تفسير سورة الأعراف

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الأعراف
مكية إلا من آية ١٦٣ إلى غاية آية ١٧٠
فمدنية وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص

سورة الأعراف
مكية إلا من آية ١٦٣ إلى غاية آية ١٧٠ فمدنية وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص (سورة الأعراف) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك، وقيل: الحرج هنا الشك، فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين [آل عمران/ ٦٠] لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل وَذِكْرى منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى، لأن الذكر بمعنى التذكير، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا، وما زائدة للتوكيد أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا قيل: إنه من المقلوب تقديره: جاءها بأسنا فأهلكناها، وقيل: المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء، ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلف، والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى: بائتين أي بالليل، وقائلون: من القائلة: أي بالنهار، وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار، وأو هنا للتنويع دَعْواهُمْ أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون، وقيل: المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أسند الفعل إلى الجار والمجرور، ومعنى الآية: أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، ويسأل الرسل عما أجيبوا به فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والأمم وَالْوَزْنُ يعني وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي
يوم يسأل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي يكذبون بها ظلما خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قيل: المعنى أردنا خلقكم وتصويركم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل: خلقنا أباكم آدم ثم صورناه، وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة للتوكيد إِذْ أَمَرْتُكَ استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود، وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود فَاهْبِطْ مِنْها أي من السماء قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعليل، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره:
أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، وما مصدرية، وقيل: استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر صِراطَكَ يريد: طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية: أي من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه، وقال ابن عباس: من بين أيديهم الدنيا، ومن خلفهم الآخرة، وعن أيمانهم الحسنات، وعن شمائلهم السيّئات مَذْؤُماً من ذأمه بالهمز إذا ذمه مَدْحُوراً أي مطرودا حيث وقع فَوَسْوَسَ إذا تكلم كلاما خفيا يكرره، فمعنى وسوس لهما: ألقى لهما هذا الكلام لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس، أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه الشَّجَرَةِ ذكرت في [البقرة: ٣٥] إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي كراهة أن تكونا ملكين، واستدل به من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقرئ ملكين بكسر اللام «١»، ويقوي هذه القراءة قوله: وملك لا يبلى وَقاسَمَهُما أي حلف لهما: إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه
(١). تنسب هذه القراءة لابن عباس. وانظر الطبري.
اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما: وأقسما له أن يقبلا نصيحته
فَدَلَّاهُما أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ أي غرّهما بحلفه لهما لأنهما ظنّا أنه لا يحلف كاذبا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي زال عنهما اللباس، وظهرت عوراتهما، وكان لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر، وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به وَناداهُما رَبُّهُما يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك، أو بغير واسطة رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة، وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها اهْبِطُوا وما بعده مذكور في البقرة فِيها تَحْيَوْنَ أي في الأرض لِباساً أي الثياب التي تستر، ومعنى أنزلنا خلقنا، وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة رِيشاً أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر وَلِباسُ التَّقْوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه، وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع وشبهها، وقرئ بالرفع «١» على الابتداء أو خبره الجملة، وهي: ذلك خير ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى ما أنزل من اللباس، وهذه الآية واردة على وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني في غالب الأمر، وقد استدل به من قال: إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة، فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قيل: هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء، ويحتمل العموم في الفواحش قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما: تقليد آبائهم، والآخر: افتراؤهم على الله
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ قيل: المراد إحضار النية، والإخلاص لله،
(١). قراءة النصب هي لنافع وابن عامر والكسائي والباقون بالضم: لباس.
وقيل: فعل الصلاة والتوجه فيها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود، والأول أظهر، والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلّى الله عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا «١» كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى فَرِيقاً الأول منصوب بهدى، والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده خُذُوا زِينَتَكُمْ قيل: المراد به الثياب الساترة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، وقيل: المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الأمر فيهما للإباحة، لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل وَلا تُسْرِفُوا أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة، وقال الأطباء: إن الطب كله مجموع في هذه الآية، وقيل: لا تسرفوا بأكل الحرام قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إنكار لتحريمها هو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل، وكان بعض العرب إذا حجوا يجرّدون الثياب ويطوفون عراة، ويحرّمون الشحم واللبن، فنزل ذلك ردّا عليهم خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «٢» أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم، وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، وقرئ خالصة بالنصب على الحال، والرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مضمر وَالْإِثْمَ عام في كل ذنب وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي تفتروا عليه في التحريم وغيره ف إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، ولزمتها النون الشديدة المؤكدة، وجواب الشرط فمن اتقى الآية فَمَنْ أَظْلَمُ ذكر في الأنعام يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ
(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٣١٥
(٢). خالصة بالضم هي قراءة نافع وبالنصب قرأ الباقون.
أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ المراد بأولاهم الرؤساء والقادة، وأخراهم الأتباع والسفلة، والمعنى: أن أخراهم طالبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا: أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى، يوجب أن يكون عذابنا أشدّ من عذابكم بل: نحن وأنتم سواء فَذُوقُوا الْعَذابَ من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يصعد عملهم إلى السماء، والثاني لا يدخلون الجنة، فإن الجنة في السماء، والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا، فلا يدخلونها أبدا مِهادٌ فراش غَواشٍ أغطية لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا، وإنما قال:
نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع، وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله: نادى أصحاب الجنة، ونادى أصحاب الأعراف، ونادى أصحاب النار، وغير ذلك هَدانا لِهذا إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأن قد وجدنا، وأن لعنة، وأن سلام: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير لمعنى القول
ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي أعلم معلم وهو ملك وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله: فضرب بينهم بسور الْأَعْرافِ.
قال ابن عباس: هو تل بين الجنة والنار، وقيل: سور الجنة رِجالٌ هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث: أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة ولا النار، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم، فاستشهدوا، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم، ونجوا من النار للشهادة «١» يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم، أو غير ذلك من العلامات وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني من الكفار الذين في النار، قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ جَمْعُكُمْ يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق، فما ها هنا مصدرية وما في قوله «ما أغنى» استفهامية أو نافية أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا، وقيل: هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ دليل على أنّ الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأطعمة والأشربة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم كَما نَسُوا الكاف للتعليل وَما كانُوا عطف على كما نسوا: أي لنسيانهم وجحودهم
جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
(١). روى الطبري بإسناده عدة روايات حول أصحاب الأعراف فانظره إن شئت.
289
يعني القرآن فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي علمنا كيف نفصله إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره، وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين وظهر الآن أنّ الرسل جاءوا بالحق.
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره، وتأوّله قوم بمعنى: قصد كقوله: ثم استوى إلى السماء، ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش، وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى استولى بالملك والقدرة، و [القول] الحق:
الإيمان به من غير تكييف، فإنّ السلامة في التسليم، ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة، وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة، وجعفر الصادق، والحسن البصري، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلحق الليل بالنهار، ويحتمل الوجهين، هكذا قال الزمخشري، وأصل اللفظة من الغشاء، أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي سريعا، والجملة في موضع الحال من الليل أي طلب الليل النهار فيدركه أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قيل: الخلق المخلوقات، والأمر مصدر أمر يأمر، وقيل: الخلق مصدر خلق، والأمر واحد الأمور: كقوله: إلى الله تصير الأمور، والكل صحيح تَبارَكَ من البركة، وهو فعل غير منصرف لم تنطق له العرب بمضارع تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطمعا، وخفية من الإخفاء، وقرئ خيفة من الخوف الْمُعْتَدِينَ المجاوزين للحد، وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط فيه وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا، كما قال الله تعالى:
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: ٥٧] فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدّة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: ٤٩- ٥٠] «١» ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث، لو وزن خوف المؤمن
(١). قال العجلوني عنه في كشف الخفاء: مأثور من كلام السلف ومعناه صحيح وقال السيوطي أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند.
290
ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» «١»..
واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث درجات: الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور، والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة: بالرحم أو الترحم أو العفو، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب، أو على تقدير النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها
الرِّياحَ بُشْراً قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر، وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة، وإفرادها إذا كانت للعذاب، ومنه ورد في الحديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» «٢» وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو على هذا مصدر في موضع الحال، وقرئ بضمها وهو جمع نشر، وقيل: جمع منشور، وقرئ بضم النون وإسكان الشين نشر وهو تخفيف من الضم: كرسل ورسل، وقرئ بالباء «٣» في موضع النون وهو من البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قبل المطر أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا لأنها تحمل الماء فتثقل به سُقْناهُ الضمير للسحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: لا نبات فيه من شدّة القحط، وكذلك معناه حيث وقع فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ الضمير للسحاب أو البلد، على أن تكون الباء ظرفية كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تمثيل لإخراج الموتى من القبور، وبإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في
(١). رواه أحمد من حديث جابر ج ٣ ص ٣٧٢.
(٢). عزاه الإمام النووي في الأذكار للإمام الشافعي في كتابه الأم بسنده إلى ابن عباس.
(٣). وهي قراءة عاصم وقرأ نافع وغيره نشرا وقرأ غيرهم: نشرا.
مواضع منها: كذلك النشور، وكذلك الخروج
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ هو الكريم من الأرض الجيد التراب وَالَّذِي خَبُثَ بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها بِإِذْنِ رَبِّهِ عبارة عن السهولة والطيب، والنكد بخلاف ذلك، فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، أو تكون تمثيلا للقلوب، فقيل: على هذا الطيب:
قلب المؤمن، والخبيث: قلب الكافر. وقيل: هما للفهيم والبليد مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي غيره بالخفض حيث وقع على اللفظ، وقرأ غيره بالرفع على الموضع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم الْمَلَأُ أشراف الناس لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال، لأن الضلالة أخص من الضلال، كما إذا قيل لك عندك تمر، فتقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي أُبَلِّغُكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف «١»، والمعنى واحد، وهو في وضع رفع صفة لرسول أو استئناف أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من صفاته ورحمته وعذابه أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قال: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم: أي على لسان رجل منكم فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه والتقدير: استقروا معه في الفلك، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه عَمِينَ جمع أعمى وهو من عمى القلب أَخاهُمْ أي واحد من قبيلتهم، وهو عطف على نوحا، وهودا بدل منه أو عطف بيان، وكذلك أخاهم صالحا وما بعده، وما هو مثله حيث وقع الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيّد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد، بخلاف قوم نوح، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن، فأطلق لفظ الملأ أَمِينٌ يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق
خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كانوا
(١). قرأ أبو عمرو وحده بالتخفيف: أبلغكم.
عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا، وأطولهم مائة ذراع آلاءَ اللَّهِ نعمه حيث وقع قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ استبعدوا توحيد الله مع اعترافهم بربوبيته، ولذلك قال لهم هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي حقّ عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها يعني الأصنام: أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف، وأراد بقوله: سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها آلهة، فقولكم باطل فالجدال على القول الأول في عبادتها، وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة، والمراد بالأسماء على القول الأول: المسمى، وعلى القول الثاني: التسمية دابِرَ ذكر في [الأنعام: ٤٥] بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة وهي الناقة، وأضيفت إلى الله تشريفا لها، أو لأنه خلقها من غير فحل، وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه السلام أن يخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك، فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون، ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون لَكُمْ آيَةً أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح، والمجرور في موضع الحال من آية، لأنه لو تأخر لكان صفة وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون» «١»، مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي تتخذون بيوتا في الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف، والجبال في الشتاء، وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك: خطت هذا الثوب قميصا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
(١). رواه أحمد عن ابن عمر ج ٢ ص ١٤.
بدل من الذين استضعفوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نسب العقر إلى جميعهم لأنهم رضوا به، وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر الرَّجْفَةُ الصيحة حيث وقعت، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض فماتوا منها جاثِمِينَ حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الآية: يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم، لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم، أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا، وهو ظاهر الآية، وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم، وقوله: لا تحبون الناصحين: حكاية حال ماضية إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ العامل في إذ أرسلنا المضمر، أو يكون بدلا من لوط ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم، ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ الآية: أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن الفاحشة مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين، وقيل: من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا، أو من الباقين من أترابها يقال غبر بمعنى مضى، وبمعنى بقي، وإنما قال: من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم، وقلبت البلاد بمن كان فيها بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة، ولم تعين في القرآن آية شعيب فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ كانوا ينقصون في الكيل والوزن، فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك، والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان، كما جاء في هود المكيال والميزان، ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قيل هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردّون الناس عن اتباع شعيب
294
ويوعدونهم إن اتبعوه وَتَصُدُّونَ أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان، والضمير في به للصراط أو لله تَبْغُونَها عِوَجاً ذكر في [آل عمران: ٩٩] أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجهم، أو عودهم إلى ملة الكفر، فإن قيل: إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم: لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم، ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال، فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين: أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه، والثاني: قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك يجاب عن قوله: إن عدنا في ملتكم، وما يكون لنا أن نعود فيها قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أي إن عندنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله، وذلك تبرأ من العود فيها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه، وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم: أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، فإن قلت: إن ذلك يصح في حق قومه، وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر؟ فالجواب: أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى، واستسلاما لأمره كقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» «١» مع أنه قد علم أنه يثبته رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم
(١). رواه أحمد عن أنس ج ٣ ص ١٤١. [.....]
295
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قد تقدم بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بالمطر والزرع أَوَأَمِنَ من قرأ بإسكان الواو «١» فهي أو العاطفة، ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله: أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر أَوَلَمْ يَهْدِ أي أو لم يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ أي يسكنونها أَنْ لَوْ نَشاءُ هو فاعل أو لم يهد، ومقصود الآية الوعيد وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل، أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أو لم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ من قرأ عليّ بالتشديد «٢» على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر، وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق، وموضع أن لا أقول على هذا رفع، على أنه خبر حقيق، وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ على
(١). هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وقرأ الباقون: أو: بفتحتين.
(٢). هي قراءة نافع وقرأ الباقون: على بالتخفيف.
بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر، وحقيق صفة لرسول، وفي المعنى على هذا وجهان، أحدهما أن على بمعنى الباء فمعنى الكلام: رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدّى بعلى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة تدل على صدقي وهي العصا أو جنس المعجزات فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم، وذلك أنه لما توفي يوسف عليه السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ وكان موسى عليه السلام شديد الأدمة [السواد] فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه، ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشدّ بياضا، وقيل: إنها كانت منيرة شفافة كالشمس، وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه لِلنَّاظِرِينَ مبالغة في وصف يده بالبياض، وكان الناس يجتمعون للنظر إليها، والتعجب منها قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ حكى هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون، كأنه قاله هو وهم، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل، وقيل: المراد إخراج بني إسرائيل، وكانوا خدّاما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها فَماذا تَأْمُرُونَ من قول الملأ أو من قول فرعون، وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة، أو من الأمر وهو ضدّ النهي أَرْجِهْ من قرأه بالهمزة «١» فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته، فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما، وقيل: المراد بالإرجاء هنا السجن، ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة، أو يكون بمعنى الرجاء أي أطعمه، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان، وأما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف حاشِرِينَ يعني الشرطة أي جامعين للسحرة
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قيل: هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة إِنَّ لَنا لَأَجْراً من قرأه بهمزتين أإن فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة، والأجر هنا: الأجرة، طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى، فأنعم [أقرّ] لهم فرعون بها
(١). قرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر: (أرجئه) وقرأ نافع والكسائي: أرجهي وقرأ عاصم وحمزة: أرجه.
راجع الحجة لأبي زرعة ص ٢٩٠.
297
وزادهم التقريب منه والجاه عنده وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم، واختلف في عدد السحرة اختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيّروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدءوا هم بإلقاء سحرهم، فأمرهم أن يلقوا، وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل، وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الاسمية، إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي خوّفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل: إنه طال حتى جاوز الفيل تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم، وروي: أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومدّ موسى يده إليه فصار عصا كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر، وليس في قدرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآية: وعيد من فرعون للسحرة، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، لكن روى أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره، وقد ذكر معنى من خلاف في العقود [المائدة: ٣٦] قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أي ما تعيب منا إلا إيماننا لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه وَيَذَرَكَ معطوف على ليفسدوا، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو وَآلِهَتَكَ قيل: إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها، وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال: أنا ربكم الأعلى [النازعات: ٢٤]، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام، وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك: أي عبادتك والتذلل لك إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ وقيل: يعني أرض فرعون، فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله: يورثها من
298
يشاء من عباده، ثم صرح في قوله: عسى ربكم الآية فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ حض على الاستقامة والطاعة. بالسنين: أي الجدب والقحط
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الآية: إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا: هذه لنا وبسعدنا، ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى: أي قالوا هذه بشؤمه، فإن قيل: لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟
فالجواب: أن وقوع الحسنة كثير، والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد، وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمي به ما يصيب الإنسان. ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما، ثم قلبت الألف هاء، وقيل: هي اسم بسيط غير مركب. والضمير في به يعود على مهما، وإنما قالوا: من آية على تسمية موسى لها آية، أو على وجه التهكم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون وَالْجَرادَ هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم وَالْقُمَّلَ قيل هي صغار الجراد، وقيل:
البراغيث، وقيل: السوس، وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف، فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم وَالضَّفادِعَ هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه وَالدَّمَ صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما، وما يلي الإسرائيلي ماء وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم، فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بدعائك إليه ووسائلك، والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عندك فِي الْيَمِّ البحر حيث وقع
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو
إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الشام ومصر بارَكْنا فِيها أي بالخصب وكثرة الأرزاق وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي تمت لهم واستقرت، والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل، وقيل هي قوله: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يبنون، وقيل: هي الكروم وشبهها فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل مُتَبَّرٌ من التبار وهو الهلاك وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وما بعده مذكور في [البقرة: ٤٧].
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة مِيقاتُ رَبِّهِ أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور اخْلُفْنِي أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي
قالَ رَبِّ أَرِنِي لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها كما قال الشاعر:
وأفرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الديار من الديار
واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا، وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى، فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين: أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا، والآخر أن معنى أرني أنظر إليك: عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد، والثاني أبعد وأضعف، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية قالَ لَنْ تَرانِي قال مجاهد وغيره: إن الله قال لموسى لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت، فعلى هذا إنما جعل
300
الله الجبل مثالا لموسى، وقال قوم: المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله: فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا، فقوله تعالى: لن تراني نفي للرؤية، وليس فيه دليل على أنها محال، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لا استحالتها، ولو كانت الرؤية مستحيلة، لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: ٤٦]، فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك، وأما في الآخرة، فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينكرها إلا مبتدع، وبين أهل السنة والمعتزلة في مسألة الرؤية تنازع طويل، وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها، ولما فيه من الأقوال الفاسدة جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك: ضربت الأمير «١»، والدك والدق: أخوان، وهو التفتت، وقرئ: دكاء بالمد والهمز «٢» أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره، وقيل تفتت حتى صار غبارا، وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه تُبْتُ إِلَيْكَ معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي أول قومه أو أهل زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي هو عموم يراد به الخصوص، فإنّ جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة، واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا، والصحيح: أنه كلم نبينا محمدا صلّى الله تعالى عليه واله وسلم ليلة الإسراء فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة وكانت سبعة، وقيل: عشرة وقيل: اثنان وقيل: كانت من زمردة وقيل: من ياقوت، وقيل: من خشب مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم، وكذلك تفصيلا لكل شيء، وموضع كل شي نصب على أنه مفعول كتبنا، وموعظة بدل منه فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجدّ وعزم، والضمير للتوراة يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو، وكذلك سائر المباحات مع المندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي دار فرعون وقومه وهو مصر، ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا، وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها، وقيل: جهنم، وقرأ ابن عباس: سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة، وهي على
(١). قوله: «ضربت الأمير»، لم يتضح لي مراده من هذا المثال.
(٢). وهي قراءة حمزة والكسائي فقط.
301
هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ الآيات: يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي:
ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى هم بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد غيبته في الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي، وقرئ «١» بكسر الحاء للإتباع، وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة جَسَداً أي جسما دون روح، وانتصابه على البدل لَهُ خُوارٌ الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته اتَّخَذُوهُ أي اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك حذف من قوله: واتخذ قوم موسى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا يقال: سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره
أَسِفاً شديد الحزن على ما فعلوه، وقيل:
شديد الغضب كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: ٥٥] بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف، والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل ابْنَ أُمَّ كان هارون شقيق
(١). وهي قراءة حمزة والكسائي. وقرأ الباقون بالضم.
302
موسى، وإنما دعاه بأمّه، لأنه أدعى إلى العطف والحنوّ، وقرئ ابن أم بالكسر «١» على الإضافة إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تظن أني منهم أو لا تجد عليّ في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ أي: غضب في الآخرة وذلة في الدنيا وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، وقال الزمخشري: قوله سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له ألق الألواح وجرّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك وَفِي نُسْخَتِها أي فيما ينسخ منها، والنسخة فعلة بمعنى مفعول لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون، ودخلت اللام لتقدّم المفعول كقوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف:
٤٣]، وقال المبرّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء، والأول أظهر لقوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي الأمور كلها بيدك
(١). هي قراءة أهل الشام والكوفة وقرأ بالفتح: نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص.
303
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو:
استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ قيل: الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال: إنها تصحيف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة، وعموما في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموما في الرحمة، وفي كل شيء فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضا مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ
أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ هذا الوصف خصص أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال بعضهم: لما قال الله: ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله، وبقيت اليهود والنصارى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة، ولذلك قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]، قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأمّ وقيل: إلى الأمة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأمّيين أنت عبدي ورسولي، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به
304
الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» ٢١/ ٣.
ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم: ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين: ١٧].
ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام، وساعد موضع عيسى وفاران هي: مكة موضع مولد نبينا محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ومبعثه، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكّة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل الأرض الظلام، وعلا على الأمم المصاب، والرب يشرق عليك إشراقا، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته.
ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين: ١٦] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وظهور دينه وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم..
ومن ذلك أيضا من التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلّى الله عليه واله وسلّم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم..
ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة..
ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه
305
نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم في قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٣] وتفسير الفارقليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم محمد وأحمد وقيل معنى الفارقليط الشافع المشفع..
ومن ذلك في التوراة: مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون، وبيان ذلك أن أمته يقرءون: الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان من عظمائهم وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيرا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.
فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون الذي يحمدون الله على كل شرف، وعلى كل حال، وتتذلل بالتكبير ألسنتهم، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي:
والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.
306
ثم بلغني أن خليفة قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر، وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى ما تكون عاقبتهم. فلم أزل أقدّم ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام.
فو الله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: ٤٧] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم برحمته التي وسعت كل شيء.
ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل.
يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصيف
307
لك منه، فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي: أنقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت:
واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه، فقال: قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت: يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليّ صنيعة فلا تكررها، فقال إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء فكتب «١» له على ديره وما فيه، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتانا فقال لي:
أتراها فقلت: نعم، قال سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم.
فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين، قال:
نعم يا أمير المؤمنين، قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال:
نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه.
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد أرسله إلى عمان واليا عليها، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله قال عمرو: نعم، فقال اليهودي:
(١). الصواب: فكتبت.
308
لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم. فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات فيه. ثم خرج فأخبر بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبارك وشرف وكرم.
ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلموه، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر، وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرغب من يراه منه «١» فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه، أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات، وأن الخبائث هي المستقذرات: كالخنافس والعقارب وغيرها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك وَعَزَّرُوهُ أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ هو القرآن أو الشرع كله، ومعنى معه مع بعثه ورسالته
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً تفسيره قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة «٢» » فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ هي الكتب التي أنزلها الله عليه
(١). كذا في الأصل المطبوع ولعل في الكلام تصحيفا.
(٢). رواه أحمد عن أبي ذر وأوله: أوتيت خمسا ج ٥ ص ١٩١ ورواه صاحب عيون الأثر ج ١ ص ٨١ بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وعلى غيره من الأنبياء وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم في عصره وَقَطَّعْناهُمُ أي فرقناهم أَسْباطاً السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا مفردا، وقال الزمخشري على التمييز، لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس: أول الانفجار وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في [البقرة: ٥٧].
تنبيه: وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله: وإذ قلنا ادخلوا، وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله: وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء، فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض، وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها وَسْئَلْهُمْ أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ قيل: هي إيلياء، وقيل: هي طبرية، وقيل: مدين حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه أو على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت «وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها، وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت، وتغيب عنهم في سائر الأيام، وسبتهم مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظّم يوم السبت، ومعنى شرّعا: ظاهرة قريبة منهم يقال: شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون، أو بدل من إذ يعدون
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً للآية:
افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت يوم السبت بالصيد، وفرقة نهت عن ذلك
واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت، فلم تنه ولم تعص، وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله ولعلهم يتقون، فهلكت الفرقة العاصية، ونجت الناهية، واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد «١»، وقرئ بالهمز وتركه، وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ذكر في [البقرة: ٦٥] والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة، وقيل: فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا، والعذاب البئيس هو المسخ تَأَذَّنَ رَبُّكَ عزم، وهو من الإيذان بمعنى الإعلام لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ الآية أي يسلط عليهم، ومن ذلك أخذ الجزية، وهوانهم في جميع البلاد وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أي فرّقناهم في البلاد، ففي كل بلدة فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدّمين منهم بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي بالنعم والنقم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي حدث بعدهم قوم سوء، والخلف بسكون اللام ذم، وبفتحها مدح، والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين، وقيل: المراد النصارى يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي عرض الدنيا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ذلك اغترار منهم وكذب وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إشارة إلى كذبهم في قولهم: سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له، أو تكون أن حرف عبارة وتفسير
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد، وإعراب الذين عطف على الذين يتقون، أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين، وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير، لأن المصلحين هم
(١). بيس: قراءة نافع. وبئس: قراءة ابن عامر وقرأ أبو بكر عن عاصم: بيأس. والباقون: بئيس.
الذين يمسكون بالكتاب وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم: خذوا التوراة حين أبوا من أخذها، وقد تقدم في [البقرة: ٩٣] تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «١» وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الآية: في معناها قولان:
أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك والتزموه، روى هذا المعنى عن النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.
والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا، والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم، والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم: الآية، وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم في صورته، وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه قالُوا بَلى شَهِدْنا قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: نعم لكفروا، وأما قولهم: شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك، فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله، وقيل: إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ في موضع مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا، فهو من قول الله لا من قولهم، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم، وبالياء «٢» على الإخبار عنهم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه
(١). قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر: ذريّاتهم، وقرأ أهل مكة والكوفة: ذريّتهم.
(٢). هي قراءة أبو عمرو.
موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله، فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل، وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم، فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون: سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هو أمية بن أبي الصلت، وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرا، وفيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، فالآية على هذا ما كان عنده من العلم، والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي صفته كصفة الكلب، وذلك غاية في الخسة والرداءة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال كما أنّ لهث الكلب على كل حال. وقيل: إنّ ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه، وكصفة الرجل المشبه به لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا، وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أنّ الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ الآية: قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر
كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي لا يُبْصِرُونَ بِها ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة،
وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة «١». وسبب نزول الآية: أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أنّ الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مبينة أنّ تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد فَادْعُوهُ بِها أي سموه بأسمائه، وهنا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى، فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث، فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث، وقد ورد في كتاب الترمذي عدّتها أعني تعيين التسعة والتسعين، واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو موقوفة على أبي هريرة، وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قيل: معنى ذروا: اتركوهم، لا تحاجوهم ولا تتعرّضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله: وذرني والمكذبين [المزمل: ١١] وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله: هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه، وقيل: تسميته بما لا يليق، وقيل: تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ الآية روي أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم قال: هذه الآية لكم، وقد تقدّم مثلها لقوم موسى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج استفعال من الدرجة، أي: نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون، والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني بصاحبهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون، ويحتمل أن يكون قوله: ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبكم من جنة، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله: أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبارا استئنافا لقوله: ما بصاحبكم من جنة، والأوّل أحسن
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر استدلال ما خَلَقَ اللَّهُ عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء: جميع المخلوقات إذ
(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٦٦١. [.....]
جميعها دليل على وحدانية خالقها وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أن الأول مخففة من الثقيلة، وهي عطف على الملكوت، وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى، وأجلهم يعني: موتهم، والمعنى لعلهم يموتون عن قريب، ينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الضمير للقرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ السائلون اليهود أو قريش، وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب أَيَّانَ مُرْساها معنى أيّان: متى، ومرساها:
وقوعها وحدوثها، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ معنى يجليها يظهرها، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء، واللام في لوقتها ظرفية: أي عند وقتها، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال: الأوّل ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها، والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض، والثالث معنى ثقلت: أي ثقل علمها أي خفي يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها الحفيّ بالشيء هو المهتم به المعتني به، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها وقيل: المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين القولين يتعلق بيسألونك، وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير والشر، وقيل: إن قوله وما مسني السوء: استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين وأنذرهم، وخص بهم البشارة والنذارة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين، والأوّل أحسن
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يميل إليها ويستأنس بها تَغَشَّاها كناية عن الجماع حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى والكرب، وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل معناه قامت وقعدت فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ
أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا سالما في بدنه فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا:
جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما: أي فيما آتى أولادهما وذريتهما، وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها: إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما: أي في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح لثلاثة أوجه: أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع، والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة، وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي: سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم، والآخر أن قوله: وجعل منها زوجها، فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم، والمراد بقوله: ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، والمعنى: أنها مخلوقة غير خالقة، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم، ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة، فكيف يكونون آلهة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ «١» يعني: أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى أو إلى أن تهدي، لأنها جمادات سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ تأكيد وبيان لما قبلها، فإن قيل: لم قال: أم أنتم صامتون فوضع الجملة الاسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم؟ فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ رد على المشركين بأن آلهتهم عباد
(١). قرأ نافع يتبعوكم بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد يتّبعوكم.
فكيف يعبد العبد مع ربه فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا أمر على جهة التعجيز أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها وما بعده: معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة، ومن كان كذلك: لا يكون إلها، فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام، لأن المشركين مقرّون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تسمع، فلزمته الحجة، والهمزة في قوله «ألهم» للاستفهام مع التوبيخ، وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة، ومعنى بل وليست عاطفة قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ المعنى: استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد عليّ، ولا تؤخروني، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي، ومقصد الآية الردّ عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة، وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الآية: أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني، ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي، ثم وصف الله بأنه الذي نزّل الكتاب، وبأنه يتولى الصالحين، وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنزال الكتاب عليه، وبأن الله تولى حفظه، ومن تولى حفظه فهو من الصالحين، والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ الآية: ردّ على المشركين، وقد تقدّم معناه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم، وردّا على من عبدها، فإنها جمادات لا تسمع شيئا، فيكون المعنى كالذي تقدّم، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ إن كان هذا من وصف الأصنام، فقوله: ينظرون مجاز، وقوله: لا يبصرون حقيقة، لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا، وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون
خُذِ الْعَفْوَ فيه قولان: أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم، لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم، وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر:
خذي العفو منّي تستديمي مودتي
والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم، وذلك قبل فرض الزكاة، فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
أي بالمعروف وهو فعل الخير، وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي لا تكافي السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم، ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم جبريل عنها، فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق، وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح، وقيل كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب، فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك، كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به: نعوذ بالله من الشيطان الرجيم «١» طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ معناه لمة منه، كما جاء: «إنّ للشيطان لمة وللملك لمة» «٢»، ومن قرأ طائف بالألف، فهو اسم فاعل ومن قرأ طيف «٣» بياء ساكنة، فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدّد، كميّت وميت تَذَكَّرُوا حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله، أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ هو من بصيرة القلب وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الضمير في إخوانهم للشياطين، وأريد بقوله: طائف من الشيطان: الجنس، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار، ومعنى يمدّونهم: يكونون مددا لهم: يعضدونهم، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار، وضمير الفاعل للشيطان، ويحتمل أن يريد بالإخوان:
الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان وقرئ يمدّونهم بضم الياء «٤» وفتحها، والمعنى واحد، وفي الغيّ: يتعلق بيمدّونهم، وقيل: يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله، أو في الشيطان ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها الضمير في لم تأتهم للكفار، ولولا هنا عوض،
(١). رواه أحمد عن معاذ بن جبل بألفاظ قريبة ج ٥ ص ٣٠٤.
(٢). ذكره المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والنسائي وابن حبان عن مسعود الترمذي: حسن غريب.
(٣). هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو ومعنى: طيف: خاطرة من الشيطان.
(٤). هي قراءة نافع فقط.
318
وفي معنى اجتبيتها قولان: أحدهما اخترعتها من قبل نفسك، فالآية على هذا من القرآن، وكان النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم يتأخر عنه الوحي أحيانا، فيقول الكفار:
هلا جئت بقرآن من قولك، والآخر معناه: طلبتها من الله، وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة، أي يقولون: اطلب المعجزة من الله قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي معناه:
لا أخترع القرآن على القول الأول، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني هذا بَصائِرُ أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة، والثاني أنه الإنصات للخطبة، والثالث: أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين: أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه، والثاني أن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان، أو الذكر باللسان سرا، فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل: المراد صلاة الصبح والعصر، وقيل: فرض الخمس والأظهر الإطلاق إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة عليهم السلام، وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار وَلَهُ يَسْجُدُونَ قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله، والله أعلم.
319
Icon