تفسير سورة الأنبياء

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الأنبياء
سورة الأنبياء مائة واثنا عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

( اقترب للناس حسابهم( بالإضافة إلى ما مضى من أيام الدنيا واللام قبل : بمعنى من فهو صلة الاقتراب وقيل ك تأكيد للإضافة وأصله اقترب حسابه الناس ثم اقترب الحساب للناس ثم اقترب للناس حسابهم ولام التعريف للجنس وقيل : للعهد والمراد به الكفار بدليل قوله تعالى :( وهم في غفلة( عن الحسا وعما يفعل بهم لاستغراقهم في الغفلة احترازا عمن كان غفلته باستغراقه في ذكر الله عن غيره واللام في للناس إن كان للاستغراق فالضمير المنفصل عائد إلى بعض أفراد العام كما في قوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء( ( وبعلوتهن أحق بردهن( ١ يعني بعول الرجعيات منهم ومعرضون خبر للضمير وفي غفلة حال من المستكن في الخبر أو هما خبران للضمير والجملة حال من الناس أو من حسابهم بحذف الرابط، والحساب عبارة عن إظهار ما فعله العباد وما استحقوا عليه واقترابه عبارة عن اقتراب الساعة.
١ سورة البقرة الآية: ٢٢٨..
( ما يأتيهم من ذكر( ينبههم عن نوم الغفلة والجهالة من زائدة ذكر في محل الرفع على الفاعلية ليأتيهم ( من ربهم( صفة لذكر أو صلة ليأتيهم ( محدث( صفة لذكر أي محدث تنزيله ليكون على أسماعهم فغي التنبيه كي يتعظوا وذا لا ينافي كونه قديما استمعوه وهم يلعبون أي يستهزؤون به ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم وفرط الإعراض عن التفكر في العواقب حال من فاعل استمعوه
( لاهية قلوبهم( حال من فاعل يلعبون أو من فاعل استمعوه والمستثنى حال من الضمير المنصوب في ما يأتيهم أو صفة لمصدر محذوف ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال استماعهم جامعين بين الاستهزاء والتلهي والذهول عن التفكر فيه وفي العواقب من الأمور أو ما يأتيهم من ذكر إتيانا إلا إتيانا استمعوه بعده جامعين بما ذكر قال أبو بكر الوراق القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها وجملة ما تأتيهم في مقام التعليل لقوله ةهم في غفلة ( وأسروا النجوى( أي بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم ( الذين ظلموا( فاعل لأسروا والواو في أسروا زائدة ليدل من أول الأمر أن فاعله جمع وليست بضمير أو فاعله ضمير والموصول بدل منه جيء للإيمان بانهم ظالمون فيما أسروا به أو الموصول مبتدأ والجملة المتقدمة خبره وأصله هؤلاء أسروا المنجوى فوضع الموصول موضع هؤلاء تسجيلا على فعلهم بأنهم ظلم أو الموصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره
هم الذين ظلموا أو منصوب بتقدير أعني أو ذم وجملة أسروا والنجوى معطوفة على يلعبون أو حال من فاعله بتقدير قد أو معطوفة على استمعوه أو على ما يأتيهم أو معترضة ( هل هذا إلا بشر مثلكم( صفة مؤكدة لبشرؤ أبدعوا حجة على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم في ادعائه الرسالة بكونه بشرا زعما منهم بأن الرسول لا بد أن يكون ملكا كأنهم زعموا أن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل وزعموا أن الملائكة من جنس الملك القهار ولذلك سموها بنات الله وكل ذلك باطل قطعا والحق أن الرسول لا بد أن يكون من جنس الرسل إليهم حتى يقتبسوا أنوراه والملك القهار ولا يجوز أن يكون له كفؤا احد ثم أورده لدقع المعجزات الدالة على الرسالة بقولهم ( أفتأتون السحر( يعني ليس هو رسولا لأنه بشر وما يأتي به من الخارق كالقرآن وغيره سحر أفتأتون السحر الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف والسحر منصوب على المفعولية أو العلية والمفعول محذوف تقديره أتصدقونه في دعوى الرسالة فتأتون السحر أي تتبعونه أو فتأتون محمدا لأجل سحره الذي يأتي به ولما لم يجدوا دليلا على كون الخوارق سحرا فإن القول الباطل لا يمكن إثباته أدعوا بداهته تعنتا فقالوا :( وأنتم تبصرون( بالبداهة أنه سحرن والجملة حال من فاعل تأتون وجملة أفتأتون السحر بدل اشتمال لجملة هل هذا إلا بشر وجملة هل هذا إلا بشر منصوب بدلا من النجوى أو مفعولا لقالوا وجملة قالوا بيان لجملة اسروا النجوى أو بدل منه أو مستأنفة في جواب ماذا قالوا والغرض من إسرار هذا القول مشاورتهم في ما بينهم حتى يحصل لهم كلام بهدم امر النبوة ويظهر فساده ولا يبطله السامع في أول الأمر ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون( ١
١ في القرآن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون سورة التوبة الآية: ٣٢.
ويريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره سورة الصف الآية: ٨..

( قل( يا محمد قرأ حمزة والكسائي وحفص قال على الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم والباقون بصيغة الأمر المستلزم لقوله منه صلى الله عليه وسلم ( ربي يعلم القول في السماء والأرض( حال من القول يعني يعلم القول كائنا ذلك القول في السماء والأرض من أي قائل كان جهرا كان أو سرا فلا يخفى عليه ما أسروا ( وهو السميع( لأقوالهم ( العليم( بأفعالهم وأحوالهم ما ظهر منها وما بطن
( بل قالوا أضغاث أحلام( إضراب من الله تعالى في حكاية قولهم في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بشر لا يصلح أن يكون رسولا من الله إلى حكاية قولهم في شان القرآن أن أضغاث أحلام يعني تخاليط أحلام رآها في المنام يعني ليس بوحي من الله منزل وقيل هذا إضراب من الكفار عن مضمون قولهم :( أفتأتون السحر( والمعنى قالوا هو سحر بل هو أضغاث أحلام وكلمة قالوا على هذا التأكيد لفظي لقالوا مقدر مفهوم ما سبق ( بل افتراه( إضراب من الكفار عن كونه أباطل خيلت غليه في المنام خلطت عليه إلى كونه مفتريات اختلعها من تلقاءؤ نفسه لم يرها في المنام أيضا ( بل هو شاعر( إضراب ثان منهم عن كون كلام مفترى إلى كونه كلاما شعريا قال البغوي أريد أن المشركين قال بعضهم أضغاث أحلام وبعضهم قرية وبعضهم أن محمدا شاعر وما جاء به شعر والفرق بين المفترى والشعر أن المفترى كلام كاذب أراد المتكلم منه حصول التصديق للسامع بنسبة غير مطابقة للواقع والشعر كلام مركب من مقدمات تأثر في ذهن المسامع مع الرغبة أو الرهبة أو الشوق أو السرور أو الخوف أو التعظيم أو التحقير أو غير ذلك والغرض منه ذلك التأثير في النفوس دون حصول تصديق أصلا فكأنه من قبيل الإنشاء وقد يجتمع الأخبار صادقا أو كاذبا مع مقدمات شعرية مؤثرة في النفوس وذلك في المتنويات الأولى في الغزليات وهذه الأقوال من الكفار دليل ظاهر على فساد أقوالهم وانها تفوهات منهم عنادا من غير جزم ( فيأتنا( محمد صلى الله عليه وسلم إن كان صادقا في دعوى الرسالة ( بئاية كما أرسل الأولون( صفة لآية وصحة لموصوف محذوف والتقدير فليأتنا بآية كائمة كالآية التي أرسل بها الأولون من الرسل وكآية أرسل بها الرسل بها الأول فأتوا بها كالناقة لصالح والعصا واليد البيضاء لموسى والإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى.
أخرج ان جرير عن قتادة قال : قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان ما تقوله حقا فحول لنا الصفا ذهبا فأتاه جبرائيل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ولكنه عن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا وإن شئت استأنيت لقومك قال بل استأني لقومي فأنزل الله تعالى :( ما ءامنت قبلهم( أي قبل مشركي مكة ( من قرية( أي من أهل قرية من زائدة وقرية في محل الرفع على الفاعلية ( أهلكناها( صفة لقرية أي أهلكنا أهلها حين جاءتهم الآيات المقترحة ( أفهم يؤمنون( الفاء للعطف على ( ما ءامنت( والاستفهام للإنكار تعقب إيمان أهل مكة عدم إيمان السابقين مع كون اهل مكة أعني منهم يعني لم يؤمن من كان قبلهم فكيف يؤمن هؤلاء وهم أشد كفرا منهم وفيه تنبيه على أن عدم إتيانه بالمقترحات كان لإبقائهم إذ لو أتى بها ول يؤمنوا لاستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.
( وما أرسلنا قبلك( يا محمد ( إلا رجالا نوحي( قرأ حفص بالنون على صيغة المتكلم المعلوم على التعظيم والباقون بالياء التحتانية على الغيبة والبناء للمفعول ( إليهم( جملة معترضة رد لقولهم ( هل هذا إلا بشر مثلكم( فسألوا أهل الذكر يعني علما أهل الكتاب من حال الأولين من الرسل هل كانوا بشرا أم ملائكة حتى يزول عنكم شبهتكم ( عن كنتم( يا أهل مكة ( لا تعلمون( شرط استغنى عن الجزاء بما مضى والإحالة إلى أهل الكتاب إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويثقون بقولهم وإما لأن إخبار أهل التواتر يوجب العلم وإن كانوا كفارا
( وما جعلناهم( أي الأولين من الرسل ( جسدا( لم يقل أجسادا لأنه اسم جنس أو لأنه في الأصل مصدر أو على حذف المضاف أي ذوي جسد أو بتأويل الضمير بكل واحد والجسد جسم ذي لونت ولذلك لا يطلق على الماء والهواء وقيل : هو جسن ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده ( لا يأكلون الطعام( صفة لجسد وجملة ما جعلنا مستأنفة جواب لقولهم ( مالي هذا الرسول يأكل الطعام( ( وما كانوا خالدين( في الدنيا تأكيد وتقرير لما سبق فإن التعيش بالطعام عن لوازم التحليل المؤدي إلى الفناء
( ثم صدقناهم الوعد( أي في الوعد بالنصر على أعدائهم الجملة معطوف على جملة محذوفة معطوفة على قوله :( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا وما جعلناهم جسدا لا يأكلون( ولا يكون ولكن طعن فيهم المشركون بمطاعن غير صحيحة ومعايب غير ثابتة كما طعن هؤلاء فيك فوعدناهم بالنصر عليهم ثم صدقناهم الوعد ( فأنجيناهم( يعني المرسلين من عذاب الله وإيذاء الكفار( ومن نشاء( يعني المؤمنين بهم ومن في إبقائه حكمته كمن سيؤمن هو أو أحد كمن ذريته ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال ( وأهلكنا المسرفين( متجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.
( لقد أنزلنا إليكم( يا معشر قريش ( كتابا( أي القرآن ( فيه ذكركم( أي شرفكم عن علمتم به أو لأنه بلسانكم أو المعنى ذكركم ربكم وذكر ما تحتاجون غليه من أمر دينكم وقال البيضاوي صيتكم والصيت أي الذكر أي الحسن أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق وقال مجاهد فيه حديثكم وفي القاموس من الذكر بالكسر الحفظ للشيء كالتذكار والشيء يجري على اللسان والصيت والثناء والشرف والصلاة لله تعالالى والدعاء وكتاب فيه تفصيل الدين ووضع المال ( أفلا تعقلون( عطف على أنزلنا والفاء للتعقيب والهمزة للإنكار عدم تعقل ما فيه صلاحكم وشرفكم.
( وكم قصمنا( يعني كسرنا أي أهلكنا كثيرا ( من قرية كانت ظالمة( يعني أهل قرية كانوا ظالمين على أنفسهم بالكفر والمعاصي ( أنشأنا( أورثنا ( بعدها( أي بعد هلاك أهلها ( قوما ءاخرين( مكانهم
( فلما أحسوا( يعني لما أدركوا بحاسة البصر والضمير الأهل المحذوف المضاف إلى قرية ( بأسنا( شدة عذابنا ( إذا هم منها يركضون( أي يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم لما ظرف بمعنى المفاجأة في إذا يعني فاجأ هربهم مسرعين حين رؤيتهم عذابنا هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة وهما بيان لكيفية إهلاكهم تقديره ولما أردنا أن نقصهم أنزلنا عليهم بأسنا فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون
( لا تركضوا( محمول على تقدير قبل والجملة مستأنفة في جواب ما قيل لهم عند هربهم يعني قبل لهم استهزاءا إما بلسان الحال أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين لا تركضوا ولا تهربوا ( وارجعوا إلى ما أتفرتم فيه( أي ما أنعمتهم من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة قال الخليل المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه ( ومساكنكم( التي كانت لكم ( لعلكم تسئلون( غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبون السائل عن علم ومشاهدة أو راجعوا واجلسوا في مجالسكم وعبيدكم فيقولون لكم بمن تأمرون أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في النوازل والخطوب أو تسألون غدا عن أعمالكم وتعذبون فإن السؤال من مقدمات العذاب وقال ابن عباس تسألون عن قتل نبيكم قال البغوي نزلت هذه الآية في أهل حضورا وهي قرية باليمن وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبيا فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وقتلوه فسلط الله عليهم بخث نصر حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا أو ارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ( لعلكم تسئلون ( قالت قتادة لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمتعون من شئتم فإنكم أهل ثروة ونعمة فأتبعهم بخث نصر وأخدتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء يا ثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك أقروا على أنفسهم بالذنوب حين لم ينفعهم وجاز أن يكون بعضهم قال لبعض لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالا وخراجا فتعطون مالا تمتعون من القتل فنودي من السماء يا ثارات النبياء وأخذتهم السيوف فأقروا على أنفسهم
( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين( جملة مستأنفة
( فما زالت تلك دعواهم( أي ما زالوا يرددون ذلك وإنما سماه دعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل ويقول يا ويل تعالى فهذا أو أنك وكل من تلك ودعواهم يحتمل الاسمية والخبرية لما زال ( حتى جعلناهم حصيدا( أي مثل زرع الحصيد المحصود ولذلك لم يجمع ( خامدين( ميتين من خدمت النار وهو مع حصيد بمنزلة اسم واحد مفعول لجعلنا كقوله جعلته خلوا حامضا فإن المعنى جعلناهم جامعين للماثلة الحصيد والخمود أو صفة الحصيد أو حال من ضميره.
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين( يعني عابثين فاعلين فعلا عبثا باطلا بل خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للناظرين وتذكرة للمعتبرين وتسببا لما ينتظر به أمور المخلوقين في المعاش والمعاد فينبغي أن يتوصلوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يفتروا بزخارفها فإنها سريعة الزوال
( لو أردنا أن نتخذ لهوا( قال ابن عباس في رواية عطاء اللهو المرأة وهو قول الحسن وقتادة وذلك ان الوطء سمي لهوا في اللغة والمرأة محل اللهو وفي رواية الكلبي عن ابن عباس اللهو الولد وهو قول السدي فإن المرء يلهو بالصغار اللاهين من أولاده ( لاتخذنا له من لدنا( أي من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات وما يناسب ذاتنا كما هو معلوم أن الزوج والولد يكون لكل شيء من جنسه ولما كان ذاته تعالى بحيث لم يماثله شيء ولا يجانسه ولا يكافئه احد، فاستحال أن يكون له زوج أو ولد وتعلق الإرادة به فامتنع اتخاذ الزوج والولد وهذا رد لقول النصارى في المسيح وأمه ( إن كنا فاعلين( شرط مستغني عن الجزاء بما مضى يعني إن كنا فاعلين اتخاذ اللهو لاتخذناه من لدنا لكنا لسنا فاعلين لكونه مستحيلا مناف للألوهية وقال قتادة وابن جريح ومقاتل إن لنفي أي ما كنا فاعلين والجملة كالنتيجة لشرط.
( بل نقذف بالحق( عطف على مضمون الكلام السابق يعني لا تفعل اللهو والباطل ( بل نقذف بالحق( أي ترمي بالحق بالآيات الدالة على تنزيه الله تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد وكونه كفوا لأحد رميا بعيدا ( على الباطل( أي الكفر والكذب وذلك قولهم :( اتخذ الله ولدا( ( فيدمغه( أي يدمغه ويفنيه والدمغ كسر الرأس والدماع المؤدي إلى زهوق الروح استعار الله سبحانه لإعدام الباطل بالحق وإحثاث الحق وإبطال الباطل فإن القذف هو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمي، والدمغ تصوير لإبطال الباطل مبالغة بحيث لا يبقى من الباطل شيء ( فإذا هو( أي الباطل ( زاهق( أي هالك ذاهب لا أثر له في القاموس زهق الباطل أي اضمحل والشيء بطل وهلك فهو ناهق وقيل الزهوق ذهاب الروح ذكره لترشيح المجاز ( ولكم( يا معشر الكفار ( الويل( الهلاك ( مما تصفون( الله بما يليق به وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة والجملة معطوفة على ( فإذا هو زاهق( أو حال أو معترضة.
( وله من في السموات والأرض( خلقا وملكا فلا يصلح شيء منها أن يكون له أهلا أو ولدا أو كفؤا ( ومن عنده قربا وعنديته بلا كيف وهم الملائكة والأنبياء ومن في معناهم معطوف على من في السماوات والأرض وإفراده للتعظيم ولأنه أعم منه من وجه فإن بعض الملائكة كحملة العرش وغيرهم وحقائق الأنبياء والملائكة ودائرة الظلال متعال عن التبوء في السماء والأرض أو مبتدأ خبره ( لا يستكبرون( أي لا يتعظمون ( من عبادته ولا يستحسرون( أي لا يعيون يقال حسر واستحسر إذا تعب وأعيا والاستحسار أبلغ من الحسور وفي إشارة إلى أن عبادتهم لأجل ثقلها ودوامها كانت حقيقة بأن يستحسر منها وهم لا يستحسرون بل يتلذذون به ويديمون فيه بحيث يرون تركها هلاكا
( يسبحون الليل والنهار( أي ينزهونه ويعظمونه دائما قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم ( لا يفترون( أي لا يضعفون ولا يسئمون حال من الضمير المرفوع في يسبحون وهو استئناف أو حال من ضمير لا يستكبرون ولا يسحسرون وجملة لا يستكبرون مع ما عطف عليه حال من عنده على تقدير كونه معطوفا على من في السموات والمراد بالعبادة التي لا تنقطع من المقربين دوام الحضور والذكر الخفي الذي لا يمكن انقطاعه من المقربين بشرا كان أو ملكا كما لا يمكن انقطاع التنفس بالهواء للحيوان البري وبالماء الحيوان البحري وأيضا إذا حصل دوام الحضور فكلما يفعل المرؤء من فعل يفعله الله تعالى يأكل ويشرب وينام ليتقوى على طاعة الله وينكح أداء لسنة رسوله وتكاثرا لأمته وامتثالا لأمره " تناكحوا فإني مباهي بكم الأمم " ولا يصدر عنه معصية بتقدير الله يندم ويتوب بحيث يبدل الله سيئاتهم حسنات ومن أجل ذلك قالوا : نوم العالم عبادة ومنة كان هذا شانه يصدق عليهم انهم لا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
( ام اتخذوا( بل اتخذوا ( ءالهة( أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فمعنى بل للإضراب عن مضمون الكلام البائن فإن مضمون قوله تعالى ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون( ١ وقوله ( لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلوا هل هذا إلا بشر مثلكم( ٢ وقوله تعالى :( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر( ٣ إنهم طعنوا في النبوة فالمعنى أنهم طعنوا في النبوة والقرآن بل اتخذوا آلهة ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ ( من الأرض( صفة للآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى التبعيض أو الابتداء يعني اتخذوا وصنعوا من جواهر الأرض من حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك وفائدتها التحقير دون التخصيص ( وهم ينشرون( صفة لآلهة أي يحيون الأموات وفيه تجهيل للكفار وتهكم بهم فإنه لا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإنعام بأبلغ وجوه النعمة وهم لما أشركوا الأصنام في الألوهية فكأنهم ادعوا لها الإحياء ونحوه وذلك ظاهر البطلان وللمبالغة في التهكم زيد الضمير الموهم لاختصاص الإنشار لهم.
١ سورة الأنبياء الآية: ٢..
٢ سورة الأنبياء الآية: ٣..
٣ سورة الأنبياء الآية: ٥..
( لو كان فيهما( أي في السماء وزالأرض ( ءالهة( كما زعم المشركون ( إلا أنه( ها هنا بمعنى لا غير صفة لآلهة وليست للاستثناء لتعذر الاستثناء المتصل والمنفصل لعدم القطع في شمول المستثنى منه المستنثى وعدم شموله فهو محولة على غير وأعرب ما بعده إعرابه كما يحمل لفظة غير على إلا فيستعمل للاستثناء ( لفسدتا( لبطلتا ولم يوجدا فإنها إن توافقت الألهة في المراد تطاردت عليها القدرة وإن تخالفت فيه وتعاوقت عنه وهذه الجملة تعليل للتوبيخ المفهوم من أم المنقطعة ( فسبحان الله( يعني اسبح لله سجدا ( رب العرش( المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير ومنشأ المقادير بمنزلة الدماغ للإنسان في العالم الكبير وأنزهه ( عما يصفون( من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد
( لا يسئل( الله تعالى ( عما يفعل( لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطة الذاتية ولأن كلما يفعل من فعل فهو تصرف في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء لا اعتراض عليه عقلا ولا نقلا ( وهم( يعني من في السموات والأرض ( يسئلون( عما يفعلون لكون أفعالهم تصرفا في ملك الله سبحانه فلا يجوز إلا بإذنه وإبياحته فيسألون عن ذلك وجملة هم يسألون حال أو معطوفة على ما سبق وجملة لا يسأل مع ما عطف عليه تعليل المضمون الكلام السابق فإن من كان مسؤولا لا يصلح أن يكون شريكا لمن لا يكون مسؤولا.
( أم اتخذوا من دونه ءالهة( كرر الإنكار والتوبيخ استعضاما لكفرهم واستفظاعا وتبكيثا وإظهارا لجهلهم او ضما لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى ما يكون لهم دليلا من العقل والمعنى أوجدوا آلهة ينتشرون الموتى فاتخذوهم آلهة لما رأوا فيها من خصائص الألوهية أو وجدوا في الكتب الإلهية السماوية الأمر بإشراكهم فاتخذوها آلهة متابعة للأمر ويعضد ذلك التأويل أنه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا ( قل هاتو برهانكم( علىا الإشراك غما من العقل أو من النقل فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وتطاقت الحجج على بطلانه عقلا كما مر ونقلا فإن ( هذا ذكر من معي( قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها يعني لهذا القرآن والتوراة والإنجيل الموجود بين أيديكم ذكر أمتي أي عظمتهم إلى يوم القيامة ( وذكر من قبلي( أي عطف الأمم الماضية روى عطاء عن ابن عباس ذكر من معي القرآن وذكر من قبلي التوراة والإنجيل يعني راجعوا إلى الكتب السماوية من القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها هل تجدون فيها أن الله تعالى اتخذ شريكا أو ولدا أو امر لعبادة غيره، والتوحيد لم يتوقف عليه صحة بعثة الرسل وإنزال الكتب فصح الاستدلال فيه بالنقل فإن قيل مشركوا مكة لم يكونوا مسلمين لكتب السماوية لا سيما للقرآن فكيف يصح عليهم الاحتجاج بها قلنا : لما كان صحة الكتاب السماوية لا سيما القرآن بإعجازه واضحا بينا وإنكارهم إنما كان عنادا لم يعتد بإنكارهم وجعلها كالمسلمة لكونها مسلمة عند الإنصاف والله أعلم ( بل أكثرهم لا يعلمون الحق( ولا يميزون بينه وبين الباطل مع سطوع برهانه إضراب من الاتعاظ المفهوم من إضافة الذكر على من معي ( فهم معرضون( من الحق أي أي التوحيد واتباع الرسول لأجل ذلك.
( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي( قرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء على التعظيم وضمير المتكلم والباقون بالياء التحتانية وفتح الحاء على البناء للمفعول ( إليه أنه لا إله أنا فاعبدون( أي فاعبدوني وحدت لا تشركوا بي شيئا وهذا تعميم بعد تخصيص يعني ليس الأمر بالتوحيد منحصرا في القرآن والتوراة والإنجيل الموجودة بين أظهرهم مشار إليها بهذا في قوله :( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي( ١ بل كل رسول أرسلنا كنا نوحي إليهم التوحيد
١ سورة الأنبياء الآٍية: ٢٤..
( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا( ( أم اتخذوا ءالهة من الأرض( ومضمون أم اتخذوا من دونه آلهة يعني جعلوا لله شركاء وقالوا اتخذ الرحمن ولدا قال البغوي نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله ( سبحانه( تنزيه له تعالى عن ذلك ( بل عباد( يعني بل هم أي الملائكة عباد مخلوقون ليسوا بأولاد ( مكرمون( مقربون
( لا يسبقونه بالقول( أي لا يقولون شيئا إلا بإذنه واصله لا يسبق قولهم وإذنه فنسب السبق عليهم وغليه وجعل القول محله وأداته تنبيها على استهجان أسبق المعترض به للقائلين على الله ما يرضاه وأنيب اللام عن الإضافة اقتصارا وتجافيا عن تكرير الضمير ( وهم بأمره( أي بما يأمرهم به ( يعملون( يتمثلونه ولا يعصونه أصلا
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم( أي لا يخفى عليه شيء مما عملوا وما هم عاملين وهو كالعلة لما قبله والتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطة علمه تعالى بأحوالهم يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم ( ولا يشفعون( مهابة منه ( إلا لمن ارتضى( ان يشفع له قال ابن عباس إلا لمن قال لا إله إلا الله وقال مجاهد إلا لمن رضي الله عنه ( ولهم من خشيته مشفقون( الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص به العلماء والإشفاق خوف مع اعتناءه فإن عدي بمن كما في هذه الآية فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدى بعلى فالعكس فالمعنى وهم من خوفه لأجل عظمته ومهابته خائفون لا يأمنون مكره
( ومن يقل منهم( أي من الخلائق أو من الملائكة على سبيل الفرض ( إني( قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ( إله من دونه فذلك( الشخص ( نجزيه جهنم( والغرض من الاية نفي الربوبية ونفي ادعاء ذلك من الملائكة وتهديد المشركين بتهديد مدعي للألوهية فهذه الآية كقوله تعالى :( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يشتنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا( ١ وقال قتادة عني بذلك إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه وقد كان من الملائكة إما حقيقة أو حكما لأجل ألحاقه بهم وغما غيره من الملائكة فلم يقبل به أحد ( كذلك نجزي الظاليمن(.
١ سورة النساء الآية: ١٧٢..
( أولم ير الذين كفروا( قرأ ابن كثير ألم بغير واو العطف والباقون بالواو يعني ألم يعلموا ( أن السموات والأرض كانتا( لم يقل كانت لأن المراد جماعة السماوات وجماعة ا ؟لأرض ( رتقا( قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة كانتا شيئا واحدا ملتزقين ( ففتقناهما( فصلناهما بالهواء والرتق في اللغة السد والضم والفتق الشق والفتح قال كعب خلق الله السماوات مرتقة طبقة واحدة ففقتها فجعلها سبع سموات وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففقتها فجعلها سبع أرضين وقال عكرمة وعطية كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات والمراد حينئذ بالسموات السماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على أن لها مدخلا في الأمطار وهذا القول أظهر فإن الكفرة وكل من له عقل ينظر ويعلم أن المطر ينزل من السماء بعدما لم يمطر والنبات يخرج من الأرض بعدما لم يخرج وهو أمر حادث لا بد له من محدث واجب الوجود فالرتق والفتق بهذا المعنى ظاهر وإما كونها في بدء الخلق ملتزقة وفتقت بالرياح فغير ظاهر على الكفار لكنهم متمكنون من تحصيل العلم بها بالاستفسار من العلماء ومطالعة الكتب السماوية وتناسب تأويل عكرمة وعطية قوله تعالى :( وجعلنا من الماء كل شيء حي( عطف على فتقناهما يعني فتقنا السماء وأنزلنا فيها ماء وفتقنا الأرض وأخؤجنا منها نباتا وجعلنا من الماء الذي نزلناه من السماء كل شيء حي وهو معطوف على كانتا وذلك محمول على السماوات والأرض وعلى هذا يقال الرابط محذوف تقديره وجعلنا من الماء كل شيء حي كائن بينهما أو الجملة عطف على مضمون ما سبق لأن الاستفهام لإنكار نفي الرؤية وهو يستلزم ثبوت الريية وذلك يستلزم حصول الرتق والفتق فالتقدير حصل منها فتق السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل شيء حي والجعل إن كان بمعنى الخلق وهو الجعل البسيط فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى التصبير وهو الجعل المركب فالظرف مستقر مفعول ثان، فإن قيل خلق النبات الذي له نوع من الحياة من الماء وتصبيره كائنا من الماء ظاهر فإنه بمنزلة النطف للحيوان وكذا بعض الحيوانات كالحشرات فإن خلقها من الرطوبات واما أكثر الحيوانات فخلقها من النطفة فما معنى قول وجعلنا من الماء كل شيء ؟ قلنا : لما كان الماء أعظم مواد بقاء الحيوان وفرط احتياجه وانتفاعه بعينمه فكأنه خلق منه فصح ان يقال على سبيل التجوزي خلقنا من الماء كل شيء حي وصيرناه منه كما قيل خلق الإنسان من عجل وخلق أيد من الكرم وجاز أن يقدر المضاف ويقال المعنى وجعلنا من الماء بقاء كل شيء حي وقال أبو العالية واكثر المفسرين معني الآية كل شيء حي فهو مخلوق من الماء أخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل شيء خلق من الماء " ١ قلت يعني من النطفة نظيره قوله تعالى :( والله خلق كل دابة من ماء( ٢ فالمراد بالشيء على هذا التأويل الحيوان وبالكل الأكثر كما في قوله تعالى :" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ٣وجاز أن يراد بالماء مطلق الرطوبة الشاملة لنطفة الحيوان وما يتولد منه النباتات والحشرات والله أعلم ( أفلا يؤمنون( الاستفهام لإنكار والفاء للتعقيب يعني بعد رؤية هذه الأدلة القاطعة على وجود الصانع الواجب وجوده المتصف بصفات الكمال المتوحد في الذات والصفات لا يؤمنون به
١ رواه أحمد ورجاله الصحيح خلا أبي ميمونة وهو ثقة انظر مجمع الزوائد في كتاب: الأطعمة باب: إطعام الطعام (٧٨٦٥)..
٢ سورة النور الآية: ٤٥..
٣ هذا نص حديث وليس بآية: اخرجه البخاري في كتاب: الحكام، باب: قوله الله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (٧١٣٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (١٨٢٩)..
( وجعلنا في الأرض( جبالا ( رواسي( ثوابت من رسا إذا ثبت ( ان تميد بهم( في الأرض أو في الرواسي ( فجاجا( الفج الطريق الواسع_بين جبلين كذا في في القاموس ( سبلا( جمع سبيل وهو الطريق' وما وضح منه كذا في القاموس قدم فجاجا وهو وصف للسبيل لأن فيه معنى الوسعة ليصير حالا من سبلا فيدل على أنه حين خلقها كان كذلك أو ليدل منها سبيلا فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد ( لعلهم يهتدون( إلى مقاصدهم ومصالحهم
( وجعلنا السماء سقفا محفوظا( عن السقوط لقدرته من غير همد أو عن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته أو عن استراق السمع بالشهب ( وهم عن ءياتها( أي عن أحوالها وما خلق فيها من الشمس والقمر والكواكب الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته ( معرضون( غير متفكرين فيه
( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر( بيان لبعض تلك الآيات ( كل( أي كل واحد( في فلك( وهو مدار النجوم الذي يضمها كذا في القاموس وهو في كلام العرب كل شيء مستدير وجمعه أفلاك ومنه فلك المغزل قال الحسن الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة، وقال بعضهم الفلك السماء الذي فيه ركز الكواكب وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه وهو قول قتادة وقال الكلبي الفلك استدارة السماء وقال الآخرون الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم قلت : والصحيح أن المراد بالفلك السماء والتنوين للدلالة على أن كل واحد منها في فلك واحد من ا ؟لأفلاك وهو السماء الدنيا وغن كان مدار الكواكب على أفلاك شتى فالمراد بالفلك الجنس كقولهم كساهم الأمير حلة والله أعلم ( يسبحون( أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء والضمير راجع على الشمس والقمر وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل واو العقلاء لأن السباحة فعلهم والله أعلم
أخرج ابن المنذر عن أبي جرع قال لما نعى للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال يا رب من لأمتي فنزلت :( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد( أي الخلود ودوام البقاء في الدنيا ( أفأين مت فهم الخالدون( قال البغوي نزلت هذه الآية حين قالت الكفار نتبرص بمحمد ريب المنون والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة لإنكار بعد ما تقرر ذلك والجملة معطوفة على مضمون ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد يعني ثبت أنك لست بخالد فإن مت أفهم الخالدون
( كل نفس ذائقة الموت( أي ذائقة مرارة مفارقتها جسدها هذه الجملة مقررة لقوله تعالى :( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد( ( ونبلوكم( نعاملكم معاملة المحشر ( بالشر والخير( وبالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر وكل ما يحبون وما يكرهون ( فتنة( أي ابتلاء فهو مصدر من غير لفظه يعني نبلوكم ابتلاء حتى يظهر منكم بعدما تحبونه الشكر أو الكفران وةبعد ما تكرهونه الصبر أو الجزع والشكوى ( وإلينا ترجعون( فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم الصبر والشكر وضدهما وفيه إيماء بأن المقصود منن هذه النشأة غنما هو الابتلاء والتعريض للثواب أو العقاب تقرير لما سبق،
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال مر النبي صلى الله عليه وزسلم على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان فلما رآه أبيو جهل ضحك قال لأبي سفيان هذا النبي من بني عبد مناف فغضب أبو سفيان وقال : ما تنكرون أن يكون من بني عبد مناف نبي فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال ما آراك منهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك فنزلت ( وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزءا( سخريا أي مهزوءا به ( أهذا الذي يذكر ءالهتكم( بيان لقوله :( إن يتخذون إلا هزءا( تقديره يقولون اهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء وذكر الحبيب لا يكون إلا بخير يقال فلان يذكر فلانا يعني يعيبها وفلان يذكر الله أي يعظمه ويجله ( وهم بذكر الرحمن( بالتوحيد والتعظيم أو بإرشاد الخلق يبعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن ( هم كافرون( منكرون يقولون لا رحمن اليمامة يعني مسيلمة الكذاب فهم أحق بأن يهزؤ بهم وتكرير الضمير للتأكيد أو للتخصيص أو لحيلولة بينه وبين الخير
( خلق الإنسان من عجل( يعني خلق الإنسان مجبولا على الاستعجال كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة تأنيه يقول العرب للذي يكثر منه الشيء خلق منه يقال خلقت من تعب وخلقت من غضب وخلق فلان من الكرم جعل ما طبع هو بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له، قال سعيد بن جبير والسدي لما أدخل الروح في رأس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح في رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل والمراد بالإنسان آدم عليه الصلاة والسلام وآورث أولاده العجلة من عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد قلت : ويمكن أن يقال على ما قالت الصوفية أن العالم بأسرها ضلال لأسماء الله تعالى وصفاته ومباد لتعينات الخلائق والله سبحانه متصف بالصفات المتضادة فكما أن الصبور من الأسماء الحسنى كذلك سريع الحساب منها فالاستعجال الذي هو من صفات الله تعالى له دخل في مبدأ تعين نوع افنسان ومن ها هنا قال قوم معناه أن بنيته وخلقته من العجلة، فإن قيل إذا كان الاستعجال من صفات الله كان محمودا وسياق هذه الآية تدل على كونه مذموما وأيضا إذا كانا الإنسان مجبولا على الاستعجال فالنهي عنه لا يجوز لأن الطبيعيات لا يكون مقدروة الترك ؟ قلنا : نفس الاستعجال غير مذموم وإنما المذموم الإفراط فيه أو وضعه في غير موضعه ألا ترى أن الله تعالى يمدح الأنبياء بأنهم يسارعون في الخيرات فالممنوع هو الإفراط ووضعه فير موضع هخ وذلك مقدور تركه وقال قوم معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلرق الله إياه لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس قال مجاهد فلما أحيا الروح رأسه قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل : معناه خلق آدم سرعة وتعجيل لا على الترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها وقال قوم : من عجل أي من طين قال الشاعر :
والنبغ في الصخرة الصماء منبتة والنخل تنبت من الماء والعجل
قال في القاموس العجل محركة الطين أو الحمأة وهذه جملة معترضة تمهيد للتشنيع على قولهم ويقولون متى هذا الوعد ( وسأوريكم ءاياتي( نعماتي في الدنيا لوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار ( فلا تستعجلون( بالإتيان بها قبل وقتها المقدر لها بالفاء للسببية معطوف على قوله :( سأوريكم ءاياتي( وهي معترضة ثانية رد لاستبعاد المشركين وعيد العذاب واستعجالهم استهزاء حيث كانوا يقولون أمطر علينا حجارة من السماء وقيل : نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب.
( ويقولون( أي الكفار ( متى هذا الوعد( أي وقت وعد العذاب أو القيامة، الاستفهام للاستبطاء المبني على الاستعجال والجملة عطف على الشرطية السابقة أعني وإذا رآك الذين كفروا عن يتخذونك إلا هزءا أو عطف على يقولون المقدر في قوله أهذا الذي يذكر آلهتكم ( إن كنتم صادقين( بالوعيد أو إتيان القيامة،
حطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعني فبينوا وقت إتيانها فقال الله تعالى :( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون( جواب لو محذوف وحين قيل : مفعوةل به ليعلم والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يستطيعون رفعها عن أنفسهم بأنفسهم ولا يجدون أحدا ينصرهم يدفعها عنهم لما أقاموا على كفرهم وقيل : مفعول يعلم متروك وحين ظرف بفعل مقدر والتقدير لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون بطلان ما هم عليه حين لا يكفون فهما جملتان قلت وجاز أن يكون مفعول يعلم مقدر أو يكون حين ظرفا للفعل مقدر والتقدير لو يعلم الذين كفروا ما ينزل بهم حين لا يكفون عن وجوههم النار يعني حين يحيط بهم النار لما استعجلوا العذاب
ولما قالوا : متى هذا الوعد ( بل تأتيهم( الضمير للنار أو للوعد أو الحين والتأنيث باعتبار أن الوعد بمعنى العدة والحين بمعنى الساعة، والجملة إضراب عما تضمنه متى هذا الوعد من الاستبعاد أو هما تضمنه لو يعلم الذين كفروا يعني لا يعلمون وقت مجيء الساعة أو العدة أو النار التي يحيط بهم في جميع الجوانب ( بغتة( أي فجأة منصوب على المصدرية وعلى الحال ( فتبهتهم( تلك العدة أو النار أو الساعة يعني تغلبهم أو تحيرهم ( فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون( أي يمهلون فيه تذكير بإمهالهم في الدنيا وتقديم المسند إليه في قوله تعالى : ولا هم ينصرون ولا هم ينظرون على المسند وهو فعل لدلالة الحصر بالكفار إشعار بأن عصاة المؤمنين ينصرهم الشفعاء من الأنبياء والملائكة والصلحاء وهم ينظرون ويغفرن
( ولقد استهزىء برسل من قبلك( عطف على قوله ( وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذون إلا هزءا( واللام لكونه جواب قسم محذوف وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لمن يستهزأ ( فحاق( أي نزل بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون أي أجزاء استهزائهم
( قل( يا محمد المستهزئين بك ( من يكلؤكم( أي يحفظكم ( بالليل والنهار من الرحمن( قال ابن عباس إن من عذاب الله أن أراد بكم أو إن نزل بكم يعني لا كالىء من عذابه إلا رحمته العامة في الدنيا وإن اندفاعه بأمرنا ( بل هم عن ذكر ربهم معرضون( إضراب عن الأمر بالسؤال فإن معناه ذكرهم الرحمن وحذرهم عن عذابه فقال بل هم معرضون عن ذكره يعني عن القرآن ومواعظ الله فلا ينفعهم التذكير أو المعنى أنهم لا يخطرون الرحمن ببالهم فضلا أن يبخافوا بأسه حتى إذا كلؤوا منه عرفوا الكالىء وصلحوا للسؤال عنه
( أم لهم ءالهة( يعني بل ألهم آلهة ( تمنعهم( من عذابنا صفة لآلهة ( من دوننا( صفة ثانية لآلهة أو حال عنه يعني كائنة من دوننا إضراب ثان عن الأمر بالسؤال فإن السؤال عن المعرض بعيد وعن المعتقد لنقيضه أبعد والاتفهام لإنكار معتقدهم يعني ليس الأمكر كما اعتقدوه أن آلهتهم من العذاب ( لا يستطيعون( يعني ما اعتقدوه آلهة لا تستطيع شيء منها ( نصر أنفسهم( اصلا أن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه جملة مستأنفة في مقام التعليل للإنكار ( ولا هم منا يصبحون( عطف على لا يستطيعون يعني ولا يصحبهم منا نصر كما يصحب لمن يشفع عصاة المؤمنين من النبيين والملائكة والصالحين وقال ان عباس معناه ولا هم منا يمنعون فالمعنى أن العذاب يشتمل الآلهة أيضا نظيره قوله تعالى :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم( ١ وقال عطية عنه معناه تجارون بقول العرب أنما لك جار وصاحب من فلان وقال مجاهد معناه ينصرون وقال قتادة لا يصحبون من الله يعني بالإذن في الشفاعة والنصر فهذا يؤل إلى الأول والثالث والرابع إلى الثاني
١ سورة الأنبياء الآية: ٩٨..
( بل متعنا( يعني أعطنا النعمة وأمهلنا ( هؤلاء( الكفار في الدنيا ( وءاباؤهم حتى طال عليهم العمر( أي متدبر من الزمان إضراب عنا توهعموا من نصر الآلهة إياهم بيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتيع بما قدر لهم من الأعمار أو عن الدلالة على بطلان ما توهموا ببيان ما أوهمهم ذلك وهو أنه تعالى أمهلهم استدراجا فاغتروا وحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه سبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب قال ( أفلا يرون( الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ألا ينظرون فلا يرون بالأبصار أو التقدير ألا يتفكرون فلا يعلمون ( أنا نأتي الأرض( أي يأتي أمرنا أرض الكفار أن ينقص ( ننقصها من أطرافها( أيس تسلط المسلمين على أطرافها بيان لقوله نأتي الأرض وتصوير لما يجريه الله على أيدي المسلمين فتح ديار المشركين ارضا فارضا ( أفهم الغالبون( رسول الله والمؤمنين الهمزة للإنكاؤر والفاء للعطف على نأتي الأرض يعني ليس الأمر أنهم يغلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
( قل إنما أنذركم( أي أخوفكم ( بالوحي( أي بما يوحي إلي من القرآن هذه الجملة تقديره للنهي عن استعجال لحوق العذاب ونفي استبعاده والمعنى ان إنذاري بالعذاب ليس من تلقاء نفسي إنما هو بإخبار الله العليم القدير الذي لا يحتمل التخلف في أخباره ولا وجه لاستبعادكم واستعجالكم ( ولا يسمع الصم الدعاء( قرا ابن عامر لا تسمع بالتاء الفوقانية المضمومة وكسر الميم من الأفعال خطايا للنبي صلى الله عليه وسلم ونصب الصم والباقون بالياء المفتوحة وفتح الميم من المجرد ورفع الضم على الفاعلية والجملة حال من فاعل قل أو من المحذوف يعني قل للكافرين المستهزئين المستعجلين للعذاب فاللام للعهد سماهم الصم ووضعه موضع ضميرهم ولم يقل ولا يسمعون الدعاء أو لا يسمعهم للتصريح على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون ( إذا ما ينذرون( ظرف ليسمع أو للدعاء والتقيد به لن الكلام في الإنذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم.
( ولئن مستهم( جواب قسم محذوف ( نفحة( قال ابن عباس ظرف وقال : ابن جريح : نصيب من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أي أعطاه حظا منه قيل : ضربة من قولهم نفحة الدابة برجلها وأصل النفح هبوب رائحة الطيسب وفيه مبالغات ذكر المس وما في النفحة من عنى القلة والبناء الدال على المرة ( من عذاب ربك( الذي ينذرون به ويستعلجون ( ليقولن يا ويلنا( يا هلاكنا أحضر فهذا أوائنك ( إنا كنا ظالمين( على أنفسنا بالإشراك بالله وعدم التحرز عن عذابه يعني لدعوا على أنفسهم بالويل واعترفوا عليها بالظلم وندموا حين لا يسنفعهم الندم.
( وتضع الموازين القسط( أي ذوات القسط أو وصفت به للمبالغة أفرد القسط لأنه مصدر ( ليوم القيامة( أي الجزاء يوم القيامة أو لأجل أهلها أو فيه كقولك حجئت لخمس خلون من الشهر قيل وضع الميزان تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال وهذال التأويل غير مقبول عند اهل السنة لعله من كلام أهل الهواء والصحيح أن الميزان على حقيقته أخرج ابن المبارك في الزهد والأحرى في الشريعة عن سلمان موقوفا وأبو الشيخ ابن حبان في تفسيره من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الميزان له لسان وكفتان وأخرج ابن مردويه في تفسيره عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" خلق الله عز وجل كفتي الميزان مثل السماء والأرض " الحديث وأخرج البيهقي في البعث عن ابن عمر عن عمرؤ ابن الخطاب في حديث سؤال جبريل عن الإيمان " قال يا محمد ما الإيمان ؟ قال أن تؤمن بالله وملائكته فإذا فعلت فأنا مؤمن ؟ قال نعم، قال : صدقت " وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لو سعت " الحديث وأخرج الترم=ي وحسنه والبيهقي عن أنس قال " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة قال : أنا فاعل قلت : يا رسول الله فأين أطلبك ؟ قال : اطلبني أو ل ما تطلبني على الصراط قلت : فإن لم ألقثك على الصراط ؟ قال : فاطلبني عند الميزالن قلت : فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : اطلبني عند الحوض فإني لا أخطىء هذه المواطن الثلاثة " ١ وأخرج الحاكم والبيهقي والآجري عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله هل تذكرون اهليكم يوم القيامة ؟ قال : في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدا حيث يوضع الميزان حتى يعلم يثقل أو يخف وحيث تطاير الكتب حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أو في شماله أو من وراء ظهره وحيث يوضع الصراط حتى يعلم أن ينجوا أولا " وقد ورد في الميزان أحاديث كثيرة ذكرنا بعضها في السورة القارعة في تفسير قوله تعالى :( من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية( ٢ الآية، وذكر البغوي أنه روي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب ففشي عليه ثم أفاق فقال يا إلهي من اذي يقدر أن يملأ كفة حسناته، فقال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة، أورد لفظ الجمع فقال ونضع الموازين قال النسفي في بحر الكلام، إما لأن يكون لكل إنسان ميزان على حدة أو لأن الجمع يذكر ويراد به الواحد تفخما وتعظيما كما في قوله تعالى :( فنادته الملائكة( ٣ وهو جبرائيل وقال الله تعالى :( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات( ٤ والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم وجاز أن يعتبر كل جزء منه ميزانا وويطلق الجمع على المجموع كالسراويل يعتبر جمع سروالة ( فلا تظلم نفس شيئا( يسيرا من حقه أو من الظلم أي لا ينقص من حسناته بلا سبب ولا يزاد على سيئاته ( وإن كان مثقال( مصدر ميمي أي زلة ( حبة من خردل( قرا نافع مثقال بالرفع على إن كان تامة وهو فاعلها والباقون بالنصب على أنها ناقصة واسمها ضميثر راجع إلى العمل المفهوم من الموازين يعني إن كان العمل مثقال حبة من خردل ( أتينا بها( أي أحضرناها في الميزان قوله :( وغن كان مثقال حبة من خردل( شرط والمعطوف محذوف وأتينا بها جزاء والتقديرلا وإن كان العمل مثقال حبة من خردل يعني أصغر صغيرا أو كبيرا آتينا بها أي أحضرناها في الميزان وجاز ان يكون أن متصلة يعني فلا تظلم شيئا من حقه وإن كان حقه مثقال حبة من خردل وعلى هدا قول أتينا بها جملة مستأنفة بيان لنفي الظلم والضمير عائد إلى المثقال وتأنيثه لأجل إضافته إلى حبة يعني أتينا مثقال الحبة من حقه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن سيئاته أكثر من حسناته بواحخدة من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ( وكفى بنا( الباء زائدة وضمير المتكلم فاعل لكفى وجاز ذلك لأجل الفصل ( حاسبين( منصوب على التميز أو الحال قال السدي محصين وزالحسب معناه القدر وقال ابن عباس عالمين حافظين لأن من حسب شيئا علمه وحفظه وكفى بالله حسيبا إذ لا مزيد على علمه وعدله
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شان الصراط (٢٤٣٣)..
٢ سورة القارعة الآية: ٦-٧..
٣ سورة آل عمران الاية: ٣٩..
٤ سورة المؤمنون الآية: ٥١..
( ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان( أي الكتاب الفارق بين الحق والباطل يعني التوراة ( وضياء( يستضاء بع في ظلمات الحيرة والجهل والتنكير للتعظيم ( وذكرا للمتقين( أي يتعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع يعني كتابا جامعا بين هذه الصفات وقال ابن زيد الفرقان النصر على الأعداء قال الله تعالى :( يوم الفرقان( ١ لبيوم بدر وقيل : الفرقان فلق البحر وعلى هذا الضياء وزالذكر يراد بهما التوراة أو الذكر الوحي الغير المتلو النازل على موسى عليه الصلاة والسلام وعظ به بني إسرائيل.
١ سورة الأنفال الآية: ٤١..
( الذين يخشون ربهم( صفة للمتقين أو مدح لهم منصوب أو مرفوع ( بالغيب( حال من الفاعل او المفعول ( وهم من الساعة مشفقون( خائفون وفي تصدير الضمير والحكم عليه مبالغة وتعريض والجملة عطف على الصلة أو حال
( وهذا( أي القرآن مبتدأ خبره ( ذكر مبارك( صفة لذكر والتنكير فيها للتعظيم أي ذكر عظيم كثير خبره ( أنزلناه( على محمد صلى الله عليه وسلم وصفة ثانية لذكر ( أفأنتم( يا أهل مكة ( له منكرون( استفهام إنكتر وتوبيخ على إنكارهم عد ثبوت كونه كثير الخبر منزلا من الله.
( ولقد ءاتينا( جواب قسم محذوف ( إبراهيم رشده( أي صلاحه يعني التوحيد والاجتناب عن عبادة الأوثان وإضافته لبدل على أن له شأنا عظيما في الرشد ( من قبل( يعني قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله عليه وسلم ويعني ما أوحينا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليس أمرا مبدعا بل جري به السنة الإلهية والإصلاح الخلق وقبل معناه من قبل البلوغ حين خرج من السر وهو صغير حين قال إني وجهت يعني أعطيناه النبوة صغيرا كما قال ليحيى ( وءاتيناه الحكم صبيا( ١ والمعنى قبل استبائه ( وكنا به( أي بإبراهيم ( عالمين( أنه أهل للهداية والنبوة حيث كان مبدأ تعينه صفة العلم والهداية من صفات الله تعالى
١ سورة مريم الآية: ١٢٠..
( إذ قال لأبيه وقومه( الظرف متعلق بآيتنا أو برشده أو بمحذوف أي ذاكر من أوقات رشدع قوله :( ما هذه التماثيل التي لها عاكفون( تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها فإن التماثل صورة لا روح فيها فلا يضر ولا ينفع واللام لاختصاص دون التعدية فإن العكوف ةيتعدى بعلى يعني أنتم فاعلون العكوف لها أو يأول بعلى يعني أنتم عليها أي على عبادتها تعلمون أو تضمن العكوف معنى العبادة يعني أنتم لها عابدون
( قالوا وجدنا ءاباءنا لها عابدين( جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عن المقتضى للعبادتها يعني حملنا على عبادتها تقليدنا بآيتنا
( قال لقد كنتم أنتم وءاباءكم في ضلال مبين( في خطأ بين حيث تعبدون حجارة لا تضر ولا تنفع وتقليد من هو خطأ بين خطأ بين
( قالوا( استبعاد التضليل آبائهم وظنا أنه يقول لذلك ملاعبة ( أجئتنا بالحق( أي يعلم مستند على دليل قطعي فتجدد بهذا القول ( أم أنت( في هذا القول ( من الاعبين( استفهام لإنكار الإنكار عليهم واستبعاد أن يكون ما هو عليه ضلالا
( قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن( خلقهن على غير مثال سبق وصف رب السموات والأرض بهذا دفعا لقول الجهلة في إطلاق الرب على السلطان وقول نمرود أنا أحيي وأميت، وهذا إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان بأن السموات والأرض تشهدان لهما خالق لإمكانهما وكونها محلا للحوادث والخالق للمكنات لا بد ان يكون واجبا وجوده منصفا بصفات الكمال واحدا غير متمانع وهو يستحق العبادة لا غير ( وأنا على ذلكم( المذكورة من التوحيد ( من الشاهدين( المعترفين المحققين المبرهنين باللسان والجنان كما أن السموات والأرض وسائر الممكنات شاهد عليه بلسان الحال
( وتالله لأكيدن أصنامكم( والكيد المكر والحيسلة والمراد ههنا لأفعلن بدل من الواو المبدلة من الياء وفيها تعجبن ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لعصوية الأمر وتوقفه على نوع من الحيل لكونه على رغم نمرود وخلق كثير مع قوة سلطته عطف على قوله قال بتأويل هذا القول يعني قال هنا القول وهذا القول ( بعد أن تولوا مدبرين( لها منطلقين إلى عبدكم قال البغوي قال مجاهد وقتادة إنما قال إبراهيم هذا سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه فقال : إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قال السدي كان لهم في سنة مجمع وعيد وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال لإبراهيم أبوه يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان بعض الطريق ألقى نفسه وقال ( إني سقيم( يقول اشتكى رجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجه إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عهظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منهه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وغذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوا بين أيدي الآلهة قالوا إذا رجعنا وقد ركت الآلهة في طعامنا أكلنا فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء : ألا تأكلون ؟ فلما لم يجبه أحد قال : ما لكم لا تنطقون ؟ فراغ عليهم ضربا باليمين يعني مال على الأصنام بضربهم ضربا باليمين لكونها أقوى من اليسار أو بسبب اليمين الذي قال تالله لأكيدن أصنامكم
( فجعلهم( يعني الأصنام ( جذاذا( قرأ الجمهور بضم الجيم فعال بمعنى المفعول كالحطام من الجذ يعني القطع، وقيل جمع لا واحد له من لفظزه وقرأ الكسائي بكسر الجيم وهو لغة بمعنى المفعول أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف يعني كسر إبراهيم كلهم ( إلا كبيرا لهم( يعني إلا الصنم الكبر حيث لم يكسرها وعلق الفاس في عنقه ذكر الله سبحانه ضمير جمع المذكور على زعمهم آلهة ( لعلهم إليه يرجعون( يعني إلى ابراهيم يرجعون إليه لتفرده وإشهاره بعداوة الآلهة، فيحاجهم بكونها عجزة عن مقاومة رجل على إبطال ألوهيتهم او إلى الكبير يرجعون إليه فسالونه عن كاسره إذ من شان المعبود العلم والإجابة فيكبتهم بذلك أو إلى الله يرجعون عند ثبوت عجز الآلهة
( قالوا( حين رجعوا من العيد ( من فعل هذا بآلهتنا( من استفهامية وجاز أن يكون موصولة مع صلتها مبتدا خبره ( إنه لمن الظالمين( بجراته على الآلهة أو بإفراطه على حطمها أو على نفسه بتعريضه للإهلاك، وهذه جملة مستأنفة على تقدير كون ما قبلها استفهامية
( قالوا سمعنا فتى يذكرهم( بالعيب والسوء صفة لفتى تصححه أن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليك كان الذكر صار حقيقة له عليه السرم وجاز أن يكون ثاني مفعولي سمعنا يتضمنه معنى علمنا بحاسة السمع ( يقال له( صفة ثانية لفتى ( إبراهيم( أي هو إبراهيم ويجوز رفعه بالفعل لأن المراد به
( فأتوا به( يعني إن فعل هو ذلك بآلهتنا فأتوا به ( على أعين الناس( حال أي كائنا بمرأى منهم بحيث يتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركب وقيل : المراد بأعين الناس رؤساءهم وعلى متعلق بفاتوا على طريقة أتيت على القاضي ( لعلهم يشهدون( بفعله وقوله حتى لا نعذبه بلا بينة كذا قال الحسن وقتادة والسدي وقال محمد بن إسحاق أي لكي يشهدوا أي يحضروا عقابه وما يصنع به فلما أتوا به قال إبراهيم ( بل فعله كبيرهم هذا(
قال إبراهيم ( بل فعله كبيرهم هذا( أسند الفعل إلى كير الأصنام مجازا لما كان غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم إياه تسبب لمباشرته إياه أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما قال له من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط أنيق أانت كتبت فقلت بل أنت كتبت، أو حكاية لما يلزم من اعتقادهم وجوازه كان كبيرهم ةغاظ أن يعبد معه غيره وقال القتيبي إنه في المعنى متعلق بقوله :( فسئلوهم إن كانوا ينقطون( جعل النطق شرطا للفعل يعني إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلته ذلك، وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله يعني فعله إبراهيم المذكور في كلام السائل فالفعل مسند إلى الضمير وقيل معناه فعله من فعله وفيه حذف الفاعل وهو غير جائز قلت : ما روي عن الكسائي يأبى عنه كلمة بل قفإن إضرابه عن إسناد الفعل إلى نفسه يشعر نفيه عنه وإلا لزم ما فعلته بل فعلته وأيضا يمنع الوقف على قوله بل فعله حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنيتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له إن ها هنا رجلا معه ارمأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها من هذه قال أختي فأتي سارة فقال لها هذا الجبار إن يعلم أنك امراتي يغلنبي عليك فإن سألك فأخبره أنك أختى فإنك أختي في الإسلام ليس على وج الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل غليها فأتي بها وقام إبراهيم يصلي فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ ويروى فغظ حتى يركض برجله، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثصلها أو أشد فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق فدعا بعض حجته فقال : إنك لم تأتني بإنسان غنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجرة فأتته وهو قائم يصلي فأومى بيده وبم قالت رد الله كيد الكافرين في نحره وأحزم هاجر، قال أبو هريرة تلك أمكم يا بني ماء السماء " ١متفق عليه وإنما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبات مجازا تسمية للمعرضين مكذبا لما شابهت صورتها كما قال الله تعالى :( وجروا سيئة مثلها( ٢ ألا ترى أن قول إبراهيم فإنك أختي في الإسلام صريح في أن قول إبراهيم كان من المعاريض لا بإرادة الكذب حاشاه على ذلك، وإنما أضاف إبرايهم السؤال إلى سائرهم مع أنه كان عرض بالكبير نفسه لاشتراك سائرهم في الحضور
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا (٣٣٥٨) واخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام (٢٣٧١)..
٢ سورة الشورى الآية: ٤٠..
( فرجعوا إلى أنفسهم( يعني رجعوا إلى عقولهم وتفكروا وفهموا أن ما يقول إبراهيم من نفي ألوهية هؤلاء حق وما نحن عليه بالباطل ( فقالوا( في أنفسهم أو بعضهم لبعض ( إنكم انتم الظالمون( بعبادتكم من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع أو أنتم الظالمون بسؤال هذا الرجل أو بقولكم إياه أنه لمن الظالمين
( ثم نكسوا على رؤوسهم( يعني ردوا إلى الكفر وانقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة إلى العقول شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة اسفل الشيء أعلاه والأعلى الأسفل ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون( فكيف تأمر بسؤالهم والتقدير وقالوا والله لقد علمت ما هؤلاء ينطقون
( قال( إبراهيم لما تم الحجة عليهم ( أفتعبدون( عطف على محذوف تقديره أتعترفون بأن هؤلاء لا ينطقون ولا تنفعكم شيئا ولا يضرون وأنكم أنتم الظالمون في عبادتها أفتعبدون بعد ذلك ( من دون الله ما لا ينفعكم( من النفع إن عبدتموها ( ولا يضركم( إن تركتم عبادتها إنكار لعبادتها وتوبيخ بعدما ما اعترفوا بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر فإنه ينافي الألوهية
( أف( قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء نافع وحفص منهم بالتنوين والباقون بغير تنوين كما في مر في الإسراء محله الرفع فإنه مبتدأ نكرة على طريقة وبل له وما بعده خبره أو اسم فعل بمعنى أضجر ( لكم ولما تعبدون من دون الله( أي غيره تضجر استعذار لكم على إصرار الباطل مع وضوح بطلانه ولهؤلاء على معبوديتهم مع عدم الاستحقاق وأف صوت المتضجر المستكطبر وقيل : معناه الاحتقار والاستقذار وفي الحديث " ألقى رسول الله طرفه ثوبه على أنفه وقال أف أف مستقذرا لما شم الرائحة الكريهة " وقيل معناه الاحتقار.
البيضاوي معناه قبحا وزنتنا واللام لبيان المتأفف له ( أفلا تعقلون( استفهام التوبيخ، وعطف على محذوف تقديره أتنظرون فلا تقولن أن هذا الأصنام لا تستحق العبادة ولا تصلح لها وإنما يستحقها الله تعالى، فلما لزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب أخذوا في المضارة
( قالوا حرقوه( بالنار ( وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين( نصرها شرط مستغن عن الجزاء بما مضى قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هنون فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وقيل : ط قاله نمرود فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم عليه السلام وحبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة وقيل : بنوا أتونا بقرية يقال لها كوثي ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمضر فيقول لئن عافاني الله لأجمع حطبا لإبراهيم وكانت المرأة تطلب في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم وكان الرجل يوصى بشراء الحطب وإلقائه فيه وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها فتلقيه فيه احتسانا قال ابن إسحاق كانوا يجمعون الحطب شهرا فلما جمعوا ما أرادوا وأشعلوا في كل ناحية من الحطب فاشتعلت النار واشتدت حتى إن كان الطائر لتمر بها فتحرق من شدة وهجها فأوقدوا عليها سبعة أيام روي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم علم المنجنيق فعلموا ثم عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه إلذى رأس البنيان وقدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت السموات والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة أي ربنا إبراهيم خليلك يلقي في النار ليس لي خليل غيره وأنا إله غيري فإن استعان بشيء منكم أو دعاء فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه وفلما أرادوا إلقائه في النار وأتاه خازن المياه فقال إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك له ثم رموا به في المنجنيق إليها واستقبله جبرائيل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا قال جبرائيل قال ربك فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار وروى البغوي عن سعيد بن المسيب عن أمر شريك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على إبراهيم " وأورد الشيخان في الصحيحين والطبراني عن ابن عباس مرفوعا " اقتلوا الوزغ ولو في جوف الكعبة " ١وعن سعد بن أبي وقاص " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك " ٢ رواه مسلم
١ رواه الطبراني في الكبير وفيه عمر بن قيبس المكي وهو ضعيف.
انظر: مجمع الزوائد في كتاب: الحج باب: فيما يقتله المحرم (٥٤٠٩)..

٢ أخرجه مسلم في كتاب: مسلم باب: استحباب قتل الوزغ (٢٢٣٨)..
( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم( أي ذات برد وسلام أي أبردي بردا غير ضار قال ابن عباس لو لم يقل مأمورة مطيعة وإقامة كوني ذات برد مقام أبردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف عليه مقامه وقيل : نصب سلاما بفعله أي وسلمنا سلاما عليه قال البغوي ومن المعروف في الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ولو لم يقل على إبراهيم بقيت أنت برد أبدا قلت : والظاهر أن النار كانت بحالها محرقة لكنها تعالى جعلها غير مؤذية لإبراهيم خاصة كما يدل عليه قوله تعالى على إبراهيم قال السدي أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ذي حسن قال كعب ما أحرقت النار إبراهيم إلا وثاقه قالوا وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم ما ملك الالظل في صورة إبراهيم فقعد فيها في جنب إبراهيم يؤنسه وقال وبعثص الله عز وجل جبرائيل بقميص من حرير الجنة وطنفسه فألبسه وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال جبرائيل يا إبراهيم إن ربك يقول أما علمت أن النار لا يضر أحبائي ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار يحرق الحطب فناداه إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته إن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال : نعم قال : هل اخشى عن أقمت فيها أن تضرك ؟ قال : لا قال : فقم فأخرج منها فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعدا إلى جنبك ؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله ربي إلي ليؤنسني فيها فقال نمرود يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما يصنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة، قال له إبراهيم إذا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه على ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله عز وجل منه قال شعيب الجبائي ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة
( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين( قيل : معناه أنهم خسروا السعر والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم وقيل إن الله أرسل على نمرود البعوض فأكلت لحومه وشربت دمائه ودخلت والحدة في دمائه فأهلكته قال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا أما صنع الله به، من جعل النار عليه بردا وسلاما مع خوف من نمرود وملأهم وأمن له لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارخ وكان إبراهيم بن تارخ وكان لتارخ ابن ثالث يقال له ناخور وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمه وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم فخرج من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال الله تعالى :( وءامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي( ١ فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر
١ سورة العنكبوت الآية: ٢٦..
ثم خرج من مصر إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين وهو يريد الشام ونزل لوط بالمؤتفكة وهو من السبع على مسيرة يوم وليلة أو أقرب فبعثه الله نبيا فذلك قوله تعالى :( ونجيناه( بتضمنه معنى سيرناه ( التي باركنا فيها للعالمين( بالخصب وكثرة الأشجار والأنهار والثمار ومن بركاتها العامة بعث أكثر الأنبياء فيها قال أبي بن كعب سماها مباركة لأنه من ماء عذب وينبع أصله من تحت الصخرة التي يبيت المقدس روى البفوي عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره ؟ فقال كعب إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده وعن عبد الله بن عمروم بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " وفي رواية " فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرارها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقبل معهم إذا قالوا " ١ رواه أبو داود عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوبى للشام، قلنا لأي ذلك ؟ قال : لأن ملائكة الرحمة باسط أجنحتها عليها " ٢ رواه أحمد والترمذي وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيخرج نار من نحو حضرموت أو من حضرموت تحشر الناس قلنا يا رسول الله فما تأمرنا ؟ 'قال : عليكم بالشام " رواه الترمذي وعن أبي جوالة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيصبر أن تكونوا جنودا مجندة بالشام وجند باليمن وجند بالعراق فقال ابن جوالة خرلي يا رسول الله إن أدركت ذلك، قال : عليك بالشام فغنها خيرة الله من أرضه تجتبي إليها خيرته من عباده فأما إن أبيتم فعليكم بيمينكم واسقوا من غذاكم فإن الله توكل لي بالشام وأهله " ٣ رواه أحمد وأبو داود وعن شريح بن عبيد قال : ذكر أهل الشام عند علي رضي الله عنه " رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر بالشام " رواه البيهقي في الدلائل
١ أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في سكنى الشام (٢٤٨٠)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في فضل الشام واليمن (٣٩٦٣)..
٣ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبير وهو ثقة وقد سمع من المقداد انظر: مجمع الزوائد في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في الأبدال وأنهم بالشام (١٦٦٨١)..
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة( قيل : هي مصدر كالعاقبة من غير لفظ الفعل السابق أي وهبنا له هبة، وقال مجاهد وعطاء معنى النافلة العطية فهي حال منهما إذ هما جميعا من عطاء الله وقال الحسن والضحاك معناه فضلا يعني وهبنا له إياهما تفضلا فهو منصوب على العلية، وروى ابن عباس وأبي كعب وابن زيد وقتادة النافلة هو يعقوب لأن الله تعالى أعطاه إسحاق بدعائه حيث قال :( رب هب لي من الصالحين( ١ وزاده يعقوب ولد الولد والنافلة الزائدة فهو حال من يعقوب ولا بأس به للقرينة ( وكلا( أي كل واحد من الأربعة أي إبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب ( جعلنا صالحين( أي صافية قلوبهم عن الاشتغال بغير الله زاكية أنفسهم عن الرذائل بتحلية بأوصاف الكمال طاهرة أبدانهم عن التلوث بالمعصية مشغولة بالطاعات فإن الصلاح ضد الفساد سواء كان في القلب أو القالب او النفس
١ سورة الصافات الآية: ١٠٠..
( وجعلناهم أئمة( يقتدى بهم في الخير ( يهدون( الناس إلى ديننا ( بأمرنا ( حيث أرسلناهم لتكميل الخلائق ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات( أي ما هو حسن الذات وبتحسين الشرع ( وإقام الصلاة( حذف تاء الإقامة المعوضة من أحد الألفين لقيام المضاف إليه مقامها ( وإيتاء الزكاة( عطف إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على فعل الخيرات عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام وأصل الكلام أوحينا إليهم أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة إقامة ويؤتوا الزكاة إيتاء بذكر النصادر المؤكدة حذف الأفعال وأضيف المصادر إلى المفاعيل ( وكانوا لنا عابدين( موحدين مخلصين في العبادة.
( ولوطا( منصوب بفعل مضمر يفسره ( ءاتيناه( وقيل هو منصوب باذكر وجملة آتيناه بدل اشتمال يعني أذكر إيتائنا إياه ( حكما( حكمة أو نبوة أو فضلا بين الخصوم ( وعلما( بالله وما ينبغي للأنبياء ( ونجيناه من القرية( قرية سدوم ( التي كانت تعمل الخبائث( أي كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويرمون بالبنادق ويلعبون بالطيور وغير ذلك وصفها بصفة أهلها، وأسند إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامها يدل عليه قوله :( إنهم كانوا قوم سوء فاسقين( خارجين عن طاعة الله هذه الجملة في مقام التعليل لقوله كانت تعمل الخبائث.
( وأدخلناه في رحمتنا( أي في أهل رحمتنا أو في جنتنا قلت : ويكمن أن يقال أن صفات الله تعالى يرى في عالم المثال بنظر الكشف على هيئته الدائرة والصوفي يرى داخلا فيها فانيا حقيقته باقيا بها فعذ الظرفية كناية عنه ( إنه من الصالحين( الذين سبقت لهم منا الحسنى.
( ونوحا( عطف على لوطا يعني آتينا لوطا ونوحا حكما وعلما وعلى هذا ( إذ نادى( منصوب باذكر أي اذكر وقت ندائه وهي جملة معترضة أو التقدير اذكر لوطا ونوحا وعلى هذا الظرف بدل اشتمال منه يعني أذكر وقت نداء نوح أو دعاءه، على قومه بالهلاك ( من قبل( ظرف منادى لنادى أي نادى قبل المذكورين ( فاستجبنا له( دعائه ( فنجيناه وأهله( الذين كانوا في السفينة ( من الكرب العظيم( أي الغم الشديد قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه وكان نوح أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء روى الضحاك عن ابن عباس أن قوم نوحا كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه في لبد ويلقونه في بيت يزعمون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني فيدعوهم إلى الله سبحانه وحكى حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
( ونصرناه( فانتصر ونجى من القوم الذين كذبوا بآياتنا الدالة على رسالته ( إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين( قال البيضاوي ولاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر ولعلهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم.
( وداود وسليمان إذ يحكمان( هذا نحو قوله ( ونوحا إذ نادى( في التركيب ( في الحرث( قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين كان الحرث قد بدت عناقيدها وقال قتادة زرعا ( إذ تفشت فيه غنم القوم( ظرف ليحكمان أي رعته ليلا بلا راع كذا في القاموس وفي النهاية تفشت السائمة إذا رعت ليلا بلا راع وهلمت أرعت إذا رعت نهارا إذ أصل معناه الانتشار قال الله تعالى :( كالعهن المنفوش( ١ ( وكنا لحكمهم( يعني الحاكمين داود وسليمان والمتحاكمين وقال الفراء أراد بالجمع اثنين سليمان وداود إذ ةقد يطلق الجمع على الاثنين كما في قوله تعالى :( فإن كان له إخوة فلأمه السدس( ٢ والمراد الأخوين بالإجماع ( شاهدين( عالمين.
١ سورة القارعة الآية: ٥..
٢ سورة النساء الآية: ١١..
( ففهمناها( الضمير للحكومة أو الفتوى ( سليمان( أي ألهمنا ما كان مرضيا لنا في الحكومة حذف ها هنا جملا وهو فحكم سليمان كما فهمنا ونقض داود القرآن وكان يأمر بدوا به فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ولا يأكل إلا من عمل يديه " قلت : المراد بالقرآن الزبور قال البغوي قاله ابن عباس وقتادة ومن هاهنا يظهر أن الحاكم إذا كان مجتهدا وتبدل رأيه قبل إمضاء حكمه كما فعل داود قال البغوي قال ابن عباس وقتادة والزهري أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب الزرع والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن هذا انفلت غنم ليلا فوقعت في حرثي فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما ؟. فاخبراه فقال سليمان لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروى أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال : تقضي ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق الفرقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال : تقضي ويروى أنه قال بحق النبوة وا ؟لأبوة إلا أخبرتني بالذي أرفق بالفرقين ما هي ؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئة يوم أكل دفع إلى أهله حرثه وغلى صاحب الغنم إنهم فقال داود القضاءؤ ما قضيت وحكم بذلك، وقيل : إن سليمان يوم حكم كان ابن أحد عشر سنة وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي في القصة، قال البيضاوي والأول يعني فتوى داود نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي يفرم الحيلولة للعبد المغضوب إذ أبق قلت : غير أن أبا حنيفة يقول في العبد الجاني أن مالكه بالخيار إن شاء دفع العبد وإن شاء فدى للجناية قال الجصاص إنما ضمنوها لأنهم أرسلوها وقيل هذا الحكم نسخ في الإسلام والحكم في الإسلام عند مالك والشافعي واحمد عن أتلفته المواشي المنفلتة ليلا فعلى صاحب الماشية ضمانه يعني قيمة ما أتلفته قلت : لعل قيمة الزرع التي أفسدتها الغنم في عهد داود بلغت قيمة الزرع حتى أمر داود بدفعها والله أعلم وأما ما أفسدته الماشية المنفلتة بالنهار فلا ضمان فيما أتلفته المواشي المنفلتة ليلا كان نهارا لقوله صلى الله عليه وسلم " العجماء جرحها جبار " ١ رواه الشيخان في الصحيحين وأحمد وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة قال صاحب الهداية قال محمد المراد بالعجماء هي المنفلتة واحتج الأئمة الثلاثة بحديث حرام بن سعد بن محيصة أن نافلة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدته المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها " رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي قال الشافعي أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله قال الحافظ بن حجر مداره على الزهري، واختلف عليه فقيل هكذا وهذه رواية الموطأ وكذلك رواه الليث عن الزهري عن أبي محيصة ولم يسم أن ناقة، ورواه معن بن عيسى عن مالك فزاد فيه عن جده محيصة ورواه عن الزهري عن حرام عن أبيه ولم يتابع عليه أخرجه أبو داود وابن حبان ورواه الأوزاعي وإسماعيل بن أمية وعبد الله بن عيسى كلهم عن الزهري عم حرام عن البراء قلت : كذا ذكر بن الجوزي في تحقيق التعليق من طريق أحمد قال الحافظ لم يسمع حرام من البراء قاله عبد الحق تبعا لابن حزم ورواه النسائي من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري أخبرني أبو أسامة بن سهل أن ناقة البراء ورواه ابن أبي ذنب عن الزهري أنه قال بلغني أن ناقة البراء الحديث فالأئمة الثلاثة خصصوا حديث العجماء جبار بحديث ناقة البراء وقالوا كونه جبارا مختص بالنهار قلنا : العام مثل الخاص في كونه قطعيا فلا يحكم بالتخصيص ما لم يظهر اقترانهما ولا بالنسخ ما لم يظهر تأخر إحداهما عن الآخر فبقي التعارض فلا يلزم الضمان بالشك، وأيضا عند تعارض الحديثين يجب المصير إلى القياس والقياس يقتضي عدم الضمان لأن فعلهما غير مضاف إلى صاحبها لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال والسوق والقود ونحو ذلك ومن أجل ذلك قلنا فيمن أرسل الدابة في طريق المسلمين فأصابت في فورها أنه يضمن لأن سيرها مضاف ما دام تسير على سنتها وأما إن انعطفت يمنة أو يسرة أو وقفت ثم سارت انقطع حكم الإرسال.
مسألة : وإن كان مع الدابة صاحبها راكبا أو قائدا أو سائقا فوطئت الدابة أو أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت أو صدمت واقفة أو سائرة والموضع مملوك لها رقبة أو تصرفا بالإجارة أو الإعارة فلا ضمان على صاحبها إلا إذا كان راكبا عليها ووطئت الدابة لأن صاحبها حينئذ مباشر للإتلاف لأن ثقله وثقل الدابة اتصل بالمتلف فكأنما وطأ جميعا وفي غير هذه الصورة لم يوجد المباشرة بل التسبيب والمسبب إنما يضمن إذا كان متعديا وهو غير متعدي في التسيير ولا في الإيقاف وإن كان الموضع غير مملوك له لكنه مأذون فيه كالطريق للسير دون الإيقاف والصحراء وسوق الدواب للسير والإيقاف جميعا حينئذ يضمن الراكب والسائق والقائد فيما ذكرناه من الوجوه لكن لا يضمن بما نفحت برجلها أو ذنبها لأن المرور في طريق المسلمين مباح معتد بشرط السلامة لأنه ينصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه لكونه مشتركا في العامة فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين ثم إنما يتقيد بشرط السلامة عما يمكن الاحتراز عنه ولا يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه لما فيه من المنع والتصرف والاحتراز عن الإبطاء ونحوه ممكن فإنه ليس من ضرورات التسيير وعن النفحة بالرجل والذنب ليس بممكن مع السير على الدابة فلا يتقيد بالسلامة عنه فإن أوقف في الطريق ضمن النفحة أيضا، وقال مالك لا ضمان في شيء من ذلك إذا لم يكن من جهة راكبها أو قائدها أو سائقها سبب من همز أو ضرب لقوله صلى الله عليه وسلم :" العجماء جبار " وقال الشافعي لا يضمن ما جنت البهيمة بفمها أو يدها أو يجلها أو ذنبها سواء كانت من راكبها أو سائقها سبب ذلك أولا، وقال أحمد ما جنته بفمها أو يدها وصاحبها عليها يجب عليها الضمان وما تلفته برجلها فلا ضمان عليه لقوله صلى الله عليه وسلم :" الرجل جبار " رواه الدارقطني عن سعيد بن المسيب مرسلا والله أعلم.
فائدة : قال مجاهد كان قول سليمان وما فعله داود حكما والصلح خير وقيل إن داود وسليمان حكما بالوحي وكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود وهذا قول من قال لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحي وقال لا يجوز الخطأ عن الأنبياء والأظهر أن حكمهما كليهما كان بالاجتهاد إلا أن داود أخطأ وأصاب سليمان فأثنى الله عليه وجاز الخطأ في اجتهاد الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه قال الحسن لولا قوله تعالى :( وكلا ءاتينا حكما وعلما( لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله تعالى حمد هذا بالاجتهاد واحتج من قال : كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية حيث قال :( وكلا ءاتينا حكما وعلما( ولا دليل لهم فيه بل قوله تعالى :( ففهمناها سليمان( دليل على أن الصواب ما فهم سليمان دون داود عليهما السلام وأما حديث عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد " ٢ رواه الشيخان في الصحيحين وأحمد واصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة والمذكور من غير الترمذي عن عمرو بن العاص فهو حجة لنا لا علينا إذ هو صريح في أن المجتهد يخطىء ويصيب وكونه مأجورا حين أخطأ لا يدل على كونه مصيبا لكون الخطأ والصواب متضادان وليس المراد انه يؤخر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والخطأ عنده موضوع غذ لم ينل جهده وعند الإصابة له أجران أجر الاجتهاد وأجر النيل إلى الصواب والله أعلم.
حديث : روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود ج وقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فأخبرتاه فقال أئتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى " ٣ ( وسخرنا مع داوودا الجبال يسبحن( معه أمره إذ وجد فترة عنه لينشط له مع متعلق بسخرنا أو يسبحن والأول أقوى لفظا والثاني معنا وجملة يسبحن حال من الجبال واستئناف لبيان وجه التسخير ( والطير( عطف على الجبال أو مفعول معه قدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب قال وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقال قتادة تسبحن أي تصلين معه إذا صلى وقال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر وقيل كان داود إذ فتر بسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وقال بعض الناس يسبحن من السباحة أي كانت الجبال تسير معه إذا سار ( وكنا فاعلين( ما ذكرنا من التفهيم وإيتاء الحكيم والتسخير
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء باب: قول الله تعالى: وآتينا داود زبورا (٢٤١٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة باب: أجر الحاكم إذا اجتهد وأصاب أو أخطأ (٧٣٥٢) واخرجه مسلم في كتاب: الأقصية باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (١٧١٦)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء باب: قول الله تعالى: ووهبنا لداود وسليمان نعم العبد إنه أواب (٣٤٢٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين (١٧٢٠)..
( وعلمناه صنعة لبوس( وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها، والمراد ها هنا الدروع من الحديد قال قتادة أول من صنع الدرع وسردها وحلقها داود عليه السلام وكانت من قبل صفاع وقد مر في الحديث الصحيح أن داود عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يديه ( لكم( يا معشر قريش في جملة الناس ( لنحصنكم( قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للبؤس على تأويل الدروع وقرأ أبو بكر بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء التحتانية والضمير لداود أو الله تعالى على سبيل الالتفات من التكلم إلى الغيبة أي ليحرزكم ( من بأسكم( أي حرب عدوكم قال السدي اشتمال من وقع السلاح فيكم لكم صنعة للبؤس أو متعلق بعلمناه وقوله لتحصنكم بدل يسرنا لكم ما يحصنكم أمر بالشكر أخرجه بلفظ الاستفهام مبالغة وتقريعا
( ولسليمان الريح( عطف لسليمان على مع داود الريح على الجبال بعاطف واحد لكونهما مفعولي عامل واحد قال البيضاوي ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود بالإضافة إليه قال بعض المحققين لما كان تسبيح الجبال والطير مع داود بغير أمره أورد هناك كلمة مع جريان الريح كان يأمر سليمان أورد هناك اللام ( عاصفة( حال من الريح يعني شديدة الهبوب من حيث إنها تذهب بمعسكره مسافة بعيدة في مدة يسيرة كما قال الله تعالى :( غدوها شهر ورواحها شهر( ١ وكانت رخاء في نفسها طيبة، وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته ( تجري بأمره( حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها ( على الأرض التي باركنا فيها( قيل إلى ها هنا بمعنى من فإن منزل سليمان كان بالشام موطن الأنبياء وقيل هي بمعناها والمعنى يروح به إلى منزله بعد ما سار منه بكرة ( وكنا بكل شيء عالمين( في الأزل فنفعل ما نفعل على ما يقتضيه الحكمة فكان ما أعطينا سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه قال وهب بن منبه كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلس عكفت عليه الطير فقام له الجن حتى يجلس على سريره وكان أمرا غزاه قل ما يقعد عن الغزو لا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه يذله، وكان فيما يزعمونه إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معد ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشبة فاحتملت حتى إذا استعملت ه أمر الرخاء يمر به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد وكان تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة فلا تحركه ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا قال وهب ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كمتبته بعض صحابة سليمان إما من الجن وغما من الإنس نحن نزلناه وما بيتناه وقنبيا وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبايتون بالشام وقال مقاتل نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبراهيم وكان يوضع له منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة يقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح وعن سعيد بن جبير كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي يجلس الإنس فيما يليه ثم ليهيم الجن ثم يظللهم الطير ثم تحملهم الريح قال الحسن لما شغلت الخيل نبي الله سليمان عليه السلام حين فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بامره كيف يشاء فكان يغدو من إيليا فيقبل باصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها ببابل وقال ابن زيد كان له مركب من خشب وكان فيه الف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الإنس والجن تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب وإذا راتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم يقبل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش، وروي أن سليمان عليه السلام سار من اهل العراق غاديا فقال بمرو وصلى العصر بمدينة بلخ نحمله جنوده الريح ويظلهم الطير ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك ثم جاء إلى أرض الصين بغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف جيشه على مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض قندهار وأخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جاوزها حتى أرض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام على العراق فبنوا لها بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر وفي ذلك يقول النابغة :
الا سليمان إذ قال المليك له***قم في البرية فاجددها عن العتد
وحين الجن إني قد أذنت لهم***يبنون تدمر بالصفاح والعمد
١ سورة سبأ الآية: ١٢..
( ومن الشياطين( أي سخرنا الشياطين ( من يغوصون له( في البحار ويخرجون الجواهر من نكرة موصوفة أو موصولة معطوف على الريح من الشياطين حال منهم مقدم عليه يعني سخرنا نفوسا يغوصون له كائنين من الشياطين أو مبتدأ والظرف خبره ( ويعلمون( عطف على يغوصون ( عملا دون ذلك( أي دون الغوص ما شاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة ( وكنا لهم حافظين( حتى لا يخرجوا من أمره قال الزجاج يعني حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا قال البغوي في القصة أن سليمان عليه السلام كان إذ بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له فرغ من عمله أشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من عمل ولم يشغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوا وأفسدوه.
( وأيوب إذ نادى( أي دعا ( ربه( على طريقة ونوحا إذ نجينا في وجوه الأعراب قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السلام رجلا من الروم وهو أيوب بن أحرص بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا وكانت له الثنية من أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منها في العدة والكثرة، وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة كل فدان أتان ولد كل أتان اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله عز وجل أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ أبناء السبيل وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا لحق الله قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى والعزة والغفلة والشاغل عن أمر الله بما فيه من الدنيا وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمين يقال له البقن ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما يلد وللآخر صافر وكانوا كهؤلاء فكان إبليس لا يحجب عن شيء من السماوات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى عليه السلام فحجب عن أربع فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقيات فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكر الله واثني عليه فأدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يفقه فقال إلهي نصرت من أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتلته بنزع ماطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك قال الله انطلق فقد سلطتك على ماله فانقص عدو إبليس حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين قال لهم فماذا عندكم من القوة فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة التي لا يصبر عليها الرجال فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار واحترقت كل شيء أتى عليها قال له إبليس فأت الإبل حين وضعت وثبتت في مراعيها فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصارا من نار لا يدنوا من شيء إلا قد احترقت فأحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم عليها على قعود إلى أيوب فوجده أيوب الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها وقد عاما وطنت مالي نفسي على الغنى قال إبليس فإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت فنزلت الناس مبهوتين يتعجبون منها منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وليه منهم من يقول بل هو الذي فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه قال أيوب الحمد لله حين أتاني وحين نزع مني عريانا خرجت من بطن أمي عريانا وأحشر إلى الله عز وجل ليس لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته الله أولى بك وبما أعطاك ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا دليلا فقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا سمعه ذو روح خرجت مهجة نفسه قال إبليس فأت الغنم ورعاها فانطلق حتى توسطها صاح صيحة فحتمت أمواتا عند آخرها وما رعاها ثم جاء متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأولى فرد أيوب عليه مثل الرد الأول، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال : ما عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب ؟ فقال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا ينشف كل شيء يأتي عليه قال : فأت الفدادين والحرث فانطلق فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي فقال له مثل القول الأول فرد عليه مثل رد الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمدا لله وأحسن الثناء عليه ورضي منه بالقضاء ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال. فلما إبليس أنه قد أفنى ماله صعد فقال ولده فإنها المصيبة التي لا يقوم لها قلوب الرجال قال الله تعالى : وقد سلطتك على ولده فانقض عدو الله حتى جاء بني لأيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم من قواعدها ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثل بهم كل مثل رفع القصر فقلبه فصاروا منكوسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه فأخبره وقال لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم يسيل دمائهم و دماغهم ولو رأي كيف سقطت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم تقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ثم لم يلبث أيوب إن فاء وأبصر واستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله عز وجل وهو أعلم فوقف إبليس ذليلا فقال يا إلهي إنما هون على أيوب المال والولد إنه يرى، منك ما متعته بنفسه فأنت تعيد المال والولد فهل أنت تسلطني على جسده فقال الله تعالى انطق سلطتك على جسده ولكن ليس سلطان على لسان ولا على قلبه وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلط عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب وجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليأنسوا به في الصبر ورجاء الثواب فانقض عدو الله سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جميع جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أكباد الغنم وقعت فيه حكة فحك بأظفار حتى سقطت كلها ثم حك بالمسموح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة ثم لا يزال يحكها حتىى نفل لحمه وتقطع وتغيروا نتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته رحمة بنت أفرا ثيم بن يوسف بن سعقوب وقيل هي بنت يوسف كما ذكرنا في سورة يوسف كأنت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه فلما رأى الثلاثة أصحابه وهو أيقن ويلدد وصافر ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به قال الراوي حضر معهم فتى حديث السن قد آمن بده وصدقه لهم إنكم يكلمهم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم وقد كان لأيوب عليكم من الحق والزمام من الذي وصفتم فهل تدرون أيها الكهول أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمرهم منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع شيئا من الكرامة التي أكرمه بها ولا إن أيوب قال على الله الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فإن كان هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنه كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ أخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يحل بالحليم أن يعتزل أخاه عند البلاء ولا يعتبره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر بحزن يحزنه ويدله على مراشد أمره وليس بحكيم ورشيد من جهل هذا، فالله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتهم خشيته من غير عي ولا بكم وانهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لله وجلاله فإذا استقاموا من ذلك اسبقوا إلى الله بالأعمال الزكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين وأنهم الأبرار البراء ومع المقصرين المفرطين وأنهم لأكياس أقوياء فقال أيوب الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى تنبت بالقلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولأطول التجربة وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله نور الكرامة، ثم اعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال رب أي شيء خلقتني ليتني كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت إذا أذنبت ذنبا أمتني فألحقني بآبائي فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما إلهي أنا عبدكم إن أحسنت فلان لك وغن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضا وللفتنة نصبا وقد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف من حمله فكيف يحمل ضعفي وإن قضائك هو الذي أذلني وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ولو أن ربي نزع الهيبة في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملأ فمي ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج على نفسه لرجوت أن يعاقبني عند ذلك مما بي ولكنه أتعاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي ورحمني ولا دنى مني ولا أدناني فأدنى بعذري وأتكلم ببرأتي وأخاصم عن نفسي فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب ثم نودي يا أيوب أن الله يقول ها أنا قد دنوت منك ولو أزل منك قريبا قم، فأذل بعذرتك وتكلم ببرأتك وخاصم عن نفسك وأشدد إزارك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استعطت فإنه لا ينبغي أن يخاصمني الإجبار مثلي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا تبلغ بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد أطرافها هل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بكمتك كانت الأرض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو تختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أي أنت مني يوم نبعث الأنهار وسكرت البحار أسلطانك حبس أمواج البحر على حدودها، أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم حبست الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها أم هل لك من ذراع يطبق حملها أم هل تدري مكن أين الماء الذي أنزلت من السماء أم هل تدري من أي شيء أنشئ السحاب أم هل تدري أين خزانة الريح وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ من جعل العقول في أجواف الرجال ومن شق الأسماع والأبصار ونمن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين لجبروته وقسم الأرزاق بحكمته في كلام كثير من آثار قدرته ذكرها لأيوب.
فقال أيوب صغر شأني وكل لساني وعقلي ورائي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي قد عملت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية إذ لقيني البلاء يا إلهي فتكلمت ولم أملك وكان البلاء هو الذي أنطقني فليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم لشيء ي
( فاستجبنا له( دعاءه استجاب الله دعاءه وقال له ارفع رأسك فقد استجبت لك ( فكشفنا ما به من ضر( قيل له ( اركض برجلك( ١ فركض برجله فنبعث عين ماء فأمره أن يغسل فاغتسل منها فذهب كل داء كان لظاهره وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله مرة أخرى فضرب برجله فنبعث عين أخرى ماء بارد فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما يكون من الرجال وأحملهم ركسي حلة قال فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كانا له من أهل ومال إلا قد ضاعفه الله حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضربه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى، ولكنها بركتك فمن يشبع منها وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيك عما ترى ؟ قال : بلى، وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك " قال الحسن فخرج أيوب حتى جلس على مكان مشرف. ٢ثم إن امرأته قالت : أرأيتك إن كان طردني إلى من أكله أأدعه يموت جزعا ويضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فرجعت فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة التي كانت وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسال عنه فدعاها أيوب فقال ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكيت وقالت أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل ؟ فقال : ما كان منك ؟ فبكيت وقالت : بعلي، قال : فهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : وهل يخفى على أحد رآه، ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت : أما أنه أشبه بك إذ كان صحيحا، قال : فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه، فرد علي ما ترين وقال وهب لبث أيوب في البلاء سنين فلما رغب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مكرب ليس في مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال فقال : لها أما أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت : نعم، قال : فهل تعرفيني ؟ قالت : لا، قال : أن إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراهم أباهم في بطن الوادي الذي تصيبها فيه قال وهب وقد سمعت أنه قال لها لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله ليوفي مما به البلاء والله أعلم.
وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها أسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها قال قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة، وقال عند ذلك مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمي له ومائة إياه وإياي إلى الكفر ثم أن الله رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها مع أيوب على البلاء وخفف عنها وأراد أن يبر يمين أيوب فقال ك ( وخذ بيدك ضعفا فاضرب به ولا تحنت( ٣ فأخذ أيوب ضغثا يشتمل على مائة عود صفارا فضربها ضربة واحدة وروي أن إبليس اتخذ تابوتا وجعل فيه أودية وجعل على طريق امرأته يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب فقالت إن لي مريضا أفتداويه قال : نعم، والله لا أريد شيئا إلا أن يقول إن شفيته أنت شفيتني فذكرت ذلك لأيوب فقال : هو إبليس قد خدعك وحلف إن شفاه الله يضربها مائة جلدة، وقال وهب وغيره كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل الناس وتجيئه بقوته فلما طال عليه البلاء وشتمها الناس فلم يستعملها أحد ثم التمست يوما من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئا فجزت من رأسها قرنا فباعته برغيف فأتته به فقال لها أين قرنك فأخبرته فحينئذ قال مسني الضر وقال قوم إنما قال ذلك حين قصده الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يبقى عن الذكر والفكر وقال حبيب بن ثابت لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء : أحدها قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاء إليه ولم يبق له عيناه ورأيا أمرا فقالا لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا، والثاني أن امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذوابتها وحملت إليه طعاما والثالث قول إبليس أن أداويه على أن يقول أنت شفيتني وقيل : إن إبليس وسوس أن امرأته زنت فقطعت زؤابتها فحينئذ عيل صبره فدعى وحلف ليضربنها مائة جلدة، وقيل معناه مسني الضر من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له بعدما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك قال شماتة الأعداء، وقيل قال ذلك حين وقع دودة من فخذه فردها على موضعها وقال كلي قد جعلني الله طعامك، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان فإن قيل : إن الله سماه صابرا وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله :( أني مسني الضر( و( مسني الشيطان بنصب وعذاب( ٤ قيل : ليس هذا شكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى :( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله( ٥ وقال سفيان بن عيينة من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله لا يكون ذلك جزعا كما روي أن جبرائيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال كيف تجدك قال أجدني مغموما أجدني مكروبا قلت كذا في حديث أبي هريرة عند ابن الجوزي بلفظ قال :" جبرائيل إن الله عز وجل يقرأك السلام ويقول كيف تجدك " الحديث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين قالت وارأساه قال :" أنا ورأساه " قلت : كذا روى ابن إسحاق وأحمد عنها أنه صلى الله عليه وسلم رجع من البقيع " فدخل علي وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي فقلت : وارأساه فقال :" بل أنا والله وارأساه " ٦ الحديث ( وءاتيناه أهله ومثلهم معهم( اختلفوا في ذلك فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والحسين وأكثر المفسرين رد الله عليه أهله وأولاد بأعيانهم أحياهم الله له وأعطاه مثلهم وهو ظاهر القرآن وقال الحسن أتى المثل من نسل ماله الذي رد إلى ربه وأهله يدل عليه ما روى الضحاك وعن ابن عباس أن الله تعالى رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا، قال وهب كان له سبع بنات وثلاثة بنين وقال ابن يسار وكان له سبعة بنين وسبع بنات وروى عن انس رضي الله عنه يرفعه أنه كان أنذر للقمح وأنذر للشعير فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أنذر القمح الذهب وأفرغت الأخرى على أنذر الشعير الورق حتى فاض وروي أن الله تعالى بعث ملكا وقال إن ربك يقرأأك السلام بصبرك فأخرج إلى أنذرك فخرج إليه فأرسل عليه جوادا من ذهب فطارت واحدة فأتبعها وردها إلى أنذره فقال له الملك أما يكفيك ما في أندرك ؟ فقال : هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركته وقال قوم إني الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا وقال عكرمة قيل لأيوب إن أهلك لك في الآخرة فإن شئتم عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا فعلى هذا يكون معنى الآية وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم في الدنيا وأراد بالهل الأولاد ( رحمة( إما مفعول به بفعل محذوف أي وهبنا رحمة أي نعمة ( من عندنا( أو مفعول مطلق لآتينا من قبيل ضربته سوطا وآتيناه إيتاء برحمة كائنة من عندنا ( وذكرى( أي عظة عطف على رحمة ( للعابدين( أي عظمة وتذكرة لغيره من العابدين ليتصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب وجاز أن يكون رحمة وذكرى مفعولا له يعني آتيناه أهله ومثلهم معهم لرحمتنا وذكرنا للعابدين فإنا نرحمهم ونذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.
١ سورة ص الآية: ٤٢..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الغسل، باب: من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل (٢٧٥)..
٣ سورة ص الآية: ٤٤..
٤ سورة ص الآية: ٤١..
٥ سورة يوسف الآية: ٨٦..
٦ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها (١٤٦٥) وإسناده رجاله ثقات وانظر مجمع الزوائد في كتاب: علامات النبوة (١٤٢٥٤)..
( وإسماعيل( بن إبراهيم ( وإدريس( هو أخنوخ ( وذا الكفل( إعراب هذه الأسماء على قياس نوحا، اختلفوا في ذي الكفل ؟ قال عطاء عن نبيا من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه إني أريد روحك فأعرض ملكك على بني إسرائيل فمن يكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفتر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك غليه ففعل ذلك فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا فتكفل ووفى به فشكر الله ونبأه فسمي ذا الكفل وقال مجاهد لما ذكر اليسع قال لو أني استحلفت رجلا يعمل على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس فقال من يتقبل لي بثلاث أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب فقام رجل تزدريه العين فقال أنا فرده ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس وقام ذلك فقال : أنا فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة كان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب فقال : من هذا ؟ قال شيخ كبير مظلوم فقام وفتح الباب فقال : إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا فجعل يطول حتى ظهر الرواج وذهبت القائلة فقال إذا رحت فغني آخذ حقك، فانطق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلما كان الغد يقضي بين الناس ينتظره فلا يراه فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال : من هذا ؟ فقال : الشيخ المظلوم ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ قال : إنهم أحب قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك فإذا قمت جحدوني قال فانطلق فإذا رحت فأتني ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشق( عليه النعاس فقال لبعض أهله لا تدعوا أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النوم، فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في بيت يدق الباب من داخل فاستيقظ فقال : يا فلان ألم آكمك ؟ وقال أما من قبلي فلم يأت فانظر من أين أتى فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال أتنام والخصوم ببابك ؟ فعرفه فقال : يا عدو الله قال : نعم أعييتني وفعلت ما ترى لأغضبنك فعصمك الله فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه قال : إن لي غريما يمطلني فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال إن صاحبي هرب منني وقيل : إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله فوفى به، واختلفوا في أنه هل كان نبيا ؟ قال بعضهم كان نبيا كما يدل عليه نسف كتاب فقيل هو زكريا وقال أبو موسى لم يكن نقف نبيا ولكن كان عبدا صالحا ( كل( أي كل واحد منهم كان ( من الصارين( على المصائب ومشقة الطاعات كابحين عنه أنفسهم عن الشهوات والمعاصي
( وأدخلناهم في رحمتنا( يعني النبوة ودرجات القرب والجنة عطف على جملة ( كل من الصابرين( أو حال من الضمير في الصابرين بتقدير قد ( إنهم من الصالحين( معصومين عن كدر الفساد بالكلية.
( وذا النون( أي صاحب الحوت وهو يونس بن متى عليه السلام ( إذ ذهب مغتضبا( وإعرابه على حسب ما ذكرناه في نوحا إذ نادى اختلفوا في معناه ؟ فقال الضحاك مغاضبا لقومه وهوراوية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فعزاهم ثم ملك فسبى منهم تسعة أسباط نصفا وبقي سبطان ونصف فأوحى الله إلى شعباه النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ؟ فقال يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال له يونس هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا، فقال هل سماني لك ؟ قال : لا، قال : فهنا هنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه فخرج من بينهم مغاضبا للنبي ولقومه فأتى بحر الروم فركبها وقال عروة ن الزيير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعدما وعدهم وكره أن يكون بين قوم جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم وكان غضب من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذابا لا كراهية لحكم الله عز وجل، وفي بعض الأحبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد فغضب والمغاضبة ها هنا من المفاعلة التي تكون من واحدة كالمسافرة والمافية فمعنى قوله :( مغاضبا( أي غضبان، قال الحسن إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسيه ويدعوهم إليه فسال ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم فقيل له إن الأمر أشرع من ذلك حتى سال ربه أن ينظره إلى أن يأخذ نعلا يلبسها فلم ينظر وكان في خلفه شيق فذهب مغاضبا عن ابن عباس قال أتى جبريل عليه السلام يونس عليه السلام فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم قال : التمس دابة قال المر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة، وقال وهب إن يونس بن متى كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسح تحتها تفسير الربع تحت الحمل والثقيل يقذفها بين يديه وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ك ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل( ١وقال :( ولا تكن كصاحب الحوت(. ٢
( فظن أن لن نقدر عليه( قرأ يعقوب بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول والباقون بفتح الياء وكسر الدال على البناء للفاعل ومعنى الآية ظن يونس أن لن نضيق عليه الحبس نظيره قوله تعالى :( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر( ٣ أي يضيق كذا وقال عطاء وكثير من العلماء أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر بمعنى القضاء كذا قال مجاهد والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال قدر الله تقديرا وقدر قدرا بمعنى واحد قال الله تعالى :( نحن قدرنا بينكم الموت٤( قرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ومعناهما واحد، ويؤيد هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بالتشديد وقيل معناه ظن أن لن نعمل فيه قدرتنا وقيل ك هذا تمثيل الحالة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمة قومه من غير انتظار لأمرنا وقال ابن زيد هو استفهام للإنكار والتوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه وقيل كان ذلك خطرة شياطينية سبقت إلى وهمه فسمي ظنا للمبالغة قال الحسن بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضبا لربه فاستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليهن وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت ومكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء سبعة أيام وقيل ثلاثة أيام وقيل إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه.
( فنادى في الظلمات( أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، هذه الجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض تقديره إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فبلغ البحر فركب في السفينة فاحتبست السفينة ( فساهم فكان من المدحضين( ٥ فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت ( فنادى في الظلمات( ( أن( أي بأن ( لا إله إلا أنت سبحانك غني كنت من الظالمين( على نفسي بالمبادرة إلى المهاجرة بلا إذن من الله تعالى قال البغوي روى عن أبي هريرة مرفوعا " أنه أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر لع عظما فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس تسبيحا فقال في نفسه ما هذا ؟ فأوحى الله إليه أن هذا تسبيح دواب البحر فسبح يونس وهو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة " وفي رواية :" صوت معروف في مكان مجهول قال ك ذاك عبدنا يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد منه إليك في كل يوم عمل صالح قال : نعم فتشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل " كما قال الله تعالى :( فنبذناه بالعراء وهو سقيم(. ٦
١ سورة الأحقاف الآية: ٣٥..
٢ سورة القلم الآية: ٤٨..
٣ سورة الرعد الآية: ٢٦..
٤ سورة الواقعة الآية: ٦٠..
٥ سورة الصافات الآية: ١٤١..
٦ سورة الصافات الاية: ١٤٥..
( فاستجبنا له( أي أجبنا دعوته ( ونجيناه من الغم( أي غم الخطيئة وغم التقام الحوت أو غم الظلمات بتلك الكلمات ( وكذلك ننجي المؤمنين( من الغموم إذا يدعوننا بالإخلاص ويستغيثوا بنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلا استجاب له " ١ رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه من حديث سعد بن أبي وقاص، وفي لفظ الحاكم " ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحد منكم كرب أو بلاء فدعا به إلا فرج الله عنه ؟ قيل بلى يا رسول الله قال : دعوة ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ورواه ابن جرير بلفظ " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقد ذكرنا في مفتتح سورة آل عمران أن اسم الله الأعظم هو التهليل يعني النفي والإثبات وأن لا إله إلا هو ولا إله إلا أنت ارفع درجة من لا إله إلا الله لأن الضمائر وضعت للذات البحث قلت : ثم لا إله إلا أنت أرفع درجة من لا إله إلا هو لدلالة ضمير الخطاب على كمال الحضور والله أعلم قرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم وتليين الياء على أن أصله ننجي مضارع باب التفعيل حذفت من النون الثانية لاجتماع المثلين كما تحدث الماء في تتظاهران فيقال تظاهرون وهي وإن كانت فاء فخذعها أولى من حذف علامة المضارع التي لمعنى ولا يقدح اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتنع الحذف في تتجافى لخوف اللبس وقيل : أصله نجي على أنه ماض مبني للمفعول أسند إلى المصدر وقال البيضاوي وهذا الوجه مردود بان الفعل لا يسند إلى المصدر إذا كان المفعول مذكورا والماضي لا يسكن آخره وأجيب بأنه إسناد الفعل إلى المصدر مع وجود المفعول شاذ والشاذ لا يمتنع وقوعه فغي القرآن لفصاحته وقد تسكن الياء المفتوحة كما سكنوا في بقي فقالوا بقي ونحوها وقرأ الجمهور بنونين من الأفعال وفي الخط الرسم بنون واحدة لأن النون الثانية ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت في الخط كما حذفوا النون في إلا وأصله إن لا لخفائها قال البغوي اختلفوا في أن رسالة يونس متى كانت ؟ روى سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن الله تعالى أرسله بعد أن أخرجه من بطن الحوت بدليل ما ورد في سورة الصافات ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم( ٢ ثم ذكر بعده ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون( ٣ وقال الآخرون : إنه أرسل قبل ذلك بدليل قوله تعالى :( وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون( ٤ قلت : والاستدلال بقوله :( وأرسلناه( بعد قوله :( فنبذناه( ضعيف الواو لمطلق الجمع لا دلالة لها على الترتيب.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٥٠٥)..
٢ سورة الصاقات الآية: ١٤٥..
٣ سورة الصافات الآية: ١٤٧..
٤ سورة الصافات الآية: ١٣٩-١٤٠..
( وزكريا إذ نادى( وإعرابه كإعراب نوحا إذ نادى يعني حين دعا ربه ( رب لا تذرني فردا( وحيدا بلا ولد يخلفني بيان للنداء ( وأنت خير الوارثين( حال من فاعل لا تذرني ثناء على الله تعالى بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه خير من يخلف
( فاستجبنا له( دعاءه ( ووهبنا له يحيى( ولدا ( وأصحلنا له زوجه( أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيمة ( إنهم( أي الأنبياء المذكورين ( كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا( مفعول له أو حال أي لأجل الرغبة أو ذوي رغبة أو راغبين في لقائنا والتقرب غلينا أو في الثواب راجين الإجابة أو في الطاعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت قرة عيني في الصلاة " ١ رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في حديث عن أنس رضي الله عنه ( ورهبا( أي لأجل الخوف او ذوي خوف أو خائفين الهجران أو المعصية أو العقاب ( وكانوا لنا خاشعين( أي داعين يوجل قال مجاهد الخشوع هو الخوف اللازم في القلب وذلك لكمال المعرفة بعظمة الله وقال قتادة ذللا لأمر الله وقوله تعالى :( إنهم كانوا يسارعون( مكدح لهم وتعليل لما سبق أي آتينا لوطا ونوحا وداود وسليمان وغيرهم حكما يعني نبوة وعلما لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات أو أذكر هؤلاء الكرام لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات حتى يقتدى بهم الناس فإن نالوا من الله تعالى ما نالوا هذه الخصال.
١ أخرجه النسائي في كتاب: عشرة النساء باب: حب النساء (٣٩٣٩)..
( والتي أحصنت فرجها( من الحلال والحرام يعني مريم بنت عمران منصوب بتقدير اذكر ( فنفخنا( يعني نفخ جبريل بأمرنا ( فيها( أي في مريم نفخ في جيب درعها فوصل النفخة في جوفها فأحدث الله تعالى بذلك النفخة المسيح عيسى بن مريم ( من روحنا( أي من الروح الذي هو بأمرنا وحدنا والإضافة للتشريف أو المراد بالروح عيسى ومن زائدة، أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه السلام ( وجعلناها وابنها( أي جعلنا قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله :( ءاية( أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ( للعالمين(.
( إن هذه( أي ملة التوحيد والإيمان بجميع الأنبياء قائلا :( لا نفرق بين أحد منهم( ١ والسمع والطاعة لله ولرسله في كل وقت على حسب أمره ونهيه فهو إشارة إلى جميع الملل الحقة أو المراد ملة الإسلام ( أمتكم( أي ملتكم التي يجب عليكم أيها الناس كافة أن تكونوا عليها ( أمة( منصوب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة ( واحدة( غير مختلفة فيما بعد الأنبياء ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع قال الله تعالى :( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه( ٢ والأمة مشتق من أم يأم بمعنى قصد يقصد فاطلق على الجماعة التي هي مقصد واحد وعل الدين والسنة كذا في القاموس لكون الدين والسنة مقصودين ( وأنا ربكم( لا رب لكم غيري ( فاعبدوني( دون غيري
١ سورة آل عمران الآية: ٨٤..
٢ سورة آل عمران الآية: ٨٥..
( وتقطعوا( فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، والتفعل بمعنى التفعيل يعني قطعوا وفرقوا ( أمرهم بينهم( أي أمر دينهم فصاروا فرقا يلعن بعضهما بعضا وما كان ينبغي لهم ذلك ( كل( أي كل فرقة منهم ( إلينا راجعون( فنجازيهم.
( فمن يعمل( شيئا من الأعمال ( الصالحات( وإن كان مثقال ذرة ( وهو مؤمن( بالله ورسله وما جاؤوا به قيد بهذا لأن الإيمان شرط للإثابة على الأعمال ( فلا كفران لسعيه( أي لا بطلان والمنع عن الثواب بعمله أستعير الكفر للمنع عن الثواب كما أستعير الشكر لإعطائه ونفي الجنس للمبالغة ( وإنا له( أي لسعيه وعمله ( كاثبون( مثبتون في صحف الأعمال التي تكتبها الملائكة الكرام.
( وحرام( قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء بلا ألف بينهما والباقون بفتح الحاء والراء ألف بينهما وهما لغتان مثل رحل وحلال والمعنى ممتنع غير كافرا خبر مبتدأ محذوف تقديره حرام وممتنع عليهم ذاك أي المذكور في الآية المتقدمة من عدم تضيع الحسنات يعني نحيط أعمالهم أو حرام أي ممتنع توبتهم أو حياتهم ثانيا في الدنيا او عدم بعثهم للجزاء وعلى هذا قوله تعالى :( أنهم( إلينا ( لا يرجعون( معناه لأنهم لا يرجعون بالتوبة والإخلاص غلينا أو لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا حتى يتداركوا ما فات عنهم من الإيمان وجاز ان يكون أن مه جملتها مبتدأ وحرام خيره يعني عدم رجوعهم إلى موقف الحساب والجزاء ممتنع وقال ابن عباس معنى الآية وحرام على أهل قرية أنهم راجعون إلى الدنيا فعلى هذا مبتدأ وخبر ولا زائدة، وعلى التأويلات كلها هذه الآية وعيد الكفار كما أن السابقة وعد للمؤمنين.
( حتى إذا فتحت( قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد على التكثير والباقون بالتخفيف ( يأجوج ومأجوج( إسمان لقبيلتين والمضاف محذوف يعني فتح سدهما عنهما ( وهم( يعني يأجوج ومأجوج ( من كل حدب( أي نشز وتل ( ينسلون( أي يسرعون من نسلان الذئب وقد ذكرنا حديث النواس بن سمعان في سورة الكهف في تفسير قوله تعالى :( فإذا جاء وعد ربي جعله ذكاء وكان وعد ربي حقا( ١ وفيه ويبعث الله يأجوج ومأجوج ( وهم من كل حدب ينسلون( قلت : خص نسلائهم من الأحداث لأن مقرهم ما وراء الجبال فيأتون من فوق الجبال وقيل : ضميرهم في وهم في كل حدب راجع إلى الناس أجمعين وقرأ مجاهد وهم من كل جدث يفعلون بالجيم والتاء المثلثة من فوق يعني القبر والضمير على هذا راجع إلى الناس أجمعين نظيره قوله تعالى :( فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون( ٢ وعن حذيفة ابن أسد الغفاري قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة قال :" إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وماجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى حشرهم " ٣ وفي رواية " تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر " وفي رواية في العاشرة وريح يلقى الناس في البحر " رواه مسلم وحتى ابتدائية تدل على سببية ما قبلها لما بعدها كما في قولهم مرض فلان حتى لا يرجونه متعلق بحرام أو بمحذوف دل عليه الكلام أو ( لا يرجعون( أي ستمر امتناع عدم تضييع حسناتهم يعني يستمر حبط أعمالهم أو امتناع قبول توبتهم أو امتناع رجوعهم إلى الدنيا أو امتنع عدم بعثهم للجزاء حتى تكون أبصارهم شاخصة أو يهلكون بالكفر حتى يكون كذلك، أو لايرجعون إلى التوبة أو إلى الدنيا حتى يكون كذلك مترتبا عليه وما بعد حتى جملة شرطية إذا فتحت بأجوج ومأجوج شرط وهم من كل حدب يتملون حال من يأجوج ومأجوج وإن كان الضمير راجعا إلى الناس فهو عطف على الشرط.
١ سورة الكهف الآية: ٩٨..
٢ سورة يس الآية: ٥١..
٣ أخرجه مسلم في كتاب ك الفتن وأشراط الساعة، باب: في الآيات التي تكون قبل الساعة (٢٩٠١)..
وقوله :( واقترب الوعد الحق( يعني يوم القيامة عطف على فتحت وقال الفراء وجماعة الواو زائدة والجملة جزاء للشرط كما في قوله تعالى :( فلما أسلمنا وتله للجبين وناديناه( ١ والمعنى لما أسلمنا ناديناه، واستدلوا عليه بما وروى عن حذيفة قال : لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خورج يأجوج لم يركبه حتى تقو الساعة، ورد هذا القول بأن الواو ولا تكون زائدة وجزاء الشرط ( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا( أي أجفانهم إذا للمفاجأة تسد مسد بالفاء الجزائية كقوله :( إذا هم يقنطون( ٢ فإذا جاءت معها تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار وشاخصة مبتدأ من قبيل الصفة المسندة إلى فاعلها والأبصار فاعل لها أو مبتدأ وشاخصة خبره قال شخص بصره يعني فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الهول والتحير وقيل هçي مبتدأ محذوف الخبر تقديره فإذا هي أي الساعة بارزة يعني من قربها كأنها حاضرة وقوله ( شاخصة أبصار الذين كفروا( جملة مستأنفة ( يا ويلنا( مقدر بقولون وهي واقع موقع الحال من الموصول وجاز أن يكون فإذا هي شاخصة معطوفة على الشرط والجزاء يقولون :( يا ويلنا( ( قد كنا في غفلة من هذا( اليوم لم نعلم أنه حق هذه الجملة في المقام التعليل لقوله : يا ويلنا ( بل كنا ظالمين( لأنفسنا بالإخلال بالنظر أو واضعين العبادة في غير موضعها.
١ سورة الصافات الآية: ١٠٣-١٠٤..
٢ سورة الروم الآية: ٣٦..
( إنكم( أيها المشركون ( وما تعبدون من دون الله( يعني ما لا يعقل من الأصنام وعجل السامري ونحو ذلك تفضيحا للكفار في عبادتها وما يعقل ويرضى بكونه معبودا من الشياطين مدعي الألوهية بالباطل ومن الإنس كفرعون ونمرود وأشباهه واما ما يعقل ولا يرضى به فغير مراد بدليل العقل والنقل فإنه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى( ١ هذا على تقدير كون ما عامة لذوي العقول وغيرهم كما هو المختار عند أكثر المحققين ويؤيده ما روى أن ابن الزبعري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى الله عليه وسلم بل لكل من عبد من دون الله، ذكره البيضاوي وأخرجه أبو داود وابن المنذر وابن مردويه والطبراني من وجه آخر عن ابن عباس واما على تقدير كونها مختصة بما لا يعقل فظاهر أن من لا يرضى من العقلاء بكونه معبودا غير داخل فيه ( حصب جهنم( أي ما يرمي به إليها ويهيج به من حصب يحصبه إذا رماه بالحصباء كذا قال الضحاك وقال مجاهد وقتادة الحصب في لغة أهل اليمن الحطب وقال عكرمة وهو الحطب بلغة الحبشة، وقال البغوي قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه حطب جهنم يعني وقودها ( أنتم( أيها المشركون مع ما عبدتموه ( لها واردون( استئناف أول من ( حصب جهنم( واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أن ورودهم لأجلها، وفي قوله تعالى :( إنكم وما تعبدون( إلى آخر التفات كان الكلام عن المشركين فيما سبق على الغيبة وفي هذه الآية على الخطاب
١ سورة الأنعام الآية: ١٦٤..
( لو كان هؤلاء( التي تعبدونها أيها الكفار ( ءالهة( في الواقع ( ما وردوها( هذه جملة معترضة مقدرة بالقول يعني يقال لهم بعد دخولهم في النار تفضيحا وتوبيخا هذا الكلام ( وكل( أي كل واحد من العابدين والمعبودين ( فيها( أي في النار ( خالدين( لإخلاص لهم عنها أبدا عطف على ( أنتم لها واردون(
( لهم فيها زفير( أي أنين وتنفس شديد وهو من باب إضافة فعل البعض إلى الكل تغليبا والجملة الظرفية حال من الضمير المستتر في خالدون ( وهم فيها لا يسمعون( عطف على الجملة الظرفية أو حال أخرج ابن جرير وابن حاتم وابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن مسعود قال : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب بلفظ جعلوا في توابيت نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت " أخرى ثم تلك التوابيت في توابيت عليها مسامير من نمار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم ان في النار يعذب غيره.
أخرج الحاكم عن ابن عباس قال لما نزلت :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم( قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله فنزلت ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى( المنزلة الحسنى منزلة القرب أو الخصلة حسنى وهي السعادة والتوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة قال الجنيد رحمه الله سبقت لهم منا العناية في الهداية فظهرت لهم الولاية في النهاية، أخرج ابن مردويه والضياء فلي المختار عن ابن عباس قال جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا محمد إنك تزعم أن الله قد أنزل عليك ( إنكم وما تعبدون مكن دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون( قال نعم، قال : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا فنزلت :( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى( ونزلت :( ولما ضرب ابن مريم مثلا( إلى قوله ( خاصمون( نحوه، وذكر البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصناديد قريش كانوا في الحطيم ( وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ) فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقحمه ثم تلا عليه :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم( الآيات الثلاثة ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعري إليهم فأخبره الوليد بن مغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أنت قلت :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم( ؟ قال : نعم، قال : أليست اليهود تعبد عزير والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" بل هم يعبدون الشياطين " فأنزل الله عز وجل :( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى( وأنزل الله في ابن الزبعري ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون( وأخرج الواحدي عن ابن عباس نحو ما ذكر البغوي وذكر في بعض كتب أوصل الفقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعري " ما أجهلك بلغة قومك ألم تعلم أن ما لغير ذوي العقول " ولم يذكر هذا الجواب في كتب الحديثن وقال بعض أهل العلم : إن كلمة أن في هذه الآية بمعنى إلا أي إلا الذين، وهذا القول غير مرضي بوجهين أحدهما أن كلمة إن لم يستعمل بمعنى إلا وثانيهما أنه لابد للاستثناء من الاتصال لا عند من قال بجوازه منفصلا وما ذكرناه في سبب نزول الآية تدل على الانفصال فعند أكثر العلماء هذه الآية مخصص لما سبق فإنه يجوز عندهم التخصيص بكلام مستقل متراخ، وعند أبي حنيفة رحمه الله المتراخي يكون ناسخا لا مخصصا والنسخ غير متصور ها هنا إذ الأخبار لا يحتمل النسخ فهو كلام أجنبي دليل على إرادة التحرز فيما سبق والله أعلم.
( أولئك عنها( يعني عن جهنم ( مبعدون(
أخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه وكذا أخرج ابن أبي حاتم والثعلبي وابن مردويه في تفاسيرهم أنه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة الجراح ثم أقيمت الصلاة فقام يجر ردائه ويقول :( لا يسمعون حسيسها( وهو بدل من مبعدون أو حال من ضميره سبق للمبالغة في إبعاده عنها والحسيس صوت يحس به ( وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون( دائمون وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام وفيه دليل على أن الصوفية العلية الذين لا ترغب أنفسهم إلى ما سوى الله تعالى دائمون في الوصل بلا كيف وفي الرؤية فارغون عن غيره تعالى
( لا يحزنهم الفزع الأكبر( هذه الجملة مع ما عطف عليه خبر بعد خبر لأن في إن الذين سبقت، قال البغوي قال ابن عباس الفزع الأكبر النفحة الأخيرة، بدليل قوله تعالى :( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض( ١ قلت : المراد بالنفخة الأخيرة النفخة التي هي الأخيرة من أمور الدنيا وإلا فنفخة الفزع إنما هي النفخة الأولى فقي : وهي النفخة الصعق أيضا والأمران متلازمان فإنهم يفزعون بالنفخة، الأولى فزعا وماتوا منه، وهذا ما صححه القرطبي إذ لم يذكر في أكثر الأحاديث إلا نفختان نفخة الصعف ونفخة البعث، واختار ابن عربي أن النفخات ثلاث الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث وهو المختار عندي، أخرج ابن جرير في تسفيره والطبراني في المطولات وأبو يعلى في مسنده والبيهقي في البعث وأبو موسى المديني في المطولات وعلي بن معيد في كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة حديثا طويلا مرفوعا فيه " فينفخ فيه أي في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية النفخة الصعق والثالثة النفخة القيام إلى رب العالمين " وسنذكر مخا ورد في الحديث من تفصيل الفزع في سورة النمل في تفسير الآية المذكورة، وقال الحسن الفزع الأكبر حين يؤمر بالعبد إلى النار وقال ابن جريح حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود ولا موت، وقال سعيد بن جبير والضحاك هي أن تطبق جهنم وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه ( وتتلقاهم الملائكة( أي تستقبلهم الملائكة عند خروجهم من القبور على أبوبا الجنة مهنين قائلين ( هذا يومكم( أي يوم ثوابكم ( الذي كنتم توعدون( في الكتب السماوية على ألسنة الرسل فالجملة حال من الملائكة بتقدير القول
١ في القرآن: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات سورة النمل الآية: ٨٧..
( يوم نطوي السماء( قرأ أبو جعفر تطوي بالتاء الفوقانية على البناء للمفعول ورفع السماء للإسناد إليه والجمهور بالنون على صيغة المتكلم المعروف ونصب السماء مقدر باذكر أو ظرف لقوله تعالى : لا يحزنهم أو تتلقاهم أو حال مقدرة ( كطي السماء( الطي ضد النشر والسجل الصحيفة مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ( للكتب( قرأ حمزة والكسائي وحفص هكذا على صيغة الجمع، والباقون للكتاب على الإفراد والمعنى طيا كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب فيه، ويدل عليه القراءة على صيغة الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه كذا قال ابن عباس ومجاهد والأكثرون وقال السدي أن السجل ملك يكتب أعمال العباد واللام زائدة يعني كطي السجل الكتب لقوله :( ردف لكم( ١ أي أردفكم وقيل السجل كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال في القاموس كتب السجل لكتاب العهد وغيره جمعه سجلات وهو أيضا الكاتب والرجل بالحبشة واسم كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم واسم ملك والسجل بالكسر الكتب، وقيل : السجل حجر كان يكتب فيه ثم سمى كلما يكتب فيه سجلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده( ما كافة أو مصدرية وكلمة أول مفعول لبد
أنا أي نعيد ما خلقناه مبدأ إعادة مثل إبدائنا إياه في كونها إيجادا عن العدو أو جمعا من الأجزاء المتبددة، وجاز أن يكون أول مفعولا بفعل مضمون يفسره نعيده، والمعنى على الوجهين واحد والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية وتناول القدر الكاملة القديمة لهما على السواء وقيل : ما موصولة وبدأنا صلة والعائد المحذوف وإن كان متعلق بمحذوف يفسره نعيده وأول خلق ظرف لبدأنا أو حال من العائد المحذوف يعني نعيد مثل الذي بدأناه في وقت أول الخلق أو كائنا أول الخلق لكن يلزم على هذا التأويل أن لا يكون المعاد عين الول بل مثله والحق أنه عينه وإنما التمثيل في كلا الخلقين أو في الأحوال والأوصاف روى الشيخان في الصحيحين والترمذي عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده( وأول من يكس من الخلائق إبراهيم عليه السلام " ٢ ( وعدا( مقدر بفعله أي وعدنا وعدا لتأكيد لنعيده، أو منصوب بنعبده لأنه وعد بالإعادة علينا صفة لوعد أي وعدا كائنا علينا إنجازه كاللازم ( إنا كنا فاعلين( الإعادة والبعث تأكيد بعد تأكيد.
١ سورة النمل الآية: ٧٢..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء باب: قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا( (٣٣٤٩) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (٢٨٦٠) وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنبياء (٣١٦٧)..
( ولقد كتبنا ) جواب قسم محذوف ( في الزبور من بعد الذكر( قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع الكتب المنزلة والذكر أم الكتاب الذي عنده يعني من بعد ما كتبنا ذلك في اللوح المحفوظ، وقال الشعبي الزبور كتاب دواد عليه السلام والذكر التوراة وقال ابن عباس والضحاك الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة بعد التوراة، وقيل : الزبور كتاب داود عليه السلام والذكر القرآن وبعد على هذين التأويلين بمعنى قبل ( أن الأرض( يعني أرض الجنة ( يرثها عبادي( قرأ حمزة بإسكان الباء والباقون بفتحها ( الصالحون( فهذه الآية نظيرة لقوله تعالى :( والعاقبة للمتقين( ١ والفساق إنما يدخلون إما بعد العذاب والتطهير وإما بعد المغفرة فحينئذ يلتحقون بالصالحين وقال مجاهد يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم دليلا قوله تعالى :( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض تتبوأ من الجنة حيث نشاء( ٢ وقيل : أراد بالأرض الأرض المقدسة وبعابدي الصالحين الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها وقال ابن عباس أراد بالأرض أرض الكفار بفتحها المسلمون وهذا حكم من الله بإظهار الدين وإعزاز المسلمين قلت : فالمراد بالأرض جميع الأرض، روى أحمد عن المقداد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخله الله كلمة الإسلام بعز عزير أو ذل ذليل إما يعزهم فيجعلهم من أهلها أو يذللهم فيدينون لها " قال مقداد قلت : فيكون الدين كله لله.
١ سورة القصص الآية: ٢٣..
٢ سورة الزمر الآية: ٧٤..
( إن في هذا( أي فيما ذكرنا في القرآن من الأخبار والمواعظ والمواعيد لبلاغك أي لكفاية لأجل دخول الجنة فإنها زاد الجنة كبلاغ المسافر وسبب بلوغ إلى المطلوب يعني من اتعظ بها بلغ ما يرجوا من الثواب ( لقوم عابدين( صفة لبلاغا أو متعلق به أي للمؤمنين الذين يعبدون الله عز وجل عبادة مقبولة، وقال ابن عباس عالمين وقال كعب الأحبار : أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان
( وما أرسلناك( يا محمد ( إلا رحمة( منصوب على العلية أو على الحال من كاف الخطاب ( للعالمين( يعني لرحمتنا على الإنس والجن أرسلناك ليهتدوا بك أو أرسلناك حال كونك رحمة يعني سببا للرحمة روى الحاكم عن أبي هريرة وابن سعد والحكيم عن أبى صالح مرسلا أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا رحمة مهداة " وروى البخاري في التاريخ عن أبى هريرة بلفظ " إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا " وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى :( إن في هذا لبلاغا( وتأكيد له في المعنى فإن القرآن لما كان بلاغا وزادا إلى الجنة كان إرسال الرسول الذي أنزل عليه القرآن رحمة، والمعنى أن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم فمن لم يستعد به وأبى من أن يصير مرحوما فهو ظالم على نفسه وذا لا ينافي كونه رحمة وقال ابن عباس هو رحمة للكافر في الدنيا بتأخير العذاب عليهم ورفع المسخ والخسف والاستئصال
( قل( يا محمد ( إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد( جملة مستأنفة في جواب ما أقول لهم حين بعثت رحمة وما في الدنيا يوحى كافة والحصر المستفاد منه مبني على المبالغة، والحاصل أن المقصود الأصلي من الوحي التوحيد فكأنه هو الموحى إلي لا غير أو المعنى إنما يوحى إلي في أمر عبادة الله إلا التوحيد، وجاز أن يكون ما موصولة في محل النصب على الاسمية وإنما إلهكم في محل الرفع على الخبرية والتوحيد يصح إثباته بالسمع لأن الرسالة إنما تتوقف على المرسل فلا دور ( فهل أنتم مسلمون( يعني أسلموا وأخلصوا العبادة لله على مقتضى الوحي المصدق بالحجة واستعدوا برحمة الله
( فإن تولوا( عن الإسلام بعد تمام الحجة عليهم أبوا عن رحمة الله ( فقل( يا محمد ( ءاذانكم( أي علمتكم ما أرسلت به إليكم أو أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا ( على سواء( أي حال كونكم مستوين في الإعلام يعني ما أخفيت من أحد منكم، فيه دليل على بطلان مذهب الباطنية والروافضية المعتقدين للتقية القائلين بأن الأئمة كانوا يعلمون أصحابهم أحكام الشرع على وجه الأحق ويقولون أن للجدران أذان، أو المعنى مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم أو بالحرب والمعادلة يعني لإخداع فتأهبوا للحرب أو أذنتكم إيذانا على سواء يعني على الإعلان دون الكتمان وقيل معناه أعلمتكم إني على سواء أي على عدل واستقامة رأي بالبرهان ( وإن أدري( أي ما أدري ( أقريب أم بعيد ما توعدون( من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة
إنه تعالى :( يعلم الجهر من القول( أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام ( ويعلم ما تكتمون( من الحقد للمسلمين فيجازيكم عليه وهذه الجملة معترضة للتوبيخ على النفاق والتحريض على الإخلاص
( وإن أدري( مفعول أدري محذوف يعني ما أدري أي سبب لتأخير العذاب عنكم مع ما علم الله تعالى جهركم وسركم بالسوء، ولما كان في هذه الجملة نفي علمه صلى الله عليه وسلم عن سبب تأخير العذاب عن الكفار وذلك يوهم نفي الظن قد وقع ذلك الوهم بقوله ( لعله( الضمير راجع إلى المحذوف المفهوم مما سبق يعني لعل ذلك التأخير ( فتنة لكم( أي استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحانكم لينظر هل ترجعون مما أنتم عليه إلى الاتعاظ أم لا ( ومتاع( التنوين للتحقير وكذا تنوين حين أي تمتيع قليل من الله تعالى :( إلى حين( أي زمان يسير سبق في القضاء إبقائكم إليه قال جلال الدين المحلي هذا مقابل للفتنة المترجي بلعل وليس هذا محل للترجي
﴿ قال ﴾ قرأ حفص قال على صيغة الماضي حكاية عن حال النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وقرأ الجمهور بصيغة الأمر ( رب احكم بالحق( يعني أقض يننا وبين اهل مكة بالعدل المقتضى لتعذيب الكفار وإنجاء المسلمين ( وربنا الرحمن( أي كثير الرحمة على خلقه مبتدأ وخبره ( المستعان( صفة للرحمن أو خبر بعد خبر أي المطلوب منه المعونة ( على ما تصف-ون( بالمذنب والباطل بأن الشوكة تكون لهم، وأن راية الإسلام ترفع أياما ثم تنخفض وأن الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فأجاب الله سبحانه دعاء الله تعالى باتخاذ الولد وتصفون محمد صلى الله عليه وسلم بالسحر والقرآن بكونه شعرا والله أعلم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفسير سورة الأنبياء عليهما السلام ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير سورة الحج يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر الجمادي الثاني من السنة الثالثة من المائة الثالثة بعد الألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
Icon