ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ١٦) [سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى».
فاعل عبس ضمير غيبة، يراد به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه.
والأعمى الذي جاء إلى النبي، فلم يهشّ له، هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى.. وهو صحابى جليل، من المهاجرين الأولين.
وفى توجيه الحديث إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضمير الغائب، تكريم له من الله سبحانه وتعالى، وحماية لذاته الشريفة، من أن يواجه بالعتب واللوم، وأن تلتفت إليه الأنظار وهو فى تلك الحال التي يكون فيها بموضع اللائمة والعتاب.. فالذى عبس غائب هنا عن محضر هذه المواجهة والعتاب.
ويذكر النبي أيضا، من هذا العتاب الرقيق من ربه، أنه وهو فى مجلسه هذا مع عتاة قومه، أن هذا الأعمى، قد ورد عليه، ولم يكن يعلم من أمر النبىّ ما هو مشغول به، فجعل يسأل النبي أن يقرئه شيئا من آيات الله، فلم يلتفت إليه النبي، وهو يسأل، ويسأل، حتى ضاق به الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وظهر ذلك على وجهه الشريف..
«عَبَسَ وَتَوَلَّى»..
والعبوس: تقطيب الوجه، ضيقا، وضجرا، والتولّي: الإعراض عن الشيء، تكرّها له..
وإذ يذكر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه هذا، بعد أن تلقى تلك اللفتة الكريمة الرحيمة من ربه، ويراجع نفسه عليها، يلقاه قوله تعالى:
«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى».
وهنا ينتقل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حال الغيبة إلى حال الحضور، فبعد أن كان ينظر إلى ذاته من داخل، وكأنه مع ذات غير ذاته، إذا هو يرى ذاته ماثلة بين يديه، وكأنه هو الذي يحاسبها ويراجعها، وكأنه هو الذي يخاطب نفسه، ويقول لذاته: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» ! وتبدو الصورة هكذا:
ثم إن هذا الغائب، إذ يبسم بعد عبوس، وإذ يقبل بعد إعراض، وإذ يكون على الحال التي تتناسب ومقام الخطاب من ربه.. هنا يقبل عليه ربه- سبحانه وتعالى- مخاطبا معلّما، ومرشدا..
فتوجيه الخطاب من الله سبحانه، إلى النبي أولا، بضمير الغائب، فيه عتب، وفيه إعراض، وخطابه سبحانه إلى النبىّ ثانيا، بضمير الحاضر، فيه الرضا بعد العتب، والإقبال بعد الإعراض..
وفى قوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» - إشارة إلى ما كان يبغى هذا الأعمى من حضوره مجلس النبي، والإلحاح بسؤاله.. إنه يسأل سؤال من يريد مزيدا من العلم، ومزيدا من الهدى.
والاستفهام هنا يراد به النفي، أي ومن أين لك أنت أن تعلم أن هذا الأعمى لا ينتفع بما يسألك عنه، حتى تعرض عنه؟ أنت لا تعلم، وقد كان ينبغى فى تلك الحال أن تجيبه إلى ما سأل، لعله ينتفع بما يتعلمه، ولعله يتزكى، أي يتطهر بما يفاض عليه من علم، أو لعله يتلقى من حديثك إليه ما يقيم له عظة تنفعه، وتزيد فى إيمانه..
قوله تعالى:
«أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى».
هنا تفصيل لمجمل هذا الحدث، الذي جاء من أجله هذا العتاب.. أي كان موقفك هنا أيها النبي معدولا به عن الطريق الذي ينبغى أن يكون عليه..
وإليك بيان هذا الموقف:
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فإنك وقفت موقفا مخالفا لموقفك الأول، فبينما أنت تقبل على من أعرض عنك، وزهد فيما معك، إذا أنت تعرض عمن أقبل عليك، ورغب فيما بين يديك من نور الله!! «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى».
أليس ذلك كذلك؟ ألم يكن هذا موقفك؟
وكلّا.. إن الأمر ليس على هذا الوجه.. كما سنبين لك.
وفى قوله تعالى: «جاءك يسعى» إشارة إلى الرغبة المنبعثة من صدر هذا الأعمى، والتي تدفعه دفعا إلى أن يحثّ الخطا، وأن يسعى إلى النبي فى انطلاق وشوق، مع أنه قى قيد العمى والعجز.
وقوله تعالى: «وهو يخشى» حال أخرى، من فاعل: «جاءك» أي تلك حال هذا الأعمى، إنه جاءك ساعيا إليك، خاشيا لله..
وقوله تعالى: «فأنت عنه تلهى».. إشارة إلى أن ما كان فيه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حديث مع هؤلاء المشركين المعاندين من قومه، وأنه حديث لا محصّل له، ولا ثمرة من ورائه، إذ كان القوم معرضين عنه،
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ»..
أي ليس الأمر كما تصورته أنت أيها النبىّ، ولا على الموقف الذي وقفته هنا..
«إِنَّها تَذْكِرَةٌ» أي إن دعوتك، هى تذكرة للناس، وتنبيه للغافل، وحسب..
وليس لك أن تذهب إلى أبعد من هذا.. فمع كل إنسان عقله الذي يهديه، ومع كل إنسان فطرته التي من شأنها أن تدعوه إلى الحق والخير، وتصرفه عن الضلال والشر..
إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت.. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس، فمن شاء أجاب، ومن شاء أعرض!.
والضمير فى «ذكره» وهو الهاء، يعود إلى الله سبحانه وتعالى، فمن شاء ذكر ربه بهذه التذكرة التي جاءته من آيات الله، التي يتلوها عليه رسول الله..
قوله تعالى:
«فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ»..
قوله تعالى: «مرفوعة» أي عالية القدر، مطهرة من كل نقص أو عيب..
وقوله تعالى: «بأيدى سفرة» أي أنها محمولة من اللوح المحفوظ إلى رسل الله بأيدى ملائكة، يسفرون بها بين الله سبحانه وتعالى، وبين رسله، فهم سفراء الله إلى الرسل..
والبررة، جمع بارّ، وهو التقىّ النقي، المبرأ من الدنس والرجس..
هذا، وفى هذه الآيات التي ووجه فيها النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا العتاب الرحيم الرفيق من ربه- ما نود أن نقف عنده:
فأولا: أن قدر الإنسان ومنزلته، هى فيما فى عقله من بصيرة، وما فى قلبه من استعداد لتقّبل الخير والإقبال عليه.. وأن رجلا فقيرا أعمى يحمل مثل هذا العقل وذلك القلب، ليرجح ميزانه المئات والألوف من الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، ولو كانوا فى الناس سادة، وقادة، بمالهم، وجاههم وسلطانهم..
روى أن رسول الله ﷺ حين تألف من تألف من قادة قريش وزعمائها مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، مثل عيينة بن حصن، وأبى سفيان، ومعاوية، والأقرع بن حابس وغيرهم- سأله بعض أصحابه فى شأن جعيل بن سراقة، وأنه من فقراء المسلمين، ومن أهل البلاء فيهم..
فقال صلوات الله وسلامه عليه:
وثانيا: أن هؤلاء المشركين من قريش، لا يرى فيهم الإسلام شيئا يحرص عليه، ويشتدّ طلبه له، وأن أي مسلم من الجماعة التي دخلت فى دين الله، وآمنت به، وصدق إيمانها، هو- فى ميزان الإسلام شىء- عظيم، وأن بشاشة النبىّ فى وجهه لا يحرمه منها طمع فى إسلام هؤلاء المشركين الذين ما زالوا فى قبضة الشرك.. فالأمر هنا موازنة بين مؤمن، تحقّق إيمانه، وبين مشركين مطموع فى إيمانهم.. ومع هذا فإن سبقه إلى الإيمان- وبصرف النظر عن تقبّل هؤلاء المشركين للإيمان أو إعراضهم عنه- يجعل كفّته راجحة عليهم أبدا، ولن يلحقوا به حتى ولو وقع الإيمان فى قلوبهم مثل ما وقع فى قلبه، ففضل السبق إلى الإيمان، منزلة لا يبلغها إلا أهل السبق..
الآيات: (١٧- ٣٢) [سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٣٢]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
تعود هذه الآيات إلى الكشف عن نفوس أهل الكفر والضلال، وأنها نفوس منطوية على فساد قاتل لكل معنّى من معانى الحق والخير فيها..
وقوله تعالى: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» !! هو تعجب من أمر هذا الإنسان الذي يحمل فى كيانه الكفر والضلال.. والدعاء عليه بالقتل هنا هو جار على مألوف عادة العرب من دعائهم على من يكون على بدع من الأمر، وذلك فى الاستهجان، أو الاستحسان على السواء..
وقوله تعالى «ما أكفره» أي ما أشد كفره، وضلاله.. ويجوز أن تكون «ما» للاستفهام.. أي قتل الإنسان ماذا دعاه إلى الكفر؟
والمراد بالإنسان هنا، هو جنس هذا الإنسان الضال العنيد، لا كل الإنسان على إطلاقه..
قوله تعالى:
«مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟» هو كشف عن شناعة ضلال هذا الضال، وكفره بربه.. إنه من ضلاله البعيد، ينسى أن له خالقا خلقه من عدم أو ما يشبه العدم.
قوله تعالى:
«مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» هو جواب على هذا السؤال، الذي كان من شأن الإنسان أن يجيب عليه، ولو أنه أجاب على هذا السؤال الجواب الصحيح لآمن بربه، وشكر له.. ولكنه لم يسأل نفسه، هذا السؤال، ولم يجب أو لم يحسن الإجابة على هذا السؤال إذا
«مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ، فَقَدَّرَهُ».. فهذا هو الجواب وقوله تعالى: «فقدره» أي فقدر خلقه، وحدد صورته، وشكّل ذاته من تلك النطفة على الوجه الذي اقتضته إرادة الخالق جل وعلا فيه.. فكان ذكرا أو أنثى، جميلا أو قبيحا، ذكيّا أو غبيّا، غنيّا أو فقيرا.. إلى غير ذلك مما يتصل بالإنسان، ذاتا، وحياة..
قوله تعالى:
«ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أي ثم بعد أن تمّ تكوينه وخلقه، يسّره الله سبحانه وتعالى إلى الطريق الذي يسلكه فى الحياة، من استقامة وعوج، ومن هدى وضلال، ومن إيمان وكفر، كما يقول سبحانه: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» (١٠: البلد) قوله تعالى:
«ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» ثم أمات الله هذا الإنسان بعد أن انتهى أجله المقدور له فى الحياة الدنيا، وجعل له بعد الموت قبرا يدفن ويوارى جسده فى ترابه، فلا تظهر الأحوال التي تعرض له بعد الموت، من تعفن، وتفسخ وتحلل، والتي من شأنها أن تثير الاشمئزاز والهوان للكائن الإنسانى كله.. فكان هذا الدفن فى القبر مواراة لهذه السوءات، ولهذا قيل: «من تكريم الميت التعجل بدفنه».
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ».
قوله تعالى:
«كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» وهذا النفي فى قوله تعالى: «كلا» هو جواب على سؤال يرد عند عرض هذه الآيات التي تتحدث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وعن آثارها فى هذا الإنسان الذي كفر بربه، بعد أن خلقه من نطفة، ثم سوّاه رجلا..
والسؤال هو: هل آمن هذا الكافر الذي تتمثل فيه وجوه هؤلاء المشركين جميعا، بعد أن عرضت عليه هذه الآيات؟
فكان الجواب: كلا.. لمّا يقض ما أمره الله به، ودعاه إليه، من الإيمان والعمل الصالح.. وفى نفى هذا الخبر عن الإنسان بحرف النفي «لما» التي تفيد امتداد النفي إلى الوقت الحاضر، ولا تتجاوزه إلى المستقبل، الذي لم يحكم عليه إلى الآن بالنفي أو الإيجاب- فى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المخاطبين من المشركين فى شخص هذا الإنسان، وإن كانوا لم يؤمنوا بالله بعد، فهم ما زالوا فى معرض الإيمان، لم ينقطع بهم الطريق إليه، وأنه يرجى منهم أن يؤمنوا، أو أن يؤمن معظمهم.. وقد كان.. فهؤلاء المشركون، قد آمنوا بالله بعد هذا، ودخلوا فى دين الله أفواجا، ولم يبق منهم بعد الفتح مشرك.
والمراد بالأمر فى قوله تعالى: «ما أمره» - هو الأمر التكليفي،
قوله تعالى:
«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا» وفى هذه الآيات لقاء مع الإنسان أمام معرض آخر من معارض قدرة الله، بعد أن عرضت عليه ذاته الإنسانية، وما لله سبحانه وتعالى فيها من عجيب الخلق وبديع الصنع، فلم يحدث له ذلك ذكرا، ولم يفتح له طريقا إلى الإيمان بالله.
وفى هذا المعرض، يرى الإنسان دلائل قدرة الله، فبما هو خارج عن ذاته الإنسانية، إذ قد يرى الإنسان ما هو خارج عن ذاته، دون أن يرى هذه الذات ولا ما بداخلها..
فهذا الطعام الذي يأكله الإنسان.. من أين جاء؟ ومن جاء به؟
فلينظر الإنسان إلى هذا الطعام، ولينظر إلى أنا قد صببنا الماء صبّا، أي أنزلناه من السماء، ثم شققنا الأرض شقّا بما يخرج منها من نبات، فخرج من هذه التشققات الحبّ، وهو كل ما حصد من برّ، وأرز، وشعير، وذرة، ونحوها..
كما خرج منها العنب، والقضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا، كالبصل، والفجل، ونحوها.
وخرج منها الزيتون، الذي يستخرج منه الزيت، ليكون إداما، والنخل الذي يثمر النمر الذي يتفكّه به بعد الطعام م ٩٢- التفسير القرآن ج ٣٠
وفى هذه الحدائق الغلب، ذات الظلال الممدودة، والفواكه الدانية القطوف، بسط ممدودة من العشب، الذي يكسو أرض هذه الحدائق بهجة، وجمالا..
وهذا العشب هو «الأبّ» الذي يمسك بالأرض، ويلتصق بها، ويتأبّى- مع صغره، وضعف سوقه- على الرياح والعواصف أن تنتزعه من مكانه.. هذا، وفى تلك النعم التي ينعم بها الإنسان، جانب تناله الأنعام وتأكل منه، كورق الشجر، والعنب، والقضب ونحوه. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه النعم: «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ».
وقد اختلف العلماء فى معنى كلمة «الأبّ» وتواردت عليها كثير من الآراء، والروايات، لما رأوا من غرابة هذه الكلمة، وقلة دورانها على الألسنة، ومجيئها فى سياق كلمات معروفة، كثيرة التداول، كالحبّ والعنب، والقضب، والزيتون والنخل.
وحين تكثر الآراء حول معنى كلمة من الكلمات، تجلب لها الروايات التي تضيف أقوالا إلى صحابة رسول الله، بل إلى رسول الله أحيانا، يسند بها كل
«كلّ هذا قد عرفنا.. فما الأب» ؟ قالوا: «ثم رفض عمر عصا كانت بيده- أي كسرها غضبا على نفسه، ولوما لها- وقال: «هذا لعمرو الله التكلف..
وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟».. ثم قال: «اتّبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، ومالا، فدعوه!!».
ونحن نقطع بتلفيق هذين الخبرين، وإلا كان علينا أن نلغى عقولنا، وأن نعطل مداركنا، ولنا على القطع بتلفيق هذين الخبرين أكثر من شاهد:
فأولا: هذه الآية، فى سورة مكية، ومن أوائل ما نزل بمكة من آيات الله.. وهذا يعنى أن هذه الآية كانت على ألسنة السابقين الأولين من المسلمين، كأبى بكر وعمر- رضى الله عنهما- وأنها كانت مما يتلى من آيات الله كل يوم مرات كثيرة، وليس يعقل- مع هذا- أن تظل كلمة «الأب» خفية الدلالة، بين هذه المجموعة من الكلمات التي تعدد نعم الله، والأب لا شك نعمة من تلك النعم، وصنف من أصنافها- نقول لا يعقل أن تظل هذه الكلمة- وهذا شأنها- خفيّة الدلالة على أصحاب رسول الله، ثم لا يتوجهون إليه- صلوات الله وسلامه عليه- بالسؤال عنها، إن كان معناها غائبا عنهم! وثانيا: لا يعقل أيضا أن يمضى العهد المكي، ثم العهد المدني، دون أن
ورابعا: ورد فى الشعر العربي الجاهلى، أكثر من شاهد، يدل على أن العرب كانوا يعرفون كلمة الأب فى قاموس لغتهم، وكانوا يستعملونها فى المعنى المناسب لها..
ومن الأشعار المروية، ما يروى عن الأعشى من قوله فى الفخر:
جذمنا قيس وسعد دارنا | ولنا الأبّ بها والمكرع «١» |
«إذا سمعت هذه الروايات، فلا تظنّ أن سيدنا عمر بن الخطاب ينهى عن تتبع معانى القرآن، والبحث عن مشكلاته، ولكنه يريد أن يعلمك أن الذي عليك من حيث أنت مؤمن، إنما هو فهم جملة المعنى.. فالمطلوب منك فى هذه الآيات، هو أن تعلم أن الله يمنّ عليك بنعم أسداها إليك فى نفسك، وتقويم حياتك، وجعلها متاعا لك ولأنعامك.. فإذا جاء فى سردها لفظ لم تفهمه، لم يكن من جدّ المؤمن- أي من حظه- أن ينقطع لطلب هذا المعنى، بعد فهم
ثم يمضى الإمام فيقول:
«هكذا كان شأن الصحابة- رضى الله عنهم- ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلا شاغلا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاء هم معطلة عن العمل الصالح والشكر» !..
الآيات: (٣٣- ٤٢) [سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» الصاخة: هى الطامة الكبرى، التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» (٣٤: النازعات) وهى تلك الأحداث المزلزلة التي تقع يوم القيامة..
وسميت صاخة، لأنها تصخّ الآذان، أي تقرعها قرعا شديدا عاتيا، بما يكون من صراخ وعويل، وصرير أسنان.. فى هذا اليوم العظيم.
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ، وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» يوم، هو الظرف، الذي تجىء فيه هذه الصاخة، المدويّة، المرعبة..
وفى هذا اليوم: «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.»
يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه، وعونه، وأمنه، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» : فكل إنسان فى هذا اليوم همّه الذي يشغله، ويستغرق كل ذرة فى كيانه، فلا يبقى عنده فضل لغيره، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم.
ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم فى هذه الآيات، أنه غاص فى أعماق النفس الإنسانية، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم فى زحمة هذا البلاء، حسب درجة شعوره بهم، ووزنه لكل منهم..
إنه يفرّ أولا من الناس جميعا.. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد..
ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه.. هم أهله، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه.. أخوه، وأمه وأبوه، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه- تحت قسوة الموقف- أن يفر منهم جميعا.. ومع أن زحمة الأحداث، وشدة البلاء- لا تدع له فرصة للاختيار، إلا أنه فى لحظة خاطفة، من أجزاء الزمن، أشبه بالذرات- يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى، القريب، فالأقرب، فمن هو أشد قربا..
فيفر أولا من أخيه، ثم أمه وأبيه، ثم زوجة، ثم يكون آخر من ينفصل عنه
فإذا كان الإنسان واقعا ليد الخطر فعلا، وقد أحاط به من كل جانب، وعلقت به النار من رأسه إلى أخمص قدمه- فما الحركة الشعورية للنفس فى دفع هذا الخطر، وإطفاء تلك النار المشتعلة فيه؟
نجد الجواب على هذا فى قوله تعالى، فى سورة المعارج، إذ يقول سبحانه:
«يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى». (١١- ١٥)
إن الحركة الشعورية للإنسان هنا تأخذ اتجاها عكس الاتجاه الأول، الذي أخذته فى موقف الفرار..
ففى موقف الفرار، هناك شىء من السعة، يتيح للإنسان أن يتحرك
أما فى موقفه وقد أحاط به البلاء، واشتملت عليه النار، فإنه ليس ثمة إلا أن يمد يده إلى أقرب شىء يمكن أن يصل إليه، ليقيم منه ستارا على جسده الذي تأكله النار، وقد يكون هذا الشيء بعض أعضاء جسده هو، كيده، التي يدفع بها النار عن وجهه مثلا!! وأقرب شىء إلى الإنسان بعد أعضائه، هم بنوه، ثم صاحبته (زوجه) ثم.. ثم أسرته من أعمام، وأبناء أعمام.. ثم أهل الأرض جميعا.. كل هؤلاء يتخذ منهم دروعا واقية له، يرمى بهم فى وجه البلاء واحدا بعد واحد، ولكن هيهات أن يجد من أىّ وقاية من هذا البلاء..
إنه مجرد أمل يراوده لو أمكنته الفرصة من تحقيقه، ولكن ليس إلى ذلك من سبيل..!
فهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، الذي يستولى ببيانه على حقائق الأشياء، وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، فإذا هى فى وجه صبح مشرق مبين!!.. «١»
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ»..
هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي فإذا جاءت القيامة، فأمر الناس مختلف، فهم فريقان:
- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» أي مشرقة بالبهجة والمسرة، تضحك استبشارا بما لاح لها من دلائل الفوز، وما هبّ عليها من أنسام الرضوان والجنان..
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» أي عليها غبرة الكمد والحسد، وسواد الكآبة والمذلة.. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ».. أي يعلوها الشحوب، ويعتصر ماءها
والحديث عن الوجوه عوضا عن أصحابها- هو- كما قلنا فى غير موضع- لما فى الوجوه من قدرة على التعبير عما فى النفوس من مشاعر وعواطف.. حيث ينطبع عليها كلّ ما يقع على الإنسان مما يسوء أو يسرّ..
ولها: نزلت بمكة بعد سورة المسد.
عدد آياتها: تسع وعشرون.. آية.
عدد كلماتها: مائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة «عبس» عرض ليوم القيامة، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين، حتى ليفر الكافر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه..
وقد جاءت سورة «التكوير» بعدها، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا، التي كانوا فيها، والتي يودون الفرار إليها..
فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب، وعادوا إلى الدنيا، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم؟ أيؤمنون بهذا اليوم، وما يلقى الكافرون فيه؟ وإنهم لفى هذا اليوم فعلا، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد.. فماذا هم فاعلون؟.. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه..