تفسير سورة الجاثية

اللباب
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الجاثية
مكية١ وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومائة وأحد وتسعون حرفا.
١ في قول الحسن وجابر وعكرمة. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية هي: ﴿قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله﴾، وانظر القرطبي ١٦/١٦٠..

مكية وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومائة وإحدى وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿حمتَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ قد تقدم مثله أول غافرٍ. وقال أبو عبد الله الرازي: العزيز الحكيم إن كانا صفة لله كانا حقيقة، وإنْ كَانَا صفة للكتاب كانا مجازاً له.
ورد عليه أبو حيان جعله إياهما صفة للكتاب. قال: إذ لو كان كذلك لوليت الصِّفَةُ موصوفَها فكا يقال: تنزيل الكتاب العزيزِ الحكيمِ مِنَ اللهِ. قال: لأن «من الله» إن تعلق «بتنزيل» و «تنزيل» خبر ل «حم» أو لمبتدأ محذوف، لزم الفصل به بين الصفة والموصوف، ولا يجوز، كما لا يجوز: أعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ بٍسَوْط الفَاضِل، أو في موضع الخبر وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل به أيضاً لا يجوز: ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ الفَاضِلُ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ إن كان قوله «حم» قسماً «فتزيل الكتاب» نعت له، وجواب القسم: ﴿إِنَّ فِي السماوات والأرض﴾ واعلم أن
339
حصول الآيات في السموات والأرض ظاهر دال على وجود الله تعالى، وقدرته مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار. وقد تقدم الكلام في كيفية دلالتها على وجود الإلهة القادر الفاعل المختار.
وقوله: «لآياتِ لِلْمؤمِنِينَ» يقتضي كون هذه مختصةً بالمؤمنين. وقالت المعتزلة: إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه لما انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آياتٍ للمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] فإنه هُدًى لكلّ الناس، كما قال تعالى: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥] إلاَّ أنهن لما نتفع به المؤمن خاصةً قيلَ: هدى للمتقين.
قوله تعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أن قوله: «وَمَا يَبُثُّ» معطوف على «خَلْقِكُمْ» المجرور بفي والتقدير: وفيمَا يَبُثُّ.
الثاني: أنه معطوف على الضمير المخفوض بالخلق وذلك على مذهب من يرى العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار. واستقبحه الزمخشري وإن أُكِّدَ، نحو: مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ يشير بذلك إلى مذهب الجَرْميّ، فإنه يقول: إن أكّدَ جاز، وإِلاَّ فَلاَ. فقوله مذهب ثالث.
قوله: ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ و ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. وقرأ آيات بالكسر في الموضعين الأخوان والباقون برفعهما ولا خرف في كسر الأولى؛ لأنها اسم «إن» فأما آيات لقوم يوقنون بالكسر فيجوز فيها وجهان:
أحدهما: ِأنها معطوفة على اسم «إن» والخبر قوله: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ كأنه قيل: وإنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَات.
340
والثاني: أن تكون كررت توكيداً «لآيَات» الأُوْلَى، ويكون «في خلقكم» معطوفاً على «السَّموَات» كرر معه حرف الجر توكيداً. ونظيره أن تقول: إنَّ في بَيِْتِكَ زَيْداً وفي السّوقِ زَيْداً فزيد الثاني توكيد للأول كأنك قلت: إنَّ زَيْداً زَيْداً فِي بَيْتِكَ وفِي السُّوق.
وليس في هذا عطف على معمولي عاملين البتة وقد وهم أبو البقاء فجعلها من ذلك فقال: آيات لقوم يوقنون بكسر الثانية وفيه وجهان:
أحدهما: أن «إن» مضمرة حذفت لدلالة «إن» الأولى عليها، وليست «آيات» معطوفة على آيات الأولى، لما فيه من العطف على معمولي عاملين.
والثاني: أن تكمون كررت للتأكيد، لأنها من لفظ «آيات» الأولى، وإعرابها كإعرابها كقولك: إنَّ بِثَوْبِكَ دَماً وَبِثَوْبِ زَيْدٍ دماً، فَدَم الثاني مكرر، لأنك مستغنٍ عن ذكره انتهى.
فقوله: وليست معطوفة على «آيات» الأولى لما فيه من العطف على معمولي عاملين وهمٌ أين معمول العامل الآخر؟ وكأنه توهم أن «في» ساقطة من قوله: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ أو اختلطت عليه ﴿آيات لقوم يعقلون﴾ بهذه، لأن تِيكَ فيها ما يوهم العطف على عاملين. وقد ذكره هو أيضاً. وأما الرفع فمن وجهين أيضاً:
أحدهما: أن يكون «فِي خَلْقِكُمْ» خبراً مقدماً، و «آياتٌ» مبتدأ مؤخراً، وهي جملة معطوفة على جملة مؤكدة بإِن.
والثاني: أن تكون معطوفة على «آيات» الأولى اعتباراً بالمحل عند من يجيز ذلك، لا سيما عند من يقول: إنه يجوز ذلك بعد الخبر بإجماعل. وأما قوله: ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ فقد تقدم أنَّ الأخوين يقرآن آياتٍ بالكسر وهي تحتاج إلى إيضاح، فإن الناس تكلموا فيها كثيراً وخرّجوها على أوجه مختلفة، وبها استدل على
341
جواز العطف على عاملين قال شهاب الدين: والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين، بل يجوز أن يستدل عليه أيضاً بقراءة الباقين كما سنقف عليه إنْ شَاءَ الله تعالى فأما قراءة الأخوين ففيها أَوْجهُ:
أحدها: أن يكون «اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين وحرف الجر إذا دلّ عليه دليل (جاز حذفه وأيضاً عمله وأنشد الإمام الأستاذ سيبويه:)
٤٤٣٣ - ألآن قَربَّتْ تهْجُونَا وتَشْتُمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
تقديره: وبالأَيامِ، لتقدم الباء في «بِكَ». ولا يجوز عطفه على الكاف لأنه ليس من مذهبه العطف على الضمير المجرور، دون إعادة الجارّ، فالتقدير في هذه الآية: «وَفِي اخْتِلاَفِ آيَاتِ»، فآيات على ما تقدم من الوجهين في آيات قبلها العطف أو التأكيد. قالوا: ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله (وَفِي اخْتِلافِ) تصريحاً بفي. فهذان وجهان:
الثالث: أن يعطف «اخْتِلافِ» على المجرور بفي، وآيات على المنصوب بإن وبهذا هو العطف على عاملين، وتحقيقه على معمولي عاملين، وذلك أنك عطفت «اخْتِلاَفِ» على «خَلْقِ» وهو مجرور بفي فهو معمول عامل، وعطف «آياتِ» على اسم إنّ وهو معمول عامل آخر.
فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما «اخْتِلافِ» و «آياتٍ» على معمولين قبلهما وهما «خلق وآيات».
342
ويظاهرها استدل على من جوّز ذلك كالأخفش. وفي المسألة أربعة مذاهب، المنع مطلقاً، وهو مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، قالوا: لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عامليْن وهو لا يجوز؛ لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة، ولا قائل به، ولأن حرف العطف ضعيف، فلا يَقْوَى أن ينوب عن عاملين، ولأن القَائِلَ بجواز ذلك يستضعفه والأحسن عنده أن لا يجوز، مفملا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله، ولأنه بمنزلة التَّعْدِيَتَيْنِ بمُعَدِّ واحد، وهو غير جائز.
قال ابن السراج: العطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار والتأكيد. قال الرماني: هو كقولك: إنَّ فِي الدَّارِ زَيْداً وَالبَيْتِ زَيْداً، فهو جائز بالإجماع، وهذا الوجه الذي ذكره ابن السراج حَسَنٌ جداً لا يجوز أن يحمل كمتاب الله إلا عليه وقد ثبتت القراءة بالكسر، ولا يعيب فيها في القرآن على وجه. والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تَنَاهى في العقيب فلا يجوز حمل هذه الآية على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره. قال شهاب الدين: وهذا الحَصْر منْهُ غير مُسَلَّم، فإن في الآية تخريجاتٍ أُخَر على ما ذكره ابنُ السراج، يجوز الحمل عليها. وقال الزجاج ومثله في الشعر:
343
وأنشد الفارسيّ للفرزدق:
٤٤٣٤ - أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارا
٤٤٣٥ - وبَاشَرُوا رَعْيَها الصَّلا بِلَبَانِهِ وَجَنْبَيْهِ حَرَّ النَّارِ مَا يتَحَرَّفُ
وقول الآخر:
٤٤٣٦ - اَوْصَيْتَ مِنْ بَرَّةً قَلْباً حَرًّا بِالكَلْبِ خَيْراً وَالحَمَاةِ شَرًّا
فأما البيت الأول فظاهره أنه عطف «وَنَارٍ» على «امرىء» المخفوض «بكل» و «نَاراً» الثانية على «أمْرءاً» الثاني، والتقدير: أتَحْسَبِينَ كُلَّ نَاراً، فقد عطف على معمولي عاملين.
والبيت الثاني: عطف عليه «وجَنْبَيْهِ» على «بِلَبَانِهِ» عطف حرّ النار «على الصَّلا» والتقدير: وبَاشَرَ بجَنْبَيْه حَرَّ النَّارِ.
والبيت الثالث: عطف فيه «الحَمَاةِ» على «الكلبِ» و «شرًّا» على «خيراً» تقديره: وأوْصَيْتَ بالحَمَاةِ شَرًّا.
وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر، لكنه عورض بأن إعمال حرف الجر مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنه لا يجوز: مَرَرْتُ زَيْدٍ بخفض «زَيْدٍ» إلاَّ في ضرورة كقوله:
٤٤٣٧ - إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
يريد: إلى كليب، وقول الآخر:
٤٤٣٨ -......................... تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ
344
أي إلى الأعلام.
فقد فقر من شيء فوقع في أضعف منه، وأجِيب عن ذلك: بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويتِ الدّلالة عليه فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أردتموه في المِثَال والشِّعر.
والمذهب الثاني: التفضيل، وهو مذهب الأخفش، وذكل أنه يجوز بشرطين:
أحدهما: أن يكون أحد العاملين جاراً، والثاني: أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل «بلا» ثمال الأول: الآية الكريمة والأبيات المتقدمة، ولذلك استصوب المبرد اشتهاده بالآية ومثال الفصل «بلا» قولك: مَا فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَلاَ الحُجْرَةِ عَمْرٌو. فلو فقد الشرطان، نحو: إنَّ زَيْداً شَتَم بِشْراً، وَوَاللهِ خَالِداً (هِنْداً) أو فقد أحدهما، نحو: إنَّ زيداً ضَرَبَ بَكْراً، وخالداً بِشْراً، فقد نقل ابن مالك، الامتناع عن الجميع. وفيه نظر، لما سيأتي من الخِلاف.
الثالث: أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارًّا، وأن يكون متقدماً نحو الآية الكريمة، فلو لم يتقدم نحو: إنَّ زَيْداً في الدارِ وعمرو السوقِ، لم يَجُز، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله.
الرابع: الجواز مطلقاً، ويُعْزَى للفراء.
الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المكذورة: أن ينتصب «آيات» على الاختصاص. قاله الزمخشري، كما سيأتي. وأما قراءة الرفع ففيها أوجه:
345
أحدها: أن يكون الأول. والثاني: ما تقدم في ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
الثالث: أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين، وذلك أن «اخْتِلاَفِ» عطف على «خَلْقكم» وهو معمول «لفِي» و «آيات» قبلها، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمول عاملين في هذه القراءة أيضاً.
قال الزمخشري: وقرىء: ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالرفع والنصب على قولك: إنَّ زَيْداً فِي الدَّارِ وعمرو في السوق أو عمراً في السُّوق. قال: وأما قوله: ﴿آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت، فالعاملان في النصب (إنَّ) و (فِي)، أقيمت الواو مُقَامَهُما فعملت الجر في «اختلاف الليل والنهار» والنصب في «آيات» وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و (في) عملت الرفع في «آيات» والجر في «اختلاف». ثُمَّ قال في توجيه النصب: والثاني: أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور.
والوجه الخامس: أن يرتفع «آياتٌ» على خبر ابتداء مضمر أي هِيَ آياتٌ. وناقشه أبو حيان فقال: ونسبة الجر والرفع والجر والنصب للواو ليس بصحيح؛ لأنّ الصحيحَ من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل، وأيضاً ناقش أبو شامة فقال: فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضاً يعني قراءة الرفع عطف على عاملين. وهما حرف «في» والابتداء المقتضي للرفع. ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة؛ لأن الابتداء ليس بعامل لظفي.
346
وقرىء: واخْتِلاَفُ بالرفع آيَةٌ بالرفع، والتوحيد على الابتداء والخبر.
وكذلك قرىء: وما يَبُيُّ مِنْ دَابَّةٌ بالتوحيد. وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطلحة وعِيسَى: وتصْرِيف الرِّيح كذا قال أبو حيان. قال شهاب الدين: وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضاً. وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.

فصل


اختلاف الليل والنهار فيه وجوه:
الأول: تبديل النهار بالليل وبالعكس.
الثاني: زيادة طول النهار على طول الليل والعكس.
الثالث: اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ﴾ يعني الرزق الذي هو سبب أرزاق العباد ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وهذا يدل على وجوب القول بوجود الفاعل المختار من وجوه:
أحدها: إنشاء السحاب وإنزال المطر فيه.
وثانيها: تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض.
وثالثها: تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة، وأغصانها، وأوراقها، وثمارها، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللّب، كالجَوْز، واللَّوز، ومنها ما يكون اللّب محيطاً بالقشر كالمِشْمِش والخوخ، ومنها ما يكون خالياً عن القشر كالتِّين. فتولد أقسام النبات على كثرة أقسامه وَتَبَايُنِها يدلّ على وجوب القول بوجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم.
قوله: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ هي أقسام كثير منها الشرقية، والغربية والشّمالية، والجنوبية، ومنها الحارّة، والباردة، أياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. واعلم أنه تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي
347
تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: ١٦٤]. فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل، والتافوت بين الوصفين من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال في سورة البقرة: ﴿إنَّ في خلق السموات والأرض﴾ وقال ههنا: ﴿إن في السموات والأرض﴾ والصحيح عند أهل السنة: إنَّ الخلق غير المخلوق، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق.
الثاني: أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل، وأهمل منها الفلك والسحاب، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما.
الثالث: أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل احد منها بنظر تامٍّ سابقٍ.
الرابع: أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع: أحدها: للمؤمنين، وثانيها: «يوقنون». وثالثها: «يعقلون».
قال ابن الخطيب: وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين (بل أنتم من طلاب الجَزْم واليقين، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاْ فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
قوله تعالى: ﴿تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا﴾ يجوز أن تكون «نتلوها» خبراً «لِتِلْكَ» و «آيَاتُ اللهِ»، بدل أو عطف بيان، ويجوز أن تكون «تِلْكَ آيَاتُ» مبتدأ وخبراًن و «نَتْلُوها» حال قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه «تلك» من معنى الإرشاد ونحوه: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢]. قال أبو حيان: وليس نحو لأن في «هَذَا بَعْلِي» حرف تنبيه؛ فقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تَنَبَّهْ وأما تلك فليس فيها حرف تنبيه، (فإذا كان حرف التنبيه عاملاً) بما فيه من معنى التنبيه لأن المعنى قد يعمل في الحال، فالمعنى تَنَبَّهْ لزيدٍ في حال شَيْخِه أو في حال قيامه.
348
وقيل: العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه إن كان هناك. قال شهاب الدين: بل الآية نحو: هَذَا بَعْلِي شَيْخاً من حَيْثِيَّةِ نسبة العمل لاسم الإشارة غاية ما ثَمَّ أن في الآية الأخرى ما يَصْلُحُ أن يكون عاملاً، وهذا لا يَقْدَح في التنظير إذا قصدت جهةً مشتركةً، وأما إضمار الفعل فهو مشترك في الموضعين عند من يرى ذَلِكَ قال ابن عطية: وفي «نَتْلُوها» حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة فيها ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذا المعنى، فلا يكون فيها حذفُ مضاف.
وقرأ بعضهم: يَتْلُوهَا بياء الغيبة، عائداً على الباري تعالى.
قوله: «بالْحَقِّ» حال من الفاعل، أي ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي ملتبسةً بالحق. ويجوز أن تكون (الباء) للسببية فتتعلق بنفس «نَتْلُوهَا».
قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ﴾ قال الزمخشري: أي بعد آيات الله، فهو كقولك: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، يريدون: كَرَمَ زَيْدٍ. وردَّه عليه أبو حيان بأنه ليس مراداً، بل المراد إعجاباً، وبأنَّ فيه إقحاماً للأسماء من غير ضرورة، قال: وهذا قلب لحقائق النَّحْو.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو وعاصمٌ في رواية «يُؤمِنُون» بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب. و «فَبِأَيِّ» متعلق به، قدم لأن له صدر الكلام. واختار أبو عبيد الياء، لأن فيه غيبة، وهو قوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، و ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فإن قيل: في أول الكلام خطاب، وهو قوله: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ قُلْنَا: الغيبة أقرب إلى الحرف المُخْتَلَفِ فيه فكان أولى.

فصل


ومعنى الآية أن من لم ينتفع بهذه الآيات، فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به. وهذه
349
الآية تبطل القول بالتقليد، وتوجب على المكلف على التأمل في دلائل دين الله.
350
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:قوله تعالى :﴿ حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم ﴾ قد تقدم مثله أول غافرٍ.

وقال أبو عبد الله الرازي : العزيز الحكيم إن كانا صفة لله كانا حقيقة، وإنْ كَانَا صفة للكتاب كانا مجازاً له١.
ورد عليه أبو حيان جعله إياهما صفة للكتاب. قال : إذ لو كان كذلك لوليت الصِّفَةُ موصوفَها فكان يقال : تنزيل الكتاب العزيزِ الحكيمِ مِنَ اللهِ. قال : لأن «من الله » إن تعلق «بتنزيل » و«تنزيل » خبر ل «حم » أو لمبتدأ محذوف، لزم الفصل به بين الصفة والموصوف، ولا يجوز، كما لا يجوز : أعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ بٍسَوْط الفَاضِل، أو في موضع الخبر وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل به أيضاً لا يجوز : ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ الفَاضِلُ٢.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ إن كان قوله «حم » قسماً «فتزيل الكتاب » نعت له، وجواب القسم :﴿ إِنَّ فِي السماوات والأرض ﴾١ واعلم أن حصول الآيات في السموات والأرض ظاهر دال على وجود الله تعالى، وقدرته مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار. وقد تقدم الكلام في كيفية دلالتها على وجود الإله القادر الفاعل المختار.
وقوله :«لآياتِ لِلْمؤمِنِينَ » يقتضي كون هذه مختصةً بالمؤمنين. وقالت المعتزلة : إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه لما انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آياتٍ للمؤمنين، ونظيره قوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] فإنه هُدًى لكلّ الناس، كما قال تعالى :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] إلاَّ أنه لما انتفع به المؤمن خاصةً قيلَ : هدى للمتقين٢.
١ والتقدير: وحم الذي هو تنزيل الكتاب إن الأمر كذا وكذا. وانظر الرازي ٢٧/٢٥٦..
٢ انظر الرازي ٢٧/٢٥٨..
قوله تعالى :﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أن قوله :«وَمَا يَبُثُّ » معطوف على «خَلْقِكُمْ » المجرور بفي والتقدير : وفيمَا يَبُثُّ١.
الثاني : أنه معطوف على الضمير المخفوض٢ بالخلق وذلك على مذهب من يرى العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار٣. واستقبحه الزمخشري وإن أُكِّدَ، نحو : مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ وَزَيْدٍ٤ يشير بذلك إلى مذهب الجَرْميّ٥، فإنه يقول : إن أكّدَ جاز، وإِلاَّ فَلاَ. فقوله مذهب ثالث٦.
قوله :﴿ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ و﴿ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾. وقرأ آيات بالكسر في الموضعين الأخوان٧ والباقون برفعهما، ولا خلاف في كسر الأولى ؛ لأنها اسم «إن » فأما آيات لقوم يوقنون بالكسر فيجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنها معطوفة على اسم «إن » والخبر قوله :﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ ﴾ كأنه قيل : وإنَّ فِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَات٨.
والثاني : أن تكون٩ كررت توكيداً «لآيَات » الأُوْلَى، ويكون «في خلقكم » معطوفاً على «السَّموَات » كرر معه حرف الجر توكيداً. ونظيره أن تقول : إنَّ في بَيِْتِكَ زَيْداً وفي السّوقِ زَيْداً فزيد الثاني توكيد للأول كأنك قلت : إنَّ زَيْداً زَيْداً فِي بَيْتِكَ وفِي السُّوق.
وليس في هذا عطف على معمولي عاملين البتة١٠ وقد وهم أبو البقاء فجعلها من ذلك فقال : آيات لقوم يوقنون بكسر الثانية وفيه وجهان :
أحدهما : أن «إن » مضمرة حذفت لدلالة «إن » الأولى عليها، وليست «آيات » معطوفة على آيات الأولى، لما فيه من العطف على معمولي عاملين.
والثاني : أن تكون كررت للتأكيد١١، لأنها من لفظ «آيات » الأولى، وإعرابها كإعرابها كقولك : إنَّ بِثَوْبِكَ دَماً وَبِثَوْبِ زَيْدٍ دماً، فَدَم الثاني مكرر، لأنك مستغنٍ عن ذكره انتهى١٢.
فقوله : وليست معطوفة على «آيات » الأولى لما فيه من العطف على معمولي عاملين وهمٌ أين١٣ معمول العامل الآخر ؟ وكأنه توهم أن «في » ساقطة من قوله :﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ ﴾ أو اختلطت عليه ﴿ آيات لقوم يعقلون ﴾ بهذه، لأن تِيكَ فيها ما يوهم العطف على عاملين١٤. وقد ذكره هو أيضاً١٥. وأما الرفع١٦ فمن وجهين أيضاً :
أحدهما : أن يكون «فِي خَلْقِكُمْ » خبراً مقدماً، و«آياتٌ » مبتدأ مؤخراً، وهي جملة معطوفة على جملة مؤكدة بإِن.
والثاني : أن تكون معطوفة على «آيات » الأولى اعتباراً بالمحل١٧ عند من يجيز ذلك، لا سيما عند من يقول : إنه يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع١٨.
١ الكشاف ٣/٥٠٨..
٢ في ب المعطوف تحريف..
٣ وهو مذهب الكوفة ويونس وقد احتجوا بقراءة حمزة أحد السبعة يقرأ آية النساء: ﴿واتقوا اله الذي تساءلون به والأرحام﴾ بجر الأرحام عطفا على محل الضمير دون إعادة الجار. وقد احتجوا بآيات أخرى وأقوال وأشعار عربية شاهدة لما ذهبوا إليه. وقد رجح مذهب البصريين أناس كثيرون منهم ابن مالك في تسهيله انظر في هذه المسألة الإنصاف المسألة رقم (٦٥) والبحر ٨/٤٢، والتسهيل ١٧٧، والكتاب ٢/٣٨٢ و٣٨٣..
٤ الكشاف ٣/٥٠٨..
٥ صالح بن إسحاق أبو عمر، أخذ عن الأخفش الأوسط، وسمع عن يونس وله فضل كبير في إظهار كتاب سيبويه. توفي سنة ٢٥٠ هـ وانظر نزهة الألباء ١٠١ وإنباه الرواة ٢/٨٠ ونشأة النحو ٩٢..
٦ الدر المصون ٤/٨٢٣ والهمع ١/١٣٩ والبحر المحيط ٨/٤٢..
٧ انظر السبعة ٥٩٥ والإتحاف ٣٨٩ والكشف لمكي ٢/٢٦٧..
٨ الفراء في المعاني ٢/٤٥..
٩ يقصد آيات الثانية..
١٠ البيان ٢/٣٦٣، ٣٦٤..
١١ في التبيان: أن يكون كرر آيات للتوكيد انظر..
١٢ المرجع السابق..
١٣ في ب أي تحريف..
١٤ الدر المصون ٤/٨٢٤..
١٥ قال في الثانية: وأجاز قوم أن يكون ذلك من باب العطف على عاملين. انظر التبيان السابق..
١٦ رفع آيات الثانية..
١٧ ذكر هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢/٣٦٣ والسمين في الدر ٤/٨٢٤ و٨٢٥ وقد ذكر الأول فقط أبو البقاء في التبيان ١١٥٠..
١٨ نسب أبو حيان هذا إلى أبي الحسن الأخفش ولم أعثر عليه في معاني القرآن عند تعرضه لتلك الآية وانظر البحر ٨/٤٣ وانظر في تلك المسألة مغني اللبيب ٢/٤٧٤ وانظر أيضا البيان ٢/٣٦٣ و٣٦٤ وشرح الكافية للرضي ١/٣٢٤، ٣٢٥..
وأما قوله :﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ فقد تقدم أنَّ الأخوين يقرآن آياتٍ بالكسر وهي تحتاج إلى إيضاح، فإن الناس تكلموا فيها كثيراً وخرّجوها على أوجه مختلفة، وبها استدل على جواز العطف على عاملين١ قال شهاب الدين : والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين، بل يجوز أن يستدل عليه أيضاً بقراءة الباقين كما سنقف عليه إنْ شَاءَ الله تعالى. فأما قراءة الأخوين ففيها أَوْجهُ :
أحدها : أن يكون «اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ » مجروراً ب «في » مضمرةً، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين٢ وحرف الجر إذا دلّ عليه دليل ( جاز٣ حذفه وأيضاً عمله وأنشد الإمام الأستاذ سيبويه :)
٤٤٣٣ ألآن قَربَّتْ تهْجُونَا وتَشْتُمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ٤
تقديره : وبالأَيامِ، لتقدم الباء في «بِكَ ». ولا يجوز عطفه على الكاف ؛ لأنه ليس من مذهبه العطف على الضمير المجرور، دون إعادة الجارّ٥، فالتقدير في هذه الآية :«وَفِي اخْتِلاَفِ آيَاتِ »، فآيات على ما تقدم من الوجهين في آيات قبلها العطف أو التأكيد. قالوا : ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله ( وَفِي اخْتِلافِ ) تصريحاً بفي٦. فهذان وجهان :
الثالث : أن يعطف «اخْتِلافِ » على المجرور بفي، وآيات على المنصوب بإن وبهذا هو العطف على عاملين، وتحقيقه على معمولي عاملين، وذلك أنك عطفت «اخْتِلاَفِ » على «خَلْقِ » وهو مجرور بفي فهو معمول عامل، وعطف «آياتِ » على اسم إنّ وهو معمول عامل آخر.
فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما «اخْتِلافِ » و«آياتٍ » على معمولين قبلهما وهما «خلق وآيات ».
وبظاهرها استدل على من جوّز ذلك كالأخفش٧. وفي المسألة أربعة مذاهب٨، المنع مطلقاً، وهو مذهب سيبويه، وجمهور البصريين، قالوا : لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عامليْن وهو لا يجوز ؛ لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة، ولا قائل به، ولأن حرف العطف ضعيف، فلا يَقْوَى أن ينوب عن عاملين، ولأن القَائِلَ بجواز ذلك يستضعفه والأحسن عنده أن لا يجوز، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله، ولأنه بمنزلة التَّعْدِيَتَيْنِ بمُعَدِّ واحد، وهو غير جائز٩.
قال ابن السراج١٠ : العطف على عاملين١١ خطأ في القياس غير مسموع من العرب، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار والتأكيد١٢. قال الرماني١٣ : هو كقولك : إنَّ فِي الدَّارِ زَيْداً وَالبَيْتِ زَيْداً، فهو جائز بالإجماع، وهذا الوجه الذي ذكره ابن السراج حَسَنٌ١٤ جداً لا يجوز أن يحمل كتاب الله إلا عليه وقد ثبتت القراءة بالكسر، ولا يعيب فيها في القرآن على وجه. والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تَنَاهى في العيب فلا يجوز حمل هذه الآية على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره١٥. قال شهاب الدين : وهذا الحَصْر منْهُ غير مُسَلَّم، فإن في الآية تخريجاتٍ أُخَر على ما ذكره ابنُ السراج، يجوز الحمل عليها١٦. وقال الزجاج١٧ ومثله في الشعر :
٤٤٣٤ أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارا١٨
وأنشد الفارسيّ للفرزدق :
٤٤٣٥ وبَاشَرُوا رَعْيَها الصَّلا بِلَبَانِهِ وَجَنْبَيْهِ حَرَّ النَّارِ مَا يتَحَرَّفُ١٩
وقول الآخر :
٤٤٣٦ اَوْصَيْتَ مِنْ بَرَّةً قَلْباً حَرًّا بِالكَلْبِ خَيْراً وَالحَمَاةِ شَرًّا٢٠
فأما البيت الأول فظاهره أنه عطف «وَنَارٍ » على «امرئ » المخفوض «بكل » و«نَاراً » الثانية على «أمْرءاً » الثاني، والتقدير : أتَحْسَبِينَ كُلَّ نار نَاراً، فقد عطف على معمولي عاملين.
والبيت الثاني : عطف فيه «وجَنْبَيْهِ » على «بِلَبَانِهِ » عطف حرّ النار «على الصَّلا » والتقدير : وبَاشَرَ بجَنْبَيْه حَرَّ النَّارِ.
والبيت الثالث : عطف فيه «الحَمَاةِ » على «الكلبِ » و «شرًّا » على «خيراً » تقديره : وأوْصَيْتَ بالحَمَاةِ شَرًّا٢١.
وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر، لكنه عورض بأن إعمال حرف الجر مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنه لا يجوز : مَرَرْتُ زَيْدٍ بخفض «زَيْدٍ » إلاَّ في ضرورة كقوله :
٤٤٣٧ إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ٢٢
يريد : إلى كليب، وقول الآخر :
٤٤٣٨. . . . . . . . . . . . . . تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ٢٣
أي إلى الأعلام.
فقد فر من شيء فوقع في أضعف منه، وأجِيب عن ذلك : بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويتِ الدّلالة عليه فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أردتموه في المِثَال والشِّعر.
والمذهب الثاني : التفضيل، وهو مذهب الأخفش، وذلك أنه يجوز بشرطين :
أحدهما : أن يكون أحد العاملين جاراً، والثاني٢٤ : أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل «بلا » مثال الأول : الآية الكريمة والأبيات المتقدمة، ولذلك استصوب المبرد٢٥ اشتهاده بالآية ومثال الفصل «بلا » قولك : مَا فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَلاَ الحُجْرَةِ عَمْرٌو. فلو فقد الشرطان، نحو : إنَّ زَيْداً شَتَم بِشْراً، وَوَاللهِ خَالِداً ( هِنْداً٢٦ ) أو فقد أحدهما، نحو : إنَّ زيداً ضَرَبَ بَكْراً، وخالداً بِشْراً، فقد نقل ابن مالك٢٧، الامتناع عن الجميع. وفيه نظر، لما سيأتي من الخِلاف.
الثالث : أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارًّا، وأن يكون متقدماً نحو الآية الكريمة، فلو لم يتقدم نحو : إنَّ زَيْداً في الدارِ وعمرو السوقِ، لم يَجُز٢٨، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله٢٩.
الرابع : الجواز مطلقاً، ويُعْزَى للفراء٣٠.
الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المذكورة : أن ينتصب «آيات » على الاختصاص٣١. قاله الزمخشري، كما سيأتي. وأما قراءة الرفع٣٢ ففيها أوجه :
أحدها : أن يكون الأول. والثاني : ما تقدم في ﴿ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.
الثالث : أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين، وذلك أن «اخْتِلاَفِ » عطف على «خَلْقكم » وهو معمول «لفِي » و«آيات » قبلها، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمول عاملين في هذه القراءة أيضاً٣٣.
قال الزمخشري : وقرئ :﴿ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ بالرفع والنصب على قولك : إنَّ زَيْداً فِي الدَّارِ وعمرو في السوق أو عمراً في السُّوق٣٤. قال : وأما قوله :﴿ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت، فالعاملان في٣٥ النصب ( إنَّ ) و( فِي )، أقيمت الواو مُقَامَهُما فعملت الجر في «اختلاف الليل والنهار » والنصب في «آيات » وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و ( في ) عملت الرفع في «آيات » والجر في «اختلاف »٣٦. ثُمَّ قال في توجيه النصب : والثاني : أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور٣٧.
والوجه الخامس : أن يرتفع «آياتٌ » على خبر ابتداء مضمر أي هِيَ آياتٌ٣٨. وناقشه أبو حيان فقال : ونسبة الجر٣٩ والرفع والجر والنصب للواو ليس بصحيح ؛ لأنّ الصحيحَ من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل٤٠، وأيضاً ناقش أبو شامة٤١ فقال : فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضاً يعني قراءة الرفع عطف على عاملين. وهما حرف «في » والابتداء المقتضي للرفع. ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة ؛ لأن الابتداء ليس بعامل لفظي٤٢.
وقرئ : واخْتِلاَفُ بالرفع آيَةٌ بالرفع، والتوحيد على الابتداء والخبر٤٣.
وكذلك قرئ : وما يَبُث مِنْ دَابَّةٌ آية بالتوحيد٤٤. وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطلحة وعِيسَى : وتصْرِيف الرِّيح كذا قال أبو حيان٤٥. قال شهاب الدين : وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضاً٤٦. وقد تقدم ذلك في سورة البقرة٤٧.

فصل


اختلاف الليل والنهار فيه وجوه :
الأول : تبديل النهار بالليل وبالعكس.
الثاني : زيادة طول النهار على طول الليل والعكس.
الثالث : اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.
قوله :﴿ وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ ﴾ يعني الرزق٤٨ الذي هو سبب أرزاق العباد ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ وهذا يدل على وجوب القول بوجود الفاعل المختار من وجوه :
أحدها : إنشاء السحاب وإنزال المطر فيه.
وثانيها : تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض.
وثالثها : تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة، وأغصانها، وأوراقها، وثمارها، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللّب، كالجَوْز، واللَّوز، ومنها ما يكون اللّب محيطاً بالقشر كالمِشْمِش والخوخ، ومنها ما يكون خالياً عن القشر كالتِّين. فتولد أقسام النبات على كثرة أقسامه وَتَبَايُنِها يدلّ على وجوب القول بوجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم.
قوله :﴿ وَتَصْرِيفِ الرياح ﴾ هي أقسام كثيرة منها الشرقية، والغربية والشّمالية، والجنوبية، ومنها الحارّة، والباردة، أياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. واعلم أنه تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ]. فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل، والتفاوت بين الوصفين من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال في سورة البقرة :﴿ إنَّ في خلق السموات والأرض ﴾ وقال ههنا :﴿ إن في السموات والأرض ﴾ والصحيح عند أهل السنة : إنَّ الخلق غير المخلوق، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق٤٩.
الثاني : أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل، وأهمل منها الفلك والسحاب، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما.
الثالث : أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل واحد منها بنظر تامٍّ سابقٍ.
الرابع : أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع : أحدها : للمؤمنين، وثانيها :«يوقنون ». وثالثها :«يعقلون ».
قال ابن الخطيب : وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ( بل أنتم٥٠ من طلاب الجَزْم٥١ واليقين، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاء فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل٥٢.
١ البحر المحيط ٨/٤٣ والدر المصون ٤/٨٢٥..
٢ السابق وانظر البيان لابن الأنباري ٢/٣٦٣، والكشاف ٣/٥٠٩..
٣ ما بين القوسين كله ساقط من ب وبدله كلمة "شعر"..
٤ من أبيات الكتاب الخمسين المجهولة القائل، وهو من البسيط وهو في ملحقات ديوان عمرو بن معديكرب ١٨٥، والشاهد: ّجر الأيام" عطفا على محل الكاف في "بك" على نية تكرار العامل إلا أنه حذف لتقدم ما يدل عليه وهو اختيار أهل البصرة ومتأخري كثير من النحاة كابن مالك كما سبق، وانظر الكتاب ٢/٣٨٣، والإنصاف ٤٦٤، وابن يعيش ٣/٧٨ و٧٩ والهمع ١/١٢٠ و٢/١٣٩والمقتضب ٩٦٠ والأشموني ٣/١١٥، والدر المصون ٤/٨٢٥..
٥ ظاهر عبارته يفيد جواز العطف بدون إعادة الجار ولكن على قلة قال: "ولا يحسن لك أن تقول: مررت بك أنت وزيد، كما جاء فيما أضمرت في الفعل نحو: قمت أنت وزيد لأن ذلك وإن كان قد أنزل منزلة آخر الفعل فليس من الفعل ولا من تمامه". ويقول أيضا: ومما يقبح أن يشركه المظهر علامة المضمر المجرور، وذلك قولك: مررت بك وزيد... فإذا حملنا عدم الحسن والقبح على المنع كان ذلك خاصا بالنثر في الاختيار أما في الشعر فذلك جائز عنده لأنه قال: وقد يجوز في الشعر، وأنشد شاهدا آخر قبل هذا الذي ذكره المؤلف انظر الكتاب ٢/٣٨١ و٣٨٢..
٦ انظر المعاني للفراء ٣/٤٥..
٧ انظر البيان ٢/٣٦٤ والتسهيل ١٧٨ والدر المصون ٣/٨٢٦ وإعراب القرآن للنحاس وينظر في تلك المسألة أيضا ٤/١٤٠ و١٤١..
٨ الهمع ٢/١٣٩ والمغني ٤٨٦ و٤٨٧..
٩ انظر في هذا كله الدر المصون ٤/٨٢٦..
١٠ محمد بن السري أبو بكر، نشأ ببغداد، وأخذ عن المبرد وغيره من مؤلفاته كتاب الأصول في النحو وشرح كتاب سيبويه مات سنة ٣١٦ وانظر إنباه الرواة ٣/١٤٥، ١٤٩..
١١ هذا تجوز في اللتعبير والأصح: معمولي عاملين..
١٢ الدر المصون ٤/٨٢٦ وإبراز المعاني ٦٨٣..
١٣ أبو الحسن علي بن عيسى، أخذ عن الزجاج وابن السراج وابن دريد وغيرهم شرح كتاب سيبويه، وشرح المقتضب للمبرد، والأصول لابن السراج، مات سنة ٣٨٤ هـ ببغداد انظر نشأة النحو ١٧٢ أو ١٧٣ وإنباه الرواة ٢/٢٩٤ ـ ٢٩٦..
١٤ في ب جيدا..
١٥ انظر إبراز المعاني ٦٨٣، والدر المصون ٤/٨٢٧..
١٦ قاله في المرجع السابق..
١٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٣١..
١٨ ينسب لأبي دؤاد جويرية بن الحجاج وإلى عدي بن زيد، وإلى جارية الحذافي. وهو من المتقارب، والشاهد: جر "نار" بالعطف على "امرئ" والأصل: وتحسين كل نار توقد نارا فيكون من العطف على معمولي عاملين؛ لأن نار الثانية معطوفة على "امرءا"..
١٩ من الطويل وأشده الفارسي للفرزدق في المسائل العسكرية ١٦٣..
٢٠ رجز لأبي النحم العجلي، وشاهد كسابقه من العطف على معمولي عاملين كما أوضح هو أعلى وانظر الدر المصون ٤/٨٢٧، وإبراز المعاني ٦٨٣، والمسائل العسكرية ١٦٣، وانظر أيضا ابن يعيش ٢/٩ والمقتضب ٧٢ والتصريح ٢/١٧٣ والهمع ١/١٧٤ والأشموني ٣/١٤٥..
٢١ انظر كل هذا التفصيل والتبيين في الدر المصون ٤/٨٢٨..
٢٢ من الطويل كسابق سابقه. ويعزى للفرزدق في هجاء نظيره جرير والشاهد: كليب فحذف حرف الجر، وأبقى عمله إا أن ذلك ضرورة شعرية لا يجوز القياس عليها. وانظر الهمع ٢/٣٦، ٨١ والتصريح ١/٢١٢، والأشموني ٢/٩٠، ٢٣٣، وتمهيد القواعد ٢/٥٨٣ و٥٩٨ وابن عقيل ١٠١ وابن الناظم ٩٦، وتوضيح المقاصد ٢/٥١، وأوضح المسالك ٩٤، والمغني ١١/٦٤٣ وديوانه ١/٤٢٠..
٢٣ عجز بيت من الكامل وصدره:
وكريمة من آل قيس ألفته
وهو مجهول قائله. وألفته: أعطيته ألفا، وتبذخ: تكبر وعلا. وشاهده كسابقه في إعمال حرف الجر، وهو محذوف، إلا ذلك ضرورة شعرية..

٢٤ في ب والثالث تحريف..
٢٥ كلامه في المقتضب يوافق كلام سيبويه في منع العطف على معمولي عاملين قال: ".... وأما الخفض فيمتنع لأنك تعطف بحرف واحد على عاملين، وهما الباء وليس فكأنك قلت: زيد في الدار والحجرة عمرو فتعطف على (في) والمبتدأ. وكان أبو الحسن الأخفش يجيزه وقد قرأ بعض القراء: ﴿واختلاف الليل والنهار... آيات لقوم يعقلون﴾ فعطف على "أن" وعلى "في" وهذا غير جائز عندنا". المقتضب ٤/١٩٥ والكامل ١/٢٨٧ و٣/٩٩٥..
٢٦ سقط من ب..
٢٧ قال: "وأجاز الأخفش العطف على عاملين إن كان أحدهما جارا، واتصل المعطوف بالعاطف، أو انفصل "بلا" والأصح المنع مطلقا، وما أوهم الجواز فجره بحرف مدلول عليه بما قبل العاطف. وانظر التسهيل ١٧٨ والكامل للمبرد ١/٢٨٧ و٣/٩٩ وانظر هذا كله في الدر المصون ٤/٨٢٨..
٢٨ وهو رأي المهدوي فيما نقله عنه ابن هشام في المغني وأجازه ابن هشام قال: "فإن كان الجار مؤخرا نحو: زيد في الدار، والحجرة عمرو، أو عمرو في الحجرة؛ فنقل المهدوي أنه ممتنع إجماعا وليس كذلك، بل هو جائز عند من ذكرنا". المغني ٤٨٦..
٢٩ وانظر المرجع السابق والدر المصون ٤/٨٢٩ والهمع ٢/١٣٩..
٣٠ وهو رأي الزجاج والكسائي أيضا المغني ٤٨٦..
٣١ الكشاف ٣/٥٠٩..
٣٢ رفع "آيات" الثالثة من الآية ٥..
٣٣ الدر المصون ٤/٨٢٩..
٣٤ في الكشاف: وعمرا في السوق أو عمرو عكس تلك العبارة التي أمامنا أعلى..
٣٥ في الكشاف: إذا نصبت..
٣٦ الكشاف ٣/٥٠٨ والدر المصون ٤/٨٢٩. وانظر في مسألة العطف على معمولي عاملين بتفصيل المغني ٤٨٦ إلى ٤٨٨..
٣٧ الكشاف المرجع السابق..
٣٨ ذكره الزمخشري في الكشاف أيضا والسمين في الدر المصون ٤/٨٢٩..
٣٩ في ب ونسبة الخبر تحريف..
٤٠ بالمعنى من البحر المحيط ٨/٤٣، وباللفظ من الدر المصون ٤/٨٢٩..
٤١ هو الشيخ عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر أبو محمد، وأبو القاسم المقدسي الدمشقي، المقرئ النحوي، الشيخ الإمام العالم العلامة، الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ، المعروف بأبي شامة، أخذ عن السخاوي علم الدين وغيره من المعاصرين، وأخذ عن غيره من المعاصرين المبرزين العلوم اللسانية والشرعية، مات مقتولا سنة ٦٦٥ هـ. انظر غاية النهاية ١/٣٧٥ و٣٦٦، ومقدمة كتابه إبراز المعاني ٧و ٨..
٤٢ انظر إبراز المعاني ٦٨٣ و٦٨٤ والدر المصون ٤/٨٣٠..
٤٣ من القراءات الشاذة ولم تنسب في الدر المصون المرجع السابق ولا في الكشاف ٣/٥٠٩ ولا في البحر المحيط ٨/٥٤٣ وعزاها صاحب شواذ القرآن إلى عبيد بن عمير، وزيد بن علي. انظر شواذ القرآن ٢٢١..
٤٤ انظر الكشاف والبحر والدر المصون المرجع السابق..
٤٥ البحر ٨/٤٣..
٤٦ قراءة متواترة انظر السبعة ١٧٣ والإتحاف ٢٨٩..
٤٧ من الآية ١٦٤ منها: "وتصريف الرياح والسحاب المسخر" وانظر اللباب ١/٢٦١ ب..
٤٨ في ب الغيث..
٤٩ وانظر الرازي ٢٧/٢٥٨ و٢٥٩..
٥٠ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..
٥١ في الرازي: الحق لا الجزم..
٥٢ انظر الرازي ٢٧/٢٥٩ و٢٦٠..
قوله تعالى :﴿ تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا ﴾ يجوز أن تكون «نتلوها » خبراً «لِتِلْكَ » و «آيَاتُ اللهِ »، بدل أو عطف بيان، ويجوز أن تكون «تِلْكَ آيَاتُ » مبتدأ وخبراً، و «نَتْلُوها » حال. قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه «تلك » من معنى الإرشاد ونحوه :﴿ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ [ هود : ٧٢ ]. قال أبو حيان : وليس نحو لأن في «وهَذَا بَعْلِي » حرف تنبيه ؛ فقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تَنَبَّهْ وأما تلك فليس فيها حرف تنبيه، ( فإذا كان حرف١ التنبيه عاملاً ) بما فيه من معنى التنبيه ؛ لأن الحرف قد يعمل في الحال، فالمعنى تَنَبَّهْ لزيدٍ في حال شَيْخِه٢ أو في حال قيامه.
وقيل : العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه٣ فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه إن كان هناك٤. قال شهاب الدين : بل الآية نحو : هَذَا بَعْلِي شَيْخاً من حَيْثِيَّةِ٥ نسبة العمل لاسم الإشارة غاية ما ثَمَّ أن في الآية الأخرى ما يَصْلُحُ أن يكون عاملاً، وهذا لا يَقْدَح في التنظير إذا قصدت جهةً مشتركةً، وأما إضمار الفعل فهو مشترك في الموضعين عند من يرى ذَلِكَ٦ قال ابن عطية : وفي «نَتْلُوها » حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة فيها. ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذا المعنى، فلا يكون فيها حذفُ مضاف٧.
وقرأ بعضهم : يَتْلُوهَا بياء الغيبة، عائداً على الباري تعالى٨.
قوله :«بالْحَقِّ » حال من الفاعل، أي ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي ملتبسةً بالحق. ويجوز أن تكون ( الباء ) للسببية فتتعلق بنفس «نَتْلُوهَا »٩.
قوله :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ ﴾ قال الزمخشري : أي بعد آيات الله، فهو كقولك : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، يريدون : كَرَمَ زَيْدٍ. وردَّه عليه أبو حيان بأنه ليس مراداً، بل المراد إعجاباً، وبأنَّ فيه إقحاماً١٠ للأسماء من غير ضرورة، قال : وهذا قلب لحقائق النَّحْو١١.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو وعاصمٌ في رواية «يُؤمِنُون » بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب١٢. و «فَبِأَيِّ » متعلق به، قدم لأن له صدر الكلام. واختار أبو عبيد الياء، لأن فيه غيبة، وهو قوله :﴿ يُوقِنُونَ ﴾، و ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾١٣.
فإن قيل : في أول الكلام خطاب، وهو قوله :﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ ﴾ قُلْنَا : الغيبة أقرب إلى الحرف المُخْتَلَفِ فيه فكان أولى١٤.

فصل


ومعنى الآية أن من لم ينتفع بهذه الآيات، فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به. وهذه الآية تبطل القول بالتقليد، وتوجب على المكلف على التأمل في دلائل دين الله١٥.
١ ما بين القوسين زيادة عما في البحر المحيط..
٢ في ب: شيخة..
٣ في ب : شيخة..
٤ البحر المحيط ٨/٤٣..
٥ في ب حيث وما هو أعلى موافق لما في الدر المصون لشهاب الدين..
٦ الدر المصون ٤/٣٠ وغالبية النحاة يرون عمل حرف التنبيه واسم الإشارة في الحال وممن منع ذلك السهيلي. انظر ابن يعيش ٢/٥٨، وشرح الرضي ١/١٠١، والهمع ١/٢٤٤، والأشموني ٢/١٠..
٧ البحر المحيط ٨/٤٣..
٨ لم تنسب في البحر المحيط ٨/٤٣ ولا في الكشاف ٣/٥٠٩..
٩ الدر المصون ٣/٨٣١..
١٠ في النسختين إلحام خطأ..
١١ البحر المحيط المرجع السابق ٨/٤٤..
١٢ قراءة متواترة انظر السبعة ٥٩٤ و٥٩٥ والإتحاف ٣٨٩..
١٣ الرازي ٢٧/٢٦٠..
١٤ المرجع السابق..
١٥ الكشاف ٣/٥٠٩..
قوله: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ... ﴾ الآية لما بين الآيات للكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ والأفاك الكذاب، والأثيم المُبَالغ في اقتراف الإثم، وهو أن يبقى مصراً على الإنكار، والاستكبار. قال المفسرون: يعني النَّظْر بن الحارث، والآية عامة في من كان موصوفاً بهذه الصفة.
قوله: «يَسْمَعُ» يجوز أ، يكون مستأنفاً، أي هو يسمع، أو دون إضمار «هو» وأن يكون حالاً من الضمير في «أثيم» وأن يكون صفة.
قوله: «تُتْلَى عَلَيْهِ» حال من «آيَاتِ اللهِ»، ولا يجيء فيه الخلاف وهو أنه يجوز أن يكون في محل نصب مفعولاً ثانياً؛ لأن شرط ذلك أن يقع بعدها ما لا يسمع نحو «سَمِعْتُ زَيْداً يَقْرَأ» أما إذا وقع بعدها ما يسمع، نحو: سَمِعْتُ قِرَاءَةَ زَيْدٍ يَتَرنَّمُ بِهَا فهي متعدية لواحد فقط، و «الآيات» مما يسمع.
قوله: «ثمَّ يُصِرُّ» قال الزمخشري: فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله: ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً﴾ قلتُ: كمعناه في قول القائل:
٤٤٣٩ -........................ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
وذلك أن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفِرار منها، وأما زورانها والإقدام على مزاولتها فامر مستبعد، فمعنى ثم الإيذان بأن فعل المقدم عليها
350
بعدما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق من تُلِيَتْ عليه وسَمِعَها كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستنكاره عن الإيمان بها.
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن يتكون حالاً، والأصل كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، ومحل الجملة النصب على الحال يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السَّامِع ثم قال: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
قوله: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً﴾ العامة على فتح العين وكسر اللام خفيفة مبنياً للفاعل. وقتادةُ ومطر الوراق عُلِّم مبنياً للمفعول مشدداً.
قوله: (اتَّخَذَهَا) الضمير المؤنث فيه وجهان:
أحدهما: أنه عائد على «آيَاتِنَا» يعني القرآن.
والثاني: أنه يعود على «شَيْءٍ» وإن كان مذكراً، لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:
٤٤٤٠ - نَفْسي بِشَيْءٍ مِن الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ اللهُ وَالْقَائِمُ المَهْدِيُّ يَقْضِيهَا
لأنه أراد «بشَيْء» جاريةً يقال لها: عتبة.

فصل


المعنى ذلك الشيء هُزُؤٌ، إلا أنه تعالى قال: اتَّخَذَها للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحسّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد.
قوله: «أُولَئِكَ» إشارة إلى معنى كل أفَّاكٍ أَثِيم ليدخل فيه جميع الأفاكين فَحُمِلَ أوَّلاً على لفظها فأفرد، ثم على معناها فجمع، كقوله: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣].
قوله: ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ لما قال: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وصف كيفية ذلك العذاب فقال: من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم لأنهم في الدنيا. قال الزمخشري هي اسم للجهة التي يواجه بها الشخص من خَلْفه أو من قُدَّامِهِ. ثم بين أن ما ملكوه في
351
الدنيا لا ينفعهم فقال: ﴿وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً﴾ أي من الأموال.
قوله: ﴿وَلاَ مَا اتخذوا﴾ عطف على ما كسبوا و «ما» فيهما إما مصدرية أو بمعنى الذي أي لا يغني كَسْبُهُمْ ولا اتِخّاذُهُمْ، أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه.
فإن قِيلَ: إنه قال قبل هذه الآية: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ثم قال ههنا: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فما الفرق بينهما؟
فالجواب: كون العذاب مُهِيناً يدُلُّ على حصول الإهانة مع العذاب وكَوْنهُ عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضَّرَر.
قوله: «هَذَا هُدًى» يعني هذا القرآ هدى أي كامل في كونه هدى من الضلالة ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ وقد تقدم الكلام على الرجز الأليم في «سبأ» والرجز أَشَدُّ العذاب لقوله تعالى: ﴿رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ [البقرة: ٥٩] وقوله: ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤]. وقرىء «أليم» بالجر، والرفع، أما الرفع فتقديره لهم عذاب أليم، ويكون (المراد) من الرجز النَّجَسُ الذي هو النجاسة، ومعنى النجاسة فيه قوله: ﴿ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦] وكأن المعنى لهم عذاب من تَجرُّع رجسٍ أو شرب رجس، فيكنون تنبيهاً للعذاب، وأما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم، وإذا كان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً.
352
قوله :«يَسْمَعُ » يجوز أ، يكون مستأنفاً، أي هو يسمع، أو دون إضمار «هو » وأن يكون حالاً من الضمير في «أثيم » وأن يكون صفة.
قوله :«تُتْلَى عَلَيْهِ » حال من «آيَاتِ اللهِ »١، ولا يجيء فيه الخلاف وهو أنه يجوز أن يكون في محل نصب مفعولاً ثانياً ؛ لأن شرط ذلك أن يقع بعدها ما لا يسمع نحو «سَمِعْتُ زَيْداً يَقْرَأ » أما إذا وقع بعدها ما يسمع، نحو : سَمِعْتُ قِرَاءَةَ زَيْدٍ يَتَرنَّمُ بِهَا فهي متعدية لواحد فقط، و «الآيات » مما يسمع٢.
قوله :«ثمَّ يُصِرُّ » قال الزمخشري : فإن قلتَ : ما معنى «ثم » في قوله :﴿ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ﴾ قلتُ : كمعناه في قول القائل :
٤٤٣٩. . . . . . . . . . . . . . يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا٣
وذلك أن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفِرار منها، وأما زورانها والإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد، فمعنى ثم الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق من تُلِيَتْ عليه وسَمِعَها كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستنكاره٤ عن الإيمان بها٥.
قوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالاً٦، والأصل كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، ومحل الجملة النصب على الحال يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السَّامِع٧ ثم قال :﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
١ هذه الأوجه الإعرابية ذكرها أبو البقاء في التبيان ١١٥١، والسمين في الدر ٤/٨٣١..
٢ الدر المصون المرجع السابق، والذي عدها من النواسخ الأخفش والفارسي وابن بابشاذ، وابن عصفور وابن الصائغ، وابن أبي الربيع وابن مالك، انظر الهمع ١/١٥٠..
٣ سبق هذا البيت أنه لجعفر بن علبة الحارثي من الطويل وصدره:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة
وانظر كا ما في هنا أعلى بتوضيح من المؤلف نقلا عن الزمخشري ٣/٥٠٩ والدر المصون ٤/٨٣١..

٤ في ب واستكباره وهو الموافق لما في الكشاف..
٥ انظر الكشاف ٣/٥٠٩..
٦ الكشاف المرجع السابق والتبيان ١١٥١، ومشكل إعراب القرآن ٢/٣٩٥..
٧ قال بهذا الأصل الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٧/٢٦١..
قوله :﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ﴾ العامة على فتح العين وكسر اللام خفيفة مبنياً للفاعل. وقتادةُ ومطر الوراق عُلِّم مبنياً للمفعول مشدداً١.
قوله :( اتَّخَذَهَا ) الضمير المؤنث فيه وجهان :
أحدهما : أنه عائد على «آيَاتِنَا » يعني القرآن.
والثاني : أنه يعود على «شَيْءٍ » وإن كان مذكراً٢، لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية :
٤٤٤٠ نَفْسي بِشَيْءٍ مِن الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ اللهُ وَالْقَائِمُ المَهْدِيُّ يَقْضِيهَا٣
لأنه أراد «بشَيْء » جاريةً يقال لها : عتبة.

فصل


المعنى ذلك الشيء هُزُؤٌ، إلا أنه تعالى قال : اتَّخَذَها للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحسّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمَّد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد٤.
قوله :«أُولَئِكَ » إشارة إلى معنى كل أفَّاكٍ أَثِيم ليدخل فيه جميع الأفاكين فَحُمِلَ أوَّلاً على لفظها فأفرد، ثم على معناها فجمع، كقوله :﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٣ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فإن قِيلَ : إنه قال قبل هذه الآية :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ ثم قال ههنا :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ فما الفرق بينهما ؟
فالجواب : كون العذاب مُهِيناً يدُلُّ على حصول الإهانة مع العذاب، وكَوْنهُ عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضَّرَر٣.


١ قراءة شاذة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٨..
٢ الكشاف ٣/٥٠٩..
٣ من البسيط له، ويروى "يكفيها" بدل يقضيها، والشاهد: يقضيها فلم يقل: يقضيه ولكنه أنث وانظر الكشاف ٣/٥١٠ وشرح شواهده ٥٦٢ والبحر المحيط ٨/٤٤، والحماسة البصرية ١/٥٥١ والديوان ٣٤٧..
٤ الرازي ٢٧/٢٦١ والكشاف ٣/٥٠٩..
قوله :﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾ لما قال :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ وصف كيفية ذلك العذاب فقال : من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم ؛ لأنهم في الدنيا. قال الزمخشري هي اسم للجهة التي يواجه بها الشخص من خَلْفه أو من قُدَّامِهِ١. ثم بين أن ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال :﴿ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً ﴾ أي من الأموال.
قوله :﴿ وَلاَ مَا اتخذوا ﴾ عطف على ما كسبوا و «ما » فيهما إما مصدرية أو بمعنى الذي أي لا يغني كَسْبُهُمْ ولا اتِخّاذُهُمْ، أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فإن قِيلَ : إنه قال قبل هذه الآية :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ ثم قال ههنا :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ فما الفرق بينهما ؟
فالجواب : كون العذاب مُهِيناً يدُلُّ على حصول الإهانة مع العذاب، وكَوْنهُ عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضَّرَر٣.


١ الكشاف ٣/٥١٠ واللفظ لفظ الرازي في ٢٧/٢٦١ وفي الكشاف: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص. الخ.. الكشاف ٣/٥١٠..
٢ التبيان ١١٥١..
قوله :«هَذَا هُدًى » يعني هذا القرآن هدى أي كامل في كونه هدى من الضلالة ﴿ والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ وقد تقدم الكلام على الرجز الأليم في «سبأ » والرجز أَشَدُّ العذاب لقوله تعالى :﴿ رِجْزاً مِّنَ السمآء ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] وقوله :﴿ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٤ ]. وقرئ «أليم » بالجر، والرفع١، أما الرفع فتقديره لهم عذاب أليم، ويكون ( المراد )٢ من الرجز النَّجَسُ الذي هو النجاسة، ومعنى النجاسة فيه قوله :﴿ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٦ ] وكأن المعنى لهم عذاب من تَجرُّع رجسٍ أو٣ شرب رجس، فيكون تنبيهاً للعذاب، وأما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم، وإذا كان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً٤.
١ ذكرها الزمخشري والرازي في تفسيرهما الأول في الكشاف ٣/٥١٠ والثاني في التفسير الكبير ٢٧/٢٦٢..
٢ زيادة للسياق..
٣ في أ "أي" تحريف..
٤ ذكر هذه التوجيهات الرازي في مرجعه السابق..
قوله تعالى: ﴿الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ... ﴾ الآية لما ذكر تعالى الاستدلال بكيفية جَرَيَان الفلك على وجه البحر؛ وذلك لا يحصل إلا بتسخير ثلاثة أشياء: أحدها: الرياح التي توافق المراد. وثانيها: خلق وجه الماء على المَلاَسَةِ التي تجري عليها الفُلك. وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تَغْرقُ
352
عنه. وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ولا بدّ من موجود قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ إما بالتجارة وإما الغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو لاستخراج اللَّحم الطَّرِيِّ.
قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي خلقها مسخرة لنا. أي لنفعنا.
قوله: «جميعاً» حال من ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ أو توكيد. وقد عدها ابن مالك في أَلْفَاظِهِ و «منه» يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة ل «جميعاً» وأن يتعلق «بسَخَّر» أي هو صادر من جهته ومن عنده. وجوَّز الزمخشري في «منه» أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُنَّ جَمِيعاً منه، وأن يكون ﴿وَمَا فِي الأرض﴾ مبتدأ و «منه» خبره.
قال أبو حيان: وهَذَانِ لا يجوزان إلاَّ على رأي الأخفش، من حيث إنَّ الحال تقدمت يعني «جَمِيعاً» فقدمت على عاملها المعنوي يَعْنِي الجَار فهي نظير: زَيْدٌ قَائِماً فِي الدَّارِ والعامة على «مِنْهُ». وابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بكسر الميم وتشديد النون ونصب التاء. جعله مصدراً مِنْ: «مَنَّ يَمُنُّ مِنَّةً» فانتصبا به عنده على المصدر المؤكد، وإما بعامل مضمر، وإما بسخَّر لأنه بمعناه. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى بان عباس مظلم. قال شهاب الدين: قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جلة غير ابن عباس، فنقلها بن خالويه عنه وعن عُبَيْد بْنِ عُمَيْر ونقلها صاحب اللوامح وابن جني عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو والجَحْدَريّ وعبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر. وقرأ
353
مُسْلِمَةُ بْنُ مَحَارِب كذلك إلا أنه رفع التاء جعلها خَبَر ابْتداءٍ مضمر، أي هي مِنَّةً.
وقرأ أيضاً في رواية أخرى فتح الميم وتشديد النون و «ها» كناية مضمومة جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى. ورفعه من وجهين:
أحدهما: بالفاعلية بسَخَّر، أي سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأشياءَ مَنُّهُ عَلَيْكُمْ.
والثاني: أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُو، أو ذَلِكَ مَنُّهُ عليكم إنَّ في ذَلِكَ ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ﴾ تقدم نظيره في سورة إبراهيمَ، قال ابن عباس: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَغْفِرُوا لاَ يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْدالله بْنَ أُبَيِّ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها: المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له: ما حَبَسَك؟ فقال: غُلام عمر قعد على طَرف البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي، وقُرَبَ أبي بكر، فقال عبد الله بن أُبَيِّ: مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر، فاشتمل بسيفه، يريد التوجه (له) فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: إنَّ رَجُلاًمن بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) بمكَّةَ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو والتَّجَاوز، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قال: احتاجَ رَبَّ محمَّد، فمسع ذلك عُمَرُ، فاشتمل على سيفه، وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه سولم إليه فردَّه. وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ: نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل مكة كانوا في آَذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال.
354
قال ابن الخطيب: وإنما قالوا بالنسخ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً. والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وقوله: ﴿لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾ قال ابن عباس: لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية وتقدير تفسير «أيام الله» عند قوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ [إبراهيم: ٥].
قوله: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْماً﴾ قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ: لنَجْزِي بنون العظمة، أي لنَجْزي نَحْنُ. وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل؛ أي ليجزي اللهُ. وأبو جعفر بخلاف عنه وشبيةُ وعَاصمٌ في رواية كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب «قوماً». وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير المفعول الثاني، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره: ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ، ونظيرهن: الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً.
الثاني: أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ. وفيه نظر لأنه لا يترك المفعول به، ويقام المصدر، لا سيما مع عدم التصريح به.
الثالث: أن القائم مقامه الجار والمجرور، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا:
٤٤٤١ -............................ لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلاَبَا
355
و:
٤٤٤٢ - لَمْ يُعْنَ بالْعَلْيَاءِ إلاَّ سَيِّدَا والبصريون لا يُجِيزُونَه.

فصل


المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير.
فإن قيل: ما الفائدة من تنكير «قَوْماً» مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ﴾ ؟
فالجواب: أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم، كأنه قيل: ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات، والتجاوز عن المؤذيات، وتجرع المكروه، كأنه قيل: لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن. ثم ذكر الحكم العام فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ﴾ وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ﴿وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ مثل ضربه الله للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾.
356
قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي خلقها مسخرة لنا. أي لنفعنا.
قوله :«جميعاً » حال من ﴿ ما في السموات وما في الأرض ﴾ أو توكيد١. وقد عدها ابن مالك في أَلْفَاظِهِ٢ و «منه » يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة ل «جميعاً » وأن يتعلق «بسَخَّر » أي هو صادر من جهته ومن عنده٣. وجوَّز الزمخشري في «منه » أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُنَّ جَمِيعاً منه، وأن يكون ﴿ وَمَا فِي الأرض ﴾ مبتدأ و «منه » خبره٤.
قال أبو حيان : وهَذَانِ لا يجوزان إلاَّ على رأي الأخفش، من حيث إنَّ الحال تقدمت يعني «جَمِيعاً » فقدمت على عاملها المعنوي يَعْنِي الجَار فهي نظير : زَيْدٌ قَائِماً فِي الدَّارِ٥ والعامة على «مِنْهُ ». وابن عباس ( رضي الله عنهما )٦ بكسر الميم وتشديد النون ونصب التاء٧. جعله مصدراً مِنْ :«مَنَّ يَمُنُّ مِنَّةً » فانتصبا به عنده على المصدر المؤكد، وإما بعامل مضمر، وإما بسخَّر لأنه بمعناه٨. قال أبو حاتم : سند٩ هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم١٠. قال شهاب الدين : قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جلة غير ابن عباس، فنقلها بن خالويه١١ عنه وعن عُبَيْد بْنِ عُمَيْر ونقلها صاحب اللوامح١٢ وابن جني١٣ عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو والجَحْدَريّ وعبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر١٤. وقرأ مُسْلِمَةُ١٥ بْنُ مَحَارِب كذلك إلا أنه رفع التاء جعلها خَبَر ابْتداءٍ مضمر، أي هي مِنَّة١٦.
وقرأ أيضاً في رواية أخرى فتح الميم وتشديد النون و «ها » كناية مضمومة جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى١٧. ورفعه من وجهين :
أحدهما : بالفاعلية بسَخَّر، أي سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأشياءَ مَنُّهُ عَلَيْكُمْ١٨.
والثاني : أن يكون خبر ابتداء مضمر، أي هُو، أو ذَلِكَ١٩ مَنُّهُ عليكم إنَّ في ذَلِكَ ﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
١ الدر المصون ٤/٨٣٢..
٢ وشرط إضافتها هي كل وعامة إلى الضمير قال: ومجيئه في الغرض الثاني (وهو التوكيد المعنوي) تبعا لذي أجزاء يصح وقوع بعضها موقعه مضافا إلى ضميره بلفظ "كل" أو جميع "أو عامة". انظر التسهيل ١٦٤..
٣ التبيان ١١٥١، والكشاف ٣/٥١٠..
٤ المرجع السابق..
٥ بالمعنى من البحر المحيط ٨/٤٥، ووجدت في شرح الكافية للعلامة الرضي: "وأجازه الأخفش بشرط تقدم المبتدأ على الحال نحو: زيد قائما في الدار، وذلك بناء على مذهبه من قوة الظرف حتى جاز أن يعمل عنده بلا اعتماد في الظاهر في نحو: في الدار زيد". شرح الكافية ١/٢٠٤..
٦ زيادة من أ..
٧ شاذة من الأربع عشر وانظر الإتحاف ٣٩٠ ومختصر ابن خالويه ١٣٨ والمحتسب ٢/٢٦٢..
٨ انظر المحتسب السابق، والدر المصون ٤/٨٣٣..
٩ في ب مسند..
١٠ في البحر المحيط ظلم، والرواية تبعا لصاحب الدر المصون، انظر الدر المرجع السابق والبحر ٨/٤٥..
١١ مختصر ابن خالويه ١٣٨..
١٢ انظر البحر المحيط ٨/٤٥..
١٣ المحتسب ٢/٢٦٢..
١٤ عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر أبو هاشم الليثي المكي تابعي، جليل، وردت الرواية عنه في حروف القرآن مات سنة ١١٣ هـ انظر غاية النهاية ٢/٤٣١، وانظر الدر المصون ٤/٨٣٣..
١٥ هو مسلمة بن عبد الله بن محارب أبو عبد الله الفهري البصري، النحوي، له اختيار في القراءة قرأ عليه شهاب الدين بن شرنفة، وكان من علماء العربية انظر غاية النهاية ٢/٢٩٨..
١٦ البحر المحيط ٨/٤٥ وهي قراءة شاذة وأوردها أيضا نقلا عن البحر صاحب الدر المصون ٤/٨٣٣..
١٧ المحتسب ٢/٢٦٢ والدر المصون المرجع السابق..
١٨ هذا توجيه أبي الفتح في مرجعه السابق..
١٩ هذا توجيه أبي حاتم فيما نقله عنه أيضا ابن جني في المرجع السابق وانظر الدر المصون ٤/٨٣٣..
قوله تعالى :﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ تقدم نظيره في سورة١ إبراهيمَ، قال ابن عباس : رضي الله عنهما المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يَغْفِرُوا. لاَ يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْد الله بْنَ أُبَيِّ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها : المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له : ما حَبَسَك ؟ فقال٢ : غُلام عمر قعد على طَرف البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي، وقُرَبَ أبي بكر، فقال عبد الله بن أُبَيِّ : مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر، فاشتمل بسيفه، يريد التوجه ( له )٣ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل : إنَّ رَجُلاً من بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب ( رضي الله عنه )٤ بمكَّةَ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو والتَّجَاوز، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] قال : احتاجَ رَبّ محمَّد، فسمع ذلك عُمَرُ، فاشتمل على سيفه، وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فردَّه. وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ : نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم، فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال٥.
قال ابن الخطيب : وإنما قالوا بالنسخ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا، فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً. والأقرب أن يقال : إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية٦ وقوله :﴿ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله ﴾ قال ابن عباس : لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية٧ وتقدير تفسير «أيام الله » عند قوله :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ﴾ [ إبراهيم : ٥ ].
قوله :﴿ لِيَجْزِيَ قَوْماً ﴾ قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ : لنَجْزِي٨ بنون العظمة، أي لنَجْزي نَحْنُ٩. وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل ؛ أي ليجزي اللهُ. وأبو جعفر بخلاف عنه وشبيةُ وعَاصمٌ في رواية كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب «قوماً »١٠. وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمير المفعول الثاني، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره : ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ، ونظيرهن : الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً١١.
الثاني : أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ١٢. وفيه نظر ؛ لأنه لا يترك المفعول به، ويقام المصدر، لا سيما مع عدم التصريح به.
الثالث : أن القائم مقامه الجار والمجرور١٣، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا :
٤٤٤١. . . . . . . . . . . . . . . *** لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلاَبَا١٤
و :
٤٤٤٢ لَمْ يُعْنَ بالْعَلْيَاءِ إلاَّ سَيِّدَا١٥ ***. . .
والبصريون لا يُجِيزُونَه.

فصل


المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير.
فإن قيل : ما الفائدة من تنكير «قَوْماً » مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله :﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ ؟
فالجواب : أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم، كأنه قيل : ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات، والتجاوز عن المؤذيات، وتجرع المكروه، كأنه قيل : لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن.
١ يقصد قوله: ﴿قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة﴾ من الآية ٣١..
٢ في ب قال..
٣ سقط من ب..
٤ زيادة من أ..
٥ السابق..
٦ الرازي ٢٧/٢٦٣..
٧ السابق..
٨ في ب ليجزي بالياء وهو غير مراد..
٩ وهذه قراءة متواترة صاحب الكشف في ٢/٢٦٨ وانظر أيضا السبعة ٥٩٤ و٥٩٥، والإتحاف ٣٩٠ ومعاني الفراء ٣/٤٦..
١٠ انظر هذه القراءة في الإتحاف ومعاني الفراء السابقين وهي الأربع فوق العشر وقد ذكرها بدون نسبة الزمخشري في الكشاف ٣/٥١١..
١١ التبيان ١١٥٢ والدر المصون ٤/٨٣٤..
١٢ الكشاف ٣/٥١١ والبحر المحيط ٨/٤٥، والبيان ٢/٣٦٥ ومعاني الفراء ٣/٤٦ ولم يرضه أبو البقاء في التبيان ١١٥٢ قال: "وهو بعيد"..
١٣ الدر المصون ٤/٨٣٤..
١٤ عجز بيت من الوافر، نسب لجرير وليس بديوانه وصدره:
فلو ولدت قفيرة جرو كلب
وقفيرة ـ مصغرا ـ أم الفرزدق ـ والجرو ولد السباع، ومنها الكلب والمعنى: في الذم والتحقير. والشاهد: لسب بذلك حيث ناب الجار والمجرور، وهو بذلك عن الفاعل مع وجود المفعول وهو "الكلاب" منصوبة، وانظر الدر المصون ٤/٨٣٤ والخصائص ١/٣٩٧ وابن يعيش ٧/٧٥، والهمع ١/١٦٢..

١٥ رجز وهو لرؤبة وهو من الأبيات المشهورة في النحو، وقد ورد الفعل مضبوطا بالفتح فتح الياء "يعن" وعليه فلا شاهد حينئذ. والشاهد: لم يعن بالعلياء فأناب الجار والمجرور وهو بالعلياء مكان الفاعل المحذوف بدليل نصب "سيدا" وهذا حجة للكوفية والأخفش في نيابة الجار والمجرور مكان الفاعل مع وجود المفعول. قال أبو الفتح في الخصائص: "وأجاز أبو الحسن ضرب الضرب الشديد زيدا، ودفع الدفع الذي تعرف إلى محمد، وقتل القتل يوم الجمعة أخاك، ونحو هذه من المسائل، ثم قال: وهو جائز في القياس وإن لم يرد به الاستعمال" وانظر الخصائص ١/٣٩٧، وابن يعيش ٧/٧٥ والهمع ٢/١٦٢ وانظر البيت أيضا في اللسان (عنا) ٣١٤٦ و٣١٤٧ والأشموني ٣/٦٨، والتصريح ١/٢٩١ وملحقات ديوان رؤبة ١٧٣..
ثم ذكر الحكم العام فقال :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ﴿ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ مثل ضربه الله للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين ﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾ يعني التوراة ﴿والحكم والنبوة﴾ والمراد بهذه الآية أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على نبي إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبي البغي والحسد، والمقصود منه أن يبين أن طريقة قومِهِ كطريقة مَنْ تَقَدَّم. واعلم أن المراد بالكتاب التوراة أما الحكم، فقيل: المراد به العِلْم والحُكْمُ.
وقيل: المراد العلم بفصل الحكومات. وقيل: معرفة أحكام الله وهو علم الفقه. وأما
356
النبوة فمعلومة ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾ الحَلاَلاَت، يعني المَنَّ والسَّلْوا ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين﴾. قال المفسرون: على عالَمِي زمانهم قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحبَّ إليه منهم.
ثم قال: ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني العلم بمَبْعَثِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما بين لهم ممن أمره وأنه يهاجر من تِهامةَ إلى يثربَ، ويكون أنصاره من أهل يثربَ. وقيل: المراد بالبيِّنات المعجزات القاهرة على صحة نبوتهم والمراد معجزات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ وتقدم تفسير هذا في سورة «حم عسق». والمراد من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههُنَا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما مقصودهم طلب الرِّيَاسَةِ والتَّقَدُّم، فيجوز أنه علموا ثم عاندوا. ويجوز أن يريد بالعلم الإدلة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحقَّ، لكنه اختلفوا وأظهروا النزاع على وجه الحسد، ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ والمعنى أنه لا ينبغي أن يغتر المُبْطِل بِنعَم الدنيا، فإنها وإن ساوت نِعَمَ الملحقّ أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه وذلك كالزجر لهم. ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً، أمَرَ رسوله بأن يَعْدِلَ عن تلك الطريقة، وأن يتمسَّك بالحقّ وأن لا يكون له غَرَض سوى إظهار الحق فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر﴾ أي جعلناك يا محمد على سنة وطريقة بعد موسى «مِنَ الأَمْر» من الدِّين ﴿فاتبعها وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ يعني مراد الكافرين وأديانهم الخبيثة. قال الكلبي: إن رؤساءَ قريشٍ قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بمكة ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفْضَلَ منْك وأسَنّ، فأَنْزَل الله تَعَالَى هذه الآية.
قوله: «عَلَى شَرِيعةٍ» هو المفعول الثاني لحَعَلْنَاك والشريعة في الأصل ما يرده الناس من الماء في الأنهار، ويقال لذلك الموضع شريعة، والجمع شرائع قال:
357
ثم قال :﴿ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ يعني العلم بمَبْعَثِ محمد صلى الله عليه وسلم وما بين لهم ممن أمره وأنه يهاجر من تِهامةَ إلى يثربَ، ويكون أنصاره من أهل يثربَ. وقيل : المراد بالبيِّنات المعجزات القاهرة على صحة نبوتهم والمراد معجزات موسى عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ وتقدم تفسير هذا في سورة «حم عسق ». والمراد من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة ؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههُنَا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف ؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما مقصودهم طلب الرِّيَاسَةِ والتَّقَدُّم، فيجوز أنه علموا ثم عاندوا. ويجوز أن يريد بالعلم الأدلة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحقَّ، لكنهم اختلفوا وأظهروا النزاع على وجه الحسد، ثم قال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ والمعنى أنه لا ينبغي أن يغتر المُبْطِل بِنعَم الدنيا، فإنها وإن ساوت نِعَمَ المحقّ أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه وذلك كالزجر لهم.
١ زيادة من أ..
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً، أمَرَ رسوله بأن يَعْدِلَ عن تلك الطريقة، وأن يتمسَّك بالحقّ وأن لا يكون له غَرَض سوى إظهار الحق فقال :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر ﴾ أي جعلناك يا محمد على سنة وطريقة بعد موسى «مِنَ الأَمْر » من الدِّين ﴿ فاتبعها وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني مراد الكافرين وأديانهم الخبيثة. قال الكلبي : إن رؤساءَ قريشٍ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفْضَلَ منْك وأسَنّ، فأَنْزَل الله تَعَالَى هذه الآية١.
قوله :«عَلَى شَرِيعةٍ » هو المفعول الثاني لجعَلْنَاك. والشريعة في الأصل ما يرده الناس من الماء في الأنهار، ويقال لذلك الموضع شريعة، والجمع شرائع قال :
٤٤٤٣ - وَفِي الشَّرَائِع مِنْ جَيْلاَن مُقْتَنَصٌ رَثٌّ الثِّيابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ
٤٤٤٣ وَفِي الشَّرَائِع مِنْ جَيْلاَن مُقْتَنَصٌ رَثٌّ الثِّيابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ٢
فاستعير ذلك للدين، لأن العباد يردون ما يحيى٣ به نفوسهم٤.
١ وانظر تفسير الإمام العلامة الفخر الرازي ٢٧/٢٦٥..
٢ من بحر البسيط، ولم أعرف قائله وشاهده: أن الشرائع جمع شريعة وهو موضع ومكان المياه وانظر البحر المحيط ٨/٣٦ والدر المصون ٤/٨٣٥..
٣ في ب "يخفى" تحريف..
٤ وانظر الدر المصون ٤/٨٣٥..
قوله :﴿ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي اتبعت أهواءهم ﴿ وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ والمعنى إنك لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب، وهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك١، وإنَّ الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة، فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب، وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم٢.
١ في أ عليك والتصحيح من ب..
٢ الرازي ٢٧/٢٦٥ و٢٦٦..
فاستعير ذلك للدين، لأن العباد يردون ما يحيى به نفوسهم.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً﴾ أي اتبعت أهواءهم ﴿وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ والمعنى إنك لو ملت أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وإنَّ الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة، فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثوب، وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم.
قوله
تعالى
: ﴿هذا
بَصَائِرُ﴾
أي هذا القرآن، جمع خَبَرُهُ باعتبار ما فيه. وقرىء: «هَذِه» رجوعاً إلى الآيات ولأن القرآن بمعناها كقوله:
٤٤٤٤ -.......................... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ؟
لأنه بمعنى الصيحة، والمعنى بصائر للناس، أي معالم للناس في الحُدُودِ والأحكام يبصرون بها. وتقدم تفسيره في سورة الأعراف ﴿وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ هدىة من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن اتقى وآمن.
358
قوله: «أَمْ حَسِبَ» أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها، أو بالهمزة وَحْدَاها وتقدم تحقيق هذا.
قوله: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» هنو المفعول الثاني للجَعْل، أي أن نَجْعَلَهُمْ كائنين كالذين آمنوا أي لا يحسبون ذلك. وَقَدْ تقدم في سورة الحج أنَّ الأخَوَيْنِ وحفصاً قرأوا هنا: سَوَاءً بالنصب والباقون بالرفع. وتقدم الوعد عليه بالكلام هنا فنقول: أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ينتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما: «كَالَّذِينَ آمَنُوا» ويكون المفعول الثاني للجعل «كالذين آمنوا» أي أحسبواأنْ نَجْعَلَهُم مثلهم في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ؟ ليس الأمر كذلك.
الثاني: أن يكون «سواءً» هو المفعول للجَعْل. و «كَالَّذِينَ» في محل نصب على الحال، أي أن نجعلهم حال كونهم مِثْلَهم سواءً. وليس معناه بذاك.
الثالث: أن يكون «سواه» مفعولاً ثانياً «لحسب». وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء.
قال شهاب الدين: وأظنه غلطاً؛ لما سيظهر لك، فإنه قال: ويقرأ بالنصب وفيه وجهان:
أحدهما: هو حال من الضمير في «الكاف» أي نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال.
الثاني: أن يكون مفعولاً ثانياً لحسب والكاف حال، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحِسْبان وعلى هذا الوجه ﴿مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ مرفوعان (بسواء} لأنه قد قَوِيَ باعتماده انتهى.
فقد صرح بأنه مفعول ثاني للحسبان، وهذا لا يصح ألبتّة، لأن «حسب» وأخواتها إذا وقع بعدها «أَنَّ: المشددة و» أَنْ «المخففة أو الناصبة سَدَّت مسدَّ المفعولين، وهنا قد
359
وقع بعد الحسبان» أَنْ «الناصبة، فهي سادّة مسدَّ المفعولين فمِنْ أين يكون» سواءًَ «مفعولاً ثانياً لحسب؟!
فإن قلت: هذا الذي قلته رأي الجمهور، سيبويه وغيره، وأما غيرهم كالأخفش فيدَّعي أنها تسد مسدّ واحدٍ. وإذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب المذهب فأَعْرَبَ»
أنْ نَجْعَلَهُمْ «مفعولاً أول (ل» حَسِبَ «) و» سَوَاءً «مفعولاً ثانياً.
فالجواب: أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفاً، ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر وهو أنه قد رفع به (مُحياهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) لأنه بمعنى مستو كما تقدم، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول بل رفع أجنبيًّا من المعفول لأول وهو نظير: حَسِبْتُ قِيَامَكَ مُسْتَوِياً ذهابك وعدمه.
ومن قرأ بالرفع فيحتمل قراءته وجهين:
أحدهما: أن يكون «سواء»
خبراً مقدماً، و «مَحْيَاهُم» مبتدأ مؤخراً، ويكون «سواء» مبتدأ و «محياهم» خبره كذا أعربوه. وفيه نظر تقدم في سورة الحج، وهو أنه نكرة لا مسوغ فيها وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبراً لا مبتدأ.
ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
360
أحدها: أنها استئنافية. والثاني: أنها تبدل من الكاف الواقعة مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد، ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواءً محياهم ومماتهم كان سديداً، كما تقول: ظَنَنْتُ زَيْداً أبوه مُنْطَلِق.
قال أبو حيان: وهذا أعني إبدال الجملة من المفرد أجازه ابن جني وابن مالك ومنعه ابن العِلْجِ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقريره ذلك. ثم قال: «والذي يظهر أنه لا يجوز يعني ما جوزه الزمخشري قال: لأنها بمعنى التَّصْيِير، ولا يجوز: صَيَّرْتُ زيداً أبو قائمٌ؛ لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصفٍ فيها، وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقال مما ذكر فلا يجوز.
قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها، لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الحمل صفة وحالاً، نحو: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبُوهُ قائِمٌ، وجاء زيد أبو قائمٌ، فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيِّز التصيير؛ إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية.
الثالث: أن تكون الجملة حالاً (و) التقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَماتِهِم؟! ليسوا كذلك بل هم مقترفون. وهذا هو الظاهر عند أبي حيان وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيِّز الحسبان، وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر، ويظهر أن
361
قوله: سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول جيِّد انتهى. ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفة أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته. وقرأ الأعمش» سواءً «نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ.
بالنصب أيضاً، فأما سواء فمفعول ثان، أو حال كما تقدم. وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكونا ظرفي زمان، وانتصبا على البدل من مفعول (نجعلهم) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني، والتقدير: أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ (سَوَاءً).
والثاني: أن ينتصبا على الظرف الزماني، والعامل إما الجعل أو سواء، والتقدير أن نجعهلم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه: ومن قرأ بالنصب جعل «مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ»
ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم. قال أبو حيان: وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ (النَّجْم) بخلاف (محيا) و (ممات) و (مقدم) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكماينة فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع، لا على حذف مضاف كخُفُوق، فإنه لا بد من حذف مضاف، لكونه موضوعاً للمصدرية وهذا أمر قريب، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان. أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك. والضمير في «محياهم ومماتهم» يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده. فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه. ويجوز
362
أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء. وقال أبو البقاء: ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم. والعامل: نجعل أو سواء. وقيل: هو ظرف. قال شهاب الدين: هو القول الأول بعينه.
(فصل)
لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ (و) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً. والتقدير: هنا: أفيعلم المشركون هناأم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين. والاجتراح: الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم. قال تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠]. وقال الكلبي: نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة، وشيبةً، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالاص منكم في الدنيا. فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات. ثم قال: ﴿سواءً محياهم ومماتُهُمْ﴾. قال مجاهد عن ابن عباس: معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين؟! كلا فإنه يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه. الكافر بالضِّدِّ منه، كما ذكره الله تعالى في قوله: «وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض» «واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ» والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون: سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.
وأما في القيامة فقال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٣٨٤٢] وقيل: معنى الآية لا يستوون في الممات، كما استووا في الحياة، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في
363
الصحة والرزق والكفاية، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنَّما يظهر الفرق بينهم في الممات. وقيل: إنَّ قوله ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ مستأنف والمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وكذلك محيا الكفار ومماتهم سواء أي كل يموت على حسب ما عاش عليه. ثم إنه تعالى صرح بإنكار التسوية فقال: ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي بئس ما يقضون. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تَمِيم الدَّاريِّ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصْبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد (بها) ويبكي ﴿أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات... ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وخلق الله السموات والأرض بالحق﴾ لما بين أن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السَّعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال: ﴿وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق﴾ أي لو لم يوجد البعث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل لأنه تعالى لو خلق الظالم وسطله على المظلوم الضعيف ولا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ولو كان ظالماً لبطل أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق. وتقدم تقريره في سورة يُونُس.
قوله: «بِالْحَقِّ» فيه ثلاثة أوجه إما حال من الفاعل، أو من المفعول أو الباء للسببية.
قوله: «وَلتُجْزَى» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عطفاً على «بالحق» في المعنى، لأن كلاًّ منهما سبب فعطف الصلة على مثلها.
الثاني: أنها معطوفة على معلل محذوف، والتقدير: خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرْضَ ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لايتم إلاَّ إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت بين الدَّركات والدرجات بين المحقين والمبطلين.
الثالث: أن تكون لام الصيرورة أي وصار الأمر منها من اهتدى بها قوم وظلَّ عنها آخرون.
364
قوله: «أفَرَأْيت» بمعنى أخبرني وتقدم حكمها مشروحاً، المفعول الأوّل من اتخذ والثاني محذوف، تقديره: بعد غشاوة أيهتدي؟ ودل عليه قوله: ِ «فَمَنْ يَهْدِيهِ».
وإنما قدرت بعد غشاوة، لأجل صلا ت الموصول. واعلم أنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفار، وقبائح طرائقهم فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ قال ابن عباس والحسن وقتادة: وذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه.
وقرىء «آلِهَتَهُ» هواه، لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه والمعنى اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما تهواه نفسه. قال سعيد بن جبير: كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رَموه وكسروه وعبدوا الآخر. قال الشعبي: إنما سمي الهوى لأنه يَهوِي بصاحبه في النار. قوله: «عَلَى عِلْمٍ» حال من الجلالة أي كَائِناً عَلَى عِلْمٍ منه يعاقبة أمره أنه أهل لذلك.
وقيل: حال من المفعول، أي أضله وهو عالم، وهذا أشنع لَهُ. وقرأ الأَعرجُ: آلِهَةً على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره آلهته هواه.
قوله: ﴿وختم على سمعه وقلبه﴾ يسمع الهوى وقلبه لم يعقل الهدى وهو المراد من قوله: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧] وقد تقدم.
قوله: «غشاوة» قرأ الأخوان غَشْوَةً بفتح الغين، وسكون الشين. والأعمش وابن مِصْرف كذلك إلا أنهما كسرا الغين. وباقي السبعة غِشاوة بكسر الغين. وابن
365
مسعود والأعمش أيضاً بفتحها وهي لغة ربيعة والحسن وعكرمة. وعبد الله أيضاً بضمها، وهي لغة محكيَّة وتقدم الكلام في ذلك في أول سورة البقرة، وأنه قرىء هناك بالعَيْن المُهْملة.
قوله: ﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله﴾ أي من بعد إضلال الله إياه. وقال الواحدي: ليس يبقى لِلْقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة؛ لأن الله تعالى صرح منعه إياهم عن الهدى بعد أن أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره. ثم قال: ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ قرأ العامة بالتشديد، والجَحْدريّ بتخفيفها والأعمش تتذكرون بتاءين.
قوله: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ تقدم نظيره. وقرأ زيد بن على نُحْيَا بضم النون.
فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكر القيامة كان يجب أن يقول: نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟
فالجواب: من وجوه:
الأول: المراد بقوله: «نموت» حال كونهم نُطَفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقوله: «نحيا» ما حصل بعد ذلك في الدنيا.
الثاني: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا.
الثالث: قال الزّجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعضٌ ويحيا بعضٌ.
الرابع: قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى قدم ذكر الحياة فقال: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ ثم قال بعده: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ يعن أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ عليه الموت بعد، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد.
قوله: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ أي وما يُفنينا إلا مرُّ الزمان، وطول العمر، واختلافُ الليل والنهار ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ﴾ الذي قالوه ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ أي لم يقولوه عن علم عَلِموه ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾.
روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قال الله تعالى:» لاَ يَقُل ابْنُ آدَمَ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا أُرْسِلُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ فَإِذَا شِئْتُ
366
قَبَضْتُها «وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لا يَسُبَّ أحدُكُمْ الدَّهْرَ فإنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ، وَلاَ يَقُولَنَّ لِلْعِنَبِ الكرْمَ، فإنََّ الكَرْمَ هُوَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ «ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب المكاره فيقولون: أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، كما أخبر الله عنهم: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان يرجع سَبُّهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهُوا عن سبِّ الدهر.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ قرأ العامة بنصب»
حجتهم «. وزيدُ بْنُ عليٍّ، وعمروُ بْنُ عُبَيد، وعُبَيْدُ ابن عَمرو بالرفع وتقدم تأويل ذلك و» ما كان «جواب» إذا «الشرطية. وجعله أبو حيان دليلاً على عدم إعمال جواب» إذا «فيها لأن» ما «لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
قال: وخالفت غيرها من أدوات الشرط، حيث لم يقترن بالفاء جوابها إذا نفي بما.

فصل


سمى قولهم حجة لوجوه:
الاول: لزعمهم أنه حجة.
الثاني: أن من كانت حجته هذا فليس له ألتة حجة كقوله:
٤٤٤٥ -........................ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجيعُ
367
الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها. واعلم أنهم احتجوا على إنكمار البعث بهذه الشبهة وهي شبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لايحصل في الحال يجب أن يمتنع حصوله فإن كان حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي خلقنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عندم حُصُولِنا في الأزل إلى وقت خلقنا يدل على امتناع حصولنا وذلك باطلٌ.
قوله تعالى: ﴿قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾.
فإن قيل: هذا الكلام مذكوراً لأجل جواب من يقول: ﴿ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدَّهر﴾ وهذا القائل ينكر وجود الإله ووجود القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله: ﴿الله يُحْيِيكُمْ﴾ ؟ وهل هذا إلا إثْبَات الشيء بنفسه، وهو باطل؟!
فالجواب: أنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الإله القادر الفاعل الحكيم مراراً فقوله: ههنا: ﴿الله يُحْيِيكُمْ﴾ إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أنّ الإحياء من الله، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء ألأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أن الله تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحيكم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقاً. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ إشارة إلى ما تقدم في الآية المقتدمة، وهو أن كونه تعالى عادلاً خالقاً منزهاً عن الجَوْز والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة، ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ دلالة على حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداء، وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.
368
قوله :«أَمْ حَسِبَ » أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها، أو بالهمزة وَحْدَها١ وتقدم تحقيق هذا.
قوله :«كَالَّذِينَ آمَنُوا » هو المفعول الثاني للجَعْل، أي أن نَجْعَلَهُمْ كائنين كالذين آمنوا أي لا يحسبون ذلك٢. وَقَدْ تقدم في سورة الحج٣ أنَّ الأخَوَيْنِ وحفصاً قرأوا هنا : سَوَاءً بالنصب والباقون بالرفع٤. وتقدم الوعد عليه بالكلام هنا فنقول : أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ينتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما :«كَالَّذِينَ آمَنُوا » ويكون المفعول الثاني للجعل «كالذين آمنوا » أي أحسبوا أنْ نَجْعَلَهُم مثلهم في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ ؟ ليس الأمر كذلك٥.
الثاني : أن يكون «سواءً » هو المفعول للجَعْل. و «كَالَّذِينَ » في محل نصب على الحال، أي أن نجعلهم حال كونهم مِثْلَهم سواءً. وليس معناه بذاك٦.
الثالث : أن يكون «سواه » مفعولاً ثانياً «لحسب ». وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء٧.
قال شهاب الدين : وأظنه غلطاً ؛ لما سيظهر لك، فإنه قال : ويقرأ بالنصب وفيه وجهان :
أحدهما : هو حال من الضمير في «الكاف » أي نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال٨.
الثاني : أن يكون مفعولاً ثانياً لحسب والكاف حال، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحِسْبان وعلى هذا الوجه ﴿ مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ مرفوعان ( بسواء } لأنه قد قَوِيَ٩ باعتماده انتهى١٠.
فقد صرح بأنه مفعول ثان للحسبان، وهذا لا يصح ألبتّة، لأن «حسب » وأخواتها إذا وقع بعدها «أَنَّ : المشددة و «أَنْ » المخففة أو الناصبة سَدَّت مسدَّ المفعولين، وهنا قد وقع بعد الحسبان «أَنْ » الناصبة، فهي سادّة مسدَّ المفعولين فمِنْ أين يكون «سواءَ » مفعولاً ثانياً لحسب ؟ !
فإن قلت : هذا الذي قلته رأي الجمهور، سيبويه وغيره، وأما غيرهم كالأخفش فيدَّعي أنها تسد مسدّ واحدٍ١١. وإذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب المذهب فأَعْرَبَ «أنْ نَجْعَلَهُمْ » مفعولاً أول ( ل «حَسِبَ١٢ » ) و«سَوَاءً » مفعولاً ثانياً.
فالجواب : أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفاً، ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر وهو أنه قد رفع به ( مُحياهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) لأنه بمعنى مستو كما تقدم، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول بل رفع أجنبيًّا من المفعول الأول وهو نظير : حَسِبْتُ قِيَامَكَ مُسْتَوِياً ذهابك وعدمه١٣.
ومن قرأ بالرفع فيحتمل قراءته وجهين :
أحدهما : أن يكون «سواء » خبراً١٤ مقدماً، و «مَحْيَاهُم » مبتدأ مؤخراً١٥، ويكون «سواء » مبتدأ و «محياهم » خبره كذا أعربوه١٦. وفيه نظر تقدم في سورة الحج١٧، وهو أنه نكرة لا مسوغ فيها وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبراً لا مبتدأ١٨.
ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها استئنافية١٩. والثاني : أنها تبدل من الكاف الواقعة مفعولاً ثانياً٢٠. قال الزمخشري : لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد، ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواءً محياهم ومماتهم كان سديداً، كما تقول : ظَنَنْتُ زَيْداً أبوه مُنْطَلِق٢١.
قال أبو حيان : وهذا أعني إبدال الجملة من المفرد أجازه ابن جني٢٢ وابن مالك٢٣ ومنعه ابن العِلْجِ٢٤، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقريره ذلك. ثم قال :«والذي يظهر أنه لا يجوز يعني ما جوزه الزمخشري قال : لأنها بمعنى التَّصْيِير، ولا يجوز : صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ ؛ لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصفٍ فيها، وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقال مما ذكر فلا يجوز.
قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها، لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الحمل صفة وحالاً، نحو : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبُوهُ قائِمٌ، وجاء زيد أبو قائمٌ، فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيِّز التصيير ؛ إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية٢٥.
الثالث : أن تكون الجملة حالاً ( و ) التقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَماتِهِم ؟ ! ليسوا كذلك بل هم مقترفون٢٦. وهذا هو الظاهر عند أبي حيان. وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيِّز الحسبان، وإلى ذلك نحا ابن٢٧ عطية فإنه قال : مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر، ويظهر أن قوله : سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول جيِّد انتهى٢٨. ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفية أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته. وقرأ الأعمش «سواءً » نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ٢٩.
بالنصب أيضاً، فأما سواء فمفعول ثان، أو حال كما تقدم. وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكونا ظرفي زمان، وانتصبا على البدل من مفعول ( نجعلهم ) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني، والتقدير : أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ ( سَوَاءً٣٠ ).
والثاني : أن ينتصبا على الظرف الزماني، والعامل إما الجعل أو سواء، والتقدير أن نجعلهم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين٣١.
قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه : ومن قرأ بالنصب جعل «مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ » ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم٣٢. قال أبو حيان : وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ ( النَّجْم ) بخلاف ( محيا ) و ( ممات ) و ( مقدم ) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكانية، فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع، لا على حذف مضاف كخُفُوق، فإنه لا بد من حذف مضاف، لكونه موضوعاً للمصدرية٣٣ وهذا أمر قريب، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان. أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك. والضمير في «محياهم ومماتهم » يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده٣٤. فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه. ويجوز أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء٣٥. وقال أبو البقاء : ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم. والعامل : نجعل أو سواء. وقيل : هو٣٦ ظرف. قال شهاب الدين : هو القول الأول بعينه٣٧.
( فصل )
لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال :﴿ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ ( و٣٨ ) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً. والتقدير هنا : أفيعلم المشركون هنا أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين. والاجتراح : الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم. قال تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ]. وقال الكلبي : نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة، وشيبةً، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالا منكم في الدنيا. فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات٣٩. ثم قال :﴿ سواءً محياهم ومماتُهُمْ ﴾. قال مجاهد عن ابن عباس : معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين ؟ ! كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون٤٠ وحجة الله معه. والكافر بالضِّدِّ منه، كما ذكره الله تعالى في قوله :«وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض » «واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ » والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون : سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ، وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.
وأما في القيامة فقال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة ﴾ [ عبس : ٣٨ - ٤٢ ] وقيل : معنى الآية لا يستوون في الممات، كما استووا في الحياة، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في الصحة والرزق والكفاية، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنَّما يظهر الفرق بينهم في الممات. وقيل : إنَّ قوله ﴿ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ مستأنف والمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء، وكذلك محيا الكفار ومماتهم سواء، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه. ثم إنه تعالى صرح بإنكار التسوية٤١ فقال :﴿ ألا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي بئس ما يقضون. قال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تَمِيم الدَّاريِّ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصْبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ( بها ) ويبكي ﴿ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات. . . ﴾ الآية٤٢.
١ قاله صاحب الكشاف ٣/٥١١ وصاحب الدر المصون ٤/٨٣٥..
٢ قاله النحاس في إعراب القرآن ٤/١٤٥، والزمخشري في الكشاف ٣/٥١٢ والسمين في الدر ٤/٨٣٥..
٣ عند قوله: "سواء العاكف فيه والباد" من الآية ٢٠٥ وانظر السبعة ٤٣٥ واللباب ٦/٢٩٠ ب..
٤ السبعة ٥٩٥ ومعاني الفراء ٣/٣٧..
٥ قاله السمين في الدر المصون ٤/٨٣٥ وجعله أبو حيان منصوبا على الحال ولم يبين صاحب الحال البحر ٨/٤٧ بينما حدد أبو البقاء صاحب الحال فقال: "حال من الضمير في الكاف". بينما ارتأى مكي أن يكون حالا من الهاء والميم في نجعلهم. انظر مشكل الإعراب ٢/٢٩٧..
٦ البحر المحيط ٨/٤٧ وحجة ابن خالويه ٣٢٥ والتبيان ١١٥٢..
٧ المرجع الأخير السابق..
٨ في ب الحالة..
٩ في التبيان: "قرئ" تحريف..
١٠ بالمعنى قليلا من التبيان ١١٥٢..
١١ قال السيوطي في الهمع ١/١٥١، ١٥٢ "تسد عن المفعولين في هذا الباب "أن" المشددة ومعمولاها نحو: ظننت أن زيدا قائم، واعلم أن الله على كل شيء قدير، وإن كانت بتقدير اسم مفرد للطول، ولجريان الجهر، والمخبر عنه بالذكر في الصلة ثم لا حذف فيه عند سيبويه وذهب الأخفش والمبرد إلى أن الخبر محذوف والتقدير: أظن زيدا قائم ثابت أو مستقر وكذا يسد عنهما إن صلتها نحو: أحسب الناس أن يتركوا لتضمن مسند ومسند إليه مصرح بهما في الصلة الثانية"..
١٢ سقط من ب..
١٣ انظر الدر المصون ٤/٨٣٦..
١٤ في ب "غير" بدل خبر. تحريف وفي أ خبر مقدم رفعا والأصح تقعيدا ما أثبته..
١٥ قاله في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٩٦ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٦٥ وأبو البقاء في التبيان ١١٥٢ ومفهوم كلام الزمخشري في الكشاف ٣/٥١٢..
١٦ قاله النحاس في الإعراب ٤/١٤٦ وهو رأي الخليل وسيبويه فيما ذكره النحاس والزجاج. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٣٣..
١٧ في الآية السابقة الذكر وهي: "سواء العاكف فيه والباد"..
١٨ هذا إطلاق من المؤلف فكلامه يستثنى منه صورتان الأولى: نحو: كم مالك؟ فإن "كم" مبتدأ وهي نكرة وما بعدها معرفة لأن أكثر ما يقع بعد أسماء الاستفهام النكرة والجمل والظروف، ويتعين إذ ذاك كون اسم الاستفهام مبتدأ نحو: من قائم؟ ومن قام؟ ومن عندك؟ فحكم على "كم" بالابتداء حملا للأول على الأكثر. الثانية: أفعل التفضيل نحو: خير منك زيد، وتوجيهه ما تقدم في "كم". وغير سيبويه يجعل المعرفة في الصورتين المبتدأ جريا على القاعدة. وقال ابن هشام: يتحد عندي جواز الوجهين إعمالا للدليلين. انظر الهمع ١/١٠٠..
١٩ وهو رأي نقله الزمخشري في الكشاف كما سبق ٣/٥١٢ وانظر الدر المصون ٤/٨٣٦..
٢٠ المرجعين السابقين..
٢١ الكشاف المرجع السابق..
٢٢ فقد جوز في البيت:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة والشام أخرى كيف يلتقيان
أن تبدل "كيف يلتقيان" من (حاجة وأخرى) إبدال جملة من مفرد. وانظر الأشموني ٣/١٣٢، والتصريح ٢/١٦٢ و١٦٣ والمرادي على الألفية ٣/٢٦٤ و٢٦٥..

٢٣ قال في تسهيله: "وقد يبدل جملة من مفرد". انظر التسهيل ١٧٣..
٢٤ الإمام ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن علي الإشبيلي. من مصنفاته كتاب "البسيط" وقاله فيه: "ولا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل كما كان في النعت لأنها تقدر تقدير المشتق وتقدير الجامد فيكون بدلا، فيجتمع فيه تجوزان، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول فيصح أن يكون فاعلا والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ، لأنها لا تضمر، فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة لا يبعد عندي جوازها كما يتبع في العطف الجملة للجملة، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي انتهى انظر البحر المحيط ٨/٤٧ ونشأة النحو ٣٢٣..
٢٥ الدر المصون ٤/٨٣٧..
٢٦ المرجعين السابقين..
٢٧ في أ الزمخشري بدل من ابن عطية، والتصحيح من ب..
٢٨ البحر المحيط ٨/٤٧ والدر المصون ٤/٨٣٧..
٢٩ من القراءات الشاذة غير المتواترة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٣٨..
٣٠ قال بذلك أبو حيان في البحر المحيط ٨/٤٧ و٤٨ ونقله عنه أيضا السمين في الدر ٤/٨٣٧. هذا وقد سقطت كلمة سواء من ب..
٣١ قاله الزجاج والفراء في معاني القرآن. قال الزجاج في ٤/٤٣٣: "ومن نصب محياهم ومماتهم، فهو عند قوم من النحويين سواء في محياهم وفي مماتهم ويذهب به مذهب الأوقات". ويقول الفراء: "لو نصبت المحيا والممات، كان وجها، تريد أن تجعلهم سواء في محياهم ومماتهم". معاني القرآن له ٣/٤٧. وقد ذكره أيضا الإمام أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن ٤/١٤٦..
٣٢ الكشاف ٣/٥١٢..
٣٣ بالمعنى من البحر المحيط ٨/٤٨، وباللفظ من الدر المصون ٤/٨٣٨..
٣٤ اللف والنشر في البلاغة وبخاصة في علم البديع وهو أن نلف شيئين، ثم نأتي بتفسيرهما ثقة بأن السامع والنشر معروف يرد إلى كل واحد منهما ما له كقول الحق جلال وعلا: "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله". انظر التعريفات للشريف الجرجاني ١٦٩..
٣٥ الدر المصون ٤/٨٣٨..
٣٦ لعله يقصد "هما" تثنية وانظر التبيان ١١٥٢..
٣٧ رأي الزجاج والفراء والزمخشري السابق. وانظر الدر المصون ٤/٨٣٨..
٣٨ زيادة للسياق..
٣٩ انظر الرازي ٢٧/٢٦٦ والقرطبي ١٦/١٦٥..
٤٠ في ب وأ: المؤمنين نصبا أو جرا وهو تحريف والأصح ما أثبت أعلى..
٤١ انظر الرازي السابق..
٤٢ القرطبي ١٦/١٦٦ ولفظ بها، ساقط من ب..
قوله تعالى :﴿ وخلق الله السموات والأرض بالحق ﴾ لما بين أن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السَّعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال :﴿ وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ﴾ أي لو لم يوجد البعث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل ؛ لأنه تعالى لو خلق الظالم وسلطه على المظلوم الضعيف ولا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً، ولو كان ظالماً لبطل أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق١. وتقدم تقريره في سورة يُونُس.
قوله :«بِالْحَقِّ » فيه ثلاثة أوجه إما حال من الفاعل، أو من المفعول أو الباء للسببية٢.
قوله :«وَلتُجْزَى » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون عطفاً على «بالحق » في المعنى، لأن كلاًّ منهما سبب فعطف الصلة على مثلها.
الثاني : أنها معطوفة على معلل محذوف، والتقدير : خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرْضَ ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلاَّ إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت بين الدَّركات والدرجات بين المحقين والمبطلين٣.
الثالث : أن تكون لام الصيرورة، أي وصار الأمر منها من اهتدى بها قوم وظلَّ عنها آخرون٤.
١ قاله الرازي ٢٧/٢٦٨..
٢ بيان ابن الأنباري ٢/٣٦٥ والدر المصون ٤/٨٣٨..
٣ ذكر هذين الوجهين الرازي في تفسيره لفظا ٢٧/٢٦٨ نقلا عن الكشاف معنى ٣/٥١٢ وانظر الدر المصون ٤/٨٣٩ و٨٣٨..
٤ نقل هذا الوجه أبو حيان في بحره ٨/٤٨ عن ابن عطية..
قوله :«أفَرَأْيت » بمعنى أخبرني وتقدم حكمها١ مشروحاً، المفعول الأوّل من اتخذ والثاني محذوف، تقديره : بعد غشاوة أيهتدي ؟ ودل عليه قوله :«فَمَنْ يَهْدِيهِ ».
وإنما قدرت بعد غشاوة، لأجل صلات الموصول٢. واعلم أنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفار، وقبائح طرائقهم فقال :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ قال ابن عباس والحسن وقتادة : وذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه.
وقرئ «آلِهَتَهُ »٣ هواه، لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه والمعنى اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما تهواه نفسه. قال سعيد بن جبير : كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رَموه وكسروه وعبدوا الآخر. قال الشعبي : إنما سمي الهوى لأنه يَهوِي بصاحبه في النار٤. قوله :«عَلَى عِلْمٍ » حال من الجلالة أي كَائِناً عَلَى عِلْمٍ منه بعاقبة أمره أنه أهل لذلك٥.
وقيل : حال من المفعول، أي أضله وهو عالم، وهذا أشنع لَهُ. وقرأ الأَعرجُ٦ : آلِهَةً على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره آلهته هواه٧.
قوله :﴿ وختم على سمعه وقلبه ﴾ يسمع الهوى وقلبه لم يعقل الهدى وهو المراد من قوله٨ :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ] وقد تقدم.
قوله :«غشاوة » قرأ الأخوان غَشْوَةً بفتح الغين، وسكون الشين٩. والأعمش وابن مِصْرف كذلك إلا أنهما كسرا الغين١٠. وباقي السبعة غِشاوة بكسر١١ الغين. وابن مسعود والأعمش أيضاً بفتحها١٢ وهي لغة ربيعة والحسن وعكرمة. وعبد الله أيضاً بضمها، وهي لغة محكيَّة١٣ وتقدم الكلام في ذلك في أول سورة البقرة، وأنه قرئ هناك بالعَيْن المُهْملة١٤.
قوله :﴿ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله ﴾ أي من بعد إضلال الله إياه. وقال الواحدي : ليس يبقى لِلْقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة ؛ لأن الله تعالى صرح منعه إياهم عن الهدى بعد أن أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره١٥. ثم قال :﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ قرأ العامة بالتشديد، والجَحْدريّ بتخفيفها والأعمش تتذكرون بتاءين١٦.
١ قال الجمل على الجلالين: "استعمال أرأيت في الإخبار مجاز أي أخبروني عن حالتكم العجيبة ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سببا للإخبار عنه أو الإبصار به طريقا إلى الإحاطة به علما وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب ففيه مجاز". وانظر حاشية الجمل على الجلالين ٢/٢٨..
٢ انظر البحر المحيط ٨/٤٨ والدر المصون ٤/٨٣٩..
٣ في الرازي آلهته هواه وفي الكشاف آلهة هواه وهي قراءة شاذة. انظر الرازي ٢٧/٢٦٨ والكشاف ٣/٥١٢..
٤ انظر القرطبي ١٦/١٦٧..
٥ ذكر الوجه الأول الكشاف ٣/٥١٢ والثاني أبو حيان في البحر ٨/٤٩..
٦ في أ الأعمش وفي ب الأعرج وهو الأصح..
٧ وقد روى هذه القراءة ابن خالويه في المختصر عن أبي جعفر ولم ترو عنه في المتواتر. انظر المختصر ١٣٨، وانظر أيضا شواذ القرآن (٢٢١)..
٨ في ب قولهم تحريف..
٩ هي من القراءات المتواترة وهي قراءة ابن وثاب أيضا. وانظر السبعة ٥٩٥ ومعاني الفراء ٣/٤٨ وحجة ابن خالويه ٢٤٦، والكشف لمكي ٢/٢٦٩..
١٠ من القراءات الشاذة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٨..
١١ مختصر ابن خالويه السابق..
١٢ انظر السبعة والكشف السابقين..
١٣ ذكرت في البحر المحيط ٨/٤٩ والكشاف ٣/٥١٢ بدون نسبة وهي شاذة..
١٤ رويت عن طاووس هنا وفي البقرة أيضا مختصر ابن خالويه ١٣٨..
١٥ الرازي ٢٧/٢٦٩..
١٦ انظر البحر المحيط ٨/٤٩..
قوله :﴿ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ تقدم نظيره. وقرأ زيد بن علي نُحْيَا بضم النون١.
فإن قيل : الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكر القيامة كان يجب أن يقول : نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟
فالجواب من وجوه :
الأول : المراد بقوله :«نموت » حال كونهم نُطَفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وبقوله :«نحيا » ما حصل بعد ذلك في الدنيا.
الثاني : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا.
الثالث : قال الزّجاج : الواو للاجتماع٢ والمعنى : يموت بعضٌ ويحيا بعضٌ.
الرابع : قال ابن الخطيب : إنَّه تعالى قدم ذكر الحياة فقال :﴿ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ ثم قال بعده :﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ عليه الموت بعد، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد٣.
قوله :﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ﴾ أي وما يُفنينا إلا مرُّ الزمان، وطول العمر، واختلافُ الليل والنهار ﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ ﴾ الذي قالوه ﴿ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي لم يقولوه عن علم عَلِموه ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾.
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله تعالى : لاَ يَقُل ابْنُ آدَمَ يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا أُرْسِلُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُها »٤ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَسُبَّ أحدُكُمْ الدَّهْرَ فإنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ، وَلاَ يَقُولَنَّ لِلْعِنَبِ الكرْمَ، فإنََّ الكَرْمَ هُوَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ٥ » ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون : أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، كما أخبر الله عنهم :﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ﴾ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان يرجع سَبُّهم إلى الله عز وجل ؛ إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهُوا عن سبِّ الدهر٦.
١ من القراءات الشاذة انظر المرجع السابق، وشواذ القرآن ٢٢١..
٢ معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٣٤..
٣ الرازي ٢٧/٢٦٩..
٤ ذكره أحمد أيضا في مسنده ٢/٢٥٩ و٢٧٢ و٢٧٥ و٣١٨ و٩٣٤..
٥ ذكره أيضا أحمد في مسنده ٢/٢٣٨ و٢٧٢ و٣٩٥ و٤٩١ و٤٩٩ و٥٠٦..
٦ انظر القرطبي ١٦/١٧٠ ـ ١٧٢..
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ قرأ العامة بنصب «حجتهم ». وزيدُ بْنُ عليٍّ، وعمروُ بْنُ عُبَيد، وعُبَيْدُ ابن عَمرو١ بالرفع وتقدم تأويل ذلك و «ما كان » جواب «إذا » الشرطية٢. وجعله أبو حيان دليلاً على عدم إعمال جواب «إذا » فيها لأن «ما » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
قال : وخالفت غيرها من أدوات الشرط، حيث لم يقترن بالفاء جوابها إذا نفي بما٣.

فصل


سمى قولهم حجة لوجوه :
الاول : لزعمهم أنه حجة.
الثاني : أن من كانت حجته هذا فليس له ألبتة حجة كقوله :
٤٤٤٥. . . . . . . . . . . . . . . تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجيعُ٤
الثالث : أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها. واعلم أنهم احتجوا على إنكار البعث بهذه الشبهة وهي شبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال يجب أن يمتنع حصوله فإن كان حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي خلقنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حُصُولِنا في الأزل إلى وقت خلقنا يدل على امتناع حصولنا وذلك باطلٌ.
١ رويت أيضا عن الحسن ـ رضي الله عنه ـ انظر الإتحاف ٣٩٠ والبحر المحيط ٨/٤٩ والكشاف ٣/٥١٣، والرفع على أساس أن حجتهم اسم كان والخبر "إلا أن قالوا". والنصب على أن "حجتهم" خبر كان مقدم..
٢ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٣٤ والدر المصون ٤/٨٤٠والكشاف ٣/٥١٣..
٣ بالمعنى من البحر المحيط ٨/٤٩، وباللفظ من الدر المصون ٤/٨٤٠..
٤ عجز بيت من الوافر لعمرو بن معد يكرب وصدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل
والخيل: الفرسان، ودلفت: زحفت، ووجيع موجع. يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا الضرب الوجيع بدلا من تحية بعضهم البعض والشاهد: جعل الضرب تحية على الاتساع والمجاز، وانظر الكتاب ٢/٣٢٣ و٣/٥٠ والتصريح ١/٣٥٣ وابن يعيش ٢/٨٠ والخصائص ٤/٣٥ والرازي ٢٧/٢٧٠..

قوله تعالى :﴿ قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾.
فإن قيل : هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدَّهر ﴾ وهذا القائل ينكر وجود الإله ووجود القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله :﴿ الله يُحْيِيكُمْ ﴾ ؟ وهل هذا إلا إثْبَات الشيء بنفسه، وهو باطل ؟ !
فالجواب : أنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الإله القادر الفاعل الحكيم مراراً، فقوله ههنا :﴿ قل الله يُحْيِيكُمْ ﴾ إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أنّ الإحياء من الله، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء الأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله، ثبت أن الله تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقاً. وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ إشارة إلى ما تقدم في الآية المتقدمة، وهو أن كونه تعالى عادلاً خالقاً منزهاً عن الجَوْر والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة، ثم قال :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ دلالة على حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداء، وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض... ﴾ الآية لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عَمَّمَ الدليل فقال: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي لله القدرة على جميع الكائنات سواء كانت في السموات أو في الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كُلِّ الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الدار ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى، فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية. ولما بين تعالى إمكانية القول بالحشر والنشر في هذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوالِ القيامة فأولها: قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة﴾ في عامله وجهان:
أحدهما: أنه «يخسر» و «يومئذ» بدل من «يَوْمَ تَقُومُ». والتنوين على هذا التنوين عوض عن جملة مقدرة ولم يتقدم من الجمل إلا «تقوم الساعة» فيصير التقدير: ويوم تقوم الساعة يومئذ تقوم الساعة. وهذا الذي قدروه ليس فيه مزيد فائدة، فيكون بدلاً توكيديًّا.
والثاني: أن العامل فيه مقدر، قالوا لأن يوم القيامة حالة ثالثة ليست بالسَّماء ولا الأرض، لأنهما يتبدلان فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم. ويكون قوله: «يَوْمَئذٍ» معمولاً ليخصرُ، والجملة مستأنفة من حيثُ اللفظ، وإنْ كَانَ لها تعلق بما قبلها من حيثُ المَعْنَى.

فصل


اعلم أنَّ الحَيَاةَ والعقل والصحة كأنها رأس مال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية مَجْرَى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح والكفار قد اتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلاَّ الحرمان والخِذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
وثانيها: قوله: ﴿وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ الظاهر أن الرؤية بصرية فيكون «جاثية»
369
حال قال الليث: الجَثْوُ الجُلُوسُ على الركب الجِثِيّ بين يَدَي الحَاكِمِ، وذلك لأنها خائفة والمذنب مُسْتَوْفِزٌ. وقيل: مجتمعة، ومنه الجُثْوَةُ للقبر لاجتماع الأحجار عليه، قال (الشاعر) (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
٤٤٤٦ - تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها. قال الزمخشري وقرىء: جاذية بالذال المعجمة قال: والجَذْوُ أشد من الجَثْوِ، لأن الجَاذِي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وهو أشد استيفازاً من الجاثِي.
قوله: «كُلُّ أمة» العامة على الرفع بالابتداء، و «تُدْعَى» خبرها. ويعقوب بالنصب على البدل من «كُلَّ أمَّة» الأولى، بدل نكرة موصوفة من مثلها.
قوله: إلَى كِتَابِهَا «أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفي باسم الجنس كقوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ﴾. قال سلمان الفارسي: إن في القيامة ساعةً هي عشرُ سنين، يَخِرُّ الناس فيها جثاةً على ركبهم، حتى إبراهيم ينادي ربه لا أملك إلا نفسي.
قوله: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ»
هذه الجملة معمولة لقول مضمر، التقدير: يقال لهم اليومَ تُجَزونَ و «الْيَوْمَ» معمول لما بعده و «مَا كنْتُمْ» هو المفعول الثاني.
فإن قيل: الجثْو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة {
فالجواب: أن الجاثي الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة (إلى) أن يظهر كونه محقاً.
370
فإن قيل: كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟
فالجواب: لا منافاة بين الأمرين، لأنه كتابهم، بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه.
قوله: ﴿يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ أي يشهد عليكم بأعمالكم من غير زيادة ولا نقصان.
وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. و «ينطق» يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثايناً، وأن يكون «كتابنا» بدلاً و «ينطق» خبر وحده و «بالحق» حال.
قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي نأمر الملائكة بنسخه أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم وقيل: نستنسخ أي نأخذ نسخة، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان إلا ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، نحو قولهم: هلُم، واذهب، فالاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم. والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ كتابٌ من كِتَاب. وقال الضحاك: نستنسخ أي نُثْبِتُ. وقال السدي: نكتب. وقال الحسن: نَحْفَظُ. ثم بين أحوال المطيعين فقال: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين﴾ فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه.

فصل


قالت المعتزلة: علّق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والعمل الصالح والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عندم عندم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة يجب أن لا يحصل الفوز بالجنة}
وأُجِيبَ: بأن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.

فصل


سمى الثواب رحمة، والرحمة إنما يصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم (تكن) واجبةً، فوجب أن لا يكون الثوابُ واجباً على الله تعالى.
قوله: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ﴾ هذا على إضمار القول أيضاً، وقدر الزمخشري
371
على عادته جملة بين الهمزة والفاء أي ألَمْ تأتكم رسلي فَلَمْ تكن آياتي؟

فصل


ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قِسماً ثالثاً، وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة في إثبات منزلة بين المنزلتين باطل، وفي الآية دليل على أن استحقاق العقوبة، لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وعلى أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم: إنَّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ﴾ العامة على كسر الهمزة لأ، ها محكيَّةٌ بالقول، والأعْرَجُ وعمرو بن فائدٍ بفتحها. وذلك مُخَرَّجُ على لغة سُلَيْمٍ يُجْرون القولم مُجْرَى الظَّنِّ مطلقاً ومنه قوله:
٤٤٤٧ - إذَا قُلْتُ أَنِّي آيِبٌ أهْلَ بَلْدَةِ..............................
قوله: «وَالسَّاعة: قرأ حمزة بنصبها عطفاً على» وَعْدَ اللهِ «الباقون برفعها، وفيه ثلاثة أوجه:
الأول: الابتداء، ما بعدها من الجملة المنفية خبرها.
الثاني: العطف على محل إنّ واسمها معاً، لأن بعضهم كالفارسيِّ والزمخشري يَرَوْنَ أن ل»
إنّ «واسْمِها موضعاً وهو الرفع بالابتداء.
372
قوله:» إلاَّ ظَنًّا: هذه الآية لا بدّ فهيا من تأويل، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل ملا بعده من جميع معمولاته مرفوعاً كان أم غير مرفوع، إلا المفعول المطلق، فإنه لا يفرغ له، لا يجوز: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً لأنه لا فائدة، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه في قوة: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً لأنه لا فائدة فيه، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه قو قوة: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْبتُ. قاله مكي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: فإن: قلت: ما معنى: إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا؟ قلت: أصله نظن ظنًّا، ومعناه إثبات الظن حسبُ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيدُ نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾. فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها.
قال أبو حيان: وهذا كلام من لا شُعُور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعولٍ وغيرهما إلا المصدر المؤكد، فإنه لا يكون فيه.
وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه:
أحدها: ماقاله المبرد وهو أن الأصل: إنْ نَحْنُ إلاَّ نَظُنُّ ظَنًّا قال: ونظيره ما حكاه أبو عمرو: لَيْسَ الطِّبُ إلاَّ المسكُ. تقديره ليس إلا الطيبُ المسكُ. قال شهاب الدين: يعني أن اسم «ليس» ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك» في محل نصب خبرها. وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انْتَقَضَ نفيها «بإلا» قياساً على «ما الحجازية». والمسألة طويلة مذكورة ف يكتب النحو، وعليها حاكاية جَرَتْ بين أبي عمرو، وعيسى ببن عُمَرَ.
373
الثاني: أنّ «ظَنًّا: له صفة محذوفة تقديره: إلاّ ظَنًّا بَيِّناً، فهو مختص لا مؤكد.
الثالث: أن يضمن (نظن) معنى»
نعتقد «فينتصب» ظناً «مفولاً به لا مصدراً.
الرابع: أن الأصْل إنْ نَظُنُّ إلاَّ أنَّكُم تَظُنُّونَ ظَنًّا، فحذف هذا كله موهو معزوٌّ للمبرد أيضاً. وقد رده عليه من حيث إنه حذف إنّ واسمها وخبرها وأبقى المصدر.
وهذا لا يجوز.
الخامس: أن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فاستثني الشك كأنه قيل: مالنا اعتقاد إلاّ الشك. ومثل الآية قول الأعشى:
٤٤٤٨ - وَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلاََّ اغْتِرَارَا
يريد اغتراراً بيناً.

فصل


قال ابن الخطيب: القوم كانوا في هذه المسألة على قولين، منهم من كان قاطعاً ينفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ [الجاثية: ٢٤] ومنهم من كان شاكًّا متحيراً فيه لأنهم من كثرة ماسمعوه من الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحّته صاروا شاكين فيه، وهم المذكورون فيه هذه الآية، ويدل على ذلك أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤُلاء، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول. ثم قال: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ»
374
في الآخرة ﴿سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أي جزاؤها ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وهذا كالدليل على أن هذه الفِرقة لما قالوا: إنْ نظنّ إلاَّ ظناً إنما ذكروه استهزازً وسخرية، وعلى هذا الوجه فصار ذلك أول خسرانهم، فهذا الفريق أسوأ من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا مُنْكِرين، وما كانوا مُسْتَهْزِئِينَ وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.
قوله: ﴿وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ﴾ أن نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ولقاء هذا اليوم. وقيل: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه.
قوله: ﴿لِقَآءَ يَوْمِكُمْ﴾ هذا من التوسع في الظرف، حيث أضاف إليه ما هو واقع فيه، كقوله: ﴿بَلْ مَكْرُ الليل والنهار﴾ [سبأ: ٣٣].
قوله: ﴿وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ فجمع الله عليهم من وجوه العذاب، ثلاثة أشياء، قطع الرحمة عنهم، وصيّر مأواهم النار، وعدم الأنصار، ثم بين تعالى أن يقال لهم: إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب، لأنكم أتيتم ثلاثة أنواع من الاعمال القبيحة، وهي الإصرار على إنكار الدين الحق والاستهزاء به، والسخرية والاستغراق في حب الدنيا، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا﴾.
قوله: ﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾ تقدم الخلاف في قوله: ﴿لا يخرجون منها﴾ في أول الأعراف، وأن حمزة والكِسَائيّ قرءا بفتح الياء وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء. ﴿ولا هم يستعتبون﴾ لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأنه لا يقبله في ذلك اليوم عذرٌ ولا توبة قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين﴾ قرأ العامة «رَبّ» في الثلاثة بالجر تبعاً للجلالة، بياناً، أو بلادً، أو نعتاً، وابن مُحَيْصِنٍ برفع الثلاثة على المدح بإضمار «هُوَ».
قوله: ﴿وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات﴾ يجوز أن يكون «في السموات» متعلقاً بمحذوف حالاً من «الْكِبْرِياء» وأن يتعلق بما تعلق به الظروف الأول، لوقوعه خبراً.
ويجوز أن
375
يتعلق بنفس «الكبرياء» لأنها مصدر. وقال أبو البقاء: «وأن يكون يعني في السموات ظرفاً والعامل فيه الظرف الأول، والكبرياء، لأنها بمعنى العظمة». قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتة المصدرية.

فصل


لما تم الكارم في المباحث الرُّوحَانيَّة ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال: ﴿فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين﴾ أي فاحمدوا الله الذيه وخالق السموات والأرضين، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الرُّبُوبيَّة توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.
ثم قال: ﴿وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ يعني بكمال قدرته، يقدر على خلق أي شيء أراد، (و) بكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة.
وقوله: ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلاَّ هُوَ. روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يقول الله عزّ وجلّ:» الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحداً مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ «.
وروى أبي بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ»
مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ الحَاثيِية سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ وسَكَّنَ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ «.
376
سورة الأحقاف
377
وثانيها : قوله :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ الظاهر أن الرؤية بصرية فيكون «جاثية » حال١ قال الليث : الجَثْوُ الجُلُوسُ على الركب كالجِثِيّ بين يَدَي الحَاكِمِ٢، وذلك لأنها خائفة والمذنب مُسْتَوْفِزٌ٣. وقيل : مجتمعة، ومنه الجُثْوَةُ للقبر لاجتماع الأحجار عليه، قال ( الشاعر )٤ ( رحمه٥ الله ) :
٤٤٤٦ تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ٦
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )٧ جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها٨. قال الزمخشري وقرئ : جاذية٩ بالذال المعجمة قال : والجَذْوُ أشد من الجَثْوِ، لأن الجَاذِي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وهو أشد استيفازاً من الجاثِي١٠.
قوله :«كُلُّ أمة » العامة على الرفع بالابتداء، و«تُدْعَى » خبرها. ويعقوب بالنصب١١ على البدل من «كُلَّ أمَّة » الأولى، بدل نكرة موصوفة من مثلها.
قوله : إلَى كِتَابِهَا «أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفي باسم الجنس كقوله تعالى بعد ذلك :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ ﴾. قال سلمان الفارسي : إن في القيامة ساعةً هي عشرُ سنين، يَخِرُّ الناس فيها جثاةً على ركبهم، حتى إبراهيم ينادي ربه لا أسألك إلا نفسي.
قوله :«الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ » هذه الجملة معمولة لقول مضمر، التقدير : يقال لهم اليومَ تُجَزونَ و «الْيَوْمَ » معمول لما بعده و «مَا كنْتُمْ » هو المفعول الثاني١٢.
فإن قيل : الجثْو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة !
فالجواب : أن الجاثي الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة ( إلى )١٣ أن يظهر كونه محقاً.
فإن قيل : كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى ؟
فالجواب : لا منافاة بين الأمرين، لأنه كتابهم، بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه.
١ الدر المصون السابق أيضا..
٢ انظر غريب القرآن ٤٠٥ والمجاز ٢٠/٢١٠ واللسان (جثا) ٥٤٦ والبحر ٨/٥٠ والقرطبي ١٦/١٧٤..
٣ والمستوفز هو الذي رفع أليتيه ووضع ركبته. وانظر اللسان المرجع السابق..
٤ لفظ الشاعر زائد من ب..
٥ الجملة الدعائية تلك زائدة من أ فقط..
٦ من بحر الطويل لطرفة الشاعر الشعير يصف قبرين لغني وفقير، وهما سواء في هذين القبرين فلا يضر الفقير فقره ولا ينفع الغني غناه والشاهد: جثوتين مثنى جثوة بتثليث الفاء ضما وكسرا وفتحا وهي الحجارة. وروي في اللسان مصمد وهي قافية بيت آخر في نفس القصيدة، وانظر اللسان جثا ٥٤٦ والبحر المحيط ٨/٥٠ والسبع الطوال لابن الأنباري ٢٠٠ والقرطبي ١٦/١٧٤..
٧ زيادة من أ..
٨ البحر ٨/٥٠..
٩ ولم تنسب إلى من قرأ بها. وانظر البحر ٨/٥٠ والإبدال لابن السكيت ١٠٨ وأمالي القالي ٢/١٢٠ وهي شاذة..
١٠ الكشاف ٣/٥١٣..
١١ وهي قراءة الأعرج أيضا المحتسب ٢/٢٦٢ ومختصر ابن خالويه ١٣٨..
١٢ الكشاف ٣/٥١٣ والدر المصون ٤/٨٤١..
١٣ سقط من ب وانظر الرازي ٢٧/٢٧٢..
قوله :﴿ يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ أي يشهد عليكم بأعمالكم من غير زيادة ولا نقصان.
وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ١. و«ينطق » يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون «كتابنا » بدلاً و «ينطق » خبر وحده و «بالحق » حال٢.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم. وقيل : نستنسخ أي نأخذ نسخة، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له من ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، نحو قولهم : هلُم، واذهب، فالاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم. والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ كتابٌ من كِتَاب. وقال الضحاك : نستنسخ أي نُثْبِتُ. وقال السدي : نكتب. وقال الحسن : نَحْفَظُ٣.
١ الرازي ٢٧/٢٧٢..
٢ انظر البيان لابن الأنباري ٢/٣٦٦..
٣ القرطبي ١٦/١٧٥ و١٧٦ والبحر المحيط ٨/٥١..
ثم بين أحوال المطيعين فقال :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين ﴾ فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه١.

فصل


قالت المعتزلة : علّق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والعمل الصالح، والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة يجب أن لا يحصل الفوز بالجنة !
وأُجِيبَ : بأن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف٢.

فصل


سمى الثواب رحمة، والرحمة إنما يصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم ( تكن )٣ واجبةً، فوجب أن لا يكون الثوابُ واجباً على الله تعالى.
١ قاله الإمام الرازي في تفسيره الكبير ٢٧/٢٧٢ و٢٧٣..
٢ قاله الإمام الرازي في تفسيره الكبير ٢٧/٢٧٢ و٢٧٣..
٣ ساقطة من أ الأصل..
قوله :﴿ وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ ﴾ هذا على إضمار القول أيضاً، وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء أي ألَمْ تأتكم١ رسلي فَلَمْ تكن آياتي ؟٢

فصل


ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قِسماً ثالثاً، وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة في إثبات منزلة بين المنزلتين باطل، وفي الآية دليل على أن استحقاق العقوبة، لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وعلى أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم : إنَّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل٣.
١ في ب يأتكم بالياء..
٢ الكشاف ٣/٥١٣ وقد رده أبو حيان كثيرا وتكرارا. انظر البحر ٨/٥١..
٣ الرازي ٢٧/٣٧٣..
قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ ﴾ العامة على كسر الهمزة ؛ لأنها محكيَّةٌ بالقول، والأعْرَجُ وعمرو بن فائدٍ بفتحها١. وذلك مُخَرَّجُ على لغة سُلَيْمٍ يُجْرون القول مُجْرَى الظَّنِّ مطلقاً ومنه قوله :
٤٤٤٧ إذَا قُلْتُ أَنِّي آيِبٌ أهْلَ بَلْدَةِ . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
قوله :«وَالسَّاعة : قرأ حمزة بنصبها عطفاً على «وَعْدَ اللهِ٣ » والباقون برفعها، وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : الابتداء، ما بعدها من الجملة المنفية خبرها٤.
الثاني : العطف على محل إنّ واسمها معاً، لأن بعضهم كالفارسيِّ والزمخشري يَرَوْنَ أن ل «إنّ » واسْمِها موضعاً وهو الرفع بالابتداء٥.
قوله :«إلاَّ ظَنًّا » : هذه الآية لا بدّ فيها من تأويل، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع معمولاته مرفوعاً كان أم غير مرفوع، إلا المفعول المطلق، فإنه لا يفرغ له، لا يجوز : مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْباً ؛ لأنه لا فائدة، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل، فكأنه في قوة : مَا ضَرَبْتُ إلاَّ ضَرْبت. قاله٦ مكي وأبو البقاء٧. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا ؟ قلت : أصله نظن ظنًّا، ومعناه إثبات الظن حسبُ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيدُ نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله :﴿ وَمَا نَحْنُ٨ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾. فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها.
قال أبو حيان : وهذا كلام من لا شُعُور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعولٍ وغيرهما إلا المصدر المؤكد، فإنه لا يكون فيه٩.
وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه :
أحدها : ماقاله المبرد وهو أن الأصل : إنْ نَحْنُ إلاَّ نَظُنُّ ظَنًّا١٠ قال : ونظيره ما حكاه أبو عمرو١١ : لَيْسَ الطِّيبُ إلاَّ المسكُ. تقديره ليس إلا الطيبُ المسكُ. قال شهاب الدين : يعني أن اسم «ليس » ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك » في محل نصب خبرها. وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انْتَقَضَ نفيها «بإلا » قياساً على «ما الحجازية ». والمسألة طويلة مذكورة في كتب النحو١٢، وعليها حكاية جَرَتْ بين أبي عمرو، وعيسى ببن عُمَرَ١٣.
الثاني : أنّ «ظَنًّا : له صفة محذوفة تقديره : إلاّ ظَنًّا بَيِّناً، فهو مختص لا مؤكد١٤.
الثالث : أن يضمن ( نظن ) معنى «نعتقد » فينتصب «ظناً » مفعولاً به لا مصدراً١٥.
الرابع : أن الأصْل إنْ نَظُنُّ إلاَّ أنَّكُم تَظُنُّونَ ظَنًّا، فحذف هذا كله وهو معزوٌّ للمبرد أيضاً١٦. وقد رده عليه من حيث إنه حذف إنّ واسمها وخبرها وأبقى المصدر.
وهذا لا يجوز١٧.
الخامس : أن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فاستثني الشك كأنه قيل : مالنا اعتقاد إلاّ الشك١٨. ومثل الآية قول الأعشى :
٤٤٤٨ وَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلاََّ اغْتِرَارَا١٩
يريد اغتراراً بيناً.

فصل


قال ابن الخطيب : القوم كانوا في هذه المسألة على قولين، منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ [ الجاثية : ٢٤ ] ومنهم من كان شاكًّا متحيراً فيه ؛ لأنهم من كثرة ما سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحّته صاروا شاكين فيه، وهم المذكورون في هذه الآية، ويدل على ذلك أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤُلاء، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
١ قراءة شاذة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٨..
٢ صدر بيت من الطويل للحطيئة في وصف جمل وعجزه:
وضعت بها عنه الولية بالهجر
والولية: ما يوضع فوق ظهر البعير تحت الرجل، والهجر: نصف النهار عند اشتداد الحر. وآيب راجع. والشاهد فتح الهمزة بعد القول، فالقول هنا بمعنى الظن عاى لغة سليم وأن معمولاها سدت مسد المفعولين. وانظر التصريح ١/٦٢، والأشموني ٢/٣٨ والدر المصون ٤/٨٤١، والديوان ٢٢٥..

٣ السبعة ٥٩٥..
٤ البيان ٢/٣٦٦..
٥ الدر المصون ٤/٨٤٢ وقد قال المبرد في المقتضب: وتقول: إن زيدا منطلق وعمرا، وإن شئت وعمرو، وأحد وجهي الرفع ـ وهو الأجود منهما ـ أن تحمله على موضع "إن"، لأن موضعها الابتداء. فإذا قلت: إن زيدا منطلق فمعناه زيد منطلق. وانظر المقتضب ٤/١١. وهامشه أيضا ٤/١١٣.
وقال أبو علي في الحجة ٧/١٥٣: "والرفع الذي هو قراءة الجمهور من وجهين:
أحدهما: أن تقطعه من الأول، فتعطف جملة على جملة. والآخر أن يكون المعطوف محمولا على موضع إن وما عملت فيه. وموضعها رفع" وانظر الحجة السابق.
وقال الزمخشري في الكشاف: "وبالرفع عطفا على محل إن واسمها". الكشاف ٣/٥١٣، كما ذكر ذلك في المفصل، ورده عليه ابن يعيش قائلا: "وقول صاحب الكتاب، ولأن محل المكسورة وما عملت فيه الرفع جاز في قولك: إن زيدا ظريف وعمرا أن ترفع المعطوف ليس بسديد، لأن إن وما عملت فيه ليس للجميع موضع من الإعراب، لأنه لم يقع موقع المفرد، وإنما المراد موضع اسم إن قبل دخولها على تقدير سقوط إن وارتفاع ما بعدها بالابتداء". انظر ابن يعيش ٨/٦٧..

٦ قال: "لأن المصدر فائدته كفائدة الفعل، فلو جرى الكلام على غير حذف لصار تقديره إن نظن إلا نظن وهذا كلام ناقص، ولم يجر النحويون: ما ضرب إلا ضربا لأن معناه ما ضربت إلا ضربت؛ وهذا كلام لا فائدة فيه". انظر المشكل ٢/٢٩٨..
٧ التبيان ١١٥٣..
٨ الكشاف ٣/٥١٣ و٥١٤..
٩ البحر المحيط ٨/٥٢..
١٠ انظر الدر المصون ٤/٨٤٣ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٩٨..
١١ وقد قال أبو عمرو: ليس في الأرض حجازي إلا وهو وينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع. وانظر ذيل الأمالي والنوادر٣٩، وإنباه الرواة على أنباه النحاة ٤/١٤٠ و١٣١..
١٢ فقد قال سيبويه في الكتاب: "وقد زعم بعضهم أن ليس تجعل كما، وذلك قليل، لا يكاد يعرف، فهذا يجوز أن يكون منه: ليس خلق الله أشعر منه... هذا كله سمع من العرب. والوجه والحد أن تحمله على أن في ليس إضمارا وهذا مبتدأ كقوله: إنه أمة الله ذاهبة، إلا أنهم زعموا أن بعضهم قال: ليس الطيب إلا المسك، وما كان الطيب إلا المسك". انظر الكتاب ١/١٤٧، والدر المصون ٤/٨٤٣..
١٣ حكاها القالي في ذيل الأمالي والنوادر ٣٩..
١٤ ذكره ابن الأنباري في البيان ٢/٣٦٧، وانظر البحر المحيط ٨/٥١..
١٥ المرجع الأخير السابق، وقال أبو البقاء: "وقيل هي في موضعها لأن (نظن) قد تكون بمعنى العلم والشك، فاستثنى الشك أي ما لنا اعتقاد إلا الشك"، التبيان ١١٥٣..
١٦ ذكر هذا التقدير مكي في مشكل الإعراب ٢/٢٩٨ لكن لم ينسبه إليه ولا إلى غيره. وقد نسبه إليه أبو حيان في البحر ٨/٥٢ وقال: ولعله لا يصح. ونسبه إليه السمين في الدر المصون ٤/٨٤٣ نقلا عن أستاذه وشيخه أبي حيان..
١٧ هذا رأي أبي البقاء المرجع السابق الأخير..
١٨ هذا رأي أبي البقاء في التبيان كما سبق ١١٥٣..
١٩ هو له من بحر المتقارب، والمعنى أن الشيب جعله غافلا عما هو فيه غفلة واضحة. واغترارا من قولهم: اغتررت الرجل أي طلبت غفلته. والشاهد: ما اغتره الشيب إلا اغترارا حيث صح التنظير بالبيت على أن يحمل اغترارا على الموصوف الذي حذف صفته كما ذكر أعلى، فهو من الوجه الثاني الذي ذكره وقال الإمام ابن يعيش: "والتقدير: إن نحن إلا نظن ظنا، وما اغتره إلا الشيب اغترارا، فكان إلا في غير موقعها فهي مؤخرة والنية بها التقديم". وانظر شرح المفصل ٧/١٠٧ وشرح الرضي على الكافية ١/٢٣٦ والبحر ٨/٥٢، والدر المصون ٤/٨٤٤، والمغني ٢٩٥ وشرح شواهده للسيوطي ٧٠٤، وتمهيد القواعد ٢/٥٤٢ والديوان ٨٠..
ثم قال :«وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ » أي الآخرة ﴿ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ﴾ أي جزاؤها ﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ وهذا كالدليل على أن هذه الفِرقة لما قالوا : إنْ نظنّ إلاَّ ظناً إنما ذكروه استهزاء وسخرية، وعلى هذا الوجه فصار ذلك أول خسرانهم، فهذا الفريق أسوأ من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا مُنْكِرين، وما كانوا مُسْتَهْزِئِينَ وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.
قوله :﴿ وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ ﴾ أن نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ولقاء هذا اليوم. وقيل : نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه١.
قوله :﴿ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ ﴾ هذا من التوسع في الظرف، حيث أضاف إليه ما هو واقع فيه، كقوله :﴿ بَلْ مَكْرُ الليل والنهار ﴾ [ سبأ : ٣٣ ].
قوله :﴿ وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ فجمع الله عليهم من وجوه العذاب، ثلاثة أشياء، قطع الرحمة عنهم، وصيّر مأواهم النار، وعدم الأنصار.
١ الرازي ٢٧/٢٧٤..
ثم بين تعالى أن يقال لهم : إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب، لأنكم أتيتم ثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة، وهي الإصرار على إنكار الدين الحق والاستهزاء به، والسخرية والاستغراق في حب الدنيا، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا ﴾١.
قوله :﴿ فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ﴾ تقدم الخلاف في قوله :﴿ لا يخرجون منها ﴾ في أول الأعراف٢، وأن حمزة والكِسَائيّ قرءا بفتح الياء وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء٣. ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأنه لا يقبل في ذلك اليوم عذرٌ ولا توبة٤
١ الرازي المرجع السابق..
٢ يقصد قوله: ﴿ومنها تخرجون﴾ من الآية ٢٥، فقد قرأ الأخوان (حمزة والكسائي) بالبناء للفاعل وكذا هنا في الجاثية، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الراء في الأعراف وكذا هنا على البناء للمفعول. وانظر الإتحاف ٣٩٠، والسبعة ٢٧٩، والكشف ٢/٢٦٩، وتقريب النشر ١٧٣..
٣ انظر المراجع السابقة..
٤ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٣٦..
قوله تعالى :﴿ فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين ﴾ قرأ العامة «رَبّ » في الثلاثة بالجر تبعاً للجلالة، بياناً، أو بدلاً، أو نعتاً، وابن مُحَيْصِنٍ برفع الثلاثة على المدح بإضمار١ «هُوَ ».
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
لما تم الكلام في المباحث الرُّوحَانيَّة ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال :﴿ فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين ﴾ أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرضين، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الرُّبُوبيَّة توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.


١ قراءة شاذة ذكرها البحر المحيط ٩٨/٥٢ وشواذ القرآن ٢٢١..
قوله :﴿ وَلَهُ الكبرياء فِي السماوات ﴾ يجوز أن يكون «في السموات » متعلقاً بمحذوف حالاً من «الْكِبْرِياء » وأن يتعلق بما تعلق به الظروف الأول، لوقوعه خبراً.
ويجوز أن يتعلق بنفس «الكبرياء » لأنها مصدر١. وقال أبو البقاء :«وأن يكون يعني في السموات ظرفاً والعامل فيه الظرف الأول، والكبرياء، لأنها بمعنى٢ العظمة ». قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتة المصدرية٣.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
لما تم الكلام في المباحث الرُّوحَانيَّة ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال :﴿ فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين ﴾ أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرضين، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الرُّبُوبيَّة توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.


ثم قال :﴿ وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ يعني بكمال قدرته، يقدر على خلق أي شيء أراد٤، ( و )٥ بكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة.
وقوله :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلاَّ هُوَ. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عزّ وجلّ :«الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحداً مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ ».
١ الدر المصون ٤/٨٤٤..
٢ التبيان ١١٥٣..
٣ الدر المصون المرجع السابق..
٤ الواو سقطت من ب..
٥ انظر في هذا الرازي ٢٧/٢٧٥..
Icon