإن كان هناك حدث قد حصل قل أن تتكلم أنت عنه، فتقول: فعل «ماض». أي أن الحدث قد وقع في زمن قبل زمن تكلمك، وإن كان الحدث يقع في وقت تكلمك، كان الفعل «مضارعا»، والمضارع صالح للحال وللاستقبال، تقول: فلان يأكل.
وذلك يعني أنه يأكل الآن. وإن قلت: «سيأكل» - أي أنه سيأكل بعد قليل، فإذا قلت عن أمر مستقبل إن هذا الأمر سيحدث، أتملك أنت أن يحدث؟ لا. إذن فالكلام منك على الاستقبال قد يكذب وقد يصدق، لكن إذا قال الحق وأخبر عن أمر مستقبل وعبّر عنه بالفعل الماضي فمعنى ذلك أنه حادث لا محالة؛ ولذلك فالزمن عند ربنا مُلغى.
وعندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١].
«وأتى» هذه فعل ماض، وقوله: «أتى» يدل على أنه أمر قد حدث قبل أن يتكلم، وقوله: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ دلّ على أنه لم يحدث، فالذي يشكك في القرآن يقول: ما هذا الذي يقوله القرآن. ؟ يقول: «أتى» وهو لم يأت؟.. نقول له: هذا الكلام عندك أنت. لكن إذا قال الله: إنه «أتى» فهو آتٍ لا محالة، فاحكم
2296
على الحدث المستقبل من الله على أنه أمر كائن كما يكون كائناً ماضياً، ما دام قال فلا رادّ لأمره. ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ فهي تعني سيأتي. ولا توجد قدرة في خلقه تصرف مراده أو تعجزه عن أن يفعل.
وقوله سبحانه: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ جاء لأنه قال من قبل «أو نلعنهم» هذه مستقبل. وقد يقول قائل: أن «نلعنهم» تعني أن اللعنة لم تأت وقد لا تحدث، ونقول: لا؛ لأن أمر الله كان مفعولاً، فإياك أن تأخذ «نلعن» هذه التي للمستقبل كي تطبقها عند ربنا، لأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لك: أنت الذي عندك المستقبل، والمستقبل قد يقع منك أو لا يقع؛ لأنك لا تملك أسباب نفسك، تقول: سأعمل الشيء الفلاني غداً. وقد يأتي غداً وتكون أنت غير موجود هذه واحدة، أو تقول: سأقابل فلانا. وفلان هذا قد لا يكون موجوداً فقد يموت، أو قد يتغير رأيك ويأتيك الشيء الذي كنت تطلبه قبل أن تتكلم مع ذلك الإنسان، أو قد تقول: أنا سأنتقم من فلان، وعندما يأتي وقت الانتقام يهدأ قلبك.
إذن فأنت لا تملك شيئاً من هذا، فلا يصح أن تجادل؛ ولذلك يعلمنا الله الأدب مع الأحداث ومع الكون ومع المكون، ويخرجنا عن أن نكون كذابين فيقول لرسوله: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
يعلمك الحق ذلك حتى لا تكون كذاباً، فإن قلت: أنا فاعل ذلك غداً ثم لا تفعله، وما دمت لا تفعله فتكون كذاباً مجترئاً؛ لأنك افترضت في نفسك القدرة على الوجود.
وكل حدث من الأحداث مثلما قلنا: يحتاج إلى «فاعل»، ويحتاج إلى «مفعول» يقع عليه، ويحتاج إلى «زمن» ويحتاج إلى «سبب»، ويحتاج إلى «قدرة» تبرزه في المستقبل، قل لي بالله عليك: ماذا تملكه من عناصر الفعل؟
أنت لا تملك وجود نفسك ولا تملك وجود المفعول ولا تملك السبب، ولا تملك
2297
القدرة، ولا تملك شيئاً، فأدباً منك عليك أن تقول: «إن شاء الله» فإن لم يحدث تقول: أنا قلت إن شاء الله وهو لم يشأ، فتكون قد خرجت من التبعة، ولم تكن كذاباً.
إذن فقول الحق: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ لأنه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾. و «نلعن» هذا فعل مضارع ويأتي من بعد ذلك، فواحد قد يقول: إنه سبحانه قال: سيلعن، فهل ستحقق اللعنة؟ نقول له: نعم؛ لأنه قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾. وكذلك ساعة تقرأ أو تقول: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾. فعليك أن تضيف: ولا يزال غفوراً رحيماً، لأن صفة الرحمة لم توجد له ساعة وجد المرحوم، لا. بل معنى «رحيم» أنه سبحانه يرحم غيره والذي وُجد ليتلقى رحمته سبحانه إنما جاء بعد أزليَّة رحمة الله ومغفرته. فسبحانه أزليّ قديم. والصفة أزلية وقديمة بقدمه - سبحانه قبل أن يوجد من يرحمه، وهو لا تأتيه أغيار. وما دام سبحانه رحيماً قبل أن يُوجِدَ مرحوماً له فإذا أوجد مرحوماً له، أتنحلّ الصفة أم تبقى؟ إنها باقية دائماً فكان الله ولا يزال غفوراً رحيماً، ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ نعم، لأنه قد يفعله بأسبابه وقد يفعله بدون أسباب فالأمر متروك لمشيئته فإما أن يوجد الشيء من غير سبب أو يوجده بسبب، والشيء الموجود بالسبب مخلوق بالمسبب فسبحانه خلق الأسباب.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عقدية أساسية في صلة الإنسان بالحق سبحانه وتعالى. يقول: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ... ﴾.
2298
هذه من أرجي الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما موجبات الإيمان؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2298
«من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».
وعن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة».
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضاً. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنّه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضاً خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح: أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف:
«أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة».
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) »
2299
ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر.
لقد كان أبو ذر غيوراً على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله: على رغم أنف أبي ذر؛ هل هذه أحزنت أبا ذر؟ لا لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها؟ فلا بد أن يكون لها تمييز.
وكل جريمة موجودة في الإسلام - والحق سبحانه قد جرمها - فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك.. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨].
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح: من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، الجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر».
أي أن ربنا قد جعل أبواباً متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الإنسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل م كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك: لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلاً من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة هل أنتم زدتم له صفة؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوماً عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئاً، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله.
2300
ما مصلحتها بالنسبة لله؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة؛ لأنك قد تصلي فرضاً فرضاً في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد أن تجتمع مع غيرك، لماذا؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له: لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد الله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعاً بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولا عبودية لأحد عند أحد، فقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾.. هذا لمصلحتنا.
﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشيٌّ وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال رسول الله: «أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله حتى نزلت: ﴿والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٧٠]
2301
فتلاها عليه فقال: أرى شرطاً فلعليَّ لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت:
﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: ٤٨].
فدعا به فتلاعليه قال: فلعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ [الزمر: ٥٣].
فقال نعم: الآن لا أرى شرطاً فأسلم.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، وما دام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحداً شهد زوراً، افرض أن واحداً ارتكب ذنباً، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له: يا شاهد الزور؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنباً عندك؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا؟ لكيلا يذلّ الناس بمعصية فعلت، بل العكس؛ إنّ أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول: إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كُتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ و» الافتراء «هو الكذب المتعمد. لأن
2302
هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كأن يقول لك: فلان زار فلاناً بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثر للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذباً فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه: ﴿افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول: لا تقل إلا ما تعرفه فعلاً وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة - والعياذ بالله - أي أن هناك أحداً آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحداً يقول: لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلهاً غافلاً، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول: لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، ف «لا إله إلا الله» حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله: أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضاً. «إثم عظيم»، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، «الإثم العظيم» هو الذي يُخلّ قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عوْداً على هؤلاء اليهود: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين... ﴾.
2303
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: «ألم تر»، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعْلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول: «أَلَمَ تَرَ» يعني: ألم تعلم، وكأن العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ و «التزكية» هي أولاً: التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكُّوا بها أنفسهم أنهم قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ [المائدة: ١٨].
يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئاً؟ إذا كنتم تكذبونها على مَن يملك لكم كل شيء وهو الله - سبحانه - فما لنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضاً: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١].
وتلك أيضاً قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة؟. نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة زورقاً ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوي متوسط الموهبة على قيادتها هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهماً وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلاً منه، هذه تزكية
2304
للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف!! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علماً. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز - شفرة - الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾، و «أضغاث» مفردها «ضغث» وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنفصفوا فقالوا:
﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: ٤٤].
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك: لا أعلم فقد أفتى، فما دام قد قال: لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل لكن سواه، إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال: لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا: أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوا لأنفسهم أيضا وقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ﴾، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٦].
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام؟ لقد قالا وأوضحنا العلة: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦].
2305
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حَزَبَهما واشتد عليهما أمرٌ يتعلق بذاتهما قالا: لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها: إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حَزَبهما أمر قالا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر: لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مرادة هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما: وماذا رأيتما من إحساني؟ إن عندي أشياء كثيرة: ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾ [يوسف: ٣٧].
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل أنه قال: ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي﴾ [يوسف: ٣٧].
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردّها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [يوسف: ٣٧].
وبعد ذلك قال: ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [يوسف: ٣٨].
2306
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩].
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زَكَّى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقرباً مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولاً في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخباراً لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.
. فقال للملك: ﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض﴾ [يوسف: ٥٥].
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥].
لأن هذه المسألة تحتاج حفظاً وعلماً، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضاً عندما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم الغنائم، قال له المنافقون: اعدل يا محمد! فيقول لهم: والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة؟ أولاً: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند
2307
من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق: ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى﴾ [النجم: ٣٢].
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: ٤٩].
إنّ الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحداً يتصنع ويتكلف في نفسه مدّة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته، عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا. فعل الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم «لا يظلمون فتيلا» وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولاً عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم «النخل» وهي الشجرة المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟
فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة»
قال عبد الله فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2308
«هي النخلة» قال عبد الله: فحدّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا «.
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفاً و»
مقاطف «و» كراسي «.
وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالاً على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ و «الفتيل»
من «الفتلة» ومن معناها: الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض «الوساخات مِثل الفتلة»، أو «الفتيل» هو: الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، جاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
ب «الفتيل» هنا، وجاء ب «النقير» : وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب «قطمير» : وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و «النقير»، و «القطمير».
والحق يقول: ﴿فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ [النساء: ٥٣].
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالاً يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضاً أمثالا من السماء فيأتينا بمثل: «الهلال»، يقول في الهلال وهو صغير: ﴿كالعرجون القديم﴾ [يس: ٣٩].
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه «العرجون»، والعرجون عندما يكون جديداً يكون مستقيماً، لكنه كلما
2309
قَدُمَ ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالاً له في الأرض «كالعرجون القديم»، والعرب قد أخذوا أمثالاً كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يُتنبه إليها مثل قول العربي:
وغاب ضوء قُمَيْر كنت أرقبه... مثل القُلاَمَة قد قُدَّتْ من الظُّفر
فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال:: «كالعرجون القديم» إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالاً لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ... ﴾.
2310
وقول الحق ﴿انظُرْ﴾ هي أمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل خطاب لرسول الله هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن «الافتراء» : كذب متعمد ﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
وقولهم: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١].
2310
﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً﴾، لماذا؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب على إله فهذه قحة؛ لذلك قال الحق: ﴿وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً﴾.
إذن فالكذب مطلقاً هو إثم والكذب المبين: هو الكذب على الله، والمهم أنه لم يُفدك.
ثم يقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين... ﴾
2311
قوله: ﴿أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناساً ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولاً لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو ترتيب لقدرات المخلوق وتنميتها؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعزّ عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحراً، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول: لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب.
إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صُلبة، فمهما عزّت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك
2311
رحبة، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب. لكن المؤمن يقول: يا رب، ومجرد أنه يقول: يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزّت عليه الأسباب.
وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت: يا رب تجد نفسك قد ارتاحت؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق، وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان.
ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي، أنا أقول ليدي: افعلي كذا، ولرجلي: اسعي لكذا، وللساني: سب فلاناً، فالله سخر الجوارح وأمرها: يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي؟ لا، ستتمرد عليّ جوارحي: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١].
وتقول الجوارح لنا: أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها؛ لأن الملك الآن للواحد القهار: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض.
إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط
2312
المخلوق بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلاً: أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى إيماناً بالأسباب:
﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١].
بالله أأحد يكذِّب هذه المقولة؟! لا، فماذا قال موسى عليه السلام؟ لم يقل مثلما قال قومه، ولكنه نظر للمُسبب الأعلى فقال بملء فيه: ﴿كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
وهل تُكذَّب مقولته؟ لا لا تُكذب؛ لأنه لم يقل: «كَلاَّ» اعتماداً على أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، ماذا قال له الله؟
قال له: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾ [الشعراء: ٦٣].
لم يقل له: اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾ ؛ كي يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له: اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن ها هي ذي المعجزة تتحقق: ﴿فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ [الشعراء: ٦٣].
2313
و «الطود» هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها، بل لا بد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان؛ حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا: ﴿واترك البحر رَهْواً﴾ [الدخان: ٢٤].
أي: اتركه كما هو على هيئته قارّاً ساكنا؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأُطْبِِقهُ عليهم، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد.
يقول الحق: ﴿الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت﴾ وكيف ذلك؟
بعد موقعة أُحد جاء حُيَيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع. هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضاً سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف - زعيمهم - على أبي سفيان وقال له: نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان: أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا هذا، و «محمد» يقول: إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية؟ إننا لا نؤمن مكرك، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها.
و «الجبت والطاغوت» هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو «الجبت» هو كل من يدعو لغير الله سواء أكان شيطاناً أم كاهناً أم ساحراً، فإذا كان هذا هو «الجبت» ف «الطاغوت» من «طغى» وهو اسم مبالغة وليس «طاغياً».
. بل «طاغوت»
2314
وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم اكثر.. وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان: ماذا فعل محمد معكم؟ قال له: فارَق دين آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج، ونقري الضيف، ونفك العاني - الأسير - ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظّم أبو سفيان في أفعال قريش ﴿، فقال الذين أوتوا الكتاب - لعداوتهم لمحمد - قالوا لأبي سفيان وقومه: أنتم أهدى من محمد سبيلا﴾
ويوضح ربنا: يا محمد انظر لعجائبهم؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديماً: إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن ها هم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين؟
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلي عنهم وأن الله ناصرك - يا محمد - فلا يغرنك أنهم أصحاب مال أو أصحاب علم أو أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمناً لأن يتركوا الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك:
2315
﴿أولئك الذين... ﴾.
2316
وقوله: «أولئك» هي اسم إشارة مكون من «أولاء» التي للجمع، ومن «الكاف» التي هي لخطاب رسول الله، ونحن - المسلمين - في طي خطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، «أولئك» هي للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ويؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أو «أولئك» لكل من اليهود والمشركين، ولنأخذها إشارة لهم جميعاً، في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ و «اللعن» إما أن يكون «الطرد»، وإما أن يكون «الخزي» وإما أن يكون «الإهلاك».
وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد، وهم تتناقص أرضهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: ٤١].
﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾.. إذن فالطارد هو الله، فحين يكون الطارد مساوياً للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين للمطرود، ﴿وَمَن يَلْعَنِ الله﴾ أي من يطرده ربنا ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾ ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى ما دام قد طرده.. فسبحانه يُدخل في رُوع الناس كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد ﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ... ﴾
وما هي حكاية قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ ؟
إنه - سبحانه - يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم - في واقع الأمر - ليس لهم ملك الدنيا وليس لهم - أيضا - ملك الله؛ فالملك له وحده - جل شأنه - يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه: ﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً﴾ [الإسراء: ١٠٠].
أي أنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلَّت! وفحوى العبارة: أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، وياليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها خيراً للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يُعطوا للناس نقيراً؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطاناً، وما دام الجبروت أعطاه سلطاناً فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن أنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة: ﴿لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٣].
فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على المال بأن الناس تستفيد منكم؟
2317
فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح؟ لا يمكن أن يديمها عليكم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية: ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٥ - ١٦].
إذن فالذي عنده نعمة يقول: ﴿ربي أَكْرَمَنِ﴾، والذي ليس عنده نعمة يقول ﴿ربي أَهَانَنِ﴾، فيقول الحق تعقيباً على القضيتين (كلا).
وما دام سبحانه يقول تعقيباً على القضيتين: (كلا) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب؛ فأنت تكذب يا من قلت: إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضاً يا من قلت: عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل الإهانة. وهي قضية غير صادقة وخاطئة من أساسها.
وقال الحق في حيثيات ذلك: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم﴾ [الفجر: ١٧].
أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه: ﴿وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾ [الفجر: ١٨].
فكيف يكون المال - إذن - إكراماً وهو سيأتيك بمصيبة؟ فعدمه أفضل؛ فالمال الذي يوجد عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشرّ؛ لأن الحق يقول:
2318
﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ [آل عمران: ١٨٠].
فإن بخلت كثيراً فستطوّق بغُل أشد؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغُلّ يقول: يا ليتني خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا: أنتم أهدى من محمد سبيلاً مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمداً على حق؟
لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون، وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك كفار قريش: كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء وردّ كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [الفيل: ١ - ٥].
وعلّة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف﴾ [قريش: ١ - ٢].
2319
فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف؛ ولذلك يقول سبحانه: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت﴾ [قريش: ٣].
فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعزّ. وهو: ﴿الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤].
وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب.
﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك﴾ فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس... ﴾.
2320
والحسد هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة،
ولذلك قال بعض منهم:
2320
﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١].
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢].
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا اتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ﴾ [الزخرف: ٣٢].
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استقبالاً عادلاً بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضي من آتاهم الله من فضله علماً من الكتاب أن يبشروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما دعاهم إلى ذلك نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وَفَضَّلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع.
وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيباً فبخلوا وضنّوا، وليتهم ضنّوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه،
2321
وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله، فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم: أنتم أوتيتم نصيباً من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضاً أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحداً مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ [النساء: ٥٣].
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبلخوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوماً لا خير فيهم أبداً.
ثم يوضح الحق: إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيباً من الكتاب يعرِّفهم سمات الرسول المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولاً ويؤيدوه؟. لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء مصدقاً لما معهم، إنهم لا شك حسدوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه؛ لأن الحسد كما قالوا: هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله «الغبطة» وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها.
وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦].
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كَمٌّ من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك: إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تُعطي هؤلاء؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفد ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء.
إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن
2322
يعطي الآخر، ولو أعطي سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخْيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيط إذا أدخل البحر».
﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ﴾، فالحسد - كما عرفنا - هو: أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمرداً على من يعطي النعم.
إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو: ردّه لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشرّ منه؛ فقلبه يحترق حقداً. ولذلك قالوا: الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة؛ لأن الحقد يحرق لبه وربما قال قائل: وما ذنب المحسود؟.. ونقول: إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم في نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له أن يستعمله في باطل.
وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئاً يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله: (ما شاء الله لا قوة إلا الله).
فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. إنك ساعة ترى نعمة عند غيرك وتقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يردّ كل شيء إلى الله، وما دام قد ردّ كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسداً. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في قوله سبحانه:
2323
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ٥].
إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييراً كيماوياً في تكوين الإنسان، وهذا التغيُّر الكيماوي هو الذي يسبب التعب للإنسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله؟ لأن الحق سبحاه وتعالى يقول: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ٥].
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألاّ يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» وتعلم أن ذلك خير لك؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها!!.. فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلاّ الخير لأني صنعتك ولم تجر عليّ إلاّ الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.
إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيراً له، فإن أصابه في ولده وقال: من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشرّ، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا: امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لا بد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول: لا بد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل: نحن نقول:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
2324
وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: ١ - ٥].
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شرّ الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضاً ﴿
نقول له: أنت لم تفهم معنى قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾
. إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول: يا رب إنك أجريتها عليّ لخير عندك لي. فإن فعلتَ ذلك فقد كفيت شرّاً.
ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بيّن لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيراً من المعاني؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلاً تحت مرائي البصر، كان عنيفاً ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت - أي دقت - عنفت. ونرى الآن أن الأسلحة كلها بالإشعاع، والإشعاع ليس جِرْماً، وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم، وكما يقول الأطباء: نجري العملية من غير أن نسيل دماً بوساطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دقّ السلاح كان عنيفا وفتاكاً.
وهذا مثال يوضح ذلك: لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصراً في خلاء، ثم مرّ عليك صديق فقال: لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديداً؟ تقول له: لماذا؟. فيقول لك: هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمرّ على قصرك فيقول: إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول: هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكاً على النوافذ.
إذن فكلما دقّ العدو كان عنيفاً فيحتاج احتياطاً أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب
2325
الذي لا يُرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، - أي دقت وصغرت - عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلاً قليلاً، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدِق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض: لا نعرف لها فيروساً؛ بمعنى أن هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقاً جداً حتى عن معايير المجاهر.
إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعاً بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به} ﴿ما المانع من هذا؟﴾ إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر.
ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال؛ ومع ذلك يغلي حقداً على خصومه. فيشتري مسدساً أو بندقية ليقتلهم؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا يأتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.
إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقاً بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه؟ لا شك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل، وهل كان ذلك صحيحا؟ حقا إنها مزية للرسل ولكنها مع ذلك عملية شاقة عليهم، والناس في كل الأمم - ما عدا الأنبياء - يورثون أولادهم ما لهم، أما الأنبياء فلا يورثون أولادهم.
إنهم لا يأتوا ليأخذوا جاهاً، أو ليستعلوا على الناس، بل كلِّفوا بمتاعب جمة. إذن فأنتم تنظرون إلى السلطة التي أعطاكم الله إياها في مسألة علم الدين. وتجعلونها أداة للترف والرفاهية وللعنجهية والعظمة، وحين يجيء رسول لكي ينفض عنكم ويخلصكم من هذه السيطرة، ماذا تفعلون؟ أنتم تحزنون؛ لأنكم أقمتم لأنفسكم سلطة زمنية ولم تجعلوا أنفسكم في خدمة القيم، وأخذتم عظمة السيطرة فقط، فلما جاء رسول الله يريد أن يزيل عنكم هذه السيطرة قلتم: لا. لن نتبعه. فإذا كنتم
2326
تحسدون النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على الرسالة وجعلتموها مسألة يُدَلِّله الله بها أو أنها تعطية سيطرة، فلماذا الحسد على سيدنا محمد وقد أعطى الله سيدنا إبراهيم الملك، وأعطى لداود الملك، وأعطى لسليمان الملك، وأعطى ليوسف الملك، فلماذا الحسد إذن عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرم الفرع الثاني من إبراهيم وهو إسماعيل عليه السلام؟
لقد كرم الله سبحانه الفرع الأول في إسحاق وجاء من إسحاق يعقوب، ومن يعقوب يوسف، ثم جاء موسى وهارون ثم داود وسليمان، كل هؤلاء قد كرموا، وعندما يكرم سبحانه الفرع الثاني لإبراهيم وهو ذرية إسماعيل ويرسل منهم رسولاً، تحزنون وتقفون هذا الموقف؟
لماذا لا تنظرون إلى أن إسماعيل وفرعه أتى من ذرية إبراهيم، ولماذا اعتبرتم الرسالة والنبوة نعمة مدللة، ولم تنتبهوا إلى أنها عملية قاسية على الرسول؟ لأن عليه أن يكون النموذج التطبيقي على نفسه وعلى آله، ولا أحد من أهله يتمتع بذلك بل العكس؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنا معشر الأنبياء لا نورث».
ويَحْرِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آل بيته من الزكاة. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس».
وهكذا نرى أنه لم يكن يعمل لنفسه ولا لأولاده.
ويتابع الحق: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ و «الكتاب» هو المنهج الذي ينزل من السماء، و «الحكمة» هي الكلام الذي يقوله الرسول مفسراً به منهج الله، ومع ذلك آتاهم الله الملك أيضاً. فسيدنا يوسف صار أميناً على خزائن الأرض، وأصبح عزيز مصر، وسيدنا داود، وسيدنا سليمان آتاهما الله الملك مع النبوة. إذن ففيه نبوة وفيه ملك، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطاه
2327
ربنا النبوة ولم يعطه الملك فما وجه الحسد منكم له؟!. ثم ماذا كان موقفكم من أنبيائكم الذين أعطاهم الله النبوة والملك؟ يجيب الحق: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ... ﴾.
2328
وقوله سبحانه: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾. والمقصود الإيمان بما جاء في منهج إبراهيم والرسل الذين جاءوا من بعده الذين آتاهم الله النبوة والملك، أو «منهم» أي من أهل الكتاب الذين نتكلم عنه من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار مثلاً، ﴿وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾ أي أن منهم من كفر بمنهج الله؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: ﴿وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ فكأن نتيجة الصدّ عن المنهج أنّه لا يأتي بعده إلا العذاب بجهنم ليصلوا بنارها، وتكون مسعرة عليهم جزاءً على ما فعلوا.
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى﴾ [طه: ١٢٣].
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدّر الغفلة في خلقه عن منهجه؛ فهذه المناهج تأتي دائماً ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها مُعلاة.
2328
مثال ذلك عندما يقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩].
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه، أهو يفضله عن نفسه؟ لا؛ لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي يأخذه في الباقية، فأخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له: غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها، لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجَمَالِ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي الذي يغض عينه عنها؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.
إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافهاً. ويوضح له: كن للآجل ومعه؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.
لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكنّ الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبداً؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيراً.
. وما دام كل شيء فيها متغيراً. إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفاً وظل القوى قوياً لما كانت الدنيا أغياراً.
ولذلك يقولون: احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى
2329
منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة؟ لا، بل لا بد أن تنزل، فإياك أن تُسرَّ عندما تبلغ المسألة ذروتها؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح: إنكم لا بد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة.
إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق: ما غايتنا جميعاً؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن؟ لا، بل يجب أن نسر؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تُراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعمَ لسررت أنك ذاهب للمنعم.
وإن كانت المسألة هي أن تصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.
هب أن إنساناً من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له: سنذهب سيراً على الأقدام، وقال الآخر: أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث: سآتي بعربة، وقال رابع: سنسافر بطائرة وقال خامس. سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، وما دامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا؟ أنت - إذن - تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسروراً لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنّه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول: انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب!
إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبداً؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود
2330
بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا؟
نحن نقصِّر عليك المسافة.
. فبدلاً من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول: مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم: وهل هذه تكون خيراً له أو لا؟ أنت مثلاً كبرت وقد تكون مقترفاً للمعاصي؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة.
«عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. قال:» انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغوْن فيها فقال: «يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا».
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما سأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: كيف أصبحت؟ أي كيف حالك الإيماني؟ قال حذيفة: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها - أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا - وأضاف حذيفة: وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون.
وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيماً.. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عرفت فالزم».
الحق سبحانه وتعالى حين يذكر لنا بعض الأحكام يذكر لنا أيضاً خبر بعض الناس الذين يتمردون على الأحكام، ثم يذكرنا بحكاية الجنة والنار؛ ولذلك يقول لنا:
2331
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ... ﴾.
2332
و «نصليهم» من الاصطلاء، قد يقول قائل: ما دام يصلي النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم! ونقول: لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة، أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾.. فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها؟ وحتى أوضح ذلك: أنت عندما يكون عندك خاتم مثلاً، ثم تقول: أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر، فالمادة واحدة أيضاً، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد «دُمّل» يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.
إن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح «الدُّمل» بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذَّب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم - الآن - تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط
2332
كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة؛ لأن النفس الواعية تعذب، هذه يشبهونها - مثلا - بواحد عنده «حكة» في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذاً.
إذن فقوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾. ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئا آخر.
إن سيدنا موسى منهجه التوارة ومعجزته: العصا، وسيدنا عيسى منهجه: الإنجيل، ومعجزته: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت القرآن؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول: إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه: إنَّ محمداً رسول الله وصادق، وتلك معجزته.
فمعجزة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقية بقاءً أبدياً، ومتصلة به أبداً. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.
والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.
2333
أما الآيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها: فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول: إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون؟ إن بعضاً من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به.
لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إنّ الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.
وعندما نتعرف نحن - المسلمين - على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول: إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩].
لو أن القرآن قال: إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك؟.
لا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات؛ وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في «الشواشي» العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزّارع الذكي هو الذي يفتح «كوز الذرة» من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد «كيزان الذرة» فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف «سنة عجوز».
2334
إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا: ﴿سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦].
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب ﴿وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ لِتُدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.
ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمّة أمّيَّة؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.
إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون: اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه كان موجوداً.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلاً؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية «واحد»،
2335
وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية «مائة»، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية «التسع والتسعين» استعمل ما قبلها.
إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولَّد من الموجود جديداً، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم؟. إنه الله.
إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السرّ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي. قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول: إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.
لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ [فصلت: ٥٣].
والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل
2336
ليخاطب أمة أمية، وجاء على لسان رسول أميّ. ونقول: نعم.
والآية التي نحن بصددها فيها هذا:
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦].
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية «الحسّ» - كما نعرف - شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟ منهم من قال: نحن نحسّ بالمخ. نقول لهم: لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئاً لم يصل للمخ حتى أحسّ. وبعض العلماء قال: إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقنة في العضل، فالحقنة فيها إبرة، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد، وبعد ذلك لا تحس.
إذن فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد، بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب؛ لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد، لما فهموا شيئاً. لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾. فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب ويذيل الحق الآية: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ والعزيز: هو الذي لا يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً، فقد يقول كافر: لقد تلذذنا بالمعصية مرة لمدة خمس دقائق، ومرة لمدة
2337
ساعتين فيما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة!! نقول له: لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد آخر، وسبحانه حكيم. فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله، لا. هو يستعمل جبروته بعدالة.
وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل؛ لكي يكون البيان للغايتين: غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك: ﴿والذين آمَنُواْ... ﴾.
2338
وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمناً طويلاً، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين».
ولذلك لم يقل الحق في الآية: سوف ندخلهم. بل قال: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه «سوف» لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة؛ لذلك يعبر عنها: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
2338
إن كلمة «الجنة» مأخوذة من «الجَن»، والستر، و «الجَنّة» هي البستان الذي به شجرة إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهراً قريباً من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يُستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهداً، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: قال الله عَزَّ وَجَلَّ:
«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» مصداق ذلك في كتاب الله ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت»، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولاً: بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.
وبعد ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ولا خطر على قلب بشر» أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة؟ الأولى قوله: ما لا عين رأت. والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية: قوله: ولا أذن سمعت فدائرتها أوسع قليلاً.
والثالثة: قوله: ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعانٍ معروفة، وما دمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني؟
2339
لقد أوضح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنّه لا توجد ألفاظ؛ لأن المعنى يُعرف أولاً ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن الجنة هكذا بل قال: «مثل الجنة» أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه: سأختار أمراً هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلاً فقال: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [محمد: ١٥].
ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول: ﴿أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾، إذن فهو يعطيني اسماً موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح: أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضاً فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد أيضاً أنهاراً من لبن لم يتغير طعمه.
إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القِرَب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيداً إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكنْ لا يجد غيره؛ لذلك يوضح الحق: سأعطيكم أنهاراً من لبن من الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول: «وأنهار من خمر» وهم يعرفون الخمر ولنفهم أنها ليست كخمر الدنيا؛ لأنه يقول «
2340
مثل».. ولم يقل الحقيقة فقال: أنهار من خمر لكنها خمر «لذة للشاربين»، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كأس خمر.
. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة! ليس كما تشرب أنت كوباً من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقاته لأنه لاذع ومحمض؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.
إذن فحين يعطيني الحق مثلاً للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة «نبق» ويقال لها: «سدر» كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنّه قد يجد شوكاً فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول: هنا «سدر مخضوض» أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة.
﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملاً وحصى، فأوضح الحق: ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع أنه مثل لكنه يصفيه أيضاً، ولماذا مثَّل؟.. لأنه ما دام نعيم الجنة «لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها.. لكنه - سبحانه - يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ [النور: ٣٥].
إنه يعطينا مثلاً مقرباً لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول:
2341
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ [التوبة: ١٠٠].
وما دامت جنات ففيها شجر ملتف وعالٍ، ونحن نعرف أن الشجر لا بد أن يكون في منطقة فيها مياه؛ لذلك قال: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنّتك، وقد تظن أن بإمكان صاحب النبع أن يسدّها على جنتك، فيشرح الحق: لا هي جاءت من تحتها مباشرة.
ويقول الحق عن أهل الجنة: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوماً شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمة عليهم، لكنهم شهدوا أيضاً أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناساً يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.
ويعطينا سبحانه أيضاً صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضاً أن نزول نحن عنه: ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ وأزواج جمع «زوج»، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعاً فهو يأتي في الصفة بجمع أيضاً مثل قوله:
﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: ١٣].
لأن «قدور» جمع «قِدر» ولم يقل هنا: وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال: إنهن كلهن سيكنَّ أزواجاً على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد: «كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرَة في الآخرة؟» لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: ٤٣].
2342
إذن فكأنهن - وإن تعددن - في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنّه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.
ويكمل الحق: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلاً: «هذا ليل أليل» أي ليل حالك، وعندما يبالغ في «الظل» يقول: «ظليل». وما هو «الظل» ؟. «الظل» هو: انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلاً كأن يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلاً.
إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلاً، مثال ذلك «الخيام المكيفة» التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين: الطبقة الأولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة، والطبقة الثانية تحجز السخونة، ويسمون هذا السقف «السقف المزدوج». ويوجد خاصة في الأماكن العالية؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصاً في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة؛ لذلك يصنعون سقفاً فوق السقف، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل.
ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضاً يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضاً، هذا هو معنى قوله: ﴿ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾.
ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال:
2343
وقانا لفحةَ الرمضاءِ وادٍ سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنىّ واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم
والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ثم ينزل في وادٍ به دوح وهذا الدوح يَحنو على الإنسان حنو الأم على طفلها في سن الفطام. وأنه قد سقاهم من مائة ما يلذ. وتصد الشمس عنهم الأشجار الكثيفة ولكن النسيم يمر بين أوراق الشجر. وهكذا نفهم أن كلمة «ظل ظليل»، أي أن الظل في ذاته مظلل.
وبعد أن تكلم الحق عن الغايات التي تنتظر الصنفين من خلقه: الصنف الذي يتأبى على منهج الله، والصنف الذي يتطامن لمنهج الله: الصنف الأول أعد له الله النار التي تشوي جلوده ويبدله جلوداً غيرها ليذوق العذاب، والصنف المؤمن الذي أعد الله له الجنة ذات المواصفات المذكورة. وبعدما يجعل الغاية واضحة في ذهننا من الكلام عن النار والكلام عن الجنة يلفتنا إلى حكم جديد؛ لأن النفس تكون كارهة للنار ومحبة للجنة، وعندما يأتي حكم جديد تتعلق النفس به وتنفذه؛ لأنها قريبة العهد، بالترهيب من النار والترغيب في الجنة، فيجعل الحق هذا الأمر مرة تذييلاً لما تقدم، ومرة أخرى يجعله تمهيداً لما يأتي؛ كي تستقبل الأحكام الجديدة في ذهنك وتتضح لك الغاية التي تنتظر مَن التزم، والغاية التي تنتظر من انحرف.
وعندما يأتي الحكم والغاية متضحة في الذهن ومهيئة للإنسان فالتكليف يوضع في بؤرة الشعور؛ لأن هناك حاجات كثيرة تعلمها النفس البشرية، ورحمة الله بالخلق أن هذا الرأس الذي فيه حافظة، وفيه ذاكرة، وفيه مخيلة، لا يقدر أن يستوعب كل المعلومات في بؤرة الشعور مرة واحدة، ولا يمكن أن يجيء لك معنى جديد إلا إذا تزحزح المعنى الذي كنت مشغولاً به في ذهنك قليلاً عن بؤرة الشعور وذهب إلى حاشية الشعور، فإن بقي المعنى في مكان فلن يأتي لك خاطر جديد.
2344
إذن فبؤرة الشعور هي التي فيها ما أنت الآن بصدده فلا يمكن أن تتداخل الأفكار في البؤرة الشعورية، ولذلك عندما تريد أن تستدعي حاجة في بؤرة الشعور. فالمعاني تتداعى كي تأتي بما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. وساعة يأتي ما تريده في بؤرة الشعور يذهب الخاطر الأول.
إياك أن تظن أن العقل البشري يستطيع أن يواجه في بؤرة الشعور كل المعلومات، لا. فمن رحمة الله أنه وضع لشعورك نظاما تخزن فيه معلوماتك، ولذلك فأنت قد تتذكر حاجة من عشر سنوات، فإذا كانت قد ذهبت من فكرك فكيف تذكرتها؟. إذن فهي موجودة لكنها موجودة في الحواشي البعيدة للشعور.. وعندما تداعت المعاني خرجت الخاطرة أو الحادثة إلى بورة الشعور؛ ثم تؤدي مهمتها وتذهب؛ وتأتي أخرى في بؤرة الشعور.
إن هذا البشري فيه قوة وطاقة يختزن فيها الأحداث، وعلى الرغم من ذلك تختلف قدرات الناس، فهناك من يحفظ قصيدة من عشر مرات، وهناك ذهن يحفظ من مرتين، وهناك من يحفظ من ثلاث مرات. إن الذهن كآلة التصوير «الفوتوجرافي» يلتقط من مرة واحدة، والمهم فقط أن تكون بؤرة شعورك خالية ساعة الالتقاط. فإن كانت بؤرة شعورك خالية من غيرها تلتقطها.
أنت تكرر القصيدة أو الآية أو الكلمة كي تحفظها؛ لأنك لو قدرت أن تجعل بؤرة شعورك مع النص لحفظت النص مباشرة، لكنك لا تحفظ النص؛ لأن هناك خواطر تأتيك فتخطف التركيز، وتكون بؤرة الشعور مشغولة بسواها فلا تستطيع أن تحفظ المعلومة الجديدة، فتكرر الحفظ إلى أن تصادف كل جزئية من جزئيات الشعر أو القصيدة أو الآية خلو بؤرة الشعور؛ لذلك يقولون: هناك طالب يحفظ ببطء، وآخر يحفظ بسرعة، إن الذي يقدر أن يركز ذاكرته لما هو بصدده، فذهنه يلتقط ما يقرأ من مرة واحدة أما الذي لا يركز فإن حفظه يكون بطيئا.
وأضرب هذا المثل، وقد يكون أغلبنا مر به، وخصوصاً من تعرض للعلم وللامتحانات: هب أنك طالب في امتحان، وبعد ذلك دق الجرس لتدخل مكان
2345
الأمتحان، ثم جاء زميل لك وقال لك: القطعة الفلانية سيأتي منها سؤال، وأنت لم تكن قد ذاكرتها، هنا تخطف أي كتاب وتقرؤها بإمعان، فهل وأنت في هذه الحالة تفكر في ماذا ستأكل على الغداء؟ أو تفكر في من كان معك بالأمس؟ لا؛ لأن الوقت ضيق ولن يتركز فكرك إلا في هذه القطعة التي تقرؤها ثم تدخل الامتحان فتجد سؤالاً في القطعة التي ذاكرتها من دقائق ولمدة قصيرة فتضع الإجابة الصحيحة، وقد لا يعرفها مَن ذاكرها لمدة شهر؛ لأنه ذاكرها وباله مشغول، أما أنت فتضع إجابة السؤال كما يجب لأنك ذاكرتها وليس في ذهنك غيرها؛ لأن الوقت ضيق وكانت بؤرة شعورك محصورة فيها.
ومثال آخر: نجد تلميذاً من التلاميذ يشكو من عدم فهمه من أستاذه لكن هناك تلميذ آخر يفهم، والتلميذ الذي لا يفهم هو من انصرف ذهنه عنه في أثناء الشرح في مسألة بعيدة عن العلم الذي يدرسه، وعندما يجيء درس جديد، فهو يفاجأ بمعلومات لا بد أن تستقر وتبني على معلومات سابقة كان ذهنه مشغولاً عنها، فلما شرح المدرس الدرس الجديد، قال التلميذ الذي لا يفهم: ماذا يقول هذا المدرس؟. لكن التلميذ المنتبه له والذي يربط المعلومات بعضها ببعض؛ يفهم ما يقوله المدرس، ولذلك فالأستاذ الجيد لا بد أن يثير الانتباهات دائماً لطلابه، بمعنى أن يفاجئهم، يقول مثلاً كم جملة ثم يقول للتلميذ: قم، ماذا قلت الآن؟ فيجلس كل تلميذ وَهو عُرضة أن يُسأل، فيخاف أن يُحرجه الأستاذ، فينتبه للدرس ويجعل بؤرة شعوره مع المدرس دائماً.
فالحق سبحانه وتعالى بعدما تكلم عن النار وعن الجنة وجعل هذا الأمر مستقراً في بؤرة شعورهم ينزل الأحكام بعد ذلك، ولذلك تجد دائماً بعد أن يذكر سبحانه الجنة والنار يأتي بعدها بأمهات الأحكام التي إذا نفذوها نالوا الجنة وابتعدوا عن النار. فبعدما شحنت بؤرة الشعور بالجنة والنار بالغاية المنفرة والغاية المرغبة، هنا يأتي الحكم، فيقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ... ﴾.
2346
وقوله سبحانه: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي: الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببني الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.
ومعنى الأمانة هو: ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة؛ لأن هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة: أن تودع عنده شيئاً، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: ٧٢].
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوماً جهولاً؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.
الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختاره أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء
2347
الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.
ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون - والعياذ بالله - قد خربت ذمتك.
إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة؛ لأنه «كان ظلوما جهولا» ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.
إن التكليف محصور في «افعل» و «لا تفعل»، فإن شئت فعلت في «افعل»، وإن شئت لم تفعل في «لا تفعل». وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.
لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟
2348
نقول للعالم: العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثواباً وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء؛ نقول لك: أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلا من لا يعلم، فأمنك على قدرةٍ وأمرك: أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك: أعطه لمن لا علم له..
إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة؟ الله. فليس ضرورياً أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة: ما تصير مأموناً عليه مِمن خَلَقَ أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولا بد أن يؤديها وينقل آثارها لم لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى هذا الإنسان قوة عضل، وأعطى ذلك قوة فكر، وأعطى ثالثاً قوة حلم، وأعطى رابعاً علماً. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحداً، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.
إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي: أداء حق في ذمتك لغيرك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن - خادم - الكعبة وحين دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2349
مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليُّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ويعتذر له فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن السِّدانة في أولاد عثمان أبداً.
وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر اسمه «العدل». ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ﴾. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لا بد أن تكون آية العدل عامة أيضاً.
2350
إن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ ليست خاصة للحاكم فقط، بل إنّ كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت مُحَكَّماً من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضرورياً أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلاً: سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه المسألة قد ينظر لها الناس على أنها مسألة تافهة لكنها ما دامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام على لابنه الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيراً. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفاً أو لا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطأ تثور عليه.
وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، وما دام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعاً وخلافا وتسابقاً فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.
ويتابع الحق: ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ و «نعما» يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء: إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرّيء ذلك ظالماً على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم: فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة
2351
يرى الناس أحداً يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحداً.
وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر.
لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضاً فهو - سبحانه - واسع العلم والحكمة؛ لذلك كانت هذه العظة مقبولة جداً، وهي نعمة من الله وأما ما عداها فبئست العظة؛ لأن الله لا ينتفع بأمره هذا وهو مأمون على العباد جميعاً، والثانية: أنه قد يوجد غير لا ينتفع بالأمر ولكنه قاصر العلم وقاصر الحكمة فلا نعمت العظة منه، فقوله: ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا﴾ يعني: نعم ما يعظكم به الله أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بالعدل.
ونلحظ الأداء البياني في القرآن في قوله: «تؤدوا» هذه للجماعة، وهذا يعني أن كل واحد مطالب بهذا الحكم أولا، ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾، فيكون كل واحد مطالباً بالحكم أيضاً، كأن مهمتكم الأمانية ليست مقصورة على أن تصونوا حقوقكم بينكم وبين أنفسكم، لا، فأنتم مكلفون بأن تصونوا الحقوق بين الناس والناس ولو لم يكونوا مؤمنين.
إن قوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس﴾. يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى «أهلها»، ولم يقل «أهلها» المؤمنين أو الكافرين.
إن كلمة «الناس» هذه تدل على عدالة الأمر من إله هو رب للجميع، فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان للدنيا، والإنسن منه مؤمن ومنه كافر. لكن أحداً لا يخرج عن نطاق الربوبية لله، فربنا يُربُّ ويرعى كل إنسان - مؤمناً كان أو كافراً - هو يرزق الجميع ولذلك أمر الكون: يا كون أعط من فَعَلَ الأسبابَ الغاية من
2352
المسببات إن كان مؤمناً أو كافراً. وهذا هو عطاء الربوبية، إنه - سبحانه - رزق الإنسان وسخر الأشياء له، فهو لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن وللكافر، فكذلك طلب منا أن نؤدي الأمانة للمؤن والكافر، وطلب منا أن نعدل بين المؤمن والكافر.
ولنا في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسوة الحسنة، فقد حدث أن «طعمة ابن أُبيرق» أحد بني ظُفر سرق درعا من جارٍ له اسمه «قتادة بن النعمان»، في جراب دقيق والاثنان مسلمان، إلا أن منافذ الحق لمرتكب الجريمة ضيقة مهما ظن اتساعها، مثلما نقول: «الجريمة لا تفيد»، فوضع الدرع المسروقة في جراب كان فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وهو يسير من بيت قتادة بن النعمان وخبأ الدرع عند يهودي اسمه «زيد بن السمين»، فلما فطن قتادة بن النعمان لضياع الدرع قال: سرق الدرع.
سرق الدرع. فتتبعوا الأثر فوجدوه إلى بيت طعمة ابن أبيرق، فحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه. فتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند اليهودي «زيد بن السمين» فقال اليهودي دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود، ورفع الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء بنو ظفر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبريء اليهودي فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله عليه حكمه الفصل: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾ [النساء: ١٠٥ - ١٠٧].
أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين واستغفر الله إن كان هذا الخاطر قد جال برأسك بأن ترفع رأس مسلم على يهودي؛ لأن الحق أولى من المسلم؛ فما دام هو قبل
2353
أن يخون فلا تجادل عنه، ولماذا طلب بنو ظفر التغاضي عن جريمة مسلم وإلصاقها بيهودي؟ أيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟ وافرض أن هذه برأتهم عند الناس. أتبرئهم عند الله؟ ويقول في آية أخرى: ﴿هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ [النساء: ١٠٩].
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ لا بد أن نأخذه على أنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين حتى يشيع في كل الناس ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضا ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول الله.
﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ وحين ترون تذييل آية بصفتين من صفات الحق أو باسمين من أسماء الحق، فلا بد أن تعلموا أن بين الصفتين أو بين الاسمين وبين متعلق الآية علاقة، وهنا يعلمنا الحق أنه سميع وبصير. بعد أداء الأمانة، والحكم بالعدل بين الناس، لأن الرسول شرح ذلك حين أمر من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين في لحظى ولفظه أي لا ينظر لواحد دون الثاني، ولا يكرم واحداً دون الآخر، فيسوي بين الاثنين وما دام سيسوي بين الاثنين، فلا بدْ أن تكون النظرة واحدة، والألفاظ واحدة.
روى أن يهوديا خاصم سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فنادى أمير المؤمنين عليا فقال: «قف يا أبا الحسن» فبدا الغضب على عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقال له عمر: «أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» لا.
لكني كرهتُ منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما صنعت معي «.
إذن فحين يقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأبي موسى الأشعري:»
آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك «.
2354
فلا بد أن يقوم بتلك التسوية كل حاكم أو محكم بين خصمين فلا يميز ولا يرفع خصما على خصمه.
و» اللحظ «عمل العين. وهذا يحتاج إلى بصير، واللفظ يحتاج إلى أذن تسمع، أي إلى سميع، فقال: ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾. لماذا قدم سبحانه هنا سميعاً على بصير؟ لأن ما يُسمع فيه تعبير واضح. أما النظرة فلا يعرفها إلا من يلاحظ أنه ينظر بحنان وإكبار، وهل وجدت له سبحانه صفة السمع بعد أن وجد ما يسمعه، وهل وجدت له صفة البصر بعد أن وجد ما يبصره؟ أو أن صفة السمع أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً يسمع منه، وأن صفة البصر أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً ليبصر أفعالهم؟ إنه سبحانه قديم أزلاً، موجود قبل كل موجود. وصفاته قديمة بقدمه.
إذن ففيه فرق بين أن تقول: سميع وبصير، وسامع ومبصر، فأنت تكون سامعاً إذا وجد بالفعل من يٌسْمع، إذن فما معنى كلمة»
سميع «؟ أن يكون المدرِك على صفة يجب أن تدرك المسموع إن وجد المسموع وإن لم يوجد المسموع فهو ليس سامعاً فقط، إنما هو سميع، وكذلك بصير.
وأضرب المثل - ولله المثل الأعلى، وهو منزه عن كل تشبيه - الشاعر الذي يقول القصيدة، إنه قبلما يقول القصيدة كان شاعراً في ذاته وقال القصيدة بوجود ملكه الشعر في ذاته. والحق سبحانه وتعالى»
غفَّار «قبل أن يخلق الخلق، أي أنه على صفة تدرك الأمر إن وجد.. وهو غفار قبل أن يوجد الخلق ويرتكبوا ما يغفره، وهو» سميع بصير «أزلاً. أي قبل أن يخلق الخلق الذين سينشأ منهم ما يٌُبْصر وينشأ منهم ما يُسْمع.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾
2355
هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضاً أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة؛ فيقول القاضي: بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا. هذه هي الحيثيات. و «الحيثيات» مأخوذة من: حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها: التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.
هنا يقول سبحانه: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾. وهل الحق سبحانه وتعالى قال: يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾. إذن فما دمت قد آمنت بالله إلهاً حكيماً خالقاً عالماً مكلِّفاً فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له: أطعني ما دمت قد آمنت بي.
إذن فحيثية الطاعة لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه عدالة كاملة؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحداً أن يفعل فعلاً إلا إذا كان قد آمن به - سبحانه - مكلِّفاً، آمن به أمراً، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولاً، فإذا ما آمن به يقول له: استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾.
إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي: الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح: إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها
2356
وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليقهم الحكمة؟
نقول لك: أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة؛ لأن كمالات حكمة الله لا تتناهى، فقد تعرف جزءاً من الحكمة وغيرك يعرف جزءاً آخر، ولذلك قالوا: إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جداً هو: أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك: أقنعني لماذا أفعل هذه؟؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي.
فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك.
وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر - ولله المثل الأعلى - يُعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا. نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت - أيها الإنسان - قد تختار أن تكون عاصيا. وما دمت مخيرا أن تكون عاصياً ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه؛ - كما تعرف - هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك.
فساعة قال الحق: ﴿أَطِيعُواْ الله﴾ معناها: أنه لم يطلب منا شططاً، وكيف نطيع الله؟ أن نطيعه في كل أمر، وهل أَمَرَ اللهُ خَلْقَه منفردين؟. لا، بل أمرهم كأفراد
2357
وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يطيعها؛ إذن فلا بد أن يوجد مُبلِّغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا: إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم: لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.
لذلك لا بد من بلاغ عنه يقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة: إن العقل كافٍ في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلِّغ عن هذه القوة، ولا بد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول: اسمه كذا، ومطلوبه كذا، إذن فقوله: ﴿أَطِيعُواْ الله﴾ يلزم منها إطاعة الرسول.
وبعد ذلك قال: ﴿وَأُوْلِي الأمر﴾ هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل: وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين: طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» و «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول»، وأطيعوا الرسول فقط.
إذن فثلاثة أساليب من الطاعة.
الأسلوب الأول: أطيعوا الله والرسول؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول.
والأسلوب الثاني: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث: أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالاً والرسول عين تفصيلاً؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول، أو إن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق:
2358
﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: ٨٠].
وقوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة ملاحظ في التشريع: ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيداً له أو أن الله قد شرع إجمالاً، والرسول عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك: أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا؛ والرسول يوضحها: النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالاً، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أنّ الأمر لم يتكلم فيه الله حكماً، وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام: هات دليله من القرآن ولم تجد دليلاً من القرآن فقل له: دليل أي أمر قال به الرسول من القرآن هو قول الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد يقول قائل: هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول: لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي إن فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلفَّ أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحاً تطبيقياً ليتبعه المسلمون.
2359
أما الأمر بطاعة أولى الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة وليّ الأمر ملزمه إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله: ﴿وَأُوْلِي الأمر﴾ ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم: ألست ولي أمر؟. فيرد العلماء: نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدلّ ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له: ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله: ﴿وَأُوْلِي الأمر﴾. قال: ويجب أن نفطن أيضاً إلى أنها نزعت في قوله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول﴾. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولاً بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضاً أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط.
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول﴾ إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مردّ ينهى هذا التنازع ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾.
والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد ب «أولي الأمر» الحاكم، نقول له: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول﴾ أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهي مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا يقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلا بد أن نرده إلى مردّ أعلى، والحق يقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣].
إذن فقد يكون المراد بأولى الأمر «العلماء».
2360
نقول إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولى الأمر هم العلماء.
وأولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول هم الذين يشرفون على تفنيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية.
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم: راجع إيمانك بالله واليوم الآخر - ابتداءً في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر - لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء.
وينبهنا الحق في ختام الآية: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي في ذلك خير للحكام وللمحكومين معاً؛ لأن الخير هو أن يقدر الإنسان ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وكل شهوة من الشهوات إن قدَّرت نفعها فلن تنفعك سوى لحظة ثم يأتي منها الشر.
والتأويل هو: أن تُرْجع الأمر إلى حكمه الحقيقي، من «آل» يئول إذا رجع ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ تعني أحسن مَرْجعاً وأحمد مغبة وأجمل عاقبة؛ لأنك إن حرصت بما تريد على مصالح دنياك، فما ترجع إليه سيكون فيه شر لك. إذن فالأحسن لك أن تفعل ما يجعلك من أهل الجنة، أو «وأحسن تأويلا» في الاستنباط، لأن العلماء سيأخذونه من منطلق مفهوم قول الله وقول الرسول، وأنت ستأخذها بهواك، وفهمك عن الله يمنعك من الشطط ومن الخطأ.
فإن كنتم تريدون الخير فلاحظوا الخير في كل أحيانه وأوقاته، ولا ينظر الإنسان إلى الخير ساعة يؤدي له ما في هواه، ولكن لينظر إلى الخير الذي لا يأتي بعده شر. وإذا ما نظرنا تاريخ الكثير من الحكام ووجدناهم قد أمنوا على انتقادهم في حياتهم بما فرضوه من القهر والبطش، فلما ماتوا ظهرت العيوب، وظهرت الحملات، إن الواجب على من يحكم أن يعتبر بما سمع عمن حكم قبله. فالذي حكم قبله كمم الأفواه وكسر الأقلام، وبعدما انتهى، طالت الألسنة وكتبت الأقلام، فيجب أن
2361
نحسن التأويل وأن ننظر إلى المرجع النهائي، فمن استطاع أن يحمي نفسه في حياته بسطوته وجبروته لا يستطيع أن يحمي تاريخه وسمعته. إنه بعد أن انتهت السطوة والجبروت قيل فيه ما قيل، ونحن مازلنا في الدنيا ولم نذهب إلى الآخرة بعد؛ فإذا كان هذا هو جزاء الخلق. فما شكل جزاء الحق إذن؟!
﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي مرجعاً وعاقبة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ... ﴾.
2362
نعرف أن ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهراً حادثاً بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر ب ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليدلنا على أن ما يقوله الله - وإن كان خبراً عما مضى - يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئى لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «والزعم» : مطية الكذب، فهم ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾
2362
وهو القرآن؛ ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾، وهو التوراة والإنجيل و ﴿يُرِيدُونَ﴾ بعد ادعاء الإيمان؛ ﴿أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت﴾، والتحاكم إلى شيء هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: «تحاكمنا إلى فلان»، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلاًّ منهما.
﴿يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت﴾. «الطاغوت» - كما عرفنا - هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغياناً، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقاً لقول الحق: ﴿فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: ٥٤].
وهذا اسمه «طاغوت» مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى الكثير الطغيان سواء أكان أناساً يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يُغري الناس، أم كان حاكماً جبّاراً يخاف الناس شرّه، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتاً. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورحلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾ [البقرة: ٢٥٧].
ويأتي للمفرد كقوله الحق:
﴿وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ [النساء: ٦٠].
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجا سبباً
2363
مخصوصاً نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكماً نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها، هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه «بشر».
حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى «كعب بن الأشرف»، وكان اليهودي واثقاً أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حباً فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾.
وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل «كعب بن الأشرف» لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية: ﴿وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو «كعب بن الأشرف» ؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى ﴿ضَلاَلاً بَعِيداً﴾، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتداً.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ... ﴾.
2364
وعندما نسمع قول الحق: ﴿تَعَالَوْاْ﴾، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة «أقبلوا» تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: «تعالوا» فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعاً هابطاً؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات - على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم - تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عالياً؛ لأنه - سبحانه - لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثاً جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصراً عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطاً كبيراً ليعدّلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل،
2365
ففي القانون الوضعي نجد بشراً يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحداً على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢].
«شفاء» إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، «ورحمة» وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾. إنه - سبحانه - يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم ﴿يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ أي يُعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضاً ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهراً؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق: ﴿فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ... ﴾.
2366
والمنافقون يواجهون تساؤلاً: لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله؟. فقالوا: نحن أردنا إحساناً، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق توفيقاً بعيداً عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً على حكمك؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس.
﴿فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضرّه في عُرفه؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوماً، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أنّ الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرّهم. وهم يريدون بالنفاق أموراً لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعاً لهم، فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.
وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذباً لأنهم يريدون استدامة نفاقهم.. ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون.
فيقول سبحانه:
2367
﴿أولئك الذين... ﴾.
2368
وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول﴾ [محمد: ٣٠].
يعني: نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.
﴿أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم أنهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسيحكم بالحق، والحق يضارُّهم ويُضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحساناً وتوفيقاً، أو كانوا لا يريدون الحق؟. لقد أرادوا الحكم المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقي حقك ليقتص - سبحانه - لك منهم، وأعرض أيضاً عنهم لأننا نريد أن يُظهر منهم في كل فترة شيئاً لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناساً مدسوسين بينهم، لذلك لا بد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
«وعظهم» أي قل لهم: استحوا من أفعالكم. ﴿وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ أي قل لهم قولاً يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي
2368
يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغاً، أو ﴿وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ أي أفضح لهم ما يسترون؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضاً لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السرّ يعرف أنك لا تزال به رحيماً، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
﴿وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ﴾ وإنك لو فعلت ذلك علناً فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحداً بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا: «ادرأوا الحدود بالشبهات».
والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلا بد أن نضرب على أيدي المجرمين.
فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضرراً أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمراً محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقاً أو زانياً.
إذن فقول الله: ﴿وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ يعني: قل لهم ما يهددهم تهديداً يصل إلى أعماق نفوسهم، أو ﴿وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ﴾ بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
ويقول الحق بعد ذلك:
2369
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ... ﴾.
2370
الغرض من إرسال الحق للرسول هو أن يعلم الناس شرع الله المتمثل في المنهج، وأن يهديهم إلى دين الحق. والمنهج يحمل قواعد هي: افعل، ولا تفعل، وما لا يرد فيه «افعل ولا تفعل» من أمور الحياة فالإنسان حرّ في اختيار ما يلائمة. وأي رسول لا يأتي بتكليفات من ذاته، بل إن التكليفات تجيء بإذن الله. وهو لا يطاع إلا بإذن من الله. فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بطاعة الله إلا إن يفوّض من الله في أمور أخرى، وقد فوّض الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
فالمؤمنون برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذن - عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوّضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾. وظلم النفس: أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائماً. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولاً. وأي عاصٍ يترك واجباً تكليفياً ويقبل على أمرٍ منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلماً قاسياً؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له: أنت ظلمت نفسك؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها
2370
شقاءً أعنف وأبقى وأخلد، ولست أميناً على نفسك.
والنفس - كما نعلم - تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيّرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول: الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيّرة، طائعة، مُسَخَّرة، عابدة، مُسبِّحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد.. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول: أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسألة أم ستبقى نفسك لوّامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء؟
فمَن يظلم مَن إذن؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها. فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾. ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يأتي الفاحشة إنسانَ ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول:
﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ [آل عمران: ١٣٥].
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، «فعل فاحشة» قد متع إنسان نفسَه قليلاً، لكن من ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلاً شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحدٌ حقَّ آخر، هذا ظلم قاسٍ للنفس، ولذلك قال الرسول: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح
2371
الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بِعرضٍ من الدنيا».
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله﴾. وظلم النفس أيضاً بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلاً، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا نعرف أيحكم لنا أم لا؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ﴾ فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون: إهانة الرسول تكون إهانة للمرسِل؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقاً بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولاً: يجيئون، وثانياً: يستغفرون الله وثالثاً: يستغفر لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه: ﴿لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ إذن فوجدان الله تواباً رحيماً مشروط بعودتهم للرسول بدلاً من الإعراض عنه ثم أن يَستغفروا الله؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل: إنني اختلفت مع الرسول؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبداً أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وحين يفعلون ذلك من المجيء إلى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله تواباً رحيماً، وكلمة «توّاب» مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير.
2372
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنفلت إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنباً أَرَبُّهُ الرحيم يتركه هكذا للذنب؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ﴾ فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قِبَل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييداً لاستغفارهم لله، حينئذ يجدون الله تواباً رحيماً.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ... ﴾.
2373
إذن لا بد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكّم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك.
ونلحظ في قول الحق: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ﴾ وجود «لا» نافية، وأنه - سبحانه - أقسم بقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ﴾، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكَّموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها
2373
فيقول: لا. هذه لا تكون أبداً. إذن ف «لا» النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله؛ لأنهم حكَّموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو: لا يكون لهم أبداً شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على ما يشاء، يقسم بالمادة الجبلية: ﴿والطور﴾ [الطور: ١].
ويقسم بالذاريات: ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١].
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات: ﴿والتين والزيتون﴾ [التين: ١].
ويقسم بالملائكة: ﴿والصافات صَفَّا﴾ [الصافات: ١].
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأقسم بحياته فقال: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢].
2374
و «لعمرك» يعني: وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [الذاريات: ٢٣].
وساعة يقول: «فورب السماء والأرض». فلا بد أن يأتي بربويته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧].
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ وهذا تكريم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودليل على أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا أنه حين قال: «لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس» أن محمداً قد دخل في الناس، إنّه سبحانه يوضح: لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾، ولماذا يقسم برب السماء والأرض؛ لأن الربّ له قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير.
لكن عندما يخلق محمداً فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك، والذي رباك، والذي أهَّلَكَ لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول: لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا؟.
2375
إذن فقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ وحَكَّم كل مادتها مثل «الحُكْم» و «التحكيم» و «الحكمة» و «التحكم» وكل هذا مأخوذ من الحَكَمَة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يميناً ويساراً، فكذلك «الحِكْمَة» تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة، كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة «شجر» مأخوذة من مادة (الشين والجيم والراء) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضه ببعض فتتشابك، كما نرى مثلاً شجراً متشابكاً في بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
«وشجر بينهم» أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجاراً من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعينك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك، فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، لكن طبيعة النفس الشُحّ، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن: أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فيفزعان ويقولان: أهناك خير من العدل؟. يقول: نعم إنه الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل.
2376
ومن الذي يفصل؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.
. فالإيمان ليس قوله تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله فلا بد أن لهذا القول وظيفة، وأن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بمنهج الإسلام ﴿حتى يُحَكِّمُوكَ﴾ فهذا هو التطبيق ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ ولا يصح أن يحكموك صورياً، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم، ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً﴾ أي ضيقاً ﴿مِّمَّا قَضَيْتَ﴾. فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه ولا تضيقوا به ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ أي يُذْعِنُوا إذعاناً.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً﴾ لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة: الأولى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ﴾، هذه واحدة، ﴿فاستغفروا الله﴾ هذه هي الثانية، ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ هذه هي الأولى، ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ هذه هي الثانية، و ﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دخول حظيرة إيمان، وخروج من غلّ ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت: إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
2377
فما بال الذين لم يعاصروه؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والرسول إنما جاء للناس جميعاً، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص؟
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جواباً، إلا أني قلت: لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور:
(حياتي خير لكم تُحْدِثون ويُحْدَثُ لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تُعْرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرتُ لكم).
انظر إلى التطمين في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم».
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا «جاءوك» أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها ف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو القائل:
«تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض».
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين: نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
2378
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ أي لا يجدوا حرجاً عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلا بد أن نسلم تسليماً في الاثنين: في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ... ﴾.
2379
وهنا يساوي الحق بين الأمر بقتل النفس والأمر بالإخراج من الديار، فالقتل خروج الروح من الجسد بقوة قسرية غير الموت الطبيعي، والإخراج من الديار هو الترحيل القسري بقوة قسرية خارج الأرض التي يعيش فيها الإنسان، إذن فعملية القتل قرينة لعملية الإخراج من الديار فساعة يُقتل الإنسان فهو يتألم، وساعة يخرج من وطنه فهو يتألم، وكلاهما شاق على الإنسان، ويأتي الحق بهذين الحكمين اللذين سبقا في قوم موسى عليه السلام، فالحق يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤].
2379
ويقال: إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفاً منهم بقتل أنفسهم، ونعلم أيضاً أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض﴾ [المائدة: ٢٦].
أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح: أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن النفس تغوي صاحبها بمخالفة المنهج فلا بد أن يضيعها. ومن لطف الله سبحانه لم يصدر علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر، وثابت بن قيس؛ كل هؤلاء قالوا: والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر: والله لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بيّن لهم: لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى. ماذا كانوا يفعلون؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم. ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك؟ وسبب هذه الحكاية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له ابن عمة اسمه «الزبير بن العوام» وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه «حاطب بن أبي بلتعة» كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها «الحرة» وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض «الحيطان» أي: البساتين؛ لأنهم يسمون البستان «حائطاً»، فقد كانوا يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطاً، يرد عنها عنف السيل ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن العوام، فالسيل يأتي أولاً من عند
2380
أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن الأمطار تنزل ومتفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه «شراج» ومنه يروون بساتينهم.
فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولاً ثم يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حكم للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه، فلكيلا يقول الناس: إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه! وهذا ليس عدلاً؛ فالعدل أن تحكم بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلاً. فالشجاعة هي أن تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق، وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز من نفسك.
ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال: «حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بَدْراً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله عليه وسلم للزبير: اسقِ يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله آنْ كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.
فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك
2381
حاطب بن أبي بلتعة، فقال: لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني: حكمت له لأنه ابن عمتك. لوى شدقية، فتغير وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم.. وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون: هو قد حكم أولاً أن يروي الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له: اسق يا زبير واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا: لماذا حكم أولاً بأن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم؟
الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي وادٍ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح؛ لأن الماء وإن جاء من الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب العالي شيء.
إذن فالحكم الأول كان مبنياً على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء مبنيّاً على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني - وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من الماء ما يكفيه - كأنه قال له: سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾.
وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة؟ عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ ولو فرضنا أن الله قال: اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان في بالهم؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله؟ وما غاية هذا الإيمان؟
2382
أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك: اقتل نفسك؟ إنه قال لك: اقتل نفسك لماذا؟ لأنك تنتقل للمسبب وتحيا دون تعب.
إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتأتيه الحلوى. لكن لا يمكن أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وُجد الشيء أمامه، فلا يدق جرساً ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه؟ لا؛ لأنهم سيجدون: خيرا أكثر.
إنك: لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدوداً، لا بعمرك ولا بامكاناتك بل تعيش زمناً ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾.. وهذا الخير أشد تثبيتاً لغيرهم؛ لأن من يرونهم ينفذون حكم الله. فلا بد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من بعدهم. أو المعنى: لو أنهم فعلوا ما أمروا به من اتباع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطاعته والانقياد له يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرار للإيمان في قلوبهم وأبعد عن الاضطراب فيه.
2383
فهم إذا فعلوا ما يوعظون به، ﴿وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً﴾ وساعة تسمع «
2383
من لدنَّا» اعرف أنها ليست من شأن ولا فعل الخلق. بل من تفضل الخالق. فالحق سبحانه وتعالى يرسل لنا منهجه بوساطة الرسل، لكنه يوضح أن بعضاً من الناس منحهم عطفاً وأعطاهم من لدنه علماً، فهو القائل: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾ [الكهف: ٦٥].
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يَعْلَمْه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والأعمال لها نظام، فمن يعمل خيراً يأخذ مقابلة كذا حسنة، ولكنْ هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن نجد ذلك متمثلاً لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلاً: يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل؟ فيقول لك: مائة جنيه. فتقول له: هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني «من عندي أنا» هذه؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقاً بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت: إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل: إذهاب للحياة بنقض البنية كأن يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولاً. بل إن البنية هدمت أولاً. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء: إنك إن رميت عليه حجراً صغيراً، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نوراً إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتأتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض
2384
للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
أي أن هناك أمرين: هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون: مات حتف أنفه.
أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يُقتل في الشهادة يقول فيه ربنا: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩].
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلاً أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم؟ هل قال له الحق: أنا سأميت ولدك؟ أقال له إن واحداً آخر سيقتل ابنك؟ لا، بل قال له: اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلا بد أن هناك مرتبة أعلى. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً﴾. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً... ﴾.
2385
ونحن أمام أمرين: إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله: ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ لمن؟ للذي قُتِل أم لمن خَرَج؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه مازال على قيد الحياة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَمَن يُطِعِ الله... ﴾.
والفعل هنا: «يطع» والمطاع هو: الله والرسول، أي أن هذا الأمر تشريع الله مع تطبيق رسوله، أي بالكتاب والسنة، وساعة تجد الرسول معطوفاً على الحق بدون تكرير الفعل فاعلم أن المسألة واحدة.. أي ليس لكل واحد منهما أمر، بل هو أمر واحد، قول من الله وتطبيق من الرسول لأنه القدوة والأسوة؛ ولذلك يقول الحق في الفعل الواحد: ﴿وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ﴾ [التوبة: ٧٤].
فما أغناهم الله غنىً يناسبه وأغناهم الرسول غنىً يناسبه فالفعل هنا واحد. فالغنى هنا من الله ورسوله؛ لأن الرسول لا يعمل إلا بإذن ربه وامتثالا لأمره، فتكون المسألة واحدة.
هناك قضية تعرض لها الكتاب وهي قضية قد تشغل كثيراً من الناس الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان مجلسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2386
لا يُصد عنه قادم، يأتي فيجلس حيث ينتهي به المجلس، فالذي يريد النبي دائما يستمر في جلوسه، والذي يريد أن يراه كل فترة يأتي كلما أراد ذلك فثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان شديد الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قليل الصبر عنه، فأتاه يوما ووجهه متغير وقد نحل وهزل جسمه، وعُرِف الحزن في وجهه، فسأله النبي قائلا: ما بك يا ثوبان؟ فقال والله ما بي مرض ولا علة، ولكني أحبك وأشتاق إليك، وقد علمت أني في الدنيا أراك وقتما أريد، لكنك في الآخرة ستذهب أنت في عليين مع النبيين، وإن دخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا.
ونص الحديث كما رواه ابن جرير - بسنده - عن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو محزون - فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا فلان مالي أراك محزوناً «؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه فقال:» ما هو «؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا تُرفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية:» ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين «.. فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه فبشره.
وكيف يأتى هذه على البال؟! إنه إنسان مشغول بمحبته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وفكر: هل ستدوم له هذه النعمة؟ وتفكر في الجنة ومنازلها وكيف أن منزلة الرسول ستعلو كل المنازل.
وثوبان يريد أن يطمئن على أن نعمة مشاهدته للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن تنتهي ولن تزول منه، إنه يراه في الدنيا، وبعد ذلك ماذا يحدث في الآخرة: فإما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها، إن لم يدخل الجنة فلن يراه أبداً. وإن دخل الجنة والنبي في مرتبة ومكانة عالية. فماذا يفعل؟
انظر كيف يكون الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله سبحانه وتعالى يلطف بمثل هذا المحب الذي شغل ذهنه بأمر قد لا يطرأ على بال الكثيرين، فيقول الحق سبحانه وتعالى تطمينا لهؤلاء: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك﴾ أي المطيعون
2387
لله والرسول ﴿مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ والمسألة جاءت خاصة بثوبان، بعد أن نبه الأذهان إلى قضية قد تشغل بال المحبين لرسول الله، فأنت مع من أحببت، ولكن الأمر لا يقتصر على ثوبان. لقد كان كلام ثوبان سبباً في الفتح والتطمين لكل الصديقين والشهداء والصالحين. وهي أصناف تستوعب كل المؤمنين، فأبو بكر الصديق صِدِّيقٌ لماذا؟ لأنه هو: المبالغ في تصديق كل ما يقوله سيدنا رسول الله، ولا يعرض هذا القول للنقاش أو للتساؤل: أي هذه تنفع أو لا تنفع؟ فعندما قالوا لسيدنا أبي بكر: إن صاحبك يدعى أنه أتى بيت المقدس وعاد في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل، ماذا قال أبو بكر؟ قال: إن كان قال ذلك لقد صدق.
لم يعلل صدقه إلا ب «إن كان قد قال ذلك»، فهذا هو الصديق الحق، فكلما قال محمد شيئا صدقه أبو بكر، وأبو بكر - رضوان الله عليه - لم ينتظر حتى ينزل القرآن مصدقا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل بمجرد أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إني رسول. قال أبو بكر: نعم. إذن فهو صديق.
لقد كانت هناك تمهيدات لأناس سَبَقوا إلى الإسلام؛ لأن أدلتهم على الإيمان سبقت بعثة الرسول، هم جربوا النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وعرفوه، فَلَمَّا تحدث بالرسالة، صدقوه على الفور؛ لأن التجارب السابقة والمقدمات دلت على أنه رسول، ومثال ذلك: سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - ماذا قالت عندما قال لها النبي: إنه يأتيني كذا وكذا وأخاف أن يكون هذا رَئِيّاً ومَسّاً من الجن يصيبني.
فقالت خديجة: «كلا والله ما يُخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق». وهذا أول استنباط فقهي في الإسلام.
هذا هو معنى «مع النبيين والصديقين»، ﴿والشهدآء﴾ هم الذين قتلوا في سبيل الله، لكن على المؤمن حين يقاتل في سبيل الله ألا يقول: أنا أريد أن أموت شهيداً. ويلقي بنفسه إلى التهلكة، إياك أن تفهمها هكذا، فأنت تدافع عن رسالة ولا بد أن تقاتل عدوك بدون أنك تمكنه من أن يقتلك؛ لأن تمكينه من قتلك، يفقد المسلمين
2388
مقاتلاً.
فكما أن الشهداء لهم فضل؛ فالذين بقوا بدون استشهاد لهم فضل. فالإسلام يريد أدلة صدق على أن دعوته حق، وهذه لا يثبتها إلا الشهداء.
لكن هل يمكن أن نصبح جميعاً شهداء؟ ومن يحمل منهج الله إلى الباقين؟ إذن فنحن نريد من يبقى ومن يذهب للحرب، فهذاله مهمة وهذا له مهمة، ولذلك كانت «التقية» وهي أن يظهر رغبته عن الإسلام ويوالي الكفار ظاهرا وقلبه مطئمن بالعداوة لهم انتظاراً لزوال المانع وذلك استبقاء لحياته كي يدافع ويجاهد في سبيل الله. ؟ وسببها أن الإسلام يريد من يؤكد صدق اليقين في أن الإنسان إذا قتل في سبيل الله ذهب إلى حياة أفضل وإلى عيش خير، هذا يثبته الشهيد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى عندما تأتيهم غرغرة الشهادة يريهم ما هم مقبلون عليه، فيتلفظون بألفاظ يسمعها من لم يقبل على الشهادة؛ فهناك من يقول: هبي يا رياح الجنة، ويقول كلمة يتبين منها أن ينظر إلى الجنة كي يسمع من خلفه، ومفرد شهداء، إما شهيد وهو الذي قتل في سبيل الله، وإمّا هي جمع شاهد، فيكون الشهداء هم الذين يشهدون عند الله أنهم بلغوا من بعدهم كما شهد رسول الله أنه بلغهم.
والمعاني كلها تدور حول معنى أن يشهد شيئاً يقول به وبذلك نعرف أننا نحتاج إلى الاثنين: من يقتل في سبيل الله، ومن يبقى بدون قتل في سبيل الله؛ لأن الأول يؤكد صدق اليقين بما يصير إليه الشهيد، والثاني يُعطينا بقاء تبليغ الدعوة فهو شاهد أيضاً: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣].
و «الصالحين» والصالح هو المؤهل لأن يتحمل لأن يتحمل مهمة الخلافة الإيمانية في الأرض. فكل شيء يؤدي نفعاً يتركه على حاله، وإن أراد أن يزيد في النافع فليرق النفع منه، فمثلاً: الماء ينزل من السماء، وبعد ذلك يكون جداول، ويسير في الوديان، وتمتصه الأرض فيخرج عيوناً، فعندما يرى عيناً للمياه فهو يتركها ولا يردمها فيكون قد ترك الصالح على صلاحه، وهناك آخر يرقى النفع من تلك النعمة فيبني حولها كي يحافظ عليها. إذن فهذا قد أصلح بأن زاد في صلاحه.
2389
وهناك ثالث يقول: بدلاً من أن يأتي الناس من أماكنهم متعبين بدوابهم ليحملوا الماء في القِرَب أو على رءوس الحاملين، لماذا لا أستخدم العقل البشري في الارتقاء بخدمة الناس لينتقل الماء إلى الناس في أماكنهم، وهنا يصنع الصهاريج العالية ويصلها بمواسير وأنابيب إلى كل من يريد ماء فيفتح الصنبور ليجد ما يريد. ومن فعل ذلك يسَّر على الناس، فيكون مصلحاً بأن جاء إلى الصالح في ذاته فزاده صلاحاً.
ويختم الحق الآية بقوله: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾. و «أولئك» تعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا توجد رفقة أفضل من هذه، والرفيق هو: المرافق لك دائما في الإقامة وفي السفر، ولذلك يقولون: خذ الرفيق قبل الطريق، فقد تتعرض في الطريق لمتاعب وعراقيل؛ لأنك خرجت عن رتابة عادتك فخد الرفيق قبل الطريق. ونعرف أن الأصل في المسائل المعنوية: كلها منقولة من الحسيات، وفي يد الإنسان يوجد المرفق.. يقول الحق: ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ [المائدة: ٦].
وساعة يكون الواحد مرهقاً ورأسه متعباً يتكئ على مرفقه ليستريح، وساعة يريد أن ينام ولم يجد وسادة يتكئ على مرفقه أيضاً. إذن فالمادة كلها مأخوذة من الرفق، فالرفيق مأخوذ من الرفقو «المرافق» مأخوذة من الرفق لأنها ترفق بالجسم وتريحه، وفي كل بيت توجد المرافق وهي مكان إعداد الطعام وكذلك دورة المياه، وفي الريف تزيد المرافق ليوجد مكان لمبيت الحيوانات التي تخدم الفلاح، وبيوت الفقراء قد تكون حجرة واحدة فيها مكان للنوم، ومكان للأكل، وقد يربط الفقير حماره في زاوية من الحجرة، لكن عندما يكون ميسور الحال فهو يمد بيته بالمرافق المكتملة. أي يكون في المنزل مطبخ مستقل، ومحل لقضاء الحاجة، وحظيرة مستقلة للمواشي، وكذلك يكون هناك مخزن مستقل، وهذه كلها اسمها «مرافق» لأنها تريح كل الناس.
إذن فقوله: «وحسن أولئك رفيقاً» مأخوذة من الرفق وهو: إدخال اليسر، والأنس، والراحة، ويكون هذا الإنسان الذي أطاع الله ورسوله بصحبة النبيين،
2390
والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وقد يقول قائل: كيف يجتمع كل هؤلاء في منزلة واحدة؛ على الرغم من اختلاف أعمالهم في الدنيا، أليس الله هو القائل: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩].
ونقول: ما دام المؤمن أطاع الله وأطاع الرسول، أليس ذلك في سعيه؟ فهذه الطاعة والمحبة لله ولرسوله هي من سعي العبد؛ وعلى ذلك فلا تناقض بين الآيتين، لأن عمل الإنسان هو سعيه، ويصبح من حقه أن يكون في معية الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وقد تكون الصحبة تكريما لهم جميعاً ليأنسوا بالصحبة، وهذه المسألة ستشرح لنا قوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: ٤٣].
فساعة يرى واحد منزلته في الآخرة أعلى من آخر، إياك أن تظن أنه سيقول: منزلتي أعلى من هذا؛ لأنه ما دام قد ترك الأسباب في الدنيا وعاش مع مسبب الأسباب، فهو من حبه لله يحب كل من سمع كلام ربنا في الدنيا فيقول لكل محب لله: أنت تستحق منزلتك، ويفرح لمن منزلته أعلى منه.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفرض أن هناك فصلاً فيه تلاميذ كثيرة، بعضهم يحب أن ينجح فقط، وبعضهم يحب العلم لذات العلم، وعندما يجد عشاق العلم تلميذاً نجيباً، أيكرهونه أم يحبونه؟ إنهم يحبونه ويسألونه ويفرحون به ويقولون: هذا هو الأول علينا؛ لأنه لا يحب نفسه بل يحب الآخرين، فكذلك المؤمن الذي يكون في منزلة بالجنة ويرى غيره في منزلة أعلى، إياك أن تقول إن نفسه تتحرك عليه بالغيرة، لا.
لأنه من حبه لربه وتقديره له يحب من كان طائعاً لله ويفرح له، مثله مثل التلميذ الذي ينال مرتبة عالية فيحب التفوق للآخرين من غير حقد. وهكذا نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لا تخدش قول الحق: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾.
2391
وهناك بحث آخر في قوله الحق: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾. ف «اللام» تفيد الملك والحق، كقولنا: ليس لك عندي إلا كذا، أي أن هذا حقك، فقوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ أي هي حق للمؤمن وقد حددت العدل في الحق ولم تحدد الفضل، ولذلك قال بعدها: ﴿ذلك الفضل... ﴾.
2392
فالفضل من الله يستمّد حيثيته من سعى الإنسان، فقوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ حددت الحق الذي لك والذي توجبه عدالة التكليف، لكن ربنا لم يقل: إن هذا العطاء لله من الحق والعدل. بل هو من الفضل، والفضل من الله هو مناط فرح المؤمن؛ لأنك مهما عملت في التكليف فلن تؤديه كما يجب بالنسبة لله، ولذلك أوضح سبحانه لنا: تنبهوا.. أنا كلفتكم وقد تعملون وتجتهدون، لكن لا تفرحوا مما سيجمعه هذا العمل من حسنات، ولكن سيكون فرحكم بما يعطيكم ربكم من فضله قال سبحانه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
وذلك الفضل من الله يرد على من يقول: كيف يجيء «ثوبان» أو مَن دون «ثوبان» ويكون في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء ومع الصالحين، ونقول: لو لم تكن منزلته أدنى لما كان في ذلك تفضل، إنه ينال الفضل بأن كانت طاعته لله ولرسوله فوق كل طاعة، أما حبه لله وللرسول، فهذا من سعيه وعمله بتوفيق الله له - وما توفيقي إلا بالله - والفضل هو مناط فرح المؤمن ﴿ذلك الفضل مِنَ الله وكفى بالله عَلِيماً﴾. ونحن نرضى ونفرح ونكتفي بعلم الله؛ لأنه سبحانه يرتب أحكامه على علم شامل ومحيط، ويعرف صدق الحب القلبي وصدق الودادة،
2392
وصدق تقدير المؤمن لمن زاد عنه في المنزلة.
وبعد أن أمّن الحق لنا داخلية وطننا الإيماني، وتجمعنا الإسلامي بالأصول التي ذكرها، وهي: أن نؤدي الأمانات، وإذا أدينا الأمانات فلن نحتاج إلى أن نتقاضى، فإذا غفل بعضنا ولم يؤد أمانة، وحدث نزاع فسيأتي الحكم بالعدل. وبعد ذلك نحتكم في كل أمورنا إلى الله وإلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا نحتكم إلى الطواغيت، وهات لي مجتمعا إيمانيا واحدا يؤدي الأمانة ولا يشعر بالاطمئنان.
وعرفنا أن الأمانة هي: حق لغيرك في ذمتك أنت تؤديه، وكل ما عداك غير. وأنت غير بالنسبة لكل ما عداك، فتكون كلها مسألة في الخير المستطرق للناس جميعا، وإذا حدثت غفلة يأتي العدل. والعدل يحتاج حكما، وعندما نأتي لنحكم نحتكم لله وللرسول، وإياك أن تتحاكم إلى الطاغوت. وكان «كعب بن الأشرف» يمثل الطاغوت سابقا، والآن أيضاً يوجد من هم مثل كعب بن الأشرف. بل هناك طواغيت كثيرة.
إنك إذا رأيت خللاً في العالم الإسلامي فأعلم أن هناك خللاً في تطبيق التكليف الإسلامي، فكيف تستقيم لنا الأمور ونحن بعيدون عن منهج تكاليف الإسلام المكتملة؟ ولو استقامت الأمور لكانت شهادة بأن هذا المنهج لا ضرورة له. لكن إذا حدث شيء فهذا دليل صدق التكليف.
وبعد أن طمأننا على المصير الأخروي مع النبيين والصديقين والشهداء أوضح سبحانه: لاحظوا أن كل رسالة خير تأتي من السماء إلى الأرض ما جاءت إلا لمحاربة فساد وقضاء على فساد طام في الأرض؛ لأن النفس البشرية إما أن يكون لها وازع من نفسها بحيث إنها قد تهم مرة بمعصية ثم توبخ نفسها وتعود إلى المنهج، فتكون مناعتها ذاتية، وإما أن المناعة ليست ذاتية في النفس بل ذاتية في البيئة، فمثلاً نجد واحداً لا يقدر على نفسه.
لكنه يجد واحداً آخر يقول له: «هذا عيب». وهذا يعني أن البيئة مازال فيها خير، وكانت الأمم السابقة قد خلت من المناعة وصارت على هيئة ومسلك واحد وهو ما يصوره الحق بقوله:
2393
﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩].
إذن فقد فسدت مناعة الذات، ولا توجد مناعة في المجتمع، فتتدخل - إذن - السماء. لكن الحق فضل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وميزها على غيرها من الأمم لأن مناعتها دائماً في ذوات أفرادها. فإن لم تكن في ذوات الأفراد ففي المجموع، فلا يمكن أن يخلو المجتمع الإيماني من فرد يقول: لا. ولذلك لن يأتي رسول بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلو كانت ستحدث طامة وفسد بها المجتمع ولا نجد فيه من يقول: لا.. لكان ولا بد أن يأتي رسول، لكن محمدا كان خاتم النبيين؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد بأن جعل وازعها دائماً أما من ذاتها بحيث يرد كل فرد نفسه وتكون نفسه لوّامة، وإمّا مناعة في المجتمع وكل واحد فيه يوصِي، وكل واحد يوصيَ، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣].
تواصوا لماذا؟ لأن النفس البشرية أغيار، فقد تهيج نفسي لأخرج عن المنهج مرة؛ فواحد آخر ينهاني، وأنا أردها له وأهديه وأرشده إلى الصراط المستقيم، وواحد آخر أخطأ فأنا أقول له وأنهاه. إذن فقوله: «وتواصوا» يعني: ليكن كل واحد منكم موصيا وموصى. فكلنا يَنظر بعضنا ويلاحظه؛ مَن ضعف في شيء يجد من يقوِّمه، فلا ينعدم أن يوجد في الأمة المحمدية موصٍ بالخير ومُوصى أيضا بالخير، وتوجد في النفس الواحدة أنه موصٍ في موقف ومُوصىً في موقف آخر؛ بحيث لا يتأبى إن وصاه غيره؛ لأنه كان يوصى بالأمس، وكما قالوا: «رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي».
وبعد أن استكمل الحق بناء البيئة الإيمانية برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وصرتم أنتم آخر الأمم. فهو سبحانه يطمئننا على أن الشر لا يطم عندنا وستبقى فينا مناعة إيمانية حتى وإن لم يلتزم قوم فسيلتزم آخرون. وإن لم يلتزم الإنسان في كل
2394
تصرفاته، فسيلتزم في البعض ويترك البعض، ولو لم تتدخل المساء بمنهج قويم لصار العالم متعبا.
وكيف يتعب العالم؟ إن العالم يتعب إذا تعطلت فيه مناهج الحق الذي استخلفنا في الأرض. فتطغى مظاهر الجبروت والقوة على مظاهر الضعف. ويتحكم في كل إنسان هواه.
وفي عالمنا المعاصر نرى حتى في الأمم التي لا تؤمن بدين لا تترك شعوبها لهوى أفرادها، بل ينظمون الحياة بتشريعات قد تتعبهم، ووضعت الأمم غير المتدينة لنفسها نظاما يحجز هوى النفس، ونقول لهم: أنتم عملتم على قدر فكركم، وعلى قدر علمكم بخصال البشر، وعلى قدر علمكم بالطبائع وأنتم تجنيتم في هذه؛ لأنكم تقننون لشيء لم تخلقوه بشيء لم تصنعوه.
وأصل التقنين: أن تقنن لشيء صنعته، كما قلنا: إن الذي يضع برنامج الصيانة لأي آلة هو من صنع الآلة، فالذي صَنَع التليفزيون أيترك الجزار يضع قانون للتليفزيون برنامج الصيانة؟ لا، فمن صنع التليفزيون هو الذي يضع قانون صيانته، فما بالنا بالذي خلقنا؟ إنه هو الذي يضع قانون صيانتي: ب «افعل ولا تفعل»، فأنتم يا بشر تتحكمون في أشياء بأهواء بعض الناس وتقولون: افعل هذه ولا تفعل هذه، فعلى أي أساس عرفتم شرور المخالفات؟ هل خلقتم أنتم النفس وتعرفون ملكاتها؟ لا. بدليل أنكم تعدلون قوانينكم، ويحدث التعديل - كما قلنا - لأن المشرع يتبين خطأ فيستدرك الخطأ، والمشرع البشرى يخطيء لأنه يقنن لما لم يصنع، فإذا كنا لا نريد أن يظهر خطأ فلنترك التقنين لمن صنع وهو الله.
والتاريخ البشرى يؤكد أن الفساد يطم عندما يتعطل منهج السماء، والسماء تتخل برسالة، وكل رسالة جاءت كان لها خصوم وهم المنتفعون بالشر، وهؤلاء لن يتركوا منهج الله يسيطر ليسلبهم هذه الهيمنة والسيطرة والقهر والجبروت والانتفاع بالشر، بل يحاربون رسالات السماء، ويلفتنا الحق إلى أن أهل الشر والناس المنفلتين من مناهج السماء وغير المتدينين، سيسببون لكم متاعب، فبعدما توطنون أنفسكم التوطين الإيماني انتبهوا إلى خصومكم وإلى أعدائكم في الله لقد قال الحق سبحانه وتعالى في هذه القضية:
2395
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾.
2396
لا يقال لك: خذ حذرك إلا إذا كان هناك عدو يتربص بك؛ فكلمة: خذ حذرك «هذه دليل على أن هذا الحذر مثل السلاح، مثلما يقولون: خذ بندقيتك خذ سيفك، خذ عصاك، فكأن هذه آلة تستعد بها في مواجهة خصومك وتحتاط لمكائدهم، ولا تنتظر إلى أن تغير عليك المكائد، بل عليك أن تجهز نفسك قبل ذلك على احتمال أن توجد غفلة منك، هذا هو معنى أخذ الحذر، ولذلك يقول الحق: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠].
وهذا يعني: إياك أن تنتظر حتى يترجموا عداءهم لك إلى عدوان؛ لأنهم سيعجلونك فلا توجد عندك فرصة زمنية كي تواجههم. فلا بد لكم أيها المؤمنون من أخذ الحذر لأن لكم أعداء، وهؤلاء الأعداء هم الذين لا يحبون لمنهج السماء أن يسيطر على الأرض. فحين يسيطر منهج السماء على الأرض فلن يوجد أمام أهواء الناس فرصة للتلاعب بأقدار الناس. ومن ينتفعون بسيطرتهم وبأهوائهم على البشر فلن يجدوا لهم فرصة سيادة.
﴿فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً﴾ أي لتكن النفرة منكم على مقدار ما لديكم من الحذر، و»
ثبات «جمع ثُبَة وهي الطائفة أي انفروا سَرِيّة بعد سَرِيَّة و» جميعا «أي اخرجوا كلكم لمواجهة العدو، وعلى ذلك يجب أن نكون على مستوى ما يهيج من الشر. فإن هاجمتنا فصيلة أو سرية، نفعل كما كان يفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد كان يرسل سرية على قدر المسألة التي تهددنا، وإن كان الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لتعبئة عامة فنحن ننفر جميعا. ولاحظوا أن الحق يخاطب المؤمنين ويعلم أن لهم أغياراً قد تأتي في نفوسهم مع كونهم مؤمنين. فقد تخور النفس عند مواجهة الواقع على الرغم من وجود الإيمان.
2396
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٦].
لقد كانوا هم الذين يطلبون القتال، وما داموا هم الذين قد طلبوا القتال فلا بد أن يفرحوا حين يأتي لهم الأمر من الله بذلك القتال؛ لكن الله أعلم بعباده لذلك قال لهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾ [البقرة: ٢٤٦].
فأوضح لهم الحق أن فكروا جيدا في أنكم طلبتم القتال وإياكم ألا تقاتلوا عندما نكتب عليكم هذا القتال لأنني لم أفرضه ابتداء، ولكنكم أنتم الذين طلبتم، ولأن الكلام مازال نظريا فقد قالوا متسائلين: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ [البقرة: ٢٤٦].
لقد تعجبوا واستنكروا ألا يقاتلوا في سبيل الله، خصوصاً أنهم يملكون السبب الذي يستوجب القتال وهو الإخراج من الديار وترك الأبناء، لكن ماذا حدث عندما كتب الحق عليهم القتال؟ :
﴿تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ [البقرة: ٢٤٦].
لقد هربت الكثرة من القتال وبقيت القلة المؤمنة. وكانت مقدمات هؤلاء المتهربين من القتال هي قولهم رداً على نبيهم عندما أخبرهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً فقالوا:
2397
﴿أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال﴾ [البقرة: ٢٤٧].
كانت تلك أول ذبذبة في استقبال الحكم، فأوضح لهم الحق السرّ في اصطفاء طالوت، فهو قوي والحرب تحتاج إلى قوة، وهو عالم، والحرب تحتاج إلى تخطيط دقيق؛ فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾ [البقرة: ٢٤٧].
وعندما جاءوا القتال أراد الحق أن يمحصهم ليختبر القوي من الضعيف فقال لهم طالوت: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ [البقرة: ٢٤٩].
والتمحيص هنا ليعرف من منهم يقدر على نفسه وليختبر قوة التحمل عند كل فرد مقاتل، فليس مسموحاً بالشرب من ذلك النهر إلا غرفة يد. فشربوا من النهر إلا قليلاً منهم، هكذا أراد الحق أن يصفيهم تصفية جديدة، وعندما رأوا جيش جالوت ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ [البقرة: ٢٤٩].
وما الضرورة في كل هذه التصفيات؟ لقد أراد الله ألاَّ يَحْمِلَ الدفاع عن منهجه إلا المؤمنون حقاً، وهم مَنْ قالوا:
2398
﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩].
وقوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٥١].
لماذا أعطانا ربنا هذه الصورة من التصفيات؟ كي نفهم أن النفس البشرية حين تواجه بالحكم نظرياً لها موقف، وحين تواجه به تطبيقياً لها موقف ولو بالكلام، وحين تواجه به فعليا يكون لها موقف، وعلى كل حال فقليل من قليل من قليل هم الذين ينصرهم الله. إذن فيريد سبحانه أن يربي في نفسونا أنه جل وعلا هو الذي يهزِم، وهو الذي يَغْلِب مصداقاً لقوله الحق: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: ١٤].
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا قلت لكم انفروا ثبات أو انفروا جميعاً واعلموا أن النفس البشرية هي بعينها النفس البشرية، وستتعرض للذبذبة حين تواجه الحكم للتطبيق، ولذلك يأتي هنا بقوله الحق: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ.....﴾.
2399
فساعة ندعو إنساناً منكم للحرب قد يبطئ ويتخاذل، مثلما قال في آية أخرى:
2399
﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض﴾ [التوبة: ٣٨].
و «اثاقلتم» تعني: أن هناك من يتثاقل أي ينزل إلى الأرض بنفسه، وعلينا أن نفرق بين من ينزل بجاذبية الأرض فقط، وبين من يساعد الجاذبية في إنزاله، فمعنى «أثاقل» أي تباطأ، وركن، وهذا دليل على أنه يريد أن يتخاذل، وهؤلاء لا يتاطأوا فحسب بل إنهم أقسموا على ذلك. ومنهم من كان يثبط ويُبَطِّئ غيره عن الغزو كالمنافق عبد الله بن أبيّ.
﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ فافهموا وخذوا هذه المناعة ضد من يعوق زحف المنهج قبل أن تبدأ المعركة، حتى إذا وقعت المعركة نكون قد عرفنا قوتنا وأعددنا أنفسنا على أساس المقاتلين الأشداء. لا على من يتباطأون ويتثاقلون، هناك من يفرح ببقائه حياً عندما يرى هزيمة المسلمين أو قتل بعضهم لأنه لم يكن معهم، فيظهر الحق أمثال ذلك ويقول: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾. لقد تراخى وبقي، وعندما تأتيهم المصيبة من قتل، أو من هزيمة يقول لنفسه: الحمد لله أنني لست معهم.
إذن تثاقله وتخلفه وتأخره عن الجهاد، كان عن قصد وإصرار في نفسه. وهذه قمة التبجح فهو مخالف لربنا وعلى الرغم من ذلك يقول: أنعم الله عليّ، مثله كمثل الذي يسرق ويقول: ستر الله عليّ، وهذه لهجة من لم يفهم المنهج الإيماني، فيقول: «قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً». إنه لم يكن معهم ولم يكن شهيداً ويعتبر هذا من النعمة، ولذلك قال بعض العارفين: إن من قال ذلك دخل في الشرك، فالمصيبة في نظره إما قتل وإما هزيمة. ثم ماذا يكون موقف المتخاذل المتثاقل المتباطئ عند الغنيمة أو النصر؟ يقول الحق: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله... ﴾.
2400
إذن فالعلّة في قوله: يا ليتني كنت معهم ليست رجوعاً عما كان في نفسه أولاً، بل هو تحسرّ أن فاتته الغنيمة، وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا بجملة اعتراضية في الآية تعطينا لقطة إيمانية، فيقول: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾.
والجمة الاعتراضية هي قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة كأن المودة الإيمانية ليس لها ثمن عنده، فلو كان لها أدنى تقدير لكان عليه ألا يقول في البداية: أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً، ولكان مع المقاتلين المسلمين، لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط، ويبتعد عن المسلمين إذا ما أصابتهم الهزيمة واستشهد عدد منهم.
وبذلك يكشف لنا الحق موقف المتخاذلين ويوضح لنا: إياكم أن تتأثروا بهؤلاء حين تنفرون ثباتٍ أو حين تنفرون جميعاً. واعلموا أن فيكم مخذلين وفيكم مبطئين وفيكم متثاقلين، لا يهمهم إلأا أن يأخذوا حظاً من الغنائم، ولذلك يحمدون الله أن هزمتم ولم يكونوا معكم؛ ويحبون الغنائم ويتمنونها إن انتصرتم ولم يكونوا معكم، إياكم أن تتأثروا بهذا وقد أعطيتم هذه المناعة حتى لا تفاجأوا بموقفهم منكم وتكونوا على بصيرة منهم. والمناعات ما هي إلا تربية الجسم، إن كانت مناعة مادية، أو تربية في المعاني، إن حدث مكروه فأنت تملك فكرة عنه لتبني ردّ فعلك على أساس ذلك.
ونحن عندما يهاجمنا مرض نأتي بميكروب المرض نفسه على هيئة خامدة ونطعِّم به المريض، وبذلك يدرك ويشعر الجسم أن فيه مناعة، فإذا ما جاء الميكروب مهاجماً الجسم على هيئة نشيطة، فقوى المقاومة في الجسم تتعارك معه وتحاصر الميكروب، فكأن إعطاء حقن المناعة دربة وتنشيط لقوى المقاومة في الجسم، وقد أودعها الله في
2401
دمك كي تؤدي مهمتها، كذلك في المعاني يوضح الحق لكم: سيكون منكم من يفعل كذا وكذا، حتى تعدًّوا أنفسكم لاستقبال هذه الأشياء إعداداً ولا تفاجأون به؛ لأنكم إن فوجئتم به فقد تنهارون. فإياكم أن تتأثروا بهذا ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين... ﴾.
2402
ومادة: «شرى» ومادة «اشترى» كلها تدل على التبادل والتقايض، فأنت تقول: أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم؛ أي أنك أخذت الثوب ودفعت الدرهم، وشرى تأتي أيضا بمعنى باع مثل قول الحق: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ [يوسف: ٢٠].
فالجماعة الذين وجدوا سيدنا يوسف عليه السلام في الجب كانوا فيه من الزاهدين. وبعد ذلك باعوه بثمن بخس، إذن ف «شرى» من الأفعال التي تأتي بمعنى البيع وبمعنى الشراء؛ لأن المبيع والمشتري يتماثلان في القيمة، وكان الناس قديماً يعتمدون على المقايضة في السلع، فلم يكن هناك نقد متداول، كان هناك من يعطي بعض الحب ويأخذ بعض التمر، فواحد يشتري التمر وآخر يشتري الحب، والذي جعل المسألة تأخذ صورة شراء وبيع هو وجود سلع تباع بالمال.
وما الفرق بين السلع والمال؟. السلعة هي رزق مباشر والمال رزق غير مباشر.
2402
فأنت مثلاً تأكل رغيف الخبز وثمنه خمسة قروش، لكن لو عندك جبل من ذهب وتحتاج رغيفا ولا تجده؛ أينفعك جبل الذهب؟ لا. إذن فالرغيف رزق مباشر؛ لأنك ستأكله، أما الذهب فهو رزق غير مباشر؛ لأنك تشتري به ما تنتفع به. وبذلك نستطيع أن نحدد المسألة؛ فالسلعة المستفاد منها مباشرة هي رزق مباشر، ندفع ثمنها مما لا ننتفع به مباشرة، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعقد مع المؤمن به صفقة فيها بيع وشراء. وأنتم تعلمون أن البائع يعطي سلعة ويأخذ ثمنا، والشارى يعطي ثمنا ويأخذ سلعة، والحق يقول هنا:
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة﴾ [النساء: ٧٤].
فالمؤمن هنا يعطي الدنيا ليأخذ الآخرة التي تتمثل في الجنة والجزاء، ومنزلة الشهداء؛ ولذلك يقول الحق في آية أخرى: ﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: ١١١].
تلك هي الصفقة التي يعقدها الحق مع المؤمنين، وهو سبحانه يريد أن يعطينا ما نتعرف به على الصفقات المربحة، فكل منا في حياته يحب أن يعقد صفقة مربحة بأن يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً أكبر منه، ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر: ٢٩].
هنا أيضاً تجارة، وأنت حين تريد أن تعقد صفقة عليك أن تقارن الشيء الذي تعطيه بالشيء الذي تأخذه ثم افرق بينهما، ما الذي يجب أن يضحي به في سبيل الآخر؟.
2403
والحق قد وصف الحياة بأنها «الدنيا» ولا يوجد وصف أدنى من هذا، فأوضح المسألة: إنك ستعطي الدنيا وتأخذه الآخرة، فإذا كان الذي تأخذه فوق الذي تعطيه فالصفقة - إذن - رابحة، فالدنيا مهما طالت فإلى نهاية، ولا تقل كم عمر الدنيا، لأنه لا يعنيك أن يكون عمر الدنيا ألف قرن، وإنما عمر الدنيا بالنسبة لكل فرد: هو مقدار حياته فيها، وإلا فإن دامت لغيري فما نفعي أنا؟.
إذن فقيمة الدنيا هي: مقدار عمرك فيها، ومقدار عمرك فيها مظنون، وعلى الرغم من ارتفاع متوسطات الأعمار في القرن العشرين، لكن ذلك لا يمنع الموت من أن يأخذ طفلاً، أو فتى، أو رجلاً، أو شيخاً.
إن عمر الدنيا بالنسبة لكل إنسان هو: مقدار حياته فيها، فلا تقارنها بوجودها مع الآخرين، إنما قارنها بوجودها معك أنت، وهب أنه متيقن ولكنه محدود بسبعين عاماً على سبيل المثال، ستجد أن تنعمك خلالها مهما كبر وعظم فهو محدود.
والإنسان منا يظل يُربَّى إلى أن يبلغ الحُلُم. فإذا ما بلغ الحُلُم وأصبحت له حياة ذاتية، أي أن إرادته لم تعد تابعة للأب أو للأم، بينما في طفولته كان كل اعتماده على أسرته، أبوه يأتي له بالملبس فيلبسه؛ وبالمطعم فيأكله، ويوجهه فيتوجه، لكن حينما توجد له ذاتية خاصة يقول لأبيه: هذا اللون لا يعجبني ﴿والأكل هذا لا يعجبني﴾ ! هذه الكلية لن أذهب إليها. ولا توجد للإنسان ذاتية لا إذا وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع أن ينسل مثله، فإذا ما أصبح كذلك نقول له: هذا هو النضج، وهو الذي يجعل لك قيمة ذاتية.
إنك إذا زرعت شجيرة بطيخ. فأنت ترعاها سقياً وتنظيماً وتسميداً، وهي مازالت صغيرة وتتعهدها كي لا تخرج مشوهة، حتى تنضج، وساعة تنضج يكون الشغل الشاغل قد انتقل من الشجيرة إلى الثمرة «البطيخة» فيقال صار لها ذاتية؛ لأنك إن شققتها لتأكلها تجد «اللب» قد نضج، وإن زرعته تأتي منه شجيرة أخرى.
2404
ولكن إذا ما قطفت الثمرة قبل النضج فأنت قد تجد «اللب» أبيض لم ينضج بعد، فلا تصلح تلك البذور لأن تأتي وتثمر مثلها، وإذا كان «اللب» نصفه أبيض ونصفه أسود، فهي لم تنضج تماما، أما إذا وجدت «لبّها» أسمر اللون داكناً فهو صالح للزراعة والإثمار، وتجد الحلاوة متمشية مع نضج البذرة. فلو كانت الثمار تنضج قبل البذور لتعجل الخلق أكل الثمرة قبل أن تُربى وتنضج البذور ولانْقَطَعَ النوع؛ لذلك لم يجعل ربنا حلاوة الثمرة إلا بعد أن تنضج البذور، وكذلك الإنسان، والحق يقول: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩].
وعندما يكون الإنسان طفلاً فنحن نتركه يلهو ويرتع في البيت ويرى هذه وهذه، لكن إذا كان قادراً على نسل مثله واكتملت رجولته فعليه أن يستأذن، وحين يكون الإنسان بهذا الشكل تصير له ذاتية، ولنفترض أنه سيعيش عدداً من السنين تبلغ حوالي الخمسة والخمسين عاماً بعدما صارت له ذاتية ويستطيع النسل إنّه سيقضي مراهقته في التعلم إلى أن يصبح صالحاً لأن يكسب ويعيش ويتمتع، ثم لنسأل: كم سنة سيتمتع؟ سنجدها عدداً قليلاً من السنوات.
إذن فالحياة محدودة، والمتعة فيها على قدر إمكاناته، فقد يسكن في شقة من حجرتين أو في شقة مكونة من ثلاث حجرات، أو في منزل خاص صغيراً أو حتى في قصر، وقد يركب أو يمشي على قدميه، باختصار على قدر إمكاناته، أما في الأخرة فالموقف مختلف تماماً، سيسلم نفسه إلى حياة عمرها غير محدود، فإن قارنت المحدود بغير المحدود ستجد الغلبة للآخرة لأنها متيقنة والنعيم فيها على قدر سعة فضل الله وقدرته، فالأحسن لنا أن نبيع الدنيا ونأخذ الآخرة، فتكون هذه هي الصفقة الرابحة التي لا تبور.
ولماذا يدخل الله العبد في عملية البيع هذه؟؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعرض عليك الصفقة لتدخل في عملية البيع التي تجهدك إن لم تَقْتُل أو تُقْتَل في سبيل الله لا بد أن يوضح لك كيفية الغاية التي تأخذ بها الفوز في الآخرة، ولن تأخذ هذا
2405
الفوز بالكلام فقط، ولكن انظر إلى المنهج الذي ستقاتل من أجله، إنّه تأسيس المجتمع الذي يؤدي كل امريء فيه الأمانة، وهذا الأمر لا يحزن منه إلا من يريد أن يأخذ عرق الناس ويبني جسمه من كدهم وتعبهم، وهات مجتمعاً لا يؤمن بالله وقل: يأيها الناس نريد أن يؤدي كل واحد منكم الأمانة التي عنده، نريد أن نحكم بالعدل، فسيفرح أهل هذا المجتمع.
إذن فلكي نحمي المجتمع لا بد أن نؤدي الأمانة وأن نقيم العدالة. ومن قبل ذلك أمرنا أن نعبد إلهاً واحداً فلا نتشتت، ثم أوصانا بالوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين.
قل لي بالله عليك: لو لم يكن هذا دينا من السماء، وكان تشريعاً من أهل الأرض، أهناك أعدل من هذا؟
إن مثل هذا المنهج الذي يكفل أمان الجميع يستحق أن يدافع الإنسان عن تطبيقه. وقبل أن يفرض علينا القتال أوضح سبحانه: هذا هو المجتمع الذي ستقاتلون من أجله، واعلم أنك ساعة تذهب إلى القتال، أقصى ما فيها أن تُقتل، فستأخذ صفقة الآخرة، وقصرت مسافة غاياتك؛ لأن كل شيء إنما يقاس بزمن الغاية له، فإن قتلت فقد قصرت المدة للوصول إلى الغاية، فتصل إلى الجنة، والحمق هو الذي يصيب الناس عندما يموت عزيز أو حبيب فيغرقون في الحزن. نقول لهم: ألسنا جميعاً سائرين إلى هذه الغاية، فلماذا الغرق في الحزن إذن؟.
والحق سبحانه وتعالى يكافئ من يقتل في سبيل الله بحياة في عالم الغيب وفيها رزق أيضاً. وبعض من الناس يظنون أنهم إن فتحوا قبر الشهيد فسيجدونه حياً يُرزق. ونقول لهم: إن الحق لم يقل: إن الشهداء أحياء عندكم، بل أحياء عنده في غالم الغيب. والحق سبحانه يطلب من الذي اقتنع بالإسلام أن ينشره، وأن يعدل المسلمون بين أنفسهم لتنصلح أمورهم، وأن يواجهوا أصحاب الشرّ الذي لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة.
ولم تأمر السماء بقتال قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كان الرسول من
2406
السابقين على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغ قومه برسالته، فإن آمنوا فبها ونعمت وإن لم يؤمنوا تتدخل السماء بالعقاب، بريح صرصر، رجفة، صيحة، خسف الأرض بهم، إغراق، فالرسول قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يبلغ، والسماء تعاقب من لم يؤمن. وما وجد قتال إلا إذا اقترحوا هم القتال، مثل بني إسرائيل، قال الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٦].
هم الذين اقترحوا، لكن القتال الذي يُثَبِّت المبدأ وينشر المنهج لإعلاء كلمة الله، وسيطرة الخلافة الأمنية الإيمانية على الأرض، لم يشرع إلا على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فكأن الله لم يأمن خلقاً على خلق إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد جعلها أمينة. فأنتم أمناء أن تتولوا عن السماء تأديب المخالف، وبذلك أخذتم المستوى العالي في المنهج والمستوى العالي في الرسالة. وأكرم الله نبيّه فقال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣].
فجاء القتال وحارب المسلمون - وهم ضعاف - المجتمعات الفاسدة القوية. والشاعر يقول:
فقوى على الضلال مقيم وقطيع من الضعاف يُجارِي
هذا القتال لو لم يجيء به الدين، أَلاَ تقوم به الأمم التي لا دين لها لإصلاح أمرها؟ إنها تقاتل، فلماذا يكون مباحاً منهم أن يقاتلوا كي يقرروا مبادئهم، وعندما يأتي الدين ليشرع القتال يقولون: لا. هذا دين سيف.
نقول لهم: بالله لماذا إذن تحارب الشعوب؟ أنت تجد شعوبا تتحارب وتجد ظلما يحارب ظلما آخر، فإذا ما وجد عدل ليزحزح ظلما نقف في طريقه؟ لا. وذلك حتى
2407
نعرف أن المسألة مسألة رسالة من السماء لا طغيان ذوات اجتمعوا أو بيتوا مؤامرة لصنع انقلاب يسيطرون به على الناس.
لقد جاء الإسلام وآمن به الضعاف الذين لا يملكون أن يقاتلوا، فلم يكن باستطاعتهم أن يحموا حتى أنفسهم؛ ذلك حتى نعرف أن الحق ساعة يأتي، يأتي عادة لا من قوي بل يأتي من ضعيف تعب كثيراً كي يثبت الإيمان، والإسلام نادى ودعا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة لكنه لم ينتصر كدين ولم يسطع إلا من المدينة. فمكة بلد محمد وفيها قبيلته قريش التي ألفت السيادة على الجزيرة كلها ولا أحد يستطيع أن يقرب منها بعدوان، ولم تكن هناك قوة تستطيع أن تعترض قوافلها بالتجارة إلى الجنوب أو إلى الشمال.
إن أي قبيلة تخاف أن تتعرض لها في الطريق؛ لأن القبائل ستأتي إلى قريش في موسم الحج، وتخاف كل قبيلة من انتقام قريش، فلو أن الإسلام الذي صاح به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انتصر في مكة ربما قالوا: قبيلة عشقت السيادة، ودانت لها أمة العرب فما المانع من أن تطمح في أن يدين لها العالم كله؟
وأراد الحق أن تكون قريش هي أول من يضطهد رسول الله ويحاربه، والضعاف هم الذين يتبعونه، وبعد ذلك يأتي النصر لدين الله من مكان بعيد عن مكة من «المدينة» لتشهد الدنيا كلها أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، ولم تخلق العصبية لمحمد الإيمان بمحمد، وها هوذا سيدنا عمر كان يسمع قول الله سبحانه:
﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥].
فيقول: أي جمع هذا ونحن لا نقدر أن نحمي أنفسنا؟ ويقول الحق: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ [القلم: ١٦].
فيقول عمر: كيف ونحن لا نقدر أن ندافع عن أنفسنا؟
2408
وبعد ذلك تأتي موقعة «بدر» فتُثْبِت له صدق هذا، والعجيب أن الآية تنزل وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، فلا يمكن أن يقال: إن هناك مقدمات لذلك بحيث تستنتج النتيجة؛ فالمقدمات لا توحي بأي نصر، لكن ربنا هو الذي قال، ورأوا صحيحاً أن الوليد بن المغيرة ضرُب على أنفه وتركت الضربة علامة على أنفه؛ لأن الذي قال ذلك من قبل قادر على إنفاذ ما يقول بدون قوة تحول دون ذلك أبداً، وهذا يدلنا على اختبار المبادئ.
إنك تجد أنّ الذي يؤمن بالمبادئ هو الذي يضحي أولاً، يدفع ماله وقد يدفع دياره، بأن يخرج منها، وقد يدفع نفسه فيقتل، كل ذلك من أجل المبدأ، لكن الأمر يختلف مع المبادئ الباطلة؛ فقبل أن يدخلها واحد نجده يأخذ الثمن. ومن يروجون للمبادئ الباطلة يقولون لمن يغررون به: خذا مالاً وعش واستمتع، واشتر أحسن الثياب.
أما أصحاب مبدأ الحق فهم الفقراء الذين يدفعون الثمن، ولهم الحق أن يدفعوا الثمن لأن المثمن غال، لكن في الباطل لا يعرفون مثمناً. والذي ينظر لمبدأ من المبادئ الهدامة، يرى كيف يعيش قادتها، بينما الرعية تحيا في بؤس، فيقول: أنا آخذ الثمن مقدماً؛ والأمر يختلف مع المؤمنين، فهم الذين يدفعون الثمن. لينعموا بالجزاء في الآخرة.
والحق سبحانه وتعالى حين يشرع القتال لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشرعه أولا دفاعا، كانوا يطلبون من رسول الله، يقولون: يا رسول الله، إئذن لنا نقاتل على قدر جهدنا، فيقول: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال».
وبعد ذلك يؤمر بالقتال كي يدافع عن الخلية الإيمانية بعدما ذهبوا إلى المدينة، ونعلم أن القتال عملية ضرورية في الحياة. فالحق سبحانه هو القائل: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾ [البقرة: ٢٥١].
2409
وهو القائل: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ [الحج: ٤٠].
إذن فدفع الله بعض الخلق بالخلق أمر ضروري واقعي.
وحين يعاب على الإسلام أمر القتال، نقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حينما شرع هذا القتال فقد شرعه لأن قوى البغي هي التي تحول دون تطبيق منهج من مناهج العدالة المعروفة، ولا يستطيع أحد أن يجادل فيها. ولو لم يكن العدل قادمً من السماء لما كان هناك منهج صالح يحكم الناس، فإذا أراد الله أن يصنع العدل بمنهج أنزله هو، فلماذا يأتي من يقف في الطريق ويقول للرسول: أنت جئت لكي ترغم الناس أن يؤمنوا بمنهجك؟!
ويوضح الحق مسيرة الرسول أنه جاء لكي يثبت كرامة الإنسان فهو سيد الأجناس التي تحيط به، فالجماد مسخر، والنبات مسخر، والحيوان مسخر، وليس لأي منهم حرية في أن يقول: افعل ولا تفعل، فلا توجد إرادة ولا اختيار عند كل الأجناس إلا عند الإنسان؛ فالحق هو القائل عن أمانة الاختيار. ﴿فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا﴾ [الأحزاب: ٧٢].
إذن فبأي شيء تميز الإنسان على هؤلاء الأجناس؟ تميز عليهم بالعقل، ومهمة العقل أن يختار بين البديلات، أما إذا كان هناك أمر ليس له بديل، فليس للعقل عمل فيه.
ومثال ذلك: هناك مكان نريد أن نذهب إليه، فيوضح لك إنسان: لا يوجد إلا هذا الطريق، فهل تفكر أن تذهب عن طريق آخر؟ طبعا لا، إذن فالعقل لا عمل له إلا الاختيار بين البديلات، فإن لم يكن هناك بديل فلا عمل له. وإذا أراد العقل أن يختار بين البديلات ألا نضمن له حرية الاختيار أم نقيد حرية الاختيار لديه؟
2410
إنك إن قيدت حرية الاختيار بالإكراه فقد أخذت النعمة التي أعطيتها له، وجعلته مقهوراً مسخراً مكرهاً؛ ولذلك فالمكره لا يكون له حكم على الأشياء بل هو مجبر ومسخر.
وما دمت تقول: إن العقل هو الذي يختار بين البديلات، فلا بد أن يكون حق الاختيار موجوداً، فإن كان في الإنسان عطب كأن يكون مجنونا، فلا اختيار له، وإن كان العقل موجودا لكنه لم ينضج بعد نقول أيضاً: لا اختيار.
إذن فلا بد أن يكون العقل موجوداً وناضجا للاختيار بين البديلات، ويكون للإنسان حرية أن يختار، فإن لم يكن العقل موجودا فهو مجنون فلا تكليف له. والمجنون قد سلبه الله أعز ما أعطى للإنسان وهو العقل، لكن أعفاه الله أن يسأله أحد عن شيء، فيفعل دون سؤال، فلا تكليف لمجنون، فالتكليف إذن لصاحب العقل الناضج، وكذلك لا تكليف من قبل البلوغ.
إذن فالإسلام جاء ليحمي كرامة الإنسان في حرية الاختيار، ويعرض عليك أمر الإيمان، فالذي حمل السيف، لم يحمله ليجبر أحداً على الإيمان، إنما ليرد كيد من أرادوا قهر الناس، والجزية إنما فرضت لإعفاء غير المسلمين من مسئولية القتال، ولو كان الإسلام يفرض الإيمان على الناس في البلاد التي فتحها لما وجدنا أتباع أي دين في البلاد التي دخلها الإسلام.
وهذه شهادة للمسلمين.
إن الإسلام لم يجيء ليفرض دينا وإنما جاء ليحمي حرية اختيار الدين؛ والَّذين يقولون: إن الإسلام جاء بالسيف نقول لهم: افهموا جيدا، لقد كان المؤمنون الأوائل ضعافا وظلوا على الضعف مدة طويلة، والبلاد التي فتحت بالإسلام مازال فيها أناس غير المسلمين، وهذا دليل أن الإسلام جاء ليحمي حرية الاختيار: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
ثم نأتي لنقطة أخرى وهي أن الإسلام لم يأخذ الجزية إلا لأن غير المسلم سيستمتع
2411
بكل خيرات بلاد الإسلام، والمسلم يدافع وأيضا يدفع الزكاة والخراج. إذن فالمسألة عدالة منهج، وعلى ذلك يجب أن نفهم أن قول الحق:
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: ٧٤].
فالقتال إنما جاء حتى تسيطر مناهج السماء، وسبحانه حينما يقول: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ فهذا يدلنا على أن هناك قتالاً في غير سبيل الله، كأن يقاتل الرجل حمية، أو ليعلم مكانه من الشجاعة، فقال الرجل دائماً حسب نيته، ولذلك تساءل بعض الناس: من الشهيد؟ قال العلماء: هو من قتال لتكون كلمة الله هي العليا فيكون شهيدا. إذن فالقتال مرة يكون في سبيل الله، ومرة يكون في سبيل النفس، ومرة يكون في سبيل الشيطان.
يقول الحق: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة﴾ أي يبيعون الدنيا ليأخذوا الآخرة، ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.
إذن فالذي يدخل القتال هو أمام أمرين اثنين: إما أن يُقْتل من الأعداء، وإما إن ينتصر، وهذه هي القضية الجدلية التي تنشأ بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، والمقاتل من معسكر الإيمان يقول لمعسكر الكفر: أنا أقاتل لإحدى الحسنين: إما أن أُقْتل فأصبح شهيداً آخذ حياة أفضل من هذه الحياة، وإما أن أنتصر عليك، فلماذا تتربصون بنا أيها الكفار؟
إن المؤمن يثق أنه فائز بكل شيء؛ فإن قُتل ذهب إلى الجنة وإلى حياة أفضل من حياتكم، وإما أن ينتصر، والحالتان على سواء من الخير.
وهذا للاستدلال بأن هذا المنهج يراق فيه الدم، وشهادة لهذا الدين بأنه صحيح، وإلا فلن يذهب أحد للقتال إن لم يكن مقتنعاً بالدين، فكل واحد يعمل
2412
لحياته ونفسه، فكل الأمور بالنسبة للإنسان نفعيه حتى في الدين، ولذلك يقولون: لا تكن أنانيا رخيصا بل عليك أن تكون أنانيا غاليا، والدين هو ممارسة لأنانية عليا.
ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الذي ليس معه إلا جنيه وهو يحتاج إليه ثم رأى واحدا في حاجة ماسة، فيقول المؤمن لنفسه: لقد أكلت، وقد يكون هذا الإنسان لم يأكل بعد فلأعطه الجنية.
بالله أهو يحب الذي أخذ الجنيه عن نفسه؟ لا، بل هو يحب نفسه، لكنها أنانية عليا؛ أنانية معلاة. وسبق أن قلنا: إن الذي يجلس ويرى امرأة جميلة فغض عينه أمره يختلف عن واحدٍ آخر «يبحلق» ويحدّق وينظر إليها بشدة، فايهما يحب الجمال أكثر؟ إن الذي غضَّ بصره هو من يحب الجمال أكثر؛ لأنه لا يريدها لحظة فقط، بل يريدها مستديمة.
فما بالنا بالذي يبيع الدنيا ويقتل في سبيل الله ويأخذ الآخرة التي ليس فيها قتل أو أي شيء مكدر؟ إذن فهذه أنانية عليا، والحق سبحانه وتعالى يعاملنا بقانون النفعية، لكنها نفعية عليا وليست نفعية رخيصة أو قصيرة المدى، فيجعلنا نبيع الرخيص بالثمن الغالي.
ولقد رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذين يقاتلون في سبيل الله وعرض عليه منظرهم وهو في ليلة الإسراء والمعراج؛ رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة يزرعون ويحصدون بعد البذر مباشرة؛ لأن الذي قتل في سبيل الله إنما فعل ذلك إعلاء لكلمة الله، فلا ينتهي قطفه أبدا للخير الذي بذله، وحياته مستمرة في حياة الملايين. ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ وعرفنا أن كل مؤمن يقاتل في سبيل الله إنما يقول لمعسكر الكفر ما جاء به الحق في قوله: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢].
2413
فالمؤمن يعلم أنه إما أن يُقتل ويكون شهيداً، وإما أن يَغلب معسكر الكفر. وهو يتربص بالكافرين أن يُصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، إذن فالمؤمنون رابحون على كل حال، والكافرون خاسرون على كل حال.
و «المعرى» قبل أن يهديه الله وكان متشككاً قال:
تُحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يُعاد لنا سبك
فقالوا: إنه ينكر البعث، فما دام قد جاء بمثل يقول فيه إن الإنسان كالزجاج إن تحطم فلن يستطيع أحد أن يعيده إلى سيرته الأولى، قال ذلك أيام تكبر الفكر، وهذه تأتي في أيام الغرور، ثم جاءت الأحداث لتلويه وتضرب في فكره وينتهي إلى الإيمان، لكن أكان ضامناً أن يعيش حتى يؤمن؟ فلماذا لم يخلص نفسه من مرارة تجربة الشك؟ ولكنه بعد أن آمن قال: «هأنذا أموت على عقيدة عجائز أهل نيسابور. ربنا حَقُّ وربنا سميع وربنا بصير وقال:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخسار عليكما
أي إن صحّ قولكما على أنه لا بعث وقمت أنا بالأعمال الطيبة في الدنيا، فماذا أكون قد خسرت؟ إنني لن أخسر شيئاً، وإن صحّ قولي وفوجئتم بالآخرة والبعث فأنا الذي يكسب والخسران والبوار والعذاب عليكما، إذن فإيماني إن لم ينفعني فلن يضرني، وكلامكما حتى لو صح - وهو غير صحيح ولا سديد - فلن يضرني.
والحق يقول: ﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ وسبحانه هنا يطيل أمد العطاء. انظروا دقة الأداء القرآني، لأن الذي يتكلم هو الله، ولنر كيفية ترتيب فعل على فعل، فحين أقول لك: «احضر لي أكرمك»
، فبمجرد الحضور يحدث الإكرام، ولكن إن قلت لك: «إن حضرت إليّ فسأكرمك»، فهذا يعني أن الزمن يمتد قليلاً، فلن تكرم من فور أن تأتي بل أن تحضر عندي وبعد ذلك تأخذ تحيتك، ويأتيك الإكرام بعد قليل.
2414
وإن أردت أنا أن أطيل الزمن أكثر فإني أقول: «إن حضرت إليّ فسوف أكرمك». إذن فنحن أمام ثلاث مراحل لترتيب الجزاء على الفعل: جزاء يأتي بعد فور حصول الشرط، وجزاء يأتي بعد زمن يسير تؤديه «السين»، وجزاء يأتي بعد زمن أطول تؤديه. «سوف».
ولم يقل الحق: من يقاتل في سبيل الله نؤتيه أجراً عظيماً، ولم يقل: فسنؤتيه أجراً عظيما، ولكنه قال: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ وهذا القول سيبقى ليوم القيامة؛ لذلك كان لا بد أن تأتي «سوف» هنا، وهذا دليل على أنه جزاء موصول لا مقطوع ولا ممنوع.
وهكذا نرى إحكام الأداء القرآني، والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه وذاته، يأتي بأساليب كثيرة: فمرة يأتي بأسلوب الجمع، ونحن نقول، كما علمونا في النحو: «النون للتعظيم» كما في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
لم يقل: أنا أنزلت.. فكل شيء يكون نتيجة فعل من أفعال الله. تأتيه «نون التعظيم» ؛ لأنه سبحانه حين يصنع شيئاً لخلقه من متعة أو من نعيم، يريد صفات كثيرة: قدرة للإبراز، وعلما لترتيب النعمة، وتدبيرا وحكمة، وبسطا، فيقول هنا: «نؤتيه»، لأن الصفات تتكاتف لتعمل الخير، لكنه حين يتكلم عن ذاته مجرداً عن الفعل. فسبحانه يتكلم بالوحدانية مثل قوله الحق: ﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني﴾ [طه: ١٤].
وكذلك قوله الحق: ﴿وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى﴾ [طه: ١٣].
2415
فساعة يتكلم سبحانه عن ذاته فهو يتكلم بالوحدانية، ولا تقل بالإفراد تأدباً مع الله فليس له شريك أو مثيل، وحينما يتكلم سبحانه عن فعله يأتي بالجمع فيقول: «نحن» وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، مثلما حدث عند قراءة قول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ [فاطر: ٢٧].
لقد جاء سبحانه في صدر الآية: ب «أنزل» وكان يناسبها أن يأتي بعدها «أخرج»، لكنه قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ فلماذا هذه «مفردة» وتلك «جمع» ؟؛ لأنه ساعة قال: «أنزلنا من السماء ماءٌ» لم يكن لأحد من خلقه ولو بالأسباب فعل في إنزال المطر، لكن ساعة أن أنزل المطر، نجد واحداً قد حرث الأرض، وثانياً بذر، وثالثاً روى الأرض، وكل ذلك من أسباب خلقه، فلم يهضم الله خلقه فقال: ﴿أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ ثم بعد ذلك: أنا وخلقي بما أمددتهم ومنحتهم ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾.
إذن فلا بد أن ننتبه إلى دلالة الكلمة حين تأتي بالمفرد وحين تأتي بالجمع.
وقوله سبحانه: ﴿نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ يلفتنا إلى أن كل فعل إنما هو حدث يتناسب مع فاعله أثراً وقوة. فالطفل عندما يصفع آخر لا تكون صفعته في قوة الشاب أو قوة الرجل، فإذا كان الذي يعطي الأجر مثيلاً لك فسيعطيك أجراً على قدره، لكن إذا كان من يعطي هو ربنا، فسيعطي الأجر على قدره، ولا بد أن يكون عظيماً. والأجر هو الشيء المقابل للمنفعة.
وهناك فرق بين الأجر والثمن؛ فالثمن مقابل العين، أما الأجر فهو مقابل المنفعة، أنا اشتريت هذه، فهذا يعني أني دفعت ثمناً، لكن إن استأجرت شيئاً فهو لصاحبه ولكن أخذته لأنتفع به فقط، وجزاء الحق لمن يقتل في سبيل الله أهو أجر أم ثمن؟، ونلتفت هنا أن الحق قد أوضح: أنا لم أثمن مَن قتل، بل نظرت لعمله، فأخذت أثر عمله، وأعطيته ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾.
2416
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ... ﴾.
2417
والآية تبدأ بالتعجيب، ذلك أنه بعد إيضاح لون الجزاء على القتال في سبيل الله كان لا بد أن يصير هذا القتال متسقاً مع الفطرة الإنسانية، ونحن نقول في حياتنا العادية: وما لك لا تفعل كذا؟ كأننا نتساءل عن سبب التوقف عن فعل يوحي به الطبع، والعقل. فإن لم يفعله الإنسان صار عدم الفعل مستغرباً وعجيباً. فالقتال في سبيل الله بعد أن أوضح الله أنه يعطي نتائج رائعة، فالذي لا يفعله يصبح مثاراً للتعجب منه، ولذلك يقول الحق: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي لإعلاء كلمة الله، ومرة يأتي القتال وذلك بأن يقف الإنسان المؤمن بجانب المستضعف الذي أوذي بسبب دينه. ويكون ذلك أيضا لإعلاء كلمة الله.
يقول سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين﴾ أي أن القتال يكون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وفي ذلك استثارة للهمم الإنسانية حتى يقف المقاتل في سبيل رفع العذاب عن المستضعفين، بل إننا نقاتل ولو من باب الإنسانية لأجل الناس المستضعفين في سبيل تخليصهم من العذاب؛ لأنهم ما داموا صابرين على الإيمان مع هذا العذاب، فهذا دليل على قوة الإيمان، وهم أولى أن ندافع عنهم ونخلصهم من العذاب.
ويعطينا سبحانه ذلك في أسلوب تعجب: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين﴾ فكأن منطق العقل والعاطفة والدين يحكم أن نقاتل، فإذا لم نقاتل، فهذه المسألة تحتاج إلى بحث.
2417
وساعة يطرح ربنا مثل هذه القضية يطرحها على أساس أن كل الناس يستوون عند رؤيتها في أنها تكون مثاراً للعجب لديهم، مثلها مثل قوله الحق: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨].
يعني كيف تكفرون بربنا أيها الكفار؟ إن هذه مسألة عجيبة لا تدخل في العقل، فليقولوا لنا إذن: كيف يكفرون بربنا؟
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال﴾ وكلمة «والمستضعفين» يأتي بعدها «من الرجال» والمفروض في الرجل القوة، وهذا يلفتنا إلى الظرف الذي جعل الرجل مستضعفاً، ومَنْ يأتي بعده أشد ضعفاً. ﴿والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً﴾ فقد بلغ من اضطهاد الكفار لهم أن يدعوا الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، والقرية هي «مكة».
وقصة هؤلاء تحكي عن أناس من المؤمنين كانوا بمكة وليست لهم عصبية تمكنهم من الهجرة بعد أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهم ممنوعون من أن يهاجروا، وظلوا على دينهم، فصاروا مسضعفين: رجالاً ونساءً وولداناً، فالاضطهاد الذي أصابهم اضطهاد شرس لم يرحم حتى الولدان، فيقول الحق للمؤمنين: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان﴾ :
وهؤلاء عندما استضعفوا ماذا قالوا؟.
قالوا: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ وعبارة الدعاء تدل على أنهم لن يخرجوا بل سيظل منهم أناس وثقوا في أنه سوف يأتيهم وليّ يلي أمرهم من المسلمين، فكأنها أوحت لنا بأنه سيوجد فتح لمكة. وقد كان.
لقد جعل الله لهم من لدنه خير وليّ وخير ناصر وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر.
2418
هذه الجماعة من المستضعفين منهم «سلمة بن هشام» لم يستطع الهجرة، ومنهم «الوليد بن الوليد» و «عياش بن أبي ربيعة»، و «أبو جندل بن سهيل بن عمرو». وسيدنا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لقد كنت أنا وأمي من هؤلاء المستضعفين من النساء والولدان، وكانوا يضيقون علينا فلا نقدر أن نخرج، فمثل هؤلاء كان يجب نصرتهم، لذلك يحنن الله عليهم قلوب إخوانهم المؤمنين ويهيج الحمية فيهم ليقاتلوا في سبيلهم؛ فظلم الكافرين لهم شرس لا يفرق بين الرجال والنساء والولدان في العذاب.
﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً﴾ وكان رسول الله والمسلمون نصراء لهم.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ... ﴾.
2419
وعرفنا أن الطاغوت هو: المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى، وعلى الجمع: فتقول: رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت﴾ [البقرة: ٢٥٧].
2419
إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان؟. يصح. أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم؟ يصحّ، أهو الذي يفرض الشرّ على الناس فيتقوا شرّه؟ يصحّ، وكل تلك الألوان اسمها «الطاغوت».
والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣].
وانظر للمقابلة هنا: ﴿الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت﴾، هنا ﴿آمَنُواْ﴾ و ﴿كَفَرُواْ﴾ وهنا أيضا في ﴿سَبِيلِ الله﴾ و ﴿فِي سَبِيلِ الطاغوت﴾ هذه مقابل تلك. لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية: ﴿الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ﴾ مقابلات؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت، ولكن: إذا ذكرت في الثانية مقابلا لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلاً من الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكا كيف؟
ها هوذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ﴾ أي تقاتل في سبيل الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولا بد أن تكون مؤمنة.
إذن فالكلام كله منسجم، فقال: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ﴾ وترك صفتها كمؤمنة وقال: ﴿تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال: ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ يعني مؤمناً، وإذا قال: ﴿فِي سَبِيلِ الطاغوت﴾ يكون كافراً.
ويتابع الحق: ﴿فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان﴾. أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم
2420
أولياء الشيطان؛ لأن الشيطان - كما نعرف - حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه.
قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢].
لكنه عرف حدوده ولزمها فقال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٣].
أي أن من تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه. وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً، بدليل قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ أي أنا لا أقدر عليهم. ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦].
إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليّه. فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان.
والحق يأمرنا: ﴿فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان﴾. هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء، هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفا﴾ ؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد
2421
ربه، فلا بد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك بها.
والفرق بين من يكره القالب - قالبك -: أنك تفعل الفعل وأنت كاره. كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك: اسجد لي - مثلاً - إذن فقد قهر قالبك. لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول: «أحبني» ؟. لا يمكن. إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه. إذن فالأول يكون قوة، والثاني يكون حجة.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له: لن أفعل.. ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك: لا بد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك. فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن؟. إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم. بل يكتفي أن يشير لكم!!، ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢].
أي لم يكن لي عليكم سلطان: لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان ضعيف. و «الكيد» - كما نعرف - هو: محاولة إفساد الحال بالاحتيال، فهناك من يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك من يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك: لم أفعل شيئاً؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء.
ويفسد الحال بالاحتيال. والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف.
إن القوي هو من يواجه من يكيد له، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة -
2422
مثلاً - هو من يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوى فهو يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له: أنت خائف، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول: أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل.
إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً، ولا يملك حجة يقهر بها قلباً ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه: ولا يحتال إلا الضعيف. وكلما كان ضعيفاً كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلاً: المرأى أقوى من الرجل لأن ربنا يقول: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨].
ونقول لهم: ما دام كيدهن عظيما؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد؟. ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة... قتلت كذلك قدرة الضعفاء
لأن الضعيف ساعة يمسك خصمة مرة. وتمكنه الظروف منه؛ يقول: لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا. لكن القوى حينما يمسك بخصمه، يقول: اتركه وإن فعل شيئاً آخر أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ... ﴾.
2423
نعرف أن الحق ساعة يقول: «ألم تر» يعني: إن كانت مرئية في زمنها، فلك أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها: ألم تعلم، ولكن العلم بإخبار الله أصدق من العين. وحين يقول الحق: ﴿كفوا أَيْدِيَكُمْ﴾ لا بد أن تكون بوادر مدّ الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده: كيف يدك. والكلام هنا في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في المقابل فقال: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ إذن فقد قيل لهم: ﴿كفوا أَيْدِيَكُمْ﴾ لأن بوادر مدّ الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولاً بأن يقولوا: دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلاً بأن تهيأوا للقتال. وعندما يقول القرآن: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ دل هذا القول على وجود زمنين بصدد هذه الآية: زمن قيل لهم: كفّوا أيديكم، وزمن كُتِبَ عليهم القتال، فنفهم من هذه أنه كانت هناك بوادر المدّ اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين قالوا: دعنا نقاتل هم: ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكا للرسول لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك.
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة. فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم» فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ﴾.
2424
وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء. وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال تملص البعض منه.. مصداقاً لقول الحق: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون: هل هذا يعني أنهم خافوا الناس أو رجعوا في الإيمان؟. كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ [البقرة: ٢٤٦].
إذن فعندما تصل المسألة إلى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخَوَر والخوف، والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فما دام الإنسان ليس رسولا ولا معصوما فلا تقل: فلان عمل كذا أو فلان عمل كذا؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم، ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف أحياناً موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد: فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل له: وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون؟ وما داموا غير معصومين فقد يتأتي منهم هذا.
والله يقول: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء. لم يقل: فلان أو فلان. بل قال: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق الستر للعبد، وما دام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من نفسه، ولذلك نقول دائما: ساعة يستر ربنا غيب الناس على الناس فهذا معناه: تكريم للناس جميعا.
2425
وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطَّلع الناس على غيبك؟ ﴿لا، إذن فأنت عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة ورحمة؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحداً أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف ذلك، وأنت أيضاً تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه.
وأنت أيضاً أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا أخبارٍ معصيتك له. بالله أيوجد رب مثل هذا الرب؟ شيء عجيب؛ فقد تكون عاصياً له ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك: إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا؟ حتى لا يفقدوا أنفسهم أو يضلوا طريق التوبة لربهم.
إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب ويبحثوا عمن يكشف لهم الطالع. ونقول لمن يفعل ذلك: يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك نعمة منه عليك، فاجعله مستورا كما أراد الله.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾
والواحد من هذا الفريق يخشى القتال والقتل، ويخاف من الموت؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا، ولذلك نجد أحد الصحابة يقول: أكره الحق.
فتساءل صحابي آخر: كيف تكره الحق؟ قال: أكره الموت ومن منا يحبه}
ولماذا يخشى الناس القتال؟ لأن الله حين يُميت؛ يُميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه المُثْلَة تهون عليه المسألة.
{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا
2426
القتال} وكأنهم قد نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه، وعندما يأتيها تعارضه.
﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام؟ يوضح الله لنا ذلك: إنهم يقولون: يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في ساعة الخوف من لقاء المعارك: ؟ لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة ﴿إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ توضح أن كل واحد منهم يعي تماماً أنه سيموت حتماً، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل.
ولماذا تطلبون التأخير؟ أحُباً في الدنيا ومتاعها؟ ويأتي جواب الحق: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾ ولا يصح أن تحرصوا عليه أيها المؤمنون حرصاً يمنعكم أن تذهبوا لتقاتلوا، فكلكم ستموتون، وكل منا يجازيه ربنا على عمله، أما الذي يُقتل في سبيل الله فسيجازيه على عمله فوراً، ويعطيه حياة أخرى مقابل الموت. لأنه سيأخذ الشهادة، ولذلك يأمر الحق رسوله بأن يقول: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾ إن قارنته بما يصل إليه المرء من ثواب عظيم إن قتل في الحرب جهاداً في سبيل الله. قال بعضهم: إذا كان لا مفر من الموت، فلماذا لا نذهب لنقاتل في سبيل الله، فإن قتلنا فليكن موتنا بثمن زائد عن عملنا، إذن فهذا تربيب وتنمية للفائدة، ولذلك قال الحكيم:
ولو أن الحياة تبقى لحي لعددنا أضلَّنا الشجعان
أي أن الحياة لو كانت تبقى لحي لكان أضل ناس فينا هم الشجعان الذين يقتلون أنفسهم في الحرب، لكن المسألة ليست كذلك، والشاعر العربي يقول:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل انت مُخلدي
والمتنبي يقول:
2427
إذن فالاثنان يحبان نفسيهما، لكن هناك فرق بين الحب الأحمق والحب الأعمق.
وعندما ننظر إلى إجمالي السياق في الآية نجد أن الحق سبحانه يربى - في صدر الإسلام - الفئة المؤمنة تربية إيمانية لا تخضع لعصبية الجاهلية ولا لحمية النفس، ففريق من المؤمنين بمكة الذين ذاقوا الاضطهاد أحبوا أن يقاتلوا، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغهم أنه لم يؤمر بالقتال بعد، وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يصبروا على ما هم فيه حتى يأذن الله بالقتال، وتلك تربية أولى للفئة المؤمنة؛ لأن الإسلام جاء وفي نفوس العرب حمية وعصبية وعزة وأنفة، فكلما أهيج واحد منهم في شيء فزع إلى سيفه وإلى قبيلته وشنها حرباً، فيريد الله سبحانه أن يستل من الفئة المؤمنة الغضب للنفس والغضب للعصبية والغضب للحمية، وأراد أن يجعل الغضب كله لله.
وحينما جاء الإذن بالقتال، جاء لا ليفرض على الناس عقيدة، ولا ليكرههم على إسلام، وإنما جاء ليحمي النفس الإنسانية من أن يتسلط عليها الأقوى الذي يريد أن يجعل الأَضعف تبيعاً له، فأراد سبحانه أن يحرر الاختيار في الإنسان فكان القتال حفاظا على كرامة الإنسان أن يكون تبيعاً في العقيدة لغيره، وبعد ذلك يعرض قضية عرضاً عقلياً؛ فمن استجاب له فمرحباً به، ومن لم يستجب فله أن يظل على دينه. وهذا يدل على أن الإسلام دين منع التسلط على عقائد الناس، وضمن لهم الحرية في أن يختاروا ما يحبون من العقائد بعد أن بين لهم الرشد من الغي.
وحينما شرع الله القتال فقد شرعه دون أن يكون هناك أدنى تدخل لغضب النفس ولا لحميتها ولا لعزتها، ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يصور العواطف الإنسانية التي تواجه الإسلام ويواجهها الإسلام تصويرا طبيعياً. فبين لنا أن الطبع الإنساني يعالج بالتربية، ولهذا نجد أن بعضاً من الذين طلبوا القتال خافوا: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾.
إذن فهناك فرق بين نظرية أن نقاتل، وأن نخوض القتال بالفعل؛ لذلك تجد أن منهم من خاف الذهاب إلى القتال خشية أن يُقتلوا، والقتل كما تعلمون: هدم بنية، ولكن الموت حتف الأنف هو الذي يسحب به الله الروح الإنسانية، دون
2428
هدم بنية أو نقص لها. وأيضا فالقتال يكون مظنة القتل، والخوف من القتال مظنة التراخي في الأجل، فالقتل موت مقرب أمام المقاتل، لكن الموت حتف الأنف علمه عند الله؛ لذلك قالوا: ﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال﴾.
فهل كان طلبهم للقتال لقصد الحمية، وسبحانه يريد أن يبرئ المؤمن أن يكون قتاله للحمية؛ لأنه جل وعلا يريد أن تكون المعركة إيمانية؛ لتكون كلمة الله هي العليا حتى ولو كان المخالف له صلة نسب أو صلة عصب أو صلة عواطف.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية ستواجه عنفا شرسا في تثبيت قاعدة الاختيار الإيماني في البشر، فقال الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن قالوا لك ذلك ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾، فالحرص على أن يستبقي المؤمن نفسه من القتل ليموت بعد أجل قريب يعني أن يريد أن يأخذ من الحياة فرصة أكبر، فأوضح الحق: لا، ضعوا مقياسا تقيسون به الجدوى، فسبحانه قال: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ [التوبة: ١١١].
إنه شراء وبيع. وأيضاً قال سبحانه في الصفقة الإيمانية: ﴿هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: ١٠].
إذن فالله يعاملنا بملحظ النفعية الإنسانية، واللبق، الفطن، الذكي هو الذي يتاجر في الصفقة الرابحة أو المضمونة أو التي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها.
فلو أننا قارنا الدنيا، لعلمنا أنها مهما طالت لا تؤثر ولا تزيد في عمر الفرد؛ لأن الدنيا تطول في الزمن، لكنها بالنسبة للأفراد تكون بمقدار عمر كل واحد فيها، لا بمقدار أعمار الآخرين، فإن دامت للآخرين طويلاً، فما دخل الفرد في ذلك؟
إذن فالدنيا بالنسبة للفرد هي زمن محدد، والله يبشر المؤمن الذي يقتل في سبيله أنه يأخذ من الصفقة زمناً غير محدود. وأيضاً فالبقاء في الدنيا بدون قتل وإلى أن
2429
يموت الواحد حتف أنفه، هو بقاء مظنون وغير متيقن. ونحن نرى من يموت طفلاً أو شاباً أو كهلاً. أما الآخرة فهي غير محدودة وهي متيقنة.
إن النعيم في الدنيا يكون على مقدار تصور الفرد للنعيم وإمكانات الفرد في تحقيق النعيم. وأما النعيم في الآخرة فيكون على المقدار الذي أعده الله لعباده بطلاقة قدرته وسعة رحمته. فإن قارنا صفقة الدنيا بالآخرة لوجدنا أن متاع الدنيا على فرض أنه متاع هو قليل بالنسبة للآخرة.
إذن فالحق ينمي فينا قيمة الصفقة الإيمانية، ويعلم أن كل إنسان يحب الخير لنفسه، فلا يظنن أحد أن الدين جاء ليسلبه الحرية، أو ليستذله، فالدين إنما جاء ليربب للمؤمن النفعية وينميها له.
ومثال ذلك عندما منع الدين واحداً أن يسرق الآخرين فهو قد منع أيضاً كل الآخرين أن يسرقوا من أي واحد، وبذلك يكسب كل إنسان حماية الدين له، فحين يمنع الواحد عن فعل خطأ في حق الآخرين فهو قد منع الآخرين وهم ملايين أن يخطئوا في حقه. فإذا قال الدين لواحد: لا تمد عينيك إلى محارم غيرك، ففي هذا القول ما يوصي كل غير في الدنيا: لا تمدوا أعينكم إلى محارم فلان، فالكسب العظيم - إذن - يعود على الفرد.
وقول الحق: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى﴾ يوضح لنا عظمة الصفقة الإيمانية، وبعد ذلك يؤكد لنا العدل في قوله: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ ونعرف أن الفتيل هو ما فُتل من الأقذار حينما يدعك الإنسان كفيه معاً، فيخرج ناتجا كالفتلة، أو الفتيل هو الفتلة في بطن النواة، أي لا نظلم حتى في الشيء التافه. والعدالة هنا بمشروطها؛ لأن الله أوضح أن من يصنع السيئة يجازي بسيئة مثلها، ومن يصنع حسنة يجازي بعشرة أمثالها أو أكثر.
وهكذا لا ترهق العدالة مؤمناً لأنها تأتي بفضلها، فالحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، وتحسب الحسنة عند الله في ميزان العدالة بما أخذ من الفضل، فلا يقولن واحد: إن هناك عدلاً من الله بدون فضل.
2430
إذن فقول الحق: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ هو بضميمة الفضل إلى العدل. ولذلك نحن ندعو الله قائلين: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ لأن مجرد العدل قد يتعبنا. وندعو الله: وبالإحسان لا بالميزان؛ لأنه لو عاملنا بالميزان قد نتعب.
وندعو الله: وبالجبر لا بالحساب، والجبر هو أن يجبرنا الله، وهكذا نرى أن قوله الحق: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ بلاغ من الحق لنا: أننا سنعدل معكم بالفضل فتكون السيئة بواحدة، وتكون الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر.
وقوله الحق: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ يعين فيما قضي به سبحانه متفضلاً بالفضل مع العدل. وسبحانه يريد أن يطمئننا على أن قضايا الإيمان يجب أن يحافظ عليها، فإياك أن تظن أن عملك هو الذي سيعطيك الجزاء، إنما فضل الله هو الذي سيعطيك الجزاء. يقول الحق: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
فالفضل هو الذي يُفرح قلب المؤمن. ثم يأتي الحق سبحانه ليرد من بعد ذلك على قضية قالها المنافقون حينما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أحد، ثم قتل من قتل من المسلمين؛ فقال المنافقون: «لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا» ففهموا أن العندية عندهم حصن لهم من الموت، وأن الذهاب إلى القتال هو الذي يجلب الموت. ونعرف أن كل حدث من الأحداث له زمان وله مكان ونسميه الظرف.
إن الذين درسوا «الظرف» في النحو يقولون: «ظرف زمان أو ظرف مكان»، فكل حدث من الأحداث لا بد أن يوجد له زمان ومكان. والزمان في الموت مبهم والمكان في الموت أيضاً مبهم، فظرف حدث الموت زماناً أو مكاناً مبهم، وحين يبهم الله شيئاً؛ فلا تظنوا أنه يريد أن يخفيه ويُغمضه علينا، إن الحق يبهم الأمر ليوضحه أوضح بيان، فالإبهام من عنده أوضح بيان، كيف؟.
إنه سبحانه حين يجهلنا بزمن الموت ويخفيه علينا فمعنى ذلك أن الإنسان قد يستقبل الموت في أي لحظة، وهل هناك بيان أوضح من هذا؟. فحين جهَّلنا بزمن الموت فهو لم يمنع عنا معرفة زمنه، ولكنه أشاع زمنه في كل زمن، فلا أحد بقادر على
2431
الاحتياط من زمن الموت، وكذلك الحال في مكان الموت.
وها هوذا الحق يقول: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ... ﴾.
2432
والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ فالعقل البشري الذي يتوهم أن بإمكانه الاحتياط من الموت - مكاناً عليه أن يعي جيداً أنه لا يستطيع ذلك، فوجود الشخص عند ظرفٍ ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.
والعندية - كما نعلم - تعطي ظرف المكان. فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان ما دام الحق قد قضي به. وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف. فكلما لطف عدو الإنسان ودق؛ كان عنيفا، وكلما كان ضخماً كان أقل عنفا. فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، ولكن بإمكان الإنسان أن يدفعه. لكن متى يكون العدو صعباً؟ يكون العدو صعباً كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك. فيتسلل إلى الإنسان.
ومثال ذلك: هب أن واحداً يبني بيتاً في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع
2432
أساس البيت فيقول لصاحب البيت: إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب والثعالب ويجب أن تضع حديداً على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل إليك هذه الحيوانات المفترسة.
ويضع صاحب البيت حديداً على نوافذ الدور الأول. ويجيء واحد ثان ويقول له: لقد فاتك أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت ليرد الثعابين. ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول: إنني أتعجب منك كيف تحترس من الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة؟. إنه ذباب سام. وهنا يضع صاحب البيت سلكاً على النوافذ. ويجيء واحد رابعٍ ليقول لصاحب البيت؛ في هذه المنطقة حشرات أقل حجماً من الذباب وأكثر عنفاً من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقاً بحيث لا تمر منه هذه الحشرات. إذن فعدوك كلما لطف ودق عن الإدراك كان عنيفاً.
ولذلك فأخطر المكيروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها. إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري، ولا يعرف لذلك زماناً أو مكاناً.
ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفاً، ولا تمنعه المداخل. فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبداً.
وما مقابل الموت؟. إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد. وما كنه الروح؟ لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها، ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها.
وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي. والحق هو الذي جعل للحيّ روحاً، وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة.
2433
إن الحق - سبحانه - يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف - مثلاً - الفيروس المسبب لبعض الأمراض.
فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، فلماذا لا نتصور أن للموت حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الملك: ﴿تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: ١ - ٢].
إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع. ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدم لنا الموت على الحياة؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولاً ثم يأتي الموت. لا، إن الموت يكون أولاً، ومن بعده تكون الحياة. فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولاً.
ينبهنا ويوضح لنا الحق: لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة، فيقول لنا عن نفسه: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.
عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وَجِلِين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا:
2434
نعم رَبَّنَا، هذا الموتُ، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيُقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، فيأمر به فيًُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين» كلاهما «» خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا «».
وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة. ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت، فنحيا في خلود بلا موت. وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا.
نقول لهم: العندية عندكم لا تمنع الموت. ولو كان من دنا أجله وحان حَيْنه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت.
أن الأداء القرآني يتنوع؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من الهَدْى الأسلوبي للقرآن؛ لأنه خطاب الرب. فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحقُّ الخلقَ فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس. ولذلك نجد طفلاً صغيراً يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار: ما الذي يسرك في حفظ القرآن؟. فيجيب الصغير: إنني أحس بالانسجام وكفى. هو لا يعرف لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية.
وسبحانه وتعالى يقول: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت﴾ أي أينما توجدوا يدرككم الموت. وكلمة «يدرككم» دليل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله. وكلمة «يدرك» توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة: «حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مُدْرَك»، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق: «الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك».
2435
وهكذا نعرف أن قوله الحق: «يدرككم» تدل على أن الموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها.
ويقول الحق: ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾. وعندما نبحث في الحروف الأصلية لمادة كلمة «البروج» نستطيع أن نرى المعنى العام لها. والحروف الأصلية في هذه الكلمة هي «الباء» و «الراء» و «الجيم» وكلها تدل على الارتفاع والظهور.
فيقال: «هذه امرأة فيها بَرَج» أي أن عيونها واسعة وتحتل قدراً كبيراً من وجهها وتكون واضحة، فالبَرَجُ هو الاتساع والظهور.
والإبراج عادة كان بناؤها مرتفاً كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد. والقصد من «مشيدة» أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام، فالشي قد يكون عالياً ولكنه قد يكون هشاً. أما الشيء المشيد فهو من «الشِّيد» وهو «الجص»، ومن «الشَّيْد» وهو «الارتفاع»، والمقصود أن لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة.
إنك إذا رأيت جمعاً وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحاداً. فساعة يدخل المدرس الفصل يقول لطلابه: أخرجوا كتبكم. فمعنى هذا القول أن يخرجٍ كل تلميذ كتابه. وعلى ذلك يكون القياس. فلو بني كل إنسان لنفسه برجاً مشيداً لجاءه الموت.
والجمع مقصود أيضا: أي لو كنتم جميعا معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع، كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة. وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع. وبذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون. والموت يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج. وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ أمره بالموت.
وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس
2436
من الظلمات إلى النور؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين. وعندما جاء الدين فرّ بعضهم من مجيء النور؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال؛ ولأن النور يوضح الرؤية.
لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين: الحاجة الأولى: أنّ مَن يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه، ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء.
والحاجة الثانية: أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه. إذن فكلمة «الموت» تعطي الرَّغب والرَّهَب. فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه: إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي.
ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية. وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز؛ فالإنسان ما دام مؤمناً فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إما مؤمن وإمَّا غير مؤمن، فإن كان مؤمناً فليفرح له المؤمن الذي افتقده؛ لأن الله عجَّل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك. وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره. إذن الموت راحة، والذي عمل صالحاً يستشرف إليه، وهذا رَغَب، أما الكافر فهو خائف؛ وهذا رَهَب.
ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميْت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾.
ويتابع الحق: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾. ومثل هذا الكلام أليق بمن؟
2437
الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه تصور. والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه. فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل هذا الكلام إما أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله وفي قلوبهم الكفر، وإمَّا أن يكونوا من بعض أهل الكتاب لأنهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يعترفون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهؤلاء وأولئك ينظرون إلى الأمر الذي فيه خير على أساس أنه من عند الله، ويلقون اتهاماً باطلاً لرسول الله أنه مسئول عن الشرور التي تحدث لهم.
كأنهم يريدون أن يقيموا انعزالاً بين محمد وربه.
لا. فسبحانه لا يتيح لهم ذلك؛ فقد أنزل قرآناً يتلى إلى أبد الآبدين: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: ٨٠].
والحق يقول: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ [آل عمران: ٣١].
فلا أحد يملك أن يصنع مضارة بين محمد وربه؛ لأن محمداً رسول من عند الله مبلغ لقول الله ومنهجه، وسبحانه يقول: ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٧٤].
والحق سبحانه وتعالى لا يرضى عن عبد يستغفر الله فقط، ولكن لا بد أن يذهب العبد ويطلب من رسول الله أن يستغفر له الله، فلا أحد يمكنه أن يقيم صلحاً مع الله من وراء محمد رسول الله، فلا تفرقوا بين أمر الله وأمر رسول الله، ومن يريد أن يصنع مضارة بين الله ورسوله بأن يقول عن الحسنة إنها من عند الله، وأن السيئة من عند محمد، فهذا قول خاسر.
2438
ما حكاية هذا القول؟ إنهم إن ذهبوا إلى حرب فغنموا قالوا: «إن الله أسعدنا بالغنائم». وإن هُزِِموا قالوا: إن محمدا هو الذي أوقع بنا الهزيمة، وكأن لمحمد تصرفاً دون تصرف الله. فإياك أن تُخدع بمن يحاول أن يعزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه.
إن محمداً قد بعثه الله وأنزل عليه القرآن.
وكان رسول الله حين نزلت الدعوة يأمل أن يستجيب له القوم الذين يؤمنون بالله وهم أهل الكتاب. وكانوا أقرب إلى قلبه من القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم المشركون، وكان هناك معسكران: معسكر الفرس، ومعسكر الروم، وكان معكسر الفرس يعبد النار - معاذ الله - أما معسكر الروم فهو يؤمن بالله وبالكتب السابقة على رسول الله ولكنه كافر بمحمد.
والذي يؤمن بالله كان قريباً إلى قلب محمد ممن كفر بالله، وهذا دليل على أن عصبية محمد قد أتت له من الله. وقد ينصرف المعنى إلى اليهود. فحينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة كان من المصادفة أن تقل ثمارهم ومزارعهم؛ فقالوا: مزارعنا وثمارنا في نقص منذ قدم هذا الرجل. وهل كان ذلك الأمر مصادفة أو أننا نجد له تعليلاً مادياً؟
فحينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أنكروه بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وسلب مجيئة منهم السلطة الزمنية التي كانت لهم؛ لأنهم كانوا أهل مال، ويتعاملون بالربا ويثيرون العصبية، ويتاجرون من أجل أن تظل لهم السيادة، وهم أهل علم بالكتاب وحاولوا التجارة بكلمات الله.
فكانت لهم السيادة من ثلاث جهات: علمياً ومالياً ومنهجياً.
وعندما جاء الإسلام ألف بين الأوس والخزرج فبارت أسلحتهم وضاعت منهم السلطة التي صنعوها بالتفرقة، وضاعت منهم سيادة المال؛ لأن الإسلام حرم الربا، وضاعت منهم سيادة المنهج لأن الإسلام كشف تحريفهم للكتاب وأنزل الله كتابا - وهو القرآن - غير قابل للتحريف.
2439
وهكذا انتهت وسائل السيطرة، لذلك وقعوا في الحزن وانشغلوا بهذا الهم. وكان الواحد من اليهود لا يسارر الآخر من اليهود ولا يناجيه إلا في أمر محمد. وما دامت هذه المسألة قد شغلتهم إلى هذه الدرجة فلا بد أنها قد شغلتهم عن الزراعة والاهتمام بها.
هم انشغلوا عن الأسباب فكانت النتيجة هي ما حدث. ولكنهم حاولوا إلصاق ذلك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا الأمر الحادث لهم، وإمّا أن يكون تفسير ذلك هو أن السماء أرادت لهم عقاباً لأنهم حاولوا المكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك شغل وقتهم عن الأخذ بالأسباب. وإمّا أن يكون ذلك من آفة سماوية فلماذالم يلتفتوا إلى أن دين محمد هو المنقذ لهم مما هم فيه؟
لقد كانوا يستعزون به. لكنهم لم يؤمنوا به (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فنزل بهم أكثر من عقاب. فالذين كانوا يتعاملون مع اليهود بالربا امتنعوا عن ذلك، وكذلك نقصت الزروع والثمار.
إذن فالمسألة جاءتهم بنقص من الأموال؛ فقالوا ما قاله الله مما أورده الحق على ألسنتهم: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾. أي كل من الحسنة والسيئة من عند الله وما الحسنة وما السيئة؟
الحسنة هي الظفر والغنيمة والسراء والرخاء والخصب. والسيئة هي الهزيمة والقتل والضراء والبؤس والجدب. هذا ما فهموه، ونحن - المؤمنين - نفهم الحسنة فهماً دقيقاً؛ فالحسنة في الشرع هي ما يأمر به الله، والسيئة هي ما ينهى عنه الله؛ بدليل أن المؤمن قد يصاب في عزيز لديه ثم يقف موقفاً إيمانياً في استقبال هذه المصيبة ويقول: «إن حزني لن يرده فالأفضل أن أكسب به الجنة». ويزيد على ذلك: «يكفيني عزاءَّ الأجرُ عليه، فأنا لم أكن سآخذ منه طيلة حياته مثل الأجر الذي سآخذه في صبري على مصيبتي فيه».
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبهنا بقوله: إياك أن تظن أن الحسنة هي
2440
ما تستطيبه نفسك، أو أن السيئة هي ما تشمئز منها نفسك، لا، فالمصاب في عُرْف الشرع هو من حُرم الثواب.
ولذلك جاء القول: ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾ أي أن الحسنة والسيئة من عند الله.
وهل يصنع الله سيئة؟ ونقول: نستغفر الله، فالسيئة في نظر الإنسان والحسنة في نظر الإنسان، وكلها من عند الله، ولكن إذا نسينا الفعل إلى الله فكل ما يصدر عنه حسن، وافتقاد المقاييس الصحيحة هو الذي يتعب. وعندما نحاول أن نحسب مثل تلك الأمور بحساب الكمبيوتر تستقيم لنا النتائج.
ومثال ذلك: تلميذ أهمل في المذاكرة، وفي حضور الدرس لذلك فهو يرسب آخر العام، ولكنه ينظر إلى الرسوب على أنه سيئة، ولكنها في عرف الحق عموماً حسنة. وحينما وضع الله قانون أن من لا يستذكر يرسب، فهذا إحياء للحسنة في آلاف غيره، ويكون الراسب نموذجاً واضحاً ووافياً وتطبيقيا، وخاضعاً لسنة الكون. وكذلك الذي لم يزرع أرضه أو تكاسل عن الحرث أو أهمل الري، فهو يأتي يوم الحصاد ولا يُؤْتي ثماراً وهذا أمر سيئ بالنسبة له، أما بالنسبة لقضية الحق الكونية في ذاتها فهي حسنة؛ لأن ذلك يدفع كل واحد إلى عدم إهمال أي سبب من الأسباب؛ فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضراراً به، فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضرارا به، ولكن لو قاس مسها له بما فعله لوجد أن ذلك هو سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وحين يضع الحق سبحانه وتعالى سنناً في كونه فالذي يأخذ بالأسباب يعطيه، ويحرم سبحانه من لا يأخذ بالأسباب.
وعندما نقيس الأمور بهذا المقياس نرى الناجح هو المجدّ، والمتكاسل هو الراسب، والنتيجة كلها من عند الله تقنيناً كونيا.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض أقوال طرف فإن كان مقراً بما فيه يتركه من غير تعليق عليه، وإن كانت قضية باطلة يكر عليها بالحجة ليبطلها ويدحضها.
2441
وهذا يلفتنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن نلف قضايا الخصوم لفاً بحيث لا نعرفها، ولكنه يعرض قضية الخصوم عرضا ثم يكر عليها بالنقد ليربى - كما قلنا - المناعة الإيمانية، حتى لا تفاجئ قضية كفرية عقيدة إيمانية؛ فسبحانه يعرض قضايا الكفار ويوضح لنا: سيقولون كذا فقولوا لهم كذا.
مثال ذلك: عندما قالوا: إن الله اتخذ ولداً قال الحق: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾ [الكهف: ٥].
فهو سبحانه يعرض قضايا الخصوم؛ لأن الذي يحاول أن يلف قضية الخصوم يكون مشفقاً منها، لكن من يعرضها ينبه عقل السامع إليها ليبطلها ويقول: «هاي هي ذي نقاط الضعف في هذه القضية».
وحينما قالوا: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ أرادوا بهذا القول أن يصنعوا مضارة بين الله ورسوله، فأوضح الحق سبحانه؛ قل لهم يا محمدُ:
«كل من عند الله»، وتتجلى دقة الحق سبحانه في أنه جعل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكيلاً في البلاغ عنه، وكان من الممكن أن يسوق الحق القضية بدون «قل».
لكنه سبحانه أراد في هذه أن يوسط رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه يقول: «قل كل من عند الله». و «كل» تعني: كُلاً من الحسنة ومن السيئة. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن قضايا الوجود تتسق مع فطرة الإيمان.
ولقد وقع خلاف طويل بين العلماء في أفعال العباد، وتساءلوا: هل يفعل العبد أي فعل بنفسه، أو أن الله هو الذي يجري على عباده الأفعال؟. فإذا كان العبد هو الذي يفعل الفعل فمن العدالة أن يتلقى الثواب أو العذاب جزاء ما قدم. وإذا كان الله هو الذي يجري كل الأفعال فلماذا يعذبه الله؟. ودخل العلماء في متاهة كبيرة.
وهنا نقول: يجب أن تفهم أن الحق حينما خلق الكون جعل فيه سُنناً، ومن
2442
عجيب الأمر أن السُنن تنتظم وتشمل وتضم المؤمن والكافر مما يدل على أنه لا أحد في كون الله أولى بربوبية الله من الآخر، فحتى الذين لا يؤمنون بالله أدخلهم الحق في ربوبيته فأمر الأسباب التي خلقها استجيبي لمن يخدمك وأعطيه المسببات ولا تلتفتي إلى أنه مؤمن أو كافر لأنني أنا الذي خلقته وأوجدته في الكون، وما دمت أنا الذي أوجدته في الكون فلا بد أن أتكفل بكل ما يقيم حياته، وأنا سأعرض منهجي، وأقول لعبادي: أنا أحب هذا الفعل وأنا أكره هذا الفعل فمن يؤمن بي فسيكون له وضعٌ آخر، سيكون عبداً لله.
إذن فالله بالألوهيّة مناط التكليف لمن يؤمن به، والرب بالربوبية مناط الخلق والرزق وقيومية الاقتيات للخلق جميعا، لكل العباد؛ فالسنن والنواميس الكونية تخدم الكل، بدليل أن بعض السنن كانت تحب أن تتمرد لأنها عصبية إيمانية لله. عندما ترى الله يعطي بعضاً من عباده وهم غير مؤمنين به.
فالسنن والنواميس كجنودٍ لله نجدها متأبية على ابن آدم من عدم شكره لله، لكن الحق يوضح للخلق المسخر: هم خلقي وأنا الذي استدعيتهم للوجود. فصنع الحق نواميس للكون تؤدي مهمتها للمؤمن وللكافر جميعا، ثم أنزل سبحانه تكليفاً بوساطة الرسل. ويوضح: أنا أحب كذا وأكره فالذي يحبني يعمل بتكليفي. إذن فمناط الربوبية غير مناط الألوهية.
مناط الربوبية خلق من عَدم وإمداد من عُدم. ومناط الألوهية طاعة، والطاعة تقتضي أمراً ونهياً. فكل ما كان من مدلول الأمر والنهي - الذي هو التكليف - فهذه مطلوبات الألوهية.
وكل ما كان من مطلوبات السنن الكونية فهو من مناط الربوبية. والسنن الكونية لا تتخلف أبداً. فمثلا الذي يريد أن ينجح في مادة من المواد في مدرسة ما.
. لا بد أن يحصل على خمسين بالمائة من مجموع الدرجات. ومن يريد أن ينجح في مادة أخرى لا بد أن يحصل على أربعين بالمائة. وحين تنطبق هذه الشروط على طالب ما. فهل هذا الطالب هو الذي أنجح نفسه أو أن القانون هو الذي أعطاه النجاح؟
2443
إن القانون هو الذي أعطاه النجاح. وصحيح أن القانون لم يقل للطالب وهو يكتب الإجابة: إن مستوى إجابته سيحقق له درجات النجاح، إنّه قد بذل جهداً في التحصيل الدراسي، وحقق له هذا الجهد النجاح في نطاق ما تم تقديره. فالقانون لا ينجح أحداً، ولا يتسبب في رسوب أحد، ولكن الطالب الذي يبذل جهداً ينجح، والطالب الذي لا يبذل جهداً يرسب. وعلى ذلك فكل شيء في الوجود له قانونه.
إن اليد المخلوقة لله، لو نظرنا إلى حركتها، لا نعرف كيف تزاول مهمتها. وعندما يرفع أحدنا شيئاً من الأرض لا أحد فينا - غالباً - يعرف العضلات التي تتحرك لتحمل هذا الشيء. فالذي فعل حقيقة هو الله. واليد سواء أفعل الإنسان بها خيراً؛ أم شرّاً، فالفاعل الحقيقي لكل فعل هو الله. وقام الإنسان فقط بتوجيه الطاقة الصالحة للسلام على واحد، أو لصفع واحد آخر، فاليد صالحة للمهتمين. وعندما يوجه الإنسان يده للصفع فهو يأخذ عقاباً، وعندما يوجهها للسلام يأخذ ثواباً.
صحيح أن الإنسان ليس له دخل في العمل ذاته ولكن له دخل في توجيه الطاقة الصانعة للعمل؛ فالثواب أو العقوبة ليست للفعل ولكن لتوجيه الطاقة. والسكين - كمثال آخر - يذبح بها الإنسان الدجاجة، أو يطعن بها إنساناً، وهي لا تعصي توجيه الإنسان إن ذبح الدجاجة؛ ولا تعصاه إن طعن إنساناً.
والحق قد خلق قانوناً للسكين أن تذبح، والإنسان يقوم بتوجيه الآله التي خلقها الله صالحة لأن تذبح إلى الذبح، سواء أكان الذبح فيما حرم الله، أم فيما أحل، إذن فالله هو الفاعل لكل شيء. وما دام الفعل في نطاق أوامر المكلِّف صاحب السنن فهو الذي يقوم بكل فعل.
وعندما تدقق النظر تجد أن كل فعل من عند الله، وليس للإنسان سوى توجيه الطاقة؛ فالشاب الذي يذاكر دروسه، لم يخلق عقله ولا خلق عينيه اللتين يقرأ بهما، ولكن عقله صالح أن يفكر في الأمر الرديء، وعيناه صالحتان لأن ينظر بهما في مجلة هزلية أو ينظر بهما في كتاب.
2444
إذن فهو ساعة يفعل هذا أو يفعل ذلك هل يفعل ذلك من وراء رَبِّه؟. لا، إنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق سوى توجيه الطاقة التي خلقها الله صالحة لأن تفعل هذا وتفعل ذاك.
إذن فثوابك وعقابك يكونان على توجيه الطاقة الفاعلة إلى الأمر الصالح أو الأمر السيء. فعندما يقول ربنا: «كل من عند الله» نقول: هذا حق وصدق؛ فالذي أهمل في زراعة أرضه ولم يسمدها أو لم يروها وأصابه جدب فهذا نتيجة عدم توجيه الطاقة المخلوقة لله في مجالها الصحيح.
لكن عندما يمتنع المطر فلا عمل في ذلك للإنسان. فالنواميس الكونية صنعها الله. ومن يأخذ بأسبابها تعطه وإن أصابت الإنسان سيئة في إطار هذه فهي من عند الإنسان؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب.
وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضاً على الجماعة؛ فالذي يلعب الميسر ويأتي له الخراب والدمار، هذا من نفسه؛ لأنه تلقى الأوامر من الحق بألا يمارس تلك الألعاب. وأي أمة اشتكت من ضيق الأرض الزراعية وضيق الرزق فهذا بسبب الأمة نفسها؛ لأن القائمين بالأمر كان عليهم العمل لتنمية الموارد بالنسبة لنمو السكان.
والذي يتعبنا ويرهقنا أننا نتحمل غفلة أجيال، فتجمعت المشكلات فوق رءوس جيلٍ واحد. ولو أن كل جيل سبق قام بمسئوليته لكانت مهمة الأجيال الحالية أقل تعباً. فما دامت لدنيا أرض صالحة لأن تنبت كان علينا أن نعدها ونستغل المياه الجوفية في زراعتها. فالمسألة إذن كسل من أجيال سابقة. وما دام هناك مخزون في المياه الجوفية كان يجب أن نعمل العقل لنستنبط أسرار الله في الكون. فليس من الضروري أن ينزل المطر، لأن الحق يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض﴾ [الزمر: ٢١].
2445
وجعل الله للمياه مسارب في الأرض حتى تستطيع البلاد ذات الحرارة الشديدة الوصول إلى المياه الجوفية ولا تتعرض المياه المنتشرة في مسطحات كبيرة للتبخر. لقد أخفى الله جزءاً من المياه في الأرض لصالح الإنسان. وفي البلاد الحارة نجد الملح واضحاً على سطح التربة دليل على أن الحق وضع قانون تقطير المياه العذبة لتكون صالحة للشرب والزراعة.
وكلنا يعرف قانون التبخر، فعندما نأتي بكوب من المياه وننشره على مسطح حجرة مساحتها خمسة وعشرون متراً مربعاً فالمياه تتبخر بسرعة. لكن لو تركنا كمية المياه نفسها في كوب الزجاج فلن تنقص إلا قدراً ضئيلاً للغاية. إذا فكلما زاد المسطح كان البخر أسرع. وأراد الحق أن تكون ثلاثة أرباع اليابسة من المياه؛ لأن الماء أصل كل شيء حي. وجعل بعضها من الماء المالح حتى لا تأسن ولا تتغير، وتوجد هذه المياه في مساحة متسعة حتى تتبخر وتنزل مطراً، فما يجري في الوديان يجري، والمتبقي من المياه يصنع له الحق مسارب في الأرض لأنه ماء عذب، حتى يستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له من الله فيستخرج المياه من الأرض، فالحق خلق لنا كل ما يمكن أن يحقق لنا استخراج قوت الحياة.
وسبحانه القائل: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾
[فصلت: ٩ - ١٠].
فإياكم أن تقولوا: إن السكان سيزيدون عن القوت الذي في الأرض، ولكن اعترفوا بخمول القدرات الإبداعية للاستنباط. فبعد أن يقول الله: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ فلا قول يصدَّق من بعد قول الله. وهب أن موظفاً - ولله المثل الأعلى - جاء في أول الشهر بتموين الشهر كله ووضعه في مخزن البيت، وجاء ظهر اليوم ولم يجد زوجته قد أَعدَّت الغداء، فماذا يحدث؟ إنه يغضب. ولقد وضع ربنا أقواتنا مخزونة
2446
في الأرض، ونحن لا نعمل بالقدر الكافي على استنباط الخير منها. وسبحانه يوضح لنا: إن الإنسان إن لم يستفد بالنواميس التي خلقها الله له، ولم ينفذ التكاليف أمراً ونهياً فلسوف يتعب الإنسان نفسه؛ فتكون معيشته ضنكاً. فسبحانه يقول: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢].
هذه القرية كانت تتمتع بالأمن والاطمئنان لكنها كفرت بأنعم الله. والكفر في المعنى العام هو: ألا تشكر النعمة لله. وعندما نمعن النظر بدقة لنرى قانون ربط السبب بالمسببات، وربط السنن الكونية بالكون والمكون والمكون له نجد أشياء عجيبة، فهذه القرية كانت آمنة مطمئنة والرزق يأتيها رغداً من كل مكان. إذن فالقرية هي مكان السكن، وليس مكان السكن فقط هو الذي فيه الرزق بل يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكأن كل مكين في بقعة؛ له بقع خالية في مكين آخر تخدمه. وتلك القرية كفرت بأنعم الله.
والكفر في معناه الواضح هو الستر، والقرية التي كفرت بأنعم الله هي التي سترت نعمة الله، فنعمة الله موجودة ولكن البشر الذين في تلك القرية هم الذين ستروا هذ النعمة بالكسل وعدم الاستنباط للنعمة وترك استخراجها من الأرض.
أو أن سكان هذه القرية استخرجوا نعمة الله واستنبطوها وستروها عن الخلق، وفساد الكون إنما يأتي من هذين الأمرين:
أي أن هناك أمماً متخلفة، كسل سكانها عن توجيه طاقاتهم لاستنباط النعم من الأرض. أو أن هناك أمماً أخرى تملك الثراء والخير وترميه في البحر حتى لا يذهب إلى الأمم المتخلفة. والخراب الذي نلمسه في علاقات العالم ببعضه البعض يقول لنا: إن العالم هو القرية التي ضرب الله بها المثل:
2447
﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢].
ولنر دقة الأداء القرآني، في قوله: ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع﴾، ونعلم أن الذي يُذاق هو الطعم. والطعم يكون باللسان وحده: أما اللباس فيعم كل الجسم، والحق هنا يعطي الإذاقة ولا يكون الذائق هو الفم فقط بل كل الجسم، فالفم إنما يتناول لصالح بقية الجسم، وعندما لا تصل مادة الحياة إلى بقية الجسم فكل الجسم يذوق الجوع أيضاً.
والكون المخلوق لله مصنوع على نظام دقيق من أجل أن تسير السنن الكونية في مجالاتها التي حددها الله، وعندما تنتظم هذه السنن في حركتها فهي تعطي النتائج للإنسان ولو بعد حين، حتى إن بعض المفسرين والمتكلمين بعمق يقولون: إن الأمراض الوراثية التي تنتقل من أجيال سابقة إلى أجيال لاحقة كان السبب فيها تقصير آباء واجتراءهم على أشياء مخالفة لمنهج السماء، فإذا شرع الله سنة كونية للفرد ثم خالفها تصيبه نتيجتها السيئة من بعد ذلك، وكذلك الأمة والجماعة.
لكن المسائل التي يقف فيها العقل فقط هي المصائب التي تصيب الناس بغير عملهم. وكان على الفلسفة أن تبحث هذا المجال، أما الدين فهو يقول لنا أسباب تلك المسائل؛ فالشيء الذي له مقدمات من أسباب تكاسل الإنسان عنها، ثم أصابته كارثة فهذا من فعل الإنسان في نفسه. أما الأشياء التي تأتي قدرية فهذا أمر مختلف. فإذا كان ديننا قد وضع للإنسان أسباباً كونية وحكمة الإنسان الإيمانية قالت له: افعل ذلك حتى يحدث كذا، ولا تفعل ذلك حتى لا يحدث كذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لم يعطه كل ما يستطيع به استيعاب كل حكمة المكوِّن في الكون، ليلفت سبحانه الإنسان دائما على أن طلاقة القدرة مازالت موجودة، فيحدث شيء من الأشياء يتساءل فيه الإنسان: ما سبب ذلك؟ ولماذا؟ ومثال ذلك
2448
الزلزال أو البركان أو السيل الجارف والريح العاصف، كل هذه الأحداث لا دخل للإنسان فيها، وهي أحداث تقول للإنسان:
لو أن المسائل في الكون فيها رتابة أسباب لما ارتبطنا بقوة غيبية خفية نضرع إليها دائماً لنَسْلَم.
وجاءت بعض مدارس الفلسفة في ألمانيا - مثلا - وقالت: إن وجود الشر في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله حكيم لما أفلتت منه هذه المسائل، ولما خرج واحد بعين واحدة ولا خرج أعرج ولا مشوه. وقالت مدرسة أخرى في العصر نفسه: لا. إن رتابة النظام في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله لخرق القانون والناموس ولأخرج بعض الأحداث عن هذا الناموس.
وهكذا نرى أنهم يريدون الكفر من أجل الكفر بدليل أن مدرسة أخذت النظام في الكون كدليل للكفر، ومدرسة أخرى أخذت الشواذ في الكون كدليل على الكفر. وكُلّ من أقطاب المدرستين إنما يبحث عن سبب للكفر.
ونقول لهم: كلاكما غبي؛ الذي يريد منكم النظام سببا لوجود إله حكيم، والذي يريد الشذوذ سبباً لوجود إله قادر، هذان الأمران موجودان في الكون، وكلاهما دليل على وجود الإله الحكيم القادر لو كنتم منصفين.
انظر إلى النظام في الكون الأعلى؛ فلو فسدت فيه مسألة صغيرة لانهدم الكون كله.
انظروا إلى الشمس والمطر والكواكب والنجوم، إنها خاضعة لنظام محكم. فيا من تريد النظام دليلاً على حكمة مكون، فالنظام موجود، ويا من تريد الشذوذ دليلاً على أن هناك إلهاً يسيطر على ميكانيكية الكون فهذه أمور موجودة. والشذوذ إنما يتأتى من الأفراد، فإن شذ فرد فلن يفسد القضية العامة، فالذي يولد بعين واحدة مبصرة سنجد مئات الملايين امتلكوا البصر كاملاً.
لكن عندما يأتي الشذوذ في نظام الكون وحركة الأفلاك فالذي يحدث هو دمار للعالم.
2449
فمن أراد أن يرى النظام السائد يدل على الحكمة نقول له: انظر إلى الفلك الأعلى. ومن يريد الشذوذ دليلا على أن هناك قوة تتحكم في ميكانيكية العالم نقول له: هذا موجود، ولكن الشذوذ موجود في الأفراد. فإن شذ فرد فلا يعطب بقية الأفراد.
ونعرف - أيضا - أن رتابة النعمة قد تلهي الإنسان عن المنعم. فالإنسان منا يظل لمدة طويلة وأسنانه سليمة فلا يتذكر مسألة أسنانه، لكن إن آلمه ضرس واحد فهو يتذكر أن له ضرساً، وكذلك إن آلمته إحدى عينيه، أو إذا آلمته كُلْيَته فهو يجري إلى الطبيب. وهذه أمور لافتة حتى تُخرج الإنسان من رتابة النعمة عليه ليتذكر المنعم بالنعمة. وعندما نرى إنساناً أكرمه الله بفقدان البصر، فالواحد منا يقول: الحمد لله ويمسك الإنسان منا عينيه مخافة أن تذهبا، وكذلك عندما نرى أبرص أو أعرج، وهذه هي وسائل إيضاح في الكون حتى لا تغفل الناس عن المنعم بالنعمة.
فإذا ما نظرنا إلى الأشياء التي تصيب الإنسان فرداً، أو تصيب الأمة كمجموع فنحن نجدها بما قدمت يدها؛ لأنها صنعت شيئاً يخالف التوجيه. فإن كان هناك شيء خارج عن قدرة الإنسان فنحن نقول: هذه هي حكمة المكوِّن حتى يلفتنا إلى أنه المنعم. ولهذا نرى الشواذ في الخلقة قلة ولا كثرة، ويعوض الله من أصيب بشذوذ في شيء بدوام مَلَكَةٍ في شيء آخر. ولذلك يقول الشاعر:
أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس ورثه التقى وحب الشجاع النفس أورده الحربا
عميت جنيناً والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاب ضياء العين للعقل رافداً لعلم إذا ما ضيع الناس حصلا
وضربت المثل مرة ببيتهوفن الموسيقار العالمي الذي أطرب العالم بسمفونياته.. إنّه كان أصم.
ولذلك نحن نسمع في لغة العامة: كل ذي عاهة جبار. فإذا كان الله قد جعله وسيلة إيضاح ليلفت الناس إلى نعم الله سبحانه عليها فهو يعوضه بموهبة أخرى ويلتفت الناس فيها إلى صاحب العاهة فيرون فضل الله عليه أيضاً. إذن فالمصائب التي تحدث وليس للإنسان دخل فيها هي الملحظ الذي يجب أن نبحثه. وهذه هي مكونات الحكمة كي يلتفت الإنسان دائما إلى أن الكون غير متروك بلا قيادة.
2450
إن الله خلق الكون وخلق القانون والنواميس ليدلنا على أنه موجود. ولا تزال يده في الكون. فإذا حدثت حادثة فلا بد أن نلتمس لها حكمة.
والحكمة خرق وخروج عن النواميس يلفت إلى أن فوق ميكانيكية العالم وقوانينها قوة أخرى تقول لها: «تعطلي».
ولذلك فمعجزات بعض الرسل من هذا اللون، فطبيعة النار أنها تحرق، ولكنها لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام. أكان مراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجِّىَ إبراهيم من النار؟ لو كان مراده هو نجاة إبراهيم من النار فحسب لما مَكَّن خصومه من أن يمسكوه. وبعد أن أمسك خصوم سيدنا إبراهيم به، وأشعلوا النار وأججوها. كان باستطاعة الحق سبحانه أن يأتي بغمامة لا قدرة لخصوم إبراهيم عليها وتمطر مطراً تطفئ النار. لا. فقد أراد الله النار ناراً متأججة وأن يقدر خصوم إبراهيم عليه ويمسكوا به ولا تنطفئ النار، وأن يلقوه في النار، وبعد ذلك يوضح الحق:
أنا أزاول سلطاني في الناموس؛ لأني خالق الناموس وأعطله متى شئت، «يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم». أما لو حدثت المسألة الأولى وانطفأت النار، لقالوا: آه لو لم تنطفئ النار، وآه لو لم ينزل الماء على النار.
إن الحق أراد أن يدحض كل دعاوي الخصم. فعندما تحدث أحداث لا دخل للإنسان فيها نقول: دعها لحكمة الخالق لأنه يريد أن يلفت الخلق إلى أنه صاحب اليد العليا في الكون. فميكانيكية الكون تحير العقول؛ لأنها مضبوطة بدقة، ولكنها لم تفلت من يد ربنا. ولذلك نرى في بعض الأحيان رياحاً عنيفة تثير الغبار فلا يرى الإنسان شيئاً على الإطلاق. ومعنى ذلك أن الذرات تراكمت وتراكبت حتى صارت جداراً، ويحدث ذلك مهما حاولت الأجهزة العلمية التحكم في ذلك أو منعه.
ومن العجيب أن الحق يترك لنا لذعة تقول: لقد كرمتك بالعقل ولكني لم أدع لك كل الفهم، فقد يوجد صاحب غريزة لا عقل له ويكون أقدر على فهم الأشياء منك أيها الإنسان.
2451
وعندما يحدث زلزال في منطقة ما، فأول ما يخرج من المكان هي الحمير. وهذا لفت للإنسان حتى لا يقع فريسة للغرور: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧].
فإذا ما رأيت حدثا في الكون ولا دخل للإنسان فيه ولا للأمم دخل فيه؛ فلتعلم أن لله فيه حكمة حتى يلفتنا إلى المكون الأعلى؛ وحتى لا يظن أحد أن لميكانيكية الكون رتابة، إنما هي نظام يجريه الله على وفق قدرته وإرادته وحكمته.
ولذلك يقولون: إن العقل الإلكتروني لا يخطئ، وهم لا يعرفون أن من الخيبة ألا يخطئ، لأنه كما تملؤه وتمده بالمعلومات سيخرج لك هذه المعلومات. ليس له خيار في شيء. أما العقل البشري فهو قادر على الاستنباط والاستكشاف وعدم ذكر بعض المعلومات التي قد تضر. هذه هي العظمة.
ويقول بعضهم - كمثال آخر - إن الورد الصناعي لا يذبل، نقول: إن عيبه أنه لا يذبل لأن الذبول حيوية، وعدم الذبول دليل على أنه لا حياة فيه، وأنّه جمود فقط.
وساعة يجري الحق سبحانه وتعالى شيئاً في كونه ولا دخل لأحد فيه فهو يريد أن يلفت الكون إلى بقاء القيومية العليا والقدرة الإلهية في الكون؛ حتى لا تغتر بميكانيكية الكون. ولذلك يعرض القرآن بصيصاً من هذه الأشياء، إذا أخذتها بحكم العقل فهو لا يقبلها، لكن حين يفسرها من أجراها نجدها في منتهى العقل. مثال ذلك: سيدنا موسى عندما ذهب إلى العبد الصالح، ما الذي حدث؟.
قال العبد الصالح: ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ [الكهف: ٦٧].
ويلتمس العبد الصالح لموسى العذر فيقول له:
2452
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ [الكهف: ٦٨].
فيقول سيدنا موسى وهو من أولي العزم من الرسل: ﴿قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ [الكهف: ٦٩].
فيخرق العبد الصالح السفينه. وخرق السفينة في السطحية الفهمية شرّ، وعلى الرغم من أن سيدنا موسى وعد العبد الصالح بعدم عصيان الأمر وأن يكون صابراً، على الرغم من ذلك لم يطق حادثة خرق السفينة، فقال للعبد الصالح: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ [الكهف: ٧١].
لقد شك سيدنا موسى في ظاهر الأمر، ولكن عندما يدرك الحكمة يجدها عين الخير. فلو لم يخرق العبد الصالح السفينة لأخذها الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة صالحة وسليمة غصباَ: ﴿أَوَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف: ٧٩].
فلو لم يخرقها العبد الصالح لما استرد أصحاب السفينة سفينتهم، وبالخرق للسفينة ستظل لأصحابها؛ لأن بها عطبا يستطيعون إصلاحه بعد ذلك. إذن، كل شيء يجري على غير ما تشتهيه سطحية الفهم البشري فلنعلم أنها ما دامت ليست من أحد، وهي من المكون الأعلى فوراءها حكمة.
وهل يوجد أكثر بشاعة من القتل؟ لقد قتل العبد الصالح غلاماً. ما الحكمة في ذلك؟. إن الواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسندا، وقد يكون هذا الابن سببا في فساد دين أبيه ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغي.
2453
ويقول قائل: وما ذنب الولد؟ نقول: أنت لا تفهم الأمور، لقد ذهبت إلى الحق بدون تجربة في أن يطيع أو يعصي الله، ذهب إلى رحمة الله مباشرة، وهذا أفضل له. وكان في ذلك القتل للولد رحمة لوالديه؛ فالشيء إن حدث للنفس إن كان من مخالفة الإنسان للناموس فيكون الإنسان هو الذي فعل الضر بنفسه.. وكذلك الأمة حين تخالف ناموساً شرعياً أو كونياً. لكن لو كانت الأمور فوق طاقة البشر فلا بد أن لله فيها حكمة. وقصة العبد الصالح ومومسى مليئة بالحكم. فقد ذهب الاثنان إلى قرية واستطعما أهلها أي طلبا من أهلها طعاماً:
﴿حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ [الكهف: ٧٧].
ولم يطلب أي منهما نقوداً، وذلك حتى لا تثار الظنون السيئة، ولكن طلبا الطعام ليأكلاه. وهو أول الحاجات الضرورية للإنسان.
فقالوا لهما: لا لن نعطيكما لأن أهل تلك القرية كانوا لئاماً. ولذلك اتجه العبد الصالح إلى جدار يريد أن ينقض فأقامه، فقال سيدنا موسى للعبد الصالح: لماذا لا تأخذ منهم أجراً؟
وأخيراً يوضح العبد الصالح لسيدنا موسى: ﴿وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: ٨٢].
فأهل القرية اللئام الذين طُلِبَ منهم الطعام لم يكونوا قادرين على تحمل أمانة حفظ الكنز للغلامين. فأمر الله العبد الصالح بحجب الكنز عن أهل تلك القرية. إذن، فالمسائل إن جرت على الإنسان بسبب منه فهو الذي فعل الضر بنفسه، أما إذا كان الأمر لا دخل للإنسان فيه فعليه أن يثق بحكمة مَن يجريه وبذلك يستقبل الإنسان كل شيء يصيبه بالراحة.
2454
إن صاحب الإيمان يلقى الأحداث بقلب قوي. فإن كانت من نفسه فهو يعدل سلوكه، وإن كانت من ربه فهو يثق بحكمة ربه ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾ وهذا إيضاح لك حتى تفهم أن أي فعل هو من عند الله. فليس للإنسان في الطاقة أي فاعلية ولكن للإنسان توجيه المخلوق من طاقات وجوارح إلى الطاعة أو إلى المعصية.
وما دام كل من عند الله فهو سبحانه يريد لنا أن نتلو العجب من هؤلاء ونقرأه فيقول سبحانه: ﴿فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ كأن منطق العقل والفكر يقودان إلى ضرورة الفهم. وعندما لا يفهمون ذلك فنحن نستعجب من عدم فهمهم. ولا نستعجب من عدم فهمهم إلا إذا كان الأمر المطروح أمامهم أمراً يستوعبه العقل. والحق يقول: ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ وساعة تقول فلان لا يفقه، فهذا معناه أن عقله ممنوع من الفهم. أما عندما نقول: لا يكاد يفقه. فهو يعني: لا يقرب حتى من الفهم.
والقول الثاني هو الأكثر بلاغة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ... ﴾.
2455
فإن جرت عليك سنة كونية خيراً فهو من الله، أما إن أصابتك سيئة فيما لك فيه دخل فهي من نفسك. كأن المسألة قسمان: شيء لك فيه دخل، وشيء لا دخل لك فيه. ولا بد أن تعتبره حسنة لأنه يقيم قضية عقدية في الكون.
فالمؤمن بين لوم نفسه على مصيبة بما له فيه دخل، وثقة بحكمة من يجري ما لا دخل له فيه وهو الله - سبحانه - {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن
2455
سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}.
ومن هو الرسول؟.
الرسول مبلغ عمن أرسله إلى من أرسل إليه. وما دام رسولاً مبلغاً عن الله فأي شيء يحدث منه فهو من الله.
وعندما يقول الحق: ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ أي لا يضرك يا محمد أن يقولوا: إن ما أصابهم من سيئة فمن عندك؛ لأنه يكفيك أن يكون الله في صفك؛ لأنهم لا يملكون على ما يقولون جزاء، وربك هو الذي يملك الجزاء وهو يشهد لك بأنك صادق في التبليغ عنه وأنّك لم تحدث منك سيئة كما قالوا:
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ... ﴾.
2456
والطاعة للرسول هي طاعة لله، وذلك أمر منطقي؛ لأنه رسول، فمن أطاع الرسول فطاعته طاعة لله؛ لأن الرسول إنما يبلغ عمن أرسله.
ولذلك ففي المسائل الذاتية التي كان يفعلها سيدنا رسول الله كبشر وبعد ذلك يطرحها قضية من عنده كبشر، وعندما يثبت عدم صحتها يعطينا رسول الله مثالاً عن أمانته.
فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بقوم يُلَقّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا، فمّر بهم، فقال: مَالِنَخْلِكم؟ قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
2456
أي في المسائل الخاضعة للتجربة في المعمل والتي لا دخل للسماء فيها. أما الأمور الخاضعة لنواميس الكون فلا يتركها للعباد. ومن العجيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يتصرف في شيء لم يكن لله فيه حكم مسبق ويعدله له الله بينه وبين نفسه فمحمد هو الذي يبلغنا بهذا التعديل لنشهد - واقعا - أنه صادق في البلاغ عن الله ولو كان على نفسه. وجاءت هذه الآية الكريمة بعد قول الحق سبحانه: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً﴾ [النساء: ٧٩].
والرسول - كما نعلم - هو من بلغ عن الله شرعه الذي يريد أن يحكم به حركة حياة الخليفة في الأرض وهو الإنسان. وإذا ما نظرنا إلى المادة المأخوذة من الراء والسين واللام وجدنا الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى. ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى﴾ [الحج: ٥٢].
إذن فالرسول قد يكون رسولاً بالمعنى المفهوم لنا، وقد يكون نبياً، كلاهما مرسل من الله. ولكن الفارق أن الرسول يجيء بشرع يؤمر به؛ ويؤمر هو - أيضا - بتبليغه للناس ليعملوا به، ولكن النبي إنما يرسله الله ليؤكد سلوكاً نموذجياً للدين الذين سبقه؛ فهو مرسل كأسوة سلوكية. ولكن الرسول على إطلاقه الاصطلاحي يأتي بمنهج جديد قد يختلف في الفروع عن المنهج الذي سبقه. وكلاهما رسول؛ هذا يجيء بالمنهج والسلوك ويطبقه، والنبي يأتي بالسلوك فقط يطبقه ليكون نموذجاً لمنهج سبقه به رسول.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل، وجعل خاتم الرسل سيدنا محمدا فمعنى ذلك أن رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستكون رسالة لا استدراك للسماء عليها، فكيف يعقل أن تكون رسالته موضوعاً لاستدراك البشر عليها؟
فما دام الله قد ختم به الرسالة، وأنزل عليه قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
2457
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} إذن فلم يعد للسماء استدراك على هذه الرسالة، فكيف يأتي بعد ذلك إنسان معاصر أو غير معاصر ليقول: لا، إننا نريد أن نستدرك كذا أو نقول: الحكم كذا أو هذا الحكم لا يلائم العصر إذا كان الله لم يجعل للسماء استداركاً على الرسالة لأن الله أكملها وأتمها فكيف يسوغ للبشر أن يكونوا مستدركين على الرسالة؟
إن الرسول حين يضاف، يضاف مرة إلى الله، ويضاف مرة إلى المرسل إليهم؛ لأنه واسطة التعلق بين المُرْسِل والمْرسَل إليه، فإن أردت الإضافة بمعنى «مِن» الابتدائية؛ تقول: رسول الله، أي رسول مِن الله.
وإن أردت الغاية من الرسالة تقول: رسول إلى الناس أو رسول للناس. إذن فالإضافة تأتي مرة بمعنى «من» وتأتي مرة بمعنى «اللام»، وتأتي مرة بمعنى «إلى».
وأمر الرسالة ضروري بالنسبة للبشر؛ لأن الإنسان إذا ما استقرى وتتبع الوجود كله بفطرته وبعقله السليم من غير أن يجيء له رسول، فإنه يهتدي بفطرته إلى أن ذلك الكون لا يمكن أن يكون إلا عن مُكَوِّن له قدرة تناسب هذه الصفة المحكمة البديعة. ولا بد أن يكون قيوماً لأنه يمدنا دائماً بالأشياء، لكن أنعرف بالعقل ما تريد هذه القدرة؟ نحن ننتهي فقط إلى أن وراء الكون قوة، هذه القوة لها من القدرة والحكمة والعلم والإرادة وصفات الكمال ما يجعلها تخلق هذا الكون العجيب على تلك الصورة البديعة ذات الهندسة الدقيقة، وهذا الكون له غاية. أيمكن - إذن - للعقل أن يضع اسماً لهذه القوة؟ فكونها قوة يستلزم أن يكون لها قدرة وحكمة، لكنا لا نعرف اسمها، فكان ولا بد أن يجيء رسول، هذا الرسول يعطي للناس جواب ما شغلهم وهو: ما القوة التي خلقت هذا الكون وجعلته بهذه الصنعة العجيبة.
ويقف العقل هنا وقفة، فعندما يأتي الرسول ويقول: أنا أدلكم على هذه القوة اسماً ومطلوباً، كان يجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له؛ لأنه سيحل لهم ذلك اللغز الذي رأوه بأنفسهم وأوقعهم في الحيرة - المؤمن منهم والكافر يؤمن بهذا - لأنه يجد نفسه في كون تخدمه فيه أجناس أقوى منه، ولا تتخلف عن خدمته أبداً،
2458
وأجناس لا تدخل تحت طاقته ولا تحت قدرته وتصنع له أشياء لا يفهم عقله كيف تعمل، فكان الواجب أن يؤمن.
لقد ضربنا مثلاً وقلنا: لو أن إنساناً وقعت به طائرة أو انقطع به طريق في صحراء، وليس معه زاد ولا ماء، وبعد ذلك جلس فغلبه النوم فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة منصوبة فيها أطايب الطعام وفيها الشراب السائغ. بالله قولوا لي: ألا يشتغل عقله بالفكر فيمن جاء بالأطعمة قبل أن يتناول منها شيئاً؟ لذلك كان من الواجب قبل أن ننتفع بهذه الأشياء أن نلفت ذهننا: من الذي صنع هذه الصنعة؟! ومع ذلك تركنا الله فترة حتى نفكر، حتى إذا جاء رسول يقول: القوة التي تبحث عنها بعقلك هذه اسمها كذا ومطلوبها منك كذا، وأنت كائن ومخلوق لها أولاً وإليها تعود أخيراً.
وخلاصة المسألة أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق أعد لهم مائدة الكون، وفيها الأجناس التي تخدمه - كما قلنا -: سلسلة الأجناس وخدمتها تجعلك تتعجب وتتساءل: كيف يخدمني الأقوى مني؟
الشمس التي لا تدخل تحت قدرتي، والقمر الذي لا أستطيع أن أتناوله، والريح التي لا أملك السيطرة عليها، والأرض التي لا أستطيع أن أتفاهم معها، كيف تؤدي لي هذه الخدمات؟. لا بد أن يكون هناك من هو أقوى مني ومنها هو الذي سخرها لخدمتي. وهل رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو سخرها لخدمتي. وهل رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو نقص منها شيئاً؟. لم يحدث؛ لأنها مسخرة، فإذا جاء رسول من الله ليحل لنا لغز هذه الحياة ويدلنا على موجدها، كان يجب أن نفتح له آذاننا ونسمعه، فإذا ما قال لي: الذي خلق لك الكون هو الله، والذي خلقك هو الله وهو صانعك، وأرسلني بمنهج لك كي تؤدي مهمتك كما ينبغي فافعل كذا ولا تفعل كذا، وأنت صائر إليه ليحاسبك على ما فعلت، وهذا المنهج هو خلاصة الأديان كلها.
ولذلك يكون مجيء الرسول ضرورياً وبعد ذلك يؤيده سبحانه بمعجزة تثبت صدقه، وما دام قد أرسله بالمنهج الذي هو: افعل ولا تفعل، فهذا يعني أن تطيع هذا الرسول، ويقول ربنا في آية أخرى:
2459
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾ [النساء: ٦٤].
أي ليست الطاعة ذاتية له، إنما الطاعة صادرة من الله، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتميز عن سائر الرسل؛ لأن معجزته التي تؤيد صدقة في بلاغة عن الله هي عين كتاب منهجه في الأصول، وكل الرسل كانت على غير ذلك. كان الرسول يأتي بمعجزة ويأتي بكتاب منهج، العصا واليد البيضاء كانت لموسى هذه معجزته؛ ولكن منهجه في «التوراة»، إذن فالمعجزة منفصلة عن المنهج.
سيدنا عيسى معجزته - مثلاً -: أنَّه يبرئ الأكمة والأبرص، لكن كتاب منهجه «الإنجيل»، إلا سيدنا رسول الله فإن معجزته وهي القرآن هي عين منهجه؛ لأن الله أراد للدين الخاتم ألا تنفصل فيه المعجزة من المنهج.
إن معجزات الرسل السابقين على رسول الله من رآها يؤمن بها، والذي لم يرها يسمع خبراً عنها، وإن كان واثقاً ممن أخبره يصدقه، وإن لم يكن واثقا - لأنها ليست أمامه - فلا يصدقه، ولولا أن الله أخبرنا بهذه المعجزات في القرآن لكان من الممكن أن نقف فيها.
أما معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فباقية بقاء منهجه، ويستطيع كل مسلم أن يقول في آخر عمر الدنيا: محمد رسول الله وتلك معجزته، أما غيره من الرسل فلا يأتي أحد ويقول: فلان رسول الله وتلك معجزته، لأنها حدثت وانتهت، أما القرآن فهو باق بقاء الرسالة والكون.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يأتي بالبلاغ عن الله فالحق يبيّن لنا: أنا أرسلت الرسول ليطاع. والمنطق أن يقول القرآن: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ ؛ لأن الرسول جاء مبلغاً عن الله؛ فالمباشر لنا هو رسول الله، وعرفنا من قبل أنه إذا ما توارد أمر الطاعة من الله مع أمر مع رسوله نطيع الاثنين، وإذا كان الله قد جاء بأمر إجمالي كالزكاة والحج، وجاء الرسول ففصل، فنطيع الله في الأمر الإجمالي ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، وإذا كان الله لم يجيء بحكم لا مجمل
2460
ولا مفصل، فقد جاء التشريع من الرسول بالتفويض الذي فوض الله فيه رسوله بقوله: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
فالرسول الوحيد الذي أعطاه الله تفويضاً في التشريع هو محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل الرسل بلغوا عن الله ولم يبلغ واحد منهم عن نفسه شيئاً إلا سيدنا رسول الله، فقد فوّضه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ - إذن فللرسول مهمة داخلة في إطار القرآن أيضاً، ومثال ذلك في حياتنا نجد من يقول لموظف: إن الموظف الذي يغيب خمسة عشر يوماً في قانون الدولة يفصلونه، فيأتي موظف ومعه دستور البلاد ليرد ويقول: هذا هو الدستور وقد قرأته فلم أجد فيه هذا القانون، وهذا الكلام الذي تقوله عن فصل الموظف غير دستوري.
نقول له: إن الدستور قال في هذه المسألة: وتؤلف هيئة تنظم أعمال العاملين في هذا المجال، إذن فبالتفويض توجد هيئة تضع نظاماً ليطبق على العاملين فتكون هذه من الدستور، فكل بنود قانون العاملين تدخل في التفويض الذي نص عليه في الدستور للهيئات أو للجان التي تضع التشريعات الفرعية، فكذلك إذا قيل لك: هات دليلاً من القرآن على أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وأن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع ركعات، وأن العشاء أربع ركعات، هات دليلاً من القرآن على هذه، تقول: دليلي من القرآن: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كي يضمن سلامة المنهج من هذه التحريفات التي يفترونها يقول:
«لا أُلْفِينَّ أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمرٌ مما أمرْت به، أو نَهيْتُ عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه».
وفي رواية أخرى: عن المقْدَام بن معد يكرب قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2461
ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما حرم الله».
أروى هذا الحديث عن الرسول كي تعرفوا غباء القائلين بهذا، ولنقل لهم: قولكم هذا دليل على صدق الرسول، بالله فلو لم يأت واحد بمثل قولكم بأنه لا يوجد إلا القرآن؛ بالله ماذا كنا نقول للمحدثين الذين رووا حديث رسول الله، ولو لم يقولوا هذا لقلنا: النبي قال: يتكئ رجل على أريكته ويتحدث، ولم يتكلم أحد بما يخالف هذا الكلام. إذن فوجود هؤلاء دليل صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما دام الله قد أرسله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منه إلى خلقه فيكون مع هذه الرسالة الطاعة والطاعة هي: الاستجابة للطلب. وأنواع الطلب كما يقول الذين يشتغلون في البلاغة والنحو كثيرة، فمرة تتمنى شيئاً مستحيلاً مثل قول القائل: ليت الكواكب تدنوا ليّ فأنظمها
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما أرضي لكم كَلِمي
والكواكب لن تنزل بطبيعة الحال، أو كقول الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
هذا لون من الطلب يدل على أن الطلب محبوب، لكنه لا يقع وقد يقع، وكذلك الاستفهام طلب شيء لأنك تستفهم عن شيء كقولك لمن تزوره: مَن عندك؟. وأما أن تطلب شيئا ليفعل فهذا هو الأمر، أو تطلب شيئاً ليجتنب فهذا هو النهي، فتكون الطاعة هي: أن تجيب طالباً إلى ما طلب.
والطالب إما أن يطالب بأمر لتفعله وإما بنهي لتجتنبه. وإذا أطلقت الطاعة إطلاقاً عاماً فهي لا تنصرف إلا لطاعة العبد لربه، وبعد ذلك تقول: الولد أطاع أباه، الطالب أطاع أستاذه، العامل أطاع معلمه، فهذه طاعة مضافة إلى مطاع،
2462
لكن إن أطلقت كلمة الطاعة فهي تنصرف إلى طاعة العبد لله، وهذه أسلم أنواع الطاعات، لماذا؟
لأن أمر كل آمر، أو نهي كل ناهٍ؛ قد يشكك فيه أنّه أمرك بكذا ليعود عليه بالفائدة، أو نهاك عن كذا ليعود عليه بالفائدة، لكن إذا كان الذي طلب منك هو في غني عن عملك وعن انتهائك، فهذه مسألة لا يكون فيها شبهة، فالذي يشكك الإنسان في الطاعة هو المخافة أن يكون الطالب قد طلب أمراً يعود عليه بالمنفعة، أو نهي عن أمر يعود على الناهي بالمنفعة أو يدفع عنه مضرّة. لكن إذا كان الطالب له كل صفات الكمال المطلق قبل أن توجد أنت، فوجودك وعملك وعدم عملك لا يعود عليه بشيء، فتكون هذه هي أسلم أنواع الطاعة.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله..».
إن المنافقين هم الذين يتعبهم وجود نور لأنهم ألفوا الحياة في ظلام، ويرهقهم وجود عدل؛ لأنهم استمرأوا الحياة في المظالم، لذلك فهم يحاولون أن يتصيدوا شيئاً ليقفوا في أمر هذه الدعوة، فقالوا: أما سمعتم لصاحبكم.
إنه قارب الشرك.. يقول: لا تعبدوا إلا الله ومع ذلك يريد أن يجعل من نفسه رباً له حب وله طاعة.
وينزل الحق على رسوله قوله: «من يطع الرسول فقد أطاع الله».
إذن فالطاعة هنا ليست ذاتية للرسول؛ لأنها إما بلاغ عن الله في النص الجزئي، وإما بلاغ عن الله في التفويض الكلي، وما دامت بلاغا من الله في التفويض الكلي فيكون الله قد أمنه أن يشرع: «من يطع الرسول فقد أطاع الله».
ما هو مقابل الطاعة؟. إنه التوليّ والعصيان، ورأينا الناس تنقسم تجاه الرسول إلى قسمين: قسم يطيعه في «افعل ولا تفعل»، وما لم يرد فيه: «افعل
2463
ولا تفعل» ؛ فهو داخل في حكم المباحات؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ فالذين يستجيبون للرسول أي يطيعونه في «افعل ولا تفعل» هم من أقبلوا على المنهج. والذين لا يطيعونه فقد «تولوا» أي أعرضوا وصدّوا.
انظروا إلى الحق سبحانه وتعالى كيف يحمي نفسية الرسول فيقول سبحانه: ﴿وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ فالذي يتولى ولا يطيع الرسول، فالحق لم يرسلك يا محمد لترغمهم على الإيمان.
وهناك فرق بين «أرسلناك لهم» أو «أرسلناك إليهم» و «أرسلناك عليهم». ف «أرسلناك لهم» تعني أنك تبلغ فقط، إنما «عليهم» فهي تعني لتحملهم على كذا، أي يجب أن تنتبه يا محمد إنا أرسلناك للناس - لا على الناس - لتبلغهم، فمن شاء فليطع ومن شاء فليعص، فلا تجهد نفسك وتظن أننا أرسلناك عليهم لترغمهم على أن يؤمنوا، فتكلف نفسك أمراً ما كلفك الله به: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
والحق يقول أيضاً: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: ٢١ - ٢٢].
وفي آية أخرى يقول: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: ٤٥].
«جبار» يعني تجبرهم على أن يطيعوا. فالإجبار يتنافى مع التكليف ويتنافى مع دخول الإيمان طواعية ويتنافى مع الاختيار. ﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ والحفيظ هو: الحافظ بمبالغة، تقول مثلاً: هذا حافظ مال فلان، وهذا حفيظ مال الناس جميعاً يعني عنده مبالغة في الحفظ، إذن فالمبالغة جاءت في تكرير الحدث فهو يحفظ
2464
لذلك الإنسان ولغيره. والحق يؤكد ذلك لمصلحته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه سبحانه بين لنا شغل رسول الله بأمته، وأنه يحب أن يكونوا جميعا مؤمنين ملتزمين مطيعين، ولذلك يقول الحق: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣].
إنهم لا يؤمنون، فيوضح له سبحانه: أرح نفسك، فعليك البلاغ فقط وهكذا يخفف الله مهمة الرسول.
ونجد أغلب عتابات الله لرسول الله، لا لأنه خالف، ولكن لأنه حَمْلَ نفسه فوق ما تفرضه عليه الرسالة، مثل من يثيرون قصة ابن أم مكتوم، فيقولون: النبي أخطأ ولذلك قرعه الله ووبخه.
نقول لهم: كان الرسول يرغب أن يؤمن به صناديد قريش العتاة الكافرون، وجاءه ابن أم مكتوم مؤمناً ويريد أن يستفهم، وكان من الأسهل أن يتعرض لابن أم مكتوم ولا يتعرض للصناديد الذين يخالفونه! لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك السهل وذهب للصعب، فكأنه سبحانه يتساءل: لماذا أتعبت نفسك. «وما عليك ألا يزكي» أي ما الذي يجعلك تتعب، إذن فهو يلومه لصالحه لا لأنه خالف.
فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾، إنما قاله ليخفف عن الرسول. إذن. الحفيظ هو الذي يحافظ على من يبلغه أمر الله وأن يكون سائراً على منهج الله. إن أراد أن ينحرف يعدله، فيوضح سبحانه: أنا لم أرسلك حفيظاً عليهم، أنا أرسلتك لتبلغهم، وهم أحرار يدخلون في التكليف أو لا يدخلون.
إذن فالحفيظ هو المهيمن والمسيطر، كما قال في الآيات الأخرى: والمسيطر أو الجبار هو الذي يحملهم على الإيمان.. والكلام في الطاعة المقصودة لله. وأن تنفذ جوارحك ما يأمر به سبحانه فيما تسمعه أذنك وما ينطق به لسانك، وليست الطاعة أن تقول: يا رسول الله نحن طائعون، وبعد ذلك تحاول أن تخدش هذه الطاعة بأن
2465
تجعلها طاعة لسان وليست طاعة جوارح. فطاعة اللسان دون الجوارح غير محسوبة من الإيمان.
ولهذا يقول الحق بعد ذلك: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ... ﴾.
2466
هنا يوضح الحق لرسوله: ستتعرض لطائفة من أمة الدعوة وهم الذين أمرك الله أن تدعوهم إلى الدخول في الإسلام، - أما أمة الإجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول وآمنوا فعلا - إن هؤلاء يقولون لك حين تأمرهم بشيء أو تطلب منهم شيئاً أمراً أو نهياً: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ يعني: أمرنا وشأننا طاعة، أي أمرك مطاع، ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ﴾، ويقال: برز أي خرج للبَرَاز، والبَرَاز هي: الأرض الفضاء الواسعة، ولذلك يقول المقاتل لمن يتحداه: ابرز لي، أي اخرج من الكن أو الحصن، وكان العرب سابقاً لا يقضون حاجتهم في بيوتهم، فإذا أرادوا قضاء حاجتهم ذهبوا إلى الغائط البعيد، وجاء من هذه الكلمة لفظ يؤدي قضاء الحاجة في الخلاء.
﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ﴾ أي خرجوا، فهم يديرون أمر الطاعة التي أمروا بها في رءوسهم فيجدونها شاقة، فيبيتون أن يخالفوا، ونعرف أن كلمة «بَيْت» تعني المأوى الذي يؤوي الإنسان. وأحسن أوقات الإيواء هو الليل، فسموا البيت الذي نسكنه «مبيتاً» لأننا نبيت عادة في البيت المقام في مكان والمكون من حجرات؛ والمستور، ويقولون: هذا الأمر بُيِّت بليل، أي دبروه في الليل، وهل المراد ألا يبيتوا في
2466
النهار؟ لا، لكن الشائع أن يبيتوا في ليل. يفعلون ذلك وهم بعيدون عن الأعين، فيدبرون جيداً؛ وإن كان المقصود هو التبييت في ظلام فهذا المعنى يصلح أيضاً، وإن كان سراً فالمعنى يصح أيضا.
إذن فالأصل في التبييت إنما يكون في البيت. والأصل أن تكون البيتوتة ليلا، ومدار المادة كلها الاستخفاء، فإذا بُيت في ظلام نقول: إنه بُيت بليل، وإذا بُيِّتَ سراً نقول: بُيِّتَ بليل أيضاً.
﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ﴾ يعني قالت طائفة: أمرنا وشأننا طاعة لما تقول: أو أطعناك طاعة ولكنهم يبيتون غير ما تقول فهم إذن على معصية. ﴿والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ﴾ وسبحانه يكتب نتيجة علمه، وجاء بكلمة «يكتب» حتى يعلموا أن أفعالهم مسجلة عليهم بحيث يستطيعون عند عرض كتابهم عليهم أن يقرأوا ما كتب فيه، فلو لم يكن مكتوباً فقد يقولون: لا لم يحدث، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذر من هذه الطائفة، لأنها ستثبط أمر الدعوة، لذلك يوضح الحق: إنك لن تُنصَرَ بمن أرسلت إليهم وإنما تنصر بمن أرسلك، فإياك أن ينال ذلك من عزيمتك أو يثبطها نحو الدعوة. فإذا حدث من طائفة منهم هذا ف «أعرض عنهم» أي لا تخاطبهم في أمر من هذه الأمور ودعهم ودع الانتقام لي؛ لأنني سأنصرك على الرغم من مخالفتهم لك، واتجه إلى أمر الله الذي أرسلك.
ونعلم أن المصلحة في كل الرسالات إنما تكون عند من أرسل، ولكن المرسل إليه قد تتعبه الدعوة الجديدة؛ لأنها ستخرجه عن هوى نفسه، ومستلزمات طيشه، فالذي أرسلك يا محمد هو الضامن لك في أن تنجح دعوتك.
2467
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً﴾ لماذا؟ لأن الذين يؤمنون بك محدودو القدرة، ومحدودو الحيلة، ومحدودو العدة، ولكن الذي أرسلك يستطيع أن يجعل من عدد خصومك ومن عُدَّة خصومك جنوداً لك، وينصرك من حيث لا تحتسب. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى بدأ قضية الإسلام وكان المؤمنون بها قلة، فلو جعلهم كثرة لقالوا: كثرة لو اجتمعت على ظلم لنجحت، ولكن عندما تكون قلة وتنجح، فهذا فأل طيب ويشير على أنك لست منصوراً بهؤلاء وإنما أنت منصور بمدد الله.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ....﴾.
2468
وإذا سمعت كلمة «أفلا» فأعلم أن الأسلوب يقرّع من لا يستعمل المادة التي بعده. ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا القرآن، فهناك شيء اسمه «التدبر»، وشيء اسمه «التفكر»، ثالث اسمه «التذكر»، ورابع اسمه «العلم»، وخامس اسمه «التعقل»، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، «أفلا يعلمون»، «أفلا يعقلون»، «أفلا يتذكرون»، «أفلا تتكفرون». هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، وتعقل، وعلم.
وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة «تدبر» ؛ فمعنى هذا أنه واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالاً قوياً لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري قماشاً، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعياً، فيبله لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس الناقدة فمعنى ذلك: أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في
2468
صالح ما ادعاه، ولو كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك: انظر جيداً وجرب.
والحق يقول: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ والتدبر هو كل أمر يُعرض على العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقة فأنظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها؛ و «تتدبر» تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك: الإله واحد، إبحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلهاً واحداً. وإياك أن تقول إنها مسألة رفاهية أو سفسطة؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد. سيكون جزاؤك النار.
إذن فتدبرت تعني: نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها، وهذه مرحلة بعد التفكر. فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. فالتفكر يأتي أولاً وبعد ذلك يأتي التدبر. وأنت تقول - مثلاً - لابنك: لكي يكون مستقبلك عاليا وتكون مهندسا أو طبيبا عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد.
إذن فأول مرحلة هي: التفكر، والثانية هي: التدبر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكرت فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية: فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضاً في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا كنت قد تعقلت الأمر لذاتك يقال: عقلته.
فإن فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان.
إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك، ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفي عنه التعقل من باب أولى؛ ذلك أن العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها، إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. لكنه لا يتعقل قدرات ذلك العَالِم. إذن فدائرة العلم أوسع؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. أما في دائرة العلم فإنك تعلم وتفهم ما عقله سواك.
2469
ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: ١٠٤].
في الآية الأولى قال سبحانه: «لا يعقلون» لأنهم قالوا: «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا» بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا: «حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال: «لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون»، وسبحانه هنا نفي عن آبائهم العلم الذي هو أوسع من نفي التعقل؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. لكنه لا ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره.
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾.. والحق سبحانه وتعالى حينما يحث المستمعين للاستماع إلى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه أنه يحب منهم أن يُعملوا عقولهم فيما يسمعون؛ لأن الحق يعلم أنهم لو أعملوا عقولهم فيما يسمعون لانتهوا إلى قضية الحق بدون جدال، ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون الطاعة ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ﴾، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ﴾ تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق.
وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمن الذي قال لرسول الله: إنهم بيتوا هذا؟!
2470
إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا أن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، وما دام رسول الله صادقا في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾، وكل الآيات يخدم بعضها بعضاً، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولاً لقالوا: إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم.
لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يُعَارِض ويُعارَض. فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر.. ألا يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد؟ ولم يقل منهم أحد كلمة، فما معنى ذلك؟ معناه: أنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون ويقولون ما يقولون. ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكاً.
كان من الممكن أن يقولوا: إن محمدا يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا. ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن القرآن فيه مخالفات ﴿فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون: إن القرآن فيه مخالفات؟ لقد كان العرب الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا: إن في القرآن اختلافاً﴾ ! هذا دليل على أن المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة.
ونقول لهم: لقد تعرض القرآن لأشياء ليُثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم أولا. فمنهم من سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد: هو أعجز العرب، فما شأن العجم والرومان؟ ونقول له: أكل الإعجاز كان في أسلوبه؟ لا، الإعجاز في أشياء تتفق فيها جميع الألسنة في الدنيا؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة
2471
التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطأوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣].
يقصدون ب «بشر» هذا غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، أو غلاما آخر روميّاً أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق: تعقلوا جيدا، فمحمد لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات.
وبعد ذلك جاء القرآن تحدياً لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب، بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل الناس.
والكون - كما نعرف - له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل؛ لأنها لم تقع بعد. والحاضر أمامنا، فيجعل له حاجزاً هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على سبيل المثال ويقول: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾ [القصص: ٤٤].
وسبحانه يقول: ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [القصص: ٤٥].
وسبحانه يقول: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ [العنكبوت: ٤٨].
2472
وكل «ما كنت في القرآن تأتي بأخبار عن أشياء حدثت في الماضي. بالله لو كانوا يعلمون أنه علم أو جلس إلى معلم، أكانوا يسكتون؟ طبعا لا، لأن هناك كفاراً أرادوا أي ثغرة لينفذوا منها، وبعد ذلك يأتي القرآن لحجاب الزمن المستقبل ويخرقه، يحدث ذلك والمسلمون لا يقدرون أن يحموا أنفسهم فيقول الحق: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥].
حتى أن عمر بن الخطاب يقول: أي جمع هذا؟ وينزل القرآن بآيات تتلى وتسجل وتحفظ.. وتأتي غزوة»
بدر «ويهزم الجمع فعلاً. وتنزل آية أخرى في الوليد ابن المغيرة الجبار المفتري: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ [القلم: ١٦].
ويتساءل بعضهم: هل نحن قادرون أن نصل إليه؟ وبعد ذلك تأتي غزوة»
بدر «فينظرون أنفه فيجدون السيف قد خرطه وترك سمة وعلامة عليه، فمن الذي خرق حجاب الزمن المستقبل؟ إنه الله. وليس محمداً، فإذا تدبرتم المسائل حق التدبر لعلمتم أن محمداً ما هو إلا مبلغ للقرآن، وأن الذي قال القرآن هو الإله الذي ليس عنده ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، بل كل الزمن له، ويأتي القرآن فيقول: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
هم قالوا في أنفسهم ولم يسمع لهم أحد، ثم ينزل القرآن فيخبر بما قالوه في أنفسهم.. فماذا يقولون إذن؟ وهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي أخبر رسول الله بما قالوا في أنفسهم.. فهذه الآية ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ جاءت بعد ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ﴾، إذن فقد فُضحوا، فلو كانوا يتدبرون لعلموا أن الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق هو الذي أخبره بما بيتوا، والذين لا يفهمون اللغة يطيرون فرحاً باختلاف توهموا أنه موجود بالقرآن، يقولون: إن الحدث الواحد المنسوب إلى فاعل واحد لا ينفي مرة ويثبت مرة أخرى، فإن نفيته لا ثتبته، وإن أثبته لا تنفه، لكن القرآن فيه هذا.
2473
وهييء لهم ذلك في قول الحق: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: ١٧].
و «ما رميت» هو نَفَي «الرمي»، و «إذ رميت» أَثْبت «الرمي» وجاء القرآن بالفعل وهو «رميت»، والفاعل هو «رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فكيف يثبت الفعل مرة وينفيه مرة في آية واحدة؟ ونقول لهم: لأنكم ليس عندكم ملكة العربية قلتم هذا الكلام، أما من عنده ملكة العربية وهي أصيلة وسليقة وطبيعة وسجية فيه، فقد سمع الآية ولم يقل مثل هذا الكلام، مما يدل على أنه فهم مؤداها.
ثم لماذا نبتعد ونقول من أيام الجاهلية، لنأخذ من حياتنا اليومية مثلاً، أنت إذا ما جئت مثلاً لولدك وقلت له: ذاكر لأن الامتحان قد قرب، وأنا جالس معك لأرى هل ستذاكر أو لا. فيأخذ الولد كتابه ويجلس إلى مكتبه وبعد ذلك يفتح الكتاب ويقلب الأوراق ويهز رأسه. وبعد مدة تقول له: تعال انظر ماذا ذاكرت. فتمسك الكتاب وتسأله سؤالين فيما ذاكر.. فلا يجيب، فتقول له: ذاكرت وما ذاكرت. أي أنك فعلت شكلية المذاكرة، ولا حصيلة لك في موضوع المذاكرة.
قولك: «ذاكرت» هو إثبات للفعل، وقولك: «وما ذاكرت» هو نفي للفعل. فإذا جاء فعل من فاعل واحد مثبت مرة ومنفي مرة من كلام البليغ. فاعلم أن جهة الإثبات غير جهة النفي.
وقوله الحق: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما جاء إلى المعركة أخذ حفنة من الحصى، وجاء ورمي بها جيش العدو.
إذن فالعملية الشكلية قام بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن أَلِرَسول الله قدرة أن يُرسل الحصى إلى كل جيش العدو؟ إن هذه ليست في طاقته، فقول الحق: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾. أنت أخذت شكلية الرمي، أما موضوعية الرمي فهي لله سبحانه وتعالى.
ويأتي مثلاً في آية أخرى يقول: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦].
2474
وهذا نفي. ثم يقول بعدها مباشرة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا﴾ [الروم: ٧].
وتتساءلون أيقول: «لا يعلمون».. ثم يقول: «يعلمون» بعدها مباشرة؟ نعم فهم لا يعلمون العلم المفيد، وقوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا﴾ أنهم لا يعلمون بواطن الأمور ولا عواقبها. فإذا جاء فعل فثبت مرة ونفي مرة أخرى فلا بد أن الجهة منفكة.
مثال ذلك هو قول الحق: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩].
ثم يقول القرآن في موقع آخر: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤].
ومعناها أنهم سيُسألون. ونقول: اجعلوا عندكم ملكة العربية، ألا يسأل الأستاذ تلميذه.
إذن فالسؤال قد يقع من العالم ليُعْلم ما عند المسئول ويُقِرُّ به، وليس ليَعْلَم العالم ما عند المسئول، وعندما يقول ربنا: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾.. فإياكم أن يذهب ظنكم إلى أن الله يسأل لأنه لا يعلم، وإنما يسأل ليقرركم لتكون حجة الإقرار أقوى من حجة الاختبار. إذن فإن رأيت شيئاً نفي، وأثبت في مرة أخرى فاعلم أن الجهة منفكة. وحينما نتكلم عن إعجاز القرآن نجده يقول: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١].
وجاء في الآية الثانية وقال ربنا: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ [الإسراء: ٣١].
2475
قد يقول من لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟ إن كانت الأولى فالثانية ليست بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة.
نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. صحيح أن عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ وفي الثانية يقول: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾. ولكن هل صدر الآية متحد؟ لا، فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾. فكأن الإملاق موجود.. حاصل؛ لذلك شغل المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده.. ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه. لأنه هو نفسه فقير. فيطمئنه الله على رزقه أولا ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق من سيأتي: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.. لكن في الآية الثانية لم يقل ذلك.. بل قال ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ كأنه يخاف أن يفقد ماله ويصير فقيراً عندما يأتي الولد، وما دام قد قال: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه.. ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها.. تجد العلاقة مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذاً للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول الحق في آية في القرآن: ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [لقمان: ١٧].
وفي سورة ثانية يقول: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣].
ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. ففي الآية الأولى يقول: ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي في المصائب التي لا غريم لك فيها. وما دام ليس لك غريم فيها.. فماذا تفعل؟ لكن إذا كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. ولذلك فانتبه لقوله الحق: ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ يناسب الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي
2476
الآية الثانية: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ فالآية تناسب الموقف الذي فيه غريم لأنك ستصبر على المصيبة وعلى من عملها من غريم؛ لأنك كلما رأيته تهيج نفسك وهذا يحتاج لتأكيد الصبر بقوة، وتلك هي كلمات المستشرقين الذين يريدون الطعن في القرآن ويقولون لنا: أنتم تنظرون للقرآن بقداسة لكنكم لو نظرتم إليه بتفحص لوجدتم أن فيه اختلافات كثيرة، نقول لهم: قولوا لنا المخالفات، ونحن رددنا على هذا في ثنايا خواطرنا عن القرآن، ومنهم من يقول لك مثلاً: القرآن عندما تعرض لقضية خلق السماوات والأرض جاءت كل الآيات لتؤكد أن الله سبحانه خلقها في ستة أيام.
. لكنهم يقولون عندما نذهب إلى آيات التفصيل في قوله: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ [فصلت: ٩ - ١٢].
نجدها ثمانية أيام فقالوا: هذا خلاف. نقول لهم: أنتم لم تفهموا. فسبحانه حين قال: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض﴾، فهل تكلم عما تستقيم به الحياة على الأرض؟ إنه عندما تكلم عن الأرض يقول: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾، فهذه تكون تتمة الأرض لأنه يتكلم عن الأرض.. ﴿وَجَعَلَ فِيهَا﴾ أي الأرض.. ﴿رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾.. وكل ذلك في الأرض.. إذن فالمرحلة الثانية مرحلة تتمة خلق الأرض فسبحانه خلق الأرض كجرم أولاً، وبعد ذلك جعل فيها الرواسي وجعل فيها الأقوات وبارك فيها. في كم يوما؟ في أربعة أيام فكأن اليومين الأولين دخلا في الأربعة، لأن هذه تتمة خلق الأرض.
2477
ولله المثل الأعلى، مثلما تقول: سرت من هنا إلى الإسماعيلية في ساعة، وإلى بورسعيد في ساعتين، فقولك: إلى بورسعيد في ساعتين، يعني أن الساعة الأولى تم حسابها، إذن فهؤلاء المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ فإن وجدت شيئا ظاهريا يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه مِنْ عند مَن إذا قص واقعا قصه على حقيقته، وعند مَن لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾، فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من الأدباء كي يكتب هذا، ثم انظروا في فصاحته، إنّكم ستجدونه قويا في ناحية وضعيفا في ناحية أخرى، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما بعد ذلك! مثلما فعل أبو العلاء المعري عندما قال:
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
وكان أيام قوله هذا: ينكر البعث.
وعندما رجع إلى صوابه بعد ذلك قال:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخَسار عليكما
إذن فالتناقض يأتي مع صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولاً ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. لكن ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إما من واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإما من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأياً ثم عدل عنه، فيكون متغيراً. لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير.. ويقول على الواقع الحق: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾.
والواقع أيضاً أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على رسوله.. هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها
2478
يكون من مؤمن بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟. لا، هم في الغرب مثلاً بعد الحرب العالمية الأولى اخترعوا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ.. وكانت تلك أول مرحلة في تفتيت الذرة، ونجد القرآن يضرب المثل بالذرة، وأنها أصغر شيء في قوله سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧].
وضع العلماء أيديهم على قلوبهم لأن الذرة قد تفتت. فوجد ما هو أصغر من الذرة!! ووجدنا من قرأ القرآن.. وقال: إن القرآن نزل في عصر كان أصغر شيء فيه «الذرة» عند العربي القديم، والله يعلم أزلا أن العلم سيطمح ويرتقي ويفتت الذرة، فقال: ﴿عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٣].
لقد تدبر صاحب هذا القول القرآن وفهم عن الله الذي تتساوى عنده الأزمنة، فالمستقبل مثل الماضي، ليس عنده علم مستقبل وعلم حاضر وعلم ماضٍ، وأوضح لنا: أن هناك ما هو أصغر من الذرة. فلو فتتوا المفتت منها لوجدنا في القرآن له رصيداً.
تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلاً. تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن ليجدوا مطعناً، فنجد من لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجَهُون بظروف لا يجدون حلاً لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن.
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾.
2479
ومثال آخر: بعض الناس يقولون: هناك اختلاف في القراءات.. مثل قوله تعالى: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤].
ويقول: هناك من يقرؤها «مالك يَوْمِ الدين».. لكن هناك ما يُسمى «تربيب الفائدة» لأن كلمة «مالك» وكلمة «مَلِك» معناهما واحد، والقرآن كيف يكون من عند غير الله؟ ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ﴾ - أي القرآن - «من عند غير الله» أغير الله كان يأتي بقرآن؟ ﴿لا. إنما القرآن لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾.
إن قوله سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ تكريم للإنسان، فكأن الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالاً حقيقياً لانتهى إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكأن الإنسان مزود بآلة فكرية.. هذه الآلة الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، ولاحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه الآلة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفة الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. فمعنى الاختلاف أنك تجد آية تختلف مع آية أخرى، فكأن الذي قال هذه نسي أنه قالها} ! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها، ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولاً كي لا يخالفه ثانياً.
إذن فلا تضارب ولا اختلاف في القرآن؛ لأنه من عند الله.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف... ﴾.
2480
الحق سبحانه وتعالى يربي الأمة الإيمانية على أسلوب يضمن ويؤمّن لهم سرّية حركتهم خاصة أنهم قوم مقبلون على صراع عنيف ولهم خصوم أشداء، فيربيهم على أن يعالجوا أمورهم بالحكمة لمواجهة الجواسيس. فيقول: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ﴾. أي إذا جاءهم خبر أمر من الأمور يتعلق بالقوم المؤمنين أو بخصومهم، وعلى سبيل المثال: يسمعون أن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيخرج في سرية إلى المنطقة الفلانية، وقبيلة فلان تنتظره كي تنضم إليه، وعندما يسمع الضعاف المنافقون هذا الخبر يذيعونه. فيحتاط الخصوم بمحاصرة القبيلة التي وعدت الرسول أن تقاتل معه كي لا تخرج، أو يقولون مثلاً: إن النبي سيخرج ليفعل كذا فيذيعوا أيضاً هذا الخبر! فأوضح لهم الحق: لا تفعلوا ذلك في أي خبر يتعلق بكم كجماعة ارتبطت بمنهج وتريد هذا المنهج أن يسيطر؛ لأن هذا المنهج له خصوم.
إياكم أن تسمعوا أمراً من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى من رأى القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن﴾ يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم ﴿أَوِ الخوف﴾ أي من عدوهم ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾.
كلمة «أذاعة» غير كلمة «أذاع به»، ف «أذاعه» يعني «قاله»، أما «أذاع به» فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل من يقابله، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه وتنتهي المسألة، أما «أذاع به» فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له تنشره وتخرجه من طيّ محدود إلى طي غير محدود.. أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى آذان تتعقب الخبر، ثم يقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول﴾ فالرسول أو من يحددهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال: ﴿لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ والاستنباط مأخوذ من «النَبْط» وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرد الماء مجتهدا في ذلك والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى المعنويات في
2481
الأخبار. وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. مثلما تعطي الطالب مثلاً تمريناً هندسياً، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات ويقول بما أن كذا = كذا.. ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجودٍ معدوماً.
وهنا يوضح الحق لهم: إذا سمعتم أمراً يتعلق بالأمن أو أمراً يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعطيهم بعض السلطة فيه؛ لأنهم هم الذين يستنبطون.
. هذا يقال أو لا يقال.
ويقول الحق: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العزم على أن يذهب إلى مكة فاتحاً.. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها.. أي أنه لا يقول الوجهة الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد، فيكون ذلك داعياً على فقدانهم قدرة المقاومة.
وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها؛ يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. وكان «حاطب بن أبي بلتعة» قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتاباً لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها وسارت. وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعلى ومن معه وقال لهم: إن هناك امرأة في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة، فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا عليٌّ وأخرج من عقاصها - أي من ضفائر شعرها - الكِتَاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاطباً وقال له: أهذا كتابك؟. قال: نعم يا رسول الله، فقال: وما دعاك إلى هذا؟ قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وأن كتابي لن يقدم ولن يؤخر. وأنا رجل
2482
ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي: قد صدقت.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى أولى الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. وهذا يدل على أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح: أنا الوكيل وأنا الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب.. وبكفايتهم به على أنه هو الناصر.
﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل لهذه المسألة مغبة أو عاقبة فيما يسؤوهم. ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. فنحن ننظر: هل هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل؟.. وهنا نجد قوله الحق: ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فهل كان اتباع الشيطان قليلاً أي اتبع الشيطان قلة وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدِث للحدث؟. فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعاً قليلاً تهتدون فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث: ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي إلاَّ نفرا قليلا منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان.
فقد ثبت أن قوماً قبل أن يرسل ويبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جلسوا ليفكروا فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم، فمنهم من صَدّ عن ذلك نهائياً، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادره في البلاد الأخرى، فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل»، وهذا «ورقة بن
2483
نوفل» الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و «أمية بن أبي الصلت»، و «قُسّ بن ساعدة»، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن فقول الحق: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله ورحمته لن يدع مجالاً للشيطان في بعض الأشياء.. بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين. فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيداً عن الشيطان، فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه مخاطباً سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ... ﴾.
2484
وحين ترى جملة فيها الفاء فاعلم أنها مسببة عن شيء قبلها، وإذا سمعت مثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: ٢١].
ومعنى ذلك أن القبر جاء بعد الموت، فإذا وجدت «الفاء» فاعرف أن ما قبلها سبب فيما بعدها، ويسمونها «فاء السببية».
2484
فما الذي كان قبل هذه الآية لتترتب عليه السببية في قول الله سبحانه لسيدنا رسول الله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ نقول: ما دام الأمر جاء «فقاتل» فعلينا أن نبحث عن آيات القتال المتقدمة، ألم يقل قبل هذه الآية: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: ٧٤].
والآية الثانية: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء﴾ [النساء: ٧٥].
إذن أمر القتال موجود من الله لمن؟ لرسول الله، والرسول يبلغ هذا الأمر للمؤمنين به، والرسول يسمعه من الله مرة واحدة؛ لذلك فإنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من يصدق أمر الله في قوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾. ثم ينقلها إلى المؤمنين، فمن آمن فهو مصدق لرسول الله في هذا الأمر. فالرسول هو أول منفعل بالقرآن فإذا قال الحق: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا﴾ [النساء: ٧٤].
أو عندما يقول له الحق: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ [النساء: ٧٥].
وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أول منفعل بأوامر الله، فإذا جاءه الأمر فعليه أن يلزم نفسه أولاً به، وإن لم يستمع إليه أحد وإن لم يؤمن به أحد أو لم يتبعه أحد، وهذا دليل على أنه واثق من الذي قال له: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ وما دام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أول منفعل فعليه أولاً نفسه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2485
بإقباله على القتال وحده، إنما يدل مَن سمع القرآن على أن الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، أول مصدق، ومحمد لن يغش نفسه. فقبل أن يأمر المؤمنين أن يقاتلوا، يقاتل هو وحده. ولذلك نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق - رضوان الله عليه - حينما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى وحدثت الردة من بعض العرب، وأصرّ خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يقاتل المرتدين وقال: لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجالدتهم عليه بالسيف. وحاول بعض الصحابة أن يثني أبا بكر الصديق عن عزمه فقال: والله لو عصت يميني أن تقاتلهم لقاتلتهم بشمالي.
إذن فقول الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ ينبهنا إلى أن هناك فرقاً بين البلاغ وبين تنفيذ المبلَّغ.
وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سمع من الله، فهو ملزم بتطبيق الفعل أولاً، وبعد ذلك يبلغ الرسول المؤمنين، فمن استمع إليه فعل فعله.
وقول الحق: ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط، فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من شأنه ولا هو مكلف به. ولكن على الرسول أن يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله. ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾.
أمعني ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم؟. لا فالحق قد أوضح: عليك أيضاً أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم: ﴿وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾ ومعنى «حرض» مأخوذ من «الحُرْض» وهو ما به إزالة العوائق وما ينطف الأيدي والملابس مما يرين عليها ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك وأتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنه الموانع وتزيل العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا.
﴿وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لرسوله: إنك لا تنصر بالكثرة المؤمنة بك، ولكن المؤمنين هم
2486
ستر ليد الله في النصر، فالنصر منه سبحانه: ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ [آل عمران: ١٢٦].
وورود كلمة «بأس» في الآية التي نحن بصددها، يراد بها القوة والشدة في الحرب، ويراد بها المكيدة، ويراد بها هزيمة الأعداء. فكلمة «بأس» فيها معانٍ متعددة. والحق يبلغ رسوله: إنك يا محمد لا تكلف إلا نفسك وإياك أن يخطر على بشريتك: كيف أقاتل هؤلاء وحدى فإن القوم المؤمنين معك وإذا ما دخلوا القتال فهم لا ينصرونك ولكنهم يسترون يد الله في النصر: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: ١٤].
ولماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار والمشركين؟. لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد نشأت.. ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في «حنين»، وقال بعضهم: لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة أولاً، وبعد أن أعطاهم الحقُّ الدرس التأديبي أولاً.. نصرهم ثانياً. والحق يقول: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: ٢٥].
وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائماً؛ لأن الأسباب إنما تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر لقال الأعداء: إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية.
والفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة المادية في الخصوم ما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام. فلم يرد الحق مجرد إنقاذ سيدنا إبراهيم من النار؛ لأن الأمر لو كان كذلك لما مَكَّن أعداء إبراهيم عليه السلام من القبض عليه.. ولو فعل الحق ذلك لقال أعداء سيدنا
2487
إبراهيم: آه لو كنا قد أمسكنا به، ولكان ذلك فرصة لكفرهم.
ولكن الحق يجعلهم يمسكون بإبراهيم عليه السلام: وَتَرَكَ النارَ تتأجج، ويقطع سبحانه الأسباب: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩].
هذه هي النكاية، فلو جاء إنقاذ إبراهيم بطريق غير ذلك من الأمور الغَيبية غير المادة المحسة، لوجد خصوم إبراهيم المخارج لتبرير هزيمتهم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله: يا محمد أنا الذي أرسلتك، ولم أكِلَك إلى نصرة من يؤمن بك، وإنني قادر على نصرك وحدك بدون شيء، ولكن أردت لأمتك التي آمنت بك أن ينالها يُمْنُ الإيمان بك فيستشهد بعضها، فتثاب الأمة، وتنتصر فتعلو وترتفع هامتها على العرب، فلو كان الأمر مقصوراً على نصر رسول الله لنصره الله دون حرب أو جهاد.
وقول الحق سبحانه: ﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أي أنه سبحانه قادر على أن يوقف ويمنع حرب وكيد الكافرين فيُبطله ويهزمهم. وهذا ما حدث، فبعد موقعة «أحد» التي ماعت نهايتها ولا يستطيع أحد أن يحدد مَن المنتصر فيها ومن المهزوم؛ لأن رسول الله قد انتصر أولاً، ثم خالف الرماة أمر رسول الله، فحدث خلل في صفوف المقاتلين المسلمين، ولكن لم يبق المحاربون من قريش في مكان المعركة، وأيضا لم يتجاوزوها إلى داخل المدينة، ولذلك لم تنته معركة أُحُد بنصر أَحَد. وبعد ذلك هددوا بأن الميعاد في بدر الصغرى في العام القادم.
ومر العام، وجاء الميعاد، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يخرج، فلما طالب بالخروج وجد كسلاً من القوم، ولم يطعه إلا سبعون رجلاً، وخرجوا إلى المكان المحدد. وأثبتوا أنهم لم يخافوا الموقف، وقذف الله الرعب في قلب أبي سفيان وقومه فلم يخرجوا. إذن فربنا قادر أن يكلف بأس الذين كفروا، فقد أقام رسول الله
2488
في المكان، وجلس مع المقاتلين وكان معهم تجارة وباعوها وغنم المسلمون الكثير من هذه التجارة.
﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ وكلمة «عسى» في اللغة تأخذ أوضاعاً متعددة، ف «عسى» معناها في اللغة الرجاء، كقول واحد: عسى أن يجيء فلان. أي: أرجو أن يجيء فلان. أو قول واحد مخاطباً صاحباً له: عسى أن يأتيك فلان بخير. وهذا رجاء أن يأتي فلان إلى فلان بعض الخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا يأتي، لكن الرجاء قد حدث.
وقد يقول واحد لصاحبه: عسى أن آتيك أنا بخير. هنا يكون الرجاء أكثر قوة؛ لأن الرجاء في الأولى في يد واحد آخر غير المتحدث، أما الخير هنا فهو في يد المتحدث. لكن أيضمن المتحدث أن توجد له القوة والوجود حتى يأتي بالخير لمن يتحدث إليه؟
إنه صحيح ينوي ذلك ولكنه لا يضمن أن توجد عنده القدرة.
وإذا قال قائل: عسى الله أن يأتيك بالفرج. هذه هي الأوغل في الرجاء. لكن هل من يقول ذلك واثق من أن الله يجيب هذا الرجاء؟. قد يجيب الله وقد لا يجيب وفقاً لإرادة الله لا المعايير من يرجو أو المرجو له. أما عندما يقول الحق عن نفسه: ﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾ فهذا هو القول البالغ لنهايات كل الرجاءات. ف «عسى» بمراحلها المختلفة تبلغ قمتها عندما يقول الحق ذلك.
وهكذا نرى مراحل «عسى». أن يقول قائل: عسى أن يفعل لك فلان خيراً. هذه مرحلة أولى في الرجاء، وأن يقول قائل: عسى أن آتيك أنا بخير. هذه مرحلة أقوى في الرجاء، فقد يحب الإنسان أن يأتي بالخير لكن قد تأتي له ظروف تعوقه عن ذلك. وإن يقول قائل: عسى الله أن يفعل كذا، هذه مرحلة أكثر قوة؛ لأن الخير فيها منسوب إلى القوة العليا، لكن هذا الرجاء قد يجيبه الله وقد لا يجيبه.
والأقوى على الإطلاق هو أن يقول الله عن نفسه: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ
2489
الذين كَفَرُواْ} و «عسى» بالنسبة لله رجاء محقق لأنه إطماع من الله عَزَّ وَجَلَّ، والإطماع منه واجب تحققه لأنه - سبحانه - هو الذي يحثنا ويدفعنا إلى الطمع في فضله لأنه كريم، وهو القائل سبحانه: ﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ لأن أصحاب البأس من الخلق هم أهل أغيار، فالقوي منهم قد يضعف أو يصاب ببعض من الرعب فتخلخل عظامه. أما واهب الفعل وواهب القوى لخلقه فهو القادر على أن يفعل فهو الأشد بأساً وهو سبحانه أشد تنكيلاً.
وساعة يسمع الإنسان أي شيء من مادة «نكل» فعليه أن يعرف أنها مأخوذة من «النِكْل» وهو القيد. وعندما يوقع الحاكم - مثلا - العذاب على مرتكب لجريمة، والشخص الذي يرى هذا العذاب يخاف من ارتكاب مثل هذه الجريمة، فكأن الحاكم قد قيدهم بالعذاب الذي أنزله بأول مجرم أن يفعلوا مثل فعله. ولذلك يقال على ألسنة الحكام: سأجعل من فلان نَكالاً. أي أن القائل سيعذب فلاناً، بحيث يكون عبرة لمن يراه فلا يرتكب جريمة مثلها أبداً خوفا من أن تنزل به العقوبة التي نزلت ولحقت بَمن فعل الجريمة.
إذن فالتنكيل والنكال والنِكل كلها راجعة إلى القيد الذي يمنع إنساناً أن يتحرك نحو الجريمة، أو قيد يمنع الإنسان أن يرجع إلى الجريمة التي فعلها أولاً، أو أن هذا القيد وهو العذاب الذي عوقب به مرتكب الجريمة يكون ماثلا أمام الناس يحذرهم من الوقوع فيها كي لا تنالهم عقوبتها ونكالها.
إن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ووزع عليهم فضل المواهب فلا يوجد واحد قد جمع كل المواهب؛ لأن فكر الإنسان وطاقته وزمنه وظروفه شاء الله أن تختلف وشاء سبحانه ألا يجعل الإنسان موهوباً في كل مجال، وحين يوزع الله على كل عبد جزءاً من المواهب ويعطي العبد الآخر جزءا آخر حتى يتكامل العباد معاً. فلو أن صاحب موهبة تجمعت لديه مواهب الآخرين لاستغنى كل إنسان عن مواهب الآخرين، والله يريد منا مجتمعاً متسانداً متكافلاً متكاملاً، فما أفقده أنا أجده عند غيري. فتجد بارعاً في الهندسة وعندما يصاب هذا المهندس البارع بألم فهو يطلب طبيبا، والطبيب الذي يريد بناء عيادة يطلبها من المهندس. وكلاهما يطلب مشورة المحامي في كتابة العقود، وكل هؤلاء في حاجة إلى من يقيم البناء، والذين يقيمون
2490
البناء من مهن متعددة أخرى يحتاج بعضهم إلى بعض.
إذن لا يوجد فرد واحد قادر على أن يقوم بكل هذه العمليات بمفرده، ولو أن هناك واحداً يستطيع كل ذلك لما احتاج إلى أحد، ولو حدث ذلك لكان التفكك في المجتمع. ولذلك جاء قول الحق: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ [الزخرف: ٣٢].
والناس حين تنظر لتفضيل الله لبعض الناس على بعض درجات ينظرون إلى ذلك في مجال المال فقط.. ونقول لمن يظن ذلك: - أنت مخطئ، فإن فضلك الله في القوة والجسم فهذه رفعة، وإن فضلك في العلم فذلك رفعة أيضاً، وإن فضلك في الحلم فهذه رفعة، إن تفضيل الحق لك في أي مجال هو رفعة لك، فأنت كعبد تكون مفضلاً؛ ومفضلاً عليك.
إذن فحين يقول الحق: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾. قد يسأل إنسان: أي بعض مرفوع وأي بعض مرفوع عليه؟. ونقول: كل واحد مرفوع بموهبته، وغيره مرفوع عليه بموهبته.
ومن القصور أن ننظر إلى التفضيل في مجال المال فقط، فلا يصح أن ننظر إلى هذه الزاوية وحدها ولكن لننظر من كل الزوايا. وعندما ننظر في الزوايا جميعها نجد الفرد مرفوعاً في شيء، ومرفوعاً عليه في أشياء، وكل منا مسخر لغيره. إذن فعندما خلق الله العباد جعل كُلاًّ منهم مسخراً للآخر، وما دام الأمر كذلك، فيجب ألا يُترك الفرد في البيئة الإيمانية فذاً، بل على كل ذي موهبة يفقدها غيره أن يمده بهذه الموهبة. فبعد أن كان فذاً - أي فرداً - يصير شَفْعَاً. والشَّفْعُ - كما نعلم - هو ضم شيء إلى مثله، فما ضم إلى غيره ليصيرا زوجا فهو شَفْع بخلاف الوتر فإنه الواحد.
فإذا كان الواحد منا موهوباً فليضم موهبته للثاني، حتى يصبح الاثنان شَفْعاً، وبذلك ينطبق عليه قول الحق:
2491
﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ... ﴾.
2492
وما هي الشفاعة الحسنة؟ الذين من الريف يعرفون مسألة «الشُّفْعَة» في العرف. فيقال: فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة. أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من الأرض، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه، فبدلاً من أن تكون له أرض واحدة صارت له أرضان.
وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول: أنا أدخل بالشفعة، أي أنه الأولى بملكية الأرض. إذن فمعنى يشفع، هو من يقوم بتعدية أثر الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها.
فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو إلى الخلاص من مضرّة وتكون بلا مقابل. إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه لغير الموهوب، فبعد أن كان فرداً في ذاته صار شفعاً. ولذلك يقال: فلان سيشفع لي عند فلان، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به. والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله قال لسيدنا داود: إن الرجل ليعمل العمل الواحد أحكِّمه به في الجنة.
أي أن رجلاً واحداً يؤدي عملا ما، فيعطيه الله فضلاً بأن يقوم بتوزيع الأماكن على الأفراد في الجنة، وكأنه وكيل في الجنة، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط، ولكنه يتصرف في إعطاء المنازل أيضاً، فتساءل داود: يا رب ومن ذلك؟ قال سبحانه: مؤمن يسعى في حاجة أخيه يحب أن يقضيها قضيت أو لم تقض.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من
2492
اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين».
ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به عليه، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة. وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة؛ فغير الموهوب يقول: إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك، فيحبّ بقاءها عنده ونماءها لديه.
ويقول الحق: ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾ ثم يأتي الحق بالمقابل، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط، ولكنه يضع الترغيب للأخيار ويضع الترهيب للأشرار، فيقول: ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾.
ولنر المخالفة والفارق بين كلمة «النصيب» وكلمة «الكفل». كلمة «النصيب» تأتي بمعنى الخير كثيرا. فعندما يقول واحد: أنت لك في مالي نصيب.
هذا القول يصلح لأي نسبة من المال. أما كلمة «كفل» فهي جزء على قدر السيئة فقط. وهذا هو فضل من الله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وهذا نصيب كبير. ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها.
وهذه الآية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال، أي أنك يا رسول الله مُطالب بأن تضم لك أناساً يقاتلون معك؛ فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيباً كبيرا وثوابا جزيلا.
أما قول الحق: ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ أي يكون له جزء منها، أي يصيبه شؤم السيئة، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس. وما دامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع يكون متسانداً لا متعانداً، ويصير الكل متعاوناً صافي القلب، فساعة يرى واحد النعمة عند أخيه يقول: «سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة».
2493
ولذلك قلنا: إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها. فإنك أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس. وإذا ما حُرمت من آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده، فقد تجد نفسك مصاباً بشيء من الغيرة منها أو كارهاً للنعمة عنده، فتصير النعمة وكأنها في غيرة على صاحبها، وتقول للكاره لها: «إنك لن تقربني ولن تنال خيري».
ويختم الحق الآية: ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ جاء هذا القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، وفي ذلك تنبيه لكل العباد: إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء، ولا في السيئة سيضيع شيء. وأخذت كلمة «مُقيتاً» من العلماء أبحاثاً مستفيضة. فعالم قال في معناها: إن الحق شهيد، وقال آخر: «إن الحق حسيب»، وقال ثالث: إن «مقيتاً» معناها «مانح القوت» ورابع قال: «إنه حفيظ» وخامس قال: «إنه رقيب».
ونقول لهم جميعاً: لا داعي للخلاف في هذه المسألة، فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها. و «مُقيت» من «قاته» أي أعطاه القوت، ولماذا يعطيهم القوت؟ ليحافظ على حياتهم، فهو مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم، ومعناها أيضاً: المحافظ عليهم فهو الحفيظ. وبما أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب.
وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه.
إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة؛ لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى، ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظاً في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب، فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائماً، فهو شهيد، ولا يعطي أحداً قوتاً إلا إذا كان قائماً على شأنه فهو حسيب. وسبحانه لا يُقيت
2494
الإنسان فقط ولكن يقيت كل خلقه، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام ولا يأكل الصنف الآخر.
إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى «مقيت» من زوايا مختلفة فهم جميعا على صواب، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى لازم كلمة «مقيت» وسبحانه يقيت كل شيء، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات.
ونجد علماء النبات يشرحون ذلك؛ فنحن نزرع النبات، وتمتص جذور النبات العناصر الغذائية من الأرض، وقبل أن يصبح للنبات جذورٌ، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران إلى ورقتين، وسبحانه على كل شيء مقيت، ويقول العلماء من بعد ذلك: إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية. أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء. وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء فالماء لا يصعد.
ومثال ذلك: عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية، فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل، وتترك مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها. لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح. وهو ما يقول عنه علماء النبات «ذلك هو الانتخاب الطبيعي». ومعنى الانتخاب هو الاختيار، والاختيار يقتضي عقلاً يفكر ويرجح، والنبات لا عقل له، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه «الانتخاب الإلهي»، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية.
وسبحانه يقول عن ذلك:
2495
﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: ٤].
فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته، والرمان يأخذ المادة الحمضية. هذا هو الانتخاب الإلهي.
﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ وساعة تسمع «كان الله» فإياك أن تتصور أن ل «كان» هنا ملحظاً في الزمن، فعندما نقول بالنسبة للبشر «كان زيد غنياً» فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه. لكن عندما نقول «كان الله» فإننا نقول: «كان الله ومازال»، لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار. وسبحانه هو الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد. وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن يعدي الواحد منا مواهبه إلى غيره فذلك حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائد للعبد المؤمن ويرببها للجميع.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ... ﴾.
2496
الحق هنا يريد أن يربب معنى الحياة. فما معنى: «حُييتم» ؟ الكلام السطحي الأولى فيها: إذا حياك واحد وقال لك: «السلام عليكم» أن ترد السلام. وكان العرب قديماً يقولون: حياك الله. وبعد أن جاء الإسلام جعل التحية في اللقاء هي السلام: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤].
2496
أو كما قال الحق في موقع آخر: ﴿فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله﴾ [النور: ٦١].
ولنفهم معنى كلمة «حياك». مادة الكلمة هي «الحاء»، و «الياءان»، ومنها كلمة «حياة»، التي منها حياتنا. والحياة إذا نظرنا إليها قد تأخذ معنىً سطحياً عند الناس وهو ما نشأ عنه الحس الحركي وهي أول ظاهرة فينا، وبعد ذلك في الحيوان، وإن ارتقيت في الفهم تجد أن كلمة «الحياة» تنتظم كل أجناس الوجود حتى الجماد، لكن الإنسان لا يتعرف إلى الحياة إلا في المظهر الحسي والحركي، ولكن لكل كائن حياة تناسبه.
وعندما كانوا يعلموننا في المدارس علم المغناطيسية كنا نرى تجربة المغناطيس ونأتي بقضيب مغناطيسي، ثم نأتي ببرادة الحديد، ونسير به في اتجاه واحد وذلك حتى نرتب الجزئيات ترتيباً يتناسب مع اتجاه المغناطيسية في القضيب الحديدي. هذا القضيب الذي نراه مادة جامدة في نظرنا، ولكن توجد فيها ذرات دون إدراك الإنسان تتكيف بحركة خاصة بها، ويُعاد ترتيب السالب منها والموجب ولا توجد قدرة عند المشاهد لها كي يدرك حركتها.
وحتى يقربها المدرسون إلى ذهن التلاميذ، جاءوا بأنبوبة زجاجية ووضعوا فيها برادة الحديد وجاءوا بالقضيب الممغنط ومرّروه بجانب البرادة، فرأى التلاميذ البرادة وهي تتقافز إلى أن تستقر، وهنا يتعلم التلاميذ أن برادة الحديد غير الممغنطة عندما يمر عليها القضيب الممغنط في اتجاه واحد فذراتها تترتب على أساس واضح، حتى تصير ممغنطة.
وهذا دليل الحس؛ فقد انقلبت السوالب في جهة والموجبات في جهة.. فالقضيب المغناطيسي له حركة ولكننا لا ندرك حسه ولا حركته لأننا لا نملك المِقاييس اللازمة لذلك.
ومثال آخر: لنفترض أننا نتحرك وجاءت طائرة من أعلانا والتقطت صورة لنا.
2497
وعندما يأخذون الصورة من قريب، فهم يرون الحركة، لكن كلما ابتعدت الطائرة فنحن لا نرى الحركة حتى تصير نقطة بعيدة وكأنها ثابتة. وهي ليست ثابتة، وإنما هي متحركة بصورة دقيقة جداً لدرجة أنها لا تُدرك. فكل شيء - إذن - فيه حياة خاصة تناسبه، وكل شيء له الحس والحركة الخاصة به. وعندما نأتي للقرآن، نرى كيف عالج هذه القضية فيقول: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨].
استثنى القول وجه الله. أي ذاته، فكل شيء ما عداه هالك.
ومعنى «هالك» أي ليس فيه حياة، وما دام كل شيء يهلك فهذا دليل أن في كل شيء حياة، حتى يأتي الإذن من الحق أن تذهب الحياة من كل شيء إلا وجهه سبحانه، وقد يتساءل إنسان ومن الذي قال: إن كلمة «هالك» تعني ليس فيه حياة؟ نقول: إن القرآن حين يتعرض لقضية لا يقسم العلوم إلى أبواب ولكنه يضع في كل آية جزئية تشرح لنا ما خفي علينا في جزئية أخرى كي نفهم القرآن متكامل، فيقول الحق:
﴿ِلِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
فيكون الهلاك ضد الحياة.
ونحن إذا ما نظرنا إلى الصناعات التي نصنعها، وليكن البلاستيك مثلاً، إننا نصنع منه أواني للغسيل أو لخلافه، وأول ما نشتريه للاستعمال نجده زاهي اللون، وبعد استعماله لفترة يزول عنه البريق ويصبح شاحب اللون، فما الذي حدث له؟. لقد تغير. ما الذي أحدث التغيير؟. يقال: الاستعمال وأشعة الشمس وغير ذلك. إذن ففيه حس لأنه تَأَثّر وحركةلأنه تغيّر، وكذلك الأحجار الكريمة والمرمر والرخام وغيرها يقدرون عمرها بمئات السنين وأحياناً بآلاف السنين، وكلما طال عمرها تغير لونها من الحياة والتفاعلات.
2498
وعندما نمسك ورقة ونضعها تحت المجهر فإننا نرى عدداً هائلاً من الغرف الصغيرة، ولا حصر لهذه الغرف، ويقول المؤمن: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤].
فكل شيء في الوجود له حياة تناسبه، إذ استقريتها وتتبعتها بدقة واستطعت أن توجد الآلات التي تستنبط والتي تساعد على الإدراك فإنك ترى الحركة وتشاهدها بالحس.
إلا أن الحياة بالنسبة لأرقى الأجناس - وهو الإنسان - المنتفع بكل كائن حي في الكون، هذه حياة تنتهي في ميعاد مجهول بالنسبة للإنسان معلوم بالنسبة لله. وأراد الله أن يكلفه تكليفاً إن استمع إليه ونفذه فهو سبحانه يعطيه حياة لا تنتهي. وعندما نقيس الحياة التي لا تنتهي فالحياة التي تنتهي، فأي منهما جديرة بأن تسمي حياة؟ إنها الحياة الأخرى التي لا تنتهي، ولذلك يقول الحق: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
هذه هي الحياة الحقة، وإلا فما قيمة هذه الحياة الدنيا التي تهددك فيها الآفات والآلام والاضطرابات والأسقام والأمراض، وبعد ذلك تنتهي، فيوضح الحق: خذ حياة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فهذه هي الحياة حقاً، ولذلك فالحق عندما تعرض لهذه المسألة أوضح: إياكم أن تعتقدوا أن هذه الحياة الدنيا هي التي أريدها لكم، أنا أريد لكم حياة أخلد من هذه، ولذلك قال: ﴿استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
هو يخاطبهم إذن فهم أحياء بالقانون المتعارف عليه، وأنهم إن لم يستجيبوا إلى ما دعاهم إليه الحق والرسول لن يأخذوا لوناً أرقى من الحياة، وهي حياة لا تهددها الآفات ولا الأثفال ولا الأمراض ولا الفناء، إنها الحياة الحقة، ولذلك يسميها الحق «
2499
الروح» لأنّها تحرك الجسم وتعطيه حياة وإن كانت تنتهي فيقول:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [ص: ٧٢].
هذه أولى مراحل الحياة الممنوحة للمؤمن والكافر.
ويسمى سبحانه الحياة الأكبر منها والتي لا تنتهي يسميها الحق (روحاً) أيضاً: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢].
وهذه هي التي سوف تعطي الحياة الأرقى. الأولى اسمها «روح» تعطي حياة فانية. والثانية هي «روح» أيضاً، إنها ما أوحي الله به، لأن الناس إذا عملوا به يحيون حياة دائمة خالية من الشقاء والكدر. إذن فقوله: ﴿إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ هي دعوة إلى الحياة الخالدة، والحياة الأبدية السعيدة في الآخرة مرهونة بأن يلتزم الإنسان منهج الله في حياته، وإن كانت منتهية.
والحياة الدنيا يرى الإنسان فيها الأغيار والأسقام والمهيجات، فإذا جاء له من يطمئنه ومن ينفي عنه القلق والخوف فكأنه يحسن حياته. وكلمة «حياك الله» أو «السلام عليكم» تعني: «كن آمناً مطمئناً» وإلا فما قيمة الحياة بدون أمن واطمئنان؟.
إذن فكلمة «حياك الله» أو «السلام عليكم» أي الأمان والاطمئنان لك. فأنت لا تعرف هل يجيء القادم إليك بخير أو بشر، لكن ساعة يقول: السلام عليكم، فقد يجعل بهذه التحية الأمان في قلب المتلقى به ويشعر بقيمة حياته.
إذن فقوله الحق: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ يعني: إذا رببتم حياتكم بالتحية التي هي السلام والتي تضمن الأمن والاطمئنان عليكم رد التحية. فكلمة «تحية» إعطاء لقيمة الحياة، وكذلك كلمة «حيوا» أي أعط من أمامك شيئاً من الحياة المستقرة الآمنة المطمئنة. فالحياة بدون أمن وبدون اطمئنان، كلا حياة.
2500
والشاعر العربي يقول:
ليس من مات فاستراح بميْت إنما الميْت ميّت الأحياء
فقول الحق: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم﴾ أي أنه إذا رببتم حياتكم وبوركتم بالأمن وبالسلام ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أي عليكم أن تردوها إما بالتحية مثلها وإما بأفضل منها. والعلماء عندما جاءوا ليتكلموا عن هذا، قصروا المسألة على تحيات اللقاء. فمن قال لك: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام ورحمة الله. أي أنك تزيد عليه.
عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له: وعليك: فقال له الرجل: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئاً قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ فرددناها عليك.
وعندما تكلم العلماء في مسألة السلام، صنفوا لها فقالوا: الماشي يسلم على القاعد. والراكب يسلم على الماشي، والصغير يسلم على الكبير. والمبصر يسلم على الكفيف. والقليل يسلم على الكثير. وكل خطاب موجه للمؤمنين ينتظم ويشمل ذكورهم وإناثهم إلا أن يكون الحكم مما يخص النساء.
وهنا يقول الحق: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أللنساء تحية؟ نعم، لهن تحية، المرأة تحيي المرأة، والمرأة تحيي زوجها، والمرأة تحيي محارمها، والمرأة العجوز التي لا إربة فيها تبدأ التحية وتردها، أما المرأة الشابة فهي لا تبدأ أحداً بالسلام ولا ترد السلام. لا تبدأ بالسلام إلا إذا كان معها مثلها؛ لأنهم
2501
يقولون: المرأة على المرأة عين أكثر من ألف رجل، أي أن المرأة تحرس المرأة أكثر من ألف رجل، فعندما تكون معها مثيلتها تحفظها، ولذلك يقال: إن المرأة إن بدأت بالسلام أو ردت السلام فذلك حرام، وإذا بدأها واحد بالسلام أو رد عليها السلام فذلك مكروه. لماذا؟ لأن بَدْءَها له إثارة، ولكنه إذا بدأ هو بالسلام فليس ضرورياً أن تستجيب. فإن كان معها أحد أو جماعة تُؤمن عليها فلا حرج من أن ترد السلام.
وقالوا: وإذا كان الذي يلقى السلام ويبدأه به غير مؤمن؟ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أوضح أنهم يلوون في الكلام، فإذا قالوا لكم: «السلام» فقولوا: وعليكم. وذلك يعني إن قالوها كلمة طيبة لها معنى طيب فأهلاً بها وعليهم مثلها، وإن كانت كلمة خبيثة كقولهم: «السام عليكم» فقولوا: «وعليكم» ؛ لأن السام معناها الموت، فلكيلا يستهزئوا بكم، قولوا: وعليكم. وبعض العلماء قال المقصود ب ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ أي بالنسبة للمؤمن، و «ردوها» بالنسبة للكافر.
لكن أتلك هي التحية فقط؟. إذا كان الذي حياك بقول وأمّنك بقول، فكيف لا تحذر من يؤمن بالقول نفاقاً، يظهر لك الأمن ثم يقول: السلام عليكم، ومعه الضر؟. كما أن الحق علمنا أن نرد التحية بمثلها لأن نقل القضايا من قولية إلى فعلية هي المحك والأساس، فإذا حياك إنسان بخير عنده فعلى المسلم أن يقدم التحية بخير منها، وإن لم يستطع فليرد على الأقل بمثلها، وعندما يرد الإنسان بمثلها يصبح التكارم بين الناس إن لم يزد فهو لم ينقص، ويكون الخير متنامياً، فإذا قدم إنسان خيرا لإنسان آخر، وردّ عليه بعمل أفضل منه، ففي ذلك نماء للخير، وإن لم يستطع فليرد بمثل العمل وبذلك لا ينقص من خيره، فيكون خير كل إنسان محجوزاً على نفسه؛ لأنه ما دام سيعطي التحية ويأخذ على قدر ما يعطي، فكأنه لم ينقص من خيره شيئاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يسخِّى النفوس في أن تعطي أكثر مما حييت به، فهذا يبين أن المؤمن في البيئة الإيمانية إنما يتكاثر خيره، لأنّه كلما فعل خصلة خير فهي تعود عليه بالخير.
ولذلك فهناك أناس كثيرون إذا أرادت خيراً من أحد، أعطته خيراً
2502
يناسب قدرها، ليعطي هو خيراً يناسب قدره، وهذه تحدث كثيراً خصوصاً مع الملوك، ومثال ذلك: كان المواطن السعودي يقول للملك عبد العزيز آل سعود: أريد أن تشرب القهوة عندي، ويذهب الملك عبد العزيز آل سعود ليشرب القهوة، ويؤدي لصاحب الدعوة خدمة تعادل القهوة مليون مرة، فكل من يحيي الملك يرد عليه التحية بأكثر منها.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ وجاءت كلمة «أو ردوها» من أجل أن يطمئن من قدم تحية أنه سيجد رد تحيته أو أكثر منها.
والحق سبحانه وتعالى عندما يرى خلقه المؤمنين به يتكارمون، فهو يضعها في الحساب؛ لذلك يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ فالحساب لا ينتهي عند أن يرد المؤمن التحية أو يؤدي خيراً منها، ولكن هناك جزاءً أعلى وأفضل عند مليك مقتدر.
وفي تناولنا لمسألة التحية عَلِمْنَا أن كلمة التحية وهي «السلام عليكم» معناها أمان واطمئنان، والأمان والاطمئنان كلاهما يعطي الحياة بهجة، فالحياة بدون أمن أو اطمئنان ليس لها قيمة. فكأن إشاعة السلام بقولنا: «السلام عليكم» أو «السلام عليكم ورحمة الله» أو «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» تجعل المجتمع مجتمعا صفائيا، وما دام المجتمع كله مجتمعا صفائيا، فخير أي واحد يكون عند الآخر. ويتعدى ذلك إلى أن يطلب المؤمن خير الله لأخيه المؤمن.
إن الإنسان حين يصعد التحبة بعد قوله: السلام عليكم «بإضافة» ورحمة الله وبركاته «فهو يربط النفس البشرية برباط إيماني بالحق سبحانه وتعالى. وبذلك تتذكر وتعي أن الخلق عيال الله، وسبحانه يحب أن يكون خلقه منسجمين بالعلاقات الطيبة فيما بينهم، وعندما يكون الخلق على علاقة طيبة بعضهم مع بعض فسبحانه يعطيهم من خيره أكثر وأكثر.
﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ ومن الطبيعي أن نفهم أن رد التحية يعني أن نقول: تحية مثل التي قالها لنا، فالرد ليس
2503
مقصوداً به أن نرد التحية نفسها، ولكننا نقول مثلها. فالضمير مبهم ويوضحه مرجعه.
مثال ذلك أن تقول:» لقيت رجلاً فأكرمته «هنا الضمير مبهم ويوضحه مرجعه، مثال آخر» تصدقت بدرهم ونصفه «فهل معنى ذلك أنني تصدقت بدرهم ثم استرددته وقسمته قسمين وتصدقت بنصفه؟ لا، إن معنى ذلك هو أنني تصدقت بدرهم، ونصف مثل الدرهم، فإذا قال الحق: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أي ردوا التحية بأفضل منها أو بمثل التي تتلقاها، فإذا ما قيل لك:» السلام عليكم «فقل» وعليكم السلام «.
والحق سبحانه وتعالى يبلغ المؤمنين: لا تظنوا أيها المؤمنين أني بخلقي لكم وإعطائي لكم حرية الاختيار في الإيمان أو في الفعل أو في الترك إياكم أن تظنوا أني لا أحاسبكم بل سأجازيكم بالثواب على الطاعة وبالعقاب على المعصية، فحين آمركم بفعل، فمعناه أنني خلقتكم صالحين أن تفعلوا، وحين أنهاكم عن فعل فمعناه أنني خلقتكم صالحين ألا تفعلوا.
إذن فعندما يأتي أمر؛ فمعنى هذا أن الذي خلقني علم أزلاً بصلاحيتي لتنفيذ هذا الفعل أو عدم تنفيذه.. أي صلاحيتي أن أطيع وأن أعصى، إذن فهناك فعل يقول الحق للعبد فيه: «افعله»
، وفعل يقول له فيه: «لا تفعله»، والمخالفات والمعاصي إنما تنشأ من نقل «افعل» في مجال «لا تفعل»، ومن نقل «لا تفعل» في مجال «افعل»، هذا هو معنى المعصية. والحازم لا يأخذ الاختيار الممنوح له ليحقق شهواته بوساطة هذا الاختيار، بل لا بد أن يضع بجانب الاختيار أنه مردود إلى من أعطاه الاختيار.
وحين تعلم أيها العبد أنك مردود وراجع ومصيرك إلى من أعطاك الاختيار وأنه سوف يجازيك، فإنك لن تنقل أمراً من مجال «لا تفعل» إلى مجال «افعل» أو من مجال افعل إلى مجال لا تفعل. فلو أخذت الاختيار لتريح نفسك لحظة وهي فانية، فكيف تتعب نفسك في الباقية؟ فإن أردت أن تكون حازماً وعاقلاً فلا تفعل ذلك؛ فالمؤمن يمتلك الكياسة والفطنة فلا يُقْدِمُ على مثل هذا.
2504
وبعد ذلك يقول سبحانه: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ... ﴾.
2505
وهذا يعني: أنّه لا يوجد إله آخر سيأتي ليتدخل وينهى المسائل من خلف ظهر الخالق الأعلى سبحانه: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ فليس هناك إله سواي، لا تشريع يرسم صلاح البشر إلا تشريعي وسترجعون إليّ، وليس هناك واحد يقول: «افعل» «ولا تفعل»، والآخر يقول بالعكس، إنه إلا واحد، والأمر منه ب «افعل» هو الأمر الوحيد الصالح للإنسان. والنهي منه ب «لا تفعل» هو النهي الوحيد الذي يجب على العاقل أن يتجنبه، ولذلك تجده يقول: ﴿قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ١ - ٦].
إنه سبحانه يوضح: ليس هناك مضارة بين دينين، دين للكافرين، ودين للمؤمنين، لا، بل هو دين ومنهج واحد صالح للإنسان هو منهج التوحيد جاءت به الرسل جميعا وختم بالإسلام الذي لا دين بعده، ولذلك جاء بعدها مباشرة: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ [النصر: ١].
ويأتي بعد ذلك بسورة المسد: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً
2505
ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: ١ - ٥].
أما كان أبو لهب يقدر أن يقول بعدها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ كان يقدر، ولو قالها لشكك في هذه الآية، ولقالوا: إنه لن يصلي ناراً ذات لهب. إن هذا الأمر كان له فيه اختيار، ولم يوفقه الله إلى أن يقولها ولو نفاقاً، لماذا؟ لأن الحق قال بعد هذه الآية مباشرة: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١].
أي فليس إله آخر يرد أمره سبحانه وتعالى: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾. وكلمة «يجمع» تعني أنه يخرجنا مع بعضنا من قبورنا جميعا، ويحشرنا جميعاً أمامه، وقد تعني «ليجمعنكم» أي ليحشرنكم من قبوركم لتلقي جزاء يوم القيامة.
لماذا جاء هذا القول؟ جاء لكي يتفحصه العاقل، فلا يأخذ انفلات نفسه من منهج الله إلا بملاحظة الجزاء على الانفلات من المنهج، فلو أخذ نفسه منفلتاً عن منهج الله بدون أن يقدر الجزاء لكان أحمق وأخرق.
ولذلك قلنا: إن الذين يسرفون على أنفسهم في المعصية لا يستحضرون أمام عيونهم الجزاء على المعصية. ولذلك يقولون كل الجرائم إنما تتم في غفلة صاحبها عن الجزاء؛ فالمجرم يرتكب جريمته وهو مقدر السلامة لنفسه، والسارق يذهب إلى السرقة وهو مقدر السلامة، لكن لو وضع في ذهنه أنه من الممكن أن يتم القبض عليه لما فعلها أبدا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح: إياك يا من تريد - بالاختيار الذي أعطيته لك - الانحراف عن منهجي أَلاَّ تقدر الجزاء على هذه المخالفة. بل عليك أن تأخذها قضية واضحة، واسأل كم ستعطيك المعصية من نفع وكم سيعُطيك الله من خير على الطاعة، وضع الاثنين في كفتي ميزان؛ فالذي يعطيك الخير الأبقى افعله، وابتعد عما لا يعطيك الخير بل إنه يوقعك في الشقاء والشر.
2506
﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ ويوم القيامة هو اليوم الذي قال فيه الحق: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين﴾ [المطففين: ٦].
ولماذا يوم القيامة؟ لأن آخر مظهر من مظاهر دنيا الناس أنهم حين يموتون ينامون، وهذا ما نراه، وبعد ذلك ندخله إلى القبر ولا نعرف كيف يأتي قائماً من نومه إلا بقول الحق: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
أي يجب أن يكون الإيمان بيوم القيامة لا شك فيه؛ لأنك لو قدرت أن العالم الذي خلقه الله مختاراً، إن شاء فعل الخير وإن شاء فعل الشر، وهو - سبحانه - زود العباد بالمنهج، وجعل لهم الاختيار، وأنه - سبحانه - هو القادر على الجمع يوم القيامة لو قدرت هذا لا متبما طلبه الله منك.
ونضرب هذا المثل لا للتشبيه، ولكن للتقريب - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي ابنه جنيهاً ويقول له: اشتر ما تريد، ولكن لاحظ أنك إن اشتريت شيئاً مفيداً فسأكافئك، وإن اشتريت شيئاً فاسداً كأوراق اللعب أو غيرها فسأعاقبك.
ساعة أعطى الوالد ابنه القوة الشرائية وقال له: انزل اشتر ما تريد، والابن ساعة اشترى أوراق اللعب. هل هذا الشراء قد تم قهراً عن أبيه؟ لا؛ لأن الأب هو من أعطاه الاختيار، لكن الابن فعل فعلاً غير محبوب لأبيه.
فما بالنا بالعبد عندما يعطيه الحق الاختيار؟ ولو أراد الله الناس جميعاً على هدايةٍ لجعلهم كالملائكة، ولما جرؤ ولا قَدَرَ أحد أن يفعل معصية. فالعاصي عندما يرتكب المعصية إنما يفعلها لأن الله خلق له الاختيار. ولذلك فعندما يقول واحد: كل فعل من الله، هو صادق. ولماذا يتعذب مرتكب المعصية مع أنّه يوجه آلة الاختيار إلى ما تصلح له؟ ونقول إنّه وجهها مخالفاً لأمر الله، فالسكين للذبح، إن ذُبحت بها دجاجة لما استحق الذابح على ذلك عقاباً، لكن لو ذبحنا بها إنساناً لوقعنا في محظور يشبهه الحق بقتل الناس جميعاً. فالذي جاء بالسكين إلى المنزل هل نقول له: «أنت أتيت بأداة الجريمة» ؟ لا؛ لأنه جاء بأداة صالحة لأن تكون أداة لذبح ما يحل ذبحه أو أداة
2507
لجريمة. إذن فحتى المختار لم يفعل اختياره إلا من باطن أن الله خلقه مختاراً.
لكن هل ألزمه الحق سبحانه وتعالى يفعل المعصية؟ لا، فسبحانه أوضح لك: هذا لا أحبه، وهذا أحبه.
واختيارك له مجال، ولك أن تختار الشيء الذي يأتي بالنفع ولا يأتي بالضرر أو أن تختار عكس ذلك.
﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هذا خبر من الله. والكلام الخبري عندنا يحتمل الصدق والكذب لذاته، لكن لأن الخبر من الله فهو صادق. أما الكلام في ذاته فيحتمل الصدق ويحتمل الكذب، ولذلك يذيل الحق الآية بما يلي: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ وهل الصدق فيه تفاضل؟. ليس في الصدق تفاضل، فمعنى الصدق مطابقة الكلام للواقع، فالإنسان قبل أن يتكلم وهو عاقل، يدير المسألة التي يريد الكلام فيها ليُعمل العقل فيها، وبعد هذا ينطق بالكلام.
إذن ففي الكلام نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فعندما يقول واحد: «زيد مجتهد» هو قبل أن يقول ذلك جاء في ذهنه أنه مجتهد، وهذه هي «النسبة الذهنية»، وعندما ينطقها صاحبها تكون «نسبة كلامية»، ولكن هل صحيح أن هناك واحداً اسمه «زيد» وأنه مجتهد؟. إن طابقت النسبة الواقعية كُلاًّ من النسبة الذهنية والنسبة الكلامية يكون الكلام صدقاً. وإن لم يكن هناك أحد اسمه زيد ولا هو «مجتهد» لا تتطابق النسبة الخارجية الواقعية مع النسبتين «الذهنية والكلامية» فيكون الكلام كذباً. فالصدق يقتضي أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع، أي مع النسبة الخارجية الحاصلة.
ولماذا يكذب الكذاب إذن؟. ليحقق لنفسه نفعاً يفوّته ولا يحققه الصدق في نظره أو يدفع عنه ضُرّاً. مثال ذلك: يكسر الابن شيئاً في المنزل كمنضدة. فالأب يقول لابنه: هل كسرت هذه المنضدة؟. وينكر الابن: لا ألم أكسرها. هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً وهو الإفلات من العقاب، لأنه يعلم أن الصدق قد يسبب له عقاباً. ولا يحمله على الكذب إلا تفويت مضرة قد تصيبه من الصدق فيلجأ إلى الكذب. ويقول كلاماً يخالف الواقع.
2508
إذن هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً أو يدفع عن نفسه ضرراً. والذي ينفع الإنسان لا بد أن يكون أقوى منه، وكذلك الذي يضرّه. لكن بالنسبة لله لا يوجد من يسبب له سبحانه نفعاً ولا ضراً. إذن فإذا قال الله فقوله الصدق؛ لأن الأسباب التي تدفع إلى الكذب هو - سبحانه - منزه عنها.
وإذا كان الحق يعطينا الكلام الذي يوضح لنا واقع الحياة ويعطينا الكلام الذي لا يدخل في واقع حياتنا ويصف لنا الغيب الذي لا يدخل في نطاق ما نراه، إذن فهو يكلمنا كثيراً.
فقوله الحق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ مؤكد بالنسبة لنا. وأفعل التفضيل هنا لا تأتي للتمييز بين كلام صادق وكلام أصدق، ولكن لنعرف أن كلام الله لنا كثير.
فالتكثير هنا إنما يجيء من ناحية كثرة الكلام، لا من ناحية أن هناك كلاماً صادقاً وكلاماً أصدق.
والتفاوت قد يوجد في الصدق أيضاً، كيف؟. لنفرض أن إنساناً رأي حادثة يقتل فيها إنسان إنساناً آخر، فيشهد الشاهد بأنه رأى الدم ينزف من القتيل إثر التحام القاتل به، ولكن هناك شاهد آخر يروي كل التفاصيل التي بدأت من قبل المشاجرة بين القاتل والقتيل إلى أن صار هناك قاتل وقتيل. وهكذا نجد أن الشاهد الثاني أشمل في الصدق من الشاهد الأول صحيح أن الشاهد الأول قال شهادة صادقة، لكن شهادة الشاهد الثاني أشمل في القضية نفسها.
إذن فقوله الحق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ أي أن الحق هو الأصدق بمعنى أنّ إخباره لنا جاء بالشمول الكامل، وهو صدق لا تفاوت فيه، فالصدق هو مطابقة النسبة الكلامية للواقع، وما دام هو كذلك فليس هناك صادق وأصدق، ولكن أفعل التفضيل تأتي في «أصدق» باعتبار أن كمية الصدق الصادرة لا حدود لها وأنّه سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما هي عليه أي بشمول كامل. وخلقه إن حدث منهم صدق في شيء فقد يحدث منهم الكذب في شيء آخر. فقد تقول قضية تعلم أنها صدق، ولكنها في الواقع لا تكون صدقاً.
2509
ومثلاً؛ فقد يقول القائل: زار فلان فلاناً بالأمس. هو اعتقد ذلك لأنه رأى حجرة الاستقبال في بيت فلان مضاءة فسأل عن الزائر فقيل له: «فلان» فهو يروى خبر هذه الزيارة على وفق ما يعتقد، ولا يقال: إن القائل قد كذب.
إننا يجب أن نفرق بين «الخبر» وبين «المخبر»، كيف؟ إذا قلنا: «زيد مجتهد»، أيوجد واحد اسمه زيد ومجتهد بالفعل؟ هذا اسمه الواقع. وهل أنت تعتقد هذا؟. إذن فالإنسان هنا يحتاج إلى أمرين: معرفة وجود الشيء، واعتقاد الشيء، وبذلك يكون الخبر صادقاً والمخبر صادقا أيضاً.
وافرض أنك أخبرت أن زيداً مجتهد بناءً على أن أحداً قد أخبرك بذلك ولكنه لم يكن كذلك، أنت هنا صادق وفق اعتقادك. لكن الخبر غير صادق في الواقع. إذن ففيه فرق بين صدق الخبر وصدق المخبر. فإذا التقى الاعتقاد بالواقع صدق الخبر وصدق المخبر. وإذا كان الخبر موافقاً للواقع ومخالفاً للاعتقاد فالخبر صادق كموقف المنافقين الذين قال الحق فيهم: ﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ [المنافقون: ١] هذه القضية واقعة صادقة وأعلنوا هم ذلك، ولكن الحق أضاف: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١].
فالقضية صادقة ولكنهم كاذبون؛ لأنهم قالوها بلا اقتناع فكانوا كاذبين. والدقة هنا توضح الفرق بين صدق الخبر وكذب الاعتقاد. إذن فصدق المخبر أن يطابق الكلام الاعتقاد. والتكذيب واضح في قولهم: «نشهد» ؛ وليس في مقول القول وهو ﴿لَرَسُولُهُ والله﴾.
فالشهادة تقتضي أن يواطئ ويوافق اللسان القلب ولذلك عندما يقرأ بعض الناس القرآن دون فهم اللغة العربية.. فيفهم بالسطحية هذه الآية فهما خاطئاً:
2510
﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١].
فكيف يشهد الله أنهم كاذبون، على الرغم من أنه سبحانه يعلم مثلما شهد المنافقون؟. ونرد: إن الخبر هنا لم يكن كذباً، ولم يقل الحق ما يكذب الخبر، لكنه أوضح صدق الخبر وكذب المنافقين في شهادتهم لأنهم يظهرون غير ما يبطنون ويعتقدون، فالتكذيب منصب على شهادتهم لا على خبر أن محمداً رسول الله.
﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾.
إنّ المؤمن يعتقد أن يوم القيامة لا شك فيه، فيوم القيامة يجب منطقياً ألا يوجد شك فيه؛ لأنه لو كان هناك ريب لكان الذين انحرفوا في الحياة الدنيا وولغوا في أعراض الناس وأخذوا أموالهم وعاثوا في الأرض فساداً هم الذين كسبوا وفازوا، ويكون الطيبون والأخيار قد عاشوا في سذاجة. فالمنطق يقتضي أنه ما دام قد وُجد أناس قد ظلموا واعتدوا، وأناس أعتدى عليهم، فلا بد أن يكون هناك حساب. ولا يكون هناك حساب إلا إذا انتهت حكاية الموت، بالإحياء والحشر والخروج إلى لقاء الله. ودليل هذا من الجاحدين أنفسهم، كيف؟.
نحن نعرف أن المجتمعات غير المتدينة يضع قادتها القوانين التي تكفل حماية حركة المجتمع. هم يضعون مثل هذه القوانين، ومن يخالفها يتم حسابه وعقابه. فإذا كان العقاب يمنع المجاهرة بالجريمة، فماذا يكون الموقف؟ إن الماهر إذن هو من يفلح في المدارة عن عيون قادة هذا المجتمع، ويستر نفسه عنهم حتى لا يناله العقاب.
إن هذه المجتمعات الملحدة تضع التقنينات لحماية نفسها، فماذا تفعل هذه المجتمعات في الذين ستروا أنفسهم؟. هم بقانون هذه المجتمعات كان يجب أن يعاقبوا، وكان يجب أن تقولوا أنتم أن هناك مكاناً آخر وداراً أخرى يتم فيها عقاب من أفلت منا. فأنت أيها الملحد قد قننت لمن خالف تقنينك عقوبة. وهذا إن وقعت
2511
عليه عينك، وقبضت عليه يدك، فما قولك فيمن لم تقع عليه عينك ولم تقبض عليه يدك؟.
إذن فنحن أهل الإيمان عندما نقول للملحد: إننا نكمل لك تفكيرك الناقص ونقول لكل الخلق: إنكم إن عَمَّيْتُم على قضاء الأرض فلن تعَمّوا على قضاء السماء الذي لا تخفي عليه خافية. إذن فغير المؤمن بمنهج نأخذ منه الدليل على ضرورة المنهج. وعلى غير المؤمن بالمنهج أن يشكر أهل الإيمان؛ لأننا نحن أهل الإيمان قد أكملنا له نقصاً في تقنين البشر، وهذا لحماية المجتمع من الكيد بالجريمة والستر بالمخالفة.
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ أي لا أحد أصدق من الله في الحديث. و «أصدق» جاءت كأفعل تفضيل لا لأن هناك صدقاً يعلوه صدق أصدق، بل الصدق واحد؛ لأنه مطابقة النسبة الكلامية للواقع، ولكن «أصدق» هنا لكثرة الحديث الذي حدثنا الله به عما نشهد من عالم الملك ومما لا نشهد من عالم الملكوت، فإن تحدث الناس فإنما يتحدثون في عالم الملك الذي يدركونه بحواسهم، ولكن الله إذا حدثنا فسبحانه يحدثنا عن عالم الملكوت أيضاً، فالله أصدق حديثاً؛ لأنه أكثر من حدّث.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ... ﴾.
2512
كل جملة سبقتها «فاء» فمن اللازم أن يكون هناك سبب ومسبب، علة ومعلول، مقدمة ونتيجة، وكل الأشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما
2512
يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا المنهج إلى الناس، ويكون الناس - بعد سماعهم المنهج - أحراراً فيما يختارون. إذن فالقتال لم يشرع لفرض منهج، إنما شُرع ليفرض حرية اختيار المنهج، بدليل قول الحق: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ [البقرة: ٢٥٦].
وعلى ذلك فالإسلام لا يفرض الدين، ولكنه جاء ليفرض حرية الاختيار في الدين، فالقُوَى التي تعوق اختيار الفرد لدينه، يقف الإسلام أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم يترك الناس أحراراً يعتنقون ما يشاءون، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام بالسيف، ظل فيها بعض القوم على دياناتهم. فلو أن القتال شُرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحداً على غير دين الإسلام.
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء، وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ [النساء: ٨٤].
شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا، فيها معنى الإنكار وفيها معنى التوبيخ وذلك شائع في كل الأساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم. فإذا سمعت كلمة «فمالك لا تفعل كذا»، فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل، والعجيب ألا تفعل. ولا يمكن أن يأتي هذا الأسلوب إلا إذا كان يستنكر أنك فعلت شيئا كان ينبغي ألا تفعله أو أنك تركت شيئا كان عليك أن تأتي به.
فالأب يقول للابن مثلاً: «مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان؟» كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة
2513
عليه، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله، فكأن أسلوب «فما لكم»، و «فما لك» مثل قول أولاد سيدنا يعقوب: ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ﴾ [يوسف: ١١].
ما معنى قولهم هذا؟ معناه: أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا. فكأن القياس عندهم أنهم إخوة، وأنهم عصبة، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف؛ لأنهم جماعة كثيرة قوية.
وكذلك قول الحق: ﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠].
أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا. وقوله الحق: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: ٤٩ - ٥١].
كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة، إذن فأسلوب «فماله»، و «فمالك» و «فمالهم»، و «فمالكم» كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يُستقبل أولاً بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع. أما أن يفعل الأفعال جزافاً بدون تفكير في حيثيات فعلها، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين.
إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يُقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل؛ فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح، وبعد النجاح مستقبل كريم. فواجب التلميذ - إذن - أن يبذل قدراً من الجهد ليتفوق. وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو.
2514
والآية هنا تقول: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾ كأن القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين، بل يجب أن نكون فئة واحدة. وكلمة «فئة» تعني جماعة، والجماعة تعني أفراداً قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد، هو هوى الدين، ولذلك قال الرسول:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين. وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين؟
والفئة - كما عرفنا - هي الجماعة، ولكن ليس مطلق جماعة، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية: إنهم فئة؛ فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف؛ لأن معنى «فئة» أنه يرجع ويفيء بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم، وكذلك معنى «الطائفة» فهم يطوفون حول شيء واحد. والحق يقول: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾. هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين، وخصوصاً إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد. والمنافقون - كما نعرف - هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات؛ لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب، وبعد ذلك تأتي المعاني.
وعندما نأتي لكلمة «منافقين» نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم، حيث يعيش حيوان اسمه «اليربوع» مثله مثل الفأر والضب. واليربوع مشهور بالمكر والخداع، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين، أو جحورا متعددة، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا
2515
الجحر، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر، وفوهة ثانية وثالثة، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها، وكذلك المنافق.
ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال: فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماماً. وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد، وملكاته منسجمة أيضاً، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة؛ فملكاته منسجمة - لكن - إلى غاية ضارة، وهي غاية الكفر. أما «المنافق» فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك، وملكاته غير منسجمة؛ فلسانه قد قال عكس ما في قلبه؛ لذلك يحيا موزعاً وقلقاً، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر، هذا هو المنافق.
وهناك جماعة - في تاريخ الإسلام - حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر، قالوا لأنفسهم: «الريح في جانب المسلمين، ولا نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا»، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم. أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيداً عن الوطن والأهل والمال، فكروا في هذه الأمور، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة، وقالوا للمؤمنين في المدينة: «نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود».
وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين: قسم يقول: نقاتلهم، وقسم يقول: لا نقاتلهم. الذين يقولون: «نقاتلهم» دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان. والذين يقولون: «لا نقاتلهم» قالوا: هذه الجماعة أظهرت الإيمان، ولم نشق عن قلوبهم، وربما قالوا ذلك عطفاً عليهم لصلات أو أواصر.
فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين، ويحسم أمر الاختلاف.
2516
وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة، فقال: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾.
والخطاب موجه للجماعة المسلمة، فقوله: «فمالكم» يعني أنهم متوحدون على هدف واحد، وقوله: «فئتين» تفيد أنهم مختلفون.
إذن ف «فئتين» تناقض الخطاب الذي بدأه الحق ب «فمالكم»، كأن المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي: فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين؟ ننظر، هل القرآن مع من قال: «نقتل المنافقين» أو مع من قال بغير ذلك؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية؛ لذلك فهو يؤنبها، ويوبخها. والأسلوب حين يكون توبيخاً لمن يرى رأياً، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ، لأنّ الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه.
والحق يقول: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين﴾ أي إن الحق يقول: أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد، ومعنى الإنكار هو: لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين.
ويقول الحق: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ وساعة تسمع كلمة «أركسهم» ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة. ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني، إيحاءات اللفظ، وانسجامات حروفه.
﴿والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ و ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ مأخوذة من «ركسهم» ومعناها «
2517
ردهم». كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول، وهم كانوا كفاراً أولاً، ثم آمنوا، ثم أركسهم، لكن هل الله أركسهم تعنتاً عليهم أو قهراً؟ لا؛ فهذا حدث ﴿بِمَا كسبوا﴾، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا؛ لذلك قال لنا الحق: إنه ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾. و ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ مادته مأخوذة من شيء اسمه «الركس» - بفتح الراء - وهو رد الشيء مقلوبا ومنه «الرِّكس» بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام. مثلما نقول: «إن فلاناً غمت نفسه عليه» أو «فلان يرجع ما في بطنه».
وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة، وتنظر عيونه إليه باشتهاء، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة، هذا الطعام بمجرد مضغة مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل.
فلو رأيت إنساناً يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام، فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من الذي يقضي حاجته؛ لأن «الترجيع» يخرج طعاماً خرج من شهوة المضغ والاستمتاع. ولم يصل إلى مسألة التمثيل.
ولذلك نسمع المثل «كل ما فات اللسان صار نتان». و «الرِّكس» هو الرجيع الذي يرجعه الإنسان بعد الطعام قبل أن يتمثله. فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح روثاً، وغائطاً وبرازاً. والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ أي أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من الإيمان.
هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى، وتؤدي إلى نفرتنا منهم، فيكون الإركاس هو الرد، وهل هو مطلق الرد، أو رد له كيفية؟ هو رد بإهانة أيضاً، كيف؟ لأن الشيء إن كان قوامه أن يقف رأسياً، يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه. وعلى ذلك فالرد ليس رداً عادياً بل إنّه
2518
رد جعل المردود هُزُواً. وإن كانت استقامة الأمر على الامتداد الطولي، يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى الأمام، وبما في الأمام إلى الخلف، فتقلب له كيانه، وتعكس حاله.
والقرآن يصف الكافرين والمنافقين: ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٦٥].
لماذا، لأن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والارتفاع. هذا الرأس يُجْعلُ مكان القدم، والقدم يكون محل الرأس. إذن فقوله: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ أي لم يردهم مطلق الرد، بل ردّهم ردا مهيناً، ردّاً يقلب أوضاعهم.
﴿والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ إذن فلا يقولن أحد: ما دام الله قد أركسهم فما ذنبهم؟ إن الله قد أركسهم ﴿بِمَا كسبوا﴾، فهم كانوا فاعلين لا منفعلين.
وإليكم هذا المثل - ولله المثل الأعلى - حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل مادة. تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة. وأخرى على سبعين في المائة، ويدخل التلاميذ الامتحان، وعندما يرسب أحدهم لا يقال: إن المدرسة قد جعلته يرسب، صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ الامتحان، ولأنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح، فقد أرسب نفسه.
إذن، فالله لم يأت بالرّكس ورماه عليهم. بل هم الذين كسبوا كسباً جعل قضية السنة الكونية هي التي تؤدي بهم إلى الركس، مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في الامتحان، فلا يقال عن هذا التلميذ: إن المدرسة أرسبته.
ولكنه هو الذي أرسب نفسه.
ولذلك عندما يقال: الله هو الذي أضلهم، فما ذنبهم؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على أنفسهم. ولهؤلاء نقول هذه الآية: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ وكذلك أضل الله الضالين بفعلهم، كيف؟.
2519
نحن عرفنا أن الهداية تأتي بمعنيين، هداية الدلالة وهداية المعونة، ويأتي المسرفون على أنفسهم الذين يودون أن تكون قضية الدين كاذبة - والعياذ بالله - لأن قضية الدين عندما تكون صدقاً فإن الذين أسرفوا على أنفسهم يتيقنون أنهم ذاهبون إلى داهية وأمر منكر شاق عليهم؛ لذلك نجد الواحد منهم يتمحك في محاولة عدم التصديق، والدخول إلى متاهات يصنعها الفهم السطحي للدين. ولذلك نجد المناقشات التي يناقشونها تدل على أنها مناقشات المسرف على نفسه، فيقول الواحد منهم: ما دام الله هو الذي كتب عليّ كل شيء فلماذا يعذبني وهو الذي كتب عليّ المعاصي؟
نقول له: ولماذا آمنت في هذا الموقف بالذات أن الله هو الذي كتب؟ وما دمت قد آمنت بأن الله هو الذي كتب فلماذا لا تؤمن به وترتضي أحكام منهجه؟. ولكن الواحد منهم يحاول أن يقف وقفة ليست عقلية، فالوقفة العقلية الصحيحة تقتضي أن تأتي بالقضية المقابلة وهي أن الله إذا كان قد كتب على العبد الطاعة فلماذا يثيبه؟. لماذا تناسي قضية الطاعة والثواب عليها؟؛ لأنه يعرف أنها القضية التي تجلب الخير، ووقف في القضية المقابلة التي تأتي بالشرّ، ولا يقول هذا القول إلا مسرف على نفسه. ولا نرى ملتزماً بمنهج الإيمان يقول مثل هذه القضية، فالمؤمن يحب أن تسير الأمور على ضوء منهج الله، ولذلك أنا إلى الآن - وليسامِحْني الله وليغفر لي - أتعجب من أن العلماء الذين سبقونا جعلوا من هذه المسألة محل خلاف. وقالوا: معتزلة وأهل سنة (!!).
المسألة كلها يجب أن تفهم على أساس أن الإسلام دين فطرة؛ ولم يأت للفلاسفة فقط، إنّه جاء للعقل الفطري، ورَاعى الشاة في الإسلام كالفيلسوف، ومن يكنس الشارع أو يمسح الأحذية مساوٍ لمن درس الفلسفة أو الحقوق؛ لأن الإيمان لم يأت لطائفة خاصة، ولكن المنهج قد جاء للجميع، ولا بد أن تكون أدلته واضحة للجميع، فعندما يقال لنا: إن الله يعلم كل شيء فيك، لا يدخل معك في متاهة، هو - سبحانه - يقول لك: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤].
2520
فالذي صنع الكرسي - ولله المثل الأعلى - ألا يعرف أن الكرسي مصنوع من الخشب، ونوع الخشب «زان» أو «أرو» أو «مجنة»، وأن المسمار الذي يربط الجزء بالجزء إما مسمار صلب وإما من معدن آخر، وكذلك يعلم صانع الكرسي أي صنف من الغراء استعمل في لصق أجزاء الكرسي، وكذلك مواد الدهان التي تم دهن الكرسي بها.
إذن فقول الحق: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ لا يحتاج إلى جدال ولذلك نجد النَّجار الذي يرغب أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري:
سوف أصنع الكرسي من خشب الزان وعليك أن تمر يومياً لترى مراحل فعله.
ويبدأ صناعة الكرسي مرحلة مرحلة تحت إشراف الزَّبون. وكذلك يعرف البدوي كيف يتكون الرحل. وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب، العربي يعرف كيف يتكون الفسطاط وهو بيت يتخذ من الشَّعْرِ. وقد جاء سبحانه بما يدحض أي جدل، وبدون الدخول في أية مهاترات أو مناقشات لها مقدمات ونتائج ومقدم وتال. جاء الحق بهذا القول الفصل: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤].
هو يعلم وهذا أمر سهل عليه، ولذلك أتعجب كيف أدخل هؤلاء العلماء هذه المسألة في متاهة فلسفية، فالإسلام دين الفطرة.
ولذلك نجد العلماء الذين ناقشوا هذه المسألة - جزاهم الله خيراً - جاءوا في آخر مطافهم، وقالوا:
2521
وأنا أريد أن أعرف ماذا قدمت الفلسفة النظرية للدنيا من خير؟. لقد انفصلت عنها الفسلفة المادية ودخلت المعمل وأخرجوا لنا الابتكارات التي انتفع بها الخلق، فماذا فعلت الفلسفة النظرية؟. لا شيء. ونقول: جاء الإسلام بالعقيدة الفطرية، ومعنى العقيدة الفطرية أن الناس فيها سواء، فالأدلة العقلية تقتضي الوضوح لمن تَعَلَّم ولمن لم يتعلم.
والفلاسفة هم الذين قالوا: بأدلة الغاية وأدلة العناية وأدلة القصد. لكن البدوي الذي سار في الصحراء وجد بعر البعير ووجد الرمل وعليه أثر قدم، فقال: إذا كانت البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟. هو لم يدخل في فلسفة أو متاهة مثلما دخل الفلاسفة مع بعضهم في متاهات عقلية وحلها البدوي في جملة واحدة. وكذلك نجد واحداً من الناس يسأل واحداً من أهل الإشراق: ألا تشتاق إلى الله؟. فيقول له: إنّما يُشتاق إلى غائب، ومتى غاب الله حتى يشتاق إليه؟!
لذلك نقول لمن اختلفوا في أمر رد الله لهؤلاء: نريد أن نكرم عقولكم وننظر لماذا اختلفتم في هذه الحكاية ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾.
نقول مع حسن الظن بهم، إن كل واحد منهم تعصب لصفة من صفات الحق، فواحد منهم يقول: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فنقول له: أنت قد تعصبت لصفة القدرة وطلاقتها في الحق.
وجاء ثانٍ وقال: ولكن الله عادل. ولا يمكن أن يخلق في الكافر كفره ثم يعذبه عليه. إنّه متعصب لصفة العدل. وكل منهما ذاهب إلى صفة واحدة من صفات الحق. وتناسي الاثنان أن هذه الصفات إنما هي لذاته - تعالى - فسبحانه قادر وعادل معاً.
فلا هذه تفلت منه ولا تلك.
ونقول لمن يقول: إنه الله خالق كل شيء وخالق كل فعل. ما الفعل؟. الفعل هو توجيه جارحة لإحداث حدث، فالذي يمسح وجهه بيديه يوجه يديه لوجهه حتى يمسحه، وهذ الفعل لا يفعله صاحب الفعل، ودليلنا على ذلك الإنسان الآلي
2522
نضغط على أكثر من زر ليتحقق هذا الفعل، هذا الإنسان الآلي حتى يتحرك حركة واحدة لا بد من ضغط وتحريك عدد آخر من القوى، لكن الإنسان حتى يمسح وجهه بيديه اكتفى بأنه بمجرد أن أراد مسح الوجه باليد مسح الوجه. فهل أمسك من يمسح وجهه بشيء وضغط عليه ليمسح وجهه؟
إنه بمجرد أن أراد فعَل. وسائق جرافة التراب يحرك عدداً من الأذرع الحديدية حتى يحرك الجرافة إلى أسفل، ثم حركة أخرى ليفتح كباشة التراب، وحركة تقبض أسنان الكباشة وحركة أخرى ترفع التراب، كل ذلك من أجل أن يرفع التراب من مكان ما إلى مكان آخر، والواحد منا بمجرد أن يريد أن يمسح وجهه فهو يمسح وجه ولا يعرف أي عضلات تحركت، فمن الذي فعل كل ذلك؟. إنه الله.
فيا من تتعصب لصفة القدرة. فالله هو الذي فعل والعبد هو الذي وجه الطاقة التي تنفعل بالله. فإذا كانت إلى غير مراد الله يصير العبد عاصياً، وإن وجهها إلى مراد الله فيكون طائعاً، ويكون له الكسب فقط، فالذي يقتل واحداً، هو لم يقتله؛ لأنه لم يقل له: «كن قتيلاً» فيكون قتيلاً، ولكن القاتل يأتي بسكين أو سيف أو مسدس ويرتكب فعل القتل. فأداة القتل هي التي قامت بالفعل، والقاتل إنما أخذ الآلة الصالحة لفعل ما ولغيره، فوجهها لذلك الفعل. فيا من تريد العدل، إن الله يعذب على المعصية؛ لأن الإنسان استعمل أداة مخلوقة للفعل ولعدمه، فجعلها تؤدي فعلاً غير مرادٍ لله أي لا يرضى عنه الله ولا يحبه، ومع ذلك فالله هو الفاعل لكل شيء.
ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ وما دام هو سبحانه الذي أركسهم بما كسبوا، وأنتم مؤمنون بالله فلا بد أن يكون الرأي فيهم واحداً؛ لذلك يتساءل الحق: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله﴾ ؟ وسبحانه لا يريد أن يقدم لهم العذر، إنما يريد أن يظهر لهم هدايته سبحانه وهي هداية لا تتأتى لهم؛ لأنه قد أضلهم فأنَّى لهم الهداية. فلماذا يقف جانب من المؤمنين في صفهم؟.
لأن الله حين يهدي فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء بوضع القوانين الموضحة
2523
للهداية أو الضلال. ونحن إن سمعنا «أن الله هدى» نفهمها على معنيين؛ المعنى الأول أنه «دل»، والمعنى الثاني أنه «أعان ومكّن».
ف «هدى» تكون بمعنى «دل»، وهدى تكون بمعنى «أعان». وسبق أن قلنا: إذا كان هناك إنسان يمشي في الطريق ويريد الاتجاه إلى الإسكندرية وهو لا يعرف الطريق الموصل. فيسأل شرطي المرور فيشير الشرطي: هذا هو الطريق الموصل إلى الإسكندرية. إنَّ الشرطي هدى هذا الإنسان ودله على الطريق، لكنه لم يحمل الإنسان على أن يسير في الطريق، فإذا ما صدّق المسافر قول الشرطي وقال له: إنني أشكرك وأكثر الله من خيرك والحمد لله أنني وجدتك، فلولا وجودك لتعبت، هنا يقول الشرطي: أنت رجل طيب والطريق إلى الإسكندرية به «مطب» وعقبه، سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة. وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة «الدلالة» إلى مرحلة «المعونة» وسبحانه أوضح: سأهدي الناس جميعاً وأرشدهم وأدلهم، فالذي يقبل على الإيمان بي سأعاونه على ذلك.
ولذلك يقول: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧].
و «هديناهم» هنا بمعن «دللناهم» فقط، أما أن يسلكوا سبل الهداية أو لا فالأمر متروك لهم. والهداية - إذن - ترد بمعنى الدلالة، وترد بمعنى الإعانة. والحق يعين من؟. يعين من آمن به ولكن من يكفر به لا يعينه: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [التوبة: ٣٧].
وكذلك: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [التوبة: ٢٤].
إذن فلله هدايتان: هداية عم الناس بها جميعاً وهي هداية الدلالة، وأخرى خص بها من جاءه مؤمناً به، وهي هداية «المعونة». ولذلك قال الحق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
2524
﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
وهذا القول فيه نفي الهداية عن الرسول، وهو سبحانه القائل أيضاً: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
وليس من المعقول أن ينفي الحق الهداية عن الرسول ثم يثبتها له. ونفهم من ذلك: إنك يا رسول الله تدل على الحق، ولكنك لا تعين عليه. فالله هدى الناس جميعاً فدلهم على طريق الخير. فمن آمن به وأقبل عليه يسر له الأمر.
وبذلك نكون قد عرفنا تماماً معنى قوله الحق: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾. فالذي يضله الله هو من اكتسب ما يوجب أن يضله فلا تجد له سبيلاً. وكان من الممكن أن يقول الله: أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلا تستطيعون أن تهدوه، ولكن الأبلغ هو ما يوضحه سبحانه لنا: أنتم لا تستطيعون هداية هذا المكتسب للضلال؛ ذلك أنه لا يوجد سبيل حتى تهدوه إليه. فالسبيل هو الممتنع وليس الهداية فقط.
والسبيل هو الطريق الذي يعطيك حقاً في الهداية، فإذا ما امتنع السبيل فماذا تفعل؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً في أن ينقض هذا القرار، أي لا حجة له على الإطلاق.
ولذلك أخذنا المعنيين هنا، فالذين ينافقون يظهرون الإيمان مرة وينقلبون إلى الكفر مرة، هم ينكرون الإيمان بقلوبهم والذي يقولون بألسنتهم هو الإسلام، أمّا الإيمان فلمَّا يدخل في قلوبهم.
وما هو الأعز على النفس البشرية؟ مكنونات القلب أم مقولة اللسان؟
الأعز هو مكنونات القلب. وما داموا هم لا يؤمنون بقلوبهم ويقولون فقط بألسنتهم، فالعقيدة داخلهم معقودة على الكفر، وما دامت العقيدة معقودة على الكفر فهم لا يريدون أن يأتوا إلى صف الإيمان، ولكنهم يريدون جر المؤمنين إلى معسكر الكفر؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك:
2525
﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ... ﴾.
2526
و ﴿وَدُّواْ﴾ ضميرها يعود على المنافقين الذين اختلف فيهم المسلمون إلى فئتين، وحكم الله في صالح الفئة التي أرادت أن تقف منهم موقف القوة والبطش والجبروت، فقال سبحانه وتعالى تعليلاً لنفاقهم: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ ثم إن تفاقهم معناه قلق يصيبهم من مستوى حالهم مع مستقبل الإسلام أو حاضره؛ لأنهم كافرون بقلوبهم، ولكنهم يخافون أن يظهر الإسلام فيعاملهم معاملة الكافرين به، فيحاولون أن يظهروا أنهم مسلمون ليحتاطوا لنصرة الإسلام وذيوعه، فهم في كرب وتعب، وهذا التعب يجعلهم يديرون كثيراً من الأفكار في رءوسهم: يقولون نعلن أمام المسلمين أننا مسلمون، ونعلن أمام الكافرين أننا كافرون.
وما الذي ألجأهم إلى هذا الحال، وقد كانوا قديماً على وتيرة واحدة، ألسنتهم مع قلوبهم قبل أن يجيء الإسلام؟ إذن فالذي يعيدهم إلى حالة الاستقرار النفسي وينزعهم من القلق والاضطراب والخوف على حاضرهم ومستقبلهم هو أن تنتهي قضية الإسلام، فلا يكون هناك مسلمون وكافرون ومنافقون. بل يصير الكل كافراً.
﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ والودادة عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح إن قدرت، فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. لذلك فاحذروهم، سأفضح لكم أمرهم لتكونوا على بينة من كل تصرفاتهم وخائنات أعينهم وخائنات ألسنتهم.
2526
﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ ونعرف أن كلمة «الكفر» تعني «الستر»، فالفعل «كفر» معناه «ستر». ومن عظمة الإيمان بالإسلام وعظمة الحق في ذاته هو أنه لا يمكن أبداً أن يطمسه خصومه، فاللفظ الذي جاء ليحدد المضاد لله هو عينه دليل على الإيمان بالله. فعندما نقول: «كفر بالله» أي «ستر وجوده»، كأنه قبل أن يستر الوجود فالوجود موجود، ولذلك نجد أن لفظ «الكفر» نفسه دليل على الإيمان، فلفظ «الكفر» في ذاته تعني إيماناً موجودا يجاهد صاحبه نفسه أن يغطيه ويستره.
﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾. وهذا القول جاء بعد أن قال الحق: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: ٨٨].
ويدل على أنهم يوصفون مرة بالمنافقين ويوصفون مرة بالكافرين. وسماهم الله في آية ب «المنافقين» ويصفهم الحق في هذه الآية بأنهم كفروا ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ والكفر الذي يجيء وصفه هنا يدل على مكنون القلب، فالنفاق لم يعطهم إلا ظاهريات الإسلام، لكن الباطنيات لم يأخذوها، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار في الآخرة؛ وإن كانوا في الدنيا يعاملون معاملة المسلمين احتراماً لكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
لكن الله يعاملهم في الآخرة معاملة الكافرين، ويزيد عليها أنهم في الدرك الأسفل من النار.
إذن فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوة يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعف يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق. وهذه العملية ليست مريحة في كلا الموقعين. فالمريح لهم ألاَّ توجد للحق طائفة. لذلك يقول سبحانه وصفاً لحقيقة مشاعرهم: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾. فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحد أفضل من أحد، مثلما نقول: مفيش حد أحسن من حد.
مثال ذلك: نجد مجموعة من الموظفين في مصلحة حكومية، ويكون في بينهم واحد مختلس أو لا يؤدي عمله على الشكل الراقي المطلوب، لذلك فهو لا يحب أن يؤدي الآخرون أعمالهم بمنتهى الإتقان، ويريدهم فاسدين، ويحاول أن يغريهم
2527
بالفساد حتى يكونوا مثله؛ كي لا يظهره أمام نفسه بمظهر النقيصة. وحتى لا يكون مكسور العين أمامهم.
ومن العجيب أننا نجد الذي يسرق يحترم الأمين، وكثيرا ما نسمع عن لص من فور ما يعلم أن هناك كميناً ينتظره ليقبض عليه فهو يبحث عن رجل أمين يضع عنده المسروقات كأمانة.
وقول الحق عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾. وهذه شهادة في أن صاحب الباطل يحب من صاحب الحق أن يكون معه؛ لأنه حين يجده في الحق، فصاحب الباطل يحتقر نفسه، وقد حدثت العجائب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد كفروا به وعذبوا صحابته، ولكنه هو الأمين باعترافهم جميعاً. فها هوذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يهاجر من مكة وخلف «عليا» كرم الله وجهه ليرد الودائع والأمانات التي عنده.
هم كذبوه في الرسالة، ولكنه الأمين باعترافهم جميعاً؛ لذلك أودعوا عنده الأمانات. إذن فصاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة. وحتى نتعرف تماماً على هذا المعنى، فلنفترض أن إنساناً وقع في مشكلة، سبّ أحداً من الناس ورفع المعتدي عليه دعوى فضائية على هذا المعتدي الذي سبّه، ولهذا المعتدي صديق عزيز، استشهد به المعتدي عليه، فيقول المعتدي: أتشهد عليّ؟ ويذهب الصديق إلى المحكمة ليقول: «لا يقول صديقي مثل هذا السباب». وهنا شهد الصديق لصديقه شهادة زور. ولنفترض أن هذا المعتدي قد تاب وأناب وصار من الأتقياء، وجعله الناس حكما بينهم، وجاء له الصديق الذي شهد الزور من أجله ليشهد أمامه، فهل يقبل شهادته؟ طبعا لا.
إذن صاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة، فإذا ما حاول أحد من أصحاب الرذيلة أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطأ، فهو يسعى إلى إضلاله، وينطبق على ذلك قول الحق: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ وما دام هذا هو هدفهم وفكرتهم ألا يتركوا المؤمنين على إيمانهم، لأجل أن يأخذوهم إلى صف الكفر.
وهم بذلك كمنافقين كفار قلوب غير مخلصين لصف الإيمان. وهم
2528
لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة. ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ وفي هذا تحذير واضح للمؤمنين هو: إياكم أن تأمنوهم على شيء يتعلق بمصالحكم وإيمانكم.
ويصدر الحق الحكم في هذه القضية بمنتهى الوضوح: ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ أي إياكم أن تتخذوا من المنافقين نصراء لكم أو أهل مشورة؛ لأن الله سبحانه فضح لكم دخائل نفوسهم، وهذه المسألة ليست ضربة لازب، فإن آب الواحد منهم وأناب ورجع إلى حظيرة الإيمان فلن يرده الله، فسبحانه وتعالى لا يضطهد أحداً لمجرد أنه ارتكب الذنب؛ لأنه الحق غفور ورحيم، فما دام قد عاد الإنسان إلى الصواب وبَعُد عن الخطأ، فعلى المؤمنين أن يقبلوا من يعود إليهم بإخلاص، فالكراهية لا تنعقد ضد أحد لأنه أخطأ؛ لأن الكراهية تكون للعمل الخطأ، وليست موجهة ضد الإنسان المخلوق لله، فإن أقلعوا عن الخطأ؛ فهم مقبولون من المؤمنين.
وها هوذا قاتل زيد بن الخطاب يمر أمام عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال له بعض الناس ها هوذا قاتل أخيك زيد. فيقول عمر بن الخطاب: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟!
وهكذا نرى أن الكراهية لم تتعد إلى ذات القاتل، ولكن الكره يكون للفعل، فإن أقلعت الذات عن الفعل فالذات لها مكانتها. وهكذا يصدر الحكم الرباني: ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
والهجرة في سبيل الله كانت تكلف الإنسان أن يخرج من ماله ومن وطنه ومن أهله، ويذهب إلى حياة التقشف والتعب والمشقة، وفي هذا ما يكفر عنه، ويتعرف المؤمنون هنا أنه قد تاب إلى الله فتاب الله عليه وآن له الأوان أن يدخل في حوزة الإيمان. فإن فعل ذلك فقد عاد إلى الإيمان. ولذلك يجب على الناس أن يفصْلوا الذوات عن الأفعال. لماذا؟ لأن الذوات في ذاتها لا تستحق أن تكره، وإنما يكره فعل الذات إن كان قبيحا سيئا.
2529
وحين نقرأ القرآن نجده يعرض مثل هذه المسألة، فسيدنا نوح عليه السلام عندما تلقى وحي الله بأن يصنع السفينة، وجلس يصنعها ويمر عليه الناس فيسخرون منه فيقول لهم سيدنا نوح: سنسخر منكم غداً كما تسخرون منا. ويأتي له ابن ليس على منهجه، فيدعوه نوح إلى المنهج فيقول الابن: «لا». ويركب نوح السفينة ويقول لله: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي.
وهنا يوضح الحق: صحيح أنا أنجيك أنت وأهلك، ولكن ما الذي جعلك تعتبر ابنك من أهلك، إن الذوات عند الأنبياء لا نسب لها، إنما نسب الأنبياء الأعمال: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: ٤٦].
إن العمل هو الذي يتم تقييمه. ولذلك يقول الحق: ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ والهجرة من «هجر»، و «هجر» يعني أن الإنسان قد عدل من مكان إلى مكان، أو عن ود إلى ود، أو عن خصلة إلى خصلة، والذي يَهجر عادة يتجنى على من «هُجر»، لنلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في كتابه عندما يأتي بالحدث. يأتي ب «هاجر»، ولم يأت بالحادث «هجر»، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يهجر مكة. ولكنه هاجر منها، ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
فالهجرة جاءت؛ لأن أهل مكة هجروه أولاً، فاضطر أن يهاجر. و «هاجر» على وزن «فاعل». والمتنبي يقول:
نهاية إقدام العقول عِقال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همو
ولذلك جاء الحق بالهجرة على صيغة المفاعلة. لقد كرهوا دعوته. واستجاب الرسول للكراهية فهاجر.
2530
ويوضح سبحانه أن الذي يخلص هؤلاء المنافقين من حكمنا عليهم، ألا يتخذ المؤمنون منهم أولياء هو: أن يهاجروا في سبيل الله؛ لأن ذلك هو حيثية صدق الإيمان. فالمهاجر يحيا عيشة صعبة. وقد عاش المهاجرون على فيض الله من خير الأنصار، ولم يؤسسوا حياتهم بشكل لائق. إذن فمن ينضم إلى ذلك الموكب هو مؤمن اشترى الإيمان وقدر على أن يكفِّر عما بدر منه. فليست الهجرة مجرد هجرة، ولكنها هجرة في سبيل الله.
ولذلك نرى القاعدة الإيمانية في الحديث النبوي: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وهكذا يعامل المؤمنون المنافق إن عاد من كفره ونفاقه إلى الإيمان. لكن ماذا لو تولّى المنافقون؟. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ والأخذ إذا جاء في مقام النزاع فمعناه الأسر. وقتلهم في ساحة أمر واجب، ولا يصح أن يتخذهم المؤمنون أولياء أو نصراء؛ لأن الواحد من المنافقين يكون دسيسة على المؤمنين، ويحاول أن يعرف أمور وأحوال المسلمين، ويطلع خصوم الإسلام على ما يمكن أن ينفذ منه العدو إلى المسلمين. ويستميت ليعرف ما يبيت المسلمون للكافرين.
واتخاذ الولي أو النصير ممن نعلم أنه لا يحب الإيمان وليس على مبدأ الإسلام وعقيدته أمر يشكك في صدق بصيرة الإنسان الذي يتولى ويود غير المسلمين المخلصين. فحين يرى الواحد منا إنساناً آخر لا يحبه ويكيد المكائد، وعندما يراك تثق فيه وتحسن إليه، يقول هذا الكاره: هذا إنسان فاقد البصيرة فلو عرف ما في قلبي لما فعل ذلك.
فإذا اتخذ المؤمنون من المنافقين أولياء أو نصراء والمنافقون على ما هم عليه من نفاق لقال المنافقون: إن المسلمين فاقدوا البصيرة وهم لا يعلمون ما في قلوبنا، لذلك ينير الحق بصيرة المؤمنين حتى لا نأخذ رأياً من المنافقين ينال منا.
وقد يقول المنافقون: إن هؤلاء المسلمين ليس لهم ربٌّ يبصرهم، فلماذا يدعون
2531
أن لهم إلهاً؟ لو كان لهم إله لبصرهم بما في نفوسنا. ونجد هذا الفضح لهم عندما يقول الحق: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
وعدم تعذيب الحق له وقت كفرهم له فائدة ورحمة سديركونها فيما بعد. فمِن هؤلاء مَن سيكون سيفاً للإسلام بعد أن كان سيفاً على الإسلام؛ فقد ادخرهم الله ليكون بعض منهم سيفاً للإسلام، فها هو ذا ابن الوليد يهتدي، وها هو ذا عمرو بن العاص، وها هو ذا عكرمة بن أبي جهل، هؤلاء سيكونون سيوفاً للإسلام، ولا يظنن منهم أحد أنه سترَ مكنونَ نفِسه عن الله: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
هذا القول قد أدى أمرين:
الأمر الأول: وضح أن هناك رباً مطلعاً على خائنة الأعين وخفايا الصدور. والأمر الثاني: أوضح أن الله لم يعذبهم لأن منهم من سيمس الإيمان قلوبهم وسيكونون سيوفاً للإسلام وسيخرج من ذريتهم قادة يحملون الدعوة لله. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جاء جبريل وقال له: «إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمرهُ بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربّك إليك ليأمرني بأمرك مما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».
وقد حدث ذلك. إن أسلوب معاملة المنافقين يحدده الله في هذه الآية بما يلي: هم قومٌ الكفر يسكن القلب منهم ومظهرهم يَدَّعي الإسلام ويتمنون أن يكون
2532
المؤمنون على شاكلتهم، فلذلك لا يتخذ المسلم وليا من المنافقين ولا نصيراً.
ولكن إن هاجر المنافق فرحابة الإيمان تتسع له، أما إن تولّى المنافق وأعرض عن ذلك. فأسلوب المعاملة يكون كما يحدده الله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ لكن بعد أن يُطلق هذا الأمر توجد عقبة في تنفيذه، إنها عقبة الأحلاف والعهود والمواثيق التي كان يعطيها رسول الله لبعض القبائل، وكانت هذه العهود تتلخص في أن الرسول يعاهد بعض القبائل بعدم الإغارة على المسلمين وعدم إغارة المسلمين عليهم. ولذلك يحترم الحق هذه المواثيق والأحلاف.
إن الحق يوضح لنا: لا تأخذوا هذا الأمر أيها المسلمون على إطلاقه؛ لأن الإسلام دين الوفاء بالعهود، وقد أعطيتم بعض القبائل عهوداً بأن من لجأ إليهم يؤمنونه ويدخل في حمايتهم، وكذلك الذي يصل ويلجأ إلى المسلمين فعليهم حفظه ومنع التسلط عليه.
لذلك قال الحق في هذا الاستثناء: ﴿إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ... ﴾.
2533
والآية تبدأ باستدراك حتى لا تفتح مجالاً لإغضاب من كان للإسلام تعاهد معهم وتعاقد، فالذين يصلون ويلجأون إلى قوم بينهم وبين المسلمين تحالف أو ميثاق
2533
لا ينطبق عليهم ما جاء في الآية السابقة وهو الأخذ والقتل.
مثال ذلك ما حدث من عهد بين المسلمين وهلال بن عويمر الأسلمي على ألاّ يعينوه ولا يعينوا عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله الجوار مثل الذي لهلال. والاستثناء يشمل أيضاً من جاءوا إلى المسلمين، فمن ذهب من المنافقين إلى من عاهده المسلمون فهو يحصل على الأمان، وكذلك يُؤَمِّنُ الرسول من جاءه من المنافقين وقال من الأسباب ما يجعله يطلب حماية الرسول والإسلام: فعلى الرغم من نفاقة يؤمنه الإسلام.
﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ﴾ كأن يقول الواحد منهم: أنا لا أقدر أن أقاتلكم، ولا أقدر أن أقاتل قومي فاغفر لي هذا واقبلني معكم. هؤلاء يقبلهم الرسول لأنهم أقروا بما هم فيه من ضيق، فهم لا يستطيعون التصرف لا أمام المسلمين فيعلنون الإيمان، ولا أمام الكافرين فيعملون في معسكر الكفر. ولا يستطيعون أن يتخذوا موقفاً حاسماً حازماً بين المسلمين والكافرين، فهم يقرِّون بضعفهم، ويعترفون به.
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾. فما الذي يجعلهم يلوذون إلى قوم يتحالفون مع المسلمين بميثاق حتى يحتموا فيهم؟ أو يقرون أن صدورهم ضيقة وأنهم غير قادرين على التصرف، ويعلنون: لا نستطيع أن نقاتلكم ولا أن نقاتل قومنا. ويوضح الحق: أنا فعلت هذا وألقيت الرعب في نفوسهم، ولو شئت لسلطتهم وجرأتهم عليكم، وقاتلوكم، إذن فسبحانه ينصرنا بالرعب ويمنع قتالهم لنا.
﴿فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾.
إن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقو السلم واعترفوا بأنهم لا يملكون طاقة اختيار بين قتال المسلمين أو قتال قومهم، فليس لكم أيها المسلمون حجة أن تعتدوا عليهم؛ فالاعتداء عليهم في مثل هذه الحالة ينهَى الله عنه
2534
وعين الحق لا تقتصر على ما نعرف، ولكنها تتعدى إلى أدق التفاصيل؛ فهي عين لا ترى ما عرفناه فقط ولكنها تكشف لنا الحجب التي لا نعرفها، فيقول سبحانه: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ... ﴾.
2535
تبدأ هذه الآية بفعل يتحدث عن المستقبل: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾. معنى ذلك أن المسلمين لحظة نزول هذه الآية لم يكونوا قد وجدوا مثل هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم الحق، ولو لم يحدث للمعاصرين لنزول القرآن أن وجدوا مثل هؤلاء ماذا كانوا يقولون عن هذا الخبر؟. لو لم يجدوا مثل هؤلاء القوم لتشككوا في القرآن. وسبحانه يوضح أني عين معكم، وعين لكم، أخبرتكم بما حدث واختلفتم فيه، وأخبركم بما لم يصل إلى أذهانكم وعلمكم فلا تختلفوا فيه، وهذا دليل على أنكم في رعايتي وفي عنايتي.
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ﴾ وهؤلاء القوم هم قوم من بني أسد وعطفان، وكانوا على مشارف المدينة، وكانوا يقابلون المسلمين فيقولون: «نحن معكم»، والحقيقة أنهم عاجزون عن مواجهة أي معسكر. ولذلك يصفهم القرآن: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾. وهؤلاء كلما جاءهم الاختبار ﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾. أي فشلوا في الاختبار، فعناصرهم الإيمانية لم تقو بعد، ومازالوا في حيرة من أمرهم. وعندما جاءتهم الفتنة لتصهرهم وتكشف ما في
2535
أعماقهم ازدادت حيرتهم، فالفتنة هي اختبار، وليست الفتنة شيئاً مذموماً، وعندما يقال: إن فلانا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو بالنجاح فيها، فالفتنة ليست مصيبة تقع، ولكن المصيبة تقع إذا رسب الإنسان في الفتنة.
ونعلم أن الفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فتنة الذهب وكذلك الحديد: فتنة الذهب هي صهر الذهب في البوتقة حتى ينصهر؛ فتطفو كالزبد كلُّ العناصر الشائبة المختلطة بالذهب، وكذلك الحديد، يتم صهره حتى تنفصل الذرات المتماسكة بعضها عن بعض. ويطفو الخبث.
ونعرف أن الحديد أنواع: فالحديد الزهر شوائبه ظاهرة فيه وسهل الكسر. بينما نجد الحديد الصلب بلا خبث فهو صلب. وفتنة الذهب والحديد تكشف عن المعادن الغريبة المختلطة به. ونقلت كلمة «الفتنة» من المحسات إلى المعاني، وصارت الفتنة هي الاختبار الذي ينجح فيه الإنسان أو يرسب، فهي ليست ضارة في ذاتها، ولكنها ضارة لمن يرسب فيها.
وهكذا كان تنبؤ القرآن الذي يخبر المسلمين بأمر قوم على حدودهم، تجعلهم الفتنة لا يقوون على الإيمان، أي فكلما دعاهم قومهم إلى الشرك وقتال المسلمين رُدُّوا على أعقابهم وانقلبوا على رءوسهم أقبح قلب وأشنعه وكانوا شرّاً من كل عدو عليكم، ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين تجاه هؤلاء المرتكسين والمنقلبين في الفتنة: ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم ويكفوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ ونلحظ أن الحق أمر بتأمين من لجأوا بضعفهم على الرغم من نفاقهم إما إلى المسلمين وإما إلى حلفاء المسلمين حين قال في الآية السابقة:
﴿فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٩٠].
وهذا إنصاف وتنبيه إلهي من الحق ألا يسمع أحد صوت حفيظته ويفترس قوماً ضعفاء. أما الذين يحاولون التمرد والاستسلام لصوت الكفر وإيقاع الأذى بالمسلمين، ولم يلقوا بالسلم للمسلمين ويكفوا أيديهم عنهم، هؤلاء يأتي فيهم الأمر الإلهي:
2536
خذوهم واقتلوهم. وجعل الله للمسلمين على هؤلاء السلطانَ المبين. والسلطان - كما نعرف - هو القوة، والقوة تأخذ لونين: هناك قوة تقهر الإنسان على الفعل كأن يأتي واحد ويأمر إنساناً بالوقوف فيقف، وكأنْ يأمر القويُّ الضعيفَ بالسجود فيسجد. وهذا سلطان القوة الذي يقهر القالب، لكنه لا يقدر على قهر القلب أبداً. والسلطان الثاني هو سلطان الحجة، وقوة المنطق وقوة الأداء والأدلة التي تقنع الإنسان أن يفعل.
والفارق بين سلطان القوة وسلطان الحجة أن سلطان القوة قد يقهر الإنسان على السجود، لكن سلطان الحجة يجعل الإنسان يسجد بالاقتناع. والسلطان المبين الذي جعله الله للمؤمنين على المنافقين الذين يقاتلون المؤمنين، هذا السلطان يمكن لكم أيها المسلمون قوة تفعلون بها ما تريدون من هؤلاء ما داموا حاولوا القتال وإلحاق الأذى بالمسلمين، فالحزم والعدل هو أخذهم بالعنف.
وحتى نفهم معنى السلطان جيداً فلنتذكر الجدل الذي سيحدث في الآخرة بين الشيطان والذين اتبعوا الشيطان، سنجد الشيطان يقول: لقد أغويتكم، هذا صحيح، وأنتم اتبعتموني، فأنتم المسئولون عن ذلك، فلم يكن لي عليكم من سلطان قوة أو سلطان إقناع: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢].
وبعد أن تكلم الحق عن القتال ومشروعيته، وقتال المنافقين، وقتال الآخرين. نجد الكلام يصل إلى موضوع القتل. فأوضح لهم: المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الآدمي، والحياة أنا الذي أهبها، وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه، إنما أنا أحرض على هدم هؤلاء الذين يقاتلونكم؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم، وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس، فملعون من يهدم بنيان الله؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة، وحياة الناس ليست ملكاً لهم؛ فحياة الإنسان نفسه ليست ملكاً لنفسه، ولذلك فمن يقتل واحداً، عُدْواناً دون حق نقتص منه، وأما إن كان ذلك قد قتل خطأ فنأخذ منه الدية،
2537
وتنتهي المسألة. لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة.
إذن فقبل أن يقول لي: لا تقتل غيرك قال لي: إياك وأن تقتل نفسك. إذن فسبحانه ليس بغيور فقط على الناس منك، بل يغار عليك أيضاً من نفسك، ولذلك فحين شرع سبحانه القصاص في القتل شرعة ليحميك لا ليجرئك على أن تقتل، أما عندما يأمر سبحانه: أن من قَتَلَ يُقتل. فهو يقسط ويعدل، والقصد من هذا الحفاظ على حياتين؛ لأنك إن علمت أنك إن قَتَلْتَهُ قُتِلْت لا تقتل.
وما دمت لا تقتل فقد حميت حياتين حياة من كنت ستقتله وحياتك من أن يُقتص منك وهذا هو معنى قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب﴾ [البقرة: ١٧٩].
إذن فالذي يتفلسف ويقول: هذه بشاعة وكذا وكذا نقول له: الذي يشرع القصاص أيريد أن يَقتل؟ لا، بل يريد أن يحمي حياتك؛ لأن القاتل عندما يعلم أنه إن قَتَلَ يُقتل فلا يقتل، وما دام لا يقتل نكون قد حافظنا على حياته وحياة الآخر. إذن فقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ قول صدق.
وعندما تكلم الحق عن القتال والقتل ينبهنا: إياكم وأن تجترئوا بسبب هذه المسائل على دماء الناس ولا على حياتهم؛ لذلك يتكلم سبحانه عن القتل المحظور في الإيمان والإسلام ويقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً... ﴾.
2538
جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نَفْساً كافرة، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل.
والقتل - كما نعلم - محاولة إزهاق روح الحي بنقض بنيته. والحي وإن لم ننقض بنيته حين يأتي أجله يموت. إذن فنقض البنية من الإنسان الذي يريد أن يقضي على إنسان عملٌ غايتُه إنهاء الحياة، فلا يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته، ولكنه يصادف انقضاء الحياة، فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى. ولذلك قلنا: إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل في أمر استأثر الله وحده به، والقتيل ميت بأجله، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف الإنسان في الكون، والاستخلاف شرحه الحق في قوله: ﴿واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١].
فالله هو الذي جعل الإنسان خليفة في الكون ليعمر هذا الكون، وعمارة الكون تنشأ بالتفكير في الارتقاء والصالح في الكون، فالصالح نتركه صالحاً، وإن استطعنا أن نزيد في صلاحه فلنفعل.
الأرض - على سبيل المثال - تنبت الزرع، وإن لم يزرعها الإنسان فهو يجد زرعاً
2539
خارجاً منها، والحق يريد من الإنسان أن ينمي في الأرض هذه الخاصية فيأتي الإنسان بالبذور ويحرث الأرض ويزرعها. فهذا يزيد الأمر الصالح صلاحاً. وهذا كله فرع وجود الحياة.
إذن فالاستخلاف في الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة. وما دام استبقاء الحياة أمراً ضرورياً فلا تأتي أيها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها. فالقتال إنما شُرع للمؤمنين ضد الكافرين؛ لأن حركة الكافرين في الحياة حركات مفسدة، ودرء المفسدة دائماً مقدم على جلب المصلحة. فالذي يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كي ننهي الحياة فيه، ونُخَلِّص الحياة من معوق فيها.
إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الأرض بحياته. والكافرون يعيثون في الأرض فساداً، ويعيشون على غير منهج، ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء، فشرع الله القتال إما ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج، وإما ليخلص الحياة من شرهم. فإذا ما وجه الإنسان القتل لمؤمن - وهو في ذاته صالح للاستعمار في الحياة - يكون قد جنى على الحياة، وأيضاً لو قتل الإنسان نفسه يكون قد جنى على الحياة كذلك، لماذا؟ لأنه أفقد الحياة واحداً كان من الممكن أن يعمر بحركته الأرض.
فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فلا بد أن نؤدبه. كيف؟ قال سبحانه: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [يونس: ٢٧].
والتشريع الإسلامي وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقاباً هو القتل. وبذلك يحمي التشريع الحياة ولا ينمي القتل، بل يمنع القتل.
إذن، فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطي الحياة سعة في مقوماتها لا تضييقا في هذه المقومات، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد أن يوضح لنا: إياكم أن تتعدوا بهذه المسألة، وتستعملوا القتال في غير الأمر المشروع، فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان لينهي حياته في غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف؟
2540
يقول التشريع: إنه يقتل، وكان يجب أن يكون في بالك ألا تجترئ على إزهاق حياة أحد إلا أن يكون ذلك خطأ منك، ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الأثر وهو القتل. فماذا يكون الأمر؟ هناك منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده، هما - إذن - أمران: عدم القصد في ارتكاب القتل الخطأ، والأمر الثاني هو حدوث القتل.
يقول التشريع في هذه المسألة: إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان، وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى في بيئته الإيمانية العامة، وله ارتباطاته ببيئته الأهلية الخاصة كعائلته، العائلة له أو العائل لها أو الأسرة أو الأقرب من الأسرة وهو الأصل والفرع، فكم دائرة إذن؟ دائرة إيمانية عامة، ودائرة الأهل في عمومها الواسع، ودائرة الأسرة، ودائرة خصوصية الأسرة في الأصل والفرع. وحين تنهي حياة إنسان في البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد في حركته؛ لأن الدائرة الإيمانية فيها نفع عام.
لكن دائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلاً والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل ما، وفي الأصل والفرع نجده نفعا مُهِمّاً وخاصاً جداً. إذن فهذا القتل يشمل تفزيعاً لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع.
ولذلك أريد أن تلاحظوا في أحداث الحياة شيئا يمر علينا جميعا، ولعل كثيراً منا لا يلتفت إليه، مع أنه كثير الحدوث، مثلاً: إذا كنا جالسين في مجتمع وجاء واحد وقال: «فلان مات»، وفي هذا المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة. وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صلة، وأناس من أهله، وفيه والد الميت أو ابنه، انظروا إلى أثر النعي أو الخبر في وجوه القوم، فكل واحد سينفعل بالقدر الذي يصله ويربطه بمن مات. فواحد يقول: «ي رَحِمَهُ اللَّهُ» وثانٍ يتساءل بفزع: «كيف حدث ذلك» ؟ وثالث يبكي بكاء مراً، ورابع يبكي جارياً ليرى الميت. والخبر واحد فلماذا يتعدد أثر وصدى الانفعالات، ولماذا لم يكن الانفعال واحداً؟
نقول: إن الانفعال إنما نشأ قهراً بعملية لا شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته؛ فالذي كان يلتقي به لِمَاماً ويسيراً في أحايين متباعدة يقول: «رَحِمَهُ اللَّهُ».
2541
والذي كان يجالسه كل عيد يفكر في ذكرياته معه، وحتى نصل إلى أولاده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف انفعاله عن الخريج حديثاً أو الذي يدرس، أو البنت الصغيرة التي مازالت تتلقى التعليم، هؤلاء الأولاد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالات شتى، فالابن الذي له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال مختلف عن الابن الذي مازال في الدراسة، وانفعال الابنة التي تزوجت ولها أسرة يختلف عن انفعال الابنة التي مازالت لم تجهز بعد.
إذن فالانفعال يحدث على مقدار النفعية، ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق. وقالوا: من أحب إليك، أخوك أم صديقك؟. قال: النافع. إذن تلقى خبر انتهاء الحياة يكون مختلفاً، فالحزن عليه والأسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه في المجتمع.
وهناك واحد يكون وطنه أسرته يعمل على قدر نفعها، وواحد يكون وطنه عائلته وقريته، وواحد وطنه أمته. وواحد وطنه العالم كله. إذن فعندما يفجع المجتمع في واحد فالهِزة تأتي على قدر وطنه، وعندما يفاجأ الناس بواحد يُقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور. ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل؟. فالأثر قد حصل، وتحدث الهزة للأقرب له في الانتفاع، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل، ولكن عليه أن يدفع دية، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته؛ لأن هناك قاعدة تقول: «بسط النفع وقبض الضر».
إنك ساعة ترى شيئاً سينفعك فإن النفس تنبسط، وعندما ترى شيئاً سيضرك فإن النفس تنقبض. وعندما يأتي للإنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض، وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط، وبذلك يتم علاج الأثر الحادث عن القتل الخطأ.
2542
والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة، وبشرط ألا تؤخذ من الأصول والفروع، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزّعون فلا يجمع عليهم هذا الأمر مع المشاركة في الدية. كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع. فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية. ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل لا يدفعها، ولكن تدفعها العاقلة؛ لأن العاقلة إذا ما علمت أن من يجني من أهلها جناية وأنّها ستتحمل معه فإنها تعلِّم أفرادها في صيانة حقوق غيرهم؛ لأن كل واحد منها سيدفع، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع.
والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا عن خطأ، فلا يستقيم أن يحدث ذلك عمدا فيقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ ومعنى هذا أن مثل هذا القتل لا يصح أن يحدث عن قصد؛ لأن اللُّحمة - بضم اللام - الإيمانية تمنع هذا.
لكن إن حدث هذا فما العلاج؟. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾.
ولا يذكر سبحانه هنا القصاص، فالقصاص قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ [البقرة: ١٧٨].
والقصاص حق الولي فله أن يعفو أو أن يأخذ الدية، كأن يقول: عفوت عن القصاص إلى الدّية. ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص. فالقصاص حق الولي، والحد حق الله. وللولي أن يتنازل في القصاص، أما الحدود فلا يقدر أحد أن يتنازل عنها، لأنها ليست حقاً لأحد ولكنها حق الله.
إذن فالقتل الخطأ قال فيه: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ وهنا قد نسأل: وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة؟. هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية؟. قد لا تفيدهم في شيء، لكنها تفيد المجتمع؛ لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده، والسيد يملك حركة العبد، ولكن عندما يكون
2543
العبد حرّاً فهو حر الحركة؛ فحركة العبد مع السيد محدودة، وفي حريته حركة مفيدة للمجتمع.
إذن فالقبض الذي حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط في حرية واحد كان محكوماً في حركته فنقول له: انطلق في حركتك لتخدم كل مجتمعك. ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفاً لحرية الأرقاء ضمن المصارف الكثيرة التي جعلها الإسلام لذلك.
وبعد هذا القول ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾ لكي تصنع البسط في نفوس أهله ليعقب القبض نتيجة خبر القتل. ولذلك نجد أسرة قد فجعت في أحد أفرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياماً ثم يأخذون الأوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض، مما يدل على أن في ذلك شيئاً من السلوى وشيئاً من التعزية وشيئاً من التعويض، ولو كانت المسألة مزهوداً فيها لقالوا: «نحن لا نريد ذلك»، ولكن ذلك لا يحدث.
وبعد ذلك نجد الذي فقد حياة حبيب لا يظل في حالة حزن ليفقد حياة نفسه، ففي الواقع يكون الحزن من الحزبين على نفسه بمقدار ما فات عليه من نفع عندما قُتل له القتيل، والحزين إنما حزن لأن القتيل كان يثري حياته، فلما مات صارت حياة النفع منه بلا إثراء.
ولو رأينا إنساناً يحزن لفقد واحد وقلنا له: احتفظ بجثمانه لمدة أسبوع لترتوي من أشواقك إليه، وبعد ذلك نأخذه منك لندفنه أيرضى؟. لن يرضى أبداً بذلك. أو نقول للحزين: «لن نقدم لك طعاماً لمدة أسبوع لأنك في حالة حزن هنا لن يوافق الحزين، وزوجة الفقيد تذرف عيناها الدمع وتبكي عليه لكنها تأكل وتشرب.
إذن فالمسألة يجب أن تكون واضحة لاستقبال أقضية الحق وهي أقضية لا تنقض نواميس الله في الكون.
وبعد ذلك يريد الحق أن يشيع التعاطف بين الناس، فإذا قال أهل القتيل لأهل القاتل: نحن لا نريد دية، لأن مصيبتكم في القتيل مثل مصيبتنا فيه، وكلنا إخوة فما الذي يجري في المجتمع؟. الذي يحدث من النفع هو أضعاف أضعاف ما تؤدية الدية، إذن فهذا تربيب للدية، فساعة يعرف الطفل في العائلة أنه
2544
كان مطلوباً منهم دية لأن أباه قد قَتَل، وعفا أهل القتيل فلم يأخذوا الدِّية، هذا الطفل سيعرف عندما يَشِبُّ ويعقل الأمور أن كل خير عند أسرته ناتج من هذا العفو وهذه العفّة، فيحدث الود.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية. فإذا ما حزن واحد لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع، وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾.
وهذا ما يحدث إذا ما قتل مؤمن مؤمناً خطأ في بيئة إيمانية، ولكن ما الذي يحدث عندما يتم قتل مؤمن لواحد من قوم أعداء والمقتول مؤمن ويعيش بين الكفار؟. ها نحن أولاء نرى عدالة التشريع الإلهي، وحتى نزداد يقيناً بأن الله هو رب الجميع؛ لذلك قال الحق: ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي كان المقتول من قوم في حالة عداء مع المسلمين فهو لا يستحق الدية؛ لأنه يحيا في قوم كافرين.
هكذا نجد التشريع هنا قد شرع لثلاث حالات: شرع لواحد في البيئة الإيمانية، وشرع لواحد مؤمن في قوم هم أعداء للمؤمنين، وشرع لواحد قد قُتل وهو من قوم متحالفين مع المسلمين. وكل واحدة لها حكم، والحكم في حالة أن يكون القتيل من قوم بينهم وبين المسلمين عداء وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة، وذلك للتعويض الإيماني فينطلق عبد كان محدود الحركة لأنّ هناك مَن مات وانتهت حركته، وفي هذا تعويض للمجتمع عندما تشيع حركة العبد. وماذا نفعل في الدية؟ لا يأخذون الدية؛ لأن الدية موروثة، وهم من الكفار وليس بين الكفار والمسلمين توارث أي فليس هنا دية.
وعندما ننظر إلى قول الحق: ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ﴾ نجد أن كلمة «عدو» مفردة في ذاتها، ولكنها تشمل كل القوم، وفي اللغة نقول: «هو عدو» و «هما عدو» و «هم عدو» وإن تنوعت عداوتهم فهم أعداء، ولكن عندما يتحد مصدر العداء فهم عدو واحد. والحق يقول: ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ ولم يورد سبحانه هنا الدية لأن القوم على عداء للإسلام فلا دية لهم؛ لأنه لا توارث.
2545
ويقول الحق: ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ فإذا أعطى المسلمون قوماً عهداً من العهود فلا بد من الوفاء.
هذا الوفاء يقتضي تسليم دية لأهله؛ لأن هذا احترام للعهد، وإلا فما الفارق بيننا وبينهم... والدية - كما نعلم - تدفعها العاقلة، ويقول الحق في بيان حق الله في أمر القتل الخطأ: ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله﴾ أي فمن لم يجد الرقبة أو لم يتسع ماله لشرائها فصيام الشهرين بكل أيامهما، فلا يفصل بينهما إلا فاصل معذر كأن يكون القاتل - دون قصد - على مرض أو على سفر. وبمجرد أن ينتهي المرض أو السفر فعليه استكمال الصوم.
ولماذا هذا التتابع الحكمي؟. لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يجعل هذه المسألة شاغلة لذهن القاتل، وما دامت تشغل ذهنه فالصيام لا بد أن يكون متتابعاً، فلو لم يكن الصيام متتابعاً لأصابت القاتل غفلة. ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله﴾.
ولماذا قال الحق: ﴿تَوْبَةً مِّنَ الله﴾ ؟. والتوبة - كما نعرف - قد تكون من العبد فنقول: «تاب العبد».
وقد تسند التوبة إلى الحق فيقال: «تاب الله عليه» ومراحل التوبة ثلاث: حين يشرع الله التوبة نقول: تاب الله على العباد فشرع لهم التوبة فلا أحد يتوب إلا من باطن أن الله شرع التوبة؛ لأنه لو لم يشرع الله التوبة لتراكمت على العباد الذنوب والخطايا.
وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر، فلو لم يشرع الله التوبة لكان كل من ارتكب ذنباً يعيث في الأرض بالفساد، فحين شرع الله التوبة عصم المجتمع من الأشرار. فلأنه شرّع التوبة، فهو - سبحانه - يتوب، هذه هي المرحلة الأولى. وما دام الله قد شرع التوبة فالمذنب يتوب، هذه هي المرحلة الثانية، وساعة شرع الله التوبة ويتوب المذنب فالله يقبل التوبة، هذه هي المرحلة الثالثة.
وهكذا نرى دقة القرآن حين قال:
2546
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ [التوبة: ١١٨].
وبعد أن يتوبوا فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
إذن فالتوبة الأولى من الله تشريع. والتوبة الثانية من الله قبول، والوسط بينهما هي توبة الإنسان.
ويذيل الحق الآية: ﴿تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ فسبحانه يشرع التشريع الذي يجعل النفوس تحيا في مُناخ طبيعي وفي تكوينها الطبيعي، فلو تصورنا أن إنساناً قد قُتل خطأ وتركنا أهل المقتول بلا ترضية فلن يستفيد المجتمع الإيماني من قتله.
إذن فالعلم من الله بالنفس البشرية جعل من قتل خطاً يُفيد المجتمع الإيماني بتحرير رقبة، فيزيد المجتمع إنساناً حراً يتحرك حركة إيمانية؛ لذلك اشترط الحق أن تكون الرقبة مؤمنة، حتى نضمن أن تكون الحركة في الخير، فنحن لا نحرر رقبة كافرة؛ لأن الرقبة الكافرة عندما تكون مملوكة لسيد فشرها محصور، لكن لو أطلقناها لكان شرها عاماً.
وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع في منفعته فيمن قُتل، ولا نأخذها من أصول القاتل وفروعه، فلا نجمع عليهم مصيبتين القتل الذي قام به أصلهم أو فرعهم؛ لأن ذلك - لا شك - سيصيبهم بالفزع والخوف عن والاشفاق على مَن جنى منهم. وأن يشتركوا في تحمل الدية. وذلك العمل ناشيء عن حكمه. فإذا كان الذي يضع الأشياء في موضعها هو خالقها، فلن يوجد أفضل من ذلك لتستقيم الأمور.
وفي المجال البشرى نجد أن أي آلة من الآلات - على سبيل المثال - مكونة من خمسين قطعة، وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك، وما دامت كل قطعة في مكانها فالآلة تسير سيراً حسناً، أما إذا توقفت الآلة فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها، وكل شيء حين يكون في موضعه فالآلة تمشي باستقامة، وكل حركة في الوجود مبنية على الحكمة لا ينشأ فيها فساد؛ فالفساد إنما ينشأ من حركات
2547
تحدث بدون أن تكون على حكمة. والحكمة مقولة بالتشكيك، فهناك حكيم وهناك.
أحكم. وقديماً - على سبيل المثال - كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها «ماس» كهربائي. وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للأشياء. وكنا نجد الأسلاك في السيارة - مثلاً - ذات لون وحجم واحد، فكان يحدث الارتباك عند الإصلاح، لكن عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين، فسهل هذا عملية الإصلاح.
فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فما بالنا حين يكون من يضع الشيء في موضعه هو خالقنا؟ لن نجد أفضل ولا أحسن من ذلك.
فإذا ما رأينا خللاً في المجتمع فلنعلم أن هناك شيئاً قد ناقض حكمة الله. وعندما نبحث عن العطب سوف نجده، تماماً مثلما تبحث عن العطب في أي آلة وتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها. ويجب أن نرده إلى من خلق المجتمع، ونبحث عن علاج الخلل بحكم من أحكام الله. ولذلك أرشدنا الحق إلى أننا إن اختلفنا في شيء فلنرده إلى الله وإلى الرسول حتى لا نظل في تعب.
وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد، وقد يقول قائل: أما كان يجب أن يحدثنا الله عن القتل العمد أولاً؟ ونقول: الحق لو تكلم عن القتل العمد أولاً لكان ذلك موحياً أنه يحدث أولاً، ولكن الحق يوضح: لا يصح أن تأتي هذه على خيال المؤمن.
ويسأل سائل: لماذا لم يقل الحق: «وما كان لمسلم». ونقول: يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى المؤمن لأن الإيمان عمل قلبي، ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين؛ لأن الإسلام أمر ظاهري، فقد يقتل إنسان يتظاهر بالإسلام إنساناً مؤمناً. لهذا نادى الحق بالنداء الذي يشمل المظهر والجوهر وهو الإيمان.
وحين يشرع الحق فلا بد أن يأتي بالجزاء والعقاب للذي يقتل عمداً. وهو يقول:
2548
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً... ﴾.
2549
والقتل هنا لمؤمن بعمد، فالأمر إذن مختلف عن القتل الخطأ الذي لا يدري به القاتل إلا بعد أن يقع. وجزاء القاتل عمداً لمؤمن هو جهنم، وليس له كفارة أبداً. هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون: «قتل عمد مع سبق الإصرار». أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته.
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ وقالوا في سبب هذه الآية: إن واحداً اسمه مِقْيَسْ بن ضبابة كان له أخ اسمه هشام، فوجد أخاه مقتولاً في بني النجار، وهم قوم من الأنصار بالمدينة. فلما وجد هشاماً قتيلاً ذهب مِقْيَس إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبره بالخبر، فأرسل معه رجلاً من بني فهر وكتب إليهم أن يدفعوا إلى مِقْيَس قاتل أخيه، فقال بنو النجار والله ما نعلم له قاتلا، ولكننا نؤدي الدية فأعطوه مائة من الأبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مِقْيَس على الفِهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة مرتدّاً وجعل ينشد:
قتلت به فِهراً وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع
فلما بلغ سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك أهدر دمه. ومعنى «أهدر دمه» أباح دمه، أي أن مَن يقتله لا عقاب عليه، إلى أن جاء يوم الفتح فَوُجد «
2549
مقيس» متعلقاً بأستار الكعبة ليحتمي بها، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتله، ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾.
وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب: جزاء جهنم، خُلود في النار، غَضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم. فكأن جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم. وهذا ما نستعيذ بالله منه. فبعضنا يتصور أن العذاب هو جهنم فحسب، وقد يغفل بعض عن أن هناك ألواناً متعددة من العذاب. وفي الحياة نرى إنساناً يتم حبسه فنظن أن الحبس هو كل شيء، ولكن عندما وصل إلى علمنا ما يحدث في الحبس عرفنا أن فيه ما هو أشر من الحبس.
وهنا وقفة وقف العلماء فيها: هل لهذا القاتل توبة؟ واختلف العلماء في ذلك، فعالم يقول: لا توبة لمثل هذا القاتل. وعالم آخر قال: لا، هناك توبة. وجاء سيدنا ابن العباس وجلس في جماعة وجاء واحد وسأله: أللقاتل عمداً توبة؟ قال ابن العباس: لا. وبعد ذلك بمدة جاء واحد وسأل ابن العباس: أللقاتل عمداً توبة؟ فقال ابن العباس: نعم. فقال جلساؤه: كيف تقول ذلك وقد سبق أن قلت لا، واليوم تقول نعم.
قال ابن العباس: سائلي أولاً كان يريد أن يقتل عمداً، أما سائلي ثانياً فقد قتل بالفعل، فالأول أرهبته والثاني لم أقَنِّطه من رحمة الله.
وكيف فرق ابن العباس بين الحالتين؟ إنها الفطنة الإيمانية والبصيرة التي يبسطها الله على المفتي. فساعة يوجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صحابته يسأله واحد قائلاً: «أي الإسلام خير» ؟ فيقول صلوات الله عليه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» ويسأله آخر فيجيبه بقوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» وهكذا كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يجيب كل سائل بما
2550
يراه أصلح لحاله أو حال المستمع، ويجيب كل جماعة بما هو أنفع لهم.. ويسأله عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أي الأعمال أفضل؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه:» الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: أن يسلم الناس من لسانك «».
ونعرف أن آية القتل العمد تتطلب المزيد من التفكر حول نصها «فجزاءه جهنم خالداً فيها». وهل الخلود هو المكث طويلاً أو على طريقة التأبيد.. بمعنى أن زمن الخلود لا ينتهي؟ ولو أن زمن الخلود لا ينتهي لما وصف الحق المكث في النار مرة بقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [آل عمران: ٨٨].
ومرة أخرى بقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ [النساء: ١٦٩].
هذا القول يدل على أن لفظ التأبيد في «أبداً» فيه ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد. وإذا اتحد القولان في أن الخلود على إطلاقه يفيد التأبيد، وأن ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ تفيد التأبيد أيضاً، فمعنى ذلك أن اللفظ «أبداً» لم يأت بشيء زائد. والقرآن كلام الله، وكلام الله منزه عن العبث أو التكرار. إذن لا بد من وقفة تفيدنا أن الخلود هو المكث طويلاً، وأن الخلود أبداً هو المكث طويلاً طولاً لا ينتهي، وعلى ذلك يكون لنا فهم. فكل لفظ من القرآن محكم وله معنى. ثم إن كلمة «خالدين» حين وردت في القرآن فإننا نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في خلود النار: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾
[هود: ١٠٥ - ١٠٧].
2551
فكأن الحق سبحانه وتعالى استثنى من الخلود: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ تفيد أن الخلود عندهم تنتهي. ما دام هناك استثناء؛ فالاستثناء لا بد له من زمن، والزمن مستثنى من الخلود وعلى ذلك لا يكون الخولد تأبيدياً.
وعلينا أن نتناول الآيات بهذه الروح، وفي هذه المسألة نجد وقفة لعالم من أعلام العقائد في العصر العباسي هو عمرو بن عبيد، وكان عمرو من العلماء الذين اشتهروا بالمحافظة على كرامة العلم وعزة العلماء لدرجة أن خليفة ذلك الزمان قال عنه وسط بعض المنتسبين إلى العلم: «كلهم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد» وقد كانت منزلته العلمية عالية ونفسه ذات عزة إيمانية تعلو على صغائر الحياة. وكان عمرو بن عبيد دقيق الرأي، ويحكى عنه قيس بن أنس هذه الحكاية: كنت في مجلس عمرو بن عبيد فإذا بعمرو بن عبيد يقول: «يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي: لم قلت بأن قاتل العمد لا توبة له. قال: فقرأت الآية: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ وكان يجب أن يلتفت عمرو بن عبيد إلى أن الإلهام الذي جاءه أو الرؤيا التي أراها له الله بأنه سوف يؤتي به يوم القيامة ليسأل لماذا أفتى بألا توبة لقاتل العمد، كان يجب أن يلتفت إلى أن ذلك يتضمن أن لقاتل العمد توبة؛ لأن سؤاله عن ذلك يوم القيامة يشير إلى عتاب في ذلك.
نقول ذلك لنعرف أنَّ الحق سبحانه وتعالى جعل فوق كل ذي علم عليما.. ولكنَّ عمرا ذكر ما جاء في قول الحق: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾. وقال قيس بن أنس: وكنت أصغر الجالسين سناً، فقلت له: لو كنت معك لقلت كما قلت: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ وقلت أيضاً:
2552
﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨].
قال قيس: فوالله ما رد على عمرو بن عبيد ما قلت: ومعنى ذلك موافقة عمرو بن عبيد.
ماذا تفيد هذه؟. تفيد ألا نأخذ كلمة ﴿خَالِداً فِيهَا﴾ بمعنى التأبيد الذي لا نهاية له؛ لأن الله قد استثنى من الخلود في آية أخرى.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن شرح حكم القتل العمد والقتل الخطأ، بحث العلماء ووجدوا أن هناك قتلاً اسمه» شبه العمد «أي أنه لا عمد ولا خطأً، كأن يأتي إنسان إنساناً آخر ويضربه بآلة لا تقتل عادة فيموت مقتولاً، وهنا يكون العمد موجوداً، فالضارب يضرب، ويمسك بآلة ويضرب بها، وصادف أن تقتل الآلة التي لا تقتل غالبا، وقال العلماء: القتل معه لا به، فلا قصاص، ولكن فيه دية.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح: بعد ما حدث وحدثتكم عن القتل بكل صوره وألوانه سواء أكان القتل مباحا كقتل المسلمين الكافرين في الحرب بينهما، أم القتل العمد، أم القتل الخطأ، أم القتل شبه العمد، لذلك ينبهنا: يجب أن تحتاطوا في هذه المسألة احتياطاً لتتبينوا أين تقع سيوفكم من رقاب إخوانكم، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ... ﴾.
2553
فيأيها المؤمنون حين تضربون في سبيل الله فتبينوا وتثبتوا فلا تعمل سيوفكم أو رماحكم أو سهامكم إلا بعد أن تتثبتوا: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.
إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾، والخطاب الإيماني حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل: «يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا»، ولكنه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ﴾، فهو يطلب المؤمنين به بحكم لأنهم آمنوا به إلهاً، وما داموا قد آمنوا فعليهم اتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام أن المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول: «ما العلة» أو «ما الحكمة» وذلك حتى لا تدخل نفسك في متاهة. ولا نزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو في أذهان الناس كثيراً، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء، ولذلك نقول: الشيء إذا عرفت حكمته صرت إلى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم.
ونرىلآن المسرفين على أنفسهم الذين لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، إلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر - على سبيل المثال - نجده قد تليف، وأن أي جرعة خمر ستسبب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع؟. لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسياً، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذاً لأمر إلهي؟. لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال: إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار؟ إنه
2554
قد يحرم أمراً تأديباً للإنسان. ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد الزوج يقول لزوجه: إياك أن تعطي ابننا بعضاً من الحلوى التي أحضرتها. هو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه.
والحق يقول: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠].
فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصاً، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجهاً من الوجوه اللا نهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان: أنا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال.
وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلِّم بها.
والحق يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ والإيمان هو الحيثية، يا من آمنت بي إلهاً قادراً حكيماً.. اسمع مني ما أريده منك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ والضرب - كما نعرف - هو انفعال الجارحة على شيء آخر بعنف وقوة. وقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ [النساء: ١٠١].
معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب في الأرض؟. لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فحين يحبون أن يُخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الرّي. ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هي عملية إثارة الأرض. إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله﴾ [المزمل: ٢٠].
وما دامت المسألة ضرباً في الأرض فهي تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة.
2555
ولذلك يقال: الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان في الأرض أخرجت له خيراً. والضرب في سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠].
فالإعداد هو أمر يسبق المعارك، وكيف يتم الإعداد؟
أن نقوم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وأن نقوم بإعداد العُدُد. والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة. ولذلك يقال في الأثر الصالح:
«إن السهم الواحد في سبيل الله يغفر الله به لأربعة».
لماذا؟. لأن هناك إنساناً قام بقطع الخشب الذي يتم منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الإمام، وهناك واضع النَّبْل، وهناك من يرمي السهم بالقوس.
والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا، فيقول: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ﴾ ونعرف أن الضرب في سبيل الله لا يكون في ساعة الجهاد فقط، ولكن في كل أحوال الحياة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. و «تبينوا» تعني ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمراً أو تعملوا عملاً إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قوماً بظلم.
ولهذا الأمر قصة، «كان هناك رجل اسمه» محلِّم بن جَثّامة «، وكان بينه وبين آخر اسمه» عامر بن الأضبط الأشجعي «إحن - أي شيء من البغضاء - وبعد ذلك كان» محلم «في سرية، وهي بعض من الجند المحدود العدد وصادف» عامراً الأشجعي «، وكان» عامر «قد أسلم، لذلك ألقى السلام إلى» محلّم «فقال» محلم «: إن عامراً قد أسلم ليهرب مني. وقتل محلم عامراً. وذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
2556
وسأله الرسول: ولماذا لم تتبين؟. ألم يلق إليك السلام، فكيف تقول إنه يقول:» السلام عليكم «لينقذ نفسه من القتل؟
فقال:»
محلّم «: استغفر لي يا رسول الله.
وإذا ما قال أحد لرسول الله: استغفر لي يا رسول الله.. فرسول الله ببصيرته الإيمانية يعرف على الفور حالَ طالبِ الاستغفار، فإن قال رسول الله:»
غفر الله لك «فهو يعلم أنه كان معذوراً، وإن لم يقل رسول الله ذلك، فيعرف طالب الاستغفار أنه مذنب. ولأن بين» محلم «و» عامر «إحنا وعداوات قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمحلم:» لا غفر الله لك «؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علم أن الإحَنَ والبغضاء هي التي جعلته لا يدقق في أمر» عامر «.
وقال الرواة: ومات محلّم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكروا ذلك له فقال:»
إن الأرض تقبل مَن هِو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة «».
وعندما كانت تأتي آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبي يريد ألا يفتتن الناس في هذه الآيات، ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبي.. انكسفت الشمس.. وقال الناس: انكسفت الشمس من أجل ابن رسول الله. ولكن لأن المسألة مسألة عقائد فقد وضحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما جاء في الحديث الشريف:
عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله».
2557
لقد قالوا ذلك تكريماً لرسول الله وابنه إبراهيم، ولكن الرسول يريد أن يصحح للناس مفاهيمهم وعقائدهم. وكذلك عندما لفظت الأرض «محلم» حتى لا يفتتن أحد ولا يقولن أحد. إن كل من لا تلفظه الأرض هو حسن العمل، فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا. لذلك قال رسول الله: إن الأرض قبلت من هو شر من «محلم» ولكن الله أراد أن يعظ الناس حتى لا يعودوا لمثلها، ولو لم يقل ذلك، فماذا كان يحدث؟. قد تحدث هِزة قليلة في جزئية ولظن الناس وقالوا: إن كل من لم تلفظه الأرض فهو حسن العمل، ولكان أبو جهل في حال لا بأس به، وكذلك الوليد بن المغيرة.
لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضع مثل هذه الأمور في وضعها الصحيح؛ لذلك قال: إن الأرض تقبل من هو شر من «محلم»، ولكن الله أراد أن يعظ القوم ألاّ يعودوا.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾.
وعلى ذكر ذلك قال لي أخ كريم: كنت أسمع إحدى الإذاعات وأخطأوا وقالوا (فتثبتوا) بدل من (فتبينوا) في قوله الحق: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾ [الحجرات: ٦].
وأقول: هذه قراءة من القراءات، والمعاني دائماً ملتقية، ف «تبين» معناها «طلب البيان ليَثبت». ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل، وهذا حال غير حالنا؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة.
ونحن نعرف أن هناك حروفاً مشتبهة الصورة. ف «الباء» تتشابه مع كل من «الياء»، وال «نون» وال «تاء» وال «ثاء»، ولم تكن هذه النقط موجودة، ولم تكن هذه العلامات موجودة قبل الحجاج الثقفي، وكانوا يقرأون من ملكة العربية ومن
2558
تلقين واتباع للوحي، ولذلك: «فتبينوا» ممن تتكون؟ تتكون من: «ال» فاء «ولم يحدث فيها خلاف، وال» تاء «وبقية الحروف هي ال» باء «وال» ياء «وال» نون «.
وكل واحدة من هذه الأحرف تصلح أن تجعلها»
تثبتوا «بوضع النقاط أو تجعلها» تبينوا «، إنه خلاف في النقط. ولو حذفنا النقط لقرآناها على أكثر من صورة، والذي نتبعه في ذلك هو ما ورد عن الوحي الذي نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفاً ليقرأ ما فيه فقال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة).
ولم يحدث خلاف في ال»
صاد «ولكن حدث خلاف في ال» باء «فهي صالحة لتكون باءً أو نوناً، وكذلك» الغين «يمكن أن تكون» عيْناً «وقراءة هذه الآية في قراءة» حفص «. ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً﴾ [البقرة: ١٣٨].
وعندما قرأها الإنسان الذي لا يجيد حفظ القرآن قال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة). والمعنى واحد.
ولكن قراءة القرآن توقيفية، واتباع للوحي الذي نزل به جبريل - عليه السلام - من عند الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يصح لأحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ولا تمنعه، ولذا قالوا: أن للقراءة الصحيحة أركانا هي:
١ - أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية.
٢ - أن تكون موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية.
٣ - أن يصح إسنادها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بطريق يقيني متواتر لا يحتمل الشك.
2559
وهذه الضوابط نظمها صاحب طيبة النشر فقال:
وكل ما وافق وجه نحو وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان
وقوله تعالى: ﴿قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
هذه هي قراءة «حفص» وقرأ الحسن: (قال عذابي أصيب به من أساء).
صحيح أن كلمة «أساء» وهي من الإساءة فيها ملحظ آخر للمعنى، لكن القراءة الأخرى لم تبعد بالمعنى، وعلى ذلك فكلمة «فتبينوا» تُقْرَأُ مرة «فتثبتوا» ومرة تقرأ «فتبينوا»، سواء في هذه الآية التي نحن بصددها، أو في الآية التي يقول فيها الحق: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾ [الحجرات: ٦].
و «التبين» القصد منه التثبت، والتبين يقتضي الذكاء والفطنة فيرى ملامح إيمان من ألقى إليه بالسلام: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام﴾ [النساء: ٩٤].
فالمسلم يجب أن يفطن كيلا يأخذ إنساناً بالشبهات، ولذلك نجد النبي يحزم الأمر مع أسامة بن زيد الذي قتل واحداً بعد أن أعلن هذا الواحد إسلامه، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فكيف بلا إله إلا الله. هل شققت عن قلبه».
ويقول إسامة للرسول: لقد قال الشهادة ليحمي نفسه من الموت. وتكون الإجابة: هل شققت قلبه فعرفت، فكيف بلا إله إلا الله؟! فلقول: «لا إله إلا الله» حرمة.
2560
وقد روى أن الذي نزلت فيه هذه الآية هو محلم بن جثامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيد، وقيل غير ذلك. عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ وقال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾.
وأهل العلم بالله يقولون: نجاة ألف كافر خير من قتل مؤمن واحد بغير حق.
وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه المقداد، وذلك فيما رواه البزار بسنده عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا يا رسول الله: إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال: ادعوا لي المقداد.
يا مقداد أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلأا الله غدا؟ قال: فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ و «ألقي إليكم السلام» يعني جاءكم مستسلماً، أو قال تحية المسلمين، وليس من حق أن يلقي الاتهام بعدم الإيمان على من جاء مسلماً، أو يقول بتحية الإسلام.
وكلمة «عرض» إذا ما سمعناها، فلنعلم أنها في المعنى اللغوي: كل ما يعرض ويزول وليس له دوام أو استقرار أو ثبات. ونحن البشر أعراض؛ لأنه ليس لنا دوام أبداً، ويقال: إن الإنسان عرض إذا ما قاس الواحد منا نفسه بالنسبة للكون؛ لأن
2561
الكون لا يتم بناؤه على الإنسان؛ فالكون كله الذي نراه هو عرض وسيأتي يوم ويزول.
والعرض بالنسبة للإنسان أن الواحد منا قد يرى نفسه صحيحاً أو سقيماًَ، هنا تكون الصحة عرضاً وكذلك المرض، وكذلك السمنة والنحافة، ولون البشرة إذا ما لوحته الشمس قد يتغير أبيض إلى أسمر، وكذلك الغنى والفقر. وكل شيء يمكن أن يذهب في الإنسان ويجيء هو عرض بالنسبة للإنسان، ويكون الإنسان جوهراً بالنسبة له. فإذا قسنا الإنسان بالنسبة إلى ثابت عنه، فالإنسان عرض، فهذا أمر نسبي، وإلاّ فكل شيء عرض، وكل شيء زائل ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾.
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾. وعرض الحياة الدنيا هنا هو أن يطمع القاتل فيما يملكه الذي يلقي السلام، وقد يكون عرض الحياة الدنيا - هنا - هو كبرياء نفس الإنسان عندما ينتقم من إنسان بينه وبينه إحن أو بغضاء.
وعندما نجد كلمة «عرض» وهذا العرض في «الحياة الدنيا» نفهم - إذن - أنه عرض فيما لا قيمة له. ولذلك نجد الشاعر يعبر عن مشاعر الإنسان حينما يحزن لفقدان شيء كان عنده، وينسى الإنسان أنه هو شخصياً معرض للموت، أي للذهاب عن الدنيا فيقول:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة فكيف آسي على شيء لها ذهبا
وكذلك عرض الحياة الدنيا. ونفهم كلمة «دنيا» على أساس الاشتقاق، فهي من «الدنو» ومقابله «العلو» ومقابل «الدنيا» هو «العليا». ومن يُقَوِّم عرض الحياة الدنيا التقويم الصحيح فهو يملك الذكاء والحكمة والفطنة؛ لذلك لا يأخذ هذا العرض ممن سيقتله عندما يلقي إليه بالسلام؛ لأنه يستخدم البصيرة الإيمانية ويأخذ الحياة الدنيا ممن خلقها.
والعاقل حتى لو أراد الحياة الدنيا فهو يطلبها من صاحب الحياة كلها، ولا يأخذها من إنسان مثله، فالحياة الدنيا لا تنفعه؛ بدليل أنه معرض للقتل.
2562
﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب النفس البشرية التي خلقها، ويعلم تعلقها بالأشياء التي تنفعها أو تطيل نفعها، مثال ذلك: أنّ الإنسان يكون سعيداً إذا ما ملك غداءه، وتكون سعادته أكثر إذا امتلك الغداء والعشاء، ويكون أكثر سعادة واطمئنانا عندما يملك في مخزن طعامه ما يقيت شهراً أو عاماً، ويكون أكثر إشراقاً عندما يمتلك أرضاً يأخذ منها الرزق، ويمتلكها أولاده من بعده.
إذن فالإنسان يحب الحياة لنفسه، ويحب امتداد حياته في غيره، ولذلك يحزن الإنسان عندما لا يكون له أولاد؛ فهو يعرف أنه ميت لا محالة، لذلك فهو يتمنى أن تكون حياته موصولة في ابنه، وإن جاء لابنه ابن وصار للإنسان حفيد فهو يسعد أكثر؛ لأن ذكره يوجد في جيلين. ونقول لمثل هذا الإنسان: لنفرض أنك ستحيا ألف جيل، لكن ماذا عن حالتك في الآخرة، أَلاَ تُنَشِّئ ولدك على الصلاح حتى يدعو لك؟
ولذلك يفاجئ الحق النفس البشرية التي تهفو إلى المغانم، ويكشفها أمام صاحبها، فيأتي بالحكم الذي يُظهر الخواطر التي تجول في النفس ساعة سماع الحكم. وعندما أراد سبحانه أن يُحرم دخول المشركين البيت الحرام، وسبحانه يعلم خفايا النفوس؛ لأن المشركين حين يدخلون البيت الحرام بتجاراتهم وأموالهم إنما يدخلون مكة من أجل موسم اقتصادي يبيعون فيه البضائع التي يعيشون من ريعها وربحها طوال العام. وساعة يحرم سبحانه دخول المشركين إلى البيت الحرام، يعلم أن أهل الحرم ساعة يسمعون هذا الحكم سيتذكرون مكاسبهم من التجارة، فقال: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨].
وقبل أن يقول أهل الحرم في أنفسهم: وكيف نعيش ونصرف بضائعنا؟، يتابع سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨].
2563
وبذلك يكشف الحق أمام النفوس خواطرها الدفينة؛ فهو العليم بأن الحكم ساعة ينزل ما الذي سيحدث في أذهان سامعيه؛ فهو خالقهم، ولذلك فلا أحد له من بعد ذلك تعليق!
وقوله الحق: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ ينطبق في كل عصر وفي كل زمان. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾. فسبحانه الرزّاق الوهاب. ولذلك أنا أحب أن يزين الناس أماكنهم ومساكنهم بلوحات فنية مكتوب عليها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨].
وكذلك قول الحق: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: ٩٤].
لعل ذلك يمس قلوب من بيدهم الأمر، فيلتفتوا إلى الله. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.
وفي هذا دعوة لأن يمر من نزل فيهم القرآن بتاريخهم القريب ويسترجعوا ماضيهم، فلماذا يتهم المسلم أخاه الذي يلقي السلام بأنه مازال كافراً ولا يفكر أن الذي ألقى إليه السلام هو إنسان يستر إسلامه بين أهله لأنهم كفار؟ وكان المسلم يمر بهذه الحالة عند بداية الإسلام؛ كان المسلم يستر إسلامه عن أهله الذين كانوا كافرين.
وكان المسلمون الأوائل قلة مستذلة تداري إيمانها، فهل سلط الله عليهم أحداً يجترئ على التفتيش على النوايا؟ إذن فمثلما حدث لكم قدروه لإخوانكم.
﴿كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ﴾ والحق يمن عليهم بأنهم صاروا أهل رفعة بكلمة الإسلام، وصار المسلم منهم يمشي عزيز الجانب ولا يجرؤ واحد أن يوجه إليه أي شيء. ويأتي سبحانه هنا بكلمة «فتبينوا» مرة أخرى بعد أن قالها في صدر الآية. وكان مقصوداً بها ألا يقتل مسلم إنساناً ألقى السلام لمجرد أن المسلم يفكر في
2564
المسألة الاقتصادية، وها هوذا يعيد سبحانه كلمة «تبينوا»، لقد جاءت أولاً كتمهيد للحيثية، وهي قوله: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ وتأتي هاهنا نتيجة للحيثية ﴿فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.
وسبحانه حين يشرع لا يشرع عن خلاء، لكنه خبير بكل ما يصلح النفس الإنسانية، ولا يعتقدن أحد أنه خلقنا ثم هدانا إلى الإيمان ليخذلنا في نظام الحياة، بل خلقنا وأعطانا المنهج لنكون نموذجاً، وليرى الناس جميعاً أن الذي يحيا في رحاب المنهج تدين له الدنيا.
﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾. كأن الحق يقول: إياك أن تستر بلباقتك شيئاً وتخلع عليه أمراً غير حقيقي؛ لأن الذي تطلب جزاءه هو الرقيب عليك والحسب، ويعلم المسألة من أولها إلى آخرها. فالذي قتل إنساناً ألقى إليه السلام، لم يقتله لأنه لم يُسلم، ولكن لأن بينهما إحناً وبغضاء، وعليه أن يعرف أن الله عليم بما في النفوس.
ويريد الحق أن يتثبت المؤمن من نفسه حين يوجهها إلى قتل أحد يشك في إسلامه أو في إيمانه، وحسبه من التيقن أن يبدأه صاحبه بالسلام، ويُذَكّر الحق سبحانه المؤمنين بأنهم كانوا قبل ذلك يستخفون من الناس بالإيمان وكانوا مستترين.
فإذا كنتم أيها المؤمنون قد حدث لكم ذلك فاحترموا من غيركم أن يحصل منه ذلك، وثقوا تمام الثقة أن الله عليم خبير، لا يجوز عليه - سبحانه - ولا يخفي عليه أن يدس أحدكم الإحن النفسية ليُبرر قتل إنسان مسلم كانت بينه وبين ذلك المسلم عداوة.
وبعد أن تكلم الحق عن قتال المؤمنين للكافرين، وبعد أن تكلم عن تحريم قتل المؤمن للمؤمن حتى لا يفقد المؤمنون خلية الإيمان، بل تكون حياة كل مؤمن خيراً للحركة الإيمانية في الأرض، لذلك علينا أن نحافظ على حياة كل فرد مؤمن لأنه سيساعدنا في اتساع الحركة الإيمانية، فإن حدث أن قتل مؤمن مؤمناً خطأ، فقد بين سبحانه وتعالى الحكم في الآية رقم ٩٢ من سورة النساء.
2565
وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين الفارق بين من قعد عن الجهاد في سبيل الله ومن جاهد فقال سبحانه: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين... ﴾.
2566
ولهذه الآية قصة.. واقتناص الخواطر من هذه القصة يتطلب يقظة تعلمنا كيف يخاطب الحق خلقه. فقد حدثنا سيدنا زيد بن ثابت وهو المأمون على كتابه وحي رسول الله. وهو المأمون على جمع كتاب الله من اللخاف ومن العظام ومن صدور الصحابة، حدثنا فقال:
- كنت إلى جنب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فغشيته السكينة - وهذه كانت دائماً تسبق نزول الوحي على رسول الله - فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن تَرُضَّها.
أي أن فخذ رسول الله كانت ثقيلة.
والوحي ساعة كان يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربّما كان يصنع في كيماوية رسول الله تأثيرا مادياً بحيث إذا كان على دابة عرف الناس أنه يوحي إليه؛ لأن الدابة كانت تئط تحته فإذا كانت فخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
2566
على فخذ زيد بن ثابت، فلا بد أن يشعر سيدنا زيد بثقل فخذ رسول الله وقد جاءه الوحي. قال زيد: خشيت أن ترضّ فخذه فخذي - أي تصيبها بالدّق الشديد أو الكسر. فلما سُري عنه قال اكتب: «لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون»، فقال سيدنا ابن أم مكتوم، وكان - كما نعلم - ضريراً مكفوف البصر قال: فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين يا رسول الله؟
إنها اليقظة الإيمانية من ابن أم مكتوم، لأنه فهم موقفه من هذا القول، ومن أنه لا يستطيع الجهاد، وعلم أنه إن كانت الآية ستظل على هذا فلن يكون مستوياً مع من جاهد، ولهذا قال قولته اليقظة: فكيف بمن لا يستطيع ذلك يا رسول الله؟
فأخذت رسول الله السكينة ثانيةً، ثم سرى عنه، فقال لزيد بن ثابت: اكتب:
﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله﴾.
فكأنها نزلت جواباً مطمئناً لمن لا يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم،. ولقائل أن يقول: وهل كانت الآية تنتظر أن يستدرك ابن أم مكتوم ليقول هذا؟.
ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن ينبه كل مؤمن أنه حين يتلقى كلمة من الله أن يتدبر ويتبيّن موقعه من هذه الكلمة؛ فإذا كان ذلك حال سيدنا ابن أم مكتوم فيما سمع رسول الله عن ربه فهو يعلمنا كيف نستحضر دورنا من أية قضية نسمعها. وحينما سمع ابن أم مكتوم الآية رأي موقفه من هذه الآية، وهذا ما يريده الحق من خلقه.
وقال زيد بن ثابت: فكتبتها.
إنها الدقة في أداء زيد بن ثابت لتدلنا على صدق الرواية، فحين يكتب أولاً ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون﴾ ألا تلتصق كلمة «والمجاهدون» بكلمة «المؤمنين» فإذا زاد الحق سبحانه وتعالى ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ فأين تكتب؟
كأن زيد بن ثابت كان عليه أن يقوم بتصغير الكتابة ليكتب ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ بين كلمة ﴿مِنَ المؤمنين﴾ وكلمة ﴿والمجاهدون﴾.
قال سيدنا زيد بن ثابت: لقد
2567
نزلت ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ وحدها وكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع الكتف - فقد كانوا يكتبون على أكتاف العظم - والكتف التي كتب عليها سيدنا زيد بن ثابت كانت مشروخة وكانت هذه علامة بها.
ويريد الحق بذلك أن ينبه المؤمنين إلى أنهم حين يتلقون كتاب الله يجب أن يتلقوه بيقظة إيمانية بحيث لا تسمع آذانهم إلا ما يمر على عقولهم أولاً ليفهم كل مؤمن موقفه منها، وتمر الآية على قلوبهم ثانية لتستقر في ذاتهم عقيدة.
كذلك كانت قصة زيد بن ثابت وابن أم مكتوم والوحي في هذه الآية:
﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون﴾.
وهناك حالات يأتي الفعل فلا يصلح له فاعل واحد بل لا بد له من اثنين.. مثال ذلك عندما نقول: تشارك زيد وعمرو. وعندما نصف لاعبي الكرة، نجد من يتلقف الكرة واحداً بعد الآخر، فنقول: تلقف اللاعبون الكرة رجلاً بعد رجل.
وعندما يقول الحق: ﴿لاَّ يَسْتَوِي﴾ فهذا يدل على أن هناك شيئين لا يتساويان، فأيهما غير المساوي للآخر؟. كلاهما لا يتساوى مع الآخر، ولذلك يكون الاثنان في الإعراب «فاعلا»، فلا يساوي المجاهدون القاعدين ولا يساوي القاعدون المجاهدين؛ لأن كلا منهما فاعل ومفعول.
وعندما يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين﴾ فما هو مقابل «القاعدين» في الآية الكريمة؟ إنه «المجاهدون»، لكن المقابل في الحياة العادية لل «القاعدين» هو «القائمون»، ومقابل «المجاهدين» هو «غير المجاهدين». وبذلك كان من الممكن القول. لا يستوي القاعدون والقائمون، أو أن يقال: لا يستوي المجاهدون وغير المجاهدون. فما الحكمة في مجيء القاعدين والمجاهدين؟
إن الحق يريد أن يبين أنه في بداية الإسلام كان كلمؤمن حين يدخل الإسلام يعتبر نفسه جندياً في حالة تأهب، وكانوا دائماً على درجة استعداد قصوى ليلبوا النداء فوراً؛ فالمسلم لم يكن في حالة استرخاء، بل في تأهب وكأنه واقف دائماً ليلبي
2568
النداء، وكأن القاعد هو الذي ليس من صفوف المؤمنين ويبين لنا ذلك قول الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَةً أو فزعه طار إليها يبتغي القتل والموت مَظَانَّه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأوْدية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير».
فإن لم يكن المؤمن متأهباً فهو قاعد، والقاعد - كما نعرف - هو ضد القائم.
والحق يقول: ﴿فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ [النساء: ١٠٣].
من هذا القول نعرف أن المقابل للقيام هو القعود.
وعلينا أن نعرف أن لكل لفظ معنىً محدداً، فبعضنا يتصور أن القعود كالجلوس، ولكن الدقة تقتضي أن نعرف أن القعود يكون عن قيام، وأن الجلوس يكون عن الاضطجاع، فيقال: كان مضطجعاً فجلس، وكان قائماً فقعد.
وعندما يقول الحق هنا: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ فالقعود مقابل القيام، فكأن المجاهد حالته القيام دائما، وهو لا ينتظر إلى أن يقوم، لكنه في انتباه واستعداد. ويوسع الحديث الشريف الدائرة في مسئوليات المجاهد فيرسم صورة للمقاتل أنه على أتم استعداد وعلى صهوة الفرس وممسك باللجام حتى لا تدهمه أية مفاجأة.
وهل كانت هناك مظنة أن يستوي القاعد والمجاهد؟. لا، ولكن يريد الله أن يبين قضية إيمانية مستورة، فيظهرها بشكل واضح لكل الأفهام.
ونحن نقول للطالب: «إن من يستذكر ينجح ومن لا يستذكر يرسب» وهذه
2569
مسألة بديهية، لكننا نقولها حتى نجعلها واضحة في بؤرة شعور التلميذ فيلتفت لمسئولياته.
وعندما يقول الحق: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله﴾ هل معنى ذلك أن عقلاً واحداً في زمن رسول الله كان يظن المساواة بين القاعد والمجاهد؟ لا، ولكن الحق يريدها قضية إيمانية في بلاغ إيماني من الله. وبعد ذلك يلفت الأنظار إلى صفة القاعدين الذين لا يستوون مع المجاهدين فيقول: ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾. والضرر هو الذي يفسد الشيء مثل المرض، وهذا ما يوضحه قوله الحق: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩١ - ٩٢].
فالضعف ضرر أخرج الإنسان عن مقومات الصحة والعافية، والمرض ضرر، والذين لا يجدون مالاً ينفقون منه، ولا الذين يجيئون لرسول الله فلا يكون بحوزة الرسول دواب تحملهم، فينصرفون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وكان المؤمن من هؤلاء يحزن لأن رسول الله لم يجد له فرساً أو دابة تنقله إلى موقع القتال: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢].
لقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. وكلمة «تولوا» هنا لها معنى كبير، فلم يقل الحق: إن أعينهم تفيض من الدمع من غير التولي، هم لا يدمعون أمام
2570
النبي، ولكنهم يدمعون في حالة توليهم، وهذا انفعال نفسي من فرط التأثر؛ لأنهم لا يشتركون في القتال.
وكلمة «تفيض» تدل على أن الدمع قد غلب على العين كلها، فهم لا يصطنعون ذلك، لكن الانفعال يغمرهم؛ لأن الذي يتصنع ذلك يقوم بتعصير عينيه ويبذل جهداً للمُراءاة، ولكن انفعال المؤمنين الذين لا يقاتلون يغلبهم فتفيض أعينهم من الدمع.
وهناك آية أخرى حدد فيها الحق الحالات التي لا يطالب فيها المؤمن بالقتال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [الفتح: ١٧].
هؤلاء - إذن - هم أولو الضرر.
﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ وما داموا لا يستوون فمن الذي فيهم يكون هو الأفضل؟.
ذلك ما توضحه بقية الآية التي تحمل المقولة الإيمانية الواضحة: ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾. وسبحانه وعد الاثنين بالحسنى الإيمانية؛ لأن كُلاًّ منهما مؤمن، ولكن للمجاهد درجة على القاعد. وإن تساءل أحد: ولماذا وعد الله القاعد من أولى الضرر بالحسنى؟ وهنا أقول: علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما نقرأ القرآن؛ لأن الذي أصابته آفة فناله منها ضرر، فصبر لحكم الله في نفسه، ألا يأخذ ثواباً على هذه؟.
لقد أخذ الثواب ولا بد - إذن - أن يعطي الحق من لم يأخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثواباً آخر حتى يكون الجميع في الاستطراق الإيماني سواء. لذلك يقول سبحانه:
﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾.
والحسنى في أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التي أصابته، والذي لم يصب بضرر سيأخذ ثواب الجهاد، وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من الله.
2571
﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً﴾.
وسبحانه يضع أجراً جديداً للقائم مجاهداً على القاعد، ففي صدر الآية جاء ب «درجة» أعلى للقائم مجاهداً، وهنا ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾. ما تفسير هذا الأجر العظيم؟. التفسير يجيء في قوله: ﴿دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً... ﴾.
2572
فسبحانه قد أعطى لأولي الضرر درجة، وفضّل المجاهد في سبيل الله على القاعد من غير أولي الضرر درجات عدة. وساعة نسمع كلمة «درجة» فهي المنزلة، والمنزلة لا تكفي فقط للإيضاح الشامل للمعنى، ولكن هي المنزلة الارتقائية. أما إن كان التغير إلى منازل أخرى أقل وأدنى، فنحن نقول: «دركات» ولا نقول:
«درجات».
ولكن هل الدرجات هي لكل المجاهدين؟. لا؛ لأننا لا بد أن نلحظ الفرق بين الخروج من الوطن وترك الأهل للجهاد؛ وعملية الجهاد في ذاتها؛ فعملية الجهاد في ذاتها تحتاج إلى همة إيمانية، ولذلك جاء الحق بنص في سورة التوبة: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ
2572
الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: ١٢٠ - ١٢١].
هنا يوضح الحق أنه لا يصح لأهل المدينة والأعراب الذين حولهم أن يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله، ولا يرضوا لأنفسهم بالسعة والدعة والراحة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الشدة والمشقة، فكما ذهب إلى القتال يجب أن يذهبوا؛ لأن الثواب كبير، فلا يصيبهم تعب إلا ولهم عليه أجر العمل الصالح، ولا يعانون من جوع إلا ولهم أجر العمل الصالح، ولا يسيرون في مكان يغيط الكفار إلا ولهم أجر العمل الصالح. ولا ينالون من عدو نَيلا إلا ويكتبه الله لهم عملاً صالحاً، فسبحانه يجزي بأحسن ما كانوا يعملون.
وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات، فواحد ينال الدرجات جميعاً. وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ، فأخذ درجة النصب أي التعب، وثالث أصابته مخمصة، ورابع جمع ثلاث درجات، وخامس جمع كل الدرجات.
وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها: الإصابة بالظمأ، النَّصَب - أي التعب - الجوع، ولا يطأون موطئا يغيط الكفار أي لا ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبسطون سلطانهم عليهم، والمقصود الحصن الحصين عند الكافر، النَّيْل: التنكيل بالعدو، النفقة الصغيرة أو الكبيرة، وقطع أي واد في سبيل الله، وهذه هي الدرجات السبع التي يجزي الله عنها بأحسن مما عمل أصحابها، كما فسرها العلماء، فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل من جهد. فمن المجاهدين من ينال درجة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع درجات.
وعندما نقرأ الآيتين معاً:
{لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً
2573
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: ٩٥ - ٩٦].
نجد أن الله يُرغّب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين، وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة الله هي العليا. فإذا ما آمن الإنسان فليس له أن يتخلف عن الصف الإيماني؛ لأنه ما دام قد تقع نفسه بالإيمان فلمَ لا ينضم إلى ركب من ينفع سواه بالإيمان؟. ويريد الله أن يعبئ كل مَنْ مسّ الإيمان قلبه، وحتى ولو كان موجوداً في مكان يسيطر عليه الكفار، فيدعوه لأن يتخلص من التفاف الكفار حوله وليخرج منضماً إلى إخوانه المؤمنين. وليشيع الإيمان لسواه ويعبر عملياً عن حبه للناس مما أحبه لنفسه. ولكن هناك من قالوا: نحن ضعاف غير قادرين على الهجرة أو القتال في سبيل الله. فيأتي القرآن بقطع العذر لأي إنسان يتخلف عن ركب الجهاد في سبيل الله وسبيل نصرة دين الله فيقول الحق: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة... ﴾.
2574
هؤلاء هم الذين يظلمون أنفسهم بعدم المشاركة في الجهاد وهذا ما يحدث لهم عندما تقبض الملائكة أرواحهم. و «التوفي» معناه «القبض» ؛ فيقال: «توفيت دَيْني» أي قبضته مستوفياً. ويقال: «توفي الله الإنسان» أي قبضه إليه مستوفياً. والقبض له أمر أعلى، وهو الحق. ومن بعد ذلك هناك موكل عام هو «عزرائيل» ملك الموت، وهناك معاونون لعزرائيل وهم الملائكة. فإذا نسبت الوفاة فهي تنسب مرة لله، فالله يتوفى: لأنه الآمر الأعلى، وتنسب الوفاة للملائكة في قوله:
2574
﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١].
وتنسب الوفاة إلى عزرائيل. ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١].
وإذا ما أطلق الحق هذه الأساليب الثلاثة في وصف عملية الوفاة فهل هذا اختلاف وتناقض وتضارب في أساليب القرآن؟ لا، بل هو إيضاح لمراحل الولاية التي صنعها الله، فهو الآمر الأعلى يصدر الأمر إلى عزرائيل، وعزرائيل يطلق الأمر لجنوده. وفي حياتنا ما يشرح لنا هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالتلميذ قد يذهب إلى المدرسة بعد امتحان آخر العام ويعود إلى بيته قائلاً: لقد وجدت نفسي راسباً، والسبب في ذلك هم المدرسون الذين قصدوا عدم إنجاحي.
ويرد عليه والده: المدرسون لم يفعلوا ذلك، ولكن اللوائح التي وضعتها الوزارة لتصحيح الامتحانات هي التي جعلتك راسباً. فيرد التلميذ: لقد جعلني الناظر راسباً. وهذا قول صحيح؛ لأن الناظر يطبق القوانين التي يحكم بمقتضاها على الطالب أن يكون ناجحا أو راسبا. وقد يقول التلميذ: إن وزير التربية والتعليم هو من جعلني راسباً. وهذا أيضاً صحيح؛ لأن الوزير يرسم مع معاونية الخطوط الأساسية التي يتم حساب درجات كل تلميذ عليها، فإذا قال التلميذ: لقد جعلتني الدولة راسباً، فهو قول صحيح؛ لأنه فهم تسلسل التقنين إلى مراحل العلو المختلفة، وأي حلقة من هذه الحلقات تصلح أن تكون فاعلاً. ومن هنا نفهم أن الحق سبحانه حين يقول: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
فهذا قول صحيح، مثل قوله سبحانه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١].
2575
ومثل قوله سبحانه: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١].
كل هذه الأقوال صحيحة؛ لأنها تتعلق بمدارج الآمر.
﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ والظلم هو أن تأتي لغير ذي الحق وتعطيه ما تأخذ من ذي الحق، والظلم يقتضي ظالماً ومظلوماً وأمرا وقع الظلم فيه. فكيف يكون الإنسان ظالماً لنفسه وتتوفاه الملائكة على ذلك؟. لا بد أنهم فعلوا ما يستحق ذلك. فساعة تأتي للإنسان الشخصية المعنوية الإيمانية بعد أن آمن بالله وآمن بالمنهج، ثم تحدثه نفسه بالمخالفة، هنا يواجه صراعاً بين أمرين: مسئولية الشخصية الإيمانية التي تَقَبَّل بها المنهج من الله، ووازع النفس التي تلح عليه بالانحراف.
ويدور ما هو أشبه بالجوار بين المسئولية الإيمانية ووزاع النفس الملح بالانحراف. وعندما تتغلب النفس الإيمانية يعرف الإنسان أن نفسه صارت مطمئنة وسعيدة، ويقول لنفسه: إنك إن طاوعت وازع الانحراف تكن قد حققت شهوة عاجلة ستكْوى بها في آخر الأمر، وأنت برفضك للشهوة تكون قد أنصفت نفسك. ولو طاوعت شهوتك العاجلة تكون قد ظلمت نفسك.
ومثل ذلك يحدث في حياتنا العادية: عندما تدلل الأم ابنها بينما يطلب منه والده الاستذكار ويحاول أن يردعه ليقوم بمسئوليته الدراسية، إن هذه الأم تظلم ابنها، وكذلك يعطينا الحق فكرة عن الصراع بين الشخصية الإيمانية والنفس الانحرافية التي تريد الهوى فقط فيقول: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧].
هنا يقول هابيل لقابيل:
- ولماذا تقتلني؟. إنني لست أنا الذي تقبل القربان ولكن الذي تقبله هو الله فما ذنبي؟.
2576
ويأتي بعد ذلك الحوار: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ [المائدة: ٢٨].
ولنلتفت إلى هذا القول الحكيم: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: ٣٠].
كأن هناك صراعاً في نفس قابيل بين أمرين «اقتل» و «لا تقتل»، النفس الإيمانية تقول: «لا تقتل» والنفس الشهوانية تقول: «بل عليك أن تقتل».
وتغلبت النفس الشهوانية عندما طوعت له قتل أخيه، ومهدت له ذلك. وبعد أن قتل أخاه، وضاعت شِرَّة الغضب صار من النادمين، ثم بدأت الحيثيات تظهر وتتضح. ويبعث الله غراباً يبحث ويحفر في الأرض ليواري جثة غراب آخر. هنا قال قابيل: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ [المائدة: ٣١].
وهكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ما شرع الله للنفس لينفعها نفعاً أبدياً مستوفياً، ولكن النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذي لا خلود له، وعندما يحقق الإنسان هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه.
﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ إذن فالملائكة تسأل ظالمي أنفسهم: ﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أي لماذا ظلمتم أنفسكم؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم وهاجرتم وانضممتم لموكب الإيمان وموكب الجهاد؟. ، ولماذا ظللتم في أماكنكم محجوزين ومحاصرين ولا تستطيعون الحركة ولا تستيطعون الفِكاك؟ وتكون إجابة
2577
الذين ظلموا أنفسهم: ﴿قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض﴾. وبالله عندما يحكي لنا الله هذه الصورة التي تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للاستفادة منها؟. طبعاً لا؛ لأنه لن يكون لنا قدرة الاستدراك لنصحح الخطأ.
والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا، وتنبيه لكل منا: احذروا أن يأتي موقف ويحدث فيه ما أوضحته لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب.
وعلى كل منكم أن يبحث أمر نفسه الآن.
﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض﴾ وكلمة ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض﴾ تفيد أن قوماً استضعفوهم، أي أنهم لم يكونوا قادرين على الخروج والهجرة ولا يعرفون السبيل إليها، وخافوا على أموالهم وديارهم، والقوم الذين استضعفوهم قالوا لهم: إن خرجتم لا تأخذوا شيئاً من أموالكم. هذه هي بعض مظاهر الاستضعاف. وهنا تقول الملائكة ما يفيد أن هذا الكلام لا يليق ولا ينفع، تقول الملائكة: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾.
وكأن هذا تنبيه آخر، وإعلان أن مثل هذا القول ومثل تلك الحجة لا قيمة لها؛ لأن الذي يمسكه مكانه وماله دون الله إنما هو من وضع وربط يقينه بالأسباب. أما الذي يضع منهج الله فوق مكانه وولده وكل شيء فهذا هو الذي وثق بالله لأنه هو المسبب وهو مانح ومعطي الأسباب.
﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ وهذا القول على لسان الملائكة قادم من القانون الأعلى، فقد خلق الحق الخلق جميعاً واسكنهم في الأرض، وهذه الأرض ليست لأحد دون أحد، فمن يضق به مكان فليذهب إلى مكان آخر.
وإذا كان الإنسان من ظلمه وجبروته وعتوه قد صنع تحديدا للمكان، فلا ينتقل إنسان من مكان إلى مكان إلا بعد سلسلة طويلة من التعقيدات التي تحول دون الانتقال من مكان إلى مكان، فذلك مناقضة لقضية الخلافة في الأرض؛ لأن الخلافة لم توزع كل جماعة على أرض ما. ولكن الإنسان، كل إنسان خليفة في الأرض كل الأرض، مصداقاً لقول الحق:
2578
﴿والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ [الرحمن: ١٠].
فقد جعل الله الأرض متضعة مسخرة مذللة للإنسان، والأرض هي أي أرض، والأنام هم كل الأنام. وإن لم ينتبه العالم إلى هذه القضية ويجعلها قضية كونية اجتماعية، سيظل العالم في فساد وشقاء. فالذي يجعل الحياة في الأرض فاسدة هو خروج بعض الآراء التي تقول: إن الكثافة السكانية تمنع أن نجد الطعام لسكان بلد ما. يقولون ذلك في حين أن أرضاً أخرى تحتاج إلى أيد عاملة، ولذلك نجد أن البشرية أمام وضع مقلوب، فأرض في بلاد تحتاج إلى أناس، وأناس من بلاد يحتاجون إلى الأرض.
ومن الواجب أن تسيح المسألة فتأخذ الأرض التي بلا رجال ما تحتاجه من الرجال من البلاد التي لا أرض فيها. وهذا الضجيج الذي يعلو في الكون سببه أنه يوجد في كون الله أرض بلا رجال ورجال بلا أرض، فإذا ما ضاق مكان بإنسان فله أن يذهب إلى مكان آخر، ولو كان الأمر كذلك لسعدت البشرية، ومن ينقض هذه القضية فعلية أن يعرف أنه ياخذ الخلافة في الأرض بغير شروطها، فالذي يفسد الأمر في الأرض أن الإنسان الخليفة في الأرض نسي أنه خليفة واعتبر نفسه أصيلاً في الكون.
وما دام قد اعتبر نفسه أصيلاً في الكون فهذا هو الفساد.
﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: ٩٧].
إذن، فإن أقام الإنسان على ضيم ولم يعمل فكره وعقله ولم يطرح قضية الكون أمامه ليرى الأرض التي تسعه فيهاجر فيها فعلية أن يعرف أنه مهدد بسوء المصير؛ لأن الله قد جعل له الكون كله ليكون فيه خليفة، أمّا الذين سوف ينجون من هذا العقاب ومن تعنيف الملائكة لهم ساعة الوفاة فهم مَن يقول عنهم الحق في الآية التالية:
2579
﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال... ﴾.
2580
وعلينا أن نعرف أن هناك فرقاً بين «مستضعف دعوى ومستضعف حقيقي»، فهناك مستضعف قد قبل استضعاف غيره له وجعل من نفسه ضعيفاً. هذا هو «مستضعف دعوى».
أما «المستضعف الحقيقي» فهو مِن هؤلاء الذين يحددهم الحق:
﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾. هؤلاء هم المستضعفون فعلاً حسب طبيعة عجزهم من الرجال والنساء والولدان.
هل الولد من الولدان يكون مستضعفاً؟ نعم؛ لأن الاستضعاف إما أن يكون طارئاً وإما أن يكون ذاتياً؛ فبعض من الرجال يكون مملوكاً لغيره ولا يقدر على التصرف أو الذهاب، وكذلك النساء؛ فالمرأة لا تستطيع أن تمشي وحدها وتحمي نفسها، بل لا بد أن يوجد معها من يحميها من زوج أن محرم لها، وكذلك الولدان؛ لأنهم بطيعتهم غير مكلفين وهم بذلك يخرجون عن نطاق التعنيف من الملائكة لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
وهذه دقة في الأداء القرآني، فالإنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالاحتيال، والاحتيال هو إعمال الفكر إعمالاً يعطي للإنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل. فقد تكون القوة ضعيفة. ولكن بالاحتيال قد يوسع الإنسان من فرص القوة. ومثال ذلك: الإنسان حين يريد أن يحمل صخرة، قد لا يستطيع ذلك بيديه، لكنه يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع تحت العتلة عجلة، ليدحرج الصخرة، هذه هي حيلة من الحيل، وكذلك السَّقالات التي نبني عليها، إنها حيلة.
والذي قام ببناء الهرم، كيف وضع الحجر الأخير على القمة؟ لقد فعل ذلك
2580
بالحيلة، والذي جلس لينحت مسلة من الجرانيت طولها يزيد على العشرة الأمتار، ثم نقلها وأقامها إنّه فعل ذلك بالحيلة. فالحيلة هو فكر يعطي الإنسان قدرة فوق قدرته على المقدور عليه، كذلك معرفة السبيل إلى الهجرة. وكانت معرفة الطرق إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في زمن رسول الله تحتاج إلى خبرة حتى يتجنب الواحد منهم المفازات والمتاهات، وحينما قال الرسول بالهجرة أحضر دليلاً للطريق، وكان دليله كافراً، فلا يتأتى السير في مثل هذه الأرض بلا دليل.
ولننظر إلى قول الحق سبحانه: ﴿فأولئك عَسَى... ﴾.
2581
﴿فأولئك﴾ إشارة إلى من جاء ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية: ﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٩٨].
ومع ذلك فإن الله حين أشار إلى هؤلاء المستضعفين بحق قال:
﴿فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ [النساء: ٩٩].
وكان مقتضي الكلام أن يقول الحق: «فأولئك عفا الله عنهم»، لكن الحق جاء ب «عسى» ليحثهم على رجاء أن يعفو الله عنهم، والرجاء من الممكن أن يحدث أَوْ لا يحدث. ونعرف أن «عسى» للرجاء، وأنها تستخدم حين يأتي بعدها أمر محجوب نحب أن يقع.
فقد ترجو شيئاً من غيرك وتقول: عساك أن تفعل كذا. وقد يقول الإنسان:
2581
عساي أن أفعل كذا، وهنا يكون القائل هو الذي يملك الفعل وهذا أقوى قليلاً، ولكن الإنسان قد تخونه قوته؛ لذلك فعليه أن يقول: عسى الله أن يفعل كذا، وفي هذا الاعتماد على مطلق القوة. وإذا كان الله هو الذي يقول: ﴿عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾، فهذا إطماع من كريم قادر.
وبعد أن يذكر لنا القصة التي تحدث لكل من مات وتوفته الملائكة ظالماً نفسه بأن ظل في أرض ومكث فيها، وكان من الممكن أن يهاجر إلى أرض إيمانية إسلامية سواها؛ ومع ذلك فالذي يضع في نفسه شيئاً يريد أن يحقق به قضية إيمانية فهو معان عليها لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... ﴾.
2582
الذي يهاجر في سبيل الله سيجد السعة إن كان قد وضع في نفسه العملية الإيمانية. وفي البداية كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة؛ لأنهم لم يكونوا آمنين في مكة على دينهم.
ولذلك قيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسط الله له كونه واستعرض قضية العدالة في الكون، فلم يقبل النبي إلا أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة، ولا بد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة في ذلك الزمان هي أرض بلا فتنة.
وقد يقول قائل: ولماذا لم يختر النبي أن يهاجر المهاجرون الأوائل إلى قبيلة عربية في الجنوب أو في الشمال؟
2582
لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها، فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن هناك أي بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش. ولذلك استعرض سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البلاد جميعاً إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، والعلة في الذهاب إلى الحبشة أن هناك ملكاً لا يظلم عنده أحد. وكان العدل في ذاته وساماً لذلك الملك وسماها المؤمنون دار أمن، وإن لم تكن دار إيمان. وأما الهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار الإيمان. وعلينا أن نعرف نحن الذين نعيش في هذا الزمان أنه لا هجرة بعد الفتح، إلا إن كانت هجرة يقصد بها صاحبها المعونة على طاعة الله. وهو ما يوضحه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وهناك هجرة باقية لنا وهي الحج، أو الهجرة إلى طلب العلم، أو الهجرة لأن هناك مجالاً للطاعة أكثر، فلنفترض أن هناك مكاناً يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد، فيترك أهل الإيمان هذا المكان إلى مكان فيه مجال يأخذ فيه الإنسان حرية أداء الفروض الدينية، كل هذه هجرات إلى الله. والنية في هذه الهجرات لا يمكن أن تكون محصورة فقط في طلب سعة العيش. ولذلك لا يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم في هذا الزمان هو سعة العيش.
وها هو ذا الإمام على - كرم الله وجهه - يقول: عجبت للقوم يَسْعَوْنَ فيما ضُمِن - بالبناء للمفعول - لهم ويتركون ما طلب منهم. فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر مضمون لهم من خالقهم جل وعلا: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٠٠].
ولن يجد المهاجر إلا السعة من الله، والشاعر يقول:
2583
وقد يقول الإنسان: إنني أطلب سعة الرزق بالهجرة، ونقول: أنت تبحث عن وظيفة لها شكل العمل وباطنها هو الكسل لأنك في مجال حياتك تجد أعمالاً كثيرة.
ونجد بعضاً ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتباً، بينما يبحث المجتمع عن العامل الفني بصعوبة، كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة مع الكسل، لا مع بذل الجهد.
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً﴾ وساعة تقرأ كلمة «مراغم» تعرف أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون. ومادة «مراغم» هي «الراء والغين والميم» والأصل فيها «الرّغام» أي «التراب». ويقال: سوف أفعل كذا وأنف فلان راغم، أي أنف فلان يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه. وما دام هناك إنسان سيفعل شيئاً برغم أنف إنسان آخر، فمعناه أن الثاني كان يريد أن يستذله وأراد أن يرغمه على شيء، لكنه رفض وفعل ما يريد.
وعندما يرى الإنسان جباراً يشمخ بأنفه ويتكبر، فهو يحاول أن يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل مكانه هذا الأنف في التراب، ويقال في المثل الشعبي: أريد أن أكسر أنف فلان.
وعندما يهاجر من كان مستعضفا ويعاني من الذلة في بلده، سيجد أرضاً يعثر فيها على ما يرغم أنف عدوه. فيقول العدو: برغم أنن ضيقت عليه راح إلى أحسن مما كنت أتوقع. ويرغم الإنسان بهجرته أنف الجبارين.
وكلمة «مراغم» هي اسم مفعول، وتعني مكاناً إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذي كان يستضعفك، فهل هناك أفضل من هذا؟.
2584
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً﴾ أي أنه سبحانه يعطي المهاجر أشياء تجعل من كان يستضعفه ويستذلّه يشعر بالخزي إلى درجة أن تكون أنفه في الرَّغام.
والمستضعف في أرضٍ ما يجد من يضيق عليه حركته، لكنه عندما يهاجر في سبيل الله سيجد سعة ورزقاً.
ويتابع الحق الآية: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ ولا أحد يعرف ميعاد الموت. فإن هاجر إنسان في سبيل الله فقد لا يصل إلى المراغم؛ لأن الموت قد يأتيه، وهنا يقع أجره على الله. فإذا كان سبحانه قد وعد المهاجر في سبيله بالمكان الذي يرغم أنف خصمه وذلك سبب، ومن مات قبل أن يصل إلى ذلك السبب فهو قد ذهب إلى رب السبب، ومن المؤكد أن الذهاب إلى رب السبب أكثر عطاءً. وهكذا نجد أن المهاجر رابح حياً أو ميتاً.
﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ وكلمة ﴿وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ أي سقط أجره على الله.
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد: أنت عندما تهاجر إلى أرض الله الواسعة، إن أدركك الموت قبل أن تصل إلى السعة والمراغم، فأنت تذهب إلى رحابي. والمراغم سبب من أسبابي وأنا المسبب.
وحتى نفهم معنى: ﴿وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ علينا أن نقرأ قوله الحق: ﴿وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم﴾ [النمل: ٨٢]
والوقوع هنا هو سقوط، ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه، بل هو الذهاب إلى الله. ولماذا يستخدم الحق هنا «وقع» بمعنى «سقط» ؟
هو سبحانه يلفتنا إلى ملحظ هام: حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه، فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله،
2587
ويعرف الجزاء مَن يذهب إليه معرفة كاملة.
وهكذا يجب أن نفهم قوله الحق: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٠٠]
والله غفور رحيم حتى لمن توانى قليلاً، وذلك حتى يلحق بالركب الإيماني ويتدارك ما فاته؛ لأن الله يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه. والهجرة تقتضي ضرباً في الأرض، وتقتضي الجهاد.
وبعد أن جعل الله الإسلام أركاناً، جاء فحمل المسلم ما يمكن أن يؤديه من هذه الأركان، فأركان الإسلام هي: الشهادة؛ والصلاة؛ والصوم؛ والزكاة؛ والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، والمسلم ينطق بالشهادة ويؤدي الصلاة، ولكنه قد لا يملك مالاً؛ لذلك يعفيه الحق من الزكاة. وقد يكون صاحب مرض دائم فلا يستطيع الصوم، فيعفيه الله من الصوم. وقد لا تكون عنده القدرة على الحج فيعفيه الحق من الحج. أما شهادة «لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» فقد لا يقولها المسلم في العمر إلا مرة واحدة. ولم يبق إلا ركن الصلاة وهو لا يسقط عن الإنسان أبداً ما دامت فيه الصلاحية لأدائها، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة»
ولأن الصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبداً فقد جمع الله فيها كل الأركان، فعند إقامة الصلاة يشهد المسلم ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وخلال الصلاة يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلام أيضا، وهكذا نجد الصلاة أوسع في الإمساك عن ركن الصيام. فالإنسان وهو يقيم
2588
الصلاة يحبس نفسه عن أشياء كثيرة قد يفعلها وهو صائم، فالصوم - مثلاً - لا يمنع الإنسان من الحركة إلى أي مكان لكن الصلاة تمنع الإنسان إلا من الوقوف بين يدي الله.
إذن فالصلاة تأخذ إمساكاً من نوع أوسع من إمساك المؤمن في الصيام. والزكاة هي إخراج جزء من المال، والمال يأتي به الإنسان من الحركة والعمل. والحركة والعمل تأخذ من الوقت. وحين يصلي المسلم فهو يزكي بالأصل، إنه يزكي ببذل الوقت الذي هو وعاء الحركة، إذن ففي الصلاة زكاة واسعة.
والحج إلى البيت الحرام موجود في الصلاة؛ لأن المسلم يتحرى الاتجاه إلى البيت الحرام كقبلة في كل صلاة، وهكذا.
ولذلك اختلفت الصلاة عن بقية الأركان. فلم تشرع بواسطة الوحي، وإنما شرعت بالمباشرة بين رب محمد ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولأن هذه هي منزلة الصلاة نجد الحق يحذرنا من أن يشغلنا الضرب في الأرض عنها، بل شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها «صلاة الحرب وصلاة الخوف» حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة، ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه.
كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض... ﴾
2589
والضرب في الأرض مقصود به أن يمشي المؤمن في الأرض بصلابة وعزم وقوة. والقصر في الصلاة هو اختزال الكمية العددية لركعاتها. وفي اللغة «اختصار»
2589
و «اقتصار». «الاقتصار» أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، و «الاختصار» هو أخذ الكل بصفة موجزة. مثال ذلك عندما نختصر كتاباً ما فنحن نوجز كل المعاني التي فيه في عدد أقل من الكلمات.
وقد يفكر إنسان في أن يكتب خطاباً، ثم يقول لنفسه: سأرسل برقية في الموضوع نفسه. وهنا لا بد أن يختزل الكلمات لتحمل معاني كثيرة في ألفاظ موجزة.
والإسهاب - كما نعلم - لا يأخذ من الوقت مثلما يأخذ الإيجاز؛ فعندما يريد الإنسان الإيجاز فهو يقدح ذهنه - في وقت أطول - ليصل إلى المعاني في كلمات أقل.
ويحكى عن سعد زغلول - زعيم ثورة ١٩١٩ المصرية - أنه كتب رسالة لصديق فأطال، وأنهى رسالته بهذه الكلمات:
وإني أعتذر إليك عن التطويل فليس عندي الوقت الكافي للإيجاز. ويحكي التاريخ عن الخليفة المسلم الذي أراد أن يهدد قائد الروم.. فكتب إليه؛ أما بعد: فسآتيك بجيش أوله عندك وآخره عندي. وهكذا أوجز الخليفة حجم الخطر الداهم الذي سيواجه ملك الروم من جيش عرمرم سيملأ الأرض إلخ.
وينقل التاريخ عن أحد قادة العرب وموقفه القتالى الذي كان صعباً في «دومة الجندل» أنه كتب إلى خالد بن الوليد كلمتين لا غيرهما «إياك أريد» ولم يقل أكثر من ذلك ليتضح من هذا الإيجاز حجم المعاناة التي يعانيها. وقد أوردنا هذا الكلام ونحن بصدد الحديث عن القصر والإيجاز.
والقصر في الصلاة هو أن يؤدي المؤمن كُلاًّ من صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلاً من أربع ركعات، أما الصبح والمغرب فكلاهما على حاله، الصبح ركعتان، والمغرب ثلاث ركعات. وحكمة مشروعية ذلك أن الصلاة في وقت الحرب تقتضي ألا ينشغل المقاتلون عن العدو، ولا ينشغلوا أيضا عن قول الحق: ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء: ١٠٣]
2590
فإذا شرع الله للخوف صلاة، وللحرب صلاة فمعنى ذلك أنه لا سبيل أبداً لأن ينسى العبد المؤمن إقامة الصلاة. وإذا كانت الصلاة واجبة في الحرب فلن تكون هناك مشاغل في الحياة أكثر من مشاغل الحرب والسيف. وصلاة الحرب - أي صلاة الخوف - جاء بها القرآن، أما صلاة السفر فقد جاءت بها السنة أيضا، وفيها يقصر المؤمن صلواته أيضاً: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [النساء: ١٠١]
ولو رأى الكافرون المؤمنين مصفوفين جميعاً في الصلاة فقد يهجمون عليهم هجمة واحدة. ولذلك شرع الحق قصر الصلاة.
ويكون الخطاب من بعد ذلك موجهاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة... ﴾
2591
وحين يقول الحق: ﴿فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ﴾ نفهم أن ينقسم المؤمنون إلى طائفتين: طائفة تصلي مع رسول الله، وأخرى ترقب العدو وتحمي المؤمنين.
ولكن كيف تصلي طائفة خلف رسول الله ولا تصلي أخرى وكلهم مؤمنون يطلبون شرف الصلاة مع رسول الله؟ ويأمر الحق أن يقسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصلاة ليصلي بكل طائفة مرة، ليشرف كل مقاتل بالصلاة خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقصر الصلاة - كما عرفنا - ينطبق على الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء أما صلاة الفجر وصلاة المغرب فلا قصر فيهما، فليس من المتصور أن يصلي أحد ركعة ونصف ركعة، وفي علم الحساب نحن نجبر الكسور إلى الرقم الأكبر.
وقد صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة الخوف بهيئات متعددة، ولا مانع من أن نلم بها إلماماً عاجلاً؛ لأن تعليم هذه الصلاة عادة يكون واجباً على الأئمة والعلماء الذين يصلون بالجيوش في حالة الحرب. ولصلاة الخوف طرق وكيفيات: كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقَسِّم الجيش إلى قسمين؛ قسم يصلي معه وقسم يرقب العدو، ويصلي بكل فرقة ركعتين.
وهناك طريقة أخرى وهي أن يصلي بطائفة وفرقة ركعة واحدة، ثم ينصرفون وتأتي الطائفة التي حمت الطائفة الأولى في أثناء الصلاة لتصلي هذه الطائفة الثانية ركعة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهنا يسلم رسول الله لأنه أنهى الصلاة.
وبعد ذلك تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية التي عليها في القصر وتسلم، ثم تصلي الطائفة الثانية التي عليها في القصر وتسلم.
2592
وهناك كيفية ثالثة وهي أن تأتي الطائفة الأولى تصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركعة، ولا يصلي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معها الركعة الثانية بل يظل واقفاً قائماً إلى أن تخرج من صلاتها بالتسليم لتنادي الطائفة التي تقف في مواجهة العدو لتصلي خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الركعة الثانية بالنسبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينما هي الركعة بركعتها الثانية ويسلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بها وتنال الطائفة الأولى بشرف بدء الصلاة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحظى الطائفة الثانية بشرف السلام معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهنا نسأل: هل هذه الصلاة بهذا الأسلوب مقصورة على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإتماماً به لأن الصلاة معه هي الشرف؟ فكيف يصلي المقاتلون الخوف بعده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال العلماء: إذا كنت تعتبر القائمين بأمر القيادة هم خلفاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الولاية فتقام صلاة الخوف على صورتها التي جاءت في القرآن، ولكن إذا كان لكل جماعة إمام فلتصل كل جماعة صلاة القصر كاملة خلف الإمام.
﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ وهذه الأسلحة المقصود بها الأسلحة الحقيقية مثل السيف أو الرمح أو النبلة أو البندقية فيأخذها المقاتل معه، أما من معه سلاح ثقيل فلن يأخذه بطبيعة الحال إلى الصلاة.
﴿فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ والقول القرآني هنا ليس مجرد ألفاظ تقال ولكنها ألفاظ لها مدلولات من رب العالمين، فمن قدموا إلى الصلاة أولاً: تركوا خلفهم من يحميهم.
ولكن الطائفة الثانية التي سوف تترك المواقع من أجل الركعة الثانية خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبالهم مشغول بذواتهم وبحماية من يصلون، فلعلهم حين يذهبون إلى الصلاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلهيهم المسألة؛ لذلك قال الله: ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ وهكذا نجد أن الطائفة الأولى ملزمة بأخذ السلاح، والطائفة الثانية ملزمة بأخذ الحذر والسلاح.
2593
وقد يقول قائل: صحيح إن الأسلحة تؤخذ، ولكن كيف يؤخذ الحذر وهو عملية معنوية؟
ونقول: إنه سبحانه يصور المعنويات ويجسمها تجسيم الماديات حتى لا يغفل الإنسان عنها، فكأن الحذر آلة من آلات القتال، وإياك أيها المقاتل أن تغفل عنها.
وهذا أمر يشيع في أساليب القرآن الكريم، فالحق سبحانه يقول: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: ٩]
والدار هي مكان باستطاعة الإنسان أن يتبوأه ويقيم به، فما معنى أن يتبوأ الإنسان الإيمان وهو أمر معنوي؟. إنه سبحانه في هذا القول يصف الأنصار الذين أكرموا وفادة المهاجرين، والدار - كما نعرف - هي المكان الذي يرجع إليه الإنسان، والإيمان هو مرجع كل أمر من الأمور.
إذن فقد جعل الحق سبحانه الإيمان كأنه يُتبوأ، أي جعله شيئاً ينزل الإنسان فيه، والإيمان كذلك حقاً، والدار في هذا القول مقصود بها هنا المدينة المنورة، حيث استقبل الأنصار المهاجرين. ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ [الحشر: ٩]
وهكذا يجسم الحق المعنويات لنفهم منها الأمر وكأنه أمر حسّي، تماماً كما قال الحق: ﴿فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾.
وهذا ما يوضح لنا لماذا أمر الله أن يأخذ المسلمون الحذر والأسلحة؛ لأن المقاتل يجب أن يخاف على سلاحه ومتاعه. فلو فقدها المقاتل لفقد أداة القتال ولصارت
2594
أدوات قتاله لعدوه. فحين يأخذ المقاتل السلاح من عدوه، يتحول السلاح إلى قوة ضد العدو.
لذلك كان التحذير من فقد الأسلحة والأمتعة حتى لا تضاف قوة السلاح والمتاع إلى قوة العدو؛ لأن في ذلك إضعافاً للمؤمن وقوة لخصمه.
وعدو الإسلام يود أن يغفل المسلمون عن الأسلحة والمتاع، والمؤمن ساعة الصلاة يستغرق بيقظته مع الله، ولكن على الإنسان ألا يفقد يقظته إن كان يصلي أثناء الحرب، فلا يصح أن ينسى الإنسان سلاحه أثناء القتال حتى وهو يصلي، فالقتال موقف لله، فلا تفصل القتال في سبيل الله عن الصلاة لله.
﴿وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ والغفلة هي نسيان طارئ على ما لا يصح أن يُنسى، وفي هذا نحذير واضح؛ لأن الغفلة أثناء القتال هي حلم للكافرين حتى يحققوا هدفهم المتمثل في قول الله: ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾. فمعسكر الكفر يتمنى أن يهجم على المؤمنين في لحظة واحدة، هذا هو المقصود بقوله: ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾.
ولكن لنر من بعد ذلك قول الحق: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ [النساء: ١٠٢]
ونجد هنا أن كلمة «الحذر» تكررت، وسبحانه بجلال جبروته أعد للكافرين عذاباً مهيناً، وفي ذلك بشارة منه أن الكافرين لن ينالوا من المؤمنين شيئاً، فلماذا جاء الأمر هنا بأخذ الحذر؟. إن أخذ الحذر لا يعني أن الله تخلى عن المؤمنين، ولكن لتنبيه المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب، ولا يغفلوا عن المسبب لأنه سبحانه هيأ وأعد العذاب المهين للكافرين. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾.
وهذا ما يجب أن نفهمه حتى لا يتوهم أحد أن الله عندما نبه كثيراً بضرورة الأخذ بالحذر ثم أنه يتخلى عنا، لا. إنّه سبحانه يوضح لنا أن نأخذ بالأسباب ولا نهملها
2595
وهو القائل ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾.
ومن بعد ذلك قال الحق: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة... ﴾
2596
كأن المؤمن مطالب بألا يسوِّف ويُؤَخِّر الصلاة عن وقتها، وأن يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وذلك لتكون الصلاة دائماً في بؤرة شعور الإنسان، بل إن المؤمن مطالب بذكر الله حتى وهو يسايف عدوه وينازله، فهو يحمل السيف ولسانه رطب بذكر الله ويقول: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
والإنسان حين يسبح الله حتى وهو في حالة الاشتباك مع العدو لا ينساه الله. والمؤمن قد يؤخر الصلاة في حالة الاشتباك مع العدو والالتحام به، ولكن عليه أن يدفع قلبه ونفسه إلى ذكر الله، ففي وقت الصلاة يكون مع ربه فليذكره قائماً وقاعداً وفي كل حال، وبعد أن يطمئن المسلم لموقفه القتالي فليقض الصلاة. وأنه لا يترك ربه أبداً بل وهو في الحرب يكون ذلك منه أولى؛ لأنه في حالة الاحتياج إليه سبحانه، والقتال يدفع المؤمن إلى الاستعانة بربه، وإذا كان المسلم يعرف أن لله في أوقاته تجليات، فلا يحرمن واحد نفسه من هذه التجليات في أي وقت، وذكر الله يقرِّب العبد من مولاه - فسبحانه - مع عبده إذا ذكره، فإن كان الإنسان مشبعاً بالاطمئنان وقت الخوف والقتال فليذكر الله ليدعم موقفه بالقوة العليا.
2596
وقوله الحق: ﴿فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ أي إذا انتهى الاشتباك القتالي فعلى المؤمن أن ينتقل من ذكر الله أثناء الاشتباك إلى الصلاة التي حان ميقاتها أثناء القتال. فقد كان ذكر الله وقت الاشتباك من أجل ألا يضيع وقت الصلاة بلا كرامة لهذا الوقت، وبلا كرامة للقاء العبد مع الرب. ولماذا كل ذلك؟ ويأتي القول الفصل: ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾.
وقد أوضح لنا الحق صلاة الخوف، وشرع سبحانه لنا ذكره إذا ما جاء وقت الصلاة في أثناء الاشتباك القتالي، وإذا ما اتفق توقيته مع وقت الصلاة، وشرحت لنا سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيفية قصر الصلاة في أثناء السفر، لماذا كل ذلك؟ لأن الصلاة فرض لا غنى عنه على الإطلاق ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾. أي أن الصلاة لها وقت.
ولا يصح أن يفهم أحد هذا المعنى - كما يفهمه البعض - بأن صلاة الظهر - على سبيل المثال - وقتها ممتد من الظهر إلى العصر، وصحيح أن الإنسان إذا عاش حتى يصلي الظهر قبيل العصر فإنها تسقط عنه، ولكن ماذا يحدث لو مات العبد وقد فات عليه وقت يسعها؟ إذن فقد أثم العبد، ومن يضمن حياته حتى يؤدي الصلاة مؤجلة عن موعد أدائها؟.
وقد يقول قائل: أحياناً أسمع أذان الصلاة وأكون في عمل لا أستطيع أن أتركه؛ فقد أكون في إجراء جراحة.
أو راكباً طائرة. ونقول: أسألك بالله إذا كنت في هذا العمل الذي تتخيل أنك غير قادر على تركه وأردت أن تقضي حاجة، فماذا تصنع؟ إنك تذهب لقضاء حاجتك، فلماذا استقطعت جزءاً من وقتك من أجل أن تقضي حاجتك؟ وقد تجد قوماً كافرين يسهلون لك سؤالك عن دورة المياه لتقضي حاجتك.
وساعة يراك هؤلاء وأنت تصلي فأنت ترى على وجوههم سمة الاستبشار؛ لأن فيهم العبودية الفطرية لله، وتجد منهم من يسهل ذلك ويحضر لك مُلاءة لتصلي فوقها، ويقف في ارتعاش سببه العبودية الفطرية لله، فلا تقل أبداً: إن الوقت لا يتسع للصلاة؛ لأن الله لا يكلف أبداً عبده شيئا ليس في سعته، والحق كلف العبد بالصلاة ومعها الوقت الذي يسعها.
2597
ولله المثل الأعلى، نحن نرى رئيس العمال في موقع ما يوزع العمل على عماله بما يسع وقت كل منهم، فما بالنا بالرب الخالق، ولذلك يقول الحق: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣]
والصلاة رزق عبودي يحررك من أي خوف، وفضلها لا حدود له لأن فارضها هو الخالق المربي، فكيف تبخل على نفسك أن تكون موصولا بربك؟
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم... ﴾
2598
وهذه الآية تذكرة لنا بكيفية الرد على من يدعون التحرر ويحاولون إظهار الإسلام بأنه يصلح للعصر الذي نحياه عندما نؤوله ونطوّعه لمرادات العصر، ناسين مرادات الإسلام؛ فهم يقولون: لقد شرع الحق الحرب في الإسلام لرد العدوان. ونقول لهم: صحيح أن الحرب في الإسلام لرد العدوان، والحرب في الإسلام أيضاً هي لتوسيع المجال لحرية الاعتقاد للإنسان.
إن الذي يخيف هؤلاء أن يكون القتال في الإسلام فريضة، فيقاوم المسلمون الطغيان في أي مكان. وهذه محاولة من أعداء الإسلام لصرف المسلمين حتى لا يقاوموا قهر الناس والطغيان عليهم؛ لأن أعداء الإسلام يعرفون تماماً قوة الإسلام الكامنة والتي يهبها لمن يؤمن به ديناً، وينخدع بعض المسلمين بدعاوى أعداء الإسلام الذين يقولون: إن الإسلام لم يشرع الحرب إلا لرد العدوان.
ولذلك نقول لهؤلاء وأولئك: لا؛ إن الإسلام جاء بالقتال ليحرر حق الإنسان
2598
في الاعتقاد. والمسلم مطلوب منه أن يعلن كلمة الله، وأن يقف في وجه من يقاوم إعلانها، ولكن الإسلام لا يفرض العقيدة بالسيف، إنما يحمى بالسيف حرية المعتقد، فالحق يقول: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم﴾ أي لا تضعفوا في طلب القوم الذين يحاربون الإسلام، والابتغاء هو أن يجعل الإنسان شيئاً بغية له، أي هدفاً وغاية، ويجند لها كل تخطيطات الفكر ومتعلقات الطاقة، كأن الإنسان لا يرد القوم الكافرين فقط ساعة يهاجمون دار الإسلام، ولكن على المسلم أن يبتغيهم أيضاً امتثالاً لقول الله: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم﴾. فعلى المسلمين أن يُعْلُوا كلمة الله، ويدعوا الناس كافة إلى الإيمان بالله. وهم في هذه الدعوة لا يفرضون كلمة الله، لكنهم يرفعون السيف في وجه الجبروت الذي يمنع الإنسان من حرية الاعتقاد. إن على المسلمين رفع الجبروت عن البشر حتى ولو كان في ذلك مشقة عليهم لأن الحق قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]
وقد خلق الله في المؤمن القدرة على أن يبتغي عدو الإسلام ليرفع الجبروت عن غيره من البشر، صحيح أن الحرب مسألة مكروهة من البشر وليست رحلة سهلة، ولكنها أحياناً تكون واجبة، والذين أدركوا الحرب العالمية الثانية عرفوا أن «تشرشل» جاء رئيسا لوزراء بريطانيا بعد «تشمبرلن» الذي عرف عنه أنه رجل سلام، وحاول «تشمبرلن» أن يماطل ويلوح بالسلام مع ألمانيا حتى تستعد انجلترا بالحرب، وعندما استعدت انجلترا أعلن «تشمبرلن» أن سياسته غير نافعة، وجاء «تشرشل» وقاد دفة الحرب، وقال للإنجليز:
- انتظروا أياماً سوداء وانتظروا الجوع.
لقد قال تشرشل ذلك للإنجليز، حتى إذا ما جاء الواقع بأقل من قوله، فهم يستبشرون ويفرحون.
والحق سبحانه يقول: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ﴾.
إن الحرب ترهقهم أيضاً كما ترهقكم، لكنكم أيها المؤمنون تمتازون على الكافرين بما يلي: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾. فأنتم
2599
وهم في الألم سواء، ولكن الاختلاف هو أن المؤمنين يرجون ما لا يرجوه الكافرون، إن المؤمنين يعلمون لحظة دخولهم الحرب أن الله معهم وهو الذي ينصرهم ومن يمت منهم يذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض، وهذا ما لا يرجوه الكفرة.
والحق سبحانه وتعالى يطالب الفئة المؤمنة التي انتهت قضية عقيدتها إلى الإيمان بإله واحد؛ هو - سبحانه - أنشأهم وخلقهم وإليه يعودون، وهذه القضية تحكم حركات حياتهم؛ إنه - سبحانه - يطالبهم أن يؤدوا مطلوبات هذه القضية، وأن يدافعوا عن هذه العقيدة التي تثبت للناس جميعاً أنه لا معبود - أي لا مطاع - في أمر إلا الحق سبحانه وتعالى.
وحين تحكم هذه القضية أناساً فهي توحد اتجاهاتهم ولا تتضارب مع حركاتهم، ويصبحون جميعاً متعاونين متساندين متعاضدين؛ لذلك جعل الله الطائفة المؤمنة خير أمة أخرجت للناس؛ لأن رسولها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير رسول أرسل للناس، وطلب الحق من أهل الإيمان أن يجاهدوا الكافرين والمنافقين لتصفو رقعة الإيمان مما يكدر صفو حركة الحياة.
والحق يعامل خلقه كبشر، إنّه خلقهم ويعلم طبائعهم وغرائزهم ولا يخاطبهم على أنهم ملائكة، وإنما يخاطبهم على أنهم بشر، وهم أغيار، ومن الأغيار أن يصفو لهم أمر العقيدة مرة، وأن تعكر عليهم شهواتهم صفو العقيدة مرة أخرى؛ لذلك يؤكد لهم أن طريق العقيدة ليس مفروشاً بالرياحين والورود، وإنما هو مفروش بالأشواك حتى لا يتحمل رسالة الحق في الأرض إلا من صبر على هذه البلايا وهذه المحن. فلو كانت القضية على طرف الثمام أي سهلة التناول لا مشقة في الحصول عليها وتدرك بدون آلام وبدون متاعب فسيدعيها كل إنسان ويصبح غير مأمون على حمل العقيدة.
من أجل ذلك لم ينصر الله الإسلام أولاً، إنما جعل الإسلام في أول أمره ضعيفاً مضطهداً، لا يستطيع أهله أن يحموا أنفسهم، حتى لا يصبر على هذا الإيذاء
2600
إلا من ذاق حلاوة الإيمان مما يجعله لا يشعر بمرارة الاضطهاد ووطأة التعذيب ومشقته. فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم﴾ أي لا تضعفوا في طلب القوم.
وكلمة ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم﴾ أي في طلبهم تدل على أن الأمة الإسلامية ليس مطلوبا منها فقط أن تدفع عن نفسها عدواناً، بل عليها أن تطلب هؤلاء الذين يقفون في وجه الدعوة لتؤدبهم حتى يتركوا الناس أحراراً في أن يختاروا العقيدة.
إذن فالطلب منه سبحانه: ألاّ تهنوا ولا تضعفوا في طلب القوم الذين يقفون في وجه الدعوة. ثم قال سبحانه: ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ أي إنه إذا كان يصيبكم ألم الحرب والإعداد لها، فأنتم أيضاً تحاربون قوماً يصيبهم ألم المواقع والحروب والإعداد لها؛ فأنتم وهم متساوون في إدراك الألم والمشقة والتعب، ولكن يجب ألا تغفلوا عن تقييم القوة فلا تهملوها؛ لأنها هي القوة المرجحة.
فأنتم تزيدون عليهم أنكم ترجون من الله ما لا يرجون. والأشياء يجب أن تُقَوَّم بغاياتها والثواب عليها. لا يقولن أحد أبداً «هذا يساوي ذلك».. فلا يهمل أحد قضية الثواب على العمل. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في شرح هذه المعادلة حتى تكون الأذهان على بينة منها إعداداً وخوضاً للحرب واحتمالاً لآلامها: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ [التوبة: ٥٢]
عليكم أيها الكافرون أن تعلموا أن الذي ينتظرنا هو إحدى الحسنيين.. إما أن ننتصر ونقهركم، وإما أن نستشهد فنظفر بالحياة الأخرى. وماذا عن تربص المؤمنين بالكافرين: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة: ٥٢]
كفة مَن - إذن - هي الراجحة في المعادلة؟ إنها كفة المؤمنين؛ لذلك قال الحق: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ فلا تضعفوا أيها المؤمنون في طلب القوم لأنهم يألمون كما تألمون، ولكن
2601
لكم مرجِّحا أعلى وهو أنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
ويذيل الحق قضية حث المؤمنين على طلب الكافرين وكيف يزيد المؤمنون على الكافرين بأنهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكافرون فيقول: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ إنه عليم بكل ما يصيب المؤمن من ألم، فلا تعتقد أيها المؤمن أن لك أجراً سيضيع منك؛ فالشوكة التي تشاك بها في القتال محسوبة لك، وهو سبحانه وتعالى حين يتركك تألم أمام الكافر كما يألم. فذلك لحكمة هي أن تسير إلى القتال وأنت واثق من قدرة إيمانك على تحمل تبعات هذا الدين.
عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (ما يُصيب المؤمنَ مِنْ شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة).
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في سبيل نصرة دينه لم يحرم المؤمنين من توجيه يصفي أيضاً حركة الحياة، لماذا؟ لأنه علم أن قوماً يؤمنون به وينضوون تحت لوائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيوضح: أن انضواءكم أيها المؤمنون تحت لواء الإسلام له تبعات، فأنتم أول من يُطبق عليه حكم الله، وإياكم أن تظنوا أنكم بإيمانكم وإعلان إسلامكم لله واتباعكم لرسول الله قد أخذتم شيئاً يميزكم عن بقية خلق الله، فكما قلنا لكم دافعوا الكفار ودافعوا المنافقين نقول لكم أيضاً: دافعوا أنفسكم؛ لأن واحداً قد ينضم إلى الإسلام وبعد ذلك يظن أن الإسلام سيعطيه فرصة ليكون له تميز على غيره، ولمثل هذا الإنسان: نقول لا. ولذلك يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول له: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق..﴾
2602
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه؛ يتكلم فيما يتعلق بالفعل بصفة التعظيم والجمع. مثال ذلك قوله: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا﴾. وهذه «نون الجماعة» حيث يتطلب إنزال القرآن قوى متعددة لا تتوافر إلا لمن له الملك في كل الكون. ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى.. إننا نجد أن رئيس الدولة أو الملك في أي بلد يصدر قراراً فيقول: «نحن فلانا أصدرنا القرار». والملك أو الرئيس يعرف أنه ليس وحده الذي يصدر القرار، ولكن يصدره معه كل المتعاونين معه وكل العاملين تحت رئاسته، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى؟ لذلك فحين يتكلم سبحانه فيما يتعلق بالذات يكون الحديث بواسطة ضمير الأفراد: ﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾ [طه: ١٤]
ولا يأتي هنا ضمير الجمع أبداً، ولا تأتي «نون التعظيم». ولكن في هذه الآية نجد الحق يقول: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾.. ونرى «نون التعظيم» واضحة، فالقرآن كلام الله، ونزول القرآن يتطلب صفات متعاضدة. فسبحانه مرة يقول: ﴿أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب﴾ [العنكبوت: ٤٧]
ومرة يقول: ﴿أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١]
ومرة ثالثة يقول: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠]
ما الغاية من الإنزال؟ الغاية من الإنزال أن يوجد على الأرض منهج يحكم حركة الحياة. والقرآن قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة. وحين يقول الحق: ﴿أَنزَلْنَا عَلَيْكَ﴾ فمعنى ذلك نزول التكليف. وساعة نسمع كلمة ﴿أَنزَلْنَا﴾ فعلينا أن
2603
نعرف أن كل شيء يجيء من الحق فهو ينزل إلينا منه سبحانه، وكلمة «أنزل» تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التي أنزلت هي جهة أعلى، وليست مساوية لمن أُنْزِلَ إليه، وليست أدنى منه أيضاً.
وكلمة ﴿أَنزَلْنَا﴾ تدل على أن جهة أنزلت، وجهة أُنزل إليها، وشيء أنزلته الجهة إلى المُنَزِّلِ إليه. والكتاب هو المنزل. والذي أنزله هو الله. والمُنَزَّلِ إليه هو رسول الله وأمته. وهل أنزل الحق سبحانه الكتاب فقط أو أنزل قبل ذلك كل ما يتعلق بمقومات الحياة؟
وعندما نقرأ هذا القول الكريم: ﴿يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ﴾ [الأعراف: ٢٦]
إنه لباس جاء من أعلى؛ لذلك استخدم الحق كلمة ﴿أَنزَلْنَا﴾ وهو ليس لباساً فقط ولكنه أيضاً يزينكم مأخوذ من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته، فهو لا يواري العورة فحسب ولكنه جميل أيضاً، والأجمل منه أنّه لباس التقوى.
لقد جاء الحق بالمقوم للحياة ستراً ورفاهية، وبعد ذلك أنزل الحق لباس التقوى وهو الخير. فاللباس الأول يواري عورة مادية، ولباس التقوى يواري العورات القيمية والمعنوية، وكل ذلك إنزال من أعلى.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد: ٢٥]
إذن فكلمة «الإنزال» تدل على أن كل ما جاء من قِبَلِ الحق الأعلى إلينا، فهو نازل إلينا بشيء يعالج مادتنا وقوامنا، وبشيء يعالج معنوياتنا وقيمنا.
ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد تناولها الآن: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب﴾ وحين يُطلق الكتاب فالمعنى ينصرف إلى الكتاب الجامع المانع المهيمن على سائر
2604
الكتب وهو القرآن، وإن كان ﴿الكتاب﴾ يطلق على المكتوب الذي نزل على أي رسول من الله سبحانه وتعالى.
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ والحق هو الشيء الثابت الذي لا يأتي واقع آخر لينقضه. وعلى سبيل المثال: أنت في حياتك العادية حين تقول قضية صدق تحكي بها واقعا حدث مهما تكررت روايتك لهذه التفاصيل مدة عشرين سنة فهي لا تتغير؛ لأنها مطابقة للواقع. وأنت حين تقولها تستحضر الواقع الذي حدث أمامك. ولكن إذا حَدّثَ إنسان بقضية كذب لا واقع له. فماذا يكون موقفه؟ سيحكي القضية مرة بأسلوب، وإن مر عليه أسبوع فهو ينسى بعضاً مما قاله في أول مرة فيحكي وقائع أخرى، ذلك أن ما يرويه ليس له واقع؛ لذلك يقول كلاماً مغايراً لما قاله في المرة الأولى، وهنا يعرف السامع أن هذه المسألة كاذبة.
إذن فالحق هو الشيء الثابت الذي لا ينقضه واقع أبداً. وأنزل الله الكتاب بالحق أي أنزله بالقضايا الثابتة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، فهو ثابت لا ينقضه واقع.
ويقال في حياتنا للتلميذ الناجح من أساتذته: لقد أعطيناك المرتبة الأولى على زملائك بالحق. أي أن هذا التلميذ قد أخذ حقه لأنه يستحق هذه المكانة. وقوله الحق سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي إن إنزال الكتاب على سيدنا رسول الله ليبلغه جاء ملتبسا ومرتبطا بالحق ولا ينفك عنه وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل لأن ينزل عليه الكلمات. ووجود معنى بجانب معنى في القرآن هو من أسرار إشعاعات الكلمات القرآنية، فهي لا تتناقض ولكنها توضع بحكمة الخالق لتجلو لنا المعاني.
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾ وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامي وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط، بل ليحكم بين الناس. ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد: هذا مسلم، وذاك كافر، فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وإذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له؛ لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس.
2605
وأنت إن حكمت بين الناس حكماً يتفق مع منطق الواقع والحق.
تجعل الذي حُكم له يشهد أن دينك حق، فعندما يكون الحق مع الكافر، وتحكم على المؤمن بالحكم الحق الذي لا حيف فيه حتى وإن كان عقابا، فالكافر يقرع نفسه على أنه لم يكن من أهل هذا الدين الذي يعترف بالحق ويحكم به ولو كان على مسلم. وأيضاً يعرف المسلم ساعة يُحكم عليه لصالح واحد غير مسلم أن المسألة ليست نسبة شكلية إلى الإسلام، ولكنها نسبة موضوعية، فلا يظنن أحد أن الإسلام قد جاء ليحابي مسلما على أي إنسان آخر، ولكن الإسلام قد جاء ليأخذ الجميع بمنطق الحق، ويطبق على الجميع منهج الحق، وليكون المسلم دائما في جانب الحق.
وسبحانه وتعالى يعطي هذه القضية لواقعة حدثت معاصرة لرسول الله. والوقائع التي حدثت معاصرة لرسول الله بمثابة إستدرار السماء للأحكام، فالقضية تحدث وينزل فيها الحكم، ولو جاءت الأحكام مبوبة وسقطت ونزلت مرة واحدة، فقد تحدث الحادثة ويكون لدى المؤمنين الحكم ويحاولون البحث عنه في الكتاب. لكن إذا ما جاء الحكم ساعة وقوع الحادثة فهو ينصب عليها، ويكون الأمر أدعى للإذعان له؛ لأنه ثبت وأُيِّد ووثِّق بواقعة تطبيقية.
والحكم الذي نزل هو: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾. وعندما يقول سبحانه «أراك» أو «علَّمك» فلتعلم أن تعليم الله هو أكثر تصديقاً من رؤيتك الإنسانية، وكأنك تتمثل الشيء الذي يعلمه لك الله وكأنه مجسد أمامك، وليس مع العين أين.
والواقعة التي حدثت هي: كان في «بني ظفر» واحد اسمه «طعمة بن أبيرق» وسرق «طعمة» درعا، وهذا الدرع كان «لقتادة بن النعمان». وخاف «طعمة» أن يحتفظ بالدرع في بيته فيعرف الناس أنه سرق الدرع. وكان «طعمة» فيما يبدو مشهوراً بأنه لص، فذهب إلى يهودي وأودع عنده الدرع، وكان الدرع في جراب دقيق. وحينما خرج به «طعمة» وحمله صار الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وتَكوَنّ من الدقيق أثراً في الأرض إلى بيت اليهودي وكان اسمه «زيد بن السمين» وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة، ولكنه حلف ما أخذها وما له بها
2606
علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها وقالوا: «لقد سرق ابن السمين». وهنا قال ابن السمين: «أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندي» طعمة بن أبيرق «. وذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجاء» بنو ظفر «وهم مسلمون» وطعمة بن أبيرق «منهم وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو حكمت على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد المسلمين وسيوجد العار بين المسلمين.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل رسوله لِيُعَدِّل منهج الغرائز البشرية. والغريزة البشرية بحسب اندفاعها وقصر نظرتها قد تتصور أن الحكم على المسلم وتبرئة اليهودي هو إضعاف للمسلمين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يقيم الأمر بالقسط فينزل على رسوله: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ [النساء: ١٠٥]
أي إياك أن تقول: إن هذا مسلم ولا يصح أن نلصق به الجريمة التي ارتكبها حتى لا تكون سُبة عليه، وإياك أن تخشى ارتفاع رأس اليهودي؛ لأن هناك لصاً قد ظهر من بين المسلمين. ومن الشرف للإسلام أن يعاقب أي إنسان ارتكب خطأ لأنه مادام قد انتسب للإسلام فعليه أن يصون هذا الانتساب. وعقاب المسلم على خطأ هو شهادة للإسلام على أنه لم يأت ليجامل مسلماً. وعلى كل مسلم أن يعرف أنه دخل الإسلامَ بحق الإسلام.
لقد نظر بعض السطحيين إلى قوله الحق: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ قائلين: إن كان هناك لص أو خائن أو مستغل لقوته فاتركه ولا تنظر إليه ولا تلتفت حتى لا يسبب لك تعباً. ولهؤلاء نقول: لا، فسبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ و «اللام»
التي في أول «الخائنين» هي للملكية أي أن الحق يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يقف موقفا لصالح الخائن، بل عليه أن يخاصم لمصلحة الحق.
2607
وقد حاول العلماء أن يقربوا المسافة فقالوا: ربما لا يتنبه أحد لمسألة اللام وأنها هنا للنفعية، فيكون المنهي عنه أن يقف مسلم موقفا ينفع خائنا، بل لا بد أن يكون على الخائن وليس معه. فاللام هنا تكون بمعنى «عن». كأن الحق يقول: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾. أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين.
ولماذا لم يقل الحق «عن» بدلاً من «اللام» ؟ نقول: إن الغاية من الدفاع عن الخصم أن ترجح أمره وتكون له لا عليه، لذلك جاء الحق ب «اللام» هنا من أجل أن نعرف الغاية من «عن» واضحة. فاللام تفيد ألا ينفع المسلم خائناً، فلا تكون المسالة له، ولذلك جاء الحق بها إيضاحاً واختصاراً لنعرف أن رسوله لن يقف في جانب الخائن ولن يأتي له بما ينفعه. ولذلك قال العلماء: إن اللام هنا بمعنى «عن». والقرآن فيه الكثير من مثل هذا.
وبعض الناس يقول: لماذا لا يأتي باللفظ الواضح الذي يجعلنا نعرف المعنى مباشرة؟ ونقول: إن الملحظية هنا مفيدة لنعرف في أي صف يقف القرآن والرسول المبلغ عن ربه مثال ذلك قوله الحق: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾
[سبأ: ٤٣]
القائل هم الذين كفروا، والمقول له هو الحق. وبعض الناس كان يفترض أن المنطق يقتضي أن يقول الكفار: إنك سحر مبين. وكأن الآية هي: وإذ تتلى آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم أنت سحر مبين. ولنلحظ أنهم لم يقولوا للحق، ولكنهم قالوا عن الحق. ولم يقولوا للحق ذلك، بل قال بعضهم لبعض. و «الحق» هنا مُحَدّثٌ عنه وليس مخاطباً. فقالوا عنه: إنه سحر مبين.
وهناك آية أخرى يقول الحق فيها:
2608
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١]
والقائل هنا هم الذين كفروا. والمقول لهم هم الذين آمنوا. والمقصود هو: أن الذين كفروا قالوا للذين آمنوا لو كان الإسلام خيراً ما سبقتمونا إليه.
ولكن الحق سبحانه أوردها: «لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ» وذلك ليدلنا على أنهم قالوا ذلك في غير محضر المؤمنين، بل هم يتبادلون هذا القول فيما بينهم. وإلا لو أن القول من الكافرين للمؤمنين لكان السياق يقتضي أن يكون: لو كان خيرا ما سبقتمونا إليه.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿واستغفر الله..﴾
2609
والأمر بالاستغفار يجيء على مجرد وجود خاطر التردد بين نصرة المسلم أو نصرة اليهودي، فلم يكن الرسول قد نصر أحداً على أحد بعد، ولكن مجرد هذا الخاطر يتطلب الاستغفار. والذي يصدر الأمر بذلك هو الحق سبحانه لرسوله، ولا اعتراض ولا غضاضة أن يعدل لنا ربنا أمراً ما.
أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كقول «بني ظفر» عندما أرادوا ألاّ يحكم الرسول على اللص الذي من بينهم، وتمحكوا في الإسلام. لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول الله عن هذا الموضوع بالاستغفار، أو أن يستغفر الرسول لهم الله؛ لأنهم لم يقولوا ذلك إلا رغبة في ألا ينفضح أمر المسلمين.
وبعد ذلك يقول الحق:
2609
﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ..﴾
2610
وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثاً، فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور؛ فلا مجادلة في الذين يختانون أنفسهم. والجدل كما نعرف هو الفتل. وحين يفتل الإنسان شيئاً، مثل أن يحضر بعضاً من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلاً، فهو يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلاً للشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العملية: إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة. وكذلك شأن الخصمين؛ كل واحد منهما يريد تقوية حجته، فيحاول جاهداً أن يقويها بما يشاء من أساليب ليّ القول ولحنه أو الفصاحة في الأسلوب. لذلك يأتي الأمر إلى الرسول: لا تقو مركز أي إنسان يختان نفسه.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى «يختانون أنفسهم»، فلا بد أن لهذا معنى كبيراً؛ لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق. ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أَمِنَ المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان نفسه غيره من أجل مصلحة نفسه، أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة، وهذه خيانة للنفس؛ لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون ضمناً مصلحة نفسه. وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلاً ويتطلب افتعالاً، ولذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾.
والآية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة «خوانين» ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتي الحق بكلمة خوَّان. وفيه فرق بين «خائن»، و «خوَّان»، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوَّان فتصدر منه الخيانة مراراً.
2610
أو يكون المعنى هو: أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر يسير صغير، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير. إذن. فمرة تأتي المبالغة في تكرير الفعل، وأخرى في تضخيم الفعل.
ومن لطف الله أنه لم يقل «خائن» ؛ لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلاَّ إذا أخذ الخيانة طبعاً وعادة وحرفة. وقد جاءت لسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - امرأة أخذ ولدها بسرقة، وأراد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة: يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة. قال عمر: كذبت. والله ما كان الله ليأخذ عبداً بأول مرة.
ولذلك يقولون: إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة. فلتعلم أن لها أخوات؛ فالله لا يمكن أن يفضح أول سيئة؛ لأنه سبحانه يحب أن يستر عباده، لذلك يستر العبد مرة وثانية، ثم يستمر العبد في السيئة فيفضحها الله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾، والإثم أفظع المعاصي. والقوم الذين ذهبوا إلى رسول الله صلى الله علسه وسلم ليستشفعوا عنده لابن أبيرق لكي يحكم له الرسول ضد اليهودي، لماذا صنعوا ذلك؟. لأنهم استفظعوا أن يفضح أمر مسلم ويبرأ يهودي، استحيوا أن يحدث هذا، وعالج القرآن هذه القضية وذلك ليأتي بالحيثية التي دعتهم إلى أن يفعلوا هذا ويقضي على مثل هذا الفعل من أساسه، فقال: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله..﴾
2611
إنهم يطلبون البراءة أمام الناس في أن «طعمة» لم يفعل السرقة، ولكن هل يملك الناس ما يملكه الله عنهم؟. إنه سبحانه أحق بذلك من الناس. فإذا كنتم تريدون
2611
التعمية في قضاء الأرض فلن تعموا على قضاء السماء. وهذه القضية يجب أن تحكم حركة المؤمن، فإذا ما فكر إنسان منسوب إلى الإسلام أن يفعل شيئاً يغضب الله فعليه أن يفكر: أنا لو فعلت ذلك لفضحت نفسي أو فضحت ولدي أو فضحت أسرتي أو فضحت المسلمين، وعلى الإنسان المسلم ألا يخشى الناس إن فعل أخ له شيئاً يشين المسلمين، بل عليه أن يأخذ على يديه ويردُه عن فعله. ونقول لمن يستتر عن الناس: أنت استخفيت من الناس، ولم تستخف من الله؛ لذلك فأنت غير مأمون على ولاية.
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول﴾ و «يبيت» أي أنه يفعل أمره في الليل؛ لأن الناس كانت تلجأ إلى بيوتهم في الليل، ومعنى «يبيت» أن يصنع مكيدة في البيت ليلا، وكل تدبير بخفاء اسمه «تبييت» حتى ولو كان في وضح النهار، ولا يبيت إنسان في خفاء إلا رغبة منه في أن ينفض عنه عيون الرائين. فنقول له: أنت تنفض العيون التي مثلك، لكن العيون الأزلية وهي عيون الحق فلن تقدر عليها. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ [النساء: ١٠٨]
حين نسمع كلمة «محيط» فلنعلم أن الإحاطة هي تطويق المحيط للمحاط، بحيث لا يستطيع أن يفلت منه علماً بحاله التي هو عليها ولا قدرة على أن يفلت مِنْه مآلا وعاقبة، فهو سبحانه محيط علماً لأنه هو الذي لا تخفى عليه خافية، ومحيط قدرة فلا يستطيع أن يفلت أحد منه إلى الخارج. وسبحانه محيط علماً بكل جزئيات الكون وتفاصيله وهو القادر فوق كل شيء. فإذا ما سمعنا كلمة «محيط» فمعناها أن
2612
الحق سبحانه وتعالى يحيط ما يحيط به علماً بكل جزئياته فلا تستطيع جزئيه أن تهرب من علم الحق. وسبحانه محيط بكل شيء قدرة فلا يستطيع أن يفلت من مآله شيء من الجزاء الحق.
وبعد ذلك يقول الحق جل وعلا: ﴿هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا..﴾
2613
فالذي جادل عن ابن ابيرق كان يريد أن يبرئ ساحته أمام الناس ويدين اليهودي، وفي أنه قد جادل أمام بشر عن بشر، فهل تنتهي المسألة بهذا اليسر؟ لا؛ لأن الدنيا ليست دار جزاء. وهب أنه أفلت من العقوبة البشرية، أيفلت من عقوبة الله في الآخرة؟ لا، إذن فالذي يجادل يريد أن يعمى على قضاء الأرض، ولن يستطيع أن يعمى على قضاء الحق، ولم يجد من يجادل عن مثل هذا الخطأ يوم القيامة. وليس هذا فقط، ولكن الحق يذيل الآية: ﴿أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ أي فمن إذن يستطيع أن يكون وكيلاً عن هؤلاء يوم القيامة؟. ونعرف أن الوكيل هو الشخص اللبق الذي يختاره بعض الناس ليكون قادراً على إقناع من أمامه. فمن يستطيع أن يقوم بذلك العمل أمام الله؟ لا أحد.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ..﴾
وسبحانه وتعالى حينما خلق الخلق جعلهم أهل أغيار؛ لذلك لم يشأ أن يُخرج مذنباً بذنب عن دائرة قدرته ورحمته، بل إنه - سبحانه - شرع التوبة للمذنب حماية للمجتمع من استشراء شره. فلو خرج كل من ارتكب ذنباً من رحمة الله، فسوف يعاني المجتمع من شرور مثل هذا الإنسان، ويصبح كل عمله نقمة مستطيرة الشر على المجتمع. إذن فالتوبة من الله، مشروعية وقبولاً، إنما هي حماية للبشر من شراسة من يصنع أول ذنب. وهكذا جاءت التوبة لتحمي الناس من شراسة أهل المعصية الذين بدأوا بمعصية واحدة.
إن الذين وقفوا في محاولة تبرئة «ابن أبيرق» انقسموا إلى قسمين: قسم في باله أن يبرئ «ابن أبيرق»، وقسم في باله ألا يفضح مسلماً. وكل من القسمين قد أذنب. ولكن هل يخرجهم هذا الذنب من رحمة الله؟. لا، فسبحانه يقول: ﴿يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ والحق يعفو عن تلك المسألة. إن القسمين جميعا أصبحوا مطالبين بعمل طيب بعد أن أوضح لهم الرسول، وفهموا مراد الحق. وسبحانه يبقيهم في الصف الإيماني، وقد حكم رسول الله على «ابن أبيرق» لصالح اليهودي، وبعد ذلك ارتد «ابن أبيرق»، وذهب إلى مكة مصاحباً لِعادة الخيانة، فنقب حائطا على رجل ليسرق متاعه فوقع الحائط عليه فمات.
والحق سبحانه يضع المعايير، فمن يرتكب ذنباً أو يظلم نفسه بخطيئة ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. ونلاحظ أن بعض السطحيين لا يفهمون جيداً قول الحق: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ فيتساءلون: أليس الذي ارتكب العمل السيئ قد ظلم نفسه؟
ونقول: إن دقة القرآن توضح لنا المعنى؛ فمعنى عمل سوءًا أضرّ بهذا العمل آخرين، إنّه غير الذي ارتكب شيئاً يضرّ به نفسه فقط؛ فالذي سرق أو قتل أو اعتدى على آخر قذفاً أو ضرباً أو إهانة، مثل هذه الأعمال هي ارتكاب للسوء؛ فالسوء هو عمل يكرهه الناس، ويقال: فلان رجل سوء، أي يلقى الناس بما يكرهون.
لكن الذي يشرب الخمر قد يكون في عزلة عن الناس لم يرتكب إساءة إلى أحد،
2614
لكنه ظلم نفسه؛ لأن الإنسان المسلم مطلوب منه الولاية على نفسه أيضاً، والمنهج يحمي المسلم حتى من نفسه، ويحمي النفس من صاحبها، بدليل أننا نأخذ من يقتل غيره بالعقوبة، وكذلك يحرم الله من الجنة من قتل نفسه انتحاراً.
وهكذا نرى حماية المنهج للإنسان وكيف تحيطه من كل الجهات؛ لأن الإنسان فرد من كون الله، والحق يطلب من كل فرد أن يحمي نفسه. فإن صنع سوءا أي أضر بغيره، فهذا اسمه «سوء».
أما حين يصنع فعلاً يضر نفسه فهذا ظلم النفس: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة آل عمران: ١٣٥]
وهل فعل الفاحشة مخالف لظلم النفس؟. إنه إساءة لغيره أيضا، لكن ظلم النفس هو الفعل الذي يسئ إلى النفس وحدها. أو أن الإنسان يصنع سيئة ويمتع نفسه بها لحظة من اللحظات ولا يستحضر عقوبتها الشديدة في الآخرة. وقد تجد إنساناً يرتكب المعصية ليحقق لغيره متعة، مثال ذلك شاهد الزور الذي يعطي حق إنسان لإنسان آخر ولم يأخذ شيئاً لنفسه، بل باع دينه بدنيا غيره، وينطبق عليه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«بادروا بالأعمال ستكون فتنة كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويُمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض الدنيا».
﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ والله غفور ورحيم أزلاً ودائماً، والعبد التائب يرى مغفرة الله ورحمته.
ويقول الحق من بعد ذلك:
2615
﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ..﴾
2616
ويورد الحق كلمة «كسب» عندما يتناول أمراً خَيِّرًا فعله الإنسان، ويصف ارتكاب الفعل السيئ ب «اكتسب»، لماذا؟ لأن فعل الخير عملية فطرية في الإنسان لا يستحيي منه، لكن الشر دائماً هو عملية يستحيي منها الإنسان؛ لذلك يحب أن يقوم بها في خفية، وتحتاج إلى افتعال من الإنسان.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته بكل ملكاته، لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس حتى يتلصص ليرى هذه المرأة. ويحاول التحايل والافتعال ليتلصص على ما ليس له. ولذلك يقال عن الحلال: إنه «كسب» ويقال عن الحرام: إنه «اكتساب»..
فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال «كسب سيئة» فهذا أمر يستحق الالتفات، فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يويخ نفسه ويلومها ويعزم على ألا يعود إليها. لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسباً ويفخر بها متناسياً الخطر الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير الأسود، وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك إعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور في أعماقه، وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله.
﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ﴾ فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحداً بعمل سوء قد كسبت الدنيا؛ فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه. وأضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى دائماً - هب أن رجلاً له ولدان. وجاء ولد منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئا يملكه، ورأى الأب هذا الحادث، فأين يكون قلب الأب ومع من يكون؟
2616
إن الأب يقف مع المظلوم، ويحاول أن يرضيه، فإن كان الأخ الظالم قد أخذ منه شيئاً يساوي عشرة قروش، فالأب يعوض الابن المظلوم بشيء يساوي مائة قرش. ويعيش الظالم في حسرة، ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبداً. إذن فالظلم قمة من قمم الغباء.
ومن ضمن المفارقات التي تروى مفارقة تقول: إن كنت ولا بد مغتاباً فاغتب أبويك. ولا بد أن يقول السامع لذلك: وكيف أغتاب أبي وأمي؟ فيقول صاحب المفارقة: إن والديك أولى بحسناتك، فبدلاً من أن تعطي حسناتك لعدوك، ابحث عمن تحبهم وأعطهم حسناتك. وحيثية ذلك هي: لا تكن أيها المغتاب أحمق لأنك لا تغتاب إلا عن عداوة، وكيف تعطي لعدوك حسناتك وهي نتيجة أعمالك؟
ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصري، عندما بلغه أن واحداً قد اغتابه.
فأرسل إلى المغتاب طبقاً من البلح الرطب مع رسول، وقال للرسول: اذهب بهذا الطبق إلى فلان وقل له: بلغ سيدي أنك اغتبته بالأمس فأهديت له حسناتك، وحسناتك بلاشك أثمن من هذا الرطب. وفي هذا إيضاح كاف لذم الغيبة.
﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ ونعلم أنه إذا جاءت أي صفة من صفات الحق داخلة في صورة كينونة أي مسبوقة ب «كان» فإياكم أن تأخذوا «كان» على أنها وصف لما حدث في زمن ماضٍ، ولكن لنقل «كان ومازال». لماذا؟ لأن الله كان أزلاً، فهو غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له أو مرحوم؛ فالله ليس من اهل الأغيار، والصفات ثابتة له؛ لأن الزمن في الأحداث يتغير بالنسبة للأغيار فقط، وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر صحيحاً في زمن ومريضاً في زمن آخر.
ولذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضي إلا أصحاب الأغيار. وكذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الحاضر إلا في أصحاب الأغيار. ومادام الله هو الذي يغير ولا يتغير فلن يغيره زمن ما، بل كان في الأزل غفوراً رحيما، ولايزال أيضاً غفوراً رحيماً. وكذلك كان علم الله أزلياً وحكمته لا حدود لها.
2617
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً..﴾
2618
قالوا: إن الخطيئة هي الشيء غير المتعمَّد، مثال ذلك حين نعلِّم التلميذ قاعدة من قواعد النحو، ثم نطلب منه أن يطالع نصاً من النصوص، ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول، ونصحح له الخطأ، إنّه لم يتعمده، بل نسي القاعدة ولم يستحضرها. ونظل نصحح له الخطأ إلى أن يتذكر القاعدة النحوية، وبالتدريب يصبح الإعراب ملكة عند التلميذ فلا يخطئ.
والخطيئة - إذن - هي الخطأ غير المتعمد. اما الإثم فهو الأمر المتعمَّد. فكيف إذا رمى واحد غيره بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو.. ما حكم الله في ذلك؟ ﴿وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ [النساء: ١١٢]
لقد ارتكب الخطيئة أو الإثم، ويا ليته اكتفى بهذا، لا، بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة ثانية وذلك بأن يرمي بالخطيئة أو الإثم بريئاً، إنَّ إثمه مركب، ولذلك قال الحق: ﴿فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ واستخدام الحق هنا لكلمة «احتمل» وليس «حمل» تؤكد لنا أن هناك علاجاً ومكابدة وشدة ليحمل الإنسان هذا الشيء الثقيل؛ فالجريمة جريمتان وليست واحدة، لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئاً، وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة، ويندم أيضاً على إلصاقها ببريء. إذن فهي حمل على أكتافه. ونعلم أن الإنسان ساعة يقع أسير سُعار العداوة؛ يهون عليه أن يصنع المعصية، ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه. قال الحق:
2618
﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧]
هابيل - إذن - يسأل قابيل: وما ذنبي أنا في ذلك، إن الله هو الذي يتقبل القربان وليس أنا فلماذا تقلتني؟
ويستمر القول الحكيم: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ [المائدة: ٢٨]
وماذا يقول الحق من بعد ذلك: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ [المائدة: ٣٠]
كأن مسألة القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة، وأخذت مغالبة. وعلى سبيل المثال: لن يقول أحد: «لقد طوعت الحبل» ولكن هناك من يقول: «أنا طوعت الحديد». وسعار الغضب جعل قابيل ينسى كل شيء وقت الجريمة، وبعد أن وقعت، وهدأ سعار الغضب الذي ستر موازين القيم، هنا ظهرت موازين القيم ناصعة في النفس.
ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما، ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة، وهو يفعل ذلك لأن سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعاً. وعلى ذلك نفهم قول الحق: ﴿فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾.
وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمي البريء بالإثم إنما يرتكب عملأً يتطلب مشقة وتتنازعه نفسه مرة بالندم؛ لأنه فعل الجريمة، وتنازعه نفسه مرة ثانية لأنه رمى بريئاً بالجريمة؛ لذلك قال الحق: ﴿فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ وساعة
2619
نسمع كلمة «بهتان» فهي مأخوذة من مادة «بهت».
والبهتان هو الأمر الذي يتعجب من صدوره من فاعله. مثال ذلك قوله الحق في شرح قضية سيدنا إبراهيم مع النمرود، حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ [البقرة: ٢٥٨]
فماذا كان موقف الرجل؟ ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]
أي أنه سمع شيئاً عجيباً يخرسه عن أن يتكلم؛ فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب لا يخطر على باله، ولا يستطيع أن يجد منه مفراً، فكأن الأمور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور غريبة عن الناس إنَّها هي البهتان، والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس.
وإذا ما نظرنا إلى القضية التي نزلت الآية بسببها. وجدنا أن سارقاً سرق وأراد أن يبرئ نفسه وأن يُدخل في الجريمة بريئاً. ويلصقها به، وأن يرتكب المجرم الجريمة فهذا يحمِّلُه إثماً. أما أن ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله، وهذا صعب على النفس، ولا يتعجب أحد لسماع شيء إلا إذا كان هذا الشيء مخالفاً لما هو مألوف ومعروف. وإنّ في الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلاً واضحاً وناصعاً؛ فعندما قال النمرود: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨]
قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنساناً، ويترك إنساناً آخر لمسعاه. وهنا عاجله سيدنا إبراهيم بالقضية التي تبهته ولا يدخل فيها هذا التماحك اللفظي. فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]
2620
أي أن النمرود سمع قولاً عجيباً وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه، وكذلك الرجل الذي صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا، مما يدل على أن الفطرة السليمة كارهة لفعل القبيح. فإذا ما فعل الإنسان ذنباً فقد حمل بهتاناً، وإذا ما عَدَّى ذلك إلى أن يحمله إلى بريء، فذلك يعني أن الأمر يحتاج إلى طاقة أخرى.
إذن فقوله الحق: ﴿فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي أنه احتمل أمراً عجيباً يبهت السامع ويتعجب كيف حدث ذلك. ويحتمل من يفعل ذلك الإثمَ أيضاً.
والإثم - كما عرفنا - هو السيئة المتعمَّدة. ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية: إن الله سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله، وإن حاول بعض من قليلي الإيمان أن يخرجوك عن هذه المسألة، وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنباً لتجرم آخر بريئاً وإن كان المذنب مسلماً وإن كان البريئ غير مسلم، والله لم يرسل محمداً ليحكم بين المؤمنين فقط، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل محمداً ليحكم بين المؤمنين فقط، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل رسوله ليحكم بالحق: «لتحكم بين الناس» أي ليحكم بين الناس على إطلاقهم.
فإياك حين تحكم أن تقول: هذا مسلم وذلك كافر. أو تقول: هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب، بل كل الناس أمام قضايا الحق سواء.
ولذلك أخذ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك الجرعة الإيمانية التي جاءت بها حادثة من الحوادث ليقول بعد ذلك في قصة المخزومية حينما سرقت وأراد أن يقيم عليها الحد، وكلّمه حبيبه أسامة بن زيد في أن يرفع عنها الحد، فقال رسول الله:
«عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: ومن يجرؤ عليه إلا أسامة حب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال:» أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها «.
2621
هذا القول مستخلص من القضية السابقة. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ..﴾
2622
وهنا نتساءل: هل هَمَّ أحد بإضلال رسول الله؟ علينا أن نفهم أن «الهمّ» نوعان: هم إنفاذ، وهم تزيين. وقد رفض رسول الله هم الإنفاذ، ودفعه الله عنه لأنه سبحانه وتعالى يحوط رسوله بفضله ورحمته ويأتي بالأحداث ليعلمه حكماً جديداً. وفضل الله على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم تزيين فقط وحفظ الله رسوله منه أيضا. وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد، صار يقضي به من بعد ذلك في كل قضايا الناس. فإذا ما جاء حدث من الأحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن يعلمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالفضل لله لأنه يزيد رسوله تعليما. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣]
وكان قصد الذين دافعوا عن «ابن أبيرق» أن يزينوا لرسول الله، وهذا هو هم التزيين لا هم الإنفاذ. وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بالله، ليأخذوه إلى غير طريق الحق وغير طريق الهدى، وهذا أمر يضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلو أن رسول الله برأ المذنب الذي يعلم أنه مذنب لاسْتقرّ في ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة، أما البريء الذي كان مطلوباً أن يدينه رسول الله ماذا يكون موقفه؟ لا بد أن يقول لنفسه: إن دين محمد لا صدق فيه لأنه يعاقب بريئاً. إذن فَهَمَّ التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد إلصاق الجريمة
2622
به. لكن الله صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضا. ﴿لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة﴾ [النساء: ١١٣]
لقد أنزل الحق كتاباً ليفصل في القضية ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة إنما جاء ليبين ضمن ما يبين سر نزول القرآن منجماً؛ لأن القرآن يعالج أحداثاً واقعية، فيترك الأمر إلى أن يقع الحدث ثم يصب على الحدث حكم الله الذي ينزل من السماء وقت حدوث الحدث، وإلا كيف يعالج القرآن الأحداث لو نزل مرة واحدة بينما الأحداث لم تقع؟ لذلك أراد الله أن تنزل الأحداث أولاً ثم يأتي الحكم. وقد سبق أن قال الكفار: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]
لا؛ فقد أراد الله القرآن منجماً ومتفرقاً ومُقَسَّطاً لماذا؟ ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان: ٣٢]
فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللّدَد والخصومة الشديدة ومن العناد الذي كان عليه الكفار وردّهم للحق - وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم - ينزل نجم من القرآن، وفي شغب البشر مع الرسول تنزل رحمة السماء تُثَبِّت الفؤاد؛ فإن تعب الفؤاد من شغب الناس؛ فآيات اتصال الرسول بالسماء وبالوحي تنفي عنه هذه المتاعب.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات؛ لذلك كان في كل لحظة يحتاج إلى تثبيت. وعندما ينزل النجم القرآني بعد العراك مع الخصوم فإن حلاوة النجم القرآني تُهَوِّنُ عليه الأمر، وإذا ما جاء للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر آخر يعكر صفوه، فهو ينتظر حلاوة الوحي لتنزل عليه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]
2623
أي أنزلناه منجماً لنثبت به فؤادك. ولو نزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو يريد مداومة اتصال السماء به. بدليل أن الوحي عندما فتر جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق. لماذا؟ ففي بداية النزول أرهقه الوحي، لذلك قال الرسول: «فضمني إليه حتى بلغ مني الجهد».
ورأته خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «وإن جبينه ليتفصد عرقاً» فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بشريته لا بد أن يحدث تغييراً كيميائيا في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
«عن عائشة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن الحارث بن هشام رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قال عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «.
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يواجه المتاعب وأراد الله بفترة الوحي أن يحس محمد حلاوة الوحي الذي نزل إليه، وأن يشتاق إليه، فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحي عندما يجيء، ولذلك نجد أن عملية تفصد العرق لم تستمر كثيرا؛ لأن الحق قال: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ٤]
أي أن الحق أوضح لرسوله: إنك ستجد شوقا وحلاوة ولذة في أن تستقبل هذه الأشياء.
2624
﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان: ٣٢]
وهكذا كان القرآن ينزل منجماً، على فترات، ويسمع الصحابة عدداً من آيات القرآن. ويحفظونها ويكتبها كُتَّابُ الوحي وبعد ذلك تأتي معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتنزل سورة كاملة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبعد أن يُسرى عنه يقول للكتبة: اكتبوا هذه. ويرتب رسول الله الآيات بمواقعها من السورة. ثم يقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السورة في الصلاة ويسمع المصلون الترتيل الذي تكون فيه كل آية في موقعها، وهذا دليل على أن المسألة مدروسة دراسة دقيقة، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يحكي إنما يحكي صدقاً.
وإلا فَقُولُوا لي: كيف ينزل الوحي على رسول الله بسورة بأكملها ويميلها للكتبة، ثم يقرؤها في الصلاة كما نزلت وكما كتبها أصحابه، كيف يحدث ذلك إن لم يكن ما نزل عليه صدقاً كاملاً من عند الله؟ ونحن قد نجد إنساناً يتكلم لمدة ربع ساعة، لكن لو قلنا له: أعد ما تكلمت به فلن يعيد أبداً الكلمات نفسها، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعيد الآيات كما نزلت. مما يدل على أنه يقرأ كتاب الله المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد. ولذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان: ٣٣]
أي لا يأتونك بحادثة تحدث إلا جئناك بالحق فيها.
إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجماً إلا ليثبت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تتابع الهزات التي يتعرض لها، وأراد الله أن ينشر اتصال السماء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الثلاثة والعشرين عاماً التي استغرقتها الرسالة.
والترتيل هو التنجيم والتفريق الذي ينزل به القرآن فيقرأه الرسول في الصلاة مثلما نزل عليه قبل ذلك دون تحريف أو تبديل، والحق يقول:
2625
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦]
وكل حادثة تحدث ينزل لها ما يناسبها من القرآن. كما حدثت حادثة سرقة ابن أبيرق فنزل فيها الحكم والحق يقول: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾.
فإذا ما علمك الله - يا رسول الله - ما لم تكن تعلم بنزول الكتاب، فهل أنت يا سيدي يا رسول الله مشرع فقط بما نزل من الكتاب؟ لا؛ فالكتاب معجزة وفيه أصول المنهج الإيماني، ولكن الله مع ذلك فوض رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرِّع؛ وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله، بدليل قوله الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧]
فالرسل من قبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتناولون ما أخذوه عن الله، وميز سبحانه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتفويض التشريع. وأوضح الحق أنه عَلَّمَ رسوله الكتاب والحكمة. والحكمة مقصود بها السنة، فسبحانه القائل: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة﴾ [الأحزاب: ٣٤]
وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله: ﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ ولنا أن نلحظ أن ﴿فَضْلُ الله﴾ تكرر في هذه الآية مرتين. ففضل الله الأول في هذه الآية أنه عصمه من أن تضله طائفة وتنأى به عن الحق، ثم كان فضل الله عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكل أحكامه وأعطاه الحكمة وهي التفويض من الله لرسوله أن يشرّع.
إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتداداً لوحيه. ولذلك إذا قيل من قوم يحاولون التشكيك في حديث رسول الله: إن الصلاة لم تأت في القرآن.
نقول سائلين الواحد منهم: هل تؤدي الصلاة أم لا. ؟
2626
فيقول: إنني أصلي..
فنقول له: كم فرضاً تصلي؟.
فيقول: خمسة فروض.
فنقول: هات هذه الفروض الخمسة من القرآن. ولسوف يصيبه البهت، وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات، والعصر بمثلها، والمغرب بثلاث، والعشاء بأربع ركعات. وسيعترف أخيراً أنه يصلي على ضوء قول الرسول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذه من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ وقد نجد واحداً من اهل السطحية واللجاجة يقول: القرآن يكرر الكلمات في أكثر من موقع، ولماذا يذكر فضل الله في صدر هذه الآية، ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الآية؟.
نقول: أنت لم تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من همّ التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلماً، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيماً حقاً.
وساعة يذهب هؤلاء الناس ليحدثوا الرسول في أمر طعمة ابن أبيرق، ألم يجلسوا معا ليتدارسوا كيف يفلت طعمة بن أبيرق من الجريمة؟.
لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول؛ فكانت الصلة قريبة من النجوى. ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ لأن ذلك يحزنه.
وقد يكون الأمر جائزاً لو كان الجلوس أربعة، فواحد يتحدث مع آخر، وهناك يستطيع اثنان أن يتناجيا. إذن فالنجوى معناها المسارّة، والمسارّة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع، وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن
2627
حادثة طعمة بن أبيرق، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى، فينزل القول الحق: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ..﴾
2628
وسبحانه يوضح أمر هذه النجوى التي تحمل التبييت للإضلال، ولكن ماذا إن كانت النجوى لتعين على حق؟ إنه سبحانه يستثنيها هنا؛ لذلك لم يصدر حكماً جازماً ضد كل نجوى، واستثنى منها نجوى مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، بل ويجزى عليها حسن الثواب. لذلك قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾. ويستخدم الحق هنا كلمة «سوف»، وكان من الممكن أن يأتي القول ﴿فسنؤتيه أجراً عظيماً «لكن لدقة الأداء القرآني البالغة جاءت بأبعد المسافات وهي» سوف «.
ونعرف أن جواب شرط الفعل إذا ما جاء على مسافة قريبة فنحن نستخدم»
السين «، وإذا ما جاء جواب الشرط على مسافة بعيدة فنحن نستخدم» سوف «. وجاء الحق هنا ب» سوف «لأن مناط الجزاء هو الآخرة، فإياك أيها العبد المؤمن أن تقول: لماذا لم يعطني الله الجزاء على الطيب في الدنيا؟؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يقل:» فسنؤتيه «ولكنه قال: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾
مما يدل على أن الفضل والإكرام من الله؛ وإن كان عاجلاً ليس هو الجزاء على هذا العمل؛ لأن جزاء الحق لعبادة المؤمنين سيكون كبيراً، ولا يدل على هذا الجزاء في الآخرة إلاّ» فسوف «. ونعرف أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يمني أمته الإيمانية بشيء فهو يمنيها بالآخرة، ولننظر إلى بيعة العقبة عندما جاء الأنصار من المدينة لمبايعة رسول الله:
2628
فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحوله عصابة من أصحابه:» بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه «.
لقد أخذت لنفسك يا رسول الله ونحن نريد أن نأخذ لأنفسنا، ماذا لنا إن نحن وفّينا بهذا؟ ولنر عظمة الجواب وإلهامية الرد، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
لكم الجنة «
كان في استطاعة رسول الله أن يقول لهم: إنكم ستنتصرون وإنكم ستأخذون مشارق الأرض ومغاربها وسيأتي لكم خير البلاد الإسلامية كلها. لكنه بحكمته لم يقل ذلك أبداً فقد يستشهد واحد منهم في قتال من أجل نصرة دين الله، فماذا سيأخذ في الدنيا؟. إنه لن يأخذ حظه من التكريم في الدنيا، ولكنه سينال الجزاء في الآخرة.
لذلك جاء بالجزاء الذي سيشمل الكل، وهو الجنة ليدلهم على أن الدنيا أتفه من أن يكون جزاء الله محصوراً فيها، ويحض كل المؤمنين على أن يطلبوا جزاء الآخرة؛ ونعلم جميعاً هذه الحكاية، ونجد رجلاً يقول لصاحبه: أتحبني؟ فأجاب الصاحب: نعم أحبك. فسأل السائل: على أي قدر تحبني؟ قال الصاحب: قدر الدنيا. أجاب الرجل: ما أتفهني عندك!!.
يقول الحق: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ ومن صاحب «نؤتيه»
والفاعل لهذا العطاء؟ إنه الحق سبحانه وتعالى الذي وصف الأجر بأنه أجر عظيم. وكأن الحق يبلغنا:
- يا معشر الأمة الإيمانية التحموا بمنهج رسول الله وامتزجوا به لتكونوا معه شيئاً واحداً. وإياكم أن يكون لكم رأي منفصل عن المنهج؛ فهو مبلغ عن الله، فمن آمن به فليلتحم به. ولذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ساعة
2629
حدثوه في حكاية الإسراء والمعراج نجده يسأل محدثه: أقال رسول الله ما قلتموه.. ؟ فيقولون: بلى، لقد قال. فيرد عليهم الصديق: إن كان قال فقد صدق؛ فالصديق أبو بكر لا يحتاج إلى دليل على صدق ما قال رسول الله.
ويأتي الحق بالمقابل فيقول: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ... ﴾
2630
وكلمة «يشاقق» تدل على أن شقاً قد حدث في أمر كان ملتحماً، مثلما نشق قطعة الخشب فنجعلها جزئين بعد أن كانت كتلة واحدة. وأنتم أيها المؤمنون قد التحمتم بمنهج رسول الله إيماناً، واعترفتم به رسولا ومبلغ صدقٍ عن الله، فإياكم أن تشرخوا هذا الالتحام. فإن جاء حكم وحاول أحد المؤمنين أن يخرج عنه، فهذا شقاق للرسول والعياذ بالله. أو المعنى ومن سلك غير الطريقة التي جاء بها الرسول بأن صار في شق وشرع الله في شق آخر.
﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى﴾ نعم فقد تبين الهدى للمسلم حينما آمن بالله خالقاً ورباً. وآمن بالرسول مبلغاً وهو بذلك قد أسلم زمامه إلى الله. ولذلك قلنا: إن عمل العقل هو أن ينظر في أدلة الوجود الأعلى لله، فإذا ما آمن الإنسان بالوجود الأعلى لله، بقيت مرتبة، وهي أن يؤمن الإنسان بالرسول المبلغ عن الله؛ لأن قصارى ما يطلبه العقل من الدليل الإيماني على وجود الله أن وراء الإنسان ووراء الكون قوة قادرة حكيمة عالمة فيها كل صفات الكمال.
إن العقل لا يستطيع معرفة اسم هذه القوة. ولا يستطيع العقل أن يتعرف على مطلوباتها؛ لذلك لابد من البلاغ عن هذه القوة، وإذا تبين للإنسان الهدى في
2630
الوجود الأعلى وفي البلاغ عن الله فلا بد للإنسان أن يلتحم بالمنهج الذي جاء به المبلغ عن الله. ويفعل الإنسان مطلوب القوة العليا؛ لأن الله قد أمر به؛ ولأن رسول الله قد بلغ الأمر أو فعله أو أقرّه. أما إذا دخل الإنسان في مماحكات فإننا نقول له: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: ١١٥]
والهدى - كما نعرف - هو الطريق الموصل إلى الغاية. فكل فعل من أفعال الخلق لا بد له من هدف. ومن فعل فعلاً بلا هدف يعتبره المجتمع فاقداً للتمييز. أما إذا كان الإنسان صاحب هدف فهو يعترف على جدّية هدفه وأهميته. ويبحث له عن أقصر طريق، هذا الطريق هو ما نسميه الهدى. ومن يعرف الطريق الموصل إلى الهدى ثم يتبع غير سبيل المؤمنين فهو يشاقق الرسول، ولا يلتحم بمنهج الإيمان ولا يلتزم به، ومن يشاقق إنما يرجع عن إيمانه.
وهكذا نعرف أن هناك سبيلا وطريقا للرسول، ومؤمنين اتبعوا الرسول بالتحام بالمنهج، ومن يشاقق الرسول يخالف المنهج الذي جاء به الرسول، ويخالف المؤمنين أيضاً.
والحق هو القائل: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾ [الأنعام: ١٥٣]
فليس للحق إلا سبيل واحد. ومن يخرج عن هذا السبيل فما الذي يحدث له؟.
ها هي ذي إجابة الحق: ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾. وقد يأتي لفظ من المحتمل أن يكون أداة شرط ويحتمل أن يكون اسماً موصولاً مثل قولنا: مَن يذاكرُ ينجحُ. بالضم فيهما، و «من» هنا هي اسم موصول؛ فالذي يذاكر هو مَن ينجح. وقد نقول: مَن يذاكرْ ينجحْ. بالسكون وهنا «مَن» شرطية.
2631
وفي الاسم الموصول نجد الجملة تسير على ما هي، أما إذا كانت شرطية، فهناك الجزم الذي يقتضي سكون الفعل؛ ويقتضي - أيضا - جواباً للشرط. و «من» تصلح أن تكون اسماً موصولاً، وتصلح أن تكون أداة شرط، ونتعرف - عادة - على وضعها مما يأتي بعدها. مثال ذلك قوله الحق: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ﴾ ونجد «يتبع» هنا عليها سكون الجزم، وهذا يدل على أن «مَنْ» شرطية.
وتختلف القراءة لو اعتبرنا «مَن» اسم موصول؛ لأن هذا يستدعي ترك الفعل «يشاقق» في وضعه كفعل مضارع مرفوع بالضمة، وكذلك يكون «يتبعْ» فعلاً مضارعاً مرفوعاً بالضمة؛ عند ذلك نقول: «نوليه ما تولى ونصليه». ولكن إن اعتبرنا «مَن» أداة شرط - وهي في هذه الآية شرطية - فلا بد من جزم الفعل فنقرأها «ومن يشاققْ الرسول من بعد ما تبين له الهدى». وكذلك نجزم الفعل المعطوف وهو قوله: (ويتبعْ) ويجزم جواب الشرط وما عطف عليه وهو قوله: (نولّهِ) (ونصْلِه) والجواب وما عطف عليه مجزومان بحذف حرف العلة وهي الياء من آخره ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾. ومعنى «تَوَلَّى» أي قرب، ويقال: فلان وَلِي فلان؛ أي صار قريباً له. ومن يتبع غير سبيل المؤمنين، فالحق لا يريده بل ويقربه من غير المؤمنين ويكله إلى اصحاب الكفر. وها هو ذا الحق سبحانه يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشِركه».
فالذي يحتاج إلى الشرك هو من زاوية من ضعف، ويريد شريكاً ليقويه فيها. وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - لا نجد أحداً يشارك واحداً على تجارة إلا إذا كان يملك المال الكافي لإدارة التجارة أو لا يستطيع أن يقوم على شأنها. وسبحانه حين يعلمنا: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه».
أي أن له مطلق القوة الفاعلة التي لا تحتاج إلى معونة، ولا تحتاج إلى شريك؛ لأن الشركة أول ما تشهد فإنها تشهد ضعفا من شريك واحتياجاً لغريب.
2632
ولذلك فمن يشاقق الرسول في أمر إيماني فالحق يوليه مع الذي كفر ويقربه من مراده.
وسبحانه يعلم أن الإنسان لن ينتفع بالشيء المشاقق لرسول الله، بل يكون جزاء المشاقق لرسول الله والمتبع لغير سبيل المؤمنين أن يقربه الله ويدينه من أهل الكفر والمعاصي، ويلحقه بهم ويحشره في زمرتهم. ولا يعني هذا أن الله يمنع عن العبد الرزق، لا، فالرزق للمؤمن وللكافر، وقد أمر الله الأسباب أن تخدم العبد إن فعلها. ومن رحمة الله وفضله أنه لا يقبض النعمة عن مثل هذا العبد، فالشمس تعطيه الضوء والحرارة، والهواء يهب عليه، والأرض تعطيه من عناصرها الخير: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠]
ويقول سبحانه: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء: ٢٠]
وهكذا نجد العطاء الرباني غير مقصور على المؤمنين فقط ولكنه للمؤمن وللكافر، ولو لم يكن لله إلا هذه المسألة لكانت كافية في أن نلتحم بمنهجه ونحبه.
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ ولا بد أن يكون المصير المؤدي إلى جهنم غاية في السوء. وبعد ذلك تأتي سيرة الخيانة العظمى للإيمان، إنها قول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ..﴾
2633
والحق هنا يتكلم عن إنسان لم تحدث له توبة عن الشرك فيؤمن؛ لأن الإيمان يَجُبُّ ما قبله أي يقطع ما كان قبله من الكفر والذنوب التي لا تتعلق بحقوق الآخرين كظلم العباد بعضهم بعضا. ومن عظمة الإيمان أن الإنسان حين يؤمن بالله وتخلص النية بهذا الإيمان، وبعد ذلك جاءه قدر الله بالموت، فقد يعطيه سبحانه نعيما يفوق من عاش مؤمنا لفترة طويلة قد يكون مرتكباً فيها لبعض السيئات فينال عقابها.
مثال ذلك «مخيريق» فحينما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أحد قال مخيريق لليهود: ألا تنصرون محمداً والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم فقالوا: اليوم يوم سبت فقال: لا سبت. وأخذ سيفه ومضى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقاتل حتى أثبتته الجراحة (أي لا يستطيع أن يقوم معها) فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء. فلم يصل في حياته ركعة واحدة ومع ذلك نال مرتبة الشهيد، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مخيريق سائق يهود وسلمان سائق فارس وبلال سائق الحبشة».
وسبحانه يبلغنا هنا: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ ولله المثل الأعلى نرى في حياتنا مجتمعاً قد تقوم فيه ثورة أو انقلاب، ونجد قادة الثورة أو الانقلاب يرون واحداً يفعل ما شاء له فلا يقتربون منه إلى أن يتعرض للثورة بالنقد أو يحاول أن يصنع انقلابا، هنا تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، فما بالنا بالذي يخرج عن نطاق الإيمان كلية ويشرك بالله؟ سبحانه لا يغفر ذلك أبداً، ولكنه يغفر ما دون ذلك، ومن رحمة الله بالخلق أن احتفظ هو بإرادة الغفران حتى لا يصير الناس إلى ارتكاب كل المعاصي. ولكن لا بد من توبة العبد عن الذنب. ونعلم أن العبد لا يتم طرده من رحمة الله لمجرد ارتكاب الذنب. ونعلم أن هناك فرقاً بين من يأتي الذنب ويفعله ويقترفه وهو يعلم أنه مذنب وأن حكم الله صحيح وصادق، لكن نفسه ضعفت، والذي يرد الحكم على الله. وقد نجد عبداً يريد أن يرتكب الذنب فيلتمس له وجه حل، كقول بعضهم: إن الربا ليس حراماً. هذا هو رد الحكم على الله. أما العبد الذي يقول: إنني أعرف أن الربا حرام ولكن ظروفي قاسية وضروراتي ملحة. فهو عبد عاصٍ فقط لا يرد الحكم على الله، ومن يرد الحكم على الله هو - والعياذ بالله - كافر.
2634
﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ ولننتبه إلى أن بعض المستشرقين الذين يريدون أن يعيثوا في الأرض فساداً.
ولكنهم بدون أن يدروا ينشرون فضيلة الإسلام، وهم كما يقول الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
وحين يتكلمون في مثل هذه الأمور يدفعون أهل الإيمان لتلمس وجه الإعجاز القرآني وبلاغته.
إنهم يقولون: بَلَّغ محمد قومه ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ لكن يبدو أن السهو قد غلبه فقال في آية أخرى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣]
هم يحاولون نسبة القرآن إلى محمد لا إلى الله. ويحاولون إيجاد تضارب بين الآيتين الكريمتين. ونقول رداً عليهم: إن الواحد منكم أمي ويجهل ملكة اللغة، فلو كانت اللغة عندكم ملكة وسليقة وطبيعة لفهم الواحد منكم قوله الحق: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣]
وكان الواجب أن يفهم الواحد منكم أن الشرك مسألة أكبر من الذنب؛ فالذنب هو أن يعرف الإنسان قضية إيمانية ثم يخالفها، ولكن المشرك لا يدخل في هذا الأمر كله؛ لأنه كافر في القمة. ولذلك فلا تناقض ولا تعارض ولا تخالف بين الآيتين الكريمتين. والمستشرقون إنما هم قوم لا يفقهون حقيقة المعاني القرآنية.
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ
2635
ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}. والمشرك مهما أخذ من متع لحياته فحياته محدودة، فإن بقيت له المتع فلسوف يتركها، وإن لم تبق له المتع فهي تخرج منه. إذن، هو إما تارك للمتع بالموت، أو المتع تاركة له بحكم الأغيار، فهو بين أمرين: إمّا أن يفوتها وإمّا أن تفوته. وهو راجع إلى الله، فإذا ما ذهب إلى الله في الآخرة والحساب، فالآخرة لا زمن لها ولذلك ما أطول شقاءه بجريمته، وهذا ضلال بعيد جداً. أما الذي يضل قليلاً فهو يعود مرة أخرى إلى رشده. ومن المشركين بالله هؤلاء الذين لا يجادلون في ألوهية الحق ولكنهم يجعلون لله شركاء. وهناك بعض المشركين ينكرون الألوهية كلها وهذا هو الكفر. فهناك إذن مشرك يؤمن بالله ولكن يجعل له شركاء.
ولذلك نجد أن المشركين على عهد رسول الله يقولون عن الأصنام: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [سورة الزمر: ٣]
ولو قالوا: لا نذبح لهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، مثلا، لكان من الجائز أن يدخلوا في عبادة الله، ولكنهم يثبتون العبادة للأصنام؛ لذلك لا مفر من دخولهم في الشرك. ويقول سيدنا إبراهيم عن الأصنام: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين﴾ [الشعراء: ٧٧]
إنه يضع الاستثناء ليحدد بوضوح قاطع ويقول لقومه:
إن ما تعبدونه من الأصنام، كلهم عدو لي، إلا رب العالمين. كأن قوم إبراهيم كانوا يؤمنون بالله ولكن وضعوا معه بعض الشركاء. ولذلك قال إبراهيم عليه السلام عن الله: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨ - ٧٩]
إذن الشرك ليس فقط إنكار الوجود لله بل قد يكون إشراكاً لغير الله مع الله. ولنر من يعبدونه ويدعونه في مصائبهم:
2636
﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً... ﴾
2637
و «إن» هنا بمعنى ما، ف «إن» مرة تكون شرطية، ومرة تكون نافية. مثل قوله في موقع آخر: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢]
أي إن الحق يقول: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾. وكذلك «إنْ» في قوله: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾، وكان العرب ينسبون إلى المرأة كل ما هو هيّن وضعيف ولذلك قال الحق: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ١٨]
فالإناث في عرف العرب لا تستطيع النصر أو الدفاع، ولذلك يقول الشاعر:
وما أدرى ولست أخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء
والقوم هنا مقصود بهم الرجال لأنهم يقومون لمواجهة المشكلات فلماذا تدعون مع الله إناثاً؟. هل تفعلون ذلك لأنها ضعيفة، أو لأنكم تقولون: إن الملائكة بنات الله؟. وكانوا يعبدون الملائكة. وعندما تريدون القسمة لماذا تجعلون لله بنات؟. على الرغم من أنه سبحانه خلق البنين والبنات.
ولذلك قال الحق: ﴿تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾ [النجم: ٢٢]
أي قسمة جائرة لم يراع فيها العدل.
2637
وعندما ننظر إلى الأصنام كلها نجد أن أسماءها أسماء مؤنثة: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠]
وكذلك كان هناك صنم اسمه «إساف» و «نائلة»، فهل هذه الأصنام إناث؟ وكيف تدعون النساء والنساء لا ينصرن ولا ينفعن؟. وهل ما تعبدون من دون الله أصنام بأسماء إناث، أو هي نساء، أو هي ملائكة؟
والحق يقول: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾ والأسلوب هنا أسلوب قطع. أي ما يدعون إلا إناثاً، تماماً مثلما نقول «ما أكرم إلا زيداً» وهذا نفي الإكرام لغير زيد، وإثبات للإكرام لزيد. فساعة يقول الحق: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾ فغير الإناث لا يدعونهم، ولذلك يعطف عليها الحق: ﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾.
واستخدم الحق في صدر الآية أسلوب القصر، وأسلوب القصر معناه أن يقصر الفعل على المقصور عليه لا يتعداه إلى غيره؛ فهم يعبدون الإناث، هذا اقصر أول، ثم قصر ثانٍ هو قوله الحق: ﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾.
وكان خدم الأصنام يدعون أن في جوف كل صنم شيئاً يتكلم إليهم؛ لذلك كان لا بد أن يكون في جوف كل صنم شيطان يكلمهم.. وكان ذلك لوناً من الخداع، فالشياطين ليست جنّاً فقط ولكن من الإنس أيضاً.
فهناك سدنة وخدم يقومون على خدمة الآلهة ويريدون أن يجعلوا للآلهة سلطاناً ونفوذاً حتى يأتي الخير للآلهة كالقرابين والنذور ويسعد السدنة بذلك؛ لذلك كانوا يستأجرون واحداً له صوت أجش يتكلم من وراء الصنم ويقول: اذبحوا لي كذا. أو هاتوا لي كذا. تماماً كما يحدث من الدجالين حتى يثبتوا لأنفسهم سلطاناً.
وهكذا كان الذي يتكلم في جوف هذه الأصنام إما شيطان من الجن، وإمّا شيطان من الإنس. والشيطان من «الشطن» وهو «البعد».
ووصف الشيطان بأنه مريد يتطلب منا أن نعرف أن هناك كلمة «مارد» وكلمة «
2638
مريد». وكل الأمور التي تغيب عن الحس مأخوذة من الأمور الحسية. وعندما نمسك مادة «الميم والراء والدال» نجد كلمات مثل «أمرد» و «امرأة مرداء» و «شجرة مرداء»، و «صرح ممرد».
إن المادة كلها تدور حول الملمس الأملس. فأمرد تعني أملس؛ أي أن منابت الشعر فيه ناعمة. وصرح ممرد كصرح بلقيس أي صرح مصقول صقلاً ناعما لدرجة أنها اشتبهت في أنه ماء، ولذلك كشفت عن ساقيها خوفاً أن يبتل ثوبها. والشجرة المرداء هي التي لا يمكن الصعود عليها من فرط نعومة ساقها تماماً كالنخلة فإنه لا تبقى عليها الفروع، ولذلك يدقون في ساق هذه النخلة بعض المسامير الكبيرة حتى يصعدوا عليها.
والشيطان المريد هو المتمرد الذي لا تستطيع الإمساك به. إذن. ف «مارد» و «مريد» و «ممرد» و «مرداء» و «أمرد»، كلها من نعومة الملمس.
﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾.
وعندما يحاول العصاة الإمساك بالشيطان في الآخرة يقول لهم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]
وهو بذلك يتملص من الذين اتبعوه؛ لأنه لم يكن يملك قوة إقناع أو قوة قهر، فقط نادى بعضاً من الخلق فزاغت أبصارهم واتبعوه من فرط غبائهم.
والشيطان موصوف بأن الله طرده من رحمته. فالحق يقول: ﴿لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ... ﴾
2639
لماذا هذا اللعن؟ لقد أذنب الشيطان وعصى الله. وآدم أذنب أيضا وعصى الله.
2639
فلماذا لعن الله الشيطان، ولماذا عفا الله عن آدم؟ نجد الإجابة في القرآن: ﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ [البقرة: ٣٧]
ونعرف بهذا القول: أنّ هناك فرقاً بين أن يرد المخلوق على الله حكماً، وفعل المعصية للغفلة.
فحين أمر الحق إبليس بالسجود لآدم قال إبليس: ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]
وهذا رد للحكم على الله، ويختلف هذا القول عن قول آدم وحواء، قالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣]
وهكذا نجد أن آدم قد اعترف بحكم الله واعترف بأنه لم يقدر على نفسه. ولذلك فليحذر كل واحد أن يأتي إلى ما حرّم الله ويقول: لا، ليس هذا الأمر حراما لكن إن كان لا يقدر على نفسه فليعترف ويقول: إن ما حرم الله حرام. لكني غير قادر على نفسي. وبذلك يستبعد الكفر عن نفسه، ويكون عاصياً فقط ولعل التوبة أو الاستغفار يذهبان عنه سيئات فعله. أما من يحلل ما حرّم الله فهو يصر على الكفر، وطمس الله على بصيرته نتيجة لذلك.
وسبحانه وتعالى يصف الشيطان بقوله - سبحانه -: «لعنة الله» أي طرده من رحمته. وليتيقظ ابن آدم لحبائل الشيطان وليحذره؛ لأنه مطرود من رحمة الله.
ولو أن سيدنا آدم أعمل فكره لفند قول الشيطان وكيده، ذلك أن كيد الشيطان ضعيف. ولكن آدم عليه السلام لم يتصور أن هناك من يقسم بالله كذباً. فقد أقسم الشيطان: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١]
2640
وكانت غفلة آدم - عليه السلام - لأمر أراده الله وهو أن يكون آدم خليفة في هذه الدنيا؛ لذلك كان من السهل أن يوسوس الشيطان لآدم ولزوجه: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ [الأعراف: ٢٠]
وأغوى الشيطان آدم وحواء بأن الله قد نهاهما عن الأكل من تلك الشجرة حتى لا يكونا ملكين، وحتى لا يستمرا في الخلود. ولو أن آدم أعمل فكره في المسألة لقال للشيطان: كل أنت من الشجرة لتكون ملكاً وتكون من الخالدين، فأنت أيها الشيطان الذي قلت بخوف شديد لله: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر: ٣٦]
والحق يريد لنا أن نتعلم من غفلة آدم؛ لذلك لا بد للمؤمن أن يكون يقظاً.
فسبحانه يقول عن الشيطان: ﴿لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾.
والقرآن الكريم حين يعالج قضية ما فهذه القضية تحتاج إلى تدبر. ونلحظ أن إبليس قد تكلم بذلك ولم يكن موجوداً من البشر إلا آدم وحواء، فكيف علم ما يكون في المستقبل من أنه سيكون له أتباع من البشر؟ وكيف قال: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ ؟.
لقد عرف أنه مادام قد قدر على أبيهم آدم وأمهم حواء فلسوف يقدر على أولادهما ويأخذ بعضاً من هؤلاء الأولاد إلى جانبه، قال ذلك ظناً من واقع أنه قدر على آدم وعلى حواء. والذين اتبعوا إبليس من البشر صدقوا إبليس في ظنه. وكان هذا الظن ساعة قال: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾.
وأخذ إبليس هذا الظن لأنه قدر على آدم وحواء مع أن آدم وحواء قد أخذا
2641
التكليف من الله مباشرة، فما بالك بالأولاد الذين لم يأخذوا التكليف مباشرة بل عن طريق الرسل. إذن كان ظن إبليس مبنياً على الدليل فالظن - كما نعلم - هو نسبة راجحة وغير متيقنة، ويقابلها الوهم وهو نسبة مرجوحة: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ: ٢٠]
ولذلك قال إبليس أيضاً: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٢]
وقال كذلك: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]
مادام إبليس قد قال: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾.
فهذا اعتراف بأنه لن يستطيع أن يأخذ كل أولاد آدم. والفرض - كما نعلم - هو القطع. ويقال عن الشيء المفروض: إنه المقطوع الذي لا كلام فيه أبداً.
وما وسيلة إبليس - إذن - لأخذ نصيب مفروض من بني آدم؟
ويوضح الحق لنا وسائل إبليس، على لسان إبليس: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ... ﴾
2642
في هذه الآية تفصيل لطرق أخذ إبليس لنصيب مفروض من بني آدم. فإبليس هو القائل كما يحكى القرآن: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]
وعرفنا من قبل أنه لن يقعد إلا على الطريق الطيب؛ لأن طريق من اختار السلوك السيئ لا يحتاج إلى شيطان؛ لأنه هو نفسه شيطان؛ لذلك لا يذهب إبليس إلى الخمارة، ولكنه يقف على باب المسجد ليرى الناس وهي تفعل الخير فيوسوس لهم، وفي هذا إجابة لمن يقولون: إن الوساوس تأتيني لحظة الصلاة. والصلاة - كما نعلم - هي أشرف موقف للعبد؛ لأنه يقف بين يدي الرب؛ لذلك يحاول الشيطان أن يلهي الإنسان عنها حتى يحبس عنه الثواب. وهذه الوساوس ظاهرة صحية في الإيمان، ولكنها تحتاج إلى اليقظة، فساعة ينزع الشيطان الإنسان نزغة فليتذكر قول الحق: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٢٠٠]
وعندما نستعيذ بالله فورأً يعرف الشيطان أنك منتبه له، حتى ولو كنت تقرأ القرآن في أثناء الصلاة ووسوس لك الشيطان، اقطع القراءة واستعذ بالله، ثم واصل القراءة والصلاة، وحين يعرف الشيطان أنك منتبه له مرة واثنتين وثلاثاً فهو يبتعد عنك فلا يأتي لك من بعد ذلك إلاَّ إذا أحسّ منك غفلة.
ويبين لنا الحق طريقة الشيطان في أخذ النصيب المفروض من عباد الله فقال عن إبليس: «ولأضلنهم». والإضلال معناه ان يسلك الشيطان بالإنسان سبيلاً غير مؤدٍ للغاية الحميدة؛ لأنه حين يسلك الشخص أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية المنصوبة، فمعنى ذلك أنه اهتدى، وأما إذا ذهب بعيداً عن الغاية، فهذا هو
2643
الضلال. والحق سبحانه وتعالى بوضعه منهج الهداية أعطانا أقصر طريق مستقيم إلى الغاية فإذا ما انحرفنا هنا أو هناك، فالانحراف في البداية يتسع حتى ننتهي إلى غير غاية.
وضربنا قديماً هذا المثل وقلنا: إن هناك نقطة في منتصف كل دائرة تسمى مركز الدائرة، فإذا ما انحرف المتجه إليها بنسبة واحد على الألف من الملليمتر فتتسع مسافة ابتعاده عنها كلما سار على نسبة الانحراف نفسها، برغم أنه يفترض في أن كل خطوة يخطوها تهيئ له القرب إلى الغاية.
لقد ضربنا مثلاً توضيحياً ب «الكشك» الذي يوجد قبل محطات السكك الحديدية، حيث ينظم عامل «الكشك» اتجاهات القطارات على القضبان المختلفة ويتيح لكل قطار أن يتوقف عند رصيف معين حتى لا تتصادم القطارات، ومن أجل إنجاح تلك المهمة نجد عامل التحويلات في هذا «الكشك» يحرك قضيباً يكون سمكه في بعض الأحيان عدداً من الملليمترات، ليلتصق هذا القضيب بقضيب آخر وبذلك يسمح لعجلات القطار أن تنتقل من قضيب إلى آخر.
الضلال - إذن - أن يسلك الإنسان سبيلاً غير موصل للغاية، وكلما خطا الإسنان خطوة في هذا السبيل ابتعد عنها، وهذا الابتعاد عن الغاية هو الضلال البعيد، والإضلال من الشيطان يكون بتزيينه الشر والقبح للإنسان ليبعده عن مسالك الخير والفضيلة.
ومن بعد ذلك يأتي على لسان الشيطان ما قاله الحق في هذه الآية: «ولأمنينهم» وألأماني هي أن ينصب الإنسان في خياله شيئاً يستمتع به من غير أن يخطو له خطوة عمل تقربه من ذلك، ومثال ذلك الإنسان الذي نراه جالساً ويمني نفسه قائلاً: سيكون عندي كذا.. وكذا وكذا ولا يتقدم خطوة واحدة لتحقيق ذلك.
ولذلك يقول الشاعر تسلية لنفسه:
2644
أي أنه استمتع بهذه الأماني في أحلام اليقظة سواء أكانت هذه الأحلام امتلاك قصر أم سيارة أم غير ذلك. وكل أمنية لا تحفز الإنسان إلى عمل يقربه منها هي أمنية كاذبة، ولذلك يقال: «إن الأماني بضاعة الحمقى» والشيطان يمني الإنسان بأنه لا يوجد بعث ولا جزاء.
ومن بعد ذلك يقول الشيطان: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام﴾ والبتك هو: القطع. والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، أي قطع آذان الأنعام. والقرآن قال في الأنعام: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ [الأنعام: ١٤٣ - ١٤٤]
لو كان الزوج يطلق على «الاثنين» لكان العدد أربعة فقط، ويعلمنا التعبير القرآني ويوضح لنا ان نفرق جيداً لنفهم أن معنى كلمة «زوج» ليس أبداً «اثنين»، ولكن معناها: واحد معه غيره من نوعه أو جنسه. فيقال عن فردة الحذاء «زوج» لأن معها فردة أخرى، ومثال آخر أيضا: كلمة «توأم» التي نظن أنها تعني «اثنين»، لكن المعنى الحقيقي أن التوأم هو واحد له توأم آخر، فإذا ماأردنا التعبير عن الاثنين قلنا: «توأمان».
وحين أورد من خطط الشيطان ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام﴾ فلهذا قصة. ونحن نعرف أن المنتفعين بالضلالات يصنعون لهم سلطة زمنية حتى يربطوا الناس بأشخاصهم هم. وكان المشرفون على الأصنام يقومون على خدمتها، ولم يلحظ أحد أنه من الغباء تَقَبُّلُ فكرة أن يخدم البشر الآلهة، فالإله هو القيوم على خلقة يرعاهم ويقوم بأسبابهم، وكان هؤلاء الناس هم المنتفعين بخيبة الغفلة عند البشر، وكانوا يعيشون سدنة ليأخذوا الخير، وبطبيعة الحال فالشيطان من البشر أو الجن يجدها
2645
وسيلة، فيجلس في جوف الصنم ويتكلم فيأخذ السدنة والخدم هذه المسألة لترويج الدعايات للصنم، فيأتي الأغبياء له بالأنعام من الإبل والبقر والغنم فيذبحونها ويأكلونها.
ولذلك كان السدنة دائماً وفي أغلب الحالات أهل سمنة لأنهم أهل بطنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله يبغض الحَبْرَ السمين».
فمثل هذا الحْبَرْ يستسهل أكل خير الناس والانتفاع به، فهو ينتفع بضلالات الناس، ومن ينتفع بالضلالة يرى أن حظه في أن تستمر الضلالة، مثله في ذلك مثل المنتفع من تجارة المخدرات إنّه يتمنى أن يتعاطى الناس جميعهم المخدرات.. وعندما تقوم حملات لمقاومة المخدرات يغضب ويحزن.
ومثل ذلك أيضاً تاجر السوق السوداء الذي يصيبه الغمّ عندما تأتي البضائع على قدر حاجات الناس وتكفيهم. فكل فساد مستتر وراءه أناس ينتفعون به. وعندما يرى المنتفع بالفساد هبّة إصلاح يغضب ويحاول أن يجد وسيلة لاستمرار الفساد، ولهذا كان السدنة ينفخون في الأصنام لتصدر أصواتاً ليطلبوا من وراء ذلك مطالب من الأغبياء المصدقين لهم، مثلهم مثل الدجالين الذين نسمع عنهم حيث يقول الواحد منهم لأهل المريض: إن على المريض عفريتاً، والعفريت يطلب ناقة أو ذبيحة أو دما.
هكذا كان يفعل السدنة، ويحاولون بشتى الطرق من الحيل والخدع حتى يأخذوا من الغافلين السذج الإبل والبقر والغنم. وعندما يقطع صاحب الإبل أو البقر أو الغنم أذن أي واحدة منها، فهذا يعني أنها منذورة للأصنام، والأصنام بطبيعتها لا تأكل ولكن السدنة يأكلون.
وفي آية أخرى يقول فيها الحق: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً﴾ [يونس: ٥٩]
2646
ويورد الحق أيضاً في هذا الأمر: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [الأنعام: ١٤٣ - ١٤٤]
فهل المحرم هو «الذكران» أو الأنثيان أو الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟.
لا شيء من هذه كلها محرّم؛ فقد خلقها الله كلها رزقاً حلالاً. والنعمة نفسها تعرف وظيفتها، ونلحظ في الريف المصري عندما تُختنق جاموسة أو بقرة أو خروف بالحبل. أو يصاب بأذى أو مرض فإنه ينام ويمد عنقه فيقال: «لقد طلب الحلال»، كأن البهيمة تقول لصاحبها: الحقني بالذبح لتستفيد من لحمي ونتعجب لأن الحمار مثلاً لا يفعل ذلك؛ لأن لحمه غير محلل. لكن البهيمة تعرف فائدتها بالنسبة للإنسان فتمد رقبتها طالبة الذبح، كما نعرف أنها في أثناء حياتها تخدم الإنسان إما في أن تحمل الأثقال، وإمّا أن يأخذ منها الألبان أو الوبر أو الصوف أو الشعر، ولحظة ما يدهمها ويغشاها ويصيبها خطر فهي تمد رقبتها كأنها تطلب الذبح ليستفيد الإنسان من لحمها، فهي مسخرة للإنسان وتعرف ذلك إلهاما وتسخيراً.
ومادام الله قد جعل لنا كل هذا.. فلم نقبل تحريم غير المحرّم وتحليل غير الحلال؟ لكن السدنة كانوا يفعلون الأعاجيب للسيطرة على الناس، فإذا ما ولدت الناقة أربعة أبطن وجاءت بالمولود الخامس ذكرا يقول السدنة: يكفي أنها جاءت بأربعة بطون وأتت بالخامس فحلاً ذكراً ويشقون أذن الناقة ويتركونها؛ وعندما يراها أحد ويجد أذنها مشقوقة فالعرف يقضي بألا تستخدم في أي شيء، لا في الرضاعة، ولا في الحمل ولا يحلب لبنها ولا تمنع من المياه أو الكلأ وتسمى «
2647
البحيرة» ويأخذها السدنة في أي وقت؛ لأنهم لا يرديون تخزين اللحوم، يريدونها حية ليذبحوها في الوقت الذي يتراءى لهم، ولذلك قال الحق: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]
والبحيرة - إذن - هي الناقة التي تبحر آذاتها - أي تشق - فذلك يعني أنها جاءت بأربعة أبطن تباعاً ثم جاءت بالذكر في البطن الخامسة ويهبها صاحبها للأصنام. والبحيرة سائبة مع وجود سائبة أخرى، وهي وإن لم تأت بأربعة أبطن ولا بالذكر في البطن الخامسة ولكن صاحبها يقدمها نذراً أو هدية لأحد الأصنام. وتسمى «سائبة» لأن أحداً لا يقوم على شأنها، ولكنها ترعى في أي أرض وتشرب من أي ماء ولا أحد يأخذ من لبنها أو يركبها، ويأخذها السدنة وقت احتياجهم للحم الطازج الغضّ. وإذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة: وصلت أخاها فهذه هي الزصيلة؛ لأن الناس كانت تحتفظ بالإناث من البهائم فهي وعاء النسل؛ لذلك فهبة الفحل للسدنة كان أمراً مقدوراً عليه. ويقول الشاعر:
مُنًى.. إن تكن حقاً.. تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغداً
وإنما أمهات القوم أوعية مستحدثات وللأحساب آباء
ونرى في المزارع أن إناث المواشي تحتاج إلى فحل واحد؛ وقد يكون في البلدة كلها فحل واحد أو اثنان لإناث الماشية من النوع نفسه، ويفرح الأطفال في الريف حين تلد الماشية ذكراً؛ لأنه سيتغذى قليلاً ثم يتم ذبحه ويأكلون منه. ويغضب الأطفال حين تلد الماشية أنثى لأنه سيتم تربيتها، ولن يأكلوا منها.
أي أنهم قديماً عندما كانت الماشية تلد في بطن واحد أنثى وذكراً لا يذبحون الذكر ويقولون: الأنثى وصلت أخاها ويضمن الذكر حياته ويستخدم كفحل ليلقح بقية الإناث، ويقال عنها: الوصيلة.
هكذا نجد البحيرة هي الناقة التي أنجبت خمسة أبطن آخرها ذكر، والسائبة وهي النذر من أول الأمر، والوصيلة وهي التي ولدت أنثى ومعها ذكر، فيقال وصلت الأنثى أخاها، أي قدمت له الحماية. والحام هو الذكر الذي نتجت من صلبه عشرة
2648
أبطن فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وقالوا: حمى ظهره.
وهناك من يتحذلق في عصرنا قائلاً: أنا نباتي، لا آكل اللحم، على الرغم من أن الواحد منهم قد يذبح إنساناً ويدعي الحزن عند ذبح دجاجة، ونقول لهؤلاء: انتبهوا؛ إن الله قد سخر لنا هذه الأنعام وهي نفسها تحب أن ينتفع بها.
ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام﴾ وعرفنا أنهم كانوا يفعلون ذلك من اجل إرضاء سدنة الأصنام، هؤلاء السدنة الذين أحبوا أن تظل هذه الأصنام وهذه الأنعام المرصودة من أجلها. ولذلك أقول دائماً: آه من أن يرتبط رجل دين بمسائل دنيا؛ فهذا مصدر للخوف من أن يزيف الدين لمصلحة الأهواء.
ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق على لسان الشيطان: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾. وكشف لنا الحق كيف صار للشيطان أمر على هؤلاء الناس، مع ان الأمر يجب أن يكون لله وحده، ونتساءل: كيف يغيرون من خلق الله؟ وكل شيء هو من خلق الله.
والخلق - كما نعلم - إيجاد من عَدم، وسبحانه خلق كل شيء وجعل لكل كائن وظيفة ما، فهو خلق عن حكمه لغاية، وهذه الغاية موجودة في علم الخالق أزلاً - ولله المثل الأعلى - نجد المستحدَث الصناعي في الأسواق كغسالة الملابس مثلا ونعرف أن الذي صممها إنما صممها من أجل راحة الناس، وقد فكر في هذا الهدف قبل أن يصنع ويصمم الآلة التي تؤدي هذا العمل لتريح الناس من تعب غسل الملابس بأيديهم، وكذلك من صمم «الميكروفون» أراد في البداية هدفاً هو أن يصل الصوت لمن هو بعيد، ثم بدأ البحوث والتطبيقات من أجل أن يصل إلى الغاية والقصد.
والحق سبحانه وتعالى خلق كل خلق من خلقه لغاية، فإن استعملنا مخلوقه لغايته فلن نقع في محظور تغيير خلق الله، ولكن لو استعملنا المخلوق لغير الغاية فهذا هو التغيير لخلق الله، وساعة نريد فهم لفظ من الألفاظ فلنبحث في القرآن عن
2649
نظائره، وقد نجد في القرآن نفسه ما يفسر القرآن نفسه، فالحق يقول هنا: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾، وفي موقع آخر يقول: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤]
والخلق المعروف نراه في الكائنات، وهناك ما لا نراه أيضاً، والأمر مقصود به قوله الحق: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]
وآية أخرى تقربنا أكثر من هذا الموضوع: ﴿فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ [الروم: ٣٠]
وهذا يعني أن الخلق كله على أصل الفطرة. فإذا ما حاول أحد أن يغير الفطرة فهذا تغيير لخلق الله. ما الفطرة إذن؟. إنها الصفاء الأوليّ في النفس والطبيعة. ومثال ذلك حين يوجد الإنسان في بيئة لا تكذب فلن يعرف في حياته الكذب. وعندما يوجد الإنسان في بيئة لا تسرق فلن يعرف ما السرقة؛ فالإنسان إنما يتعرف على الموبقات من النقص المجتمعي، بدليل أن البلدان التي طبقت الشريعة الإسلامية وتم قطع عدد قليل من الأيدي عقوبة وحداً في السرقة انتهت فيها السرقة.
ونشأ جيل لم ير سارقاً. ومن يترك شيئا في مكان ما يظل في مكانه إلى أن يعود صاحبه ليجده، هذه هي الفطرة السليمة، ودليلنا على أن الفطرة سليمة بطبيعتها هو أننا نجد أن الذي يحاول صنع أمر ما يخالف الفطرة إنما يتلصص ويستتر؛ لأنه يعرف أن هذا الأمر غير سليم.
لقد ضربت المثل على ذلك بالرجل حين ينظر إلى زوجته، إنّه ينظر بكل ملكاته، أما إن نظر - والعياذ بالله - إلى محارم غيره فهو يتلصص ليختلس النظر بعيداً عن الآخرين. فالإنسان حين يرتكب إثماً يتكلف شيئاً متنافراً ومغايراً لطبيعته. والتكلف هو الإتيان بشيء خارج عن الفطرة الإنسانية. وتغيير كل ما يتعلق بالفطرة هو تغيير لخلق الله.
2650
وصور الفساد لا تأتي إلا من هذه الناحية.
كيف؟.
إننا نرى الحق قد خلق الزوجين الذكر والأنثى. ونجد من الرجال من يستأنث - أي أنه يحاول أن يكون أنثى - وقد يتصرف كما تسلك المرأة وتتصرف ويتزين بزينتها ويتخنث، هذا إنسان يريد أن يغير خلق الله. وكذلك قد نجد امرأة تريد أن تسترجل، فهي تريد أن تغير خلق الله.
ولذلك فإننا نرى أستاذاً عالماً هو الدكتور حسن جاد - أمده الله بالعافية - وهو شاعر وزميل لي ونشأنا معاً، رأى هذه الظاهرة، ظاهرة محاولة البعض تغيير خلق الله فقال قصيدة مشهورة جاء فيها:
من حيرتي من الذين اللاتي حرت بين الفتى وبين الفتاة
الشاعر يعلن حيرته؛ لأنه لا يتعرف على الفارق بين الفتى والفتاة، ففي بعض الأحيان صارا من «الذين واللاتي معاً» لأن الفتى يتشبّه بالفتاة، والفتاة تتشبّه بالفتى. على الرغم من احتفاظ كل منهما بخصائص نوعه، وبما يميزه عن النوع الآخر. وبعض النساء يقمن بإجراءات لتغيير الخلقة، كنزع شعر الحواجب من منابته وإعادة رسم مكانه بوضع خط بالقلم الملون، ويفضح ذلك نبتُ الشعر من جديد، فتتحول إلى شكل قبيح وتنسى أن الجمال إبداع تقاسيم، فقد يكون سرّ جمال واحدة أن يكون شعر الحاجبين كثيفا، وقد يكون سرّ الجمال للمرأة اتساع الفم، أو طول الأنف.
لقد سمعنا أن أنف كليوباترا لو كان قصيرا بعض الشيء لتغير وجه التاريخ. والحق سبحانه وتعالى كما وزع الأمزجة على العباد وزع أيضاً أسلوب الخلق بما يغطي هذه الأمزجة. ألا ترى في الحياة اليومية شاباً يتقدم لخطبة فتاة لا تعجبه، أو لا يعجبها، ويأتي آخر فيعجب بالفتاه وتعجب الفتاة به. هو سبحانه الذي أنشأ السيال العاطفي ليتواءم الخلق بهذا السيال. وقد تحاول فتاة أن تغير من خلق الله فتسبب بذلك فساداً للسيال العاطفي.
وقد تريد المرأة أن تجعل حمرة خديها في لون الورد فتضع عليهما بعضاً من
2651
المساحيق، ألا تعلم هذه المرأة أن زوجها وأقاربها يعرفون أنها قد صنعت ذلك بمواد خارجية، وماذا يكون موقفها عندما يراها زوجها في الصباح وقد أفسدت الألوان بشرتها، وماذا يكون موقفها عندما تتقدم بها السن وتكون مساحيق قد خنقت مسام جلدها ومنعت الجلد من التنفس، ويتحول شكلها باستمرار سوء فعلها إلى كائن أقرب إلى وجه القرد والعياذ بالله؟ لقد غيرت بسوء الفعل خلق الله.
وكذلك الأظافر التي يتم خنقها بطبقات من «البلاستيك» الملون. هل تظن واحدة أن هناك رجلاً قد يتصور أن هذا هو لون أظافرها الطبيعي؟. إن الأظافر ذات لون أراده الله بحكمه، لها نظام، فلماذا تحرم المرأة أظافرها من الحياة الطبيعية ومن نعمة تنفس الهواء، فالأظافر تتنفس أيضا. وقد يفتي واحد بأنه يصح للمرأة أن تتوضأ بعد أن تضع هذا الطلاء، وأقول: اتق الله؛ فهذه ليست أصباغاً؛ لأن الأصباغ تتخلل الجلد أو الظفر ولا يذهب لون الصبغة إلا بذهاب الجلد أو الظفر - مثل الحنة - وفي هذه الحالة يصل الماء في الطهارة إلى الجلد، أما طبقة البلاستيك التي على الظفر فلا تُزال إلا بمادة كيماوية ويمكن إزالتها وهي لون من الطلاء وليست صبغة ولا يصل الماء معها في الغسل أو الوضوء إلى البشرة.
ومن تفعل ذلك إنما تخدع نفسها ومن يُعجب بها. ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعدل من مزاج الكون فيعطي للإنسان سكناً ومتعة ولكن بتوازن عاطفي وعقلي، فلو أراد الله لخدّ المرأة التوهج لتثير غرائز الرجل لخلق الله الخدين على هذا الأسلوب، لكنه أراد للخدود أن تكون بألوانها الطبيعية حتى تهيج الغرائز على قدر القوة التي في الرجل، وعندما تكبر المرأة نجد جمالها قد ذبل قليلاً على قدر نسبة ذبول قدرة الرجل، فسبحانه يعطي على قدر الطاقة حتى لا تتحول المسألة إلى إهاجة للغرائز فقط.
إن هناك فرقا بين تصريف الغرائز وإهاجة الغرائز وإلهابها، وما يحدث من وسائل التجميل هو تغيير لخلق الله. وكذلك المرأة التي تحدث وشماً، أو الرجل الذي يفعل ذلك إنما يغيران من خلق الله، ولو كان الحق يرى أن مثل هذه الأعمال تزيد من الجمال لفعلها ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾.
2652
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً﴾ والولي للشيطان هو الذي يليه ويقرب منه. ومن فعل ذلك فقد ترك الأفضل وذهب إلى الأضعف الذي يورده مهاوي وموارد الهلاك، ويخسر الخسران الواضح والمحيط من كل الجهات، ولا انفلات من مثل هذا الخسران.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ... ﴾
2653
وهذا يعني أن الشيطان يقدم الوعود الكاذبة لمواليه ويخبرهم بشيء يسرهم، فالوعد هو أن يخبر أحد آخر بشيء يسرّه أن يوجد.
والمثال على ذلك نراه في الحياة العادية فالإنسان منا يحب ماله الذي قد جاء بالتعب، والصدقة في ظاهر الأمر تنقص المال، فيقول الحق: ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر﴾ [البقرة: ٢٦٨]
لماذا؟.
لأن الشيطان يوسوس في صدر صاحب المال قائلاً: إنك عندما تتصدق ببعض المال فمالك ينقص. وويل لمن يرضخ لوساوس الشيطان؛ لأنه يورده موارد التهلكة، والشيطان أيضاً يقدم الأماني الكاذبة في الوساوس: «ويمنيهم». ومثال ذلك ما جاء على لسان المتفاخر على أخيه بلون من الاستهزاء والعياذ بالله: ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٦]
2653
المتفاخر يقول: مادام الله قد أعطاني في الدنيا، وما دامت مهمة الله هي العطاء الدائم فلا بد أن يعطيني ربي في الآخرة أضعاف ما في الدنيا؛ ذلك أن سعيد الدنيا هو سعيد في الآخرة، فماذا كان جزاؤه؟.
لقد رأى انهيار زراعته وعرف سوء مصير الغرور؛ لأنه استجاب لوعود الشيطان، ووعود الشيطان ليست إلا غروراً ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾.
فما هو الغرور؟. هناك «غُرور» - بضم الغين -، و «غَرور» - بفتح الغين -. والغُرور - بضم الغين - هو الشيء يُصوَّر لك على أنّه حقيقة وهو في الواقع وَهْم. والغَرور - بفتح الغين - هو من يفعل هذه العملية، ولذلك فالغَرور - بفتح الغين - هو الشيطان؛ لأنه يزين للإنسان الأمر الوهمي، ويؤثر مثلما يؤثر السراب؛ فالإنسان حين يرى انكسار الأشعة يخيل إليه أنه يرى ماء، ويقول الحق عن ذلك: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ [النور: ٣٩]
وكذلك الغُرور، حيث يزين الشيطان شيئاً للإنسان ويوهمه أنه سيستمع به. فإذا ما ذهب الإنسان إليه فلن يجد له حقيقة، بل العكس، ولذلك يفصل لنا الحق أعمال الكفار فيقول عنها: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩]
ويفاجأ الكافر بوجود الله الذي كان كافراً به، ويصير أمام نكبتين: نكبة أنه كان ذاهباً إلى ماء فلا يجده فيخيب أمله، والنكبة الثانية أن يجد الله الذي يحاسبه على الإنكار والكفر.
ويقول الحق: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣]
2654
وقد يأتي واحد ويدعي لنفسه الإنسانية ويظن أنه يتكلم بالمنطق فيقول:
- هل هؤلاء الناس الذين قدموا للبشرية كل هذه المخترعات التي أفادت الناس كالمواصلات وغيرها، أيصيرون إلى عذاب؟. ونقول: هؤلاء سيأخذون جزاء الكفر؛ لأن الواحد منهم قد عمل أعماله وليس في باله الله.
بل قام بتلك الأعمال وفي باله عبقرية الابتكار والإنسانية وهو يأخذ من الإنسانية التكريم، وعليه أن يطلب أجره ممن عمل له وليس ممن لم يعمل به، وينطبق عليه قول الرسول:
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فَعّرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعَلّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعّرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار»
ولم يغمطهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا. فقد أخذوا من الدنيا كل التكريم.
ووزع سبحانه فضل هذه المواهب على الناس الذين في بالهم الله؛ لذلك ترى المسلم غير المتعلم يركب الطائرة ليحج بيت الله ويُسجل أحاديث الإيمان على شرائط ليسمعها من لم يحضر ويشاهد هذه الشعيرة، إذن فهؤلاء الكافرون مسخرون للمؤمنين لأنهم أتاحوا لهم الانتفاع بعلمهم واكتشافاتهم، والمؤمنون أيضاً مطالبون بأن يأخذوا بأسباب الله لينالوا كرم الله في عطاء العلم، بل إن ذلك واجب عليهم يأثمون إذا لم يقوموا به حتى لا يكونوا عالة على سواهم، فلا يستذلون.
2655
﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ وماذا يكون نصيب هؤلاء في الآخرة؟ يقول سبحانه: ﴿أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ... ﴾
2656
وكلمة «مأوى» معناها المكان الذي يضطر الإنسان إلى أن يأوى إليه، فهل هذا الاضطرار يكون اندفاعاً أو جذباً؟ سبحانه يقول عن النار إنها ستنطق قائلة: ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]
كأن النار ستجذب أصحابها. وهم لن يجدوا عنها محيصاً، أي لا مهرب ولا مفر ولا معدى، وكان باستطاعة الواحد منهم أن يفر من مخلوق مثله في دنيا الأغيار، ولكن حين يكون الأمر لله وحده فلا مفر. ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
والمقابل لذلك يورده الحق: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات... ﴾
وحين يأتي سبحانه بأمر يتعلق بالكفار وعقابهم فالنفوس مهيأة ومستعدة لتسمع عن المقابل، فإذا كان جزاء الكفار ينفر الإنسان من أن يكون منهم، فالنفس السامعة تنجذب إلى المقابل وهو الحديث عن جزاء المؤمنين أصحاب العمل الصالح. وسبحانه قال من قبل: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: ١١٤]
وهنا يقول: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾. والمتيقن من الله والواثق به يعلم أنه لا توجد مسافة تبعده عن عطاء الله، مثال ذلك «حينما سأل النبيُّ أحد الصحابة وكان اسمه الحارث بن مالك الأنصاري: (كيف أصبحت يا حارث؟).
قال: أصبحت مؤمنا حقاً. لقد أجاب الصحابي بكلمة كبيرة المعاني وهي الإيمان حقاً؛ لذلك قال الرسول: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك»
؟
أجاب الصحابي: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربيّ بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها).
فقال: «يا حارث: عرفت فالزم ثلاثا».
والحق ساعة يقول: «س» وساعة يقول: «سوف» فلكل حرف من الحروف الداخلة على الفعل ملحظ ومغزى وكل عطاء من الله جميل. ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
والجنة - كما قلنا من قبل - على إطلاقها تنصرف إلى جنة الآخرة فهي الجنة بحق، أما جنة الدنيا فمن الممكن أن يتصوّحَ نباتها وشجرها وييبس ويتناثر، أو يصيبها الجدب، أمّا جنة الآخرة فهي ذات الأكل الدائم، وإن لم تطلق كلمة «الجنة» من
2657
أي قيد أو وصف بل قيدت، فالقصد منها معنى آخرح كقول الحق: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: ١٧]
وقوله سبحانه: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ﴾ [البقرة: ٢٦٥]
والجنة بربوة هي البستان على مكان عال، وهي ذات مواصفات أعلى مما وصل إليه العلم الحديث؛ لأن الأرض إذا كانت عالية لا تستطيع المياه الجوفية أن تفسد جذور النبات المزروع في هذه الأرض، فيظل النبات أخضر اللون، ويقول الحق عن مثل هذه الجنة: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٦٥]
ويزيد على ذلك أنها بربوة، وأنها تروى بالمطر من أعلى، ومن الطل، فتأخذ الرّي من المطر للجذور، والطل لغسل الأوراق. كل ذلك يطلق على الجنة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ويطمئننا سبحانه على احتفاظها بنضرتها وخضرتها، وأول شيء يمنع الخضرة هو أن يقل الماء فتذبل الخضرة.
ونجد القرآن مرة يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار﴾ وهذا يعني أن منبع المياه بعيد. ومرة أخرى يقول: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ويعني أن منبع المياه لن يحجزه أحد؛ لأن الأنهار تجري وتنبع من تحتها.
ويعد الحق المؤمنين أصحاب العمل الصالح بالخلود في الجنة، والخلود هو المكث طويلاً، فإذا قال الحق: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي أن المكث في الجنة ينتقل من المكث طويلاً إلى المكث الدائم.
وهذا وعد مَن؟ ﴿وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾. وحين يعدك من
2658
لا يخرجه شيء عن إنفاذ وعده، فهذا هو وعد الحق - سبحانه -. أما وعد المساوي لك في البشرية فقد لا يتحقق، لعله ساعة إنفاذ الوعد يغير رأيه، أو لا يجد الوُجد واليسار والسَّعة والغنى فلا يستطيع أن يوفي بما وعد به، أو قد يتغير قلبه من ناحيتك، لكن الله سبحانه وتعالى لا تتناوله الأغيار، ولا يعجزه شيء، وليس معه إله آخر يقول له لا. إن وعده سبحانه لا رجوع فيه ولا محيص عن تحقيقه.
قول الله هنا ﴿وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ هو كلام منه ليوضح لكل واحد منا: أنا لا أريد أن أستفهم منك، لكنه جاء على صورة الاستفهام لتكون الإجابة من الخلق إقرارا منهم بصدق ما يقوله الله، أيوجد أصدق من الله؟
وتكون الإجابة: لا يمكن، حاشا لله؛ لأن الكذب إنما يأتي من الكذاب ليحقق لنفسه أمراً لم يكن الصدق ليحققه، أو لخوف ممن يكذب عنده، والله منزه عن ذلك، فإذا قال قولاً فهو صدق.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ... ﴾
2659
والأمنية - كما عرفنا - هي أن يطمح الإنسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل، إنَّ الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في الوجود استقبال المحافظ عليه، فلا يفسد الصالح بالفعل، وإن أراد الإنسان طموحاً إلى ما يسعد، فعليه أن يزيد الصالح صلاحاً.
والمثل الذي نضربه لذلك، عندما يوجد بئر يشرب منها الناس، فهذه البئر لها
2659
حواف وجوانب وأطراف، وتفسد البئر إذا جاء أحد لهذه الحوافي وأزاح ما فيها من الأتربة ليطمر البئر.
ومن يرد استمرار صلاح البئر فهو يتركها كما هي وبذلك يترك الصالح على صلاحه. وإن شاء إنسان أن يطمح إلى عمل مسعد ممتع له ولغيره فهو يعمل ليزيد الصالح صلاحاً.. كأن يأتي إلى جوانب البئر ويبني حولها جداراً من الطوب كي لا يتسلل التراب إلى الماء أو على الأقل يصنع غطاءً للبئر، فإن طمح الإنسان اكثر فهو يفكر في راحة الناس ويحاول أن يوفر عليهم الذهاب إلى البئر ليملأوا جِرارهم وقِرَبهم فيفكر في رفع المياه بمضخة ماصة كابسة إلى صهريج عال، ثم يخرج من هذا الصهريج الأنابيب لتصل إلى البيوت، فيأخذ كل واحد المياه وهو مرتاح، إنه بذلك يزيد الصالح صلاحاً.
أما إن أراد الإنسان أن يطمح إلى ممتع دون عمل.. فهذه هي الأماني الكاذبة. ولو ظل إنسان يحلم بالأمنيات ولا ينفذها بخطة من عمل.. فهذه هي الأماني التي لا ثمرة لها سوى الخيبة والتخلف.
إذن فالأمنية هي أن يطمح إنسان إلى أمر ممتع مسعد بدون رصيد من عمل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أعطانا من كل شيء سببا، ولنلحظ أن الحق قد قال: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٥]
أي أن الإنسان مطالب بأن يصنع أشياء تًرَقِّي أساليب الحياة في الأرض، فالله ضمن للإنسان الخليفة مقومات الحياة الضرورية، وعندما يريد الإنسان الترف والتنعم فلا بد أن يكدح. ومثال ذلك: لقد أعطى الحق الإنسان المطر فينزل الماء من السماء، وينزل ماء المطر في مجارٍ محددة، حفرها المطر لنفسه، وقد يكون في كل مجرى تراب من صخور أو طمي؛ لذلك يقوم الإنسان بترويق المياه، ويرفعها في صهاريج لتأتيه إلى المنزل، وبدلاً من أن يشربها بيده من النهر مباشرة، يصنع كوباً جميلاً. وصنع الإنسانُ الكوبَ في البداية من الفخار، ثم من مواد مختلفة كالنحاس ثم البللور. وهكذا نجد أن كل ترف يحتاج إلى عمل يوصل إليه، فليست المسألة بالأماني.
2660
وكذلك الانتساب إلى الدين، ليست المسألة أن يمتثل الإنسان وينتسب إلى الدين شكلاً، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليحكم بين الناس جميعاً، ولا يمكن لواحد أن ينتسب شكلاً إلى الإسلام ليأخذ المميزات ويتميز بها عن بقية خلق الله من الديانات الأخرى، لا؛ فالإنسان محكوم بما يدين به.
والمسلم أول محكوم بما دان به.
كذلك قال الحق: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ والخطاب هنا لمن؟. إن كان الخطاب للمؤمنين فالحق يوضح لهم: يا أيها المؤمنون ليست المسألة مسألة أماني، ولكنها مسألة عمل؛ لأن انتسابكم للإسلام لا يعفيكم من العمل؛ فكم من أناس يعبرون الدنيا وتنقضي حياتهم فيها ولا يصنعون حسنة، فإذا قيل لهم: ولماذا تعيشون الحياة بلا عمل؟ يقولون: أحسنّا الظن بالله. ونسمع الحسن البصري يقول لهؤلاء: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوماً ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل به.
وسبحانه يقول لهؤلاء: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾. أما إن كان الخطاب موجهاً لغير المؤمنين؛ فالحق لم يمنع عطاء الدنيا لمن أخذ بالأسباب حتى ولو لم يؤمن. أما جزاء الآخرة فهو وعد منه سبحانه للمؤمنين الذين عملوا صالحاً، وهو الوعد الحق بالجنة، هذا الوعد الحق ليس بالأماني بل إن الوصول إلى هذا الوعد يكون بالعمل.
إذن فقد يصح أن يكون الخطاب ب ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ شاملاً أيضا الكفار والمنافقين وأهل الكتاب. وكان للكفار بعض من الأماني كقول المنكر للبعث: ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٦]
هذه هي أماني الكفار. ولن يتحقق هذا الوعد بالجنة لأهل الكتاب، فقد قال الحق عن أمانيهم: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١]
2661
وقالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]
كل هذه أماني خادعة؛ لأن منهج الله واحد على الناس أجمعين، من انتسب للإسلام الذي جاء خاتماً فليعمل؛ لأن القضية الواضحة التي يحكم بها خلقه هي قوله سبحانه: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.
وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سدّدوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها».
وقال بعض العلماء: المراد بالسوء في هذه الآية هو الشرك بالله؛ لأن الله وعد أن يغفر بعض الذنوب. واستند في ذلك إلى قوله الحق: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: ٣٦]
كأن الجزاء المؤلم يكون للكفار، أما الذين آمنوا فالإيمان يرفعهم إلى شرف المنزلة ليقبل الله توبتهم ويغفر لهم، فسبحانه الحق جعل الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، وجعل صلاة الجمعة إلى صلاة الجمعة كفارة لما بينهما، وجعل الحج كفارة لما سبقه، وكل ذلك امتيازات إيمانية. أما جزاء الكفار فهو: «مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
ولا يقال فلان لا يجد إلا إذا بحث هذا الشخص عن شيء فلم يجده، فالإنسان بذاته لا يستغنى، ولكن من يعمل سوءا فليبحث لنفسه عن ولي أو نصير ولن يجد.
والولي هو الذي يلي الإنسان، أي يقرب منه، ومثلها النصير والمعاون،
2662
ولا يلي الإنسان ولا يقرب منه إلا من أحبه. ومادام قد أحب قويٌّ ضعيفاً، فهو قادر على الدفاع عنه ومعاونته.
ولماذا أورد الحق هنا «الولي»، و «النصير» ؟. والولي - كما عرفنا - هو القريب الذي يلي الإنسان، أما كلمة «نصير» فتوحي أن هناك معارك وخصومة بين المؤمن وغيره، وهناك قوة كبرى قد يظهر للإنسان أنها لا تسأل عنه لأنه في سلام ورخاء، إن هذه القوة عندما تعلم أن هناك خصوماً للمؤمن تأتي لنصرته، بينما لا يجد الكافر ولياً ولا نصيراً، ولن يجد من يقرب منه ولن يجد من ينصره إن عضته الأحداث، وعض الأحداث هو الذي يجعل الناس تتعاطف مع المصاب حتى إن البعيد عن الإنسان يفزع إليه لينصره، لكن أحداً لا ينصر على الله.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات... ﴾
2663
وجاءت كلمتا «ذكر» و «أنثى» هنا حتى لا يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله (يعمل) أن المرأة معفية منه؛ لأن المرأة في كثير من الأحكام نجد حكمها مطموراً في مسألة الرجل، وفي ذلك إيحاء بأن امرها مبني على الستر.
لكن الأشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليها. ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾. وجاء سبحانه هنا بلفظة (مِن) التي تدل على التبعيض.. أي على جزءٍ من كلّ فيقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات﴾ ولم يقل: «ومن يعمل الصالحات» لأنه يعلم خلقه. فلا يوجد إنسان يعمل كل الصالحات، هناك من يحاول عمل بعضٍ من الصالحات حسب قدرته. والمطلوب من المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه.
2663
وتبدأ الأعمال الصالحة من أن يترك الإنسان الأمور الصالحة على صلاحها، فإبقاء الصالح على صلاحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد، هذه هي أول مرتبة، ومن بعد ذلك يترقى الإنسان في الأعمال الصالحة التي تتفق مع خلافته في الأرض، وكل عمل تصلح به خلافة الإنسان في الأرض هو عمل صالح؛ فالذي يرصف طريقاً حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح، وتهيئة المواصلات للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح، ومن يعمل على ألاّ ينشغل بال البشر بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح.
كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح. وقد يصنع الإنسان الأعمال الصالحة وليس في باله إله كعلماء الدول المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد. كذلك العلماء الملاحدة قد يصنعون أعمالاً صالحة للإنسان، كرصف طرق وصناعة بعض الآلات التي ينتفع بها الناس، وقاموا بها للطموح الكشفي، والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم الإنسانية ونطبق عليه أنه عمل صالحاً، لكنه غير مؤمن؛ لذلك سيأخذ هؤلاء العلماء جزاءهم من الإنسانية التي عملوا لها، وليس لهم جزاء عند الله.
أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هو: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ [النساء: ١٢٤]
قد يقول البعض: إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحاً أو سوءا ونجد من يقول: من يعمل السوء هو الذي يجب أن يتلقى العقاب، وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم، والحق هو القائل: ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [يونس: ٢٧]
ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها. وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضلا من الله، والفضل من الله غير مقيد وهو فضل بلا حدود، فكيف يأتي في
2664
هذا المقام قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ وهم قد أعطوا أضعافاً مضاعفة من الجزاء الحسن، ونقول: إن الفضل من الخلق غير ملزم لهم، مثل من يستأجر عاملاً ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري، وفي آخر الشهر يعطيه فوق الأجر خمسين جنيهاً أو مائة، وفي شهر آخر لا يعطيه سوى أجره، وهذه الزيادة إعطاؤها ومنحها فضل من صاحب العمل.
أما الفضل بالنسبة لله فأمره مختلف. إنه غير محدود ولا رجوع فيه. وهذا هو معنى ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾، فسبحانه لا يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة، بل يعطي جزاء الحسنة عشر أمثالها وإلى سبعمائة ضعف، ولا يتراجع عن الفضل؛ فالتراجع في الفضل - بالنسبة لله - هو ظلم للعبد. ولا يقارن الفضل من الله بالفضل من البشر. فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما الله فلا رجوع عنده عن الفضل.
وهو القائل: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨]
وأصحاب العمل الصالح مع الإيمان يدخلون الجنة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ والنقير هو: النقرة في ظهره النواة، وهي أمر ضئيل للغاية. وهناك شيء آخر يسمى «الفتيل» وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر، وشيء ثالث يشبه الورقة ويغلف النواة واسمه «القطمير».
وضرب الله الأمثال بهذه الأشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ... ﴾
2665
وساعة نسمع استفهاماً مثل قوله الحق: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ فحسن الاستنباط يقتضي أن نفهم أن الذي أسلم وجهه لله هو الأحسن ديناً، وفي حديثنا اليومي نقول: ومن أكرم من زيد؟. معنى ذلك أن القائل لا يريد أن يصرح بأن زيداً هو أكرم الناس لكنه يترك ذلك للاستنباط الحسن. ولا يقال مثل هذا على صورة الاستفهام إلا إذا كان المخبر عنه محدداً ومعيناً، والقائل مطمئن إلى أنّ من يسمع سؤاله لن يجد جواباً إلا الأمر المحدد المعين لمسئول عنه. وكأن الناس ساعة تدير رأسها بحثاً عن جوابٍ للسؤال لن تجد إلا ماحدده السائل.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ والإجابة على مثل هذا التساؤل: لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله. وهكذا نرى أن الله يلقى خبراً مؤكداً في صيغة تساؤل مع أنه لو تكلم بالخبر لكان هو الصدق كله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ [لنساء: ١٢٢]
وسبحانه يلقي إلينا بالسؤال ليترك لنا حرية الجواب في الكلام، كأنه سبحانه يقول:
- أنا أطرح السؤال عليك أيها الإنسان وأترك لك الإجابة في إطار ذمتك وحكمك فقل لي من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله؟ وتبحث أنت عن الجواب فلا تجد أحسن ممن أسلم وجهه لله فتقول:
- لا أحد أحسن ممن أسلم وجهه لله. وبذلك تكون الإجابة من المخاطب إقراراً، فالإقرار - كما نعلم - سيد الأدلة.
2666
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ ونعلم أن الكلمة إذا أطلقت في عدة مواضع فهي لا تأخذ معنى واحداً. بل يتطلب كل موضع معنى يفرضه سياق الكلام، فإذا قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦]
فذلك لأن الوجه هو العضو المواجه الذي توجد به تميزات تبيّن وتوضح ملامح الأشخاص. لأننا لن نتعرف على واحد من كتفه أو من رجله، بل تعرف الأشخاص من سمات الوجوه.
وعندما نسمع قول الحق: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]
فإننا نتساءل: مالمراد بالوجه هنا؟
إن أردنا الوجه الذي يشبه وجوهنا فهذا وقوع في المحظور، لأن كل شيء متعلق بالله سبحانه وتعلى نأخذه على ضوء «ليس كمثله شيء» نقول ذلك حتى لا يقولن قائل: مادام وجه الله هو الذي لن يهلك يوم القيامة فهل تهلك يده أو غير ذلك؟. لا؛ إن الحق حين قال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ فالمقصود بذلك ذاته فهو سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه وسبحانه القائل: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]
إذن فوجه الله - هنا - هو الجهة التي يرتضيها، والإنسان يتجه بوجهه إلى الكعبة في أثناء الصلاة. وإياك أن تظن أنك حينما تولي وجهك صوب الكعبة أنها وجه الله؛ لأن الله موجود في كل الوجود، فأي متجه للإنسان سيجد فيه الله، بدليل أننا نصلي حول الكعبة، وتكون شرق واحد وغرب آخر، وشمال ثالث، وجنوب رابع، فكل الجهات موجودة في أثناء الطواف حول الكعبة وفي أثناء الصلاة، والكعبة موجودة هكذا لنطوف حولها، ولتكون متَّجَهنا إلى الله في جميع الاتجاهات.
2667
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥]
أي الجهة التي ارتضاها سبحانه وتعالى.
ونحن هنا في هذه الآية نرى قول الله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾. وأسلم وجهه أي أسلم اتجاهه؛ لأن الإنسان حين يكون ذاهباً إلى قصد أو هدف أو غرض، فيكون وجهه هو المتجه؛ لأن الإنسان لا يسير بظهره. والوجه هنا - إذن - هو الاتجاه.
ولماذا جاء الحق بالوجه فقط، برغم أن المؤمن يسلم مع الوجه كل الجوارح؟؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء، ولذلك جعل سبحانه السجود أضرف موقع للعبد؛ لأن القامة العالية والوجه الذي يحرص الإنسان على نظافته يسجد لله.
إذن أسلم وجهه لله، أي أسلم وجهته واتجاهه للهن ومعنى «أسلم» من الإسلام، ف «أسلم» تعني: سلّم زمام أموره لواحد. حين يسلم الإنسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه يعرف في هذا الأمر أفضل منه. ولا يسلم لمساو إلا إن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنّه صاحب حكمة وعلم ودراية عنه. فإن لم يلمس الإنسان ذلك فلن يسلم له. وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه، أليس هذا هو أفضل الأمور؟.
إن الإنسان قد يسلم زمامه لإنسان آخر لأنه يظن فيه الحكمة، ولكن أيضمن أن يبقى هذا الإنسان حكيماً؟ إنّه كإنسان هو ابن أغيار، وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له لها تكون مستعصية عليه، لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة. ولذلك قلنا: إن الإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلهاً قوياً وقادراً وحكيماً وعليماً وله القيومية في كل زمان ومكان. وحين يسلم الإنسان وجهه لله فلن يصنع عملاً إلا كانت وجهته إلى الله. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٥]
2668
ولماذا جاءت كلمة «محسن» هنا؟ وقد تكلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الإحسان، ونعرف أننا آمنا بالله غيباً، لكن عندما ندخل بالإيمان إلى مقام الإحسان، فإننا نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا. «والحوار الذي دار بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحد صحابته وكان اسمه الحارث فقال له:» كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) فقال: «يا حارث عرفت فالتزم ثلاثا».
ويعرف الإنسان من أهل الصلاح أنّه في لقاء دائم مع الله، لذلك يضع برنامجاً لنفسه موجزة أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه (وهو معكم أينما كنتم) إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين فيستحيي أن يعصيه.
ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عندما سأل حبريل - عليه السلام - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال له: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه؟ أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبدٍ مساوٍ لك.. فكيف تفعله مع الله؟!!
وتتجلى العظمة في قوله الحق: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ لماذا إذن «ملة إبراهيم» ؟ لأن القرآن يقول عن إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً﴾ [النحل: ١٢٠]
ومعنى كونه «أُمَّةً» : أنّه الجامع لكل خصال الخير التي لا تكاد تجتمع في فرد إلا
2669
إن وزعنا الخصال في امة بأكملها؛ فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي، وهذه الصفات الخيِّرة كلها لا تجتمع في فرد واحد إلا إذا جمعناها من أمة. وأراد الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن يكون جامعاً لخير كثير فوصفه بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠]
ويقول هنا عن ملة إبراهيم: ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾. والملة هي الديانة و «حنيفاً» أي «مائلا عن الباطل إلى الحق». والمعنى اللغوي لكلمة «حنيف» أنّه هو «المائل». وكان إبراهيم حنيفاً عن الباطل. ومتى تُرسل الرسل إلى الأقوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طمّ الفساد وعمّ، وحين تكون المجتمعات قادرة على إصلاح الفساد الذي فيها.. فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم، لكن إذا ما بلغ الفساد أَوْجَهُ، فالحق يرسل رسولاً. وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد، فالرسول يميل عن الفساد، بهذا يكون الميل عن الاعوجاج اعتدالا. ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ فما هي حيثيات الخُلَّة؟ لأنه يتبع أفضل دين، ويسلم لله وجهه، وكان محسناً، واتبع الملة، وكان حنيفاً، هذه هي حيثيات الخُلَّة. وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلام.
لقد حدثونا أن جبريل عليه السلام قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار، فقال جبريل يا إبراهيمم: ألك حاجة؟.
فقال إبراهيم «:» أما إليك فلا «، فقال جبريل فاسأل اربك فقال:» حسبي من سؤالي علمه بحالي «فقال الله:» يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم «أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئاً. وتلك قمة الإسلام لله. كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها؛ ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولداً في آخر حياته، وأوضح له الحق أنه مبتليه، وكان الابتلاء غاية في الصعوبة؛ فالابن لا يموت؛ ولا يقتله أحد ولكن يقوم الأب بذبحه، فكم درجة من الابتلاء مر بها إبراهيم عليه السلام؟!
2670
وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه، ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى﴾ [الصافات: ١٠٢]
ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام لا بالوحي المباشر. ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام. لم يقل:» افعل ما بدا لك يا أبي «ولكنه قال: ﴿ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٢]
أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معاً لأمر الله.
فماذا فعل الله؟ :﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١١٢]
ولا يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابناً، وله فداء، ولكن رزق الله إبراهيم بابن آخر هو إسحاق. ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾.
وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة»
خليلاً «، ويبحثوا ما فيها من صفات، وكل الأساليب التي وردت فيها. والكلمة مأخوذة من» الخاء ولام ولام «. و» الخَل «- بفتح الخاء - هو الطريق في الرمل، وهو ما نسميه في عرفنا» مدقاً «، وعادة يكون ضيقاً. وحينما يسير فيه اثنان فهما يتكاتفان إن كان بينهما ودّ عالٍ، وإن لم يكن بينهما ودّ فواحد يمشي خلف الآخر. ولذلك سموا الاثنين الذين يسيران متكاتفين» خليل «فكلاهما متخلل في الآخر أي متداخل فيه. والخليل أيضاً هو من يسد خلل
2671
صاحبه. والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلال والصفات والأخلاق. أو هو من يتخلل إليه الإنسان في مساتره، ويتخلل هو أيضاً في مساتر الإنسان. والإنسان قد يستقبل واحداً من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو في غرفة النوم. لكن هناك من لا يستقبله إلا في الصالون أو في غرفة المكتب.
﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصاً، والحب قد يُشارَك فيه، فهو سبحانه يحب واحداً وآخر وثالثاً ورابعاً وكل المؤمنين، فهو القائل:
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين﴾ [البقرة: ٢٢٢]
وسبحانه القائل: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ٧٦]
وهو يعلمنا: ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ [آل عمران: ١٤٦]
ويقول لنا: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٤٨]
ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [الممتحنة: ٨]
لكنه اصطفى إبراهيم خليلاً، أي لا مشاركة لأحد في مكانته، أما الحب فيعم، ولكن الخلَّة لا مشاركة فيها. ولذلك نرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخرج إلى
2672
قومه قائلاً: «أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا وإن صاحبكم خليل الله تعالى) يعني نفسه».
وإسماعيل صبري الشاعر المصري الذي كان أسبق من أحمد شوقي وكان شيخا للقضاة. التقط هذا المعنى من القرآن ومن الألفاظ التي دارت عليه في القرآن، ويقول:
ولما التقينا قرب الشوق جهده... خليلين زادا لوعة وعتابا
كأن خليلاً في خلال خليله... تسرب أثناء العناق وغابا
وشاعر آخر يقول:
فضمنا ضمة نبقى بها واحداً... ولكن إسماعيل صبري قال ما يفوق هذا المعنى: لقد تخللنا كأن بعضنا قد غاب في البعض الآخر.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات... ﴾
2673
وسبحانه أوضح في آية سابقة أنه لا ولي ولا نصير للكافرين أو للمنافقين.
ويؤكد لنا المعنى هنا: إياكم أن تظنوا أن هناك مَهْرَباً أو محيصاً أو معزلاً أو مفراً؛
2673
فلله ما في السموات وما في الأرض، فلا السموات تُؤِوي هارباً منه، ولا مَن في السموات يعاون هارباً منه، وسبحانه المحيط علماً بكل شيء والقادر على كل شيء.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله... ﴾
2674
«ويستفتونك» أي يطلبون الفتيا، ونعرف أن الدين قد مرّ بمراحل منها قول الحق: (يسألونك).
وهي تعبير عن سؤال المؤمنين في مواضع كثيرة. ومرحلة ثانية هي: «ويستفتونك». وما الفارق بين الاثنين؟
لقد سألوا عن الخمر والأهلَّة والمحيض والإنفاق. والسؤال هو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنه قال:
«ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
2674
أي أنه طلب منهم ألاّ ينبشوا وألاّ يُفتشوا في أشياء قد يجلبون بها على أنفسهم تكاليف جديدة، ومع ذلك سألوه عن رغبة في معرفة أي حكم يحدد حركة الإنسان في الحياة.
ولو كانوا لا يريدون تحديد حركة حياتهم فلماذا يسألونه؟. كان السؤال دليلاً على أن السائل قد عشق منهج الله فأحب أن يجعل منهج الله مسيطرا على كل أفعاله، فالشيء الذي أجمله وأوجزه الله يحب أن يسأل عنه.
وأيضاً فالإسلام جاء ليجد عاداتٍ للجاهلية وللعرب ولهم أحكام يسيرون عليها صنعوها لأنفسهم فلم يغير الإسلام فيها شيئاً، فما أحبوا أن يستمروا في ذلك لمجرد أنه من عمل آبائهم، ولكن أحبوا أن يكون كل سلوك لهم من صميم أمر الإسلام؛ لذلك سألوه في أشياء كثيرة.
أما الاستفتاء فهو عن أمر قد يوجد فيه حكم ملتبس، ولذلك يقول الواحد في أمر ما: فلنستفت عالماً في هذا الأمر؛ لأن معنى الاستفتاء عدم قدرة واحد من الناس أو جماعة منهم في استنباط حكم أو معرفة هذا الحكم، ولذلك يردون هذا الأمر إلى أهله.
والحق يقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [سورة النساء: ٨٣]
الاستفتاء - إذن - يكون لحكم موجود، ولكن المستفتي لا يملك القدرة على استنباطه. ولذلك نجد المجتمعات الإسلامية تخصص داراً للإفتاء؛ لأن المؤمن قد لا يعلم كل الجزئيات في الدين. وقد يعيش حياته ولا تمر به هذه الجزئيات، مثل أبواب الوقف أو المضاربة أو الميراث، فإن حدثت له مسألة فهو يستفتي فيها أهل الذكر. فالسؤال يكون محل العمل الرتيب، أما الفتوى فهي أمر ليس المطلوب أن تكون المعرفة به عامة. ولذلك يتجه المستفتي إلى أهل الذكر طالباً الفتيا.
والحق يقول: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء﴾ كأنهم قالوا للرسول: نريد حكم الله فيما يتعلق بالنساء حلاً وحرمة وتصرفاً.
2675
فكيف يكون الجواب؟ :﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ ولم يؤجل الله الفتوى لاستفتائهم بل سبق أن قاله، وعلى الرغم من ذلك فإنه - سبحانه - يفتيهم من جديد.
فلعل الحكم الذي نزل أولاً ليس على بالهم أو ليسوا على ذكر منه.
فقال الحق: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء﴾ [النساء: ١٢٧]
أي أن الحق يفتيكم في أمرهن، وسبق أن نزل في الكتاب، آية من سورة النساء. قال الحق فيها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣]
وتوالت آيات من بعد ذلك في أمر النساء.
فقوله الحق: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾.
إنما يعلمنا أن الإنسان لا يصح أن يتعجل الاستفتاء في شيء إلا إذا استعرض قبل ذلك ما عنده من علم لعله يجد فيه الجواب الذي يغنيه عن أن يستفتي.
ومع أن الاستفتاء في أمر النساء جملة: صغيرات وكبيرات، يتيمات وغير يتيمات فلماذا جاء الجواب في يتامى النساء؛ لأن النساء الكبيرات لهن القدرة على أن يبحثن أمورهن، ولسن ضعيفات، أمّا اليتيمة فهي ضعيفة الضعيفات، وعرفنا معنى اليتيم، واليتيم حيث لا يبلغ الإنسان المبلغ الذي يصبح فيه مستقلاً، فلا يقال لمن بلغ حَدَّ البلوغ سواء أكان رجلاً أم امرأة أنه يتيم؛ لذلك جاء الجواب خاصاً بيتامى النساء؛ لأن يتامى النساء هُنَّ دائماً تحت أولياء، هؤلاء الأولياء الذين نسميهم في
2676
عصرنا ب «الأوصياء» حالتان: فإن كانت البنت جميلة وذات مالٍ فالوصي يحب أن ينكحها ليستمتع بجمالها ويستولي على مالها. وإن كانت دميمة فالوصي لا يرغب في زواجها لذلك يعضلها، أي يمنعها من أن تتزوج؛ لأنها إن تزوجت فسيكون الزوج هو الأولى بالمال.
فاحتاجت هذه المسألة إلى تشريع واضح. وها نحن أولاء نجد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكانت له الفراسات التي تُسمى الفراسات الفاروقية جاءه واحد يسأله عن أمر يتيمة تحت وصايته، فقال سيدنا عمر:
- إن كانت جميلة فدعها تأخذ خيراً منك، وإن كانت دميمة فخذها زوجة وليكن مالها شفيعاً لدمامتها.
ويقول الحق: ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ [النساء: ١٢٧]
والذي كتب لهن إما أن يكون مهوراً. وإمّا أن يكون تركة، وجاء القول الحكيم ليرفع عن المرأة عسف الولي. وجاء الأمر بهذا الأسلوب العالي الذي لا يمكن أن يقوله غير رب كريم، ونجد مادة «رغب» تعني «أحب». فإذا ما كان الحال «أحب أن يكون» يقال: «رغب فيه»، وإذا «أحب ألاّ يكون» فيقال: «رغب عنه». ولذلك قال الحق: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٠]
ومادامت «عن» جاءت كما في الآية فما بعدها هو المتروك. لكن لو كان القول «رغب في» فهو لأمر محبوب. وكلمة «ترغبون» في هذه الآية نجدها محذوفة الحرف الذي يقوم بالتعدية حباً أو كرهاً؛ لأنها تقصد المعنيين.
فإن كانت الرغبة في المرأة.. تصير «ترغبون في» وإن كانت المرأة دميمة وزهد فيها القول يكون: «ترغبون عن» ولا يقدر أحد غير الله على أن يأتي بأسلوب يجمع بين الموقفين المتناقضين. وجاء الحق ليقنن للأمرين معاً.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: ﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ بجانب اليتيمات
2677
وهو الصنف المستضعف الاخر، أي اليتيم الذي لم يبلغ مبلغ الرجال وحينما يتكلم سبحانه عن الولاية والوصاية على مثل هؤلاء فهو يتكلم بأسلوبين اثنين، وإن لم يكن للإنسان ملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول: هذا كلام متناقض، لكن لو تمتع الإنسان بملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول: إن عظمة هذا الأسلوب لا يمكن أن يأتي به إلا رب كريم. فالحق قال: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]
قال الله ذلك على الرغم من أن الأموال هي في الأصل ملك للسفهاء؛ فالمال ليس ماله إلى أن يعود إليه رشده، وقد جعل الإسلام الأخوة الإيمانية للتكاتف والتكافل، وساعة يرى المسلمون واحداً من السفهاء فهم يحجرون على سلوكه حماية لماله من سفهه، والمال يصان ويحفظ ومطلوب من الوصيّ والولي أن يحميه، هذا ما قاله الحق في السفهاء.
والحق يتكلم في اليتامى. فيقول سبحانه: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦]
لأن السفيه أو المبذر ليس لأي منهما سلطة التصرف في المال بل سلطة التصرف تكون للوصي، وينتسب المال في هذه الحالة للوصي لأنه القائم عليه والحافظ له، لكن ما إن يبلغ القاصر الرشد فعلى الوصي أن يرد له المال.
ونحن أمام آية تضع القواعد لليتامى من النساء والمستضعفين من الولدان: ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ [النساء: ١٢٧]
2678
ما معنى القيامة لليتامى بالقسط؟ والقسط - بالكسر - تعني العدل. وتختلف عن «القَسط» - بفتح القاف - وهو يعني الجور، قَسَط - يقْسِط أي عدل، وقسط يَقْسُط، أي جار، فالعدل مصدره «القِسط» بالكسر للقاف، والجور مصدره «القَسط» بالفتح للقاف.
وبعض من الذين يريدون الاستدراك على كلام الله سفها بغير علم - قالوا:
- يأتي القرآن بالقسط بمعنى العدل في آيات متعددة، ثم يأتي في موقع آخر ليقول: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥]
و «القاسطون» هي اسم فاعل من قسط، ونقول: ومن قال لكم: إن «قسط» تستخدم فقط في معنى «عدل»، إنها تستعمل في «عدل» وفي «جار».
وسبحانه يقول عن العادلين: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [المائدة: ٤٢]
القاسط يذهب إلى النار، وهي مأخوذة من «قَسَط يقسٌُط». والمقسط يذهب إلى الجنة، ومقسط مأخوذة من أقسط.
وعندما نرى «أقسط» نراها تبدأ بهمزة الإزالة، أي كان هناك جور فأزلناه. أما القِسط - بالكسر - فهو العدل من البداية هو «يقسِط». بكسر السين في المضارع، أما يقسُط - بضم السين في المضارع - تعني «يجور ويظلم». ومن محاسن اللغة نجد اللفظ الواحد يُستعمل لأكثر من معنى؛ ليتعلم الإنسان لباقة الاستقبال، وليفهم الكلمات في ضوء السياق.
وقديماً كانت اللغة ملكة لا صناعة كما هي الآن في عصرنا. كانت اللغة ملكة إلى درجة أنهم إذا شكلوا الكتاب إلى المرسل إليه يغضب، ويرد الكتاب إلى مرسله ويقول لمن أرسله: أتشك في قدرتي على قراءة كتابك دون تشكيل؟. فتشكيل
2679
الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه، وفي عصرنا نجد من يلقي خطاباً يطلب تشكيل الخطاب حتى ينطق النطق السليم.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط﴾ وجاء الحكم في قوله الحق: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] وسبحانه يتكلم في المهور والأموال ويرتفع بالأمر إلى مرتبة اعتبار حسن التصرف في أمور اليتامى من المسئولية الإيمانية؛ فقد تكون اليتيمة لا مال لها وليست جميلة حتى يُطمع فيها أو في مالها، وفي هذه الحالة يجب على الولي أن يرعاها ويرعى حق الله فيها.
وقوله الحق: ﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط﴾ هو أمر بأن يقوم المؤمن على أمر اليتامى بالعدل؛ لأن اليتيمة قد تكون مع الولي ومع أهله، وقد يكون لليتيمة شيء من الوسامة، فيسرع إليها الولي بعطف وحنان زائد عن أولاده، وينبه الحق أن رعاية اليتيمة يجب أن تتسم بالعدل، ولا تزيد. ويقول سبحانه:
﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ ليدلنا على أن أمر الفعل والقيام به ليس مناط الجزاء، ولكن أمر النية في الفعل هو مناط الجزاء، فإياك أيها المؤمن أن تقول: فعلت، ولكن قل: فعلت بنيّة كذا.
إن الذي يمسح على رأس اليتيم يكون صاحب حظ عظيم في الثواب، ومن يكفل اليتيم فهو مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة. والذي يقدر ذلك هو الله - سبحانه - العليم بالخفايا حسب نية الشخص الذي يقوم بهذا العمل؛ فقد يتقرب واحد من يتيم ويتكلف العطف والحنان بينما يقصد التقرب إلى أم اليتيم؛ لذلك فمناط الجزاء ومناط الثواب هو في النيّة الدافعة والباعثة على العمل. ولا يكفي أن يقول الإنسان: إن نيّتي طيبة، ولا يعمل؛ فالحديث الشريف يقول:
«إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
2680
أي لا بد من ارتباط واقتران النيّة بالعمل؛ لأن الله يريد منا أن نعمل الخير وبذلك يعدي الإنسان الخير من نفسه إلى غيره وهذا هو المطلوب، فوجود النيّة للخير وحدها لا يكفي، وإن افتقد الإنسان النيّة وأدّى العمل فغيره يأخذ خيره ولا يأخذ هو شيئاً سوى التعب. فإن أراد الإنسان أن يكون له ثواب فلا بد من وجود نيّة طيبة، وعمل صالح.
ولم يقل الحق: «وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم» ؛ لأنه سبحانه عليم لا بعد أن نصنع العمل بل بكمال قدرته يعلم قبل أن نصنع الخير، وكل شيء كان معلوماً لله قبل أن يخلق الوجود، ولا ينتظر سبحانه إلى أن يقوم الإنسان بالعمل حتى يحصل ويحدث منه العلم. بل إنه - جل شأنه - يعلم كل شيء علما أزليّا؛ لذلك قال: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ ؛ لأن كل أمر برز في الوجود إنما كان على وفق ما علمه الله أزلاً قبل أن يوجد الوجود.
وفي المجال البشري نرى المهندس يتلقى التعليمات من صاحب الأرض الخلاء ويقول له: صمم لي قصراً صغيراً على مساحة كذا ومكوناً من كذا حجرة. وعدد محدود من دورات المياه، وبعد ذلك يصمم المهندس الرسم الهندسي على الورق حسب أوامر صاحب الأرض. وقد يكون صاحب الأرض دقيقا فطنا غايةً في الدقة فيقول للمهندس: إنني أريد أن تصنع لي نموذجا صغيراً قبل البناء بحيث أرى تطبيقاً واقعياً بمقياس هندسي مصغر، وأن تبنى الحجرات بقطاعات واضحة حتى أرى ألوانها وكيفيتها.
هكذا العالَم قبل أن يوجد، كان معلوما علما تفصيليا بكل دقائقه وأبعاده عند خالقه، والنماذج المصغرة التي يصنعها البشر قد يقصر البشر فيها عن صناعة شيء لعدم توافر المواد، كالنجار الذي يقصر في صنع حجرة نوم من خشب الورد لندرته، فيستعيض بخشب من نوع آخر، وذلك خلل في علم وقدرة المنفذ. أما خلق الله فهو يبلغ تمام الدقة؛ لأنه - سبحانه - هو الصانع الأول. هذا ما يجب أن نفهمه عندما نقرأ: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾.
وبعد ذلك يتكلم الحق عما يتعلق بالنساء فيقول:
2681
﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً... ﴾
2682
وساعة نرى «إن» وبعدها اسم مرفوع كما في قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: ٦]
فلنعرف أن «إنْ» هذه داخلة على فعل، أي أن ترتيبها الأساسي هو: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وهنا في هذه الآية: يكون التقدير: وإن خافت إمرأة من بعلها نشوزاً، وما الخوف؟. هو توقع أمر محزن أو مسيء؛ لم يحدث بعد ولكن الإنسان ينتظره، وحين يخاف الإنسان فهو يتوقع حدوث الأمر السيء. وهكذا نجد أنّ الخوف هو توقع ما يمكن أن يكون متعباً. وقوله الحق: ﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً﴾ أي أن النشوز لم يحدث ولكن المرأة تخاف أن يحدث. ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز لا حدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منا ألا يترك المسائل حتى تقع، بل عليه أن يتلافى أسبابها قبل أن تقع؛ لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضاً من ملامح نشوز الزوج فعليها أن تعالج الأمر.
ونلحظ أن الحق يتكلم هنا عن نشوز الرجل، وسبق أن تكلم سبحانه عن نشوز المرأة: ﴿واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: ٣٤]
2682
ما النشوز؟ عندما نسمع عن الموسيقى نجد من يقول: «هذه نغمة نشاز» أي أنها نغمة خرجت عن تسلسل النغم وإيقاعه. والأصل فيها مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع وظهر من الأرض، والمفروض في الأرض أن تكون مبسوطة، فإن وجدنا فيها نتوءا فهذا اسمه نشوز.
والأصل في علاقة الرجل بزوجته، أن الرجل قد أخذ المرأة سكناً له ومودة ورحمة وأفضى إليها وأفضت إليه، واشترط الفقهاء في الزواج التكافؤ أي أن يكون الزوجان متقاربين؛ ولذلك قال الحق: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: ٢٦]
حتى الكفاءة تكون في الطيبة أوالخبث، فلا يأتي واحد بامرأة خبيثة ويزوجها لرجل طيب كي لا تتعبه، ولا يأتي واحد برجل خبيث ويزوجه بامرأة طيبة كي لا يتعبها؛ لأن الطيب عندما يتزوج طيبة تريحه وتقدره.
وكذلك الخبيث عندما يتزوج خبيثة فإنهما يتوافقان في الطباع والسلوك، وفي هذا توازن، والخبيث إن لم يخجل من الفضيحة، فالخبيثة لا تخجل منها أيضاً، أما الطيب والطيبة فكلاهما يخشى على مشاعر الآخر ويحافظ على كرامته، فإن خافت امرأة من بعلها نشوزاً أي ارتفاعاً عن المستوى المفترض في المعاملة، في السكن والمودة والرحمة التي ينبغي أن تكون موجودة بين الزوجين، وهي قد أفضت إليه وأفضى إليها، فإن خافت أن يستعلي عليها بنفسه أو بالنفقة أو ينالها بالاحتقار، أو ضاعت منه مودته أو رحمته، هذا كله نشوز. وبل حدوث ذلك على الزوجة الذكية أن تنتبه لنفسها وترى ملامح ذلك النشوز في الزوج قبل أن يقع، فإن كانت الأسباب من جهتها فعليها أن تعالج هذه الأسباب، وترجع إلى نفسها وتصلح من الأمر.
وإن كانت منه تحاول كسب مودته مرة أخرى.
﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً﴾ والإعراض يعني أنه لم ينشزبعد ولكنه لا يؤانس الزوجة ولا يحدثها ولا يلاطفها على الرغم من أنه يعطيها كل حقوقها. وعلى المرأة أن تعالج هذه المسألة أيضاً. والقضية التي بين اثنين - كما قلنا - وقال الله عنهما:
2683
﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١]
وقال في ذلك أيضا: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧]
أي أن يغطي الرجل المرأة وتغطي المرأة الرجل فهي ستر له وهو ستر لها وحماية. ونعرف أن المرأة إن دخل عليها أبوها أو أخوها فهي تداري أي جزء ظاهر من جسمها، أما عندما يدخل عليها زوجها فلا تستر ولا تخفي شيئاً.
ويعرف كل زوج متزوج وكل امرأة متزوجة أن بينهما إفضاءً متبادلاً، فقد أباح الله للرجل من زوجته ما لا يبيحه لأحد، وكذلك المرأة، فلا يقول الرجل أي نعت أو وصف جارح للمرأة، وعلى المرأة أن تحافظ كذلك على زوجها. ولها أن تتذكر أنها اطلعت على عورته بحق الله، واطلع على عورتها بحق الله.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينهي هذا الخلاف قبل أن يقع؛ لذلك أوجب على المرأة أن تبحث عن سبب النشوز وسبب الإعراض فقد تكون قد كبرت في العمر أو نزلت بها علة ومرض وما زال في الرجل بقية من فتوة. وقد يصح أن امرأة أخرى قد استمالته أو يرغب في الزواج بأخرى لأي سبب من الأسباب، هنا على المرأة أن تعالج المسألة علاج العقلاء وتتنازل عن قَسْمها، فقد تكون غير مليحة وأراد هو الزَّواج فلتسمح له بذلك، أو تتنازل له عن شيء من المهر، المهم أن يدور الصلح بين الرجل وزوجته، وهي مهمة الرجل كما أنها مهمة المرأة.
﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾ والصلح هنا مهمة الاثنين معاً؛ لأن كل مشكلة لا تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيراً، والذي يجعل المشكلات صعبة هم هؤلاء الذين يتدخلون في العلاقة بين الرجل والمرأة، وليس بينهما ما بين الرجل والمرأة، والرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود، فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلاف لكن إن تدخل أحد الأقارب فالمشكلة قد تتعقد مِن تدخل من لا يملك سبباً أو دافعاً لحل المشكلة.
2684
لذلك يجب أن ننتبه إلى قول الحق هنا: ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا﴾.
وأولى درجات الصلح بين الرجل والمرأة هو أن يقوم كل منهما بمسئوليته وليتذكر الاثنان قول الحق: ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]
وكذلك قول الحق سبحانه:
﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء: ١٩]
ولايظنن رجل أن هناك امرأة هي مجمع كل الجمال والخيرات؛ لأن كل خصال الخير التي تتطلبها الحياة، قد لا تتوافر في المرأة الجميلة. بل قد توجد في المرأة التي ليست على حظ من الحسن؛ لأن ذات الحسن قد تستند إلى رصيد حسنها. أما التي ليس لها حظ من الحسن فهي تحاول أن تكون أمينة ومطيعة ومدبرة وحسنة التصرف مع أهل زوجها؛ لأنها تريد أن تستبقي لنفسها رصيد استبقاء.
ولذلك نجد اللاتي ليس لهن حظ من الحسن هن الغالبية الكبيرة في حمل أعباء تكوين الأسرة، فلا يصح أن يأخذ الرجل الزاوية الوحيدة للجمال الحسيّ، بل عليه أن يأخذ الجمال بكل جوانبه وزواياه؛ لأن الجمال الحسيّ قد يأخذ بعقل الرجال، لكن عمره قصير. وهناك زوايا من الجمال لا نهاية إلا بنهاية العمر.
وقد حدَّثونا عن واحد من الصالحين كانت له امرأة شديدة المراس والتسلط عليه، وهو رجل طيب فقال لها: آه لو رأيتني وأنا في دروس العلم والناس يستشرفون إلى سماعي. لقد ظن أنها عندما تراه في مجلس العلم سترتدع، وتكون حنونة عليه.
وذهبت لحضور درس العلم، ورآها، وظن أن ذلك سيزرع هيبة له في قلبها، وعاد إليها آخر النهار وقال لها: لقد رأيتني اليوم. فقالت: رأيتك ويا حسرة ما رأيت، رأيت كل الناس تجلس باتزان إلا أنت فقد كنت تصرخ.
2685
وحدثونا عن هذا الرجل أن الله كان يكرمه بالمدد جزاء صبره على امرأته، وكان المريدون يرون إشراقات الله في تصرفاته، وماتت امرأته. وذهب المريدون ولم يجدوا عنده الإشراقات التي كانت عنده من قبل. فسألوه: لماذا؟ فقال: ماتت التي كان يكرمني الله من أجلها.
فكما أن المطلوب من المرأة أن تصبر على الرجل، فالرجل مطلوب منه أن يصبر علىلمرأة. والذي يصبر عليها يؤتيه الله خيرها؛ ولذلك قالوا: «إن عمران بن حطان كان من الخوارج وكان له امرأة جميلة وكان هو دميم الملامح، فنظرت إليه زوجته مرة وقالت: الحمد لله فقال لها: على أي شيء تحمدين الله؟ قالت: على أني وأنك في الجنة. قال: لم؟. قالت: لأنك رزقت بي فشكرت، ورزقت بك فصبرت، والشاكر والصابر كلاهما في الجنة.
ولا يظنن واحد أنه سيجد امرأة هي مجمع الجمال والحسن في كل شيء، فإن كانت متدنية المستوى في جانب فهي متميزة في جانب آخر، فلا تضيع الامتياز الذي فيها من أجل قصورها في جانب ما. وزوايا الحياة كثيرة. وقلنا سابقاً: إنه لا يوجد أحد ابناً لله، بل كلنا بالنسبة لله عبيد. ومادمنا جميعاً بالنسبة لله عبيداً وليس فينا ابن له. وسبحانه أعطانا أسباب الفضل على سواء، فهناك فرد قد أخذ الامتياز في جانب، والآخر قد نال الامتياز في جانب آخر - هذا النقص في زاوية ما، والامتياز في زاوية أخرى، أراد به الله أن يجعل مجموع صفات ومزايا أي إنسان يساوي مجموع إنسان آخر حتى يتوازن العالم.
فإن وجد الإنسان شيئاَ لا يعجبه في المرأة، ووجدت المرأة شيئاً لا يعجبها في الرجل، فعلى الرجل أن يضم الزوايا كلها ليرى الصورة المكتملة للمرأة، وأن تضم المرأة كل الزوايا حتى ترى الصورة المكتملة للرجل.
والرجل الذي ينظر إلى كل الزوايا يحيا مرتاح البال؛ لأنه يرى من الزوايا الحسنة أضعاف الزوايا التي ليست كذلك، والذي يرضى هو من ينظر إلى المحاسن. والذي يغضب هو من ينظر إلى المقابح. والعادل في الغضب والرضا هو مَن ينظر إلى مجموع هذا ومجموع هذا، إنّ الحق سبحانه وتعالى يريد أن تُبنى الأسرة على السلامة فيوضح لنا:
2686
لا تنتظر أيها الرجل ولا تنتظري أيتها المرأة إلى أن يقع الخلاف، فما أن تبدو البوادر فعليكما بحل المشكلات، فليس هناك أحد قادر على حل المشكلات مثلكما؛ لأنه لا يوجد أحد بينه وبين غيره من الروابط والوشائج مثل ما بين الرجل وزوجته؛ لذلك قال سبحانه: ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾.
إننا في بعض الأحيان نجد الصلح يأخذ شكلية الصلح، أما موضوع الصلح وهو إنهاء الجفوة والمواجيد النفسية فقد لا يوجد، والذي يعرقل الصلح هو أننا نقوم بالشكلية ولا نعالج الأسباب الحقيقية المدفونة في النفوس، والتي تتسرب إلى موضوعات اخرى؛ لذلك يجب أن يكون الصلح، ويتم بحقيقته كقول الله تعالى: ﴿أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ﴾ وعندما تتراضى النفوس يعم الخير على الزوجين وعلى المجتمع.
وبعد ذلك يتابع الحق: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾. يوضح لنا سبحانه: أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الأولى «الشبكة»، أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى. وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس، وكذلك يصعب على الرجل أن يتنازل عن مقاييسه، إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض. وجاء الحق في آية وقال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢١]
وهنا يقول: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ وهناك فرق بين الحقوق التي قد يتمسك بها أحد الزوجين، والإحسان الذي يَتطوع به. ونعرف ما فعله قاضٍ فاضل عندما قال لخصمين: أأحكم بينكما بالعدل أو بما هو خير من العدل؟
فسأل واحد: وهل هناك خير من العدل؟ فقال القاضي: نعم إنه الفضل. فالعدل إعطاء الحق فقط، والفضل ان يتنازل الإنسان عن حقه بالتراضي لأخيه.
2687
ويذيل الحق الآية: ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ وسبحانه وتعالى يريد أن يحل مشكلة نفسية قد تتعرض لها الأسر التي لا توجد فيها خميرة عقدية إيمانية، لا عند الرجل ولا عند المرأة، ولو كانت هذه الأسر تملك الخميرة الإيمانية المسبقة وأخذت أحكام الله بحقها لما وجدت هذه المشكلة، إنها مشكلة التعدد.
ظاهر الأمر أن الرجل حين يعدد زوجاته يكون محظوظاً؛ لأنه غير مقيد بواحدة بل له إلى أربع، والمغبون هي المرأة؛ لأنها مقيدة بزوج واحد، فليست كل امرأة مهضومة، لأن الزوجة الجديدة تشعر بالسعادة. وقد نجد امرأة قال لها زوجها: سأتزوج بثانية، ورضيت هي بذلك، بعد أن وازنت بين أمورها فاختارت خير الأمور.
روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وتقسم لي فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إليّ فأقرها. إذن فالغمة في زواج الرجل من زوجة أخرى لا تعم كل النساء، فإن أحدث الزواج الغم والحزن عند الزوجة الأولى فهو يحدث سروراً عند الزوجة الثانية. والمرأة معذورة في ذلك لأن الرجل أخذ حكم الله في أن يعدد ولم يأخذ مع هذا الحكم أن يعدل. والرجل يظلم المرأة حين يأخذ الحكم الذي في صالحه وهو إباحة التعدد ولا يأخذ من مبيح التعدد وهو المشرع الأعلى - وهو الله - الأمر بأن يعدل بين زوجاته.
لقد جنحت المجتمعات لأنهم رأوا الرجل حين يتزوج بأخرى لا يلتفت إلا للزوجة الجديدة، ويهمل القديمة وأولاده منها؛ لذلك فالنساء معذورات في أن يغضبن من هذه المسألة. ولو أن الرجل أخذ حكم الله بالعدل كما أخذ إباحة الله في التعدد لحدث التوازن. وحين تعرف المرأة الأولى أن حقها لن يضيع لا في نفسها ولا في بيتها ولا في رعاية أولادها. فهي تقول: «من الأفضل أن يكون متزوجاً أمام عيني بدلاً من أن يدس نفسه في أعراض الناس».
إذن فالذي يثير المسألة كإشكال أن الرجل يأخذ بعض الكتاب فيعمل به ويترك بعضه فلا يطبقه ولا يعمل به. والذين يأخذون إباحة الله في التعدد لا بد أن يأخذوه
2688
بأصوله التي وضعها الله في إطار العدالة. وحين يكون للرجل امرأتان مثل سيدنا معاذ بن جبل، فكل امرأة لها حق في البيتوتة، ليلة لزوجة وليلة لأخرى مثلا، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يتوضأ عند واحدة في ليلة الأخرى مع أن الوضوء قربة لله. والأعجب من ذلك عندما ماتت الزوجتان في الطاعون، أمر بدفن الاثنتين في قبر واحد.
والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وأمر بالعدالة في المستطاع، وعلى الرجل أن يعدل زَمَناً، ويعدل نفقة، ويعدل ابتسامة، ويعدل مؤانسة ومواساة، والرجل في كل ذلك يستطيع، لكنه لا يستطيع أن يعدل في ميل القلب، وهو أمر مكتوم؛ لذلك قال الحق: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ... ﴾
2689
أي أن العدل الحبّي مستحيل. وقال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: (اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) - يعني القلب -.
إذن ففيه فرق بين ميل القلب وهو مواجيد نفسية والنزوع النفسي. والعملية الوجدانية لا يقدر عليها أحد، ولا يوجد تقنين يقول للرجل: «أحب فلانة».. إلا إذا أراد الحب العقلي، أما الحب العاطفي فلا. والذي يأمر به الشرع هو أن يحب الإنسان بالعقل، أما حب العاطفة فلا تقنين له أبداً.
وقد يحب الإنسان الدواء المر بعقله لا بعاطفته ويسرّ الإنسان من صديق جاء بهذا
2689
الدواء من الخارج؛ لأن الدواء سيشفيه بإذن الله.
إذن ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾، ما هو كل الميل؟ ويوضحه - سبحانه - بقوله: ﴿فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾ وهي المرأة التي لا هي أيّم أي لا زوج لها فتطلب الزواج، ولا هي متزوجة فتستمتع بوجود زوج، ويحجزها الرجل دون أن يمارس مسئوليته عنها، فيوضح الحق: أنا لا أطلب منك أن تميل بقلبك هنا، أو هناك؛ لأن هذه المسألة ليست ملكاً لك، ولكني أريد العدالة في الموضوعات الأخرى؛ كأن تسوّي في البيتوتة والنفقة، ومطلوبات أولادك، وأن تعدل بين أزواجك في المؤانسة. أما المعنى الآخر وهو ميل القلب فأنا لا أكلف به.
وسبحانه حين يشرّع لخلقه أعلم بمن خلق، وقد جعل لكل مخلوق منا عواطف ينشأ عنها ميل، وجعل له غرائز، وخيارات في الانفعالات ولو أراد سبحانه أن يحجر على الميل لما خلقه، ولكنه - جل وعلا - يطلق الميول لتتم بالميول مصالح الكون مجتمعة، فحين يمنح القلب أن يحب، يعلم سبحانه أن عمارة الكون تنشأ بالحب. فلو لم يحب العالم أن يكتشف أسرار الله في خلقه لما حمَّل نفسه متاعب البحث والاطلاع والتجربة، وكل ما يترتب على ذلك من مشقات.
ولو لم يحب الإنسان إتقان عمله لما رأيت عملاً مجوَّداً. ولو لم يحب الإنسان أولاده لما تحمل المشقة في تبعات تربيتهم. إذن فالحب له مهمة. والله لا يريد منا أن نمنع الحب. لكنه يريد منا أن نعلي مطالب الحب، فنجعل للحب مجالاته المشروعة لا أن ينطلق الحب في الكون ليعربد في أعراض الناس.
إنك حين تجعل الحب موجهاً إلى خير لا يأتيك منه أو للناس شرّ. وعندما ننظر - مثلا - إلى دافع وغريزة حب الاستطلاع نجد أن الله قد خلقها في الإنسان ليصعد ابتكاراته المسعدة في الحياة. ولو لم توجد غرائز حب الاستطلاع لما تعب المكتشف في أن يبتكر شيئاً أو يخترعه ويكتشفه حتى يريحنا نحن البشر، ولما فكر الإنسان في أن يستعمل البخار ليحمل عن الناس مشقات السفر ومشقات حمل الثقيل.
إن هذا الاكتشاف أراحنا باختراع الباخرة أو القطار.
ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعلي غريزة حب الاستطلاع فينبغي أن نجعلها
2690
في مجالها المشروع فلا نجعلها تجسساً على عورات الناس مثلاً، وكذلك جعل الله غريزة المال في الإنسان؛ لأن حب المال يدفع الإنسان إلى أن يعمل، ويستفيد الناس من عمله أراد أو لم يرد. كذلك غريزة الجنس جعلها الله في الإنسان ولها سعار ليحفظ بها النوع الإنساني. إنّه سبحانه لا يريد منها أن تنطلق انطلاقاً يلغ في أعراض الناس. إذن فالغرائز خلقها الله لمهمة. والشرائع جاءت لتحفظ الغرائز في مجال مهمتها وتمنع عنها انطلاقاتها المسعورة في غير المجالات التي حددها لها المنهج.
إذن فالميل أمر فطري في النفس البشرية وقد أوضح الحق سبحانه: أنا خلقت الميل ليخدم في عمارة الكون، ولكن أريد منكم أن تصعدوا الهوى وتعلوه في هذا الميل، وحين تعددون الزوجات. لا أطلب منكم البعد عن كل الميل؛ لأن ذلك أمر لا يحكمه منطق عقلي، ولكن أحب أن تحددوا الميل وتجعلوه في مجاله القلبي فقط، ولا يصح أن يتعدى الميل عند أحدكم إلى ميله القالبي.
أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من تحب خير غيره ظلماً، وأبغض أيها العبد من شئت، فلا يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو يحب، لكن بغضك لا تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض.
ولنا الأسوة في سيدنا عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - حينما مرّ عليه قاتل أخيه، ولفت نظره جليس له: هذا قاتل أخيك.
هنا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟ كأن إسلام هذا القاتل قد أنهى المسألة عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وعندما جاء هذا القاتل لمجلس عمر، قال له سيدنا عمر: إذا أقبلت عليّ إلوِ وجهك عني، لأن قلبي لا يرتاح لك. فسأل الرجل: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟. قال عمر: لا.
قال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. هذا عمر وهو الخليفة، والرجل من الرعية. لكن عمر الخليفة يخاف من الظلم، ويملك هذا الشخص وهو تحت إمرة وحكم الخليفة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قدرة الرفض لمشاعر الحب أو الكراهية ما دامت لا تمنع حقوقه كمواطن.
2691
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يخلق ميول القلوب يضع أيضاً القاعدة: إياك أيها المؤمن أن تعدي ميل القلب إلى القالب، وليكن ميل القلب كما تحب. كذلك إن أنت أيها المؤمن تزوجت وبعد ذلك تزوجت امرأة أخرى فالمنهج لا يطلب منك أن تعدل العدل المطلق الذي ينصب على شيء لا تملكه وهو ميل قلبك.
ولكن المنهج يضع لك القواعد التي يسير عليها سلوك قالبك. وعليك أن تعدل في قسمة الزمن والنفقة والكسوة وبشاشة الوجه وحسن الحديث. ولا تخضع ذلك لميل القلب، وبعد ذلك أنت وقلبك أحرار.
ونرى بعضا من الذين يحبون أن يظهروا بين الناس كفاهمين للقرآن أو دعاة تجديد، يركبون الموجة ضد التعدد. ونقول: قبل أن يركب الواحد منكم الموجة ضد التعدد، ويقف منه موقف الرافض له مدعيا أنه يفهم النص القرآني، إنّنا نقول له: عليك أن تبحث عن أسباب السخط على التعدد، هي ليست من التعدد في ذاته، ولكنها تأتي من أن المسلم يأخذ إباحة الله للتعدد. ولا يأخذ حكم الله في العدالة. فلو أن المسلم أخذ بالعدالة مع التعدد لما وجدنا مثل هذه الأزمة. ولذلك يقول الواحد من هؤلاء: إن الحق سبحانه وتعالى أمر بلزوم واحدة والاقتصار عليها عند خوف ترك العدل في التعدد فقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: ٣]
ثم جاء في آية أخرى وقال: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾.
ونقول: إن الواحد منكم إن أراد أن يفهم القرآن، فعليه أن يعلم أن الحق سبحانه لم يقف في هذه الآية عند قوله: (ولو حرصتم) إنما فرع على عدم الاستطاعة في العدل فقال: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ إنه - سبحانه - فرع على عدم الاستطاعة في العدل فأمر بعدم الميل كل الميل. وتلك حكمة المشرع الأول الذي يعلم مَن خلق وكيف خلق. ولو أن الحق لم يفرِّع على «ولن تستطيعوا» لجاز لهؤلاء الذين يركبون الموجة المطالبة بعدم التعدد أن يقولوا ما يقولون؛ لذلك نقول لهم: انتبهوا إلى أن الحق سبحانه أوضح: عدم استطاعتكم للعدل هو أمر أنا أعلمه، ولذلك أطلب منكم ألا تميلوا كل الميل وذلك باستطاعتكم. ومعنى هذا أنه سبحانه قد أبقى الحكم ولم يسلبه.
2692
﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾. وفي هذا القول أمر بألا يترك الرجل زوجته الأولى كالمعلقة وهي المرأة التي لم يتحدد مصيرها ومسارها في الحياة، فلا هي بغير زوج فتتزوج، ولا هي متزوجة فتأخذ قسمها وحظها من زوجها، بل عليه أن يعطيها حظها في البيتوتة والنفقة والملبس وحسن الاستقبال والبشاشة والمؤانسة والمواساة.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
وقوله: «تصلحوا» دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن نقوم بالبحث عن الأسباب التي جعلت الرجل يفسد في علاقته الزوجية ليقضي عليها. وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع الله. وحين يصلح المسلم ما أفسد من جعل الزوجة الأولى كالمعلقة ويعطيها حقها في البيتوتة والنفقة ورعاية أولادها والإقبال عليها وعلى الأولاد بصورة طيبة فالله سبحانه يغفر ويرحم، ولا يصلح المسلم ما أفسد إلا وهو ينوي ألا يستأنف عملاً إلا إذا كان على منهج التقى، ويجد الحق غفوراً لما سبق ورحيماً به.
وإن لم يستطع الرجل هذا، ولا قبلت المرأة أن تتنازل عن شيء من قسمها ترضية له تكن التفرقة - هنا - أمراً واجباً. فليس من المعقول أن نحكم الحياة الزوجية والحياة الأسرية بسلاسل من حديد، ولا يمكن أن نربط الزوجين بعدم الافتراق إن كانت القلوب متنافرة وكذلك لا نأمن على المرأة أن تعيش هكذا.
إن الذي يقول: لا يصح أن نفرق بين الزوجين، نقول له: كيف تريد أن تحكم الحياة الزوجية بالسلاسل؟ والزواج صلة مبناها السكن والمودة والرحمة، فإن انعدمت هذه العناصر فكيف يستمر الزواج وكيف ترغم زوجاً على أن يعايش زوجة لا يحبها ولا يقبلها وترغم زوجة أن تعيش مع زوج لا تحبه؟ إن التفريق بينهما في مثل هذه الحالة قد يكون وسيلة أرادها الله سبحانه وتعالى ليرزق الزوج خيراً منها ويرزق الزوجة خيراً منه.
وكثيراً ما شهدنا هذا في واقع الحياة، وعاش الزوج مع الزوجة الجديدة سعيداً، وعاشت الزوجة مع الزوج الجديد سعيدة، أما الذين تشدقوا بمسألة عدم التفريق مع
2693
استحالة الحياة الزوجية وهاجموا الإسلام في هذا المجال. فهم يرددون ما كان عند أهل الغرب: من أن الزواج لا انفصال فيه.
إننا نرى العالم كله الآن بكل النصارى واليهود وغيرهم من الملل والنِّحَل يلجأون إلى الطلاق؛ لأن الأحداث اضطرتهم إلى أن يشرعوا الطلاق، فكأنهم ذهبوا إلى الإسلام لا على أنه إسلام، ولكن على أنه الحل الوحيد لمشكلاتهم. فإذا ثبت أن الذين يهاجمون جزئية من جزئيات الذين يضطرون إلهيا تحت ضغط الأحداث فيجب أن ننبههم إلى عدم التسرع والعجلة والحكم على قضايا الدين الإسلامي بأنها غير صالحة؛ لأن الحق أرغم من لم يكن مسلماً على أن ينفذ قضية إسلامية. فهو القائل: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا... ﴾
2694
وسبحانه عنده الفضل الواسع، وهو القادر أن يرزق الزوج زوجة صالحة تشبع كل مطالبه، ويرزق الزوجة زوجاً آخر يشبع كل احتياجاتها ويقبل دمامتها لو كانت دميمة، ويجعله الله صاحب عيون ترى نواحي الخير والجمال فيها. وقد نجد رجلاً قد عضته الأحداث بجمال امرأة كان متزوجاً بها وخبلته وجعلت أفكاره مشوشة مضطربة وبعد ذلك يرزقه الله بمن تشتاق إليه، بامرأة أمينة عليه، ويطمئن عندما يغترب عنها في عمله. ولا تملأ الهواجس صدره؛ لأن قلبه قد امتلأ ثقة بها وإن كانت قليلة الحظ من الجمال.
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً﴾ فإياك أن تظن بأن الله ليس عنده ما يريح كل إنسان. فسبحانه عنده كل ما يريح كل الناس. وصيدلية منهج الله مليئة بالأدوية، وبعض الخلق لا يفقهون في استخدام هذه الأدوية لعلاج أمراضهم.
2694
ومن الحكمة أنه سبحانه لا يرغم اثنين على أن يعيشا معاً وهما كارهان؛ لأنهما افتقدا المودة والرحمة فيما بينهما.
ومن بعد ذلك يعقب الحق بآية: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات... ﴾
2695
وسبحانه هو الذي يُرضي الزوج إن افترق عن زوجته، ويرضي الزوجة إذا افترقت عن زوجها؛ لأنه - جل وعلا - خلق الدنيا التي لن تضيق بمطلوب الرجل أو المرأة بعد الانفصال بالطلاق، فله ملك السموات والأرض وهو القادر على أن يرزق الرجل امرأة هي خير ممن فارق، ويرزق المرأة رجلا هو خير ممن فارقت، فلا شيء خرج عن ملك الله وهو الواسع العطاء.
إننا كثيراً ما نجد رجلاً كان يتزوج امرأة ولا تلد ويشاع عنها أنها عقيم، ويذهب الإثنان إلى معامل التحليل، ويقال أحياناً: المرأة هي السبب في عدم النسل، أو: الرجل هو السبب في عدم النسل، ويفترق الاثنان ويتزوج كل منهما بآخر، فتلد المرأة من الزوج الجديد، ويولد للرجل من الزوجة الجديدة؛ لأن المسألة كلها مرادات الله، وليست أمور الحياة مجرد اكتمال أسباب تُفرض على الله بل هو المسبب دائماً فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً
2695
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: ٤٩ - ٥٠]
كم صورة إذن عندنا لمثل هذا الموقف؟. يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً، هي بأربعة مقادير تجري على الرجل والمرأة. وعندما يهب الله المؤمنَ الإناثَ يكون سعيداً. وكذلك عندما يهبه الذكور، وعندما يهب الله لأسرة أبناء من الذكور فقط. فالزوجة تحن أن يكون لها ابنة. وإن وهب الحق لأسرة ذرّية مِن الإناث فقط، فالمرأة والرجل يتمنيان الابن، وإن أعطاهما الله الذكور والإناث نجدهما قد وصلا إلى الحالة التي تقر بها العيون عادة. والحالة التي تقر به العيون عادة مؤخرة.
إن الحالة التي تزهد النفس فيها فالحق يقربها إلى أوليات الهبة، فقال أولاً: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾، وبعد ذلك: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً﴾ ثم ذكر عطاء الذكور، ثم يأتي بالحالة التي يكون العطاء فيها في القمة: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾.
وأخيراً يأتي بالقَدَر الرابع الذي يجريه على بعض خلقه وهو: ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾.
ولماذا يُسر الإنسان بقدرِ الله حينما يهبه الله الإناث أو الذكور، ويزداد السرور بقدر الله حينما يهبه - سبحانه - الذكور والإناث. ولماذا لا تُسر إذن أيها الإنسان بقدر الله حينما يجعلك عقيماً؟ أتعتقد أنك تأخذ القدر الذي تهواه، وترد القدر الذي ليس على هواك؟ إن المواقف الأربعة هي قَدَر من الله.
ولو نظر الإنسان إلى كل أمر من الأمور الأربعة لرضي بها.
أنّه سبحانه يخلق ما يشاء عقيماً، إن قالها الإنسان باستقبال مطمئن لقدر الله فالله قد يقر عينه كما أقر عيون الآخرين بالإناث أو بالذكور، أو بالذكور والإناث معاً.
وأقسم لكم لو أن إنساناً - أو زوجين - أخذا قدر الله في العقم كما أخذاه في غيره من المواقف السابقة برضا إلا رزقهم بأناس يخدمونهم، وقد ربَّاهم
2696
غيرهم، والذي يجعل الأزواج المفتقدين للإنجاب يعيشون في ضيق، هو أنهم في حياتهم ساخطون على قدر الله - والعياذ بالله - فيجعل الله حياتهم سخطاً. فهو القائل في حديثه القدسي:
عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة»
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ فإياك أن تقول كون الله سيضيق عن رزق الرجل المفارق لزوجته أو المرأة المفارقة لزوجها من عطاء الله لهما فما دام سبحانه قد قرر الفراق كحل لعدم توافق في حياتهما معاً.. فهو سبحانه سيعطي عن سعة للزوج وعن سعة للزوجة. وعليك أيها المسلم أن تطيع منهج الحق كما أطاع كل ما في السموات وكل ما في الأرض، ثم اسأل نفسك هذا السؤال: مَن يقضي مصالحك كلها؟.
إنه الحق سبحانه الذي سخر أشياء ليست في طوق قدرتك، أأرغمت الشمس أن تشرق لك بالضوء والحرارة؟. أأرغمت الماء أن يتبخر وينزل مطراً نقيًّا؟
أأرغمت الريح أن تهب؟ أضربت الأرض لتقول لها: غذّي ما أضعه فيك من بذر بالعناصر اللازمة له والمحتاج إليها لينتج النبات؟. كل هذا ليس في طوق إرادتك بل هو مسخر لك بأمر الله. وإن أردت الاستقامة في أمرك، لكنت كالمسخر فيما جعل الله لك فيه اختيار ولقلت لله: أنا أحب منهجك يا رب وما يطلبه مني سأنفذه قدر استطاعتي. فتكون بقلبك وقالبك مع أوامر المنهج ونواهيه، فينسجم ويتوافق الكون معك كما انسجم الكون المسخر المقهور المسير.
﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾، وهذا تذكير بأن كل شيء مملوك لله وفي
2697
طاعته، فلا تشذ أيها الخليفة لله عن الكون، فكل ما فيه يخدمك. ولتسأل نفسك: أتعيش في ضوء منهج الله أم لا؟ لأن الكون قد انسجم وهو مسخر لله، ولم يحدث أي خلل في القوانين الكلية، وسبحانه القائل: ﴿والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان﴾ [الرحمن: ٧ - ٩]
وهذا إيضاح من الحق تبارك وتعالى: إن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية فانظروا إلى الكون، فالأشياء المسخرة لا يحدث منها خلل على الإطلاق، ولكن الخلل إنما يأتي من اختيارات الإنسان لِغير منهج الله.
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله﴾ يوضح سبحانه: لقد وصينا الذين أنزلنا إليهم المنهج من قبلكم، ووصيناكم أنتم أهل الأمة الخاتمة أن التزموا المنهج بالأوامر والنواهي؛ لتجعلوا اختياراتكم خاضعة لمرادات الله منكم حتى تكونوا منسجمين كالكون الذي تعيشون فيه، ويصبح كل شيء يسير منتظماً في حياتكم، ولم يقل الحق هذه القضية للمسلمين فقط لكنها قضية كونية عامة جاء بها كل رسول: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾.
ولم يقل: شرعنا للذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ولم يقل: فرضنا، إنما قال: «ولقد وصينا». وكلمة «وصية» تشعر المتلقي لها بحب الموصي للموصَى. ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله﴾ وتقوى الله تعني أن نفعل أوامر الله وأن نتجنب نواهيه؛ لنحكم حركة اختياراتنا بمنهج ربنا، فإن حكمنا حركة اختياراتنا بمنهج الله صرنا مع الكون كأننا مسخرون لقضايا المصلحة والخير.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً﴾ ومقابل الكفر هو الإيمان، ومن يخرج عن الإيمان فالله غني عنه، فلا تعتقدوا أيها المخاطبون بمنهج الله أنني أستميلكم إلى الإيمان لأني في حاجة إلى إيمانكم، لا، لكني أريد منكم فقط أن تكونوا مجتمعاً سليماً، مجتمعاً سعيداً، وإن تكفروا فسيظل الملك كله لله، وستظل حتى - ولو كنت متمرداً - في قبضة
2698
مرادات ربك. فلن تتحكم في مولد أو في ممات أو في مقدورات. فالكون ثابت وسليم. وجاء القرآن باللفت إلى انتظام الكون يقول الحق: ﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخروج﴾ [ق: ٦ - ١١]
وفي لحظة من اللحظات يأمر الحق كوناً من كونه فيختل نظامه فترى الأرض المستقرة وقد تزلزلت، والتي قال عنها سبحانه: ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]
وسبحانه هو الذي يملكها فيجعلها تضطرب ويُحدث في موقع منها زلزالاً، فتندثر المباني التي عليه حتى تفهم أن الدنيا ليست محكومة حكماً ألياً، بل محكومة بالأسباب، وزمامها مازال في قيومية المسبب، ونلتفت مرة إلى بعض من الزوابع من التراب وهي تغلق المجال الجوي كله بحيث لا يستطيع واحد أن ينظر من خلاله، وهذا لفت من الله لنا يوضح: لقد صنعت هذه القوانين بقدرتي، ولن تخرج هذه القوانين عن طلاقة قدرتي.
ونرى بلاداً تحيا على أمطار دائمة تغذي الأرض، فنجد الخضرة تكسو الجبال ولا نجد شبراً واحداً دون خصوبة أو خضرة أو شجر، وقد يظن ظان أن هذه المسألة أمر آلي، ويأتي الحق ليجري على هذه المنطقة قدر الجفاف فيمنع المطر وتصير الأرض الخصبة إلى جدب، وتنفق وتهلك الماشية ويموت البشر عطشاً، وذلك ليلفتنا الحق إلى أن المسألة غير آلية ولكنها مرادات مُريد.
وفي موقع آخر من الكرة الأرضية نجد أرضاً منبسطة هادئة يعلوها جبل جميل،
2699
وفجأة تتحول قمة الجبل إلى فوهة بركان تلقي الحمم وتقذف بالنّار وتجري الناس لتنقذ نفسها، ولذلك علينا أن نعرف أن عقل العاقل إنما يتجلى في أن يختار مراداته بما يتفق مع مرادات الله، وعلى سبيل المثال.. لم يؤت العقل البشري القدرة الذاتية على التنبؤ بالزلازل، لكن الحمار يملك هذه القدرة.
﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً﴾ وصدر الآية بالمقولة نفسها: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ وذلك لتثبيت وتأكيد ضرورة الطاعة لمنهج الله حتى ينسجم الإنسان مع الكون. وتجيء المقولة مرة ثانية في الآية نفسها ليثبت الحق أنه غنيّ، ولا تقل إن المقولة تكررت أكثر من مرة في الآية الواحدة، ولكن قل: إن الحق جاء بها في صدر الآية لتثبت المعنى، وجاءت في ذيل الآية لتثبت معنى آخر، فسبحانه هو الغني عن العباد: ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]
ومجيء ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ لإثبات حيثية أن يطيع العبد خالقه. ومجيء ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ في ذيل الآية لإثبات حيثية غنى الله عن كل العباد. والمقولة نفسها تأتي في الآية التالية حيث يقول سبحانه: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات... ﴾
2700
ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة الإنسان أن الله يضمن ويحفظ مقومات الحياة. فلن تتمردالشمس يوماً ولا تشرق. أو يتمرد الهواء ولا يهب. أو تضن الأرض عليك عناصرها؛ لأن كل هذه الأمور مسخّرة بأمر الله الذي خلقك وقد خلقها وقدّر فيها قوتك.
ولذلك يوضح ربنا: أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل.
2700
والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال. والإنسان منا عندما يوكل عنه وكيلاً ليقوم ببعض الأعمال يحسّ بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يُخطئ أو يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي، لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل القادر، فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة؛ فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها، ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الأرض كلها. ومادام الله هو المليك فهو الحفيظ على كل هذه الأشياء. وهو نعم الوكيل؛ لأنه وكيل قادر وليس له مصلحة.
وتعالوا نقرأ هذا الحديث:
فقد ورد أن أعرابيا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى، قال: «لقد حَظرت رحمة واسعة. إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جِنّها وإِنْسها وبهائمها وأَخَّر عنده تسعاً وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره».
هو إذن كفى بالله وكيلاً وهو نعم الوكيل، وهو يطمئن عباده ويببن أنه - سبحانه - هو القيوم، وتعني المبالغة في القيام، إذن كل شيء في الكون يحتاج إلى قائم؛ لذلك فهو قيوم. ويوضح الحق لكل إنسان: أَنِ اجتهد في العمل وبعد أن تتعب نم ملء جفونك؛ لأني أنا الحق لا تأخذني سنة ولا نوم. فهل هناك وكيل أفضل من هذا؟.
﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾.
ثم يأتي الحق بحيثية أخرى تؤكد لنا أنه غني عن العالمين، فلا يكفي أن يقول: إنه غني وإنه خلق كل ما في السموات وما في الأرض، وإن كفرت أيها الإنسان فالذنب عليك، وإن آمنت فالإيمان أمان لك، وأوضح: إياكم أيها البشر أن تعتقدوا أنكم خُلِقْتُم وشردتم وأصبحتم لا سلطان لله عليكم. لا. فالله سبحانه يقول:
2701
﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ... ﴾
2702
وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا: صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه. لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعاً وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل: ﴿وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً﴾.
حين نقرأ «كان» بجانب كلمة «الله» فهي لا تحمل معنى الزمن؛ فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكن قديراً فقط عندما خلق الإنسان، بل بصفة القدرة خلق الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديراً وموجودا في كل لحظة، وهو كان ولا يزال.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ... ﴾
ومادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلمَ الغفلة؟ ولمَ لا تأخذ الزيادة؟، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه. فالحق يقول: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠]
2702
ولم يقل الحق: إن «الآخرة» في مقابلة للدنيا؛ وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الاخرة أو العكس، بل يريد - سبحانه للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معاً، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة. وكلمة «ثواب» فيها ملحظ؛ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل، وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل. وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك، فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك.
مثال ذلك الأرض، فإن بذرت فيها تخرج الزرع، واختلافات الناس في الدنيا تقدماً وتأخراً وحضارة وبداوة وقوة وضعفاً إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان، لا من القسم الذي يُفْعَل للإنسان. ويسخر له، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل، فإن أردت أن تكون متقدماً فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخَّر لصالحهم.
وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر.. فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى ينفعل لنا.. كيف؟.
الشمس تمدنا بالضوء والحرارة، ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملاً آخر يجعلها تنفعل لنا، مثلما جئنا بعدسة اسمها «العدسة اللاّمة» التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة؛ فتحدث حرارة تشعل النار، أي أننا جعلنا ما يُفْعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضاً. ويسمون ذلك الطموح الانبعاثي. والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء.
إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل. المرحلة الأولى: تستخدم ما ينفعل لها، والمرحلة الثانية: ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها. والمرحلة الثالثة: تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها؛ مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان.
2703
وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب. وكلمة «ليزر» مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثائي، فكلمة «ليزر» - إذن - مثلها كلمة «ليمتد» فاللام من كلمة.
والياء من كلمة، والتاء من كلمة، والدال من كلمة، وذلك لتدل على مسمّى.
وترجمة مسمّى «ليزر» هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي. ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للإنسان وإن لم يطلبه، أما الانبعاث الاستحثائي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئاً آخر. والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة. وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة. وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفاً وكوّنوا كلمة «ليزر».
إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان، واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا.
وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا﴾. وكلمة «ثواب» إذن توحي بأن هناك عملاً، فالثواب جزاء على عمل. فإن أردت ثواب الدنيا، فلا بد أن تعمل من أجل ذلك. فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل.
ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة.
ولذلك يقال: «الدنيا متاع». ويزيد الحق على ذلك: ﴿فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾. ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد.
2704
وهنا ملحظ آخر؛ فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا، دل على أنه لا بد من العمل لنأخذ الدنيا، ولم يذكر الحق ثواباً للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين.. الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضاً؛ لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل. فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله.. فالله يعطيه ثواباً في الدنيا، ويعطيه ثواباً في الآخرة.
ويذيل الحق الآية: ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ - إذن - فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل، والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول - مثلاً - حدث من اللسان، وهو عمل أيضاً، والمقابل للقول هو الفعل. فالأعمال تنقسم إلى قسمين: إلى الأقوال وإلى الأفعال. ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٧ - ١٩]
وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم، ولما سمع الفقراء هذا القول، كأنهم قالوا: نحن لا نملك ما نطعم به المسكين، فكان في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾ ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء: أي حضوا غيركم على العطاء.
أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين، والحضُّ هو كلام. والكلام من العمل.
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ٩١]
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء، وهو أن ينصحوا لله ورسوله. إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين
2705
وينصح به، هذا هو معنى قول الحق: ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.
إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها، فاللسان جارحة تتكلم، واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل، لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي:
«الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي»
وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء. ونجد الحديث الشريف يقول لنا:
«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالعمل يكون بالجوارح، ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل. نقرأ ونفهم هذه الآية: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢]
ونجد المقابل للقول هو الفعل. والكل عمل. ويأتي نوع آخر من الأعمال، لا هو قول ولا هو فعل، وهو «النية القلبية». وعندما يقول الحق: إنه كان سميعاً بصيراً، فالمعنى سميع للقول، وبصير بالفعل.
2706
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾
2707
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلاً: يا أيها الذين آمنوا، فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته، فيقول: «بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا». إذن: فالحيثيات تتقدم الحكم. وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٨٣]
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله رباً، فليسمع العبد من ربه. وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية، ولكنه يكلف المؤمنين فقط. وهو يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القِسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه. وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القِسط - إذن - هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائداً في كل تصرفاته. وإياك أن تجعل القسط أمراً أو حدثاً يقع مرة وينتهي، وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾.
2707
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل. فنحن نقول: «فلان قائم» و «فلان قَوَّام». ونعرف أن كلمة «قَوَّام» هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضاً الأقساط هي العدل.
وقد احدثت كلمة «القسط» ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك: إن المسألة بسيرة.. فقسط يقسُط قسوطاً أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال: «أقسط فلان» أي أذهب الجور. إذن: «القِسط - بكسر القاف - هو العدل الابتدائي، لكن الإقساط هو عدل أزال جوراً كان قد وقع.
وهب أن أناساً جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل، فهذا هو القِسط، وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكماً بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط. وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة، فالقِسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرُفِع، لأنه مسبوق بهمزة اسمها»
همزة الإزالة «، فيقال: أعجم الكتاب. أي أن الكتاب كان فيه عجمة، أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفيّ أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها.
وكذلك معنى «أقسط»
أي أزال الجور.
والحق يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط؛ ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له فقط، بل لابد أن تكون الشهادة لله. لماذا؟.
هب أن رجلاً كافراً بالله - والعياذ بالله - ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل
2708
بذلك العدل في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائماً بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعةٍ ولا لغايةٍ ولا لهوى ولا لغرضٍ، وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: ٧١]
لذك لا بد أن يكون المؤمن قوّاماً بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي، ونحن نسمع: فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحداً. ونقول: هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه، ولذلك فالقوّام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله.
﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ﴾ والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة. وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم. وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر: أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار، وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت. فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه، بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب. والحق يوضح للعبد: لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء، إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.
ويطلب الحق من المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ
2709
الوالدين والأقربين}. وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء، وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع، فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنياً فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط؛ لذلك قال: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ﴾.
وقد يقول قائل: إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعاً في ثرائه؛ فلماذا يذكر الله الفقير أيضاً؟ ونقول: قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمةً بالفقير فيحدِّث الشاهد نفسه «أنه فقير ويستحق الرحمة» ؛ لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير.
ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لأن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم - جل شأنه - ولذلك جاء بالحيثية الملجمة ﴿فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ﴾ أي أنك أيها العبد لم تخلق أحداً منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القَيّم على الوجود.
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: «آفة الرأي الهوى». وإياكم أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيداً عنه. والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء! فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟
2710
فقال القاضي: والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرُّطب - أي البلح - وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة: فقلت للخدام من جاء به؟ فأجاب الخادم: إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي، فرددت عليه الرطب، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب، دخل الرجل عليّ فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق. وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.
ويتابع الحق سبحانه: ﴿وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾. أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف.. أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، فإن الله بما تعملون خبير، أو أن يُعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال: إنه خائف من المشهود عليه؛ لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى، والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف. فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام: قول لسان، وفعل بجوارح غير اللسان، ونيات قلوب وهوى.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾
2711
وقد يقول إنسان ما: كيف يقول الحق في صدر هذه الآية منادياً المؤمنين بالإيمان فقال: أمَنُوا، وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا؟ ونقول: نرى في بعض الأحيان رجلاً يجري كلمة الإيمان على لسانه ويعلم الله أن قلبه غير مصدق لما يقول، فتكون كلمة الإيمان هي حق صحيح، ولكن بالنسبة لمطابقتها لقلبه ليست حقاً. وتعرضنا من قبل لقول الحق: ﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]
لقد شهد المنافقون أن رسول الله مرسل من عند الله، هذه قضية صدق، لكن الله العليم بما في القلوب يكشف أمرهم إلى الرسول فيقول: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]
لقد وافقت شهادتهم بألسنتهم ما علمه الله. لكن القول منهم يخالف ما في قلوبهم، فشهد الحق إنهم لكاذبون. ويعلم سبحانه كذبهم في شهادتهم؛ لأن المنافق منهم لم يشهد صحيح الشهادة؛ لأن الشهادة الحقة هي أن يواطئ اللسانُ القلبَ. وبعض من الأغبياء الذين يحاولون الاستدراك على القرآن قد عميت بصيرتهم عن الإحساس باللغة والفهم لأسرارها؛ لذلك يتخبطون في الفهم. فهم لا يعرفون صفاء التلقي عن الله. وقالوا: إن بالقرآن تضارباً، ولم يعرفوا أن كذب المنافقين لم يكن في مقولة: إن محمداً رسول الله، ولكن في شهادتهم بذلك، وكذبهم الله في قولهم: «نشهد» فقط، فقد أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
وإن أردنا أن نفهم أن الخطاب للمؤمنين عامة، بأن يؤمنوا، فهذا طلب للارتقاء
2712
بمزيد من الإيمان، ولنا في قول الحق المثل الواضح في حديثه للنبي؛ قال الحق: ﴿ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [الأحزاب: ١]
الحق هنا يقول للمتقي الأول محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتق الله»، أي يأمره بالقيام دائماً على التقوى.
إذن فمعنى قول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ أن الحق يخاطبكم بلفظ الإيمان. ويريد أن يتصل إيمانكم بعد كلامه الحق مع إيمانكم قبل كلامه، فلا ينقطع ولا ينفصم خيط الإيمان أبداً. بل لا بد من المداومة على الإيمان، وألا يترك مؤمن هذا الشرف. فإن رأى واحد منكم منادًى بوصف طُلبِ منه الوصفُ بعده فليعلم أن المراد هو المداومة.
ونعلم أن الحق هنا يخاطب مؤمنين ومنافقين وأهل كتاب؛ لذلك فلا بد أن تشملهم الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ لأن الإنسان إن آمن بالله فقط، فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عن مطلوب الله، ومطلوب الله إنما جاء به رسول؛ لذلك فالإيمان بالله يقتضي أن يؤمن الإنسان برسول، لأن قصارى ما يعطيك العقل أيها الإنسان أن تؤمن بأن وراء الكون إلهاً خلقه ويدبره.
ولكن ما اسم هذا الإله؟ لا يعرف الإنسان ذلك إلا عن طريق الرسول.
إن هذه أمور لا تعرف بالعقل ولكن لا بد من الإخبار بها، وكذلك مطلوبات الله، وكذلك جزاء المؤمنين على حسن إيمانهم، ولذلك لا بد من مجيء رسول للبلاغ.
إذن فلا بد مع الإيمان بالله أن تؤمن بالرسول. ومادمت أيها المؤمن قد آمنت برسوله فلا بد أن تؤمن بالكتب التي جاءت على لسان الرسول. وهذه الكتب تقول لك: إن هناك خلقاً لله لا تراهم وهم الملائكة، والمَلَكُ يأتي بالوحي وينزل به على الرسول، على الرغم من أنك لم تر الملك فأنت تؤمن بوجوده.
إذن فالقمة الإيمانية هي أن تؤمن بالله، ولازمها أن تؤمن برسول الله، وأن تؤمن
2713
بكتاب مع الرسول، وأن تؤمن بما يقوله الله عن خلق لا تستطيع أن تدركهم كالملائكة. وهذا الأمر بالإيمان هو مطلوب من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسلهم، ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول الله وبما أُنزل عليه.
ويترك الحق سبحانه وتعالى لخلقه أن يكتشفوا وجوداً لكائنات لم تكن معلومة لأنهم حُدِّثوا بأن في الكون كائنات أبلغنا الله بوجودها ولا ندركها وهم الملائكة. - إذن - فالدليل عندهم يحثهم ويدفعهم إلى الكشف والبحث.
والمثال على ذلك الميكروب الذي لم تعرفه البشرية إلا في القرن السابع عشر الميلادي، وكان الميكروب موجوداً من البداية، لكننا لم نكن ندركه، وبعد أن توصلت البشرية إلى صناعة المجاهر أدركناه وعرفنا خصائصه وفصائله وأنواعه، ومازالت الاكتشافات تسعى إلى معرفة الجديد فيه، هو جديد بالنسبة لنا، لكنه قديم في وجوده.
ومعنى ذلك أن الله يوضح لنا: إذا حُدثَت أيها الإنسان من صادق على أن في الكون خلقاً لا تدركه أنت الآن فعليك بالتصديق؛ فقبل اكتشاف الميكروب لو حدث الناسَ أحدٌ بوجود الميكروب في أثناء ظلام العصور الوسطى لما صدقوا ذلك، على الرغم من أن الميكروب مادة من مادة الإنسان نفسها لكنه صغير الحجم بحيث لا توجد آلة إدراك تدركه. وعندما اخترعنا واكتشفنا الأشياء التي تضاعف صورة الشيء مئات المرات استطعنا رؤيته، فعدم رؤية الشيء لا يعني أنه غير موجود.
فإذا ما حدثنا الله عن خلق الملائكة والجن والشيطان الذي يجري في الإنسان مجرى الدم، فهنا يجب أن يُصدق ويؤمن الكافر والملحد بذلك، لأنه يُصدق أن الميكروب يدخل الجسم دون أن يشعر الإنسان، وبعد ذلك يتفاعل مع الدم ثم تظهر أعراض المرض من بعد ذلك، وقد علم ذلك بعد أن تهيأت أسباب الرؤية والعلم. فإذا كان الله قد خلق أجناساً من غير جنس مادة الإنسان فلنصدق الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ
2714
والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ}
[النساء: ١٣٦]
والمعروف أن الكتاب هو القرآن وهو عَلَمٌ عليه، أما الكتاب الذي أنزل من قبل فلنعرف أن المراد به هو جنس الكتاب.. أي كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذلك يقال على «ال» السابقة لكلمة الكتاب الثانية: «هي» «ال» الجنسية. والجنس كما نعلم - تحته أفراد كثيرة بدليل أن الحق سبحانه وتعالى يأتي بالمفرد ويدخل عليه الألف واللام ويستثنى منه جماعة، مثال ذلك: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [العصر: ١ - ٣]
نجد «الإنسان» هنا مفرد، ودخلت عليه «ال»، واستثنى من الإنسان جماعة هم الذين آمنوا، وهذا دليل على أن «الإنسان» أكثر من جماعة. ولذلك يقولون: إن الاستثناء معيار العموم.. أي أن اللفظ الذي استثنينا وأخذنا وأخرجنا منه لفظ عام.
ويطالبنا الحق بالإيمان بالكتاب أي القرآن؛ فإذا أطلقت كلمة «الكتاب» انصرفت إلى القرآن؛ لأن «ال» هنا (للغلبة)، مثال ذلك: يقال: «هو الرجل»، وهذا يعني أنه رجل متفرد بمزايا الرجولة وشهامتها وقوتها، فإذا أطلقنا الكتاب فهي تعني القرآن؛ لأن كلمة الكتاب غلب إطلاقها على القرآن فلا تنصرف إلاّ إليه، أو أنه هو الكتاب الكامل الذي لا نسخ ولا تبديل له، ف «ال» هنا للكمال أما الكتاب الذي أُنزل من قبل فهو يشمل التوراة والإنجيل وسائر الكتب، والصحف المنزلة على الأنبياء السابقين.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ أي إن آمن بالله وكفر ببقية ما ذكر في الآية فهو كافر أيضا.
وكان بعض اليهود كعبد الله بن سلام، وسلام بن أخته، وسلمة بن أخيه،
2715
وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين قد ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: «نحن نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله «فقالوا: لا نفعل». فنزلت فآمنوا كلهم
. والخطاب والنداء يشمل أيضا المنافقين. أي يأيها الذين آمنوا في الظاهر نفاقا، أخلصوا لله واجعلوا قلوبكم مطابقة لألسنتكم، فالنداء - إذن - يشمل المؤمنين ليستديموا ويستمروا علىإيمانهم، ويضن الكافرين من أهل الكتاب ليؤمنوا بكل رسول وبكل كتاب، هو أيضا للمنافقين ليخلصوا في إيمانهم حتى تطابق وتوافق قلوبهم ألسنتهم.
إذن فمن يكفر بأي شيء ذكره الله في هذه الآية فقد كفر بالله.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ و «ضل» أي سار على غير هدى، فعندما يتوه الإنسان عن هدفه المقصود يقال: ضل الطريق، والذي «ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً» هو من يذهب إلى متاهة بعيدة، والمقصود بها متاهة الكفر.
وهناك ضَلال عن الهدى يمكن استدراكه، أما الضلال البعيد والغرق في متاهة الكفر فمن الصعب استدراكه، والضُلاَّلُ متحدون في نقطة البداية، لكنهم فريقان يختلفان، فأحدهما يسير في طريق الإيمان وهو منتبه دائماً إلى غايته وهي رضاء الله بتطبيق مطلوباته، ويحذر أن يخالف عن أمره، والآخر انحرف من البداية فوصل إلى متاهة الكفر.
ويقول الحق بعد ذلك:
2716
﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ... ﴾
2717
وهؤلاء هم المنافقون الذين أعلنوا الإيمان وأبطنوا الكفر وقال الله عنهم ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: ٧٢]
إذن، هم حولوا الإيمان من عقيدة إلى مجرد كلمة تقال، وكانوا في غاية الحرص على تأدية مطلوبات الإسلام بالأعمال الظاهرية حتى يدفعوا عن إسلامهم الريبة. أما قلوبهم فهي مع الكفر؛ لذلك أرادوا أن يُلَبِّسوا في المنطق ويُدَلسُوا فيه. ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]
ويفضحهم الحق أمام أنفسهم. وبالله عندما يعرفون أنهم مجرد مسلمين باللسان ولكن قلوبهم لم تؤمن ويخبرهم الرسول بذلك ويقول لهم بلاغاً عن الله: ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾. وكانوا أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وعندما فضحهم الرسول وأوضح لهم: أنتم لو تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط. هنا عرفوا أن محمداً قد عرف خبايا قلوبهم بلاغاً عن الله.
ولو قالوا: إن محمداً هو الذي عرف هذه الخبايا لما اقتصر اعترافهم به كرسول، بَلْ رُبَّما تمادوا في الغيّ وأرادوا أن يجعلوه إلهاً. ولكن رسول الله يحسم الأمر: ويبيّن لهم أن الله هو الذي أبلغني، بدليل أنه أُمِر أن يقول لهم: ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ﴾.
2717
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقر بأن هذا الأمر ليس فيه شيء من عنده بل هو مأمور بالبلاغ عن الله ربِّه. وفي عصرنا قال برناردشو: إن الذين يكذبون أن محمداً رسول من عند الله يريدون أن يجعلوه إلهاً، فمن أين أتى بهذه الأشياء التي لم تكن معلومة في عصره؟..
إن الناس جميعا مطالبون بالتصديق بمحمد رسولاً من عند الله؛ لأنه قال عن أشياء لا يمكن أن يقولها واحد من البشر. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذاته يوضح بحسم هذا الكلام ويبيّن أن هذا ليس من عندي، لكنه من عند الله.
﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ. وهذا كشف محرج ومنطقي لما في قلوبهم؛ لهذا قال السامعون للآية: الحمد لله أن هناك أملاً في أن يدخل الإيمان قلوبنا. وقد دخل الإيمان في قلوبهم بالفعل لأن كلمة (لمَّا) تفيد نفي الإيمان عنهم في الزمن الماضي ولكنها تفيد أيضا توقع وحصول الإيمان منهم وقد حصل.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾
أي ماتوا على الكفر، أو آمنوا بموسى، ثم كفروا بعيسى، وجاء أناس آخرون آمنوا بعيسى، وازدادوا كفراً بعدم الإيمان بمحمد، فليس من بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استدراك.
ويخبرنا سبحانه بمصيرهم: ﴿لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ لأنهم دخلوا في الإيمان مرة ثم خرجوا من الإيمان.
ومعنى سلوكهم أنهم قصدوا الفتنة لأن الآخرين سيشاهدونهم وقد آمنوا، وسيشاهدونهم وهم يكفرون، وسيعللون ذلك بأنهم عندما تعمقوا في المسائل العقدية كفروا وهم يفعلون ذلك ليهوِّنوا من شأن الإسلام، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: ٧٢]
2718
هم إذن يقصدون الفتنة بإظهار الإيمان ثم أعلانهم الكفر وفي ذلك تشكيك للمسلمين، ويكون مصير مَن تردّدَ بَيْنَ الإيمان والكفر، وكان عاقبة أمرهم أنهم ازدادوا كفرا يكون مصيرهم ما جاء في قوله: ﴿لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ فهم قد دخلوا في الخيانة العظمى الإيمانية التي يحكمها قوله الحق: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨]
ويقول الحق عنهم هنا: ﴿لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾. والهداية - كما نعلم - ترد بمعانٍ متعددة.. فقد يكون المقصود منها الدلالة، فإن شئت تدخل الإيمان وإن شئت لا، ولا شأن لأحد بك. والمعنى الثاني هو المعونة، أي يقدم لك الله ما يهديك بالفعل. وعندما تعرض القرآن لهذه المسألة قال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت: ١٧]
فسبحانه هنا قد دلهم على الهداية، ولم يقدم لهم الهداية الفعلية لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فكأن الله قد دل على المنهج الذي يوصل الخير والبر لكل الناس، فمن أقبل بإيمان فالحق يمده بهداية المعونة ويعاونه على ازدياد الهدى، مصداقاً لقوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]
ولا نريد لهذا المثل أن يغيب عن الأذهان؛ لذلك أؤكده دائما: شرطي المرور الواقف في بداية الطريق الصحراوي. يسأله سائل: ذاهب إلى الاسكندرية عن الطريق؛ فيدله على الطريق الموصل للإسكندرية، هنا قام الشرطي بالدلالة، ثم شكر الرجلُ الشرطيَّ وحمد الله على حسن شرح الشرطي؛ ويحس ويشعر رجل المرور بالسعادة، ويحذر الرجل المسافر من عقبات الطريق، ويركب معه ليشير له على تلك العقبات حتى يتفاداها. أي أنه من بعد الدلالة قد حدثت المعونة. كذلك الحق يدل الناس على الإيمان وعلى المنهج، فالذي يؤمن به يساعده ويخفف عليه
2719
الطاعة، قال الحق سبحانه في شأن الصلاة: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥]
إذن نحن نجد الهداية على مرحلتين: هداية الدلالة، وهداية المعونة.
ويريد الحق لقضية الإيمان أن تكون قضية ثابتة متأصلة بحيث لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد. فمبدأ الإيمان لا يتغير في مواكب الرسالات من سيدنا آدم إلى أن ختمها بسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾
[النساء: ١٣٦]
إذن سبحانه يريد من المؤمن أن يؤمن بالقمة العليا، وهي الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، وأن يؤمن بالبلاغ عنه كتاباً، وأن يؤمن بالبلاغ عنه رسالة على لسان أي رسول. والذين يؤمنون مرة برسول ثم يكفرون برسول آخر، أو الذين يؤمنون برسول ثم يكفرون بنسبة الصاحبة أو الولد لله ثم يزدادون كفراً بالخاتم وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لهم مجال مع الهداية إلى الله؛ لأن الإسلام جاء بالنهاية الخاتمة وليس للسماء من بعد ذلك استدراك، وليس لأحد من بعد ذلك استدراك، ولذلك قال في أول الآية: ﴿آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾. وقال في آخر الآية: ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ أي أنهم لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليس هناك مجال أن ينتظروا رسولاً آخر لينسخوا كفرهم بمحمد ويؤمنوا بالرسول الجديد.
ويوضح سبحانه: لم يكن الله ليهديهم لأنهم هم الذين صرفوا أنفسهم عنه، فالله لا يمنع الهداية عمن قدم يده ومدّها إليه، بل يعاونه في هدايته، أما من ينفض يده من يد الله فلا يبايعه على الإيمان فالله غني عنه، ومادام الله غنياً عنه فسيظل في ضلاله؛ لأن الهداية لا تكون إلا من الله. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى
2720
هداية أخرى ولا هادي إلا هو. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى الجنة؛ لأنهم لم يقدموا الأسباب التي تؤهلهم للدخول إلى الجنة.
ولذلك يشرحها الله في آية أخرى: ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩]
وهكذا نجد طريق جهنم معبداً مُذَلَّلاً بالنسبة لهم.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿بَشِّرِ المنافقين... ﴾
2721
سمة التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر لا تأتي من أصيل في الإيمان، بل تأتي من متلون في الإيمان، تبدو له أسباب فيؤمن، وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر. وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء. فيقول الحق: ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين: إعلان إسلام، وإبطان كفر. والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها، واليربوع حيوان صحراوي يخادع من يريد به شراً فيفتح لنفسه بابين؛ يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر. فإن انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الآخر.
﴿بَشِّرِ المنافقين﴾ والبشارة هي الإخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد. وهل المنافقون يبشرون؟ لا. إن البشارة تكون بخير؛ لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ولا يبشرون، ولكن لله في أساليبه البلاغية تعبيرات لتصعيد العذاب. فلو قال:
2721
أنذرهم بعذاب أليم، لكان الكلام محتملاً، فهم - كمنافقين - مستعدون لسماع الشر. ولكن الحق يقول: ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ وذلك هو التهكم والاستهزاء والسخرية، وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلاغية. ونسمع المفارقات أحياناً لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة. فإذا جئت إلى بخيل مثلاً، وقلت له: مرحباً بك يا حاتم. ماذا يكون موقف من يحضر هذا اللقاء؟
أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم. وبذلك نقلت البخيل نقلتين: نقلة من وضعه كبخيل؛ ثم السخرية منه؛ لأن قولك لبخيل ما: يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية واستهزاء، لأنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سَام ورفيعٍ وعظيم تحقيرا له واستهزاء به، ومن المقارنة يبدو الفارق الكبير. وإذا ما جئت مثلاً لرجل طويل جداً، وقلت: مرحبا بك يا قزم. هذه هي المفارقة، كما تقول لقصير: مرحبا يا مارد. أو إذا جئت لطويل لتصافحه، فيجلس على الأرض ليُسلم عليك.. هذه أيضاً مفارقة. وإن جئت لرجل قصير لتصافحه فتجلس على الأرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم.
وهذه المفارقات إنما تأتي للأداء البلاغي للمعنى الذي يريده المتكلم، فقول الحق: ﴿بَشِّرِ المنافقين﴾ معناه: أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب. ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون. والذي ينافق ألا يريد من ذلك غاية؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب، فقال الحق: ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
إنك حين تريد تصعيد أمر ما، فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض، مثال ذلك: إنسان عطشان لأنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء، من الممكن أن يقول له الحارس: لا.
ويجعله ييأس من أن يَأتي له بكوب ماء، أما إذا أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي بكوب ماء ويقربه منه، فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على الأرض هذا هو تصيعد العذاب. وحين يقال: «بَشِّر» فالمستمع يفهم أن هناك شيئاً
2722
يسر، فإذا قال الحق: ﴿بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركباً. فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة أولاً، ثم أنهاها بالنذارة.
وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - يقول الأب لابنه: استذكر يا بني حتى لا ترسب، لكن الابن يستمر في اللعب ثم يقول الأب: يا بني لقد اقترب الامتحان ولا بد أن تذاكر. ولا يأبه الابن لكلام الأب، ثم يأتي الامتحان ويذهب الأب يوم اعلان النتيجة، فيكون الابن راسباً؛ فيقول الأب لابنه: أهنئك لقد رسبت في الامتحان! فقوله أهنئك تبسط نفس الابن؛ لأنه يتوقع سماع خبر سار، ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض.
والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله: ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ «بشر» لها علاقة بالمدلول الاشتقاقي؛ لأن الانفعالات يظهر أثرها على بشرة وجهه؛ فإن كان الانفعال حزنا فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض، وإن كان الانفعال سروراً فالوجه يظهر عليه السرور بالانبساط. وتعكس البشرة انفعالات النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم، فالبشارة تصلح للإخبار بخبر يسر، أو بخبر يحزن ويسيء، ولكنها غلبت على الخبر السار، وخصت النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له.
﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. والبشارة - كما قلنا - توحي بأن هناك خبراً ساراً، فيأتي الخبر غير سار. وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنّه يصعد العذاب معهم: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ﴾ [الكهف: ٢٩]
ساعة نسمع ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ﴾ نفهم أن برداً يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم، ولكن الإغاثة التي تأتي لهم هي: ﴿كالمهل﴾ [الكهف: ٢٩]
2723
ويتساءل السامع أو القارئ: هل هذه إغاثة أو تعذيب؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب؛ فالماء الذي يعطى لهم كالمهل يصعِّد الألم في نفوسهم.
والعذاب - كما نعلم - يأخذ قوته من المعذِّب، فإن كان المعذِّب ذا قوة محدودة، كان العذاب محدوداً. وإن كان المعذِّب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود، فإذا ما نسب العذاب إلى قوة القوى وهو الله فكيف يكون؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، هذه الأوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة؛ فالألم هو إحساس النفس بما يتبعها، والعذاب العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة، وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذِّب يتجلد، وعذاب الحق يفوق قدرة متلقي العذاب فلا يقدر أن يكتم الألم؛ لأن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد لا تستطيع أن تدفع الألم، ومع العذاب العظيم، نجده أليماً أيضا، فيكون العذاب الأليم العظيم مؤلما للمادة، لكن النفس قد تكون متجلدة متأبية، ثم تنهار، حينئذ يكون العذاب مهينا.
ولأن المنافقين والكفار غارقون في المادية آثر الله وصف العذاب بأنه أليم لأن الإيلام يكون للمادة، ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى بعض الأوصاف للمنافقين فيقول: ﴿الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين... ﴾
2724
وأول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافقُ الكافرَ ولياً له؛ يقرب منه ويوده، ويستمد منه النصرة والمعونة، والمؤانسة؛ والمجالسة، ويترك المؤمنين. وعرفنا أن كل فعل من الأفعال البشرية لا بد أن يحدث لغاية تُطْلَب منه، ولا يتجرد الفعل عن
2724
الغاية إلا في المجنون الذي يفعل الأفعال بدون أي غاية، لكن العاقل يفعل الفعل لغاية، ولهذف يرجوه. والمنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لأي غاية ولأي هدف؟
ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح: أنهم يبتغون العزة من الكافرين، ولذلك اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين. ويلفتهم - جل شأنه - إلى جهلهم؛ لأنهم أخذوا طريقاً يوصلهم إلى ما هو ضد الغاية.
فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولاً: ما العزّة؟. العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلابة والشدة. فالأرض العَزَاز أي الصلبة التي لا ينال منها المعول، ثم نقلت إلى كل شديد، فكل شيء شديد فيه عِزّة. والمراد بها هنا: الغلبة والنصر، وكل هذه المعاني تتضمنها العزة.
فإذا قيل: الله عزيز.. أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد لا يمكن أن يقدر على مِحاله أو مكره أو قوته أو عقابه أحد. وإذا قيل: فلان عزيز أي لا يُغلب، وإذا قيل: هذا الشيء عزيز أي نادر، ومادام الشيء نادرأً فهو نفيس، والمعادن النفيسة كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها.
وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة، ألا تطلبونها ممن عنده؟. أتطلبونها من نظائركم؟. وعندما تطلبون العزة فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية، فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين. وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساوٍ لهم من الأغيار، فالمنافقون بشر، والكفار بشر، وبما أن كل البشر أغيار، فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غداً؛ لأن أسباب العزة هي غنىً أو قوة أو جاه، وكل هذه من الأغيار.
فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم، وهو من الأغيار مثلكم، ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى، ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى.
2725
لذلك أوضح لهم الحق: إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها، فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الأغيار، والأغيار تتبدل من يوم إلى يوم، فإن كان الكفار أغنياء اليوم، فغداً لن يكونوا كذلك، ولقد رأيتم كبشر ان الغَنَّي يفتقر، ورأيتم قوياً قد ضعف، وطلب العزة من الأغيار يعني أنكم غير أعزاء، ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موصعها.
فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن لا تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾.
وفي هذا القول تصويب لطلب العزة. وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بالله؛ فسبحانه الذي يهب العزة ولا تتغير عزته: ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾. وكلمة «جميعاً» هذه دلت على أن العزة لها أفراد شتى: عزة غني، عزة سلطان، عزة جاه، فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي - جميعا - في الحق سبحانه وتعالى.
والمؤمنون في عبوديتهم لله عبيد لإله واحد؛ وقد أغنانا الله بالعبودبة له عن أن نذل لأناس كثيرين. وسبحانه قد أنقذ المؤمن بالإيمان من أن يذل نفسه لأي مصدر من مصادر القوة، أنقذ الضعيف من أن يذل نفسه لقوي، وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني، وأنقذ المريض من أن يذل نفسه لصحيح.
إذن ساعة يَقول الحق: ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ فمعناها: إن أردت أيها الإنسان عزاً ينتظم ويفوق كل عز فاذهب إلى الله؛ لأنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه، وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل الفقير يقترض، بل قال: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ [البقرة: ٢٤٥]
وهنا يرفع الله عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة. العبد الفقير لا يقترض، ولكن القرض مطلوب لله، ولذلك قال أحدهم لأحد الضعفاء: إنك تسأل الناس، ألا تعف ولا تسأل؟. فقال: أنا سألت الناس بأمر الله، فالسائل يسأل بالله، أي أن يتخذ الله شفيعاً ويسأل به. وعندما يطلب الإنسان العزة من مثيل له، فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من الله وقد يستردها - سبحانه -
2726
منه. فما بالنا بالقوة اللانهائية لله، وكل قوة في الدنيا موهوبة من الله، المال موهوب منه، والجاه موهوب منه، وكل عزة هي لله.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب... ﴾
2727
يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضاً من الكافرين يهزأ بآيات الله أو يكفر بها فلا يقعدوا معهم إلا أن يتحولوا إلى حديث آخر، وذلك حتى لا يكونوا مثل الكافرين لأنه سبحانه سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم، وبذلك يحمي الله وحدهُ أهل الإيمان، ويصونهم من أي تهجم عليهم، فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا، فمادمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين؛ لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان، ومادمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقاً لك وعقيدة فلتحم هذا الإيمان من أن يَتَهَجَّم عليه أحد، فإن اجترأ أحد على الإيمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل.. فالغيرة الإيمانية للمسلم تحتم عليه أن يرفض هذا المجلس.
وكان المؤمنون في البداية قلة مستضعفة لا تستطيع الوقوف في وجه الكافرين أو المنافقين، فساعةً يترك المؤمنون الكافرين أو المنافقين لحظة اللغو في آيات الله، فالكافرون والمنافقون يعلمون بذلك السلوك أن عِرض الإيمان أعز على المسلمين من مجالسة هؤلاء. أما إذا جالسهم مسلم وهم يخوضون في الإيمان.. فهذا يعني أنهم أعز من الإيمان، والكافرون قد يجعلونها حديثاً مستمراً لسبر غور الإيمان في قلوب
2727
المسلمين. أما حين يرى الكافر مؤمناً يهب وينفر من أي حديث فيه سخرية من الإسلام، هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه.
وهذه الآية ليست آية ابتدائية إنما هي إشارة إلى حكم سبق، ونعرف أنها نزلت في المدينة؛ فالحق يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا﴾ ومعنى هذا أن هناك آية قد نزلت من قبل في مكة؛ ويقول فيها الحق: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين﴾ [الأنعام: ٦٨]
ويشير الحق هنا إلى أنه قد أنزل حكماً في البداية، وهو الحكم الذي نزل مع الكافرين في مكة؛ حيث استضعف الكافرون المؤمنين، ولم يكن المنهج الإيماني قد جاء بمنع المؤمنين أن يجالسوا الكافرين، فقد كان بعض المؤمنين عبيداً للكافرين، وبعض المسلمين الأوائل كان لهم مصالح مشتركة قائمة مع الكافرين وجاء الحكم: إن ولغ هؤلاء الكافرون في الدين بالباطل فاتركوا لهم المكان.
وسبحانه هنا في سورة النساء يذكر المؤمنين بأن حكم ترك الكافرين لحظة اللغو في الإيمان هو حكم ممتد منقول للمؤمنين من البيئة الأولى حيث كنتم أيها المؤمنون مع المشركين عبدة الأصنام، والحكم مستمر أيضاً في المدينة حيث يوجد بعض أهل الكتاب. والتكليف من الله، هو تكليف بما يطيقه الجنس البشري؛ فالإنسان عرضة لأن ينسى، وعليه بمجرد ان يتذكر فليقم تاركاً هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله.
وقد نزل في القرآن أن إذا سمع المؤمنون من يكفر بآيات لله ويستهزئ بها فليغادروا المكان، ونلحظ أن الذي نزل في الآية الأولى ليس سماعاً بل رؤية: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨]
ويأتي السماع في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا﴾ والمهم هو مجرد العلم سواء كان رؤية أو
2728
سماعاً بأنهم يخوضون في دين الله؛ فقد يخوض أهل الشرك أو غيرهم من أعداء الإسلام بما يُرى، وقد يخوضون بما يسمع، وقد يخوض بعض المشركين بالغمز أو اللمز من فور رؤيتهم لمسلم.
وقوله الحق: ﴿فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ يوحي أنهم إذا ما خاضوا في حديث غير الخوض في آيات الله فليقعد المؤمنون معهم. وكان ذلك في صدر الإسلام، والمؤمنون لهم مصالح مشتركة مع المشركين وأهل الكتاب، ولا يستطيع المجتمع الإسلامي آنئذ أن يتميز بوحدته، فلو قال لهم الحق على لسان رسوله: لا تقعدوا مع الكافرين أو المشركين فوراً. لكان في ذلك قطع لمصالح المؤمنين.
وكلمة «يخوضون» تعطي معنى واضحاً مجسماً؛ لأن الأصل في الخوض أن تدخل في مائع.. أي سائل، مثل الخوض في المياه أو الطين، والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ إلى غاية.
وساعة تخوض في مائع فالمائع لا ينفصل حتى يصير جزءاً هنا وجزءاً هناك ويفسح لك طريقاً، بل مجرد أن يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى، ولذلك يستحيل أن تصنع في المائع طريقاً لك. أما إذا دخل الإنسان في طريق رمليّ فهو يزيح الرمال أولأً ويفسح لنفسه طريقاً. ولا تعود الرمال إلى سَدّ الطريق إلا بفعل فاعل، وأخذوا من هذا المعنى وصفَ الأمر الباطل بأنه خوض؛ ذلك أن الباطل لا هدف له وهو مختلط ومرتبك، والجدال في الباطل لا ينتهي إلى نتيجة.
إذن «الخوض» هو الدخول في باطل، أو الدخول إلى ما لا ينتهي الكلام فيه إلى غاية. ويقرر العلماء: لا تخوضوا في مسألة الصفات العلية؛ لأنه لا يصح الخوض فيها، والكلام فيها لن ينتهي إلى غاية. ولذلك يقول الحق في موقع آخر بالقرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ
2729
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: ٩١]
لقد أبلغتهم يا محمد أن الذي أنزل الكتاب عليك هو الحق سبحانه وتعالى الذي أنزل من قبلُ التوراةَ فأخفيتم بعضها وأظهرتم البعض الآخر، ثم بعد البلاغ اتركهم يخوضون في باطلهم.
وفي موقع آخر يتكلم الحق من الخوض: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾ [التوبة: ٦٤ - ٦٥]
إذن الخوض هو الدخول في مائع، ومادمت قد دخلت في مائع فلن تجد فيه طريقاً محدداً بل يختلط المدخول عليه فلا تتميز الأشياء، وأخذ منه الخوض بالباطل أو الخوض باللعب الذي ليس فيه غاية.
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.
وتأتي الكلمة التي ترهب المؤمن وترعبه: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ أي إنكم إذا قعدتم معهم وهو يخوضون في آيات الله تكفرون مثلهم؛ لأنكم تسمعون الخوض في الدين بالباطل، ومن يرض بالكفر يكفر.
لقد أغطتنا الآية مرحلية أولية، فإذا ما كانت البيئة الإيمانية مجتمعاً ذاتياً متكافلاً فليس لأحد من المؤمنين أن يجالس الكافرين، ولا نواليهم إلا إذا والونا؛ لأن
2730
الجلوس معهم في أثناء الخوض في الدين يجرئهم على مناهج الله، وعلى المؤمن أن ينهر أي ساخر من الدين. وعلى المؤمنين أن يعرضوا عمّن ينحرف عن منهج الله أو يتعرض له. ولكن المجتمعات المعاصرة تكرم من يخوض بالباطل؛ وفي ذلك إغراء للناس على أن يخوضوا في الدين بالباطل.
وقوله الحق: ﴿فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ﴾ هو إيذان بالمقاطعة؛ فلو أن إنساناً بهذا الشكل يسكن في منزل، ويذهب إلى البقال ليشتري منه شيئاً ليأكله فيرفض البيع له، وكذلك الجزار، وكذلك أي إنسان في يده مصلحة لمثل هذا الخارج عن المنهج، وبذلك تكون المقاطعة حتى يتأدب، ويعلم كل إنسان أن المجتمع غيور على دينه الذي آمن به، وأن الله أعز عليهم من كل تكريم يرونه في مجتمعهم، ولو أن كل واحد من هؤلاء المنحرفين والموغلين في الباطل لو رأوا المجتمع وقد قاطعهم ووضع لهم حدوداً لذهبوا إلى الصواب ولبحثوا عن شيء آخر ومجال آخر يأكلون العيش منه ويطعمون أولادهم اللقمة الحلال من هذا العمل المشروع.
ويقول الحق: ﴿إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ ولا تستبطئوا هذه الحياة؛ لأن المسلم لا يأخذ الأمور بعمر الدنيا كقرن أو اثنين أو حتى عشرة قرون، بل عليه أن يعرف أن الدنيا بالنسبة له هي عمره فيها، والعمر يمكن أن ينتهي فجأة، ويعمل المسلم لا من أجل الدنيا فقط، ولكن من أجل أن يلقى الله مسلماً في الآخرة، والمؤمن يخشى أن يحشره الله مع المنافقين والكافرين في جهنم، وهذا مصير من يقبل السخرية أو الاستهزاء بدينه.
وبعد ذلك يقول الحق:
2731
﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ... ﴾
2732
وقوله الحق: ﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ وصف للمنافقين، ويتربص فلان بفلان. اي أن واحداً يتحفز ليتحسس أخبار آخر، ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار، وعرفنا هذا المعنى من قوله الحق: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ [التوبة: ٥٢]
ويتربص المنافقون بالمؤمنين لأنهم إن وجدوا خيراً قد أتى لهم فهم يريدون الاستفادة منه، وإن جاء شر فالمنافقون يتجهون للاستفادة من الخصوم، فظاهراً هم يعلنون الإيمان وهم في باطنهم كفار. وهم يتربصون بالمؤمنين انتظاراً لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء.
﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾ فإن فتح الله بنصره على المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقون: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾، فلابد لنا من سهم في هذه الغنيمة. وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقاً لقول الحق: ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين﴾.
هم يحاولون إذن الاستفادة من الكفار بقولهم: لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم، ولا بد لنا من نصيب ويقول الحق على ألسنتهم: {قالوا أَلَمْ
2732
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه. والحق هو القائل: ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله﴾ [المجادلة: ١٩]
أي جعلهم الشيطان في حيزه، وقول المنافقين للكافرين: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ يكشف موقفهم عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر والإيمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه المؤمنون، ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية لهم من سيوف المؤمنين. ثم يقولون للكافرين: نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم المؤمنون، ويطلبون منهم الثمن.
ولنر الأداء البياني للقرآن حين يقول عن انتصار المؤمنين: ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ﴾ أما تعبير القرآن عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة «نصيب» أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة. ثم يأتي القول الفصل من الحق: ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾.
وحين يرد الله أمر الكافرين والمؤمنين لا يرده دائماً إلى أمد قد لا يطول أجل السامع وعمره ليراه في الدنيا، فيأتي له بالمسألة المقطوع بها؛ لذلك لا يقول للمؤمن: إنك سوف تنتصر. فالمؤمن قد يموت قبل أن يرى الانتصار. ولذلك يأتي بالأمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة مصيراً مؤكداً لكل مؤمن؛ لأن الحياة أتفه من أن تكون ثمناً للإيمان.
ويعلمنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا نطلب الثمن في الدنيا؛ لأن الغايات تأتي لها الأغيار في هذه الدنيا، فنعيم الحياة إما أن يفوت الإنسان وإما أن يفوته الإنسان. وثمن الإيمان باقٍ ببقاء من آمنت به.
إن القاعدة الإيمانية تقول: من يعمل صالحاً يدخل الجنة، والحق يقول عن هؤلاء الصالحين: ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٧]
2733
أي أن الجنة باقية بإبقاء الله لها، وهو قادر على إفنائها، أما رحمة الله فلا فناء لها لأنها صفة من صفاته وهو الدائم أبداً. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي لن يوجد نقض لهذا الحكم؛ لأنه لا إله إلا هو وتكون المسألة منتهية. وقد حكم الحق سبحانه وتعالى على قوم من أقارب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد حكم الله على عم الرسول، فقال فيه: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [المسد: ١ - ٥]
قول الحق سبحانه: ﴿سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن يهديه الله للإيمان، مع أن كثيراً من الذين وقفوا من رسول الله مواقف العداء آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويشهد معسكر الكفر فقدان عددٍ من صناديده، ذهبوا إلى معسكر الإيمان، فها هوذا عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلاء آمنوا. فما الذي كان يدري محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أبا لهب لن يكون من هؤلاء؟ ولماذا لم يقل أبو لهب: قال ابن أخي: إنني سأصلى ناراً ذات لهب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقلت كلمة الإيمان. لكنه لم يقل ذلك وعلم الله الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة الإيمان.
ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقولا في جمع: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتم انتهاء المسألة؟ ولكن الله الذي لا معقب لحكمه قد قضى بكفرهم، وبعد أن ينزل الحق هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح: إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض، فسيصلى أبو لهب ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب، وقال الحق بعدها مباشرة: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢]
فلا أحد سيغير حكم الله..
إذن فقوله الحق: ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي لا معقب لحكم الله،
2734
فلا إله غيره يعقب عليه. ﴿وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ وهذه نتيجة لحكم الله، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين. ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين. وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب، ولكنه جعل الأسباب في الدنيا، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه؛ لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها، فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين.
والحكمة العربية تعلمنا: إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب. لأن الإنسان عندما يخطئ يُصَحَّحُ له الخطأ، فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع، وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل؛ فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولأً ثم سها عنها، والمدرس يصحح له الخطأ، فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع. وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب. والباطل أيضاً من جنود الحق.
فعندما يستشرى الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق. وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق، فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد، ويجعل البشر تصرخ، وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء؛ لأن الألم يقول للإنسان: يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان. ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب.
علينا - إذن - أن نعرف ذلك كقاعدة: الخطأ من حنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء، وكل خطأ يقود إلى صواب، ولكن بلذعة، وذلك حتى لا ينساه الإنسان. وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه، وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة؛ فنقول: «أغضب المخطئ سيبويه» ؛ لأن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه؛ فهو مؤلف الكتاب.
وسيبوبه لم يكن أصلاً عالم نحو، بل كان عالم قراءات للقرآن، حدث له أن كان جالساً وعيبت عليه لحنة في مجلس، أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله
2735
ذلك، فغضب من نفسه وحزن، وقال: والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها. وأصبح مؤلفاً في النحو.
ومثال آخر: الإمام الشاطبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لم يكن عالم قراءات بل كان عالماً في النحو، وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها، فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيداً. وصار من بعد ذلك شيخاً للقراء. فلحنة - أي غلطة - هي التي صنعت من سيبويه عالماً في النحو، ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخاً للقراء؛ على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات، والشاطبي كان رجل نحو.
ولذلك أكررها حتى نفهمها جيداً: الخطأ من جنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء والعافية.
وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد، وكان ذلك للتربية؛ ففي «أحد» خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب، وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة:
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]
والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال:
إن الهزيمة لا تكون هزيمة إلا إذا لم تقتلع أسبابها
لكن إذا جهدت لتطرد شائباً فالحمق كل الحمق فيمن عابها
فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصراً، وقد حدث ذلك في أحد، هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء، ثم كانت درساً مستفاداً أفسح الطريق للنصر.
2736
فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب، وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج. فهو القائل: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]
فإن لم يعدّ المؤمنون ما استطاعوا، أو غرّتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق، وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ [فاطر: ٤٣]
إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية، والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قدر عمله. ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ، لذلك يؤدبه ويربيه - ولله المثل الأعلى - نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك؛ لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد، وقد يضربه. أما المدرس الخارجي فلا ينفعل؛ بل يأخذ الأمور بحجمها العادي. إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحياناً على من يرحم.
والشاعر العربي يقول:
فقسى ليزدجروا ومن يكُ حازماً فليقس أحيانا على من يرحمُ
ومثال آخر - ولله المثل الأعلى - الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالاً يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار، وطفل آخر لا يعرفه، فيتجه فوراً إلى ابنه ليصفعه، ويأمره بالعودة فوراً إلى الشقة، أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب، أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه.
وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود، والتأديب على قدر المنزلة في النفس.
2737
ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالاً. وساعة نرى لأن للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلنعلم أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم، ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث. فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ... ﴾
2738
نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ويوضح الحق: إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئاً بدون علم الله، وقد يمكر إنسان بك، وهو يعلم أنك تعلم بمكره، فهل هذا مكر؟ لا؛ لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئاً. والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور. وكان يجب أن يأخذوا درساً من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم. وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار. فمن الأقدر - إذن - على الخداع؟
إن الذكي حقاً هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع. وكلمة «خدع» تعني مكر به مكراً فيبدي له قولاً وفعلاً ويخفى سواهما حتى يثق فيه. وبعد ذلك ينفذ المكر. وهناك كلمة «خدع» وكلمة «خادع». والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم، بل قال: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾.
و «خادع» تعني حدوث عمليتين، مثل قولنا: قاتل فلان فلانا. فالقتال يحدث
2738
بين طرفين وكذلك نقول: شارك فلان فلانا؛ لأن مادة «فاعل» تحتاج إلى طرفين. لكن عندما نقول «قتل»، فالفعل يحدث من جانب واحد. والخداع يبدأ من واحد، وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعاً آخر، وتسمى العملية كلها «مخادعة»، ويقال: خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه. ومن إذن الذي غلب؟ إن الذي بيَّت الخداع رداً على خداع خصمه هو الغالب.
ولأن الخداع يحدث أولاً، وبعد ذلك يتلقى «المخدوع» الأمر بتبييت أكبر؛ فهو «خادع»، والذي يغلب نقول عنه: «أخدعه» أي أزال خداعه. والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين، فالمنافقون أظهروا الإيمان أولاً وأضمروا الكفر، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين، وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك؛ لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار.
﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول «المخادع» ؛ لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمَّى بها نفسه. وسبحانه يفعل الفعل، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسماً، والحق يعطينا هنا «مشاكلة» ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شراً للمؤمنين، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله.
ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين، وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم، ولا نقول: «الله ماكر». ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء.
﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾.
إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة. ويقيسون لهفة اللقاء لأنها تحدد درجة المحبة. والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته:
2739
لقاء الاثنين يبين حَدَّهْ تلهف كَيْفٍ واستطالة مًدَّهْ
فلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة، فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلاث خطوات، وهذا معناه تقصير زمن الابتعاد، وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلام درجة المودة، فقد يسلم أحدهما على الآخر ببرود أو بنصف ود، أو بود كبير، أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالأحضان؛ وكذلك المدة التي يحتضن كلاهما الآخر، هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث؟
إذن فالذي يبين قيمة الود: التلهف، الكيفية، المدة. وهذه العناصر الثلاثة أخذها الشعراء للتعبير عن المودة والحب بين البشر، وقديماً كان الذين يُتَيَّمون بالنساء يسترون في السلام مودتهم. وفي الحصارة الغربية التي سقطت فيها قيم الأديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلات.
وفي بعض البلاد نجد الرجل يصافح المرأة، فهل يصافحها بتلهف، وهل تبادله هذه اللهفة؟ فإن وجدت الكف مفردة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلام عادي. أما إذا ثنى أحدهما إصبعه البنصر على كف الآخر فعليم أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في يده، فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه، وإن كان من المرأة فاللهفة منها، وإن كان من الاثنين فاللهفة منهما معا، ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد؟
وقد يحلو لكليهما معاً - رجل وامرأة - وكأن الكلام قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد الآخر.
سلام نوعين يبين حَدَّهْ تلهف كيف واستطالة مُدَّهْ
هكذا يقابل الإنسان الأحداث، فإن كان الحدث ساراً فالإنسان يقبل عليه بلهفة. وإن كان غير ذلك فالإنسان يقوم إليه متثاقلاً. وكان المنافقون يقومون إلى الصلاة بتثاقل وتكاسل: ﴿وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ كأنهم يؤدون الصلاة كستار يخفون به نفاقهم، ويستترون بها عن أعين المسلمين. ولم يكن قيامهم للصلاة
2740
شوقاً إلى لقاء الله مثلما كان يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - طالبا منه أن يؤذن للصلاة:
«يا بلال أرحنا بالصلاة».
لأن المؤمن يرتاح عندما يؤدي الصلاة، أما المنافق فهي عملية شاقة بالنسبة إليه لأنه يؤديها ليستتر بها عن أعين المسلمين ولذلك يقوم إليها بتكاسل. ﴿وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
هم يقيمون الصلاة ظاهرياً أمام الناس ليخدعوا المسلمين وليشاهدهم غيرهم وهم يصلون. وفي الصلاة التي يراءون بها الناس لا يقولون كل المطلوب منهم لتمامها، يقولون فقط المطلوب قوله جهراً. كأن يقرأوا الفاتحة وبعض القرآن ولكنهم في أثناء الركوع لا يسبحون باسم الله العظيم وكذلك في السجود لايسبحون باسم الله الأعلى.
ففي داخل كل منافق تياران متعارضان.. تيار يظهر به مع المؤمنين وآخر مع الكافرين. والتيار الذي مع المؤمنين يجبر المنافق على أن يقوم إلى الصلاة ويذكر الله قليلاً، والتيار الذي مع الكافرين يجعله كسولاً عن ذلك، ولا يذكر الله كثيرا.
وإذا ما حسبنا كم شيئا يجهر به المصلي وكم شيئاً يجريه سراً فسنجد أن ما يجريه المصلي سراً في أثناء الصلاة أكثر من الجهر. ففي الركوع يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، ويقول: سبحان ربي الأعلى، في كل سجود ثلاث مرات، أما المنافق فلا يذكر الله إلا جهراً، وهو ذكر قليل. ونجد المنافق لا يفعل فعلاً إلا إذا كان مَرْئيا ومسموعا من غيره، هذا هو معنى المراءاة. أما الأعمال والأقوال التي لا تُرَى من الناس ولا تُسمع فلا يؤديها.
ولا يهز المجتمعات ولا يزلزلها ويهدُّها إلا هذه المراءاة؛ لأن الحق سبحانه يحب أن يؤدي المسلم كل عمل جاعلاً الله في باله، وهو الذي لا تخفى عليه خافية. ويلفتنا
2741
إلى هذه القضية سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث يقول عن الإحسان:
«أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وإذا كان الإنسان يخجل من أن يغش واحداً مثله من البشر غشاً ظاهرياً فما بالنا بالذي يحاول غش الله وهو يعلم أن الله يراه؟ ولماذا يجعل ذلك العبد ربه أهون الناظرين إليه؟
وعندما يغش واحداً آخر واكتشف الآخر غشه فهو يعاقبه فما بالنا بغش الله؟! ولذلك تجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة» يا فاجر «» يا غادر «» يا مرائي «ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له».
إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه، هو يتظاهر بالصلاة ليراه الناس. ويزكي ليراه الناس، ويحج ليراه الناس، هو يعمل ما أمر الله به، لكنه لا يعلمه الله، ولذلك قال القرآن: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩]
وقال عن لون ثان من نفاقهم:
2742
﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [البقرة: ٢٦٤]
والصفوان هو الحجر الأملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة، لأن الحجر إن كان به جزء من خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر، فالتراب يتخلل الخشونة. أما الحجر الأملس فمن فور نزول المطر ينزلق من عليه التراب. ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له.
ويستكمل الحق وصف الحالة النفسية للمنافقين فيقول: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك... ﴾
2743
والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لأنه غير ثابت، مأخوذ من «المذبة» ومنه جاءت تسمية «الذباب: الذي يذبه الإنسان فيعود مرة أخرى، فمن سلوك الذباب أنه إذا ذُبّ عن مكان لا بد أن يعود إليه.
﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي طبيعتهم؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية؛ ففي الذات الواحدة آمر ومأمور، والحق يقول: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦]
2743
أي أن الإنسان يقي نفسه بأن يجعل الآمر يوجه الأمر للمأمور، ويجعل المأمور يطيع الآمر، ودليل ذلك قول الحق عن قابيل: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: ٣٠]
أي أن جزءًا من الذات هو الذي طوَّع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل. فقد خلق الله النفس البشرية كملكات متعددة، ملكة تحب الأريحية وأخرى تحب الشح، والملكة التي تحب الأريحية إنما تطلب ثناء الناس، والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه. وكلتا الملكتين تتصارع في النفس الواحدة؛ لذلك يقول الحق: ﴿قوا أَنفُسَكُمْ﴾ فالنفس تقي النفس؛ لأن الملكات فيها متعددة. وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة، لكن هناك ملكة إيمانية تقول: تذكر أن هذه الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد.
إذن فهناك صراع داخل ملكات الإنسان، ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾.
لأن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الاستعلاء، ونازعته نفسه بالخوف من الإثم. لقد دارت المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الاستعلاء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس. وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة، كل ملكة لها مطلوب. والدين هو الذي يقيم التعايش السلمي بين الملكات.
مثال آخر: الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس، فيقوم الوعي الإيماني بردع ذلك بأن تقول النفس الإيمانية: إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى لا تلغ الناس في أعراضك، ولماذا لا تذهب وتتزوج كما شرع الله، ولا ترم أبنائك في فراش غيرك؛ لأن الغريزة مخلوقة لله فلا تجعل سلطان الغريزة يأمر وينهى.
وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز، ولا يصح أن يعدي الإنسان غريزة إلى أمر آخر؛ لأنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا.
2744
وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس الكهرباء، الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب، بحيث نأخذ الضوء الذي نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لإدارة آلة، لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقاً أو فساداً.
وكذلك النفس البشرية، إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد، وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقاً نفسياً واجتماعياً لا حدود لآثاره الضارة، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة.
ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام، ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره، كما جاء في الحديث: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه».
فالطعام لبقاء النوع. والإنسان محب للاستطلاع، فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة، لتعيش كل الملكات في سلام، ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله.
لكن المنافق يحيا مذبذباً وقد صنع بنفسه، فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات أخرى ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ إن الكافر يمتاز عن المنافق - ظاهرا - بأنه منسجم مع نفسه، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان.
قد يقول قائل: وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول: الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة
2745
وهو ليس معها؛ بل يعلن الكافر كفره منسجماً مع نفسه، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي.
﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾.
والله لا يضل عبداً بشكل مباشر؛ فسبحانه يُعلم خلقه أولاً بالرسل والمنهج، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان، لذلك يتركه على ضلالة وعماه. صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهراً، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره.
فإن أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال. ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلاً؛ فسبيل الله واحد. وليس هناك سبيلان.
ونذكر هذه الحكاية؛ لنعرف قيمة سبيل الله. كان الأصمعي - وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة - يملك أذناً أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر، ووجد الأصمعي إنساناً يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة، وكان الرجل يدعو الله دعاء حاراً «يا رب: أنا عاصيك، ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة، فلا إله إلا أنت، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل». وأعجب الأصمعي بالدعاء، فقال: يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾
2746
لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله؛ وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر ولياً لهم من دون الله ومن دون المؤمنين، ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك، ويوضح سبحانه: لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله، فإياكم أن تفعلوا مثلهم.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾.
وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان؛ لأنكم إن فعلتم ذلك. فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم. ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه.
الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد: أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك - سبحانه - الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله، ويكتشف أن هناك خالقا للكون. لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فلا يقولن واحد: أنت لم تنبهني يارب، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما، لكن الله لا يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم، لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢]
فلا يقولن واحد: لقد أخذنا الله على غرّة. وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لأن المنافق له أسبابه، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به.
2747
فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم.
﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد، فإذا ما كانت هناك حجة، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها، كالمحامي أمام المحاكم. لكن حجة الله هي سلطان مبين. أي لا تنقض أبداً.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ المنافقين فِي... ﴾
2748
ولنر دقة التربية الإيمانية. فلم يأت الحق بفصل في كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق بالمنافقين، لا، بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين، حتى ينفِّر السامع من وضع المنافق ويحببَه في صفات المؤمن، وهنا يقول: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾. والدرك دائماً في نزول. والأثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول:
«النار دركات كما أن الجنة درجات».
فالنزول إلى أسفل هو الدرك، والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج. وفي عصرنا نضع مستوى سطح البحر كمقياس؛ لأن اليابسة متعرجة، أما البحر فهو مستطرق.
ونستخدم في الأمر الدقيق - أيضا - ميزان المياه، وعندما تسقط الأمطار على الطرق تكشف لنا عمل المقاول الذي رصف الطرق، هل أتقن هذا العمل أو لا؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل
2748
العامل، إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر. والقول المصري الشائع: «إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء». فلو أن الحائط غير مستو؛ فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط.. والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلاء الحائط؛ لأنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة ليملأ المناطق غير المستوية في الحائط، وإما أن يجد الأمر سهلا. والذي يكشف جودة أو رداءة عمل عامل الطلاء هي أشياء طبيعية مثل الغبار. والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع بتسليم البناء؛ لأن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم، وعندما يوجد جدار تم طلاؤه بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به وكأن الله قد أراد بذلك أن يفضح من لا يتقن عمله، وكل شيء مرده إلى الله حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين، إلا المؤمنين الذين يعملون صالحاً، فهؤلاء يسترهم بعملهم الصالح.
﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾. وسبحانه وتعالى سبق أن عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي لا ثبات لها على رأي، ولا وجود لها على لون يحترمه المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ [النساء: ١٤٣]
والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي لا يوجد لها مقوم ذاتي. وسبحانه وتعالى حين عرضهم هذا العرض المشوه، يوضح: أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه.
وقد هيأ الحق الأذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى لا تأخذ الناس شفقة عليهم أو رحمة بهم، وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته ألا يوجد منازع له في الحكم.
وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك الأسفل من النار. ولن توجد قوة أخرى تنتشل المنافق؛ لذلك أتبع الحق الحكم بقوله: ﴿وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ أي أنه حكم مشمول بالنفاذ، ولن يعدله أحد من خلق الله، فسبحانه له الملك وحده، وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لأسباب الناس أيضاً، أما في الآخرة فلا مِلك لأحد ولا مُلك لأحد. ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
2749
وبعد ذلك يتيح الحق لأقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن يتوبوا عما فعلوه - أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قال: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ... ﴾
2750
إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قال: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ أي تاب عن نفاقه الأول، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلا بد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويُخْلِص لله نيّةً وعملاً. ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾. إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة، وإصلاح ما أفسد، والاعتصام بالله، وإخلاص دينه لله.
والتوبة هنا إقلاع عن النفاق، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهداً أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق. والاعتصام بالله كيف يكون؟
لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين.. أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم؛ لذلك يوضح الله: تنزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يُجِير أحد على الله، واجعلوا العزة والمرجع إليه وحده.
والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله، لكن الحق يقول: ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ فلماذا أكد على الإخلاص
2750
هنا؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا. ونعلم أن القلب قد يذنب، فذنب الجارحة أن تعتدي، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس. إذن. فكل جارحة لها مجال معصية، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور. إذن فقوله الحق: ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق، والإخلاص محله القلب.
فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها. أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص. وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق. وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين. ﴿فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾.
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين. ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه. وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل. وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين، وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم. وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجراً عظيماً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله... ﴾
2751
وسبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، واستثنى منهم من تاب وأصلح واعتصم بالله وأخلص، ويتحدث هنا عن فكرة العذاب
2751
نفسها، ليجليها فيقول: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ﴾ وهذا استفهام، والاستفهام أصلاً سؤال من سائل يتطلب جواباً من مجيب. وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبراً، فهو القادر على أن يقول: أنا لا أفعل بعذابي لكم ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا، فلا استجلب به لي نفعا ولا أدفع به عني ضراً.
لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده، بل يجعل المنافقين يقولونها. مثال ذلك - ولله المثل الأعلى - يقول واحد لآخر: أنت أهنتني. ومن الجائز أن يرد الآخر: أنا لم أهنك. وأقسم لك أنني ما أهنتك. وقد يضيف: ابغني شاهداً. وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالإبلاغ عن عدم الإهانة، ثم القسم بأن الإهانة لم تحدث، ومن بعد ذلك طلب شاهداً على أن الإهانة المزعومة قد حدثت.
وقد يقول الإنسان رداً على من يتهمه بالإهانة: أنا أترك لك هذه المسألة، فماذا قلت لك حتى تعتبره إهانة؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالإهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة تحمل في طياتها شبهة الإهانة.
ولو كان الإنسان واثقا من أنه أهان الآخر، فهو يخاف أن يقيم الآخر دليلا على صحة اتهامه له، ولكن حين يقول له: وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة؟. فعليه أن يبحث ولن يجد. وبذلك يكون الحكم قد صدر منه هو.
وإذا كان الله يقول: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ﴾ فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب. وكانت فيهم محادة لله. ورضي الله شهادتهم، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ﴾، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله. ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا. وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية، فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان.
ويوضح الحق للمنافقين: ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم؛ لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم.
2752
وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه، أو ليثأر منه؛ لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام. أو ليمنع ضرره عنه. والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع. فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي: لن يفعل الله بعذابنا شيئا، إن شكرنا وآمنا.
ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه، يلقيها على هيئة سؤال. وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه، أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل. وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين ومخالفين. وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب؛ لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه. وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا.
﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً﴾. وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شي من طاعة يعود إلى الله بنفع، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر. ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله - سبحانه -.
وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع، سلامة البشر بعضهم من بعض. إذن فالمسألة التي يريدها الحق، لا يريدها لنفسه، فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له، وبصفات الكمال أوجد الخلق. وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا، ولذلك قال في الحديث القدسي:
«يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر..».
2753
إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله، إنما لشيء يعود على خلق الله. ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقاً ثم حمى الخلق من الخلق، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله.
﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا.. أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب.
وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلات أفراده مع بعضهم بعضاً، وذلك حتى يكون المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش. ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة، وهذه الموهبة يريدها المجتمع.
فمن الجائز أن يكون لإنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء، وصاحب الأرض ليس مفترضا فيه أن يدرس الهندسة أولاً حتى يصمم البناء ورسومه، وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء ليبني البيت، وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلاء والكهرباء وغيرهما.
وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك، لا، لا بد أن يكون لكل إنسان عمل ما ينفع الناس. إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الاستطراق النفعي، ولأن كلاًّ منا يحتاج إلى الآخر فلا بد من إطار التعايش السلمي في الحياة. لا أن يكون العراك هو أساس كل شيء؛ لأن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى، وسبحانه يريد كل قوى المجتمع متساندة لا متعاندة، ولذلك قال: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾. أما إن لم تشكروا وتؤمنوا، فعذابكم تأديب لكم، لا يعود على الله بشيء.
ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان؟ لنعرف أولاً ما الشكر؟ الشكر: هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمتهُ، فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا: «كثر خيرك»، وما الإيمان؟ إنه اليقين بأن الله واحد.
2754
لكن ما الذي يسبق الآخر. الشكر أو الإيمان؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة، فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق. ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟
وعندما يأتي رسول، فالرسول يقول للإنسان: أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك، إن اسمها الله، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج. هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة. فالشكر يكون أولاً، وبعد ذلك يوجد الإيمان، فالشكر عرفان إجمالي، والإيمان عرفان تفصيلي. والشكر متعلق بالنعمة. والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة.
﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً﴾ والحق سبحانه يوضح لنا: أنا الإله واهب النعمة أشكركم. كيف يكون ذلك؟
لنضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت اشتريت لابنك بعضا من اللعب، ولم تفعل ذلك إلا بعد ان استوفيت ضرورات الحياة، فلا أحد يأتي باللعب لابنه وهو لم يأت له بطعام أو ملابس.
إذن فأنت تأتي لابنك باللعب بعد الطعام والملبس ليملأ وقت فراغه، وهذا يعني أن الضرورات قد اكتملت. وحين تقول لابنك: إن هذه اللعبة للعب فقط، ستأخذها ساعة تحب أن تلعب، وتضعها في مكانها وقت أن تذاكر، فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها. وهذا يعني إنك كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ولا يلعب بأي شيء غيرها في المنزل؛ لأنه لو لعب بكل شيء في المنزل فلا بد من أن يكسر شيئا، فلا مجال للعب في التليفزيون أو في الساعة أو الثلاجة أو الغسالة حتى لا تتعطل تلك الأجهزة.
وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يُجد به. وأشياء الجد لا توجد إلا عند طلبها فقط؛ فالغسَّالة لا تستخدم إلا ساعة غسل الملابس، والساعة لا نستخدمها إلا لحظة أن نرغب في معرفة الوقت. والثلاجة لا تفتحها إلا ساعة
2755
تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه، والوالد يأتي للابن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الأشياء التي يمكنه أن يلعب بعا وبين الأشياء التي لا يصح أن يلعب بها، فأشياء المنزل يجب ألا يقرب منها الابن إلا وقت استعمالها. لكن بالنسبة للعبة فالابن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب، لكن عليه أن يحافظ عليها. وعندما يرقب الوالد ابنه، ويجده منفذا للتعليمات، ويحافظ على حاجات المنزل، ويلعب بلعبه محافظا عليها. وإن لم يُعَلّم الأب ابنه ذلك فقد يفسد الابن لعبه.
وحين يقوم الابن بتنفيذ تعليمات أبيه فالأب يرضى عنه ويسعد به. وعندما تخرج لعبة جديدة في السوق فالأب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة؛ لأن الولد صار مأمونا؛ لأنه يعرف قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب. ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل. ويزداد رضاء الأب عن تصرفات الابن. وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الأب لعبا جديدة. فإذا كان ذلك هو ما يحدث في العلاقة ما بين الأب والابن، وهما مخلوقان لله، فما بالنا بالخالق الأعلى سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات؟
إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله، فالله شاكر وعليم؛ لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة. فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة، على نعمة هازلة ولا نعمة هازلة على نعمة جادة، فالله يرضى عن العباد.
ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك. فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر. ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر.
إذن فمعنى أن الله شاكر.. أي أن سبحانه وتعالى راض. ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه، مصداقا لقوله الحق: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧]
2756
فالشكر هنا موجه من العبد للرب، والزيادة من الرب إلى العبد. وإياك أيها الإنسان أن تصنع الأشياء شكليا، مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الأب. ومن فور أن يختفي الأب أمام عيني الطفل فهو يفسد اللعبة، والله ليس كالأب أبداً، فالأب قدراته محدودة، ولكن الله هو الخالق الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية أبداً وسبحانه شاكر، وهو أيضاً عليم.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر... ﴾
2757
إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع الإيماني من «قالات السوء».. أي من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة، وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ قبيحة وحينئذ نتساءل: من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن؟ ونعرف أنها جاءت من الشارع؛ لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة، وعندما يتقصى الإنسان عن مصدر هذه الألفاظ، يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضاً من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة.
إذن فاللغة هي بنت المحاكاة. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية، فهو يتحدث العربية. ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية.
واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لأن الناس إن
2757
تكلمت بقالات السوء، فسيكون شكل المجتمع غريبا، وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء، فكأن الحق سبحانه يوضح: إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست المسألة أن يريد الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالاً؛ لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها، وسيسمعها غيره فيرددها، وتتوالى القدوة السيئة. ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولاً.
وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول: إن كل الناس أهل سوء. وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء، لذلك يقول: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول﴾ ومقابلها بالطبع هو: أن الله يحب الجهر بالحسن من القول. وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة الإيمانية، أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى؟. لا.
ونعلم أن النفس فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ. والمثل العربي يقول: «من اسْتُغْضِب ولم يغضب فهو حمار» ؛ لأن الذي يُستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين، فهل معنى ذلك أن الله يمتع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ لا، لكنه - سبحانه - يضع شرطاً لكلمة السوء هو: ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ ؛ لأن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره.
وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه. فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور، فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه، وإما أن يكبت ويكتم ذلك.
فإن قال الله: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول﴾ واكتفى بذلك، لكان كبتاً للنفس البشرية. وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لأمر الله لأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال، وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم. فيوضح سبحانه: أنا لأ أحب الجهر بالسوء من القول، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
2758
«إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء».
أي أن يتحرك الإنسان من فور إحساسه بالغضب؛ فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه بذلك ينفث تنفيثاً حركياً ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛ تماماً كما يفك إنسان صماماً عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار.
إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء. والجهر له فائدتان: الأولى: أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت، وثانياً: أنه أشاع وأعلن أن: هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه. وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات. ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة «ظلم» هذه؛ لأن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول. وعليك أيها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم. ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة. ويوضح: إياكم أن تزيدوا على هذه الضرورة، فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع. وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم، فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة.
وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني. لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم. لكن إن امتلك الإنسانُ الطموحَ الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو. إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان، وأمر يلزمه به قسراً وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر، جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان؛ لأن المبادئ
2759
القرآنية يتساند بعضها مع بعض.
وسبحانه يقول: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤]
فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحدٌ، فقد جعل لك ألاّ تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزى ويعرف أن هناك أناساً أكرم منه في الخلق، ولا يتعب إنسانٌ إلا أن يرى إنساناً خيراً منه في شيء. وعندما يرى الظَالمُ أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه.
إذن فالمبدأ الإيماني: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ جعله الله مجالاً محبوباً ولم يجعله قسراً؛ لأنك إن أعطيت الإنسان حقه، ثم جعلت لأريحيته أن يتنازل عن الحق فهذا إرضاء للكل. وهكذا ينمي الحق الأريحية الإيمانية في النفس البشرية؛ لأنه لو جعلها قسراً لأصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك إذا رأيت إنساناً قد اعتدى على إنسان آخر، فدفع الإنسان المعتدى عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المعتدي، وسبحانه القائل: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبداً، ولا بد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن.
قد يكون الذي دفع بالتي هي أحسن قد قال بلهجة من التعالي: سأعفو عنك، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحداً وليًّا حميمًا. لكن إن دفع حقيقة بالتي هي أحسن تواضعاً وسماحة، فلا بد أن يصير الأمر إلى ما قاله الله: ﴿فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. والتفاعلات النفسية المتقابلة يضعها الله في إطارات واضحة وسبحانه القائل: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]
2760
وذلك حتى لا يستشرى المعتدي أيضاً، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة. يستشرى، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد. ويُصعب الحق المسألة في رد الاعتداء.
ويثور سؤال: من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟. ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنساناً آخر صفعة على الوجه، فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب. ومادام المأمور به أن أعتدى بمثل ما اعتدى به علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدَى عليه صرت المعتدِي، بذلك يكون العفو أقرب وأسلم.
والعمليات الشعورية التي تنتاب الإنسان في التفاعلات المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع إلى النزوع.
والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه، فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل جهدًا لتكظم الغيظ، أي أن تحبس الغيظ على شدة. فالغيظ يكون موجوداً، ولكن المطلوب أن يمنع الإنسان الحركة النزوعية فقط. وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع، وإن بقي الغيظ في القلب. ﴿والكاظمين الغيظ﴾ [آل عمران: ١٣٤]
هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي: ﴿والعافين عَنِ الناس﴾ [آل عمران: ١٣٤]
فإذا كان المطلوب في المرحلة الأولى منع العمل النزوعي، فالأرقى من ذلك أن تعفو، والعفو هو أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك. وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو فأحسن إليه؛ لأن من يرتكب الأعمال المخالفة هو المريض إيمانياً. وعندما ترى مريضاً في بدنه فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدواً لك. وتتناسى عدواته؛ فما بالنا بالمصاب في قيمه؟ إنه يحتاج منا إلى كظم الغيظ، أو العفو كدرجة أرقى، أو الاحسان إليه كمرحلة أكثر علواً في الارتقاء.
2761
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل، ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فلا نعتدي ولكن يظل السبب في القلب، ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا، ثم يترقى ارتقاء آخر، فيقول سبحانه: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾، ومن فينا غير راغب في حب الله؟ وهكذا نرى أن الدين الإسلامي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه.
وقد يتساءل إنسان: كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي؟ والرد: أنت وهو لستما بمعزل عن القيوم؛ فهو قيوم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وكل شيء مرئي له وكلاكما صنعة الله، وعندما يرى الله واحداً من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك، ويقف إلى جانبك لأنك المعتدَى عليه. إذن فالإساءة من الآخر تجعل الحق سبحانه في جانبك، وتكون تلك الإساءة في جوهرها هدية لك.
وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه؛ لأنه إن انتقم سيفعل ذلك بقدرته المحدودة، وحين يعفو فهو يجعل المسألة لله وقدرته سبحانه غير محدودة، إن أراد أن يرد عليه، وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه. هذا هو الحق سبحانه وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن. وهو السميع العليم بكل شيء. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً... ﴾
2762
لقد عرفنا أن الحق لا يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إلا إذا كنت مظلوماً. وهذا يعني أن المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الإخفاء، فقال: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً﴾ أي إن تظهر الخير، أو تخفي ذلك، أو تعفو عن السوء. وكل هذه الأمور من ظاهر وخفي من الأغيار البشرية، لكن شيئاً لا يخفى على الله. ولا يمكن أن يكون للعفو مزية
2762
إيمانية إلا إذا كان مصحوبا بقدرة، فإن كان عاجزاً لما قال: عفوت. وسبحانه يعفو مع القدرة. فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلاق منهج الله، فيكون لك العفو مع القدرة. ولنا أن نعلم أن الحق لا يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن نكون قادرين، ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية الإيمانية؛ لأن عفو العاجز لا يعتبر عفواً.
والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول: إنه عفا - وهو على غير قدرة - تراه أنه استخزى. أما من أراد أن يتخلق بأخلاق منهج الله فليأخذ من عطاءات الله في الكون، ليكون قادراً وعزيزاً بحيث إن ناله سوء، فهو يعفو عن قدرة ﴿فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾.
وقلنا من قبل: إنك إذا لمحت كلمة «كان» على نسبة لله سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو الرحمة، فعلينا أن نقول: كان ولا يزال؛ لأن الفعل مع الله ينحل عن الزمان الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل؛ فهو سبحانه مادام قد كان، وهو لا تناله الأغيار، فهو يظل إلى الأبد.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ... ﴾
2763
وسبحانه يريد أن يجعل من قضية الإيمان قضية كلية واحدة لا أبعاض فيها، فليس إعلان الإيمان بالله وحده كافياً لأن يكون الإنسان مؤمناً؛ لأن مقتضى أن تؤمن بالله يحتاج إلى رسول يعرفك أن الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه الله.
2763
وأنت لا تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة لك إلا بوساطة رسول منزل من عند الله.
ونعرف أن عمل العقل في الاستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون؛ لأن الإنسان قد طرأ على كون منظم، وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود وخلقته وأن الإنسان قد طرأ على وجود متكامل. وقد يسمع الإنسان من أبيه - مثلاً - أن هذا البيت بناه الأب أو الجد، وذلك الشيء فعله فلان ابن فلان. لكن لم يسمع أحداً يقول له: «ومن بنى السماء؟» ولم يسمع أحداً يقول: «ومن خلق الشمس؟»، مع أن الناس تدعي ما ليس لها، فكيف يُترك أعظم ما في كون الله بدون أن نعرف من أوجده؟.
إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبياً في حياتهم، نجد دراسات عن تاريخ أحجار، ودراسات عن تاريخ صناعة الأشياء؛ تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه اديسون وقام بتوليد الكهرباء من مصادر ضئيلة ويسيره، باختصار، نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ، وهذا التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده. وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة نكتشف أن واحداً تلقاها عن واحد، ولم يبتكرها هو دفعة واحدة.
إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقه وبدأ عملاً جديداً إلى أن وصلت المخترعات بميلادها، ومن يصدق أن مصباحاً يُضيء وينطفئ ويحترق يضنعه إنسان ونعرف له تاريخاً، وبعد ذلك ننظر إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق، والمصباح ينير حيزاً قليلا يسيراً، والشمس تنير كوناً ووجوداً، ألا تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها؟
لقد سبق لنا أن قلنا: إن الإنسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيداً عن بلاغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية، فهو يقول لنفسه: تختلف مقادير الناس باختلاف مراكزها وقوتها فيما يفعلون، هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز. وآخر على كرسي مصنوع من شجر الورد، وثالث يجلس على حصيرة.
2764
إن الإنسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته؛ فالريفي أو البدوي يشعل النار بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة يستخدمها لأكثر من مرة، وعندما يرتقي في استخدام النار يستخدم «مسرجة»، ولمَّا ازداد تحضرا استخدم «مصباح جاز» بزجاج ولها أرقام تدل على قدرتها على الإضاءة.
فهناك مصباح رقم خمسة، ورقمها دليل على قوتها الخافتة، وتتضاعف قوة «المصباح» من بعد ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها. ولمّا ارتقى الإنسان أكثر استخدم «الكلوب». ولمّا ارتقى أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية، فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ الضوء الذي يستخدمه، فنورها يغني عن أي نور. وفي الليل يحاول الإنسان أن تكون حالة الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان. فما بالنا بالشمس التي لا يحدث لها مثل ذلك.
إننا نجد الإنسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلاقة قدرة الحق، وإن لم يأت رسول، أما أسماء القدرة الخالقة فلا يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل. فاسم «الله» اسم توقيفي. فكيف يتأتى - إذن - مثل قول هؤلاء: سنؤمن بالله ونكفر برسله؟ كيف عرفوا - إذن - أن القوة التي سيؤمنون بها اسمها الله؟ لا بد أنهم قد عرفوا ذلك من خلال رسول؛ لأن الإيمان بالله إنما يأتي بعد بلاغ عن الله لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به.
وهل الإيمان بالله كقوة خفية قوية مبهمة وعظيمة يكفي؟ أو أن الإنسان لا بد له أن يفكر فيما تطلبه منه هذه القوة؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من الإنسان أن يسير على منهج معين، فمن الذي يبلغ هذا المنهج؟
لا بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من الإنسان للسير على المنهج، ويشرح لنا كيفية طاعة هذه القوة. فلا أحد - إذن - يستطيع أن يفصل الإيمان بالله عن الرسول، وإلا كان إيماناً بقوة مبهمة. ولا يجترئ صاحب هذا اللون من الإيمان أن يقول: إن اسم هذه القوة «الله» ؛ لأن هذا الاسم يحتاج إلى بلاغ من رسول.
2765
إذن فعندما يسمع أحدنا إنساناً يقول: أنا أؤمن بالله ولكن لا أؤمن بالرسل: علينا أن نقول له: هذا أول الزلل العقلي؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإيمان ببلاغ جاء به رسول؛ لأن الإيمان بالله لا ينفصل عن الإيمان بالرسول.
والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات، ولا نجد من يدعي أن آدم هو أول من عمر هذا الوجود.
وما آدم في منطق العقل واحد ولكنه عند القياس أوادم
ومن الممكن أن نقول: إن هناك خلقاً كثيراً قد سبقوا آدم في الوجود، ولكن آدم هو أول الجنس البشري. وعندما خلقه الله علمه الأسماء كلها حتى يستطيع أن يسير في الوجود، فلو لم يكن قد تعلم الأسماء لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده، ولما استطاع - على سبيل المثال - أن يقول لابن من أبنائه: انظر أاشرقت الشمس أم لا؟
إذن كان لا بد لآدم من معرفة الأسماء كلها من خلال معلم؛ لأن اللغة بنت المحاكاة؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يتكلم كلمة إلا بعد أن يكون قد سمعها.
والواحد منا سمع من أبيه، والآباء سمعوا من الأجداد، وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم، فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة؟ لا بد أنه الله، وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان عاقل. إذن قول الحق في قرآنه: ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]
هو كلام منطقي بالإحصاء الاستقرائي، وهو قول يتميز بمنتهى الصدق.
والإنسان منا عندما يعلم ابنه الكلام يعلمه الأسماء. أما الأفعال فلا أحد يعرف كيف تعلمها. الإنسان يقول لابنه: هذا كوب، وهذه منضدة، وذلك طبق، وهذا طعام، لكن لا أحد يقول لابنه: «شرب» معناها كذا، و «أكل» معناها كذا. إذن فالخميرة الأولى للكلام هي الأسماء، وبعد ذلك تأتي المزاولات والممارسات ليتعلم الإنسان الأفعال.
2766
لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون. والرسول هو الذي يأتي بالبلاغ عنه سبحانه، فيقول لنا اسم القوة: «الله»، وصفاتها هي «كذا»، ومن يطعها يدخل الجنة، ومن يعصها يدخل النار، ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ولا نعرف اسم القوة الخالقة ولا نعرف مطلوبها، وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو تعبد القمر أو النجوم ونقول لهم: هل أنتم تعبدون الشمس؟ لعلكم فعلتم ذلك لأنها أكبر قوة في نظركم.
لكن هناك سؤال هو: «ما العبادة» ؟ الإجابة هي: العبادة طاعة عابد لمعبود، فماذا طلبت منكم الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس ألا تفعلوه؟ ويعترف عبدة الشمس: لم تطلب الشمس منا شيئا. وعلى ذلك فعبادتهم للشمس لا أساس لها؛ لأنها لم تحدد منهجا لعبادتها، ولا تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها، فإله بلا منهج لا قيمة له. وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير الله هي عبادة تحمل تكذيبها، والإيمان بالله لا ينفصل أبداً عن الإيمان بالقوة المبلغة عن الله إنها الرسل.
ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة الإلهية، وتشرح القوة الألهية لنا كيفية اتصاله بالرسول البشري بوساطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة؛ لأن الرسول من البشر، والبشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى. ونحن نفعل مثل هذه الأشياء في صناعتنا. ونعلم أن الإنسان عندما يريد أن ينام لا يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه، فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة، لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى لا يصطدم بشيء، لذلك يوقد مصباحاً صغيراً في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء، ونسميها «الوناسة».
ولا نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة، وإنما نقوم بتركيب محول صغير يأخذ من القوة الكهربية العالية ويعطى للمصباح الصغير، فما بالنا بقوة القوى؟
إن الله جعل خلقاً آخر هم الملائكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله. وهؤلاء الرسل أعدهم سبحانه إعداداً خاصاً لتلقي هذه المهمة. إذن فالذين يريدون أن يؤمنوا بالله ثم يكفروا برسله نقول لهم: لا، هذا إيمان ناقص. ووضع الحق
2767
سبحانه وتعالى الإيمان بالرسل كلهم في صيغة جمع حتى لا تفهم كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند الله، بل لا بد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم؛ لأن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره، وكلهم جاءوا بعقائد واحدة، فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الآخر؛ وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل التي تترتب عليها الارتقاءات الحياتية. وقد خلق الحق أولاً سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء، اثنين فقط ثم قال سبحانه: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ [النساء: ١]
كان الاثنان يعيشان معاً وأنجبا عدداً من الأبناء، وتناسل الأبناء فصار مطلوباً لكل أسرة من الأبناء بيتاً، وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الأرض ليستخرج منها أفراد الأسرة خيرات تكفي الطعام. وكل فرد يحتاج على الأقل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام. وكلما كثر النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلات البدائية، فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه. وتنتشر الجماعات وتنعزل. وصارت لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الأخرى. ولذلك ينزل الحق سبحانه وتعالى رسولاً إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة. وسخر الحق سبحانه وتعالى بعض العقول لاكتشافات الكون، وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة، فالحدث يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر. وزادت الارتقاءات. ولذلك كادت العادات السيئة تكون واحدة في المجتمع الإنساني كله، فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في مجتمعنا. إذن فالارتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة: آفاته واحدة، وعاداته واحدة. وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم.
ولذلك كان لا بد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن العالم لم يعد منعزلاً، ليخاطب الجمع كله، وهو خير الرسل، وأمته خير الأمم إن اتبعت تعاليمه. ومن ضرورة إيمان رسول الله والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل. والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم قوم لا يفقهون،. فاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وأرهقوه وكفروا بعيسى. وعندما جاء عيسى عليه السلام آمن به بعض،
2768
وعندما جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به بعض وكفر به بعض.
ولذلك سمى الحق كفرهم بالنبي الخاتم: (ثم ازدادوا كفراً). أي أنه كفر في القمة، فلن يأتي نبي من بعد ذلك. واكتمل به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موكب الرسالات.
إذن فالمراد من الآية أن الإيمان فيه إيمان قمة، تؤمن بقوة لكنك لا تعرف اسم هذه القوة ولا مطلوبات هذه القوة ولا ما ادته القوة من ثواب للمطيع ولا من عقاب للعاصي. ولذلك كان ولا بد أن يوجد رسول؛ لأن العقل يقود إلى ضرورة الإيمان بالله والرسل. وجاء الرسل في موكب واحد لتصفية العقيدة الإيمانية للإله واحد، فلا يقولن واحد: لقد آمنت بهذا الرسول وكفرت ببقية الرسل. والآية التي نحن بصددها الآن تتعرض لذلك فتقول: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥٠]
ونحن نعلم أن «كفر» معناها «ستر». والستر - كما نعلم - يقتضي شيئا تستره، والشيء الذي يتم ستره موجود قبل الستر لا بعد الستر. والذي يكفر بوجود الله هو من يستر وجود الله؛ فكأن وجود الله قد سبق الكفر به. إذن فكلمة الكفر بالله دليل على وجود الله. ونقول للكافر: ماذا سترت بكفرك؟ وستكون إجابته هي: «الله». أي أنه آمن بالله أولاً.
﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ﴾ هم الحمقى؛ لأن هذا أمر غير ممكن، وكل رسول إنما جاء ليصل المرسل إليهم بمن أرسله. ولذلك نجد قوله الحق: ﴿وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٧٤]
إنه حدث واحد من الله ورسوله. لذلك نجد أن الحمقى هم من يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله: ﴿وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ لهؤلاء نقول: إن الإيمان قضية كلية، فموكب الرسالة من الحق سبحانه وتعالى يتضمن عقائد واحدة
2769
ثابتة لا تتغير. والحق يقول: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ﴾ [النساء: ١٦٣]
وهذا يؤكد أن قضايا العقائد إنما جاءت من نبع واحد لعقيدة واحدة. فماذا - إذن - يريدون بمسألة الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر؟ يريدون السلطة الزمنية. وكان القائمون على أمر الدين قديماً هم الذين يتصرفون في كل أمر، في القضاء وفي الهندسة وفي كل شيء، لذلك وثق فيهم الناس على أساس أنهم المبلغون عن الله الذين ورثوا النبوات وعرفوا العلم عن الله. ونجد العلوم الارتقائية في الحضارات القديمة كحضارة قدماء المصريين كالتحنيط وغيرها تلك التي مازالت إلى الآن لغزاً، إنما قام بأمرها الكهنة، وهم - كما نعلم - المنسوبون إلى الدين. كأن الأصل في كل معلومات الأرض هي من هبة السماء.
لماذا إذن أخرج البشر وسنُّوا قوانين من وضعهم؟ لقد فعل البشر ذلك لأن السلطة الزمنية استولى عليها رجال الدين.
ما معنى كلمة «سلطة زمنية». كان الناس يلجأون إلى رجل الدين في كل أمورهم، ويفاجأ رجل الدين بأنه المقصود من كل البشر، ويغمره الناس بأفضالهم ويعطونه مثل القرابين التي كانت تعطى للآلهة، فيعيش في وضع مرفَّه هو وأهله ويزداد سمنة من كثرة الطعام والمتعة. وعندما يأتي إليه أحد في مسألة فهو يحاول أن يقول الرأي الذي يؤكد به سلطته الزمنية، فإذا ما جاء رسول ليلغي هذه الامتيازات، يسرع بتكذيبه؛ ليظل - كرجل كهنوت - على قمة السلطة. ولذلك قال فيهم الحق: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٩]
أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا من متاع الدنيا. فأخذوا الشيء الحقير من متاع الدنيا وتركوا آيات الله دون أن يعملوا بها.
وعندما نبحث في تاريخ القانون. نجد قانوناً إنجليزياً وآخر فرنسياً أو رومانياً، ونجد أن المصادر الأولى لهذه القوانين هي ما كان يحكم به الكهنة. والذي جعل
2770
الناس تنعزل عن الكهنة هو استغلالهم للسلطة الزمنية. والتفت البشر الذين عاصروا هؤلاء الكهنة أن الواحد منهم يقضي في قضية بحكم، ثم يقضي في مثيلاتها بحكم مخالف، ويغير من حكمه لقاء ما يأخذ من أجر، فتشكك فيهم الناس، وعرفوا أنهم يلوون الأحكام حسب أهوائهم؛ لذلك ترك الناس حكم الكهنة، ووضعوا هم القوانين المناسبة لهم.
إذن فالسلطة الزمنية هي التي جعلت من أتباع بعض الرسل يتعصبون لرسلهم. فإذا ما جاء رسول آخر، فإن أصحاب السلطة الزمنية يقاومون الإيمان برسالته حتى لا يأخذ منهم السلطة الزمنية. ولذلك يعادونه؛ لأن الأصل في كل رسول أن يبلغ أتباعه والذين آمنوا به، أنه إذا جاء رسول من عند الله فعليكم أن تسارعوا أنتم إلى الإيمان به. ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٨١]
وهكذا أخذ الله الميثاق من النبيين بضرورة البلاغ عن موكب الرسالة حتى النبي الخاتم. ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥٠]
أي أنهم يحاولون أن يفرقوا بين الله ورسله بأحكامهم التي كانوا يتبعون فيها أهواءهم للإبقاء على السلطة الزمنية، من أجل أن يقيموا أمراً هو بين بين، وليس في الإيمان «بين بين» ؛ فإما الإيمان وإما الكفر. والنظرة إلى كل هذه الآية نجدها في معظمها معطوفات، ولم يتم فيها الكلام وهي في كليتها مبتدأ، لا بد لها من خبر، ويأتي الخبر في الآية التالية:
2771
﴿أولئك هُمُ... ﴾
2772
و «الكافرون حقاً» مقصود بها أن حقيقة الكفر موجودة فيهم؛ لأننا قد نجد من يقول: وهل هناك كافر حق، وكافر غير ذلك؟ نعم. فالذي لا يؤمن بكل رسالات السماء قد يملك بعضاً من العذر، لأنه لم يجد الرسول الذي يبلغه. أما الذي جاءه رسول وله صلة إيمانية به؛ وهذه الصلة الإيمانية لحمته بالسماء بوساطة الوحي، فإن كفر هذا الإنسان فكفره فظيع مؤكد. ﴿أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً﴾.
ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين لا يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم، بل يوجد الحكم معهم في النص الواحد. ولا يحيل الحق الحكم إلى آية أخرى: ﴿أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقاً بالكفر، فسبحانه قد جهز بالفعل العذاب المهين وأعَدّه للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الجنَّة عرضت عليّ ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت»
لقد أعد الحق الجنة والنار فعلاً وعرضها على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو شاء الرسول أن يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل. فإياكم أن تعتقدوا أن الله سيظل إلى أن تقوم الساعة، ثم يرى كم واحداً قد كفر فيعد لهم عذاباً على حسب عددهم، وكم واحداً قد آمن فيعد لهم جنة ونعيماً على قدر عددهم، بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة، وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار. فيأتي المؤمن للآخرة ويأخذ المكان المعد له، ويأخذ أيضاً بعضاً من الأماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر. مصداقاً لقوله الحق: ﴿أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠ - ١١]
2772
فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الإحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر، ليعد لكل جماعة حسب تعدادها ناراً أو جنة، بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من البشر قد يكون مؤمناً، لذلك أعد لكل منهم مكاناً في الجنة، أو أن يكون كافراً، فأعد لكل منهم مكاناً في النار. ونجد السؤال في الآخرة للنار: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]
فالنار تطلب المزيد للأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها أنه آمن بالله. ويرث الذين آمنوا الأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لأنه كفر بالله وبرسله وفرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض. ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بالله ورسله وهم المؤمنون، هذا هو المقابل المنطقي.
والمجيء بالمقابلات أدعى لرسوخها في الذهن. مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين، كل منهما في الثانوية العامة، فيقول: فلان قد نجح لأنه اجتهد، والثاني قد خاب وفشل. هذه المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الاثنين.
وهاهو ذا الحق يأتي بالمقابل للكافرين بالله ورسله: ﴿والذين آمَنُواْ... ﴾
2773
ويؤكد الحق هنا على أمر واضح: هو: ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ وكلمة «أحد» في اللغة تطلق مرة ويراد بها المفرد، ومرة يراد بها المفردة، ومرة يراد بها المثنى مذكراً أو المثنى مؤنثاً أو جمع الإناث وجمع التذكير. وهكذا تكون «أحد» في
2773
هذه الآية تشمل كل الرسل، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء﴾ [الأحزاب: ٣٢]
فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع. وكما قال الحق عن الذين يكفرون بالله ورسله أو يفرقون بين الرسل: ﴿أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾. يقول الحق في هذه الآية عن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم: ﴿أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ فكل مقابل قد جاء معه حُكْمُه. ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب... ﴾
2774
هذا خطأ منهم في السؤال، وكان المفروض أن يكون: يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتاباً. وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة وبلاغة ولسان، واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الآفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
2774
هم اعترفوا بعظمة القرآن، واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعلهم مضطربين فكرياً، لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه.. فمرة قالوا: إنه سحر، ومرة قالوا: إنه من تلقين بعض البشر، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه من أساطير الأولين. وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن. ثم أخيرا قالوا: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾.
ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل؟ إذن. فالآفة - عندهم - أنه نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك من الحسد: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤]
لأن قولهم لا يتسم أبداً بالموضوعية، بل كل كلامهم بُعْدٌ عن الحق وتخبط. لقد قالوا مرة عن القرآن: إنه سحر، وعندما سألهم الناس: لماذا لم يسحركم القرآن إذن؟ فليس للمسحور إرادة مع الساحر. ولم يجدوا إجابة. وقالوا مرة عن القرآن: إنه شعر، فتعجب منهم القوم لأنهم أمة الشعر، وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة، لكنه كلام التخبط.
إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم الإيمان، فإذا أمسكتهم الحجة من تلابيبهم في شيء، انتقلوا إلى شيء آخر.
ويوضح سبحانه: إن كانوا يطلبون كتاباً فالكتاب قد نزل، تماماً كما نزل كتاب من قبل على موسى. وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى، فلماذا لا يصدقون نزول الكتاب على محمد؟ ولا بد أن هناك معنى خاصاً وراء قوله الحق: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء﴾. ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوباً جملة واحدة، وهم كأهل كتاب يطلبون نزول القرآن بالطريقة نفسها، وعندما ندقق في الآية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من السماء؛ وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول الله وأن يكون الكلام مباشرة من الله لهم؛ لذلك يقول الحق في موقع آخر:
2775
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف: ٣٢]
الحق - إذن - قسم الأمور في الحياة الدنيا، فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة الله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء﴾. وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول الله، ورسول الله ما قال إني نزَّلْت، بل قال: «أنزل علي».
ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الأشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل الوحي على كل واحد منهم بكتاب، فيقول الوحي لكعب: «يا كعب آمن بمحمد».
ويًنَزَّلُ إلى كل واحد كتاباً بهذا الشكل الخصوصي. أو أن ينزل الله لهم كتاباً مخصوصاً مع القرآن. وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة، ويوضح الله تسلية لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتاباً ينزل عليهم لأنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وطلبهم تنزيل الكتاب، هو طلب لفعل من الله، وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾. وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل الله إلى ذات الحق سبحانه وتعالى، لذلك لا تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم، فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية الله جهرة: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ﴾.
ولحظة أن ترى كلمة «الصاعقة» تفهم أنها شيء يأتي من أعلى، يبدأ بصوت مزعج. وقلنا من قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ [البقرة: ١٩]
أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، وهذا دليل على أن صوت
2776
الصاعقة مزعج قد يخرق طبلة الأذن، ودليل على أن ازعاج الصاعقة فوق طاقة الانسداد بأصبع واحدة؛ لأن الإنسان ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الأصبع لا بكل الأصابع. وبلغ من شدة ازعاج الصوت أنهم كلما وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج.
إذن فالصاعفة صوت مزعج يأتي من أعلى، وبعد ذلك ينزل قضاء الله إما بأمر مهلك وإمّا بنار تحرق وإما بريح تدمر ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ﴾ والظلم هو أن تجعل حقاً لغير صاحبه؛ ولا تجعل حقاً لغير صاحبه إلا أن تكون قد أخذت حقاً من صاحبه. وسؤالهم هذا لون من الظلم؛ لأن الإدراك للأشياء هو إحاطة المُدْرِك بالمُدْرَك.
وحين تدرك شيئاً بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدَرَك وحيَّزته بالتفصيل، وكذلك اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة، وكذلك الذوق ليحس الإنسان الطعم. إذن فمعنى الإدراك بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء المُدْرَك إحاطة شاملة جامعة.
فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا الله جهرة، فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الإدراك وهي العين محيطة بالله. وحين يحيط المُدْرِك بالمُدْرَك، يقال قدر عليه. وهل ينقلب القادر الأعلى مقدوراً عليه؟ حاشا لله. وذلك مطلق الظلم ونهايته، فمن الجائز أن يرى الإنسان إنساناً، ولكن لا يستقيم أبدا ولا يصح أن ينقل الإنسان هذه المسألة إلى الله، لماذا؟ لأنه سبحانه القائل:
﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣]
ومادام الله إلها قادراً فلن ينقلب إلى مقدور.
ونحن إن أعطينا لواحد مسألة ليحلها، فهذا معناه أن فكرة قد قدر عليها. وأما إذا أعطيناه مسألة ولم يقدر على حلها ففكره لم يقدر عليها. إذن فكل شيء يقع تحت دائرة الإدراك، يقول لنا: إن الآلة المدرِكة قد قدرت عليه.
2777
والحق سبحانه وتعالى قادر أعلى لا ينقلب مقدوراً لما خلق. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾. وكان يكفي بعد أن أخذتهم الصاعقة أن يتأدبوا ولا يجترئوا على الله، ولكنهم اتخذوا العجل من بعد أن جاوز الحق بهم البحر وعَبره بهم تيسيرا عليهم وتأييداً لهم وأراهم معجزة حقيقية، بعد أن قالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١]
فقد كان البحر أمامهم وفرعون من خلفهم ولا مفر من هلاكهم؛ لأن المنطق الطبيعي أن يدركهم فرعون، وآتى الله سيدنا موسى إلهامات الوحي، فقال: ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢]
لقد لجأ موسى إلى القانون الأعلى، قانون الله، فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر، ويتفرق البحر وتصير كل فرقة كالطود والجبل العظيم، وبعد أن ساروا في البحر، وأغرق فرعون أمامهم، وأنجاهم سبحانه، لكنهم من بعد ذلك كله يتخذون العجل إلهاً!!
هكذا قابلوا جميل الله بالنكران والكفران. ﴿ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ والسلطان المبين الذي آتاه الله لموسى عليه السلام هو التسلط والاستيلاء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم، وجاءوا بالسيوف لأن الله قد أعطى سيدنا موسى قوة فلا يخرج أحد عن أمره، والقوة سلطان قاهر.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور... ﴾
2778
إذن اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية الله جهرة، ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل إلها. ويعالج الله هؤلاء بالأوامر الحسية، لذللك نتق الجبل فوقهم: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧١]
مثل هؤلاء لا يرضخون إلا بالآيات المادية، لذلك رفع الله فوقهم الجبل، فإما ان يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وينفذوا المطلوب منهم، وإما أن ينطبق عليهم الجبل، وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة للأمر المادي، فجاءت كل الأمور إليهم من جهة المادة. ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً﴾. أي أن يدخلوا ساجدين، وهذا إخضاع مادي أيضاً. وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه ساجدين هو باب قرية أريحا في الشام. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت﴾ وسبحانه قال عنهم: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣]
وكلمة «السبت» لها اشتقاق لغوي من «سبت» و «يسبت» أي سكن وهدأ. ويقول الحق سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً﴾ [الفرقان: ٤٧]
أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم. ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت﴾ أي نهاهم الله أن يصطادوا في يوم السبت. ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها من زعانفها وهي تعوم فوق الماء، أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية، وهذا من الابتلاءات. ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ أي أن الأيام التي يكون مسموحاً لهم فيها بالصيد لا تأتي لهم الأسماك، ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ولا يستطيع الخروج منها.
2779
لقد احتالوا على أمر الله. هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل. وفعل الله بهم كل ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا ورّدوه، وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى الإيمان فسبحانه يُقَدر أنه خلقهم ويُقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لأول داع، فهو يدعوها مرة فلا تستقبل، فيعفو. ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو، ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو. وأخذ الله عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد، وبعد ذلك يقول لنا الخبر لنتعلم أن الله لا يمل حتى تملوا أيها البشر. فسبحانه يقول من بعد ذلك: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ... ﴾
2780
لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت. ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق. ونقض الميثاق هو حله، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام، وقتلوا أنبياء الله بغير حق. وادعوا - تعليلاً لذلك - أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها. وأرادوا بذلك الاستدراك على الله، فقالوا: قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان. وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٦ - ٧]
2780
ونقول: أهي القلوب خُلقت غلفاً.. أي أن القلوب خلقت مختوماً عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف؟
وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل؛ لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد. والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء؟ لا؛ لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوماً لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم؟
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول: «خلقني الله هكذا» وهذا قول مزيف وكاذب؛ لأن صاحبه إنما يكفر أولاً، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتخذ مع الله شريكاً فهو للشريك وليس لله. إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر.
وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية: أن الكفر يحدث أولاً، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك. وهنا في آية سورة النساء: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. فالكفر جاء أولاً، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول: «إن الله لا يهديني». ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به، وكذلك الفاسق أو الظالم، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولاً. وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه.
ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل: لماذا جاءت «ما» هنا؟ وبعضهم قال: إن «ما» هنا زائدة.
ونقول: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً؛ لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولاً وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه، ولكن عليك أن تقول: «أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف»، خصوصاً ونحن في هذا العصر نعيش
2781
كأمة بلاغتها مصنوعة، ولا نملك اللسان العربي المطبوع. ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها. أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته.
أما نحن فنعيش في زمن مختلف. وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح.
وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم. واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف، وجمع المذكر السالم يُرفع ب «الواو» ؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة.
لقد سمع العربي قديماً ساعة نزل القرآن قوله الحق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ ولم ينتبه واحد منهم إلى أن شيئاً قد خرج عن الأسلوب الصحيح، ونعلم أن بعضاً من العرب كانوا كافرين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يصدقون القرآن، ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها. ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبلغهم به، موضحاً: جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء.
والمتحدَّى يحاول دائماً أن يتصيد خطأ ما، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحناً، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية.
وقوله الحق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ هي في الأصل: بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه، و «ما» جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء: إنها «ما» زائدة، وهي زائدة للتأكيد. ونكرر: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً، لقد جاءت «ما» هنا لمعنى واضح. والحق في موقع آخر من القرآن يقول: ﴿مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ﴾ [المائدة: ١٩]
2782
وقالوا: إن أصل العبارة «ما جاءنا بشير»، وإن «مِن» جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ. ونقول: لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - عندما يقول واحد: «ما عندي مال» فهذا نفى أن يكون عند القائل مال، ولعل لديه قدراً من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالاً.
ولكن إذا قال واحد: «ما عندي من مال» فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماماً، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال. إذن «ما جاءنا بشير» ليست مثل قوله: «ما جاءنا من بشير». فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول.
إذن فقوله الحق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا. لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد «الباء» وقبل المصدر، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة ف (ما) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق. والحق قد قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: ١٥٥]
ولم يقل: فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله على قلوبهم. فوجود «بل» يدلنا على أن هناك أمراً أضربنا عنه. فنحن نقول: جاءني زيد بل عمرو. أي أن القائل قد أخطأ، فقال: «جاءني زيد» واستدرك لنفسه فقال: «بل عمرو». وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو.
والحق قال: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول: «بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم». ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة. وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل ل «طبع الله على قلوبهم»، المقابل هو «فتح الله على قلوبهم بالهدى».
2783
وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا﴾.
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق - إذن - يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر. فوجود «بل» دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد. والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر.
وفي آية أخرى قال عنهم: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨]
فقلوبهم ليست غلفاً، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات. ولماذا ذيل الحق الآية بقوله: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو - كما عرفنا من قبل - «صيانة الاحتمال». فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ﴾ ؟
إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً، ولكن عندما يجد الحق قد قال: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ... ﴾
2784
ويقول قائل: ألم يقل الحق من قبل إن «كفرهم» هو سبب من أسباب طبع الله
2784
على قلوبهم؟ إياك أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى شيئاً، ولا يكرر من غير داع، والكفر أيضاً على درجات، مرة يكون الكفر بالله، ومرة يكون الكفر بآيات الله، وثالثة يكون الكفر بالرسل، ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين، وخامسة يكون الكفر ببعض الكتب السماوية.
إذن فألوان الكفر شتى. والكفر في الآية السابقة كان كفراً بآيات الله، أما كفرهم في هذه الآية فالحق يشرحه: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾. لقد كفروا بعيسى عليه السلام، وقالوا البهتان العظيم على مريم، هذا كفر بآيات الله وبرسول من عند الله.
وقوله الحق: «وبكفرهم» هو عطف على «نقضهم» وعلى «كفرهم بآيات الله» وعلى «قتلهم الأنبياء» وعلى «قولهم قلوبنا غلف». ونلاحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول الآية السابقة حين قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾.
وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى. فقد كان يكفي ارتكابهم لأي واحدة من هذه الأعمال المذكورة لكي يطبع الله على قلوبهم، ولكنهم ارتكبوا كل الأعمال المذكورة مجتمعة، ولم يرتكبوا فعلاً واحداً منها. وهذا دليل على أن الله لا يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر ولكن يحنن العباد إلى الإيمان.
لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة: نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق، وادعوا أن الله طبع على قلوبهم.
وحين جعل هذا الأفعال الأربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه.
وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ وهنا نجد أنه سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الأفعال السابقة؛ لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة عيسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم
2785
من الرسل بأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه، لقد خلقه الله خلقاً خاصاً. فسبحانه خلق الناس جميعاً من آدم عليه السلام الذي صوره الله من طين ثم نفخ فيه الروح، وجاء الخلق من التزاوج.
أما عيسى عليه السلام فقد خلقه الله بطريقة خاصة، فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم عليها السلام وهي البتول؟.
ومن الجائز أن تُتهم المرأة وترمى وتوصف بكل شيء: كاذبة، سارقة، أو دميمة، لكن الاتهام في العرض: لا. والحق هنا يحدد موضوعين للكفر: قولهم البهتان على مريم وهو كفر بالله، وكفرهم بعيسى الذي جاء بميلاد على غير طريقة الميلاد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا: (أرنا الله جهرة).
بل إن الحق رزقهم برزق غيبي لا يعرفون أسبابه: في التيه رزقهم بالمن والسلوى، والمن في لون القشدة وطعم العسل الأبيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات، والسلوى طائر يشبه السُّماني، وكانوا يأخذون المن من الأشجار ويجعلونه رزقاً يأتيهم ولا يزرعونه ولا يتعبون فيه. لكنهم قالوا: لا، نحن نريد أن نزرع نباتاً ينمو من الأرض ولا ننتظر الغيب، لأن الغيب قد يضن علينا. ﴿فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا﴾ [البقرة: ٦١]
هم - إذن - لا يثقون بما في يد الله، ويريدون الأمر المادي، ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى لفتة قسرية، ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه؛ وهو ميلاد عيسى عليه السلام بأسلوب غير تقليدي، والإنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم، ويأتي الحق بعيسى مخلوقاً من أم دون أب، فانتقضت المادية، وهم كماديين غفلوا عن الخلق الأول: ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥]
2786
إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلام؟. لقد نقض أمامهم الأساس التقليدي المادي لمجيء الإنسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى، وجاء عيسى عليه السلام من أم دون أب. ليثبت سبحانه طلاقة القدرة وأنه جعل الأسباب للبشر، فإن أراد البشر مُسَبَّباً فعليهم أن يأخذوا الأسباب، أما سبحانه وتعالى فهو مسبِّبُ الأسباب وخالقها وهو القادر - وحده - على إيجاد الشيء بتنحية كل الأسباب.
ونعلم أن قضية الخلق دارت على اربعة أنحاء، إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين، هذه هي الصورة الأولى. وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية. وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الأول وعدم وجود الشيء الثاني، وهذه هي الصورة الثالثة، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الأول، وهذه هي الصورة الرابعة.
تلك هي الصور الأربع لوجود شيء ما. ولم يشأ الله أن يجعل الخلق - وهو الإنسان المكرم الذي سخر له الحق كل ما في الكون - على نحو واحد؛ حتى لا يقولن أحد: إن السببية مشروطة للوجود.
بل المسبَّب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلقنا جميعاً نحن من أب وأم، وخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، وخلق حواء من أب دون أم.
هذه هي القسمة العقلية الواضحة، فليست المسألة عنصرية موجودة، ولكن قيمة واقتدار واجد. وقدرة الحق تتجلى أيضاً أمامنا حينما تكون الأسباب موجودة كالأب والأم. لكن يشاء سبحانه أن يكون الاثنان عقيمين فهو القائل: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾
[الشورى: ٤٩ - ٥٠]
إذن فليست المسألة مدار أسباب تُوجَد، بل مسَبِّبِ يريد أن يُوجِد، وأراد الحق
2787
أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضلالات المادية، فأوجده من أم دون أب، فكان هذا آية على طلاقة قدرته، ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالاً على غير مراد الله، فكذبوا عيسى، وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالانجيل. ووقفوا أمام رسالته بعنف، والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون، هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم، وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية، فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى؟ ولماذا لم يعاقبوها حسب سريعة التوراة؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليقولوا: يا فاعل يا ابن الفاعلة. كان انتظارهم دليلاً على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك، فقد نطق عيسى عليه السلام بعد ميلاده ولم تتكلم مريم قطّ؛ لأن ما حدث أمر فوق منطقها، وجهزها الله لهذا الموقف؟، وأمرها بالصمت عندما يسألونها، وأن تشير إلى المولود الذي في المهد: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ [مريم: ٢٩ - ٣١]
وانبهروا انبهاراً فتت فيهم القوى، فقوى الخصومة ساعة ترى هذا لا تجد إلا الانهيار، فألحق أبلج، والباطل لجلج. إذن كان الأمر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن؟. لا بد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل، المعجزة الباهرة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ وجعلت المفاجأة أقوى الأقوياء فيهم ينهار، وتخور قواه.
وعندما نقول هذا الكلام فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد، ولكننا فقط
2788
نريد أن يتضح منطق الإيمان في عقول المسلمين، أما أبناء الديانات الأخرى فهم أحرار فيما يعتقدون، والمهم بالنسبة لنا أن يكون ديننا وقرآننا متضحاً أمام أعيننا، ولا يجرؤ أحد أن يميل به.
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان على مريم البتول، والبهتان هو الكذب الشرس. فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولاً، ولون من الكذب غير مقبول: فأن يقول قائل عن رجل ورع: إنه شرب الخمر، والقائل يعلم أنه كاذب، فهذا كذب ثقيل شرس، يتحير ويتعجب من يسمعه؛ وهذا هو البهتان. ولم يستح ويمتنع اليهود حينما رموا مريم - الطاهرة بأمر الله - بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة.
لقد كان ماضي مريم ناصعاً؛ لأنه جرح مريم في عرضها، ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلاد عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي المولود بعد موسى من بطنها. وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء، وأبلغ بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم، تماماً مثل قضية البشارة برسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ [البقرة: ٨٩]
ومن رحمة الله بمريم نفسها أن الله جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة، وأن العملية كلها قد تمت ب «كن» من الله، ولم يجعل الله المسألة سرّاً عن مريم فتحمل بأمر قوله: «كن» دون أن تدري، لا. بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية. وجاء الملك لمريم ونفخ فيها بالحمل. وعرفت هي السبب مادياً بالملك والنفخ حتى لا تتهم أو تشك بأن شيئاً قد حدث لها وهي نائمة أو غير ذلك.
لقد أراد الله المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمراً يقطع الشك لديها، وهي التي بُشرت به - إيناساً لها - عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها:
2789
﴿أنى لَكِ هذا﴾ أجابت: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧]
لقد نطقت مريم البتول من قبل: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ومن الحساب أن يكون للمرأة زوج لترزق بالولد، ولكن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ومن العجيب أنها في هذا القول نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره؛ ولذلك يقول الحق: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٣٨ - ٤٠]
إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه، وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن ولادتها لعيسى عليه السلام إنما جاءت ب «كن» وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء، وعندما قالت لسيدنا زكريا: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تنبه ودخل من هذا الباب، فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر، وأنه بلغ من الكبر عتياً، ومفهوم لنا معنى قول الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا؛ أي أنه لم يعد يملك القدرة على الإنجاب.
وهذه القضية تعطينا سبقاً قرآنيا لكثير من قضايا العلم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]
هذا القول هو أشبه بمذكرة تفسيرية لبلوغه من الكبر عتيا. ويثبت العلم الحديث أن العظام هي آخر وعاء لتغذية الإنسان، فإن امتنع الإنسان عن الطعام فالدهون التي في جسده تغذية. وإن امتنع الماء عن الإنسان وهو المكوِّن لتسعين في المائة من وزنه يمتص الإنسان الماء من خلايا الجسم والعضلات واللحم. ولذلك يقال في المثل
2790
العربي: سنة اذابت الشحم، وسنة أفنت اللحم، وسنة محت العظم.
فكأن البداية تكون التغذية من الشحم ومن بعد ذلك من اللحم ومن بعد الشحم واللحم يأخذ الجسم غذاءه من العظم. وهذه هي التي جاءت على لسان سيدنا زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾. فآخر مخزن للتغذية لم يعد به ما يمكن أن يستمد منه زكريا طاقة الإنجاب.
وما الذي يغذيه العظم من الجسم؟ إنه يغذي المخ، وهو السيد الأعلى الذي يدير كل جارحة في الجسم، وتعمل كل جارحة في خدمته، ويعيش المخ بطبيعة الحال كل عمره في خدمة الجوارح، يرتب لها قدرات العمل والتفكير والإحساس والسلوك، وما دام المخ موجوداً، فكل شيء يتم تعويضه.
ولذلك يحاولون - الآن - تعريف الموت طبياً، فيقولون: لا يحدث الموت مادامت خلايا المخ حية؛ فإذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت. ومن عجيب الأمر أن سيد الإنسان له مكان في أعلى الجسم إنه هو المخ، داخل الجمجمة، أما النبات فسيده في الجذور. وإن لم تجد الجذور مياها تذيب بها العناصر في الأرض فالنبات يأخذ غذاءه من الورق، وبعد أن يذبل الورق يأخذ النبات غذاءه من الفروع الصغيرة. وعندما تذبل تلك القروع وتجف ولا ينقذ النبات إلا مجيء بعض الماء للجذور. وكذلك المخ بالنسبة للإنسان.
فكأن مريم شجعت سيدنا زكريا عندما قالت أمامه: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فدعا سيدنا زكريا الله أن يرزقه بالولد، فجاءه الولد. وهذه القضية نطقت بها مريم وتمت تجربتها في سيدنا زكريا. وبعد ذلك جاءها البشير بميلاد المسيح عيسى ابن مريم: ﴿إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين﴾ [آل عمران: ٤٥ - ٤٦]
2791
كيف يصوغ القرآن هذه الصياغة، وكيف تقول هي: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [آل عمران: ٤٧]
لقد كانت سيدتنا مريم البتول تحسن الاستقبال عن الله، فساعة سمعت أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، عرفت أن نسبه لها يعني أنه بلا أب. وعرفت أن الحق سبحانه ما نسبه إليها إلا لأنه لا أب له.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح... ﴾
2792
ونلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها، وهو قوله الحق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ [النساء: ١٥٥ - ١٥٦]
ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله﴾ وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة ﴿رَسُولَ الله﴾، فهل هي هنا من قولهم؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة، ولو قالوا: إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه
2792
فهذا جرم صعب للغاية. أو أن كلمة ﴿رَسُولَ الله﴾ هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي.
وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر.. كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته: لقد ضربت الفتى القوي فيكم. إذن قد يكون قولهم: ﴿رَسُولَ الله﴾ هو من قبيل التهكم، أو أن كلمة ﴿رَسُولَ الله﴾ هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافاً إلى قولهم ليبشع عملهم.
«وقولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله﴾ فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفاً بقوله: ﴿رَسُولَ الله﴾ لنعلم بشاعة ما فعلوه، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم، وخاصة أن الكلام في مجال انكارهم وجحودهم لنعم الله، وكفرهم بآيات الله، وكأن الحق يسخر منهم؛ لأنه ما كان الله ليرسل رسولاً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته. وجاء بكلمة ﴿رَسُولَ الله﴾ هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب.
وبعد ذلك يقول لنا سبحانه: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾. وكلمة»
وما صلبوه «هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب، فقد قتلوا شخصاً شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب. ويقطع الله عليهم هذا الأمر، فيقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله.
وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة.
واقتران الضجتين: ضجة الميلاد وضجة الوفاة معاً في رسالة السيد المسيح يدلنا
2793
على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية، فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لا بد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة، ولا بد أن نصدق ما بلغنا الله به، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفاً، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضاً؟
وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب، لا بد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه، فلم يكن الميلاد في حدود بلاغ الحق لنا. والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة. وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيداً إلى أن عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك؛ لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب.
وسبحانه وتعالى حكم وقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وكلمة ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾ هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل، فقد ألقى شبهه على شخص آخر. وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية، ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة. ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم، ولذلك قال الحق لنا: ﴿ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه.
واختلفت الروايات في كلمة «شبه لهم»، فمن قائل: إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف البيت توجد فتحة وكوَّة اسمها (روزنة) أو (ناروظة).
فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة، ودخل خلفه رجل اسمه «تطيانوس» وعندما
2794
رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئاً يرفعه، فلما استبطأ القومُ «تطيانوس» خرج عليهم فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين «تطيانوس» وعيسى، وألقى الله شبه عيسى على «تطيانوس» فقتلوه. أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى: أيكم يُلقي عليه شبهي وله الجنة؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة، ويقال له «سرخس».
فألقى شبه المسيح عيسى عليه، فقتل اليهود «سرخس».
وقالوا: إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع، خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله. ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين: أيكم عيسى؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول: «أنا عيسى». ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم: «أيكم عيسى». إلا وهو عيسى بالفعل؛ لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى. وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت. أو أن واحداً باع عيسى لقاء ثلاثين دينارأً وتشابه عليهم كبيراً بتلك الروايات. فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى. وصلبناه.
وقرآننا الذي نزل على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾. وقال الحق لنا: إنه رفع عيسى إليه، وانتهت المسألة بالنسبة لنا؛ لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولاً فإن صدقناها آمنا، لا. نحن نؤمن أولاً بمُنَزَّل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة.
2795
إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾. ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه، حيث يمكن أن تختلط الأمور.
إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعدادا كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة، وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات. بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات، فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الاحتياطات التي نراها في زماننا؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾.
فعيسى باق؛ لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى. ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم. وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء؛ لأن المبدأ - مبدأ وجود بشر في السماء - قد ثبت لرسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد حدثنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه عُرج به إلى السماء، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد.
والخلاف يكون في المدة الزمنية، لكنه خلاف لا ينقض مبدأً، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً. فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له: كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولاً موسعاً. فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصاً بحيث يتوقف العقل أمامه، فإن قبل العقل النص كان بها، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة.
فهب أن إنساناً قال إن عيسى لم يرفع بل مات، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع. ومثل ذلك الإسراء، جاء فيه الحق بالقول القرآني: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي
2796
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: ١]
ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج، لأن الإسراء آية أرضية، انتقل فيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس. ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء، بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له: صف لنا بيت المقدس. وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل. وكان في الطريق قوافل لهم رآها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ووصف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم. وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن كان الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل. ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى﴾.
لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة، فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأي سدرة المنتهى، ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج.
إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولاً موسعاً رحمة بالعقول؛ لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة، ولأ في أصول التكليفات، ومدارها التصديق. ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاماً. إن عملنا بها جزانا الله الثواب، وإن لم نعمل بها نالنا العقاب ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضاً من الأخبار؟!
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وذكره البخاري في صحيحه أنه قال:
«والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر
2797
الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها». ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم «وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً».
هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة. أن البعض قد يقول: إن الحق سبحانه قد قال: ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ [آل عمران: ٥٥]
وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة. قلنا: إن علينا أن ننتبه إلى «واو العطف» بين «متوفيك» و «رافعك».
ومن قال إن «واو العطف» تقتضي الترتيب؟ إن «واو العطف» تقتضي الجمع فقط كقولنا: «جاءني زيد وعمرو»، هذا يعني أن زيداً جاء مع عمرو. أو ان زيداً جاء أولاً، أو أن عمراً جاء أولاً وتبعه زيد، ف «الواو» لا تقتضي الترتيب، وإنما مقتضاها الجمع فقط
لكن إن قلنا «جاءني زيد فعمرو» فزيد هو الذي جاء أولاً وتبعه عمرو؛ لأن «الفاء» تقتضي الترتيب، أما «الواو» فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع، وسبحانه قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ هذا الضرب من الجمع لايدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا، كقوله الحق: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الأحزاب: ٧]
فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجمع معه سيدنا نوحاً وإبراهيم، فهل هذا الجمع كان قائماً على الترتيب؟ لا؛ لأن نوحاً متقدم جداً في
2798
الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون. إذن ف «الواو» لا تقتضي الترتيب في الجمع. ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية.
أو جاء قوله الحق: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ ؛ لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البينة، ويموت حتف أنفه، أما إذا ما ضرب إنسان إنساناً ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضاً يموت، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد.
إذن فالحق أوضح لعيسى: أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفياً وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها، بل آخذك كاملاً. ف «متوفيك» تعني الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل.
ونحن - كما عرفنا من قبل - نفرق بين القتل والموت. فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ [آل عمران: ١٤٤]
إذن فحين قال بنو إسرائيل: إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾. ورفعه الله إليه كاملاً، وسبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾. ويوضح الحق سبحانه وتعالى: لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ولكنهم شكوا فيمن قُتل، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس؟
والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى
2799
ابن مريم قال: ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن﴾. والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران. والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن، وهو نسبة راجحة. لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكاً ثم انقلب ظناً.
وينهي الحق ذلك بعلم يقيني ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقيناً، واليقين - كما نعلم - هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير، وله مراحل هي: مرحلة العلم، واسمها علم اليقين، ومرحلة العين، واسمها عين اليقين، ومرحلة الحقيقة، واسمها حق اليقين.
وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه «مانهاتن». وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة، وفيها ناطحات سحاب، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك، فيصير مضمون الخبر عنده علماً متيقناً؛ لأن الذي أخبر به موثوق به. وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك، هنا تحول الخبر من «علم يقين» إلى «عين اليقين». وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها، فهذا هو «حق اليقين»
وأسمى أنواع اليقين هو «حق اليقين»، وقبلها «عين اليقين»، وقبل «عين اليقين» «علم اليقين».
وحينما عرض سبحانه المسألة قال: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين﴾ [التكاثر: ٣ - ٧]
هو سبحانه يعطينا علم اليقين، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين. أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق؛ لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل
2800
النار، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة. والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين. ويأتي «حق اليقين» في موضع آخر من القرآن الكريم: ﴿وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين﴾ [الواقعة: ٩٢ - ٩٥]
فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين. إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل. والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك. وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين. والذي حدث هو ما يلي: ﴿بَل رَّفَعَهُ الله... ﴾
2801
لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق، فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد، فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم، فالله غالب على أمره، وهو العزيز بحكمة.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب... ﴾
و «إن» هنا هي «إن» النافية، وهي غير «إن» الشرطية. وإليكم هذا المثال عن «إن» النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الحق:
2801
﴿الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢]
يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته: «أنت علي كظهر أمي»، فيقول سبحانه: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ [المجادلة: ٢]
فيوضح سبحانه: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. و «إن» في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا الآن عنها هي «إن» النافية.
كأن الحق يقول: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمن به قبل موته. وهذا شرح لمعنى «إن النافية». وقد يقول قائل: ما حكاية الضمائر في هذه الآية؟ فالآية بها أكثر من ضمير، مثل قوله الحق: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ وعلى من تعود «به) ؟ وعلى من تعود الهاء في آخر قوله» موته «؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب، فالمذكور عيسى، ومذكور أيضاً أهل الكتاب، فيصح أن يكون القول كالآتي:
لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى، ويصح أيضاً: لن يموت عيسى إلا بعد أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب، ولأن الضمير لا يعرف إلا بمرجعه، والمرجع يبين الضمير. فإن كانت هناك ألفاظ سبقت.. فكل منها يصح أن يكون مرجعاً، أو أن يعود الضمير على بعض مرجعه كقول الحق: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ [فاطر: ١١]
والمعمَّر هو الإنسان الذي طعن في السن، ولا ينقص من عمر هذا المعمَّر إلا كما أراد الله، والهاء في»
عمره «تعود إلى بعض من المعمَّر. ذلك أن كلمة» معمَّر «
2802
مكونة من عنصرين هما» ذات الرجل «و» عمر الرجل «، فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير، فيكون المعنى هو: وما يعمَّر من معمَّر ولا ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير. وماذا يكون الحال حين يوجد مرجعان؟ مثل قوله الحق: ﴿رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: ٢]
هنا نجد مرجعين:»
السماء «و» العمد «فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة» ترونها «، هل تعود» الهاء «إلى المرجع الأول وهو السموات، أو للمرجع الثاني وهو» العمد «؟ يصح أن تعود» الهاء «إلى السموات.
. أي خلق السموات مرتفعة قائمة بقدرته لا تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير دعائم، ويصح أيضاً أن تعود إلى العمد. أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين الجاذبية. أو رفع السموات ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر. وهكذا يصح أن يًنسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين.
والآية التي نحن بصددها، نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب، وفيهما ضميران اثنان. فهل يعود الضميران على عيسى، أو يعودان على أهل الكتاب؟ أو يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى، وأي منهما الذي يرجع على أهل الكتاب؟ أو أن هناك مرجعاً ثالثاً لم يُذكر ويعلم من السياق هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث، أي إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي بشر بمجيئه عيسى ابن مريم، وتواتر الأحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب؟ هم معذورون في ذلك؛ لأن الحق لم يأت ببيان فيها آنئذ. وقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ يدل على أنهم معذورون إن قالوا ذلك. ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب هذه، إن كان فيه ألوهية أو جزء من ألوهية، وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب. ويأتي الإسلام ليبرئ عيسى عليه السلام من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرءته منها.
2803
ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول الإسلام في هذه القضية ﴿ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وكان يجب لأن يلتفت إليها أتباع المسيح. وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكماً إلهياً: ﴿بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ النصارى يقولون بالرفع، ولكن بعد الصلب. ونحن المسلمين نقول بالرفع ولا صلب، رفعه الله إليه وسينزل. وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فُتن فيه قومه فجعلوه بعضاً من إله أو إلهاً فلم تسكت السماء عن ذلك، فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه القضية، وبعد ذلك يجري عليه قدر الله في خلقه وهو الموت.
إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب ألا يقفوا، لأن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام بدأها الله بعجيبة خرقت النواميس لأنه وُلد من أم دون أب. فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلاد، فلماذا لا تصدقون العجيبة في مسألة الرفع؟
وإن قال واحد منا: لقد مات عيسى عليه السلام. نقول: ماذا تقولون في نبيكم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ أصعد إلى السماء معروجاً به إليها؟ ألم يكن رسول الله حياً بقانون الأحياء؟ نعم كان حياً بقانون الأحياء.
وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا، إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الأرض وهو حيٌّ ليس عجيبة.
والخلاف بين رفع عيسى وصعود محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعراج خلاف في المدة. وهذا لا ينقض المبدأ؛ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته، وظل فترة من الزمن بحياته، إذن فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية. ولتأكيد هذه المسألة يقول الحق: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِْ﴾ [النساء: ١٥٩]
السامع السطحي لهذه الآية قد يقول: إنهم أهل كتاب ولا بد أن يكونوا قد آمنوا به، وأقول: لا، لقد آمنوا به إيماناً مراداً لأنفسهم، وليس الإيمان المراد لله، آمنوا به إلهاً أو جزءاً من إله وهو ما يسمى لديهم بالثالوث - الآب والابن وروح القدس - ولكن الله يريد أن يؤمنوا به رسولاً وبشراً وعبداً.
2804
وإذ قال الحق: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ فمعنى هذا: ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولاً وعبداً وبشراً قبل أن يموت.
والضمير في قوله: ﴿إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ يرجع إلى عيسى. والضمير الآخر الموجود في ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلام الموتة الحقيقية التي تنهي أجله في الحياة إلا بعد أن يؤمنوا به عبداً ورسولاً وبشراً، ولن يتحقق ذلك إلا إذا جاء بشحمه ولحمه ودمه ليقول لهم: أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم، وأنتم مخطئون في اتهامكم لأمي، والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشراً برسول للناس كافة هو محمد بن عبد الله، وهأنذا أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول. فلن يأتي عيسى - عليه السلام - بتشريع جديد بل ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك، ماذا سيقول الذين فُتِنوا فيه؟. لاشك أنهم سيعلنون الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن الإيمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتترد في الحلق عند الموت. فقد يصح أن تكون الآية عامة ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن يموت.
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يُبعد الإنسان عن منهج الحق واليقين؛ ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة، ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة، ويقول: أنا اتبعت هوى نفسي. ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبَه؟ لا؛ لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق: ﴿حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ [يونس: ٩٠]
2805
فيسمع صوتَ الحق في تلك اللحظة: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾ [يونس: ٩١]
فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق بالإيمان.
ويقول - سبحانه -: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [النساء: ١٨]
ويذيل الحق الآية: ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلام سيشهد على من عاصروا نزوله في الدنيا، وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له بالألوهية: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ [المائدة: ١١٦]
ويعاود الحق سبحانه الكلام عن فظائع اليهود فيقول: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين... ﴾
2806
هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها الله، لقد ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا
2806
غيرهم، وصدوا عن دين الله، بمعنى أنهم لم يدخلوا في الإسلام.
وتستمر الحيثيات للتحريم لبعض الطيبات لتزيد على هذين الموقفين: ﴿وَأَخْذِهِمُ الربا... ﴾
2807
وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ؟. الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق، وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن الله شريكاً، ولذلك قال سبحانه: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
وحيثيات حكم الله بتحريم أشياء كانت حلالاً لبني إسرائيل متعددة. وحين يحرم الله شيئاً فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلَّل؛ فالمحرم قليل، وبقية ما لم يذكره الله إنما يدخل في نطاق الحلال.
مثال ذلك قوله الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ
2807
ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: ١٥١ - ١٥٢]
يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة، أما النعم كلها فحلال. ومن هذا الأمر نفهم اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق، فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولم يحرم إلا القليل. وتحريم القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها.
فإذا قال الإنسان: حرم الله هذا الشيء لأنه ضار نقول: ما تقوله جائز، ولكن ليس الضرر هو سبب الحكم لِكل المحرمات، فقد يحرم سبحانه أمراً لتأديب قوم ما. - ولله المثل الأعلى - نرى المسئول عن تربية أسرة قد يحرم على ولد فيها لوناً من الطعام أو جزءاً من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك هو العقوبة.
ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم؟. لقد جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرم الله. وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم الله فالحق يرد عليهم: لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه، ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك، حتى لا يفهم الإنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئاً من وراء الله فلا أحد يمكنه أن يغلب الله. ولذلك يحرم سبحانه عليه شيئاً من حلاله.
والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع، وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة. نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر - مثلاً - يحرم الله عليه أشياء كانت حلالاً له، ويقول له الطبيب: تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفاً كثيرة من الطعام والشراب. وهكذا نرى ظلم الإنسان لنفسه، وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حلالاً له.
ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلاً فأكَله فوق ما تدعو به الحاجة، نجد سنة الله الكونية تقول له: لقد أخذت أكثر من حقك. وعطلت في جسدك القدرة على حسن استخدام السكر فصرت مريضاً، إياك أن
2808
تتناول السكريات مرة أخرى. ويشتهي المريض السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما، ولكنها محرمة عليه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له: بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك.
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة، ويقوم له الآخرون بطحن الغلال، ويأمر بأن يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من «النخالة»، ويصنعون له الخبز الأبيض، ويأكله بينما الاتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة، فتقول له سنة الله: ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علاجاً لأمعائك لأنك أسرفت على نفسك في أكل الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان الدقيق، فبظلم منك حرمنا ما أحل لك.
وعندما نَرى إنساناً قد حُرمَ من نعمة من نعم الله التي هي حلال له، نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئاً حرمه الله عليه، أو أسرف في استعمال حق أحله الله له، ولا أحد منا يفلت من رقابة الله. إذن فالتحريم قد يكون بالتشريع، إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع، وقد يكون تحريماً بالطبع والفطرة إن كان في الأمر إسراف من النفس.
ولنقرأ دائماً هذه الآية: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً﴾ وكذلك الذين يأخذون مالاً بالربا، لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم، لماذا تريدون المال؟. أتريدون المال لذات المال؛ أم لهدف آخر؟. صحيح أن المال رزق، لكنه رزق غير مباشر؛ لأنه يَشْتري به الأشياء التي ينتفع بها الإنسان، وهي الرزق المباشر. وقلنا قديماً: هب أن إنساناً في صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه، وجبل الذهب في مثل هذه الحالة لا ينفع، بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب. والذي يزيد ماله بالربا، أيريد تلك الزيادة من أجل المتع؟. سبحانه يمحق ذلك المال ويُذهبه في كوارث.
ومن أراد أن يبقي له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يبيح لنفسه أي شيء
2809
حرمه الله. وبذلك يظل متمتعاً بنعم الله عليه. فالحق هو القائل: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
الإنسان - إذن - هو الذي يظلم نفسه مصداقاً لقوله الحق: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤]
وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم طيبات أُحِّلت لهم. ومن الذي نقل الأمر الطيب إلى أمر غير طيب؟.
إنه الإنسان. ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء؟. لقد نقل حكم الشيء، فجعل الشيء الحرام شيئاً حلالاً. ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً﴾.
كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل الله؟. لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم في ناحية الضلال وفي جانب الباطل، وليت الأمر وقف عند هذا. بل أرادوا أيضاً إضلال غيرهم، وهذا هو مضمون الصد عن سبيل الله. وجعلهم هذا الأمر أصحابَ وزر آخر فوق أوزارهم، فلم يكتفوا بضلالهم بل تحملوا أوزار إضلال غيرهم. ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥]
وقد يسمع متشكك هذا القول. فيتساءل: كيف يناقض القرآن بعضه فيقول: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]
ونقول: إن لكل وزر طريقاً وحساباً، فالإنسان يحمل وزر ضلاله وحده إن لم يضل به أحداً غيره، ولكن إن حاول إضلال غيره فهو يتحمل وزر هذا الإضلال.
ويقول الحق في تكملة ظلمهم لأنفسهم: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
2810
أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، وقد تعرضنا للربا من قبل. وقد أخذوا الرشوة، وهو أكل لمال الناس بالباطل؛ وكذلك السرقة، والغش في السلع، كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق، وما أخذ بغير الحق فهو باطل، وأعد سبحانه لهم مسبقاً عذاباً اليماً. ولكل إنسان مقعدان: مقعد من الجنة إن قُدّر إيمانه، ومقعد من النار إن قُدّر كفره، ولا مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو ازدحام النار، فقد خلق الله مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون، وجعل مقاعد النار على أساس أن كل الناس كافرون.
ولذلك يقول الحق: ﴿الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١١]
وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه الله المقعد الآخر الذي أعده للكافر؛ فقد كان للكافر قبل أن يكفر مقعدٌ في الجنة لو اختار الإيمان. وقد أعد الحق العذاب الأليم لهم أي الشديد إيلامه، وهو مهين أيضا أي أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة، فلا أحد يقدر على الجَلَد أمام عذاب الله.
وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب؟. ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عقله، ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرِّة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة والإنجيل؟. كان من بينهم من فعل ذلك، ويورد الحق سبحانه وتعالى التاريخ الصادق، فيستثنى من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول: ﴿لكن الراسخون... ﴾
2811
إذن لم يعمم الله الحكم على أهل الكتاب، الذي سبق بكفرهم وظلمهم لأنفسهم وأخذهم الربا وغير ذلك، بل وضع الاستثناء، ومثال لذلك «عبد الله بن سلام» الذي أدار مسألة الإيمان برسول الله في رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بُهت.
فقال لرسول الله: إني أومن بك رسولاً، والله لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد.
ويقول الحق عن مثل هذا الموقف: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾. ولا أحد يتوه عن معرفة ابنه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمداً رسولاً من الله ومبلغاً عنه، والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنزوات. بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة.
﴿لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾، وقوله الحق: ﴿بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ﴾ هو القرآن، وهو أصل يُرد إليه كل كتاب سابق عليه، فحين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا رسول الله، لابد أن يؤمنوا بما جاء من كتب سابقة.
والملاحظ للنسق الأسلوبي سيجد أن هناك اختلافاً فيما يأتي من قول الحق: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ فقد بدأ الحق الآية: ﴿لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة﴾.
ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يُرفع بالواو وينصب ويُجر بالياء، ونجد هنا «المقيمين» جاءت بالياء، على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع، ويسمي علماء اللغة هذا الأمر ب «كسر الإعراب» ؛ لأن الإعراب يقتضي حكماً، وهنا نلتفت لكسر الحكم. والأذن العربية التي نزل فيها القرآن طُبِعَتْ على الفصاحة تنتبه لحظة كسر الإعراب.
2812
لذلك فساعة يسمع العربي لحناً في اللغة فهو يفزع. وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة من الخلفاء يخطب، فلحن الخليفة لحنة فصرّ الأعرابي أذنيه، أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرهما وينصبهما ليسمع جيداً ما يقول الخليفة، ثم لحن الخليفة لحنة أخرى، فهب الأعرابي واقفاً، ثم لحن الثالثة فقال الأعرابي: أشهد أنك وُلِّيت هذا الأمر بقضاء وقدر. وكأنه يريد أن يقول: «أنت لا تستحق أن تكون في هذه المكانة».
وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى الفصحاء وفيها كسر في الإعراب، كان على أهل الفصاحة أن يقولوا: كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له الإعراب؛ لكن أحداً لم يقلها، مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السرّ في كسر الإعراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها: ﴿والمقيمين الصلاة﴾.
لماذا؟ لأن الصلاة تضم وتشمل العماد الأساسي في أركان الإسلام؛ لأن كل ركن من الأركان له مدة وله زمن وله مناط تكليف. فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكفي أن يقولها المسلم مرة واحدة في العمر، والصوم شهر في العام وقد لا يصوم الإنسان ويأخذ برخص الإفطار إن كانت له من واقع حياته أسباب للأخذ برخص الإفطار. والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة. والحج قد يستطيعه الإنسان وقد لا يستطيعه. وتبقى الصلاة كركن أساسي للدين. ولذلك نجد هذا القول الكريم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾ [المدثر: ٤٢ - ٤٣]
وأركان الإسلام - كما نعلم - خمسة وهي واضحة، ومن الجائز ألا يستطيع المسلم إقامتها كلها بل يقيم فقط ركنين اثنين، كالشهادة وإقامة الصلاة. وحين يقول الحق: ﴿والمقيمين الصلاة﴾. يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع الله؛ فهم قد يودُّون الله شهراً في السنة بالصيام، أو يؤدُّون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو مال، أو يودون الله فقط إن استطاعوا الذهاب إلى الحج. وبالصلاة يودُّ المؤمن ربَّه كل يوم خمس مرات، هي - إذن - إعلان دائم للولاء
2813
لقد قلنا: إن الصلاة جمعت كل أركان الدين، ففيها نقول: «أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله»، ونعلم أننا نزكي بالمال، والمال فرع العمل، والعمل يحتاج إلى وقت؛ والإنسان حين يصلي يُزكي بالوقت. والإنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللات له؛ ففي الصلاة صيام، ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلاة فكأنّه في حج.
إذن فحين يكسر الحق الإعراب عند قوله: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه العبادة. ولذلك يقولون: هذا كسر إعراب بقصد المدح. - فهي منصوبة على الاختصاص - ويخص به الحق المقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة فيها دوام إعلان الولاء لله. ولا ينقطع هذا الولاء في أي حال من أحوال المسلم ولا في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ كأن كل الأعمال العبادية من أجل أن يستديم إعلان الولاء من العبد للإيمان بالله. والإيمان - كما نعلم - بين قوسين: القوس الأول: أن يؤمن الإنسان بقمة الإيمان وهو الإيمان بالله. والقوس الثاني: أن يؤمن الإنسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الآخر. ويقول سبحانه جزاءً لهؤلاء: ﴿أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ هو أجر عظيم؛ لأن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره، ولأنه فعل ذلك ليُبيّن صدق القرآن في أن الإعلام بالرسول قد سبق وجاء في التوراة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ... ﴾
2814
ونعلم أن الحق حينما يتكلم، يأتي بضمير التكلم. وضمير التكلم له ثلاثة أوجه، فهو يقول مرة: «إنا» ومرة ثانية: «إنني» وثالثة يخاطب خلقه بقوله: «نحن». وهنا يقول: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ﴾. ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق: ﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ﴾ [طه: ١٤]
وفي موضع ثالث يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]
لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه. وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه. والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان، وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان، وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له؛ فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله.
هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده، احتاج إلى علم عن الأشياء، وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه، ولقدرة تبرزه، وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر، وساعة يكون العمل مُتطلباً لمجالات صفات متعددة من صفات الحق، يقول سبحانه: «إنَّ» أو «نحن». وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول: «إني أنا الله». ولا تأتي في هذه الحالة «إنَّا» ولا تأتي «نحن».
والحق هنا يقول: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيداً في
2815
الكون، يصون نفسه والكون معاً، وصيانة الكائن والكون تقتضي علماً وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون. ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلاً فيقول على سبيل المثال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ [فاطر: ٢٧]
هو الذي أنزل من السماء ماء، وليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان، ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة. وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار، ثم ينزل المطر من بعد ذلك. إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر؛ لذلك يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾. ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق، فيقول: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾. ولم يقل: «فأخرجت». بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم، فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر.
إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب «إني» يشير إلى وحدة الذات، وحين يأتي ب «إنَّا» يشير إلى تجمع صفات الكمال؛ لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشداً من الصفات علماً وإرادة وقدرة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك لا بد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون: إن «نحن» و «ن» للمعظم نفسه.
وقد عظم الحق نفسه؛ لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون. ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون:
فسبحان رب فوق كل مظنة تعالى جلالاً أن يُحاط بذاته
إذا قال «إني» ذاك وحدة قدسه وإن قال «إنَّا» ذاك حشد صفاته
وعندما ننظر إلى هذه المسألة، نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم يعرفونه، فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء. وحين يتعرض سبحانه لأمر يكون له فيه فعل ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل، فهو يأتي بنون التعظيم لأنه - سبحانه - هو الذي أمدهم بهذه القدرات.
2816
وحين أوجد الحق خلقه من عدم، جعل لخلق من خلقه إيجاداً؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة، وإيجاد ما يتركب من المادة. فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم. وما ضَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤]
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض، وإنما كوَّنوا مركّباً من موجود في مواده. فأخذوا من مواد خلقها الله فركّبوا وأوجدوا. والإنسان الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت «الكلية» في الكوب غير موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة، فالرمل موجود في بيئات متعددة، وموجود أيضاً ما يصهر الرمل، والعقل الذي يأخذ تلك العناصر، والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة، ومصمم الآلات التي تصنع هذا الكوب موجود. إذن فقد أوجد الإنسان كوباً من جزئيات موجودة. فالفارق - إذن - بين خلق الله وخلق خلق الله؛ أن الله خلق من عدم محض، لذلك وصف ذاته بقوله: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾.
فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله؛ فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقاً، فلا بُدَّ من أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين. وأيضاً إن خلق الخلق - كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان - يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه، فيخلقون الكوب ليظل كوباً في حجمه وشكله ولونه، ولكنهم لم يخلقوا كوباً ذكراً وكوباً أنثى ليجتمعا معاً وينشئا أكواباً صغيرة تنمو وتكبر، ولكن الله ينفخ بسرّ الحياة في كل شيء فيوجده، لذلك هو أحسن الخالقين.
ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة، فلو نظرت إلى ذات نفسك، لوجدت لك وسائل إدراك، لوجدت لك سمعاً، ولوجدت لك عيناً، ولوجدت لك أنفاً ولمساً وذوقاً ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض عينيك. ولكن إذا أردت
2817
الا تسمع، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول «لا أسمع» ؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم. أنت تمد يدك لتلمس. وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت لا تعرف شيئاً إلا سبباً مثيراً يضحك، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك. وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكياً؟ أنت لا تعرف. ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة، والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى. ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٣ - ٤٤]
جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل. والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع؛ لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء، ولكن الأثر الصالح يأمر: (لا تتسمّع إلى القيلة).
لم يقل الأثر الصالح «لا تسمع إلا قيلة» لأن الإنسان لا يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله، لكنه يستطيع ألا يتسمّع بألاّ يلقي بأذنيه إلى ما يقال. إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور اختيارات المسلم ولذلك قال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨]
واستخدم هنا كلمة «رأيت» لأن المسلم لا يملك شيئاً يسد به أذنيه حتى لا يسمع حديث الذين يخوضون في آيات الله، لكن أمر الله الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيداً معرضين عن هؤلاء الخائضين. وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا، وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه «يفعل»، لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات الله بأمر الله. ولذلك يقول العارفون بالله: من جميل إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك.
فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء، وليس على الإنسان إلا توجيه الآلة
2818
الفاعلة. ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن الإنسان حين يكون قوياً لا يمكنه أن يعطي قوته لضعيف، فلا أحد منا يقول لضعيف: خذ قدراً من قوتي لتساعدك على التحمل، بينما يوضح الله للضعيف عملياً: تعال إلي أعطك من مطلق قدرتي قدراً من القوة لتفعل.
إذن القوة في المخلوق لا يعطيها أبداً لمثله، بل يعطي أثرها. مثال ذلك عندما لا يستطيع شخص أن يحمل شيئاً ثقيلاً، فيأتي آخر قَويّ ليحمله عنه، والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف، لكنه لا يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل.
والله لا يعدي أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي أيضاً. وسبحانه يتفضل بالغنى والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم، وبقدرته لكل قادر، وبحكمته لكل حكيم. إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى. هذا هو كلامنا في «إنَّا».
وحين يتكلم الحق قائلاً: «أوحينا» فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع. وما الوحي؟ قال العلماء الوحي: إعلام بخفاء؛ لأن وسائل الإعلام شتى، وسائل الإعلام هي التي تنقل قولاً يقوله المبلِّغ فيعلم السامع، أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي. وهذه إعلامات ليست بخفاء. بل بوضوح، وعندما يقول: «أوحينا» فهو يعني أنه قد أعلم، ولكن بطريق خفي. وحين تطلق كلمة «وحي» يكون لها معانٍ شتى، فكل إعلام بخفاء وحي. لكن من الذي أوحى في خفاء؟ ومن الذي أُوحي إليه في خفاء؟ وما الذي أُوحي به في خفاء؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس الوجود، وقال عن الأرض وهي الجماد: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ١ - ٥]
أي أن الحق قد ضبط الأرض على مسافة زمن قيام القيامة، فتتحدث عندئذ -
2819
ولله المثل الأعلى - نحن نقدر العمر الافتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد. إذن فقد أوحى الله للجماد وهي الأرض.
ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق، فعندما يريد الإنسان أن يستيقظ في الثالثة صباحاً، وهو وقت لم يعتد فيه هذا الإنسان على الاستيقاظ، فهو يضبط المنبه ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد، كأن الإنسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه، كذلك الحق صنع الأرض وأوحى لها: في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك. ويوحي الحق إلى جنس الحيوان: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨]
هذا إعلام بخفاء من الله للنحل. فقد جعل الله في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك. وهناك فرق بين التكوين الغرزي والتكوين الاختياري؛ فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي لا يعدل عنه، أما التكوين الاختياري فيصح أن يعدل عنه.
ومثال آخر علىلآلية نجد الحاسب الآلي المسمى العقلي الإلكتروني ويقوم الإنسان بتخزين المعلومات فيه، وهذا الحاسب الآلي لا يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه: لا تقل هذه الحقيقة، ولا يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية استدعائها.
فلا اختيار للحاسب الآلي.
ويختلف الوضع في العقل البشري الذي يتميز بالقدرة على انتقاء المعلومات ويعرف كيف يدلي بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة، ويتحكم بوعي فيما يجب أن يُستر وفيما لا يجب ستره، بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات. وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها، بينما الحاسب الآلي المسمى بعقل إليكتروني لا يقدر على ذلك؛ لأنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم «برمجته» به وتخزينه ووضعه فيه، وهكذا يرتقي الإنسان في الفكر.
والحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق، أعطى لكل كائن الغرائز التكوينية التي
2820
تناسبه أعطى الإنسان القدرة على الاختيار بين البديلات، أما بقية الكائنات فقد أخذت حكم الغريزة. والكائن الذي يسير بحكم الغريزة لا اختيار له، ولذلك تسير كل أموره مستقيمة بناموس ثابت.
ونرى هذا الأمر بوضوح في حكم قهر السموات والأرض والكواكب التي لا اختيار لها؛ فهي تسير حسب القوانين التي وضعها الله لها، وكذلك النبات. فالإنسان قد يزرع شجرة فتنمو بالتسخير الغرسي الذي وضعه الله فيها، وتمتد الشعيرات من الجذور في باطن الأرض؛ لتمتص - بتسخير الله لها - بعض العناصر المحددة في التربة، وينتفع نبات ما بمادة معينة قد لا تصلح لنبات آخر.
ويأتي علماء النبات ليعملوا في حقل دراسات نمو النباتات، وقد يكون بعضهم ضعيف الإيمان بالله، أو أن قدرات الخالق لا توجد في بؤرة شعوره دائماً. فيقول: إن النبات يتغذى حسب خاصية الأنابيب الشعرية. وخاصية الأنابيب الشعرية - كما نعرفها - هي صعود السائل إلى الأنابيب التي تكون الواحدة منها لا يزيد قطرها واتساعها على قطر الشعرة. ويصعد فيها السائل إلى ما فوق سطح الإناء. وكل سائل في أي إناء إنما يأخذ استطراقاَ واحداً. وعندما نضع الأنابيب الشعرية في قلب هذا الإناء، فالسائل يصعد داخل هذه الأنابيب فوق مستوى الإناء؛ لأن الضغط الجوي داخل الأنابيب يختلف بالنسبة لحجم المياه عنها في داخل الإناء. وظن العلماء أن النبات يتغذى بهذه الطريقة.
ونقول لهؤلاء: كيف هذا والنبات يختار عناصر معينة من السائل؛ بينما الأنابيب الشعرية يصعد فيها الماء بكل العناصر الموجودة في الماء؟. إنك أيها العالم الذي غاب الله عن بؤرة شعورك قد تدعي أن الطبيعة هي التي تفعل ذلك، ولا تلتفت إلى حقيقة واضحة وهي أن النبات ينتقي بالتسخير الرباني الخاص بعضاً من العناصر الموجودة في التربة، لا بخاصية الأنابيب الشعرية.
وصدق القول الحق: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ١ - ٣]
2821
فسبحانه الذي قدر فهدى كل شيء إلى احتياجاته. ويقول الحق أيضاً:
﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: ٤]
إذن فسبحانه يوحي لكل نبات بخاصية تكوين غريزي تختلف عن النبات الآخر؛ لذلك نجد الفلاح يضع شجرة الفلفل بجانب عود القصب، بجانب شجرة الرمان، فنجد الفلفل يخرج وله مذاق حريف، والقصب له مذاق حلو، والرمان له مذاق فيه الحلاوة والحموضة، إنه مختلف عن القصب وعن الفلفل، وهذا الاختلاف لم يتم بخاصية الأنابيب الشعرية. ويقول آخر: هذا الاختلاف إنما حدث بظاهرة الانتخاب الطبيعي. ونقول: لماذا لا تقول الانتخاب الإلهي وتستريح؟.
إذن فالوحي هو إعلام بخفاء، وقد يكون مطموراً في تكوين الشيء بحيث إذا جاء وقته ينفعل، تماماً مثلما يدق جرس المنبه في الميعاد المحدد. والوحي إلى الحيوان يتحدد في قوله الحق: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨]
ومن العجيب أن العالم الأمريكي الذي رصد حياته لدراسة النحل في أطواره وأصنافه وأجناسه وبيئاته، قال: أول إنتاج للنحل كان في الجبال وأقدم عسل وجده الإنسان للنحل كان في الخلايا التي عثر عليها من الجبال. وبعد ذلك وجد الإنسان النحل وعسله في الشجر العالي الذي لا يملكه، ثم استأنس الإنسان النحل وأقام له البساتين والبيوت والخلايا ومما يعرشون. ولم يقرأ هذا العالم القرآن ليعرف المراحل الثلاث التي جاءت به، لكنه درس بصدق البحث التجريبي، وخرج بالنتيجة نفسها التي جاء بها القرآن. وفي كل وقت وزمان نجد عالماً من الكافرين يكتشف أشياء تؤيد وتؤكد قضية الإيمان عند المؤمنين. أما الوحي بالنسبة للإنسان فيأخذ أشكالاً أخرى، يقول الحق:
2822
﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ [القصص: ٧]
ولم يأت إلى أم موسى رسول يُوحى إليها. لكن الأمر قد استقر في ذهنها، وقد تعب العلماء كثيراً ليقربوا معنى الوحي لأذهاننا، فقالوا عنه: إنه عرفان يجده الإنسان في نفسه ولا يعرف مصدره، ومع هذا العرفان دليل أنه من الله. ولذلك لا يطلب العقل عليه دليلاً. والذي يصّدق على هذا هو أننا سمعنا قول الحق: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾.
وبالله عليكم، اجمعوا الدنيا كلها وقولوا لامرأة: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر، هل تصدق الأم ذلك؟! لا يمكن، لكن أم موسى أخذت هذا الأمر كقضية مسلم بها، فساعة دخل الإيحاء من الله إلى قلبها، أو الإعلام بخفاء إلى وجدانها آمنت به، ومادام الإعلام من الله فلا شيطان يزاحمه، بل يدخل إلى النفس فتستقبله استقبال اليقين والإيمان بلا مناقشة. وألقت أم موسى بابنها بعد أن أرضعته. وأراد الله أن يطمئنها. فأوضح لها: أَنَا أصدرت الأمر إلى البحر ليلقي الرضيع إلى الساحل. وأصدرت الأوامر ليلتقطه العدو فرعون.
وأصدرت الأوامر أن يقوم بيت فرعون بتربيته.
وبعد ذلك هناك وحي للحواريين. يقول الله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: ١١١]
وهناك وحي للملائكة كقول الحق: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ [الأنفال: ١٢]
الوحي ينتظم ويشمل - إذن - كل أجناس الوجود بطريقة خفية عند عالم خفي
2823
عنا، وهم الملائكة، وعالم ملحوظ لنا ولأمثالنا مثل الحواريين، ومثل أم موسى.
وساعة يقول: «أوحينا» ينبهنا إلى أن الإعلام بخفاء أمر غير مقصور على الله؛ ذلك أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]
ويقول أيضاً عن الشياطين: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ١١٢]
إذن الوحي هو إعلام بخفاء، وليس الأمر مقصوراً على الحق سبحانه وتعالى، بل يصح أن يكون الوحي من الله، أو من الشياطين، أو من جنود الشياطين.
وقد يكون الوحي إلى الجماد وإلى الحيوان وإلى الملائكة وإلى الإنسان.
وعندما نحدد معنى الوحي فإننا نقول:
الوحي في اللغة إعلام بخفاء من أيّ - سواء أكان من الله أم من الشياطين - ولأي ما - سواء للأرض أو للحيوان أو للإنسان - وفي أيِّ - سواء في خير أو شر -.
وكلمة «وحي» تصلح لأي معنى من هذه المعاني بحيث إذا أطلقت انصرفت إليه. ولكن هي بالمعنى الشرعي لا تطلق إلاّ على الإعلام بخفاء من الله لرسوله، ومثل ذلك حدث لمعنى الصلاة، فالصلاة معناها اللغوي الدعاء، وهناك الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصلاة المكتوبة هي الأقوال والأفعال، وأخذ
2824
الشرع معنى الصلاة واصطلح على أن كلمة الصلاة حين يطلقها الفقيه تنصرف إلى الأقوال والأفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
وفي هذا المعنى الشامل للصلاة نجد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقد دخل عليه حذيفة فسأله: كيف أصبحت؟. أجاب حذيفة: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصلي بغير وضوء ولي في الأرض ما ليس في السماء. وغضب سيدنا عمر، ولولا دخول سيدنا علي بن أبي طالب لكان لسيدنا عمر شأن آخر مع حذيفة.
وسأل عليٌّ عمر: ما يغضبك يا أمير المؤمنين؟. قال عمر: سألت حذيفة كيف أصبحت فقال كذا وكذا. فقال علي - كرم الله وجهه -: نعم يا أمير المؤمنين، أصبح يحب الفتنة، أي يحب ماله وولده، فالحق قال: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وهو يكره الموت والموت حق من فينا يحبه يا أمير المؤمنين؟ وهو يصلي بغير وضوء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وله في الأرض زوجة وله ولد وهو ما ليس لله في السماء.
إذن فقد أخذ حذيفة الفتنة على معنى مخصوص، وكذلك الموت، والصلاة. وضربت هذالمثل لأفرق بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية.
ونوضح الفارق بين معنى الوحي الاصطلاحي والمعنى اللغوي، المعنى اللغوي للوحي هو: إعلام بخفاء من أيّ لأيّ بأي. والوحي بمعناه الشرعي: إعلام بخفاء من الله لرسوله. وكل الألوان الأخرى من الوحي نأخذها بالمعنى اللغوي.
وقوله الحق هنا في الآية التي نحن بصددها: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ﴾. و «أوحينا» هنا قد جاءت للإعلام بخفاء من الله لرسول من رسله. ونعلم أن صفات الكمال للحق سبحانه وتعالى هي صفات الكمال المطلق. وكل الخلق مقدورون لقدرته سبحانه. ولا يمكن لأحد أن يتصل اتصالاً مباشراً بالأعلى المطلق. ولا يستطيع أحد أن يتحمل ذلك حتى الرسول. ولذلك يأتي الحق بنورانيَّين من الملائكة ليأخذوا منه ليعطوا للرسول. ويسبق ذلك إعداد الرسول لهذه المهمة.
2825
إذن فالمسألة تمر بمراحل تصفية، الأعلى يعطى للملائكة، والملائكة يعطون للمصطفى من الخلق، والمصطفى مصنوع على عين الله ليتلقى الوحي، ومن بعد ذلك يعطي الرسول لغيره من البشر. وكل ذلك لتقريب مسافات الالتقاء. وعلى رغم تقريب مسافات الالتقاء تحصل الهزة من آخر مرحلة حين يستقبل من أدنى مرحلة، فحين يستقبل الرسول الوحي من ملك تحدث له هِزَّة. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول عن أول لقاء له مع الوحي:
(حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم).
وكان جبينه يتصفد عرقاً، ورجف فؤاده ودخل على زوجه خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. وكان ذلك أمراً طبيعياً؛ فهذا الملك جبريل متصل ببشر هو محمد بن عبد الله ولا بد أن يحدث ذلك للرسول، وذلك حتى يتكيف ليستقبل من المَلَك.
لكن أتظل هذه الرجفة المتعبة؟. لا، إن الوحي يَفتر لفترة وتذهب عنه متاعبه فيشتاق الرسول إليه ويصير قادراً على تحمل متاعبه، مثل تصفد الجبين بالعرق، ومثل الثقل في الحركة حتى إذا جاءه الوحي وهو على دابة فهي تئط وتئن، وإن جاءه الوحي وهو جالس وفخذه على فخذ واحد من الصحابة، فيكاد ثقل الرسول يرض عظام الرجل ويكسرها، كل ذلك من المتاعب تحدث للرسول في أثناء الوحي؛ لأن تغييراً كيماوياً يحدث في بدنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأكد أن الكلام الذي يتلقاه ليس كلاماً عادياً، لكنه كلام قد جاء بإعجاز، وأنه من عند الله.
2826
لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس. وكأن هذا الصوت إعلان أن زمن وساعة الوحي قد جاءت فاستعد لها يا رسول الله. وعندما تعب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البداية، كان من رحمة الله به أن يجعل الوحي يفتر عنه، فيشتاق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للوحي بسبب حلاوة ما أوحي إليه، ويجعله هذا الشوق مستشرفاً للمتاعب. وعندما فتر الوحي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال خصومه: رب محمد ودعه وجَفاه. ولم يتذكروا أن لمحمد رباً إلاّ في هذه المسألة بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا الأمر بتعبير لا يتناقض مع موقفهم السابق منه. وحين رأى الحق الإجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلاوة ما يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول الله إلى ما يوحى إليه.
إن الشوق وتلك المحبة يجعلان رسول الله لا يشعر بوطأة الألم المادي البشري، والإنسان منا حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ولا يبالي. إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق في نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستقبل الوحي، ولينتبه كل منا حين يقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ٤]
أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك. ويقول الحق بعدها: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١ - ٤]
وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا: لا تظنوا أن رب محمد - كما يقولون - قد جفاه، لا، بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل، فسنن الكون أمامكم، لكن كفرهم أعمى أبصارهم وبصيرتهم، ويقول سبحانه: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ [الضحى: ١ - ٣]
وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء. والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة
2827
والكدح والجهد والتعب، والليل محل الراحة والسكون.
كأن الحق يوضح: إنكم إن نظرتم في آية الكون لوجدتم أن الله قد جعل الضحى للكدح والليل لنسكن فيه وفتور الوحي هو سكون ليعاود محمد نشاطه في حركة الوحي الجديدة، هو الحق - سبحانه - يقسم: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ أمجيء الليل بعد النهار ضن من الله على الناس بالنهار؟ لا، إنما الليل عطاء من الله ليسكنوا وليستقبلوا النهار الجديد.
وأنزل سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حينما سأل اليهود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾.
فيأمره الحق أن يوضح: أنا قد أوحى الله إليَّ كما أوحى إلى الرسل السابقين، فهل أنتم شككتم في وحي الله لموسى؟ أشككتم في وحي الله لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى، لكن لنضع الأمر الذي تكذبون فيه جانباً ولنأخذ ما أنتم مصدقون به، فيقول سبحانه: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ﴾.
إذن فأنت يا محمد لست بدعاً في هذه المسألة: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ﴾ ويمر العلماء على هذه المسألة مروراً سريعاً، لكننا نقف عندها ونقول: قد يوحي هذا القول أن أول وحي كان لنوح. والحقيقة أن الوحي الأول كان لآدم من قبل، لكنْ هناك فارق بين الوحي لآدم والوحي للأنبياء من بعده.
ومثال ذلك نوح، فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه الأمة مبشراً ونذيراً. أما آدم عليه السلام فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله الله بمعجزة، فهو أب للجميع. والأبناء يقلدون الآباء، بل حتى أبناء الملاحدة يقلدون آباءهم. وقد أوحى الله لآدم وقال له: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وإرسال الهدى لآدم هو مجيء الوحي إليه.
ولماذا جاء نوح في هذه الآية أولاً؟ لأن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد
2828
طرأ على أمته؛ لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة. وأرسل الله نوحاً إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع، فلم يكن هناك من البشر غيرهم. لكنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسله الله للناس كافة؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم. وكان قوم محمد موجودين. وكذلك كان غيرهم موجوداً.
﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ﴾. لماذا قال الحق: ﴿والنبيين مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد نوح؟، ولماذا قال: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ﴾ وذكر أسماء الأنبياء من بعد إبراهيم؟
يقول العلماء: هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء، ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾، وكأن الحق يقول: حين يسألك اليهود - يا محمد - أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل لهم: إن الله أوحى إليَّ كما أوحى إلى ألأنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل. وحتى لو أنزل إليهم محمد كتاباً في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا: هذا سحر مبين، كما قال: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأنعام: ٧]
فالمنْكِر يريد الإصرار على الإنكار فقط. وليست المسألة جدلاً في حق وإنما هي لَجَاج في باطل.
ويتابع سبحانه وتعالى أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ ونلحظ أنه جل وعلا ذكر الوحي عاماً؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه «الزبور» ولم يأت في الآية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى؛ لأن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع، وهو تحميد الله والثناء عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام.
2829
وقد يقول قائل: إن عيسى أيضاً لم تنزل عليه أحكام في الإنجيل. ونقول: لأن الإنجيل يلتحم بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الأحكام. ولذلك فمن عجيب أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى، أنهم على رغم اختلافهم في قمة الأمور وهي مسألة عيسى وأم عيسى، جاءوا آخر الأمر ليلتقوا ويسموا الكتابين «العهد القديم والعهد الجديد» ويَعْتبروهما كتاباً واحداً يسمونه الكتاب المقدس.
وما معنى «الزبور» ؟ المادة كلها مأخوذة من «زَبَرَ البئر»، فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا منها الماء، يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر بطانة الحجارة، وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من الأسمنت.
وكلمة «زَبَرَ البئر» تؤدي معنى كل عملية لإصلاح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ مختلفة، فسموا العقل «زَبْراً» لأنه يعقل الأمور. وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن البئر ويمنعه، فكذلك العقل يحمي الإنسان من الشطط وليضبط الإنسان حريته في إطار مسئوليته ليفكر، ويعقل الغرائز عن الفكاك بالإنسان إلى الشتات والضلال. ويخطئ الناس في بعض الأحيان في فهم معنى «العقل» ؛ ويظنون أن العقل هو إطلاق الحبل على الغارب للأفكار دون انتظام او مسئولية، ونقول: افهموا أولاً معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ... ﴾
2830
والرسل الذين ذكرهم الله في الآية السابقة ليسوا كل الرسل الذين يجب الإيمان
2830
بهم تفصيلا فحسب، فكما علمونا في الأزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسولا وقد نظمهم بعض الشعراء في قوله:
في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس، هود، شعيب، صالح، وكذا ذو الكفل، آدم، بالمختار قد ختموا
وفي سورة الأنعام نجد قوله الحق: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين﴾ [الأنعام: ٨٣ - ٨٦]
وفي هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً، وبالإضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وآدم ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هم إذن خمسة وعشرون رسولاً ذكرهم الله، لكن الآية التي تسبق الآية التي نحن بصددها لم يذكر الله كل أسماء الرسل. وذكر أسماء بعض الرسل في سورة الأنعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء. ويقول الحق: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤]
أي أن الخمسة والعشرين رسولاً ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق، فقد قال:
2831
﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤]
أي أنه قد قص علينا أعلام الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيّز واسع أو لرسلهم معهم عمل كثيف، ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه السلام: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧]
وكان العالم قديماً في انعزالية. ولم يكن يملك من وسائل الالقتاء ما يجعل الأمم تندمج. وكان لكل بيئة داءاتها، ولكل بيئة طابع مميز في السلوك، ولذلك أرسل الله رسولاً إلى كل بيئة ليعالج هذه الداءات، ولا يذكر الداءات الأخرى حتى لا تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالأسوة. وحين علم الحق بعلمه الأزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والإنتاج والبحث في أسرار الكون سيبتكرون وسائل الالتقاء؛ ليصير العالم وحدة واحدة، وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب في اللحظة نفسها، وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة؛ لذلك كان ولابد أن يوجد الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرسول الخاتم والرسول الجامع والرسول المانع. ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤]
ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة «قصصنا» ولذلك حكمة، فالقصص معناه أنه لا عمل في الأحداث للرسول، بل تأتي الأحداث في السياق كما وقعت.
وسبحانه يعلم أزلاً أن خلقه سيبتكرون فناً اسمه «فن القصص».
ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص، وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها واقع. وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الأحداث أو يضيف من خياله أشياء، ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القصص،
2832
ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل. ولذلك يأتي الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي، حقيقي، حدث فعلاً.
وكلمة «القصص» مأخوذة من قص الأثر أي أن نسير مع القدم كما تَذهب، فلا نذهب هنا ولا نذهب هناك. وحكايات الأنبياء في القرآن واقعية. ومن رواية الحق لا من رواية الخلق، وثمة فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج. وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو غير ذلك. ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الأحيان بخيال البشر، مثل روايات جورجي زيدان عن الإسلام والأنبياء، وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع، أجاب الإجابة التقليدية: فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية.
ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى لا يُدخل أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه، وحتى لا يأتي واحد ذات يوم ويقول: إن كل القصص واحد. فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف، بل أمام الخالق الأعلى الذي يروي لنا ما يعلمنا. وسبحانه علم أزلاً ما سيدور في كونه، لذلك قال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣]
وسبحانه قد قص على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القرآن أحسن القصص؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه، ومادام عمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون مع كل الأجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على الرسل من إخوانه، فلا بد أن يوضح سبحانه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأمته من بعده: أنّه حدث مع الرسول فلان كذا، وكان مبعوثاً إلى قوم كان موقفهم منه كذا، وكانت داءات ذلك المجتمع هي كذا وكذا. ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما نعلم - موْكولٌ إليه علاج كل أجناس البشر وكذلك أمته من بعده، ولابد أن يعرفوا أخبار كُلِّ المجتمعات والرسل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين}.
2833
إذن فكلمة «قصص» تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل. والتاريخ - كما نعلم - هو ربط الأحداث بأزمانها، فمرة نجعل الحدث هو المؤرَّخ له، ثم نأتي بأشخاص كثيرين يدورون حول الحدث.
ومرة نجعل الشخص هو الأصل والأحداث تدور حوله، فإذا قلنا كلمة «سيرة» فنعني أننا جعلنا الشخص هو محور الكلام؛ ثم تدور الأحداث حوله. وإن أرخنا للحدث، نجعل الحدث هو الأصل، والأشخاص تدور حوله.
مثال ذلك: عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة؛ نجعل هذا الحدث هو المحور، ونروي كيف هاجر رسول الله ومعه أبو بكر/ وكيف هاجر عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وبذلك تكون الهجرة هي المحور وكيف دار الأشخاص حول هذا الحدث الجليل.
ومثال آخر: عندما نروي سيرة من السير، مثل سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، نجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محور الحديث والتاريخ، ونروي كيف دارت الأحداث في حياته.
إذن فأخبار وقصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الأحداث التي مرت عليهم؛ لأن الرسالات حين تأتي الناسَ بمنهج السماء؛ تنقسم إلى قسمين: قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة الرسول، وهو القسم العلمي، فتلك قضايا يجب أن يعلموها. وقسم عملي؛ لأن الحق يريد من خلقه أن يعلموا ويريد منهم - أيضا - بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما عملوا. فليست المسألة رفاهية علم، ولكنها مسئولية تطبيق ما علموا في محور «افعل» و «لا تفعل». ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط، لكان من الممكن أن نقول: ما أيسرها من رحلة.
لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، قاوموا ذلك. ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها. لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة، وعرفوا أنه لن توجد سيادة ولا عبودية ولا أوامر لأحد غير الله، ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد.
2834
إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل، والقصد من العلم به هو العمل به أي توظيف العلم تطبيقاً، فلا قيمة لعلم دون عمل. وعندما يبلغ الرسول القوم: هذا هو الحكم، ومطلوب من كل واحد منهم أن يطوِّع حركة حياته على ضوء هذا الحكم. وتجيء الأحكام دائماً في طاقة البشر.
وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم، هذه قصة فلان وقصة فلان. فالقصص يعطينا الجانب العملي المطلوب للمنهج، ولذلك قصَّ لنا الحق قصص الرسل في القرآن. ويبلغنا الحق بالنسب الإيماني، ويعلمنا النسب المعترف به عند الأنبياء، فيحكي قصة نوح عليه السلام، عندما أوْحى إليه بضرورة أن يصنع السفينة، وسَخِر قومُه منه، وبعد أن صنعها جاء الأمر الإلهي بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. ويقول الحق: ﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾
[هود: ٣٨ - ٤٠]
قوله الحق ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ كان يجب ألا تمر على فطنة نوح؛ ذلك لأنها تتضمن أن هناك أناساً من أهله لن يؤمنوا، فيقول لابنه: ﴿ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ [هود: ٤٢]
وكان الرد: ﴿قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾ [هود: ٤٣]
2835
فقال نوح: ﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ [هود: ٤٣]
وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الأرض ماءها، نادى نوح ربه فقال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ [هود: ٤٥]
نحن - إذن - أمام لقطة قصصية في قصة نوح. يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالات، فالبنوة هنا منهجية. ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه. ومن لا يتبع النبي فليس من نسبة، لذلك قال الحق: ﴿قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾. فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي. ويشرحها لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قال عن سلمان الفارسي:
«سلمان منا أهل البيت»
ولم يقل: إن سلمان عربي، أو إنّه من المسلمين، لكنه قال: إنه من أهل البيت. وقد أوضح الحق ذلك في قصة ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.
وخاض في معنى ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ بعض الخائضين باللغو وقالوا: إن أم ابن نوح قد فعلت السوء، ولهؤلاء نقول: استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: ٤٦]
إذن فنسبة الأبناء للآباء من الأنبياء نسبة عمل لا نسبة دم ولا نسبة عن زواج أو إنجاب، أما الذين قالوا السوء في امرأة نوح فعليهم أن يستغفروا الله، فالحق
2836
سبحانه منزه عن التدليس على رسوله. وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك - معاذ الله - فما ذنب الولد تصير أمه إلى هذا؟ لا دخل للولد بذلك، لكن قول الله: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ يدل على أن ثبوت النبوة الإيمانية يكون بالعمل فقط.
ولننظر إلى قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهله وعشيرته.. فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين، جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو بطون قريش بطنا بطنا: يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال: يا فاطمة ابنة محمد انقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها بِبِلالها»
ويضرب الله المثل في الزوجات؛ فيقول: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين﴾ [التحريم: ١٠]
وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية؛ لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولاً ليس له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة؛ فهي تملك حرية الاعتقاد؛ فلا ولاية هنا للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى الألوهية؛ كفرعون مثلاً يقول الحق عن امرأته: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ [التحريم: ١١]
هذه اللقطات تدلنا على أن قضية الإيمان لا ينفع فيها النسب أو الزواج. فالابن هو العمل الصالح، والحيثية في ذلك قول الحق عن ابن نوح: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ فلم يذكر ذات الابن ولكنه ذكر العمل.
ولكل نبي قصة يذكرها الحق ليتضح المنهج في أذهان الناس. ويأتي الله بالمثل في
2837
المصطفَيْنَ الأخيار الذين اصطفاهم الله لهداية الناس مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. الذي يبتليه - سبحانه - في أول حياته بالإحراق في النار. كان إبراهيم شاباً يمتلئ بالأمل في الحياة، فماذا كان من إبراهيم؟
أراد الحق نجاة إبراهيم من النار. وتركهم يتمكنون منه ويضعونه في قلب النار. ولم تمطر السماء لتطفئ النار، وكل ذلك لتكون حجة الحق واضحة، وحتى يكون كيد الله كاملاً لهؤلاء الكافرين. إن إبراهيم عليه السلام لم يهرب منهم، ولم تمطر السماء، بل ظلت النار ناراً ويعطل سبحانه ناموس النار حين دخول إبراهيم إليها.
«روي عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. فقال جبريل فاسأل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم»
وفي هذا غيظ ودحض لمكر الذين مكروا بإبراهيم. إذن يعطينا الحق في القصص القرآني المثل لنجمع من حياة كل رسول العبر ونستفيد منها، لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس؛ لأننا أخذنا تجارب كل رسول وجعلناها منهجاً لنا في حياتنا.
وقد ابتلى الحق إبراهيم في أول حياته في نفسه، وابتلاه في أخريات حياته في ابنه، ونجح إبراهيم في الابتلاء الأول حين كانت حياته أهم بالنسبة إليه من كل شيء، وحين يتقدم في السن، فمن المفروض أن تكون كل حياته لمن بعده من الأبناء فيبتليه الله في ابنه.
لم يقل له: إن ابنك سيموت وعليك بالصبر. ولم يقل له: إن واحداً سيقتل ابنك وعليك بالصبر؛ بل يأمره بذبح ابنه، تلك قمة الابتلاء. لأنه لم يأت بوحي مباشر كالنفث في القلب أو الكلام من وراء حجاب أو يرسل له الله ملكا يبلغه ما يريد، بل برؤيا منامية: ﴿قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾.
2838
ويقول إبراهيم لابنه المسألة كما رآها في المنام. والرؤيا عند الأنبياء حق.
وقد يقول قائل: ولماذا لم يرد إسماعيل على أبيه بأن هذه المسألة هي مجرد رؤيا؟ ولماذا لم يأخذ إبراهيم ولده على غرة دون أن يقول له؟.
ونقول: إن إبراهيم من فرط وشدة حنانه وحبه لابنه آثر أن ينال الابن الثواب العظيم والجزاء الجليل بأن يقتل ويقدم حياته امتثالا لأمر الله، فقال إبراهيم: ﴿يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى﴾ [الصافات: ١٠٢]
وها هوذا قول إسماعيل: ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٢]
ولم يقل إسماعيل لأبيه: «افعل الذبح» ولكنه قال: ﴿افعل مَا تُؤمَرُ﴾ أي أن إسماعيل لم يأخذ الكلام على أنه كلام من أبيه، بل أخذه كأمر من الله. ولو أخذه أبوه على غرة قد يتحرك قلب الابن غيظاً على أبيه وحقداً عليه فيعتدي على الأب، وهنا نجد حنان الأب على الابن جعله يخبره بالأمر الآتي من السماء؛ والشأن في حنان الأب على الابن أن ييسر له كل أمور حياته. أما حنان الحنان فهو تيسير كل خير بعد مماته؛ لذلك لم يشأ إبراهيم أن يحرم إسماعيل من الامتثال لأمر الله؛ فينال الاثنان معاً شرف الامتثال لله. وأعطاه كل الحنان في الزمان الأبقى والزمان الأخلد في الدار الآخرة؛ حتى نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد منا إلا الامتثال لقضائه وقدره، ويقول الحق: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣]
هذا شرف الامتثال في التسليم لله.. ففي البداية أسلم إبراهيم أمره لله، وعندما عرض الأمر على ابنه سلم الابن أمره لله، فنال الاثنان منزلة الشرف في التسليم لأمر الله. ونجح الاثنان في الاختبار، فقال الحق:
2839
﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١٠٥]
لقد أنقذ الحق إبراهيم وابنه من مسألة الذبح، ولهذا نقول دائماً: لا يُرفع قضاء من الله على خلقه إلا أن يستسلم الخلق للقضاء، والذين يطيلون أمد القضاء على نفوسهم هم الذين لا يرضون به. وأتحدى أي إنسان أن يكون الله قد أجرى عليه قضاء مرض فيرضى به ويعتبر أن ذلك صحة اليقين، ولا يرفع الله عنه المرض. فالإنسان بالصحة يكون مع نعمة الله، ولكنه بالمرض يكون مع الله.
فقد حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟»
من إذن يجرؤ على الزهد في معية الله؟ وعندما يعرف المريض أنه في مرضه الذي يتأوه منه هو في معية الله لاستحى أن يقول: «آه»، ولكننا لا نطلب من المريض ألا يقول «آه»، ولكن نطلب منه أن يتوجه إلى الله ويقول: «ولكن عافيتك أوسع لي».
وقول الحق: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ هذا القول يدلنا على أن القضاء لا يُرفع إلا بالرضا به، فإن رأينا واحداً قد استمر معه القضاء فلنعلم أنه لم تحن ولن تأت عليه لحظة لرضي فيها بالقضاء. ولم يرفع الله القضاء فقط عن إبراهيم، ولم يُفْد إسماعيل فقط بذبح عظيم، بل بشر الله إبراهيم بولد آخر اسمه إسحاق: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ [الصافات: ١١٢]
وها هي ذي لقطة أخرى نأخذها من القصص القرآني مع سيدنا موسى؛ لنتبين ماذا يصنع المنهج الإيماني فيمن اقتنع به، وحدثت هذه القصة في وقت تهيئة سيدنا
2840
موسى للرسالة، حدثت هذه الواقعة وهو ذاهب إلى شعيب، ولم يكن رسولاً بعد، مما يدل على أن فطرية الإيمان كانت موجودة عنده، وأن الله قد صنعه على عينه، لقد ورد ماء مدين ووجد الفتاتين تذودان وتطردان الماشية عن الماء، فماذا دار بينه وبينهما من حوار؟. وكيف كانت رؤيته لهما أولاً: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: ٢٣]
وفي قول المرأتين: ﴿لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ قدر من المبادئ فخروجهما من البيت سببه أن الأب شيخ كبير، ومع أنهما في ضرورة وخرجتا للعمل فلم تنس واحدة منهما أنها أنثى يجب أن تُحترم أنوثتها فقالتا: ﴿لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء﴾ أي أنهما ستسقيان من بعد أن يذهب الزحام من الرجال حول البئر. إذن فقد أخذت بنتا شعيب الضرورة في حجمها ولم تتخذ إحداهما من الضرورة حجة لإهدار الأنوثة والتزاحم للوصول إلى البئر. فماذا حدث من موسى؟. ﴿فسقى لَهُمَا﴾.
تلك الهمة الإيمانية التي وُجدت في موسى قبل أن يصير رسولاً، وذلك ما يوضحه لنا الحق حتى لا يقول إنسان: كيف أكون مثل رسول من عند الله؟.
كأن الهمة الإيمانية التي وصَفتها تلك اللقطة القصصية توقظ مسئولية كل مؤمن ليسلك مثل هذه السلوك. فعندما يرى امرأةً قد خرجت عن محيط بيتها لأي عمل، فعليه أن يقضي لها حاجتها حتى ترجع إلى بيتها وذلك دون أن يتخذ من ذلك ذريعة ووسيلة إلى أمر ينزل بهمته وينال من مروءته.
ولو انتشرت بيننا تلك الهمة الإيمانية لما وجدنا امرأة في الطريق إلا للضرورة. لقد أوضحت لنا تلك اللقطة القصصية حرص المرأة على موضعها وموقعها من الستر، فتقول واحدة من المرأتين لأبيها شعيب بعد أن استقدمه ليجزيه أجر ما سقى لهما: ﴿ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ [القصص: ٢٦]
2841
كأن المرأة لا يحل لها أن تتحرك في الكون هذا اللون من الحركة الواسعة، ويسمع شعيب وهو الرجل العاقل لابنته فكيف يستأجر رجلاً وعنده ابنتان، فيفكر شعيب ويعثر على الحل الصحيح بفطنة إيمانية، فيستدعي موسى ويقول له: ﴿قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص: ٢٧]
وفي مثل هذه الحالة سيكون موسى متزوجاً بواحدة ومُحَرَّماً على الأخرى.
وهذه اللقطات القصصية نلتفت إليها لنتعلم منها الفطنة الإيمانية. وها نحن أولاء مع موسى وقد ناداه الحق ليجعله رسولاً، ولنر صفاء النفس الإيمانية وهي تتلقى مهمة الرسالة؛ إن موسى يرغب في أن يكون أداؤه للرسالة كاملاً؛ لذلك يطلب من الحق أن يرسل معه أخاه هارون: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ [القصص: ٣٤]
هو يرشح معه هارون للرسالة لأنه حريص على النجاح في دعوته لأن لسانه ثقيل لرتَّة ولُثغة وتردد في النطق من أثر الجمرة التي أصاب بها لسانَه وهو صغيير، والرسالة تحتاج إلى بيان وبلاغة فيطلب مساعدة أخيه ولم يستنكف ذلك. فما بالنا بما هو حادث وحاصل في أيامنا، حين يختار الحاكم رئيساً للوزراء فلا يطلب معاونة الأكْفَاء، بل قد يخشى أن يكون له نائب له كفاية عالية فوق كفاءته.
واللقطات القصصية في القرآن تعلمنا الكثير، وأراد الحق أن يثبت بها للأمة المحمدية دقة المنهج الإيماني، فمادام قد أرسل لنا منهجاً لنعلمه، فهو يطلب منا أن نطبق هذا المنهج ونوظفه في حياتنا. وليس ذلك بدعا، بل هو موجود في قصص الرسل الذين عَلِموا المنهج فطبقوه في ذواتهم أولاً؛ لأن الآفة أن نعلم العلم ولا نطبقه.
وفي زماننا يقال ويشاع: إن التعليم الديني في المدارس لا يأتي بثمار طيبة في سلوك
2842
الطلاب. ونقول لمن يرددون ذلك: أنتم لا تفهمون طبيعة التعليم الديني؛ فتعليم الدين لا يمكن أن يتساوى مع تعليم الجغرافيا أو الهندسة وغيرهما من العلوم؛ لأننا عندما نعلم طالباً الهندسة فهو يستطيع أن يكون عالماً متفوقاً فيها ويأخذ المعطيات والنظريات ويتفوق في المجال الهندسي، ولكن لم تطلب منه أية نظرية هندسية أن يعدل سلوكه في الحياة بأن ترشده في السلوك اليومي: افعل كذا ولا تفعل كذا.
فالنظريات الهندسية لا تتدخل في حياة الطلاب، لكن الطالب عندما يتعلم الدين إنما يتعلم أن يفعل الأمر الديني، ولا يفعل الأشياء المنهي عنها. والصعب في التعليم الديني هو التطبيق العملي. عندما لا يرى التلميذ التطبيق العملي من الذين يعلمونه الدين أو من الأسرة، فإنه لا يتعلم الدين، فيقال للطالب: الدين ينهى عن الكذب، لكن الطالب يجد الكذب سلعة رائجة في المجتمع. ويقول الدين له: الصلاة عماد الدين وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يجد الطالب من يصلي أمامه أو يجد من يصلي ولا يقيم عمارة الدين باتباع ما تأمر به الصلاة من نهي عن المنكر، إذن ففشل التعليم الديني لا يأتي من ناحية غياب المعلم ولكن من عدم وجود التطبيق العملي للسلوك الديني.
ونعود للقص القرآني. جاء القصص ليوضح لنا التطبيق للجانب النظري من الدين، وطبَّقهُ الرسل على أنفسهم. وأنتم يا أمة الإسلام لستم أقل من أحد، بل أنتم خير أمة أخرجت للناس، وعليكم أن تأخذوا الخير الذي حدث في موكب الرسالات كلها وتطبقوه في ذواتكم.
هذا هو معنى قوله الحق: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾. وقد جاء لنا القرآن بعيون القصص حتى نأخذ منها لقطات العبرة. ويقول قائل: ومن هو الرسول؟
يقول العلماء: هناك رسول وهناك نبي. وأقام بعضهم مشكلة حول هذا الأمر، فقال بعضهم: كل رسول نبي ولا عكس. ونقول لأصحاب هذا الرأي: لو نظرنا إلى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأرحنا أنفسنا جميعاً، فالقرآن يقول: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢]
2843
إذن فالنبي أيضاً مرسل من الله، وعلى ذلك فكلاهما - النبي والرسول - مرسل من عند الله، لكنْ يوجد فرق بين أن يرسل الحق تشريعاً مع رسول، ويكون هذا التشريع مستوعباً لأشياء وأحكام لم تكن موجودة في الرسالة السابقة عليه، وبين أن يأتي إنسان مصطفى من الله ليطبق فقط ما جاء في الرسالات السابقة، فالأنبياء قد أرسلهم الله ليكونوا نموذجاً تطبيقياً للشرع السابق عليهم ولم يَأتوا بشرع جديد، لكن الرسول هو من أرسله الله بشرع جديد ليعمل به وأمره الحق بتطبيقه. هذا هو الزائد في مهمة الرسول.
إن الحق أرسل الرسل بالشرع والتبليغ والتطبيق، وأرسل الحق الأنبياء ليكونوا الأسوة السلوكية فيطبقوا ما أرسل به الرسل السابقون عليهم، وهذا أمر لا يأتي إلا في الأمم التي لها سجل في المكابرة مع الرسل.
ولذلك نجد أن اللجاجة دفعت بني إسرائيل إلى التفاخر بأنهم أكثر الأمم أنبياء، صحيح أنهم أكثر الأمم أنبياء. لكن علينا أن نعرف أن النبوات والرسالات إنما تأتي لتشفي الناس مما بهم من داءات؛ فعندما نقول عن إنسان إنّه أكثر الناس تردداً على الأطباء، فمعنى ذلك أن أمراضه كثيرة، وكذلك بنو إسرائيل كانت داءاتهم كثيرة.
وكثرة الرسل إليهم لا ترفع من منزلتهم. بل تدل على كثرة أمراضهم.
إذن فالرسول والنبي كلاهما مرسل. والفارق أن الرسول معه تشريع سماوي ليبلغه ويطبقه، والنبي مرسل للتطبيق، فإن جئنا لمعنى الرسول اصطلاحياً؛ فهو الموحى إليه بشرع يعمل به وأمره الله بتبليغه. ويذيل الحق الآية: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ ؟.
ونقول: الوحي الذي يوحي الله به لأنبيائه هو الوحي الاصطلاحي الشرعي الذي نتكلم عنه دون الوحي اللغوي الذي سبق أن أفضنا فيه. والحق سبحانه وتعالى قد بين الطريقة التي يخاطب بها أنبياءه المصطفين لأداء رسالتهم إلى خلقه، فقال:
2844
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]
إذن، فطريقة التقاء الحق بالأنبياء؛ إما أن تكون بالوحي، وإما أن تكون من وراء حجاب، وإما أن تكون بإرسال رسول كجبريل عليه السلام. فإذا ما نظرنا إلى الآية وجدنا أن الوحي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وحي خاص، وكلام من وراء حجاب، وإرسال رسول، وكل هذه الأقسام الثلاثة تدخل في إطار الوحي ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً﴾.
أي ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا إلهاماً وقذفا في القلب، أو يكلمهُ ﴿مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ وهو كلام من الله يسمعه الرسول، لكنه لا يرى المتكلم وهو الله. أما الوحي بواسطة الرسول، فهو نزول جبريل إلى الرسول بما أوحى به الله.
فإذا ما نظرنا إلى قوله الحق: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ فكأنه سبحانه قد خصه بهذه العبارة ليدل على أنه أوحى لموسى بطريقتين، أولاً: بالطريق الذي أوحى به إلى غيره من الأنبياء، ثانياً: بالطريق الخاص وهو كلام الله الذي بدأ به موسى بالوادي المقدس.
وقوله الحق: «تكليماً» يدفعنا إلى التساؤل: لماذا جاء الحق بالمصدر هنا؟. لأن مطلق الوحي بأي وسيلة سماه الله كلاماً. إذن فالنفخ في الرُّوع كلام، والكلام من وراء حجاب كلام، وإرسال الرسول بالوحي كلام. والكلام هو ما يدل على مراد المتكلم من المخاطب، بدليل أن الله سمى الوحي في صوره الثلاث كلاماً ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ﴾.
والخفاء في الوحي إما أن يكون خفاء في الأسلوب، أي لا يسمعه أحد غير الرسول، وقد لا يسمعه الرسول ويكون بقذف الكلام في رُوع الرسول وقلبه وهو يؤدي مؤدي الكلام أي الدلالة على ما في نفس المتكلم الذي يريد نقله للمخاطب.
2845
أما أن يقول الحق: إنه «تكلم» مع موسى، فهذا نقل من الخفاء إلى العلن، أو يرسل الحق رسولاً بالكلام الموحى به. وحين قال سبحانه: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ إنما ينبهنا إلى أن الوحي لموسى ليس من الكلام الذي قسمه الحق في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾ ؛ لأن الله قال في كلامه لموسى: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾.
ووقف العلماء هنا وقفة عقلية وقالوا: كيف يتكلم الله إذن؟. ونقول: إن كل وصف لله ويوجد مثله لخلقه إنما نأخذه بالنسبة لله في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فإن قلت: إن لله وجوداً وللإنسان وجوداً، فوجود الإنسان ليس كوجود الله، وإن قلنا: إن لله علماً، وللإنسان علماً، فعلم الإنسان ليس كعلم الله، وإن قلنا: إن لله قدرة، وللإنسان قدرة، فقدرة الإنسان ليست كقدرة الله، وإن قلنا: إن لله استواء على العرش وللإنسان استواء على الكرسي، فاستواء الله ليس كاستواء الإنسان. إذن فلا بد أن تؤخذ كل صفة من صفات الله التي يوجد مثلها في البشر في إطار قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]
وبذلك ينتهي الخلاف كله في كل ما يتعلق بصفات الحق.
فالحق له يدان وله وجه، ولكن لا يمكن للإنسان أن يصور يد الله كيد البشر، بل نأخذها في إطار ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وكذلك وجه الله. ومادمنا نأخذ صفات الله في إطار ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فلا داعي للمعركة الطاحنة بين العلماء في الصفات وفي تأويل الصفات، ولا داعي أن ينقسم العلماء إلى عالم يؤوّل الصفات وعالم لا يؤول؛ لاداعي أن يقول عالم: إن يد الله هي قدرته فيؤول، وعالم آخر لا يؤول ويقول: لا. إن لله يداً ويسكت. ونقول للعالم الذي لا يؤول: قل: إن لله يداً وهي تناسب قوله « ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. وإذا كنا نحن قد عرفنا في عالمنا أن الأشياء تختلف مواجيدها في الناس باختلاف الناس، فلا بد من أن نعرف أن الله لا مثيل له.
وعلى سبيل المثال: يتلقى الإنسان دعوة لمائدة عمدة قرية ما، فيقدم له ألوان
2846
طعام تناسب مقام القرية ومنصب القيادة فيها، ويتلقى الإنسان دعوة لمائدة محافظ مدينة فيقدم له طعاماً يناسب مقام المدينة ومنصب القيادة فيها. ويتلقى الإنسان دعوة رئيس الدولة فيقدم له طعاماً يناسب مقام الدولة وهيبة منصب القيادة فيها، إذن لا تتساوى مائدة طعام العمدة في قرية مع مائدة طعام المحافظ مع مائدة طعام رئيس الدولة، فإذا كان البشر يوجد الشيء الواحد وهو ملون بألوان مقامات المخلوقين فكيف لنا بمقامات الخالق؟! ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
فإذا كان الحق قد أخبرنا أنه كلم موسى تكليماً في قصة الوادي عندما آنس موسى ناراً وذهب إلى النار. فقال الحق: ﴿إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى﴾
[طه: ١٢ - ١٦]
قال له الحق كل ذلك، وبدأه سبحانه بالكلام. وبعد ذلك جاء لموسى الوحي على طريقة مجيء الوحي للأنبياء.
والحق سبحانه وتعالى أوحى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على شتى ألوان الوحي. فقد جاء الوحي لرسول الله إلهاماً، وجاء الوحي لرسول الله من وراء حجاب، وجاء الوحي لرسول الله من خلال رسول.
ومثال الوحي إلهاماً هو الحديث القدسي، وكذلك التشريع النبوي الذي تركه لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومثال الوحي من وراء حجاب هو التكليف بالصلاة، فلم تفرض الصلاة بواسطة جبريل، بل فرضت من الله مباشرة.
ولا أدخل في نقاش لا جدوى منه حول: أحين فرض الحق على رسوله الصلاة كلمه وسمع منه رسول الله، أم أن رسول الله قد رأى الله وهو يتكلم معه. لا داعي
2847
للخوض في أمر لم يخبرنا الله عن كيفيته، والأدب مع الله يقتضي ذلك. قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
وإن القرآن لم يثبت بأية طريقة من طرق الوحي إلا بإرسال رسول، فكل وحي القرآن جاء بواسطة جبريل، فلم تأت آية بالنفخ في الرُّوع. إنما جاء بالنفخ في الروع الحديث القدسي؛ لأن النفخ في الروع قد يتصور واحد أنه خاطر من الجن أو أمثال ذلك. وجاءت كل الآيات القرآنية بواسطة جبريل؛ بمقدمات بدنية، ويحدث تغير كيماوي في نفس رسول الله فلا يشك أبداً في أنه جبريل. وأراد الحق أن يكون الوحي بالقرآن بطريقة لا شك فيها.
وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمع صوتاً كصلصلة الجرس؛ وبعد ذلك يتفصد جبين الرسول عرقاً، ويثقل جسم رسول الله حتى إن كان على دابة فهي تئط وتئن ويثقل عليها وتكاد أن يمس بطنُها الأرض. وإن كان رسول الله يلاصق فخذه فخذ أحد الصحابة، فيكاد أن يرض فخذ الصحابي، وتلك علامات مادية كونية، لا يمكن أن يحدث فيها لبس.
ولقد قالوا من قبل استنادا إلى ظاهر قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى﴾ [طه: ١٣٤]
لو لم يرسل الحق الرسول لكان لهم حجة. ونقول للعلماء: لنفهم هذه المسألة حتى نوضح لكم أنكم تختلفون في أمر كان يجب عليكم ألا تختلفوا فيه. أبالعقل يعلم الإنسان مطلوب الله منه؟ أم أن العقل يهديني إلى وجود قوة أعلى خلقت هذا الكون وتدبره؟. وما اسم هذه القوة؟. وما مطلوب هذه القوة؟. أيعرف العقل ثواب من يتبع المنهج وعقاب من يخرج عن المنهج؟. كل هذه أمور لا يعرفها العقل، فالعقل حجة في الإيمان بقوة عُليا فوق ذلك الكون وهي التي خلقته وتدبره وتديره، أما الرسول فهو مبلغ بمطلوبات المنهج واسم القوة التي أرسلت والشرائع التي يجب أن يسير على هداها الإنسان، إذن فليس هناك خلاف بين الرأيين.
2848
واسأل: من الذي اكتشف الكهرباء؟. إنه العقل البشري الباحث وراء أسرار الله في الكون، ولا أحد يجهل هذه المسألة. وكذلك أسأل: من أول من تكلم في النسبية؟ إنه أينشتين. وإن سألنا: من أول من تكلم في الجاذبية الأرضية؟. إسحاق نيوتن، وكل واحد اكتشف شيئاً في الكون صرنا نعرفه. والذي صمم توليد الكهرباء التي تنير وتضيء وندير بها المصانع، وجعل من سوق الكهرباء صناعة رائجة تعمل فيها القدرات المالية ليشتري الإنسان مصابيح تنير حيزاً محدوداً، ومصانع تعمل في خدمة الإنسان.
أبالله عليكم تعرفون اسم مصمم مولدات الكهرباء ومصصم ومكتشف المصباح الكهربائي، ولا تدرون اسم من خلق الشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم. ولم يَدَّع أحد لنفسه صناعة الشمس، ولا يوجد ابتكار في الكون إلا ومعلوم مَن أبدع هذا الابتكار. فالذي صنع المصباح إنما ينير به حيزاً محدوداً مهما كبر ضوء المصباح، وبعد محيط دائري معلوم يتلاشى الضوء ويصير الأمر إلى ظلمة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف نهار.
إن خلق الشمس يحتاج إلى قدرة تناسب خلقها، وتحتاج إلى حكمة تناسبها، وليس لهذه الشمس محيط من الزجاج ينكسر ونغيره مثلما نفعل مع المصابيح. كان لابد للعقل البشري أن يفهم أن هذه الكائنات التي في الكون لها صانع يناسبها. ولا يمكن أن يكون صانعها من الخلق ويسكت عن حقه في صناعة هذه المعجزات، ونحن نرى بعضاً من الناس في بعض الأحيان تدعي ملكية ما ليس لها، فإذا ما جاء الخالق وأبلغنا بواسطة الرسل بصناعته للكون ولم يوجد له مُعارض، فهل هذه الأشياء والكائنات من خلقه أو لا؟. إنها من خلقه إلى أن يوجد له معارض؟
هذه هي مهمة العقل أي أنّه يهتدي إلى القوة التي تخلق وتدبر أمر هذا الكون ولا يغني العقل عن الرسل، ولكن العقل يؤمن في القمة الإيمانية بأن هناك قوة مبهمة عالية تناسب عظمة هذا الكون الذي طرأ عليه الإنسان، ولا يعرف اسم القوة ولا يعرف مطلوب القوة في «افعل»، و «لا تفعل»، ولا يعرف العقل ماذا ادخرت القوة من ثواب للمحسن وعقاب للمسيء. لذلك لابد من وجود رسول.
2849
إن الحجة - إذن - تكون من شقين: الشق الأول الخاص بالعقل هو في الإيمان بالقوة العليا المبهمة، والشق الثاني الخاص بالرسل هو الإيمان بالبلاغ عن الله اسما وصفة ومطلوباً وجزاء، وهكذا نرى فاتفقوا أيها العلماء ولا ضرورة للخلاف.
أقول ذلك حتى لا يتمادى الذي يتصيدون لدين الله وأضيف: اتفقوا أيها العلماء على أشياء محددة لأنكم تشتتون الناس بهذه الخلافات؛ فالرسول هو الحجة في الأشياء التي لا دخل للعقل فيها.
ونعرف تاريخياً أن آفة الفلسفة أنها تضع وتتخذ عدداً ضيقاً من المجالات لتبحث فيها، وكانت الفلسفة قديماً هي أمُّ العلوم مجتمعة، فالهندسة كانت فرعاً منها، وكذلك كل الرياضيات، وأيضاً المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء وكذلك أصول اللغات.
لكن عندما رأى العلماء أصحاب التجارب المعملية أن الفلاسفة يدخلون في متاهات نظرية ولا يدخلون إلى مجال التجارب العلمية التطبيقية، تركوا الفلاسفة وأسسوا العلوم التجريبية منفصلة عن الفلسفة. وأنتج العلم التجريبي لنا كل هذه الاختراعات والاكتشافات المعاصرة التي تسهل علينا الحياة ونستفيد منها.
لقد ظل الفلاسفة على حالهم يبحثون في النظريات بعيدين عن مجال التجارب العلمية التطبيقية. ولا تلتقي مدرسة فلسفية بمدرسة أخرى؛ لأنهم يختلفون حيث الجهل طبيعة مسيطرة على الغيب الذي يبحثون عنه ولا يمكن الاهتداء أبداً إلى أسرار الغيب، إنما الغيب يبلغ به الرسل.
والمثال الذي أضربه دائماً واكرره حتى يستقر في الأذهان: لنفترض أننا نجلس في حجرة ثم دق الجرس، هنا تستوي عقولنا جميعاً في أن طارقاً بالباب، ولا نختلف في هذا الأمر. لكن عندما ندخل في تصور من الطارق؟ يقول واحد: «الطارق رجل» وثانٍ يقول: «الطارق امرأة» وثالث يقول: «الطارق رجل شرطة» ورابع يقول: «صديق لنا» وخامس يقول: «بشير» وسادس يقول: «نذير»، يحدث ذلك لأننا دخلنا إلى متاهات التصور. وأقول: هذه الأمور لا تُترك للعقل، فلو
2850
أردتم راحة أنفسكم لآمنتم بالتعقل، تعقل أن هناك طارقاً بالباب، ثم تتركون للطارق أن يعلن عن نفسه ويقول لكم: أنا فلان وأسمي كذا وصفتي كذا وجئت إليكم من أجل كذا، وبذلك نتفق جميعاً.
لكن الفلاسفة أدخلوا التصور في التعقل. ولا يمكننا أن نعرف اسم الخالق بالعقل أبداً ولا مطلوبه. بل لأ بد أن يبلغ عن نفسه، فإذا انشغل العقل بأن هذا الكون العظيم لا بد له من قوة خالقة، فلماذا لا تبلغنا عن نفسها؟. وإذا ما جاء رسول من أجل أن يحل اللغز الوجودي الذي يعيشه البشر فيبلغنا أن القوة الخالقة اسمها الله. هنا أراح الحق النفس البشرية بما كانت تتمنى أن تعرفه، ومن عقل العاقل أن يفرح بمجيء الرسول ويستشرف إلى السماع عنه؛ لأن الرسول إنما جاء يحل اللغز الشاغل للنفس البشرية من تفسير مَن خلق الكون بهذه الدقة، وما هي مطلوبات هذه القوة؟
ويحسم الرسول الخلاف عندهم ويحل اللغز الشاغل للبال. ولذلك نرى الإمام عليا - كرم الله وجهه - أمام سؤال من أحدهم:
- أعرفت محمداً بربك؟ أم عرفت ربك بمحمد؟.
فأجاب الإمام عليّ وكان باب العلم: لو عرفت ربي بمحمد لكان محمد أوثق عندي من ربي، ولو عرفت محمداً بربي لما احتجت إلى رسول، ولكني عرفت ربي بربي وجاء محمد فيبلغني مراد ربي مني.
هكذا حدد لنا سيدنا عليّ المسألة.. فالعقل الفطري يؤمن بقوة مبهمة وراء هذا الكون هي التي خلقت وهي التي رزقت وهي التي أمدت بقيوميتها وقدرتها، وبعد ذلك تجيء الرسل من أجل تعريفنا باسم القوة ومطلوبها منا.
والذين يختلفون حول دور العقل في الحجة ودور الرسول في الحجة، عليهم ألا يتوهوا في متاهات نحن في غنى عنها؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون الحجة بمفرده، والرسول إنما هو مبلغ عن القوة، وقد يقول قائل: إذن لابد لكل رسول من رسول، وقد يبلغ التفلسف الطريق المسدود.
2851
لكن عندما نعلم أن الحق قد صنع كل رسول على عينه معصوماً ليبلغ، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا محمد بن عبد الله استطاع أن يصنع أمة في ثلاث وعشرين سنة ليمتد خيرها إلى يوم القيامة، فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك مبلغاً عن الله ليهدي أمته إلى كيفية عمل الطيب والابتعاد عن العمل الخبيث. وخلق الله محمداً على خُلق عظيم. وهكذا نعرف أن الحق قد أراح العقل من ضرورة البحث عن اسم القوة الخالقة ومطلوبها فأرسل الرسل.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ... ﴾
2852
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد. والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد. والعزيز سبحانه لا يُغلب. والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟. لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة وناراً وحساباً، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئاً لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعاً.
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكاً إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها. وحين يقول الحق: ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿لكن الله يَشْهَدُ... ﴾
وساعة نسمع «لكن» فمعنى ذلك أن هناك استدراكاً. وقوله الحق: ﴿لكن الله يَشْهَدُ﴾ نأخذ منها بلاغاً من الحق. خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته. ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان.
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كرسول خاتم، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيداً.
لقد أنزل القرآن بعلمه، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم - وهو العليم - ما يصلح للبشر من قوانين. وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته ب «افعل» و «لا تفعل». ولذلك يقول الحق: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان. إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله.
ونقول: دعوا خالق الإنسان، يضع لكم قانون صيانة الإنسان ب «افعل»
2853
ولا «تفعل» وإن أردتم أن تشرِّعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيداً عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى.
﴿لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ﴾ والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضاً الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهوداً؟. لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادته.
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله. وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ... ﴾
2854
إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه، وهو يملك الاختيار بين الكُفر والإيمان، لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعدّ؛ لقد ضل في نفسه، وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم.
وكيف يكون الصدّ عن سبيل الله؟. بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهُدى
2854
من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق عنهم: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦]
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية، ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية.
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً﴾. كان يكفي أن يقول الحق ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾، لكنه جاء بالمصدر التأكيدي ﴿قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً﴾ أي إنه الضلال بعينه، وهو فوق ذلك ضلال بعيد.
وعندما ننظر في كلمة «بعيد»، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة. والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمناً أكبر من حياة المُضل، ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالاً، وهكذا يصبح الضلال ممتداً.
والضلال المعروف في الماديات البشرية هو - على سبيل المثال - أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر. وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه - أي صحراء - ولا يجد ماء ولا طعاماً فيموت. لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتداً.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ... ﴾
2855
والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ﴾. والكفر هو ستر الوجود الأعلى، والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعاً ولا سعادة في حياتهم الدنيا، وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم. ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة. والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً. وسبحانه القائل: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى﴾ [طه: ١٢٣]
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]
والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة. ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقاً بلا حدود وراحة لا نهاية لها، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك، وهكذا يظلم نفسه.
وقد يقول قائل: لقد ظلموا أنفسهم، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود ظالم ومظلوم. فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟. كل واحد منهم الظالم. وكل واحد منهم المظلوم؛ لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات، وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم.
وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم
2856
ملكة القيم. والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية، فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى. ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩]
هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿ياأيها الناس... ﴾
2857
فبعد أن وصف لنا - بإيجاز محكم - سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبهاً كل الناس: لقد جاءت رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، الذي يرجح ما هو عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل.
لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان
2857
بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً. والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه. وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية «أوكازيون إيماني» تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها، ولتبدأ مرحلة جديدة.
﴿ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ﴾ والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر. أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه.
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك. وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾ [الرعد: ١٧]
كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه «الريم» وهو الزَّبَد الرابي. وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن
2858
عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث.
ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل. ﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾ [الرعد: ١٧]
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه. فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق. وسبحانه يقول: ﴿ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ﴾. والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة، وأن هناك بعثاً بعد الموت، وحساباً. ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل.
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ وسبحانه غني، وسيظل كَونُه الثابتُ - بنظرية القهر والتسخير - هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء.
ونقول لك: لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد.
ولذلك قال الحق: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١]
2859
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله، ولذلك نقول: أشَكى الناس أزمة ضوء؟. لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون.
وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يقول سبحانه: ﴿ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ... ﴾
2860
يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم، لأن كل شيء له وسط وله طرفان، وعندما يمسك شخص طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط. وقد وقع أهل الكتاب في هذا
2860
المأزق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط أو تفريط، لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا، وهذا غلو في الكُرْه، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا: إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة؛ وهذا غلو، ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾.
إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو، ولذلك جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه. وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالخوارج كفَّروا علياً، والمسرفون بالتشيع قالوا: إنه نبي، وبعضهم زاد الإسراف فجعله إلهاً.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعليّ - كرم الله وجهه -:
«إن فيك من عيسى مثلا. أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له».
وكما قال سيدنا علي - كرم الله وجهه -: «ألا وإنه يهلك فيّ اثنان: محبٌ يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم».
وقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهاً أو رسولاً، والذي أبغض علياً جعله كافراً. وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله﴾. وقوله الحق: ﴿عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله﴾ رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم.
2861
وقوله الحق عن عيسى ابن مريم: ﴿رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهاً أو جعلوه ابناً لله أو ثالث ثلاثة، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت:
﴿أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [آل عمران: ٤٧]
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول: ﴿إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾. فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١]
وما معنى «كلمته» ؟. هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة «كن» التي قال عنها سبحانه: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧]
لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين: «روح» و «كن». والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا: مادام الله قد قال: إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣]
فهل هذا يعني أن «الأرض» قطعة من الله وكذلك الشمس؟. لا. فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقياً أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع:
2862
﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩]
ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل. وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه، وقال في آدم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩]
إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما: «كن»، و «النفخ فيه من الروح»، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لا بد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى. لقد كان خلق آدم غيباً عن آدم، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١]
ولا يمكن - إذن - أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده.
والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل. إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل. ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك. وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة. والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون: إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق
2863
الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب، ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال.
ونقول: أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟. اصل الخلق ماء، خلطه الحق بتراب، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طيناً، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر، يصير حمأ مسنوناً، وبعد ذلك يصير صلصالاً، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم. إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق. وهو القائل عن آدم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩]
وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه، ولكن تنقصه الحركة ولحياة، فيأتي النفخ في الروح بكلمة «كن». إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة. والروح عنصر وجودي. وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة، ولا بد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة «كن». ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنساناً؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان.
وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده، فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلاً على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولاً خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب. هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض.
وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلاً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه. وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت.
وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون. وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيراً التراب.
2864
وقد حللوا الإنسان حديثاً. فوجدوا فيه عناصر كثيرة، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر.
ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني. ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارناً بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو:
الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، اليود، والسيلوز، والمنجنيز. هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك.
وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثاً يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»
فسبحانه - إذن - أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضاً منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضاً منهم يخدمون
2865
الدين على رغم أنوفهم. ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهماً عميقاً، يتسم باللطف والسماحة، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين، وهناك آية أخرى قال عنها الحق: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩]
وآية ثالثة قال فيها سبحانه: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧]
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين: النفخ من روح الحق، والأمر «كن»، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى، روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩]
والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه:
﴿قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧٥ - ٧٦]
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمراً عسيراً على الله؟. لا. وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة، ومادته معروفة، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة، هذه المادة مخلوقة من آدم، والحياة التي فيه من روح آدم، وآدم نفسه خلقه الله بيديه، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه
2866
الله من روحه، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد.
إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبداً؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله. وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه، وفيه جزء من نفخ الروح.
وأكرر المثل الذي أضر به دائماً ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز، وأضفناه إلى لتر من الماء، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلاً من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر. إذن فكل نسل آدم - إلى أن تقوم الساعة - فيه جُزَيْء - من آدم عليه السلام.
ونلحظ أن كثيراً من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله. وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون: إنها بنوة حب. وإذا كانت المسألة بنوة حب، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا. فالخلق كلهم عيال الله، والحديث القدسي يقول:
«الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله»
ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لأننا جميعاً قد صدرنا عن قدرة الله وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع الله منذ بداية خلق آدم، إذن هو بشر مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولاً.
أما القول بالثالوث. فبعضهم يقول: نقصد بالثالوث ثالوث الصفات. وهل ثالوث الصفات
2867
تأتي فيه إضافيات؟. كالقول «بالأب والابن والروح القدس» ؟ لن يوجد أب إلا إذا وُجد ابن، ولن يوجد ابن إلا إذا وجد أب.
إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالإنسان يكون ابناً وأباً، فهو ابن بالنسبة لوالده، وهو أب بالنسبة لابنه، وكل هذه صفات إضافية، وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع لا أن تكون إضافية، وعندما يقال: «الأب والابن والروح القدس» فهذا القول لا يحمل صفات إلهية، بل صفات إضافية، وحاول بعضهم أن يقول: «إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لأنكم تقولون بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم تفتتحون القرآن بثلاث صفات هي الله والرحمن والرحيم» وقلت لهم: نحن نقول «بسم الله الرحمن الرحيم» ولا نقول «بسم الله والرحمن والرحيم».
وما الذي يجعل الحق يُنجب ابناً منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟. ثم يترك سبحانه الأزمان السابقة على ميلاد المسيح محرومة من ميلاد ابن له؟. لماذا يترك الله الأزمان كلها بدون ابن لله، ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرناً فقط؟. ثم ما المدة الزمنية التي شرفها الله بابنه بأن أوجده فيها؟
أتكفي ثلاثة وثلاثون عاماً فقط - وهي عمر المسيح - لتشريف البشرية بوجود ابن الله؟. ولماذا يحرم الله - إذن - بقية الأزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟.
ونسأل أيضاً لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟. إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لأن الإنسان يعرف أنه سيموت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا، وليس في حاجة لاستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الإخلاص. ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤]
2868
وهم يقولون: «إله واحد»، ومرة أخرى يقولون: «إله أحد». وواحد لا تساوي «أحد» والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئاً اسمه «الكل» وشيئاً اسمه «الجزء» وشيئاً اسمه «الكلي» وشيئاً اسمه «الجزئي».
«فالكلي» يطلق على ماله أفراد مثل الإنسان: كخالد ومحمد وعليّ، و «الكل» يُطلق على ماله أجزاء، مثال ذلك الكرسي نجده مكوناً من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من مواد.
فالكرسي - إذن - «كُلٌّ» لأنه مصنوع من مواد كثيرة. وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة المسمار؛ لذلك فالكرسي «كُلٌّ» لأنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق. ولا يصح أن نطلق على أي شيء من مكونات الكرسي اسم «كُل». فلا نقول: «المسمار كرسي» أو «الخشب كرسي» ؛ لأن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلاء في شكل وترتيب معين.
ومثال آخر، كلمة «إنسان» وهي كلمة تطلق على كثيرين، ولأن الحقائق متفقة نطلق على الإنسان كلمة «كُلّي».
ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للإنسان لقب إنسان، فنقول محمد إنسان وزيد إنسان، وعليٌّ إنسان. «فالكل» له أجزاء، ولل «كلي» جزئيات، ويكون الكل شيئا واحداً ولكنه ذو أجزاء، فقد يكون عندنا كرسي واحد. ولكن لهذا الكرسي أجزاء.
وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى: انه «كل» أو «كلي» ؟. لا نقول على اسم الحق «كل» أو «كلي» ؛ لأنه اسم لا يطلق على كثيرين فليس كليا لأنه واحدٌ، وليس له أجزاء؛ لأنه أحد، وليس له أفراد لأنه واحد. فلا يقال لله سبحانه وتعالى «كل» أو «جزء» أو «كلي» أو «جزئي»، فلو كان كُلٍّياً لكان - كما قلنا - له أفراد ولو كان «كُلاًّ» لكان له أجزاء، ولكن الله واحد لا أفراد له، وأحد لا أجزاء له.
ولذلك يَرُدُّ القرآن على أي قائل بغير هذا، فيقول: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١]
2869
ويقول أيضاً: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣]
وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق: ﴿ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً﴾ [النساء: ١٧١]
وقوله الحق: «انتهوا» أي اقضوا على كلمات الباطل، و «خيراً لكم» أي تمسكوا بكلمات الحق، وفي قوله: «انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} تخلية وإبعاد لكلمات الباطل، نأخذ ذلك من قوله: (انتهوا) وتحلية لكلمات الحق ونأخذها من قوله - سبحانه -: ﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾.
ويقول الحق: ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ أي أنه سبحانه لا أفراد له، ويضيف: ﴿سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وساعة نسمع كلمة»
سبحانه «فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة.
ولذلك نجد كلمة»
سبحانه «تأتي في الأمور العجيبة التي يقف فيها العقل، وعلى الرغم من وجود كفار في هذا الوجود، وعلى الرغم من وجود مجترئين على الله في هذا العالم، وعلى الرغم من وجود من ينعتون البشر بألفاظ الألوهية، إلاأن إنساناً واحداً لم يجترئ على أن يقول لمخلوق كلمة:» سبحانك «، ولذلك نقول لله عَزَّ وَجَلَّ» سبحانك أيضاً في سبحانك «.
كذلك لم نجد أحداً من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم «الله»
، وهو سبحانه يتحدى به حتى الكفرة والملاحدة أن يسمى هذا الاسم لمسمى أي مسمى. وبالله هل يوجد واحد من المتبجحين الكافرين يسمي ابناً له «الله» ؟.
2870
حتى هذه لم توجد؛ لأن هذا الكافر غير واثق أنه على حق. ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له كارثة. ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه لا إله لهذا الكون لسمّى ابناً له «الله». لكن أحداً لا يجترئ على هذه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥]
وكان هذا التحدي موجوداً من قبل أن تنزل هذه الآية. فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل اجترأ أحد على أن يسمي ابناً له «الله» ؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضاً على الرغم من أنهم يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسماً طويلاً عجيباً. لقد سمّاها «ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا» وهو حرّ في ذلك، لكن لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يسمي ابنه «الله»، وهذا دليل على أن الملاحدة والكفار على باطل. ويخاف أي منهم أن يجترئ على هذه المسألة، ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات «الله»، ولذلك فليقل كل واحد «سبحانك» وهو مطمئن، «ولا تقال إلا لك»، واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعاً، أقال واحد من البشر لواحد من البشر «سبحانك» ؟
ما قالها أحد قط. وهكذا يتحكم الله في أمر للإنسان اختيار فيه، ولا يجرؤ إنسان على إطلاق هذه الأسماء على أحد من البشر. ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ و «الولد» كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الأرض؛ فكيف يكون له وملكه، وهو ابنه؟ إن هذا الادعاء لا يستقيم أبداً، ولذلك يذيل الحق الآية: ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح... ﴾
2871
مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسري به إلى المسجد الأقصى؛ قال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١]
ولم يقل: «سبحان الذي أسرى برسوله» ولكنه قال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ ؛ لأن «العبودية» عطاء علوي من الله، فكأن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله؟ لا يستنكف المسيح ذلك، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله. ﴿وَلاَ الملائكة المقربون﴾ ويسمون ذلك ارتقاء في النفي، مثلما يقول فلاح: لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة.
إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر. ولذلك قال الحق: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون﴾ وقال بعض العلماء: إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولأً لمحسّات، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ، كما قال الحق: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨]
إذن مادام سبحانه قد قال: ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة. ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب. والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية. وغير الخطف؛ لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً، أما الغصب فهو الأخذ عنوة.
2872
وكلها - الغصب، والسرقة، والخطف - هي أخذ لغير الحق، والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة. وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً، كأنه أخذ للجلد. ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات. وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون﴾. و «يستنكف» مثلها مثل «يستفهم»، ومثل «يستخرج».
إذن فهناك مادة اسمها «نكف»، و «النَّكْف» عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه. ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي، فدخل عليه ابنه أو زوجته، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه. «واستنكف» معناها أزال «النَّكْف».
والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه. وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد.
وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر، أو أن يجلس مع آخر، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر.
ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به. والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله؛ لأنهم عرفوا العبودية لله. وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل، لكنها لمن يُعزّ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي. والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله؛ لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون.
ويضيف الحق: ﴿وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ المستنكفون؛ أو الذين على طريقة الاستنكاف، ومن يشجعهم على ذلك، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم.
2873
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ... ﴾
2874
لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدماً على شطر الآية الأول؟. ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً، ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟.
ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج، فيأتي أوّلاً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد. «والضد يظهر حسنه الضد».
لقد قال الحق: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ ونعلك أن الأجر على العمل. لماذا الفضل إذن؟. لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف:
«لن يُدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا
2874
فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب»
والحق قد قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨]
وفطن الناس إلى ذلك فقالوا: «اللهم بالفضل لا بالعدل» ؛ لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة، وقد يضيعنا العدل.
ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله، ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الناس... ﴾
2875
والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله، وهو الحجة الدامغة.
وقد يقول قائل: ما هو البرهان وما هو النور؟. ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله؛ مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة. إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه، وقد
2875
لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل.
اما رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه، إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة. هذا هو البرهان. أما «النور» فقد جاء أيضاً من أمر حسيّ؛ لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه. إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم، أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ... ﴾
2876
لقد آمنوا بالله واعتصموا به، ما معنى الاعتصام؟. قديماً كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ ليحذبه إنسان خارج الهوة بيده، وهذا هو الأصل في الاعتصام، أي يستمسك الإنسان بمن ينقذه من هاوية أو كارثة، والحق يعطي الأسباب، فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه الله الشجرة ليستظل بها. وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة، وإذا عطش إنسان فالله يعطيه سبباً ليأخذ كوب ماء، والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب.
فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالأسباب؛ لأن عدم الاغترار بالأسباب يحمي الإنسان. فعندما تأتيه أمور في ظاهرها شر، فمادام مجريها هو الله فهي خير بالتأكيد، لكنك لا تعلم.
2876
وما أضل علم الإنسان في كثير من المسائل؛ فالإنسان قد يحسب أمرا أنّه هو الحسن، فيظهر له بعد حين أنه السوء، وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ، فيظهر له بعد حين أنه الحسن، ولا يوجد واحد منا إلا وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا؛ فإذا بها شر، أو كان يظنها شراً فإذا بها خير. والشر هو ما يأتيه الإنسان لنفسه بعمله، أما الأمور التي تقع على الإنسان فحكمتها تمشي على مقتضى علم الله لا على مقتضى هوى البشر.
إننا نجد من يقول: إنني أدعو الله بكذا ولا يستجيب لي. ونقول: أنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك؛ لكن الله يعلم أن هذه الأشياء ليست هي الخير؛ لذلك لا يعطيها لك، فإن كنت مؤمناً بالله ومعتصماً به فأنت تهمس لنفسك: أَلِيَ في هذا الأمر مدخل أم لا مدخل لي فيه؟. فإذا كان لك فيه مدخل فاللوم على نفسك. وإن كان الأمر قد أجراه عليك فهو خير لك ولله حكمة في ذلك.
وحَظِّي من الدنيا سواء لأنني رضيت بحكم الله في العسر واليسر
فإن أقبلت كان الجزاء على النجا وإن أدبرت كان الجزاء على الصبر
﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾. وماداموا قد آمنوا بالله واعتصموا بالله واعتصموا به فسيهديهم صراطه المستقيم، وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبيّنها قوله الحق: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧]
وقال لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلْمَ ما لم يعلم»
أي يصير مأموناً على العلم؛ لأن العلم الذي أخذه عن الله وظَّفه في خدمة غيره،
2877
ولم يدخره أو يعطله. ويختتم الحق سبحانه وتعالى سورة النساء بقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ... ﴾
2878
والاستفتاء هو طلب الفتيا. ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علماً له فيه. وكان الصحابة يستفتون رسول الله، مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم:
«ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
وجاء القرآن في كثير من الآيات ب «يسألونك». كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا، لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء، ووجد أشياء
2878
الجاهلية وأقرها، ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية، بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم للإسلام؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة. والفتوى تكون في حكم. والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم. وهم يطلبون الفتوى في الكلالة، ودقة القرآن في إيجاز السؤال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة: ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً﴾ [النساء: ١٢]
إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم، وسؤال جابر بن عبد الله كان عن الصلة من ناحية الأب.
فعن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:
(مرضت مرضا فأتاني النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي عليّ، فتوضا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث «.
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وبعض العلماء قال: إن كلمة»
كلالة «مأخوذة من كلال التعب؛ لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد، والإنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقاً؛ فليس له والد سبق بالرعاية، وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكلالة.
وبعضهم قال: إنها من الإكليل؛ أي التاج. وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء، أو من أدنى أي من الأبناء.
2879
﴿إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ﴾ أي أن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقاً أم أخاً لأب.
وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ. وإن كان له إخوة من رجال ونساء، فها هوذا قول الحق: ﴿وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾. أي أن للذكر من الأخوة مثل حظ الأنثيين.
ويختم الحق الآية: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال. وقد علم سبحانه أزلاً بكل سلوك، وكل خافية، وهو العليم أبداً بما ينفع الناس جميعاً. وبذلك انتهينا بعون الله من خواطرنا في سورة النساء.
2880
Icon