تفسير سورة النحل

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
مكية إلا قولة تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، إلى آخر السورة وآياتها مائة وثمان وعشرون آية.

سُورَةُ النَّحْلِ
مَكِّيَّةٌ [مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً] (١) إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (٢). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) ﴾
﴿أَتَى﴾ أَيْ جَاءَ وَدَنَا وَقَرُبَ، ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَاكَ الْأَمْرُ وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ بَعْدُ، أَيْ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا.
﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَةُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ" (الْقَمَرِ-١) قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ [قَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَ قَوْلُهُ "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ" (الْأَنْبِيَاءِ-١)، فَأَشْفَقُوا، فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ] (٣) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ فَوَثَبَ
(١) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٢) روى مجاهد، وعطية، وابن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها مكية كلها، وهو مروي عن الحسن وعكرمة وعطاء. وقال ابن عباس في رواية: مكية إلا "وإن عاقبتم... " الآية (١٢٦) فنزلت بعد قتل حمزة. وقال في رواية أخرى: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة، وهي قوله تعالى: "ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا" إلى قوله "يعملون" (الآيات ٩٥-٩٧). وقال الشعبي: مكية إلا: "وإن عاقبتم" إلى آخر الآيات (١٢٦-١٢٨). وقال قتادة: مكية إلا خمس آيات. وقال مقاتل: مكية إلا سبع آيات. وقال جابر ابن زيد: أنزل من أول النحل أربعون آية بمكة، وبقيتها بالمدينة. وعن علي بن زيد قال: كان يقال لسورة النحل: سورة النعم، لكثرة تعداد النِّعم فيها. انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٢٥-٤٢٦، الدر المنثور: ٥ / ١٠٧.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ رُءُوسَهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ حَقِيقَةً فَنَزَلَتْ ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ فَاطْمَأَنُّوا (١).
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ الشَّيْءِ قَبْلَ حِينِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ، وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي" (٢).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا: عُقُوبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (٣). وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا.
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ.
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) ﴾
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾ قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَ ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾ نَصْبٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الزَّايِ وَ" الْمَلَائِكَةُ " رَفْعٌ، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ﴾ بِالْوَحْيِ، سَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُحْيِيِ بِهِ الْقُلُوبَ وَالْحَقَّ.
قَالَ عَطَاءٌ: بِالنُّبُوَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالرَّحْمَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "بِالرُّوحِ" يَعْنِي مَعَ الرُّوحِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ. ﴿مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا﴾ أَعْلِمُوا: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرُوهُمْ بِقَوْلِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" مُنْذِرِينَ مُخَوِّفِينَ بِالْقُرْآنِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا.
(١) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص (٣٢١) بدون إسناد، وبمعناه أخرجه الطبري: ١٤ / ٧٥، وانظر: الدر المنثور: ٥ / ١٠٨، القرطبي: ١٠ / ٦٦.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في "المسند": ٢ / ٥٠، قال ابن حجر في "الفتح": ١١ / ٣٤٨: "أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن". وأصل الحديث في البخاري، كتاب الرقاق: ١١ / ٣٤٧، وفي مسلم في كتاب الفتن: ٤ / ٢٢٦٨. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١٥ / ٩٨.
(٣) أسباب النزول للواحدي ص (٣٢١).
وَقَوْلُهُ: "فَاتَّقَوْنِ" أَيْ فخافون.
﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) ﴾
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) ﴾
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيِ: ارْتَفَعَ عَمَّا يُشْرِكُونَ. ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، ﴿مُبِينٌ﴾
نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ جَاءَ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ فَقَالَ: أَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يحيي هذا بعدما قَدْ رَمَّ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" (يَس-٧٧)، نَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا (١).
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَفِيهَا بَيَانُ الْقُدْرَةِ وَكَشْفُ قَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ جَحْدِ نِعَمِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ (٢). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ يَعْنِي: مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا مَلَابِسَ وَلُحُفًا تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا، ﴿وَمَنَافِعُ﴾ بِالنَّسْلِ وَالدَّرِّ وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَغَيْرِهَا، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ يَعْنِي لُحُومَهَا. ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ زِينَةٌ، ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ أَيْ: حِينَ تَرُدُّونَهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ مَرَاعِيهَا إِلَى مَبَارِكِهَا الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا، ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ أَيْ: تُخْرِجُونَهَا بِالْغَدَاةِ مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى مَسَارِحِهَا، وَقَدَّمَ الرَّوَاحَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَمَالِكُهَا يَكُونُ أَعْجَبَ بِهَا إِذَا رَاحَتْ. ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ أَحْمَالَكُمْ، ﴿إِلَى بَلَدٍ﴾ آخَرَ غَيْرِ بَلَدِكُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْبَلَدُ مَكَّةُ، ﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ أَيْ: بِالْمَشَقَّةِ وَالْجُهْدِ. وَالشِّقُّ: النِّصْفُ أَيْضًا أَيْ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ
(١) أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٢)، القرطبي: ١٠ / ٦٧، زاد المسير: ٤ / ٤٢٨.
(٢) وهذا ما رجحه الطبري حيث قال: " عنى بالإنسان: جميع الناس، أخرج بلفظ الواحد، وهو في معنى الجميع"، وإليه مال ابن عطية في تفسيره. ويدخل سبب النزول المذكور في معنى الآية وتبقى هي أعم. انظر: الطبري: ١٤ / ٧٨، المحرر الوجيز: ٨ / ٣٧٠.
إِلَّا بِنُقْصَانِ قُوَّةِ النَّفْسِ وَذَهَابِ نِصْفِهَا.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ﴿بِشَقِّ﴾ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ: رَطْلٍ وَرِطْلٍ.
﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ بِخَلْقِهِ حَيْثُ جَعَلَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَنَافِعَ.
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨) ﴾
﴿وَالْخَيْلَ﴾ يَعْنِي: وَخَلَقَ الْخَيْلَ، وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَالْإِبِلِ وَالنِّسَاءِ، ﴿وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ يَعْنِي وَجَعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ مَعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا.
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ [وَإِلَيْهِ ذَهَبَ] (١) الْحَكَمُ، وَمَالُكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَشُرَيْحٍ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ (٢).
وَمَنْ أَبَاحَهَا قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ اللَّهِ عِبَادَهُ نِعَمَهُ وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو -هُوَ ابْنُ دِينَارٍ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ". (٣).
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٤).
(١) في "ب": وهو قول.
(٢) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٢-٤، أحكام القرآن لابن العربي: ٣ / ١١٤٤-١١٤٧، أحكام القرآن للهراس الطبري: ٤/١٧٠، تفسير القرطبي: ١٠ / ٧٦-٧٩.
(٣) أخرجه البخاري في الصيد والذبائح، باب لحوم الخيل: ٩ / ٦٤٨، ومسلم في الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (١٩٤١) : ٣ / ١٥٤١. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١١ / ٢٥٤.
(٤) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل: ٥ / ٣٠٨، والترمذي في الأطعمة، باب ما جاء في لحوم الخيل: ٥ / ٥٠٥، والنسائي في الصيد والذبائح، باب الإذن في أكل لحوم الخيل: ٧ / ٢٠٢، وابن ماجه في الذبائح، باب لحوم البغال، برقم (٣١٩١) : ٢ / ١٠٦٤، والطحاوي في شرح معاني الآثار: ٢ / ٣٢٢، والحاكم في المستدرك: ٤ / ٢٣٥، والإمام أحمد في المسند: ٣ / ٣٥٦، والمصنف في شرح السنة: ١١ / ٢٥٦. وأصل الحديث في الصحيحين، وانظر: نصب الراية: ٤ / ١٩٧، تلخيص الحبير: ٤ / ١٥٠.
وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ؛ رُوِيَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ (١) وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قِيلَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا، وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: السُّوسَ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودَ فِي الْفَوَاكِهِ.
﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ يَعْنِي: بَيَانُ طَرِيقِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: بَيَانُ الْحَقِّ بالآيات والبراهين ١٩٩/أوَالْقَصْدُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ يَعْنِي: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌّ، فَالْقَصْدُ مِنَ السَّبِيلِ: دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْجَائِرُ مِنْهَا: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَسَائِرُ مِلَلِ الْكُفْرِ.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَصْدُ السَّبِيلِ": بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "قَصْدُ السَّبِيلِ" السُّنَّةُ، "وَمِنْهَا جَائِرٌ" الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ" (الْأَنْعَامِ-١٥٣).
﴿وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" (السَّجْدَةِ-١٣). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ﴾ تَشْرَبُونَهُ، ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ﴾ أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شُرْبُ أَشْجَارِكُمْ، وَحَيَاةُ نَبَاتِكُمْ، ﴿فِيهِ﴾ يَعْنِي: فِي الشَّجَرِ، ﴿تُسِيمُونَ﴾ تَرْعَوْنَ مَوَاشِيَكُمْ.
(١) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل: ٥ / ٣٠٨، وقال: "وهذا منسوخ، وقد أكل الخيل جماعة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، رضي الله عنهم، وكانت قريش في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذبحها". قال المنذري: والحديث ضعيف، وانظر أيضا: ٥ / ٣١٦-٣١٧، كما ضعفه المصنف كما تراه. وأخرجه أيضا: النسائي في الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الخيل: ٧ / ٢٠٢، وابن ماجه في الموضع السابق: ٢ / ١٠٦٦، والدارقطني في الصيد والذبائح: ٤ / ٢٨٧، والإمام أحمد في المسند. ونقل السندي في تعليقه على النسائي اتفاق العلماء على تضعيف الحديث، وقال بعضهم إنه منسوخ. وانظر: تلخيص الحبير: ٤ / ١٥٠-١٥١، نصب الراية: ٤ / ١٩٦.
﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) ﴾
﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ﴾ أَيْ: يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ، يَعْنِي بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " نُنْبِتُ " بِالنُّونِ. ﴿الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ﴾ [ذَلَّلَ لَكُمْ] (١) ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ﴾ مُذَلَّلَاتٌ، ﴿بِأَمْرِهِ﴾ أَيْ: بِإِذْنِهِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ (٢) ﴿وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ﴾ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَمَا ذَرَأَ﴾ خَلَقَ، ﴿لَكُمْ﴾ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ: وَسَخَّرَ مَا خَلَقَ لِأَجْلِكُمْ، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا، ﴿مُخْتَلِفًا﴾ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ﴿أَلْوَانُهُ﴾
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَعْتَبِرُونَ. ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ يَعْنِي: السَّمَكَ، ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ يَعْنِي: اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ جَوَارِيَ.
قَالَ قَتَادَةُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً، وَهُوَ أَنَّكَ تَرَى سَفِينَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تُقْبِلُ وَالْأُخْرَى تُدَبِرُ، تَجْرِيَانِ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَوَاخِرَ" أَيْ: مَمْلُوءَةً.
(١) ساقط من "ب".
(٢) في "ب": جعفر.
12
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: شَوَاقُّ تَشُقُّ الْمَاءَ بِجَنَاحَيْهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخُرُ السُّفُنَ الرِّيَاحُ.
وَأَصْلُ الْمَخْرِ: الرَّفْعُ وَالشَّقُّ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فَلْيَسْتَمْخِرِ الرِّيحَ" (١) أَيْ لِيَنْظُرْ مِنْ أَيْنَ مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا، فَلْيَسْتَدْبِرْهَا حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ الْبَوْلُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَوَائِخُ، وَالْمَخْرُ: صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ عِنْدَ شِدَّتِهَا.
﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ يَعْنِي: التِّجَارَةَ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ إِذَا رَأَيْتُمْ صُنْعَ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ.
(١) أخرجه ابن حبان في المجروحين: (٣ / ١٠٨) بلفظ: "إذا أراد أحدكم الخلاء فلا يستدبر الريح" وذكره الزمخشري في الفائق: (٣ / ٣٥٠) عن سراقة بن مالك قال لقومه: إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله.. واستمخروا الريح"، وذكره ابن الأثير في النهاية: (٤ / ٣٠٥) بنحوه، وأشار الزيلعي إليه في نصب الراية: (٢ / ١٠٣) وعزاه للطبري في "تهذيب الآثار"، وروى الدارقطني في السنن: ١ / ٥٧ بلفظ ".. ولا يستقبل الريح" وقال: لم يروه غير مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث. قال ابن الأثير: والمخر في الأصل: الشق، يقال: مخرت السفينة الماء: إذا شقته بصدرها وجرت. واستمخروا الريح أي: اجعلوا ظهوركم إلى الريح عند البول؛ لأنه إذا ولاها ظهره أخذت عن يمينه ويساره، فكأنه قد شقها.
13
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) ﴾
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أَيْ: [لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ] (١) أَيْ تَتَحَرَّكَ وَتَمِيلَ.
وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّوَّارِ الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ: مَيَدٌ.
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُقِرَّةٍ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِهَا فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ فَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتِ الْجِبَالُ.
﴿وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا﴾ أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا وَطُرُقًا مُخْتَلِفَةً، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إِلَى مَا تُرِيدُونَ فَلَا تَضِلُّونَ. ﴿وَعَلَامَاتٍ﴾ يَعْنِي: مَعَالِمَ الطُّرُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ابْتَدَأَ، ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِالْعَلَامَاتِ الْجِبَالَ، فَالْجِبَالُ تَكُونُ عَلَامَاتِ النَّهَارِ، وَالنُّجُومُ عَلَامَاتُ اللَّيْلِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْكُلِّ النُّجُومَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ بِالنَّجْمِ، الثُّرَيَّا، وَبَنَاتِ نَعْشٍ، وَالْفَرْقَدَيْنِ، وَالْجَدْيَ، يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْقِبْلَةِ.
(١) زيادة من "ب".
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خَلْقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِتَكُونَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ (١)
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) ﴾
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ﴾ يَعْنِي: اللَّهَ تَعَالَى، ﴿كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ﴾ لِتَقْصِيرِكُمْ فِي شُكْرِ نِعَمِهِ، ﴿رَحِيمٌ﴾ بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ، وَلَمْ يَقْطَعْهَا عَنْكُمْ بِالتَّقْصِيرِ وَالْمَعَاصِي. ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " يَدْعُونَ " بِالْيَاءِ. ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ ﴿أَمْوَاتٌ﴾ أَيِ: الْأَصْنَامُ ﴿غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ ﴿أَيَّانَ﴾ مَتَى (٢) ﴿يُبْعَثُونَ﴾ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ تُبْعَثُ وَتُجْعَلُ فِيهَا الْحَيَاةُ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ عَابِدِيهَا.
وَقِيلَ: مَا يَدْرِي الْكُفَّارُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ مَتَى يُبْعَثُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ﴾ جَاحِدَةٌ، ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ مُتَعَظِّمُونَ.
(١) أخرجه البخاري تعليقا في بدء الخلق، باب في النجوم: ٦ / ٢٩٥، ووصله الطبري في التفسير: ١٤ / ٩١-٩٢، وأخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وزاد في آخره: "وإن ناسا جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من غرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والدميم. وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر شيء من الغيب". انظر: فتح الباري: ٦ / ٢٩٥، تفسير ابن كثير: ٤ / ٣٩٧. وراجع حكم التنجيم وتفصيل القول فيه: تفسير القرطبي: ١١ / ١، ١٩ / ٢٨-٢٩، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص ٣٦٥-٣٧٠، عالم الغيب والشهادة تأليف عثمان جمعة ضميريه ص (١٢٨-١٣١).
(٢) ساقط من "ب".
﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) ﴾
﴿لَا جَرَمَ﴾ حَقًّا ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِيٍّ الْبَسْطَامِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَخْتَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي عِيسَى الْهِلَالِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا؟ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ" (١). ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَهَا (٢) إذا سأل منهم الْحَاجُّ: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ. ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ﴾ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، ﴿كَامِلَةً﴾ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَمَالَ لِأَنَّ الْبَلَايَا الَّتِي تَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْحَسَنَاتِ لَا تُكَفِّرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ يَحْمِلُونَ.
أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" (٣).
(١) أخرجه مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم (٩١) : ١ / ٩٣، والمصنف في شرح السنة: ١٣ / ١٦٥.
(٢) جمع عقبة، وانظر فيما سبق، سورة الحجر، الآية (٩) : ص ٣٦٩.
(٣) أخرجه مسلم في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، برقم (٢٦٧٤) : ٤ / ٢٠٦٠، والمصنف في شرح السنة: ١ / ٢٣٢.
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ﴾
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وَهُوَ نَمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ، بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُهُ فَرْسَخَيْنِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ (١) وَأَلْقَتْ رَأْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي وَهُمْ تَحْتَهُ، وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمَئِذٍ فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَابِلَ، وَكَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ (٢) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ أَيْ: قَصَدَ تخريب بنيانهم ١٩٩/ب مِنْ أُصُولِهَا ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ﴾ يَعْنِي أَعْلَى الْبُيُوتِ ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ مِنْ مَأْمَنِهِمْ. ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ﴾ يُهِينُهُمْ بِالْعَذَابِ، ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ تُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ، مَا لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ؟
وَكَسَرَ نَافِعٌ النُّونَ مِنْ "تُشَاقُّونَ" عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا.
﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ] (٣) ﴿إِنَّ الْخِزْيَ﴾ الْهَوَانَ، ﴿الْيَوْمَ وَالسُّوءَ﴾ أَيِ: الْعَذَابَ، ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ، قَرَأَ حَمْزَةُ " يَتَوَفَّاهُمْ " بِالْيَاءِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بِالْكُفْرِ، وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾
(١) ساقط من "أ".
(٢) ليس في هذه التفصيلات عن الصرح وطوله... وتبلبل الألسنة... إلخ نص ثابت عن المعصوم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصار إليه، وهذا وأمثاله متلقى من الإسرائليات، والله أعلم.
(٣) ساقط من "أ".
أَيِ: اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا وَقَالُوا: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ شِرْكٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ: عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ.
﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) ﴾
﴿فَادْخُلُوا﴾ أَيْ: قَالَ لَهُمُ ادْخُلُوا ﴿أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عَنِ الْإِيمَانِ.
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءَ سَأَلَ الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى الطُّرُقِ عَنْهُ، فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ، كَاهِنٌ، شَاعِرٌ، كَذَّابٌ، مَجْنُونٌ، وَلَوْ لَمْ تَلْقَهُ خَيْرٌ لَكَ، فَيَقُولُ السَّائِلُ: أَنَا شَرُّ وَافِدٍ إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَلْقَاهُ، فَيَدْخُلُ مَكَّةَ فَيَرَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ يَعْنِي: أَنْزَلَ خَيْرًا (١).
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ إِلَى الْعَشْرِ.
وَقَالَ الضَّحَاكُ: هِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ.
﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ أَيْ وَلَدَارُ الْحَالِ الْآخِرَةِ، ﴿خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ مُؤْمِنِينَ طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: زَاكِيَةً أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ.
(١) انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٤٢-٤٤٣.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ وَفَاتَهُمْ تَقَعُ طَيِّبَةً سَهْلَةً. ﴿يَقُولُونَ﴾ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ وَقِيلَ: يُبَلِّغُونَهُمْ سَلَامَ اللَّهِ، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٤) ﴾
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ. ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: كَفَرُوا، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بِتَعْذِيبِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمِ الْخَبِيثَةِ، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾ [نَزَلَ بِهِمْ] (١) ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يَعْنِي: الْبَحِيرَةَ، وَالسَّائِبَةَ، وَالْوَصِيلَةَ، وَالْحَامِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ رَضِيَهَا لَغَيَّرَ ذَلِكَ وَهَدَانَا إِلَى غَيْرِهَا، ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ أَيْ: لَيْسَ إِلَيْهِمُ الْهِدَايَةُ إِنَّمَا إِلَيْهِمُ التَّبْلِيغُ. ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾ أَيْ: كَمَا بَعَثْنَا فِيكُمْ، ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وَهُوَ كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ﴾ أَيْ: هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى دِينِهِ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾
(١) ساقط من "ب".
أَيْ: وَجَبَتْ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: مَآلُ أَمْرِهِمْ، وَهُوَ خَرَابُ مَنَازِلِهِمْ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ.
﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) ﴾
﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ " يَهْدِي " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ مَنْ أَضَلَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ كَمَا قَالَ: "ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ" (الْأَعْرَافِ-١٨٦).
﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أَيْ: مَانِعِينَ مِنَ الْعَذَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ وَهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: ﴿بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمُ الْحَقَّ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ الْمَوْتَى فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا فِي إِحْيَائِهِمْ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ، إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ.
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي عَبْدِي، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، وَشَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ، أَنْ يَقُولَ: لَنْ يُعِيدَنَا كَمَا بَدَأَنَا، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، أَنْ يَقُولَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ" (١).
(١) أخرجه البخاري في التفسير، سورة البقرة، باب "وقالوا: اتخذ الله ولدا سبحانه" ٨ / ١٦٨،.
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) ﴾
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ عُذِّبُوا وَأُوذُوا فِي اللَّهِ.
نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَخَبَّابٍ، وَعَمَّارٍ، وَعَابِسٍ، وَجَبْرٍ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، أَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ فَعَذَّبُوهُمْ (١).
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ حَتَّى لَحِقَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ هِجْرَةٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢).
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ وَهُوَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُمُ الْمَدِينَةَ.
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ [مِنَ الْمُهَاجِرِينَ] (٣) عَطَاءً يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (٤).
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ.
﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وَقَوْلُهُ: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"، يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ. ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ فِي اللَّهِ عَلَى مَا نَابَهُمْ (٥) ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا (٦) ؟
(١) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٢)، زاد المسير: ٤ / ٤٤٨ وفيه "عايش" بدلا من "عابس"، ولم أجد لـ "عايش" ترجمة. وقارن بالمحرر الوجيز: ٨ / ٤٢١.
(٢) انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٣١، الطبري: ١٤ / ١٠٧.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٤٩٣، المحرر الوجيز: ٨ / ٤٢٢.
(٥) في "ب": فاتهم.
(٦) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٣)، الطبري: ١٤ / ١٠٩، الدر المنثور: ٥ / ١٣٢-١٣٣.
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧) ﴾
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَالِبِ لِلْبَاءِ فِي قَوْلِهِ ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ وإلا بِمَعْنَى غَيْرُ، مَجَازُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قبلك بالبينات ٢٠٠/أوَالزُّبُرِ غَيْرَ رِجَالٍ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ نَبْعَثْ مَلَائِكَةً.
وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ [أَرْسَلْنَاهُمْ] (١) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْوَحْيَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ، وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا﴾ عَمِلُوا ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي: نَمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾ بِالْعَذَابِ، ﴿فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي اخْتِلَافِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ، ﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بِسَابِقِينَ اللَّهَ. ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ وَالتَّخَوُّفُ: التَّنَقُّصُ، أَيْ: يُنْقِصُ مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَنَوَاحِيهِمُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ حَتَّى يَهْلَكَ جَمِيعُهُمْ، يُقَالُ: تَخَوَّفَهُ الدَّهْرُ وَتَخَوَّنَهُ: إِذَا نَقَصَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَحَشَمَهُ.
وَيُقَالُ: هَذَا لُغَةُ بَنِي هَزِيلٍ.
وَقَالَ الضَّحَاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مِنَ الْخَوْفِ، أَيْ: يُعَذِّبُ طَائِفَةً فَيَتَخَوَّفُ الْآخَرُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ.
(١) ساقط من "ب".
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ -قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ-إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِسْمٍ قَائِمٍ، لَهُ ظِلٌّ، ﴿يَتَفَيَّأُ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. ﴿ظِلَالُهُ﴾ أَيْ: تَمِيلُ وَتَدُورُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَهِيَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ، ثُمَّ تَتَقَلَّصُ، ثُمَّ تَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ إِلَى حَالٍ أُخْرَى سُجَّدًا لِلَّهِ، فَمَيَلَانُهَا وَدَوَرَانُهَا: سُجُودُهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُقَالُ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ: فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَاءَ، أَيْ: رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَالْفَيْءُ الرُّجُوعُ. وَالسُّجُودُ الْمَيْلُ. وَيُقَالُ: سَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ: أَمَّا الْيَمِينُ: فَأَوَّلُ النَّهَارِ، وَالشِّمَالُ: آخِرُ النَّهَارِ، تَسْجُدُ الظِّلَالُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الظِّلُّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَقُدَّامَكَ وَخَلْفَكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَتْ، فَإِذَا طَلَعَتْ كَانَ مِنْ قُدَّامِكَ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ كَانَ خَلْفَكَ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ كَانَ عَنْ يَسَارِكَ، فَهَذَا تَفَيُّؤُهُ، وَتَقَلُّبُهُ، وَهُوَ سُجُودُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الظِّلَالِ: سُجُودُ الْأَشْخَاصِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ؟
قِيلَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَامَتَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ" (الْبَقَرَةِ-٧)، وَقَوْلِهِ: "يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (الْبَقَرَةِ-٢٥٧).
وَقِيلَ: الْيَمِينُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ". وَلَفْظُ "مَا" وَاحِدٌ، وَالشَّمَائِلُ: يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى.
﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ صَاغِرُونَ. ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إنما أخبر بما لِغَلَبَةِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فِي الْعَدَدِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ كَتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ أَرَادَ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ. وَيُقَالُ: السُّجُودُ: الطَّاعَةُ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُطِيعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فُصِّلَتْ-١١).
وَقِيلَ: سُجُودُ الْأَشْيَاءِ تَذَلُّلُهَا وَتَسَخُّرُهَا لِمَا أُرِيدَتْ لَهُ وَسُخِّرَتْ لَهُ.
وَقِيلَ: سُجُودُ الْجَمَادَاتِ وَمَا لَا يَعْقِلُ: ظُهُورُ أَثَرِ الصُّنْعِ فِيهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَدْعُو الْغَافِلِينَ إِلَى السُّجُودِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ" (فُصِّلَتْ-٥٣).
﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ خَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَشْرِيفًا وَرَفْعًا لِشَأْنِهِمْ.
وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِالدَّبِيبِ إِذْ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ بِهَا.
وَقِيلَ؛ أَرَادَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَتَسْجُدُ الْمَلَائِكَةُ. ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) ﴾
﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ كَقَوْلِهِ: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ" (الْأَنْعَامِ-١٨).
﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّعَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعَ أَصَابِعَ إِلَّا وَفِيهَا مَلَكٌ يُمَجِّدُ اللَّهَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَصَعِدْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ"، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعَضَّدُ". رَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: "إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" (١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ﴾ الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ ﴿وَاصِبًا﴾ دَائِمًا ثَابِتًا.
(١) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله: ٦ / ٦٠١، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وابن ماجه في الزهد، باب الحزن والبكاء: ٢ / ١٤٠٢، وصححه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٥١٠، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٥ / ١٧٣. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١٤ / ٣٦٩-٣٧٠.
مَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ بِزَوَالٍ أَوْ هَلَاكٍ، غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَدُومُ لَهُ وَلَا تَنْقَطِعُ.
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ أَيْ: تَخَافُونَ، اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ.
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) ﴾
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ الْقَحْطُ وَالْمَرَضُ، ﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ تَضِجُّونَ وَتَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ.
﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾. ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ لِيَجْحَدُوا، [وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: حَاصِلُ أَمْرِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ] (١) ﴿بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ النَّعْمَاءِ وَكَشْفِ الضَّرَّاءِ وَالْبَلَاءِ، ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ أَيْ: عِيشُوا فِي الدُّنْيَا الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبْتُهَا لَكُمْ، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ. هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾ لَهُ حَقًّا، أَيِ: الْأَصْنَامِ، ﴿نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَا جَعَلُوا لِلْأَوْثَانِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، فَقَالُوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.
ثُمَّ رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ فَقَالَ: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا. ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ وَهُمْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ الَّذِينَ يَشْتَهُونَهُمْ، فَتَكُونُ "مَا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَتَكُونُ "مَا" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ. ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ مُتَغَيِّرًا مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ، ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَغَيْظًا فَهُوَ يَكْظِمُهُ أَيْ: يُمْسِكُهُ وَلَا يُظْهِرُهُ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) ﴾
﴿يَتَوَارَى﴾ أَيْ: يَخْتَفِي، ﴿مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ: ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى "مَا" ﴿عَلَى هُونٍ﴾ أَيْ: هَوَانٌ، ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ ٢٠٠/ب أَيْ: يُخْفِيهِ مِنْهُ، فَيَئِدُهُ.
وَذَلِكَ: أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً، خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فِيهِنَّ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا: أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ، وَتَرَكَهَا تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهَا: تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً، قَالَ لِأُمِّهَا: زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا: انْظُرِي إِلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾
وَكَانَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ (١). وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: "أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" (النَّجْمِ-٢٢)، وَقِيلَ: بِئْسَ حُكْمُهُمْ وَأْدُ الْبَنَاتِ. ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ يَعْنِي لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ ﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾ صِفَةُ السُّوءِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْوَلَدِ، وَكَرَاهِيَةِ الْإِنَاثِ، وَقَتْلِهِنَّ خَوْفَ الْفَقْرِ، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ، مِنَ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْبَقَاءِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَثَلُ السَّوْءِ": النَّارُ، وَ"الْمَثَلُ الْأَعْلَى": شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
(١) انظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ١١٧.
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ (٦٢) ﴾
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾
قَالَ قَتَادَةُ فِي الْآيَةِ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ نُوحٍ، فَأَهْلَكَ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ (١)
رُوِيَ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّ الْحُبَارَى تَمُوتُ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ (٢).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْجُعَلَ لَتُعَذَّبُ فِي جُحْرِهَا بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ (٣).
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ آبَاءَ الظَّالِمِينَ بِظُلْمِهِمُ انْقَطَعَ النَّسْلُ، وَلَمْ تُوجَدِ الْأَبْنَاءُ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ.
﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ﴾ يُمْهِلُهُمْ بِحِلْمِهِ إِلَى أَجَلٍ، ﴿مُسَمًّى﴾ إِلَى مُنْتَهَى آجَالِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَعْمَارِهِمْ. ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ لِأَنْفُسِهِمْ يَعْنِي الْبَنَاتِ، ﴿وَتَصِفُ﴾ أَيْ: تَقُولُ، ﴿أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ يَعْنِي الْبَنِينَ، مَحَلُّ "أَنَّ" نَصْبٌ بَدَلٌ عَنِ الْكَذِبِ.
قَالَ يَمَانِ: يَعْنِي بِـ "الْحُسْنَى": الْجَنَّةَ فِي الْمَعَادِ، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي الْبَعْثِ.
﴿لَا جَرَمَ﴾ حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ فِي الْآخِرَةِ، ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: مُسْرِفُونَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: مُضَيِّعُونَ أَمْرَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
(١) أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (الدر المنثور: ٥ / ١٤٠).
(٢) أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، والبيهقي في "الشعب" (الدر المنثور: ٥ / ١٤٠).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب". انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٤٠.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُبْعَدُونَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَتْرُوكُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" (١) أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ.
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) ﴾
(١) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الرقاق، باب الحوض وقول الله: "إنا أعطيناك الكوثر": ١١ / ٤٦٣، ومسلم في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم (٢٤٩) : ١ / ٢١٨.
﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) ﴾
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمُ﴾ الْخَبِيثَةَ، ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ﴾ نَاصِرُهُمْ، ﴿الْيَوْمَ﴾ وَقَرِينُهُمْ، سَمَّاهُ وَلِيًّا لَهُمْ، لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فِي الْآخِرَةِ. ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا بَيَانًا وَهُدًى وَرَحْمَةً، فَالْهُدَى وَالرَّحْمَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ "لِتُبَيِّنَ". ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يَعْنِي: الْمَطَرَ: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ بِالنَّبَاتِ، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يُبُوسَتِهَا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سَمْعَ الْقُلُوبِ لَا سَمْعَ الْآذَانِ. ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ لَعِظَةً، ﴿نَسْقِيكُمْ﴾ بِفَتْحِ النُّونِ هَاهُنَا وَفِي الْمُؤْمِنِينَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ وَاحِدٌ.
وَلَفْظُ النَّعَمِ مُذَكَّرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ: النَّعَمُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ أَنَّثَ فَلِمَعْنَى الْجَمْعِ،
وَمَنْ ذَكَّرَ فَلِحُكْمِ اللَّفْظِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَدَّهُ إِلَى مَا يَعْنِي فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكِنَايَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَى الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ، كَأَنَّهُ قَالَ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ، إِذْ لَيْسَ لِكُلِّهَا لَبَنٌ، وَاللَّبَنُ فِيهِ مُضْمَرٌ.
﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ﴾ وَهُوَ مَا فِي الْكَرِشِ مِنَ الثِّقْلِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى فَرْثًا، ﴿وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا﴾ مِنَ الدَّمِ وَالْفَرْثِ لَيْسَ عَلَيْهِ لَوْنُ دَمٍ وَلَا رَائِحَةُ فَرْثٍ.
﴿سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ هَنِيئًا يَجْرِي عَلَى السُّهُولَةِ فِي الْحَلْقِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُغَصَّ أَحَدٌ بِاللَّبَنِ قَطُّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَكَلَتِ الدَّابَّةُ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ فِي كَرِشِهَا وَطَحَنَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا، وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنَ، وَأَعْلَاهُ الدَّمَ، وَالْكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهَا، تُقَسِّمُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ (١).
﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) ﴾
﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ يَعْنِي: وَلَكُمْ أَيْضًا عِبْرَةٌ فِيمَا نُسْقِيكُمْ وَنَرْزُقُكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ﴾ وَالْكِنَايَةُ فِي ﴿مِنْهُ﴾ عَائِدَةٌ إِلَى "مَا" مَحْذُوفَةٌ أَيْ: مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، ﴿سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾
قَالَ قَوْمٌ: "السَّكَرُ": الْخَمْرُ، وَ"الرِّزْقُ الْحَسَنُ": الْخَلُّ، وَالزَّبِيبُ، وَالتَّمْرُ وَالرُّبُ، قَالُوا: وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "السَّكَرُ": مَا شَرِبْتَ وَ"الرِّزْقُ الْحَسَنُ": مَا أَكَلْتَ (٢).
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ "السَّكَرَ" هُوَ الْخَلُّ، بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ (٣).
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: "السَّكَرُ" النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّ، وَالْمَطْبُوخُ مِنَ الْعَصِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَاكِ وَالنَّخَعِيِّ (٤).
وَمَنْ يُبِيحُ شُرْبَ النَّبِيذِ وَمَنْ حَرَّمَهُ يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: الْإِخْبَارُ لَا الْإِحْلَالُ.
(١) انظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ١٢٤-١٢٥، زاد المسير: ٤ / ٤٦٤.
(٢) انظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ١٢٨، زاد المسير: ٤ / ٤٦٤، الدر المنثور: ٥ / ١٤٢، أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٤.
(٣) انظر: القرطبي: ١٠ / ١٢٨، أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٤.
(٤) انظر: القرطبي: ١٠ / ١٢٨، أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٤.
وَأَوْلَى الْأَقَاوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ مَنْسُوخٌ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "السَّكَرُ" [مَا حَرَّمَ] (١) مِنْ ثَمَرِهَا، وَ"الرِّزْقُ الْحَسَنُ": مَا أَحَلَّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "السَّكَرُ": الطُّعْمُ، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ لَكَ أَيْ: طُعْمٌ (٢).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) ﴾
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ أَيْ: أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي أَنْفُسِهَا، فَفَهِمَتْهُ، وَالنَّحْلُ: زَنَابِيرُ الْعَسَلِ، وَاحِدَتُهَا نَحْلَةٌ.
﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ يَبْنُونَ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَهَا يَبْنُونَ لَهَا الْأَمَاكِنَ، فَهِيَ تَأْوِي إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْكُرُومُ. ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ ٢٠١/ألَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ الْعُمُومَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" (النَّمْلِ-٢٣).
﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ قِيلَ: هِيَ نَعْتُ الطُّرُقِ، يَقُولُ: هِيَ مُذَلَّلَةٌ لِلنَّحْلِ سَهْلَةُ الْمَسَالِكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّلُلُ نَعْتُ النِّحَلِ، أَيْ: مُطِيعَةٌ مُنْقَادَةٌ بِالتَّسْخِيرِ. يُقَالُ: إِنَّ أَرْبَابَهَا يَنْقُلُونَهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَلَهَا يَعْسُوبٌ إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ سَارَتْ.
﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ﴾ يَعْنِي: الْعَسَلَ ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ. ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ أَيْ: فِي الْعَسَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِي الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أُولَى.
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(١) ساقط من "ب".
(٢) انظر: زاد المسير: ٤ / ٢٦٤.
فَقَالَ: إِنْ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا قَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ"، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ (١).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ (٢).
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ (٣).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فَيَعْتَبِرُونَ.
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) ﴾
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ صِبْيَانًا أَوْ شُبَّانًا أَوْ كُهُولًا ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أَرْدَئِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْهَرَمَ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً.
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ لِكَيْلَا يَعْقِلَ بَعْدَ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا محمد بن يوسف، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، [حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ] (٤) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: "أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" (٥).
(١) أخرجه البخاري في الطب، باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: "فيه شفاء للناس": ١٠ / ١٣٩، ومسلم في السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم (٢٢١٧) : ٤ / ١٧٣٦-١٧٣٧، واللفظ له، وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١٢ / ١٤٧.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير. انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٤٤.
(٣) أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه وأخرجه ابن ماجه، وابن مردويه، والحاكم -وصححه- والبيهقي ي "شعب الإيمان" مرفوعا من رواية ابن مسعود: انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٤٤.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة النحل، باب "ومنكم من يرد إلى أرزل العمر": ٨ / ٣٨٧-٣٨٨، ومسلم في الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، برقم (٢٧٠٦) : ٤ / ٢٠٨٠.
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) ﴾
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ بَسَطَ عَنْ وَاحِدٍ، وَضَيَّقَ عَلَى الْآخَرِ، وَقَلَّلَ وَكَثَّرَ.
﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ مِنَ الْعَبِيدِ، ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أَيْ: حَتَّى يَسْتَوُوا هُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَمَمَالِيكُهُمْ فِيمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ سَوَاءً، وَقَدْ جَعَلُوا عَبِيدِي شُرَكَائِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. يُلْزِمُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَشْرِكُهُ مَمْلُوكُهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِرَاشِهِ وَمَالِهِ؟ أَفَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ؟؟
﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ"، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ يَعْنِي: النِّسَاءَ، خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: "مِنْ أَنْفُسِكُمْ" أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ أَزْوَاجًا.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ: الْحَفَدَةُ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أَنَّهُمُ الْأَصْهَارُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، تُزَوِّجُونَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِمُ الْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَاكُ: هُمُ الْخَدَمُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْوَانُ، مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ وَلَدُ وَلَدِ الرَّجُلِ، الَّذِينَ يُعِينُونَهُ وَيَخْدُمُونَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَهِنَةٌ يَمْتَهِنُونَكُمْ وَيَخْدُمُونَكُمْ مِنْ أَوْلَادِكُمْ (١).
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: "الْبَنِينَ": الصِّغَارُ، وَ"الْحَفَدَةُ": كِبَارُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى عَمَلِهِ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ وَلَدُ الْوَلَدِ.
(١) في "ب": الأولاد.
31
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: أَنَّهُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ (١).
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ مِنَ النِّعَمِ وَالْحَلَالِ، ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ ؟ يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ.
وَقِيلَ: "الْبَاطِلُ": الشَّيْطَانُ، أَمَرَهُمْ بِتَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَ"بِنِعْمَةِ اللَّهِ" أَيْ: بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ "يَكْفُرُونَ": يَجْحَدُونَ تَحْلِيلَهُ.
(١) بعد أن ساق الطبري -رحمه الله- الروايات في تفسير الآية قال: (١٤ / ١٤٦-١٤٧) :"والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم نعمه عليهم، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين، فقال تعالى: "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة"، فأعلمهم أنه جعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة. والحفدة في كلام العرب: جمع حافد.. والحافد في كلامهم: هو المتخفف في الخدمة والعمل. والحفد: خفة العمل. وإذا كان معنى الحفدة ما ذكرنا من أنهم المسرعون في خدمة الرجل، المتخففون فيها، وكان الله -تعالى ذكره- أخبرنا أن مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون للخدمة منا ومن غيرنا، وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا، من أزواجنا وخدمنا من مماليكنا، إذا كانوا يحفدوننا، فيستحقون اسم حفدة. ولم يكن الله تعالى دل بظاهر تنزيله، ولا على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بحجة عقل، على أنه عنى بذلك نوعا من الحفدة، دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكل ذلك علينا = لم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم. وإذا كان ذلك كذلك؛ فلكل الأقوال -التي ذكرنا عمن ذكرنا- وجه في الصحة، ومخرج في التأويل. وإن كان أولى بالصواب من القول ما اخترنا، لما بينا من الدليل".
32
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) ﴾
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ﴾ يَعْنِي الْمَطَرَ، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ يَعْنِي النَّبَاتَ، ﴿شَيْئًا﴾ قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ "شَيْئًا" بِوُقُوعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، أَيْ: لَا يَرْزُقُ شَيْئًا، ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، يَذْكُرُ عَجْزَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِيصَالِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ. ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ يَعْنِي الْأَشْبَاهَ. فَتُشَبِّهُونَهُ بِخَلْقِهِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا، فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الْأَمْثَالِ.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) ﴾
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا [لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ] (١) فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
(١) في "ب": للمؤمن والكافر.
32
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ، رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾ هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي رِضَاءِ اللَّهِ، سِرًّا وَجَهْرًا، فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (١). ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ وَلَمْ يَقُلْ يَسْتَوِيَانِ لِمَكَانِ "مِنْ" وَهُوَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "لَا يَسْتَطِيعُونَ" بِالْجَمْعِ لِأَجْلِ مَا.
مَعْنَاهُ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْفَقِيرُ الْبَخِيلُ وَالْغَنِيُّ السَّخِيُّ؟ كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ الْعَاصِي وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ أَيْ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٢). ثُمَّ قَالَ:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، مَا لِلْأَوْثَانِ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ فَتُحْمَدُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ وَالْخَالِقُ وَالرَّازِقُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ لَا يَعْلَمُونَ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَقَالَ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ كَلٌّ: ثِقَلٌ وَوَبَالٌ "عَلَى مَوْلَاهُ" ابْنِ عَمِّهِ، وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ، ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ﴾ يُرْسِلْهُ، ﴿لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، هَذَا مَثَلُ الْأَصْنَامِ، لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْطِقُ، وَلَا تَعْقِلُ، ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ عَابِدِهِ، يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُ وَيَضَعَهُ وَيَخْدِمَهُ.
﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ يَعْنِي: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ، مُتَكَلِّمٌ، يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَدُلُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(١) وهذا التأويل رجحه الطبري: ١٤ / ١٤٨-١٤٩.
(٢) انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٧٢.
33
وَقِيلَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١).
وَقِيلَ: كِلَا الْمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، يَرْوِيهِ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: حَمْزَةُ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعُثْمَانُ بن مظعون ٢٠١/ب
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي هَاشِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمَوْلَاهُ، كَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَوْلَاهُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ (٢).
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) ﴾
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾ فِي قُرْبِ كَوْنِهَا، ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ إِذَا قَالَ لَهُ: "كُنْ" فَيَكُونُ، ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ اسْتِهْزَاءً. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "بُطُونِ إِمَّهَاتِكُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ، الباقون بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهُمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نِعْمَةَ اللَّهِ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري: ١٤ / ١٥٠-١٥١، الدر المنثور: ٥ / ١٥١-١٥٢، زاد المسير: ٤ / ٤٧٣، البحر المحيط: ٥ / ٥١٩-٥٢٠، أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٣). قال الطبري-رحمه الله-: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لنقسه والآلهة التي تعبد من دونه، فقال تعالى ذكره: "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء" يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضر عنه، "وهو كل على مولاه"، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كل على من يعبده، يحتاج أن يحمله، ويضعه ويخدمه كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء فهو كل على بني أعمامه.. هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو -تعالى ذكره- والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله: "وهو على صراط مستقيم" يقول: لا على طريق من الحق في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يعوج عن الحق ولا يزول عنه". انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ١٥٠.
﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) ﴾
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) ﴾
﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ: بِالتَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "وَيَعْبُدُونَ" (١). ﴿إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾ مُذَلَّلَاتٍ، ﴿فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ وَهُوَ الْهَوَاءُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ تَرْتَفِعُ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا وَلَا يَرْتَفِعُ فَوْقَ هَذَا، وَفَوْقَ الْجَوِّ السُّكَاكُ، وَفَوْقَ السُّكَاكِ السَّمَاءُ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ فِي الْهَوَاءِ ﴿إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ] (٢) ﴿سَكَنًا﴾ أَيْ: مَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾ يَعْنِي الْخِيَامَ، وَالْقِبَابَ، وَالْأَخْبِيَةَ، وَالْفَسَاطِيطَ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْأُدُمَ (٣) ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ أَيْ: يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا، ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ رِحْلَتِكُمْ فِي سَفَرِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، سَاكِنَةَ الْعَيْنِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَجْزَلُ اللُّغَتَيْنِ، ﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ فِي بَلَدِكُمْ لَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.
﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾ يَعْنِي: أَصْوَافَ الضَّأْنِ، وَأَوْبَارَ الْإِبِلِ، وَأَشْعَارَ الْمَعِزِ، وَالْكِنَايَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَنْعَامِ، ﴿أَثَاثًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَتَاعًا.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: "الْأَثَاثُ": الْمَالُ أَجْمَعُ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ، وَالْمَتَاعِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنَ الْفَرْشِ وَالْأَكْسِيَةِ.
﴿وَمَتَاعًا﴾ بَلَاغًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، ﴿إِلَى حِينٍ﴾ يَعْنِي الْمَوْتَ. وَقِيلَ: إِلَى حِينِ تَبْلَى. ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾ تَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَهِيَ ظِلَالُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ،
(١) في الآية الثانية والسبعين من السورة: "ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا... " الآية.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) في هامش "أ": فائدة: لو قال: من الجلود، كان أحسن من قوله من الأنطاع والأدم.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ يَعْنِي: الْأَسْرَابَ، وَالْغِيرَانَ، وَاحِدُهَا كُنٌّ ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ قُمُصًا مِنَ الْكَتَّانِ وَالْقَزِّ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، ﴿تَقِيكُمُ﴾ تَمَنَعُكُمْ، ﴿الْحَرَّ﴾ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ يَعْنِي: الدُّرُوعَ، وَالْبَأْسُ: الْحَرْبُ، يَعْنِي: تَقِيكُمْ فِي بَأْسِكُمُ السِّلَاحَ أَنْ يُصِيبَكُمْ.
﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ تُخْلِصُونَ لَهُ الطَّاعَةَ.
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ، فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا، وَمَا جَعَلَ [لَهُمْ] (١) مِنَ السُّهُولِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ كَمَا قَالَ: "وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا" لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ، وَشَعْرٍ، وَكَمَا قَالَ: "وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ" (النُّورِ-٤٣) وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الثَّلْجَ. وَقَالَ: "تَقِيكُمُ الْحَرَّ" وَمَا تَقِي مِنَ الْبَرْدِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣) ﴾
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَلَا يَلْحَقُكَ فِي ذَلِكَ عَتَبٌ وَلَا سِمَةُ تَقْصِيرٍ، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ يُكَذِّبُونَ بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، يُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَصَدَّقُوا وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، يُنْكِرُونَهَا فَيَقُولُونَ: وَرِثْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ قَالُوا: نَعَمْ، هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ لَمَا كَانَ كَذَا (٢). ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ الْجَاحِدُونَ.
(١) ساقط من "ب".
(٢) قال الطبري: (١٤ / ١٥٨) :"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عنى بالنعمة التي ذكرها في قوله "يعرفون نعمة الله" النعمة عليهم بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم داعيا إلى ما بعثه بدعائهم إليه، وذلك أن هذه الآية بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما بعث به، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده، إذ لم يكن معنى يدل على انصرافه عما قبله وعما بعده... ".
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) ﴾
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ يَعْنِي رَسُولًا ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فِي الِاعْتِذَارِ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ أَصْلًا ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يُسْتَرْضَوْنَ، يَعْنِي: لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، وَلَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْتَابِ: أَنَّهُ التَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضَا، وَهَذَا الْبَابُ مُنْسَدٌّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفَّارِ. ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ كَفَرُوا، ﴿الْعَذَابَ﴾ يَعْنِي جَهَنَّمَ، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿شُرَكَاءَهُمْ﴾ أَوْثَانَهُمْ، ﴿قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ﴾ أَرْبَابًا وَنَعْبُدُهُمْ، ﴿فَأَلْقَوْا﴾ يَعْنِي الْأَوْثَانَ، ﴿إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ أَيْ: قَالُوا لَهُمْ، ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فِي تَسْمِيَتِنَا آلِهَةً مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا. ﴿وَأَلْقَوْا﴾ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ﴿إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ شَيْئًا، ﴿وَضَلَّ﴾ وَزَالَ، ﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مَنَعُوا النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابٌ أَمْثَالُ النَّخْلِ الطِّوَالِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ (١) وَعَقَارِبُ أَمْثَالُ الْبِغَالِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ يَجِدُ صَاحِبُهَا حُمَّتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي خَمْسَةَ أَنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ كَالنَّارِ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ وَاثْنَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ.
(١) البخت: هي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق، واحدها: بختي.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ، فَيُبَادِرُونَ مِنْ شِدَّةِ الزَّمْهَرِيرِ إِلَى النَّارِ مُسْتَغِيثِينَ بِهَا.
وَقِيلَ: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ (١). ﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) ﴾
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ يَعْنِي نَبِيُّهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُبْعَثُ إِلَى الْأُمَمِ مِنْهَا.
﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ.
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا﴾ بَيَانًا، ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، ﴿وَهُدًى﴾ مِنَ الضَّلَالَةِ، ﴿وَرَحْمَةً وَبُشْرَى﴾ بِشَارَةً ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ بِالْإِنْصَافِ، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ إِلَى النَّاسِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْعَدْلُ": التَّوْحِيدُ، وَ"الْإِحْسَانُ": أَدَاءُ الْفَرَائِضِ.
وَعَنْهُ: "الْإِحْسَانُ": الْإِخْلَاصُ فِي التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (٢).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْعَدْلُ": التَّوْحِيدُ، وَ"الْإِحْسَانُ": الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ.
﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ صِلَةُ الرَّحِمِ.
﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ ٢٠٢/أمَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّنَا، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، ﴿وَالْبَغْيِ﴾ الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ.
(١) انظر هذه الأقوال في: الدر المنثور: ٥ / ١٥٧-١٥٨، زاد المسير: ٤ / ٤٨٢. وقد اعتمد الطبري: (١٤ / ١٦٠-١٦١) القول الأول. وانظر: تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٨٢.
(٢) قطعة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام -عن الإسلام والإيمان، والإحسان، أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان: ١ / ١١٤، ومسلم في الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، برقم (٨) : ١ / ٣٦-٣٧، والمصنف في شرح السنة: ١ / ٨-٩.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْعَدْلُ اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَ"الْإِحْسَانُ" أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَ"الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ" أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ.
﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تَتَّعِظُونَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ (١).
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْوَلِيدِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أخي أعد فعاد عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ لَهُ وَاللَّهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ الْبَشَرِ (٢).
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ وَالْعَهْدُ هَاهُنَا هُوَ: الْيَمِينُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْعَهْدُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ تَشْدِيدِهَا، فَتَحْنَثُوا فِيهَا، ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ شَهِيدًا بِالْوَفَاءِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا؟.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا (٣).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي حِلْفِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ (٤).
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ فَقَالَ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ غَزْلِهِ وَإِحْكَامِهِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: هِيَ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهَا "رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ
(١) انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٦٠، ففيه جملة آثار في ذلك.
(٢) انظر: سيرة ابن هشام: ١ / ٢٧٠.
(٣) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر. انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٦١، زاد المسير: ٤ / ٤٨٤.
(٥) المرجع السابق
بْنِ كَعْبِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ" وَتُلَقَّبُ بِجِعْرِ، وَكَانَتْ بِهَا وَسُوسَةٌ، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا بِقَدْرِ ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةً مِثْلَ الْأُصْبُعِ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً، عَلَى قَدْرِهَا، وكانت تغزل الغز مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَتَأْمُرُ جَوَارِيَهَا بِذَلِكَ، فَكُنَّ يَغْزِلْنَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمَرَتْهُنَّ بِنَقْضِ جَمِيعِ مَا غَزَلْنَ فَهَذَا كَانَ دَأْبَهَا (١).
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَمْ تَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا حِينَ عَمِلَتْ كَفَّتْ عَنِ النَّقْضِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ إِذَا نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ، لَا كَفَفْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ، وَلَا حِينَ عَاهَدْتُمْ وَفَيْتُمْ بِهِ.
﴿أَنْكَاثًا﴾ يَعْنِي أَنْقَاضًا وَاحِدَتُهَا "نَكْثٌ" وَهُوَ مَا نُقِضَ بَعْدَ الْفَتْلِ، غَزْلًا كَانَ أَوْ حَبْلًا.
﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أَيْ: دَخَلًا وَخِيَانَةً وَخَدِيعَةً، وَ"الدَّخَلُ" مَا يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ لِلْفَسَادِ.
وَقِيلَ: "الدَّخَلُ" وَ"الدَّغَلُ": أَنْ يُظْهِرَ الْوَفَاءَ وَيُبْطِنَ النَّقْضَ.
﴿أَنْ تَكُونَ﴾ أَيْ: لِأَنْ تَكُونَ، ﴿أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى﴾ أَيْ: أَكْثَرُ وَأَعْلَى، ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ نَقَضُوا حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَحَالَفُوا الْأَكْثَرَ، فَمَعْنَاهُ: طَلَبْتُمُ الْعِزَّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، بِأَنْ كَانَتْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ أُمَّةٍ. فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ يَخْتَبِرُكُمُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) ﴾
(١) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٥٣١. وقال قتادة ومجاهد: ذلك ضرب مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، لا على امرأة معينة وهذا أرجح وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. انظر تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٨٥، المحرر الوجيز: ٨ / ٥٠٠.
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) ﴾
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، عَدْلًا مِنْهُ، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ، فَضْلًا مِنْهُ، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا﴾ خَدِيعَةً وَفَسَادًا، ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فَتَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ، فَيَسْكُنُونَ إِلَى أَيْمَانِكُمْ، وَيَأْمَنُونَ، ثُمَّ تَنْقُضُونَهَا، ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ فَتَهْلَكُوا بَعْدَمَا كُنْتُمْ آمِنِينَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ
لِكُلِّ مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ، أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ بَعْدَ سَلَامَةٍ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ: سَهَّلْتُمْ طَرِيقَ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى النَّاسِ بِنَقْضِكُمُ الْعَهْدَ، ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) ﴾
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يَعْنِي لَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ، تَطْلُبُونَ بِنَقْضِهَا عَرَضًا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَوْفَوْا بِهَا. ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ﴾ مِنَ الثَّوَابِ لَكُمْ عَلَى الْوَفَاءِ، ﴿خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [فَضْلُ مَا بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ] (١). فَقَالَ: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾ أَيِ: الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْنَى، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾
﴿وَلَنَجْزِيَنَّ﴾ [قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ بِالنُّونِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ] (٢) ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ عَلَى الْوَفَاءِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، ﴿أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى" (٣). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَّالُ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك: ٤ / ٣٠٨، وصححه على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي بأن فيه انقطاعا. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٤ / ١٧٥، ٤١٢، والبيهقي في السنن: ٣ / ٣٧٠، وعزاه صاحب المشكاة له في "شعب الإيمان". قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجالهم ثقات". انظر: مجمع الزوائد: ١٠ / ٢٤٩، مشكاة المصابيح رقم (٥١٧٩)، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني: ١ / ٤٩١. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١٤ / ٢٣٩.
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْقَنَاعَةُ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي الْعَيْشَ فِي الطَّاعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَرَوَاهُ عَوْفٌ عَنِ الْحُسْنِ. وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ (١).
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) ﴾
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ أَيْ: أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا" (الْمَائِدَةِ-٦).
وَالِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (٢).
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ (٣).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعْدَهَا (٤).
(١) بعد أن ساق الطبري الروايات في تفسير الآية قال: "وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدر فيها عيشه باتباعه بقية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها. وأما القول الذي روي عن ابن عباس: أنه الرزق الحلال، فهو محتمل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال، وإن قلَّ، فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال. وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رزقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة". انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ١٧٢.
(٢) قال الطبري: (١٤ / ١٧٣) :"وليس قوله "فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن من قرأ القرآن، ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم، قبل قراءته أو بعدها، أنه لم يضيع قرضا واجبا". وقال ابن الجوزي في زاد المسير: (٤ / ٤٩٠) : والاستعاذة عند القراءة سنة في الصلاة وغيرها. قال ابن عطية: (٨ / ٥٠٧) : وحكى النقاش عن عطاء: أن التعوذ واجب. وانظر: تفسير ابن كثير: ١ / ١٥، ٢ / ٥٨٧، المجموع للنووي: ٣ / ٢٨٤، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص (٦٤-٦٥).
(٣) انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ١٧٣، القرطبي: ١٠ / ١٧٤-١٧٥، المحرر الوجيز: ٨ / ٥٠٧، أحكام القرآن لابن العربي: ٣ / ١١٧٥.
(٤) نقل النووي في المجموع: (٣ / ٢٨٤) ذلك عن أبي هريرة، وابن سيرين، والنخعي، وأن أبا هريرة كان يتعوذ بعد فراغ الفاتحة، لظاهر الآية. والصحيح هو القول الأول -قبل القراءة- للأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة. وانظر: تفسير ابن كثير: ١ / ١٣-١٥، ٢ / ٥٨٧، أحكام القرآن لابن العربي: ٣ / ١١٧٥.
وَلَفْظُهُ: أَنْ يَقُولَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، سَمِعْتُ عَاصِمًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَالَ: فَكَبَّرَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] (١) اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ.
قَالَ عَمْرٌو: وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَهَمْزُهُ: الْمَوْتَةُ، وَالْمَوْتَةُ الْجُنُونُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ هِيَ الِاعْتِصَامُ بِهِ (٢).
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) ﴾
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾ حُجَّةٌ وَوِلَايَةٌ، ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ قَالَ سُفْيَانُ: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ. ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يُطِيعُونَهُ وَيَدْخُلُونَ فِي وِلَايَتِهِ، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَجَازُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ. ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ يَعْنِي وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا آخَرَ، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أَعْلَمُ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ أَحْكَامِهِ، ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿مُفْتَرٍ﴾ مُخْتَلِقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، يَأْمُرُهُمُ الْيَوْمَ بِأَمْرٍ، وَيَنْهَاهُمْ عنه غدا، ٢٠٢/ب مَا هُوَ إِلَّا مُفْتَرٍ، يَتَقَوَّلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ (٣).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ، وَبَيَانَ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما يستفتح به في الصلاة من الدعاء: ١ / ٣٧٢، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب لااستعاذة في الصلاة: ١ / ٢٦٥، وصححه ابن حبان ص (١٢٣) من موارد الظمآن، والحاكم: ١ / ٢٣٥، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٤ / ٨٠، والمصنف في شرح السنة: ٣ / ٤٣.
(٣) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٥).
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) ﴾
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) ﴾
﴿قُلْ نَزَّلَهُ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ، ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ جِبْرِيلُ، ﴿مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ بِالصِّدْقِ، ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: لِيُثَبِّتَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَيَقِينًا، ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ آدَمِيٌّ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَشَرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، اسْمُهُ "بَلْعَامُ"، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ "بَلْعَامُ" (١).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُ غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ يُقَالُ لَهُ "يَعِيشُ" (٢) وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ "يَعِيشُ" (٣).
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْ عَايَشَ مَمْلُوكٍ كَانَ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ أَعْجَمَ اللِّسَانِ (٤).
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ رُومِيٍّ نَصْرَانِيٍّ، عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، يُقَالُ لَهُ "جَبْرٌ"، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ (٥).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَسَارٌ، وَيُكَنَّى "أَبَا فَكِيهَةَ"، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ "جَبْرٌ" وَكَانَا يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا يَقْرَآنِ، فَيَقِفُ وَيَسْتَمِعُ.
قَالَ الضَّحَاكُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آذَاهُ الْكَفَّارُ يَقْعُدُ إِلَيْهِمَا وَيَسْتَرْوِحُ بِكَلَامِهِمَا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (٦).
(١) أخرجه ابن جرير: ١٤ / ١٧٧، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف. الدر المنثور: ٥ / ١٦٧، زاد المسير: ٤ / ٤٩٢.
(٢) في الدر المنثور: "مقيس" ولعله تصحيف.
(٣) أخرجه ابن جرير عن عكرمة: ١٤ / ١٧٨، وانظر: زاد المسير: ٤ / ٤٩٢.
(٤) وقاله أيضا الزجاج، انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٩٢.
(٥) أخرجه الطبري: ١٤ / ١٧٨.
(٦) أخرجه الطبري: ١٤ / ١٧٨، والواحدي في أسباب النزول ص (٣٢٦)، وانظر: زاد المسير: ٤ / ٤٩٣.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ أَيْ يَمِيلُونَ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ، ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾ "الْأَعْجَمِيُّ" الَّذِي لَا يُفْصِحُ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ بِالْبَادِيَةِ، وَالْعَجَمِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصِيحًا، ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ فَصِيحٌ وَأَرَادَ بِاللِّسَانِ الْقُرْآنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اللُّغَةُ لِسَانٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانُوا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ لَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ"، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ"؟ قِيلَ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ": إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلِهِمْ، "وهم الْكَاذِبُونَ" نَعْتٌ لَازِمٌ لَهُمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ، أَيْ: كَذَبْتَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ عَادَتِكَ الْكَذِبُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ يَزْنِي؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ قُلْتُ: الْمُؤْمِنُ يَسْرِقُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قُلْتُ الْمُؤْمِنُ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا". قَالَ اللَّهُ: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ" (١). ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّارٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ، وَأَبَاهُ يَاسِرًا، وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ، وَصُهَيْبًا، وَبِلَالًا وَخَبَّابًا، وَسَالِمًا، فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا سُمَيَّةُ: فَإِنَّهَا رُبِطَتْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَوُجِئَ قُبُلُهَا
(١) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص ٦٩ بتحقيق أبو النصر شلبي، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ١٦٨ لابن عساكر في تاريخه. وفيه يعلى بن الأشدق العقيلي؛ قال أبو حاتم: ليس بشيء، ضعيف الحديث، وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه بحال، ولا الاحتجاج به. انظر الجرح والتعديل: ٩ / ٣٠٣، المجروحين لابن حبان: ٣ / ١٤٢.
45
بِحَرْبَةٍ فَقُتِلَتْ، وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَمَّارٌ: فَإِنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا (١).
قَالَ قَتَادَةُ: أَخْذَ بَنُو الْمُغِيرَةِ عَمَّارًا وَغَطَّوْهُ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ، وَقَالُوا لَهُ: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ، فَتَابَعَهُمْ (٢) عَلَى ذَلِكَ، وَقَلْبُهُ كَارِهٌ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عَمَّارًا كَفَرَ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّ عَمَّارًا مُلِئَ إِيمَانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الْإِيمَانُ (٣) بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ (٤) قَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ، قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (٥).
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، آمَنُوا فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ هَاجِرُوا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الطَّرِيقِ فَكَفَرُوا كَارِهِينَ (٦).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي جَبْرٍ، مَوْلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَكَفَرَ مُكْرَهًا (٧). ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ ثُمَّ أَسْلَمَ مَوْلَى جَبْرٍ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَهَاجَرَ جَبْرٌ مَعَ سَيِّدِهِ، ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أَيْ: فَتَحَ صَدْرَهُ لِلْكُفْرِ بِالْقَبُولِ وَاخْتَارَهُ، ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى: أَنْ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ، وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَا يَكُونُ كُفْرًا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ أَفْضَلَ (٨).
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ (٩).
(١) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٦)، تفسير الطبري: ١٤ / ١٨١، المستدرك: ٢ / ٣٥٧، الدر المنثور: ٥ / ١٦٩-١٧٠.
(٢) في "ب": فبايعهم.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) ساقط من "ب".
(٥) أخرجه الطبري: ١٤ / ١٨١، وعبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم. انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٧٢، القرطبي: ١٠ / ١٨١، المستدرك: ٢ / ٣٥٧.
(٦) أخرجه ابن جرير، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر. الدر المنثور: ٥ / ١٧١.
(٧) انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٩٥-٤٩٦.
(٨) انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ١٨٢، القرطبي: ١٠ / ١٨١، ١٨٨-١٩٠، أحكام القرآن للجصاص: ٤ / ١٣-١٤، أحكام القرآن لابن العربي: ٣ / ١١٧٧-١١٧٩، زاد المسير: ٤ / ٤٩٦، تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٨٩.
(٩) قال الشافعي، ومالك، وأحمد: لا يقع طلاق المكره، وهو مروي عن عمر، وعلي، وابن عباس. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، وشريح، والقاسم، وسالم، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور. وأجازه أبو حنيفة، فقال: طلاق المكره يلزم، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق. وهذا مروي عن الشعبي، والنخعي، وأبي قلابة، والزهري، وقتادة. انظر بالتفصيل: تفسير القرطبي: ١٠ / ١٨٤، زاد المسير: ٤ / ٤٩٧، أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ١٤ - ١٥ أحكام القرآن لابن العربي: ٣ / ١١٨١.
46
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) ﴾
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ لَا يُرْشِدُهُمْ. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ. ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أَيِ الْمَغْبُونُونَ. ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ عُذِّبُوا وَمُنِعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ، فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا﴾ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالْغَفْلَةِ ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَخِي أَبِي جَهْلٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَفِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْهُمْ بَعْضَ مَا أَرَادُوا لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاهَدُوا (١).
وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكَفَّارِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَهُ لَهُ عُثْمَانُ، وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (٢).
(١) انظر: تفسير الخازن: ٤ / ٩٧. وهناك أقوال أخرى تجمع على عياش بن ربيعة بين من نزلت الآية فيهم، وذكر بعضهم عمارا رضي الله عنه، ورده ابن عطية. وانظر: الطبري: ١٤ / ١٨٤، الدر المنثور: ٥ / ١٧٢-١٧٣، المحرر الوجيز: ٨ / ٥٢٤-٥٢٥، زاد المسير: ٤ / ٤٩٧-٤٩٨، أسباب النزول ص (٢٣٧)، روح المعاني للآلوسي: ١٤ / ٢٤٠، البحر المحيط: ٥ / ٥٤٠.
(٢) أخرجه الطبري عنهما: ١٤ / ١٨٤-١٨٥، وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله. الدر المنثور: ٥ / ١٧٢. وانظر: البحر المحيط: ٥ / ٥٤١، زاد المسير: ٤ / ٤٩٨.
47
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " فَتَنُوا " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ.
48
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) ﴾
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُ نَفْسٍ تُجَادِلُ﴾ تُخَاصِمُ وَتَحْتَجُّ، ﴿عَنْ نَفْسِهَا﴾ بِمَا أَسْلَفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، مُشْتَغِلًا بِهَا لَا تَتَفَرَّغُ إِلَى غَيْرِهَا، ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
رُوِيَ أَنْ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال ٢٠٣/ألِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: خَوِّفْنَا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَأَتَتْ عَلَيْكَ سَاعَاتٌ وَأَنْتَ لَا تُهِمُّكَ إِلَّا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مُنْتَخَبٌ، إِلَّا وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا" (١).
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُخَاصِمَ الرُّوحُ الْجَسَدَ، فَتَقُولُ الرُّوحُ: يَا رَبِّ، لَمْ يَكُنْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا، وَلَا رِجْلٌ أَمْشِي بِهَا، وَلَا عَيْنٌ أُبْصِرُ بِهَا. وَيَقُولُ الْجَسَدُ: خَلَقْتَنِي كَالْخَشَبِ لَيْسَتْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا، وَلَا رِجْلٌ أَمْشِي بِهَا، وَلَا عَيْنٌ أُبْصِرُ بِهَا، فَجَاءَ هَذَا كَشُعَاعِ النُّورِ، فَبِهِ نَطَقَ لِسَانِي، وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي، وَمَشَتْ رِجْلِي. فَيَضْرِبُ اللَّهُ لَهُمَا مَثَلًا أَعْمَى وَمُقْعَدٌ، دَخَلَا حَائِطًا فِيهِ ثِمَارٌ، فَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ الثَّمَرَ، وَالْمُقْعَدُ لَا يَنَالُهُ، فَحَمْلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَأَصَابَا مِنَ الثَّمَرِ فَعَلَيْهِمَا الْعَذَابُ (٢). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً﴾ يَعْنِي: مَكَّةَ، كَانَتْ آمِنَةً، لَا يُهَاجُ أَهْلُهَا وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾ قَارَّةً بِأَهْلِهَا، لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ لِلِانْتِجَاعِ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَائِرُ الْعَرَبِ، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ يُحْمَلُ إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَظِيرُهُ: "يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" (الْقَصَصِ-٥٧).
(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (٥ / ١٧٣) لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وأحمد في "الزهد" وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن كعب الأحبار. وانظر: زاد المسير: ٤ / ٤٩٩، روح المعاني: ١٤ / ٢٤٠-٢٤١.
(٢) قال الآلوسي: (١٤ / ٢٤١) :"والظاهر هو عدم صحة هذا الخبر عن الحبر -ابن عباس- وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر. والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام. وقال ابن عطية: (٨ / ٥٢٥)، وظاهر الآية: أن كل نفس تجادل، مؤمنة كانت أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم الكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" (المرسلات-٣٦) فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن. وقالت فرقة: قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي، نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج، وإنما هو مجرد رغبة".
﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ جَمْعُ النِّعْمَةِ، وَقِيلَ: جَمْعُ نَعْمَاءَ مِثْلِ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسٍ، ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ﴾ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ، وَقَطَعَتِ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَهِدُوا فَأَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ، وَالْجِيَفَ، وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ، وَالْعِهْنَ، وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى شِبْهَ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: هَذَا عَادَيْتَ الرِّجَالَ، فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بَعْدُ مُشْرِكُونَ. وَذَكَرَ اللِّبَاسَ لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهُزَالِ وَالشُّحُوبِ وَتَغَيُّرِ ظَاهِرِهِمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَاللِّبَاسِ لَهُمْ ﴿وَالْخَوْفِ﴾ يَعْنِي: بُعُوثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) ﴾
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (١). ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٢). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ أَيْ: لَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ، أَوْ
(١) +انظر فيما سبق، تفسير الآية (١٧٢) من سورة البقرة: ١ / ١٨٢-١٨٣.
(٢) انظر فيما سبق، تفسير الآية (١٧٣) من سورة البقرة: ١ / ١٨٣-١٨٤.
لِأَجْلِ وَصْفِكُمُ الْكَذِبَ، أَيْ: أَنَّكُمْ تُحِلُّونَ وَتُحَرِّمُونَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ لَا لِغَيْرِهِ، ﴿هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ يَعْنِي الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ، ﴿لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ فَتَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ﴾
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) ﴾
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ يَعْنِي: الَّذِي هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فِي الْآخِرَةِ. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ" (الْأَنْعَامِ-١٤٦) الْآيَةَ (١).
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ. ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ مَعْنَى الْإِصْلَاحِ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْجَهَالَةِ، ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى" ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأُمَّةُ، مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، أَيْ: كَانَ مُعْلِّمًا لِلْخَيْرِ، يَأْتَمُّ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مَا يَجْتَمِعُ فِي أُمَّةٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مُؤْمِنًا (٢) وَحْدَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَتَوَلَّوْنَهُ وَيَرْضَوْنَهُ.
﴿قَانِتًا لِلَّهِ﴾ مُطِيعًا لَهُ، وَقِيلَ: قَائِمًا بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، ﴿حَنِيفًا﴾ مُسْلِمًا مُسْتَقِيمًا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مُخْلِصًا. ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
(١) انظر تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام: ٣ / ١٩٩.
(٢) في "ب": أمة.
﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ﴾
﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ﴾ اخْتَارَهُ، ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ: إِلَى دِينِ الْحَقِّ. ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يَعْنِي الرِّسَالَةَ وَالْخُلَّةَ وَقِيلَ: لِسَانَ الصِّدْقِ وَالثَّنَاءَ والحسن.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ فِي قَوْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَقِيلَ: أَوْلَادًا أَبْرَارًا عَلَى الْكِبَرِ.
وَقِيلَ: الْقَبُولُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مَعَ آبَائِهِ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ حَاجًّا مُسْلِمًا، (١) ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
وَقَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأمور بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَا نُسِخَ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَا لَمْ يُنْسَخْ صَارَ شَرْعًا لَهُ (٢). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خَالَفُوا فِيهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعْظِيمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمَهُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خَالَفُوا فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ سَبَتَ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَاخْتَارُوا تَعْظِيمَ غَيْرِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
(١) وقال الطبري: مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم، بريئا من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما كان إبراهيم تبرأ منها. تفسير الطبري: ١٤ / ١٩٣.
(٢) انظر بالتفصيل: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٥ / ٧٢٢ وما بعدها، تفسير القرطبي: ١٠ / ١٩٨.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْجُمُعَةِ، فَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا فَاعْبُدُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا تَعْمَلُوا فِيهِ لِصَنْعَتِكُمْ، وَسِتَّةَ أَيَّامٍ لِصِنَاعَتِكُمْ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ثُمَّ جَاءَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالُوا لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ عِيدِنَا -يَعْنُونَ الْيَهُودَ-فَاتَّخَذُوا الْأَحَدَ فَأَعْطَى اللَّهُ الْجُمُعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَقَبِلُوهَا وَبُورِكَ لَهُمْ فِيهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ٢٠٣/ب قَالَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" (١).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [قَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ هُمُ] (٢) الْيَهُودُ، اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) ﴾
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ بِالْقُرْآنِ، ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ اللَّيِّنُ الرَّقِيقُ مِنْ غَيْرِ غِلْظَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ.
﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وَخَاصِمْهُمْ وَنَاظِرْهُمْ بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيْ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ، وَلَا تُقَصِّرْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (٣).
(١) أخرجه البخاري في الجمعة، باب فرض الجمعة: ٢ / ٣٥٤، ومسلم في باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (٨٥٥) : ٢ / ٥٨٦. والمصنف في شرح السنة: ٤ / ٢٠٠.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) هذه الآية الكريمة نزلت بمكة المكرمة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، وأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين، دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة، والله أعلم. تفسير القرطبي: ١٠ / ٢٠٠، وأصل الكلام لابن عطية في المحرر الوجيز: ٨ / ٥٤٦، وانظر فيما سبق تفسير الآية (٣) من سورة الحجر: ٤ / ٣٦٨ تعليق (٦) و٣ / ٣٧٣ تعليق (٢).
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) ﴾
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ (١) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْ تَبْقِيرِ الْبُطُونِ، وَالْمُثْلَةِ السَّيِّئَةِ -حَتَّى لَمَّ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مُثِّلَ بِهِ غَيْرَ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوا حَنْظَلَةَ لِذَلِكَ-فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَأَوْا ذَلِكَ: لَئِنْ أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنَزِيدَنَّ عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ جَدَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ، وَقَطَعُوا مَذَاكِيرَهُ وَبَقَرُوا بَطْنَهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ قِطْعَةً مِنْ كَبِدِهِ فَمَضَغَتْهَا، ثُمَّ اسْتَرْطَبَتْهَا لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَلْبَثْ فِي بَطْنِهَا حَتَّى رَمَتْ بِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا لَوْ أَكَلَتْهُ لَمْ تَدْخُلِ النَّارَ أَبَدًا، حَمْزَةُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ النَّارَ فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِ حَمْزَةَ، وَنَظَرَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ قَطُّ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ مَا عَلِمْتُ مَا كُنْتَ إِلَّا فَاعِلًا لِلْخَيْرَاتِ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنٌ مِنْ بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَكَ حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْوَاجٍ شَتَّى، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾ الْآيَةَ. ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ أَيْ: وَلَئِنْ عَفَوْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلْعَافِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ نَصْبِرُ، وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ (٢).
(١) قال ابن عطية: (٤ / ٥٤٦) : أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة، رضي الله عنه، في يوم أحد. ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتب السير، وذهب النحاس إلى أنها مكية. وانظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ٢٠١.
(٢) هذه الرواية ساقها الواحدي في أسباب النزول ص (٣٢٩-٣٣٠) عن المفسرين ولم يذكر لها إسنادا، وكذلك فعل الخازن في تفسيره: (٤ / ١٣١)، وفي هذا السياق ما هو صحيح ومنه ما هو ضعيف؛ وإليك بعض الروايات في ذلك: عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"، فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفوا عن القوم إلا أربعة". أخرجه الترمذي في التفسير: ٨ / ٥٥٩-٥٦٠ وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه ابن حبان، كما في موارد الظمآن ص (٤١١)، وصححه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٣٥٩ و٤٤٦، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير: ٣ / ١٥٧، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند: ٥ / ١٣٥، وعزاه السيوطي للنسائي، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وأشار الحافظ ابن حجر إلى هذه الرواية وقال في الفتح (٧ / ٣٧٢) :"وهذه طرق يقوي بعضها بعضا". وروى البزار والطبراني بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى حمزة قد مثل به قال: رحمة الله عليك.. -كما جاء في سياق المصنف- انظر: فتح الباري: ٧ / ٣٧١، وراجع: طبقات ابن سعد: ٣ / ١٢-١٣، سيرة ابن هشام: ٢ / ٩١، ٩٥-٩٦، إمتاع الأسماع للمقريزي ص (١٥٣)، أسباب النزول للواحدي ص (٣٢٩-٣٣١) وفيه سياق الروايات كلها، وكذلك الدر المنثور: ٥ / ١٧٨-١٧٩، تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٩٢.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَاكُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ وَمُنِعَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَأُمِرُوا بِالْجِهَادِ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (١).
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ فِي مَنْ ظُلِمَ بِظُلَامَةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظَّالِمُ مِنْهُ، أُمِرَ بِالْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ، وَمُنِعَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ (٢). ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) ﴾
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ أَيْ: بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أَيْ: فِيمَا فَعَلُوا مِنَ الْأَفَاعِيلِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَاهُنَا وَفِي النَّمْلِ ﴿ضِيقٍ﴾ بِكَسْرِ الضَّادِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الضَّادِ، قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رِطْلٍ وَرَطْلٍ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: "الضَّيْقُ" بِالْفَتْحِ: الْغَمُّ، وَبِالْكَسْرِ: الشِّدَّةُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الضِّيقُ" بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَفِي الْمَسَاكِنِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ فَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الضَّيْقُ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، فَعَلَى هَذَا هُوَ صِفَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكُنْ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الْمَنَاهِيَ، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ.
(١) أخرجه الطبري عن ابن عباس: ١٤ / ١٩٦، وانظر: الدر المنثور: ٥ / ١٨٠، زاد المسير: ٤ / ٥٠٨.
(٢) الطبري: ١٤ / ١٩٧، القرطبي: ١٠ / ٢٠١، المحرر الوجيز: ٨ / ٥٤٨، زاد المسير: ٤ / ٥٠٨. قال الطبري -رحمه الله- والصواب من القول في ذلك: إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل، والتأويلات- التي ذكرناها عمن ذكروها عنه -محتملتها الآية كلها، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أي ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها.. وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله -تعالى ذكره- عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قبل غيرهم من حق مال أو نفس، الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره، وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجها صحيحا مفهوما".
Icon