تفسير سورة النّمل

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة النمل من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور، وقوله تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ ﴾ أي هذه آيات ﴿ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بيِّن واضح، ﴿ هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن، لمن آمن به واتبعه وصدقه وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وأيقن بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، والجنة والنار، كما قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] الآية، وقال تعالى :﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ﴾ أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها، ﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ أي حسناً لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم، كما قال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية، ﴿ أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب ﴾ أي في الدنيا والآخرة ﴿ وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون ﴾ أي ليس يخسر سواهم من أهل المحشر، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ أي ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ يا محمد ﴿ لَتُلَقَّى ﴾ أي لتأخذ ﴿ القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ أي من عند حكيم عليم أي حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها، فخبره هو الصدق المحض، وحكمه هو العدل التام، كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ].
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام، كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا، فقال تعالى :﴿ إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ ﴾ أي اذكر حين سار موسى بأهله فأفضل الطريق وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور ناراً، أي رأى ناراً تأجج وتضطرم، فقال :﴿ لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ أي عن الطريق، ﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ أي تستدفئون به وكان كما قال فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نوراً عظيماً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلاّ توقعداً، ولا تزداد الشجرة إلاّ خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء، قال ابن عباس وغيره : لم تكن ناراً وإنما كانت نوراً يتوهج، وفي رواية عنه نور رب العالمين، فوقف موسى متعجباً مما رأى ﴿ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار ﴾ قال ابن عباس : تقدس ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ أي من الملائكة، روى ابن أبي حاتم عن أبي موسى رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل »، زاد المسعودي :« وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين ﴾ أي الذي يفعل ما يشاء ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات، .
وقوله تعالى :﴿ ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم ﴾ أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه، العزيز الذي عزَّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده، ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء، فلام ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾ والجان ضرب من الحيات أسرعهحركة وأكثره اضطراباً، فلما عاين موسى ذلك ﴿ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي لم يلتفت من شدة فرقه ﴿ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون ﴾ أي لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولاً، وأجعلك نبياً وجيهاً، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى :
1868
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار وصدق من جعل له معجزة، وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، وقوله تعالى :﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ ﴾ أي هاتان ثنتان من تسع آيات، أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ [ الإسراء : ١٠١ ] كما تقدم تقرير ذلك هنالك، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾ أي بينة واضحة ظاهرة ﴿ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي عملوا في أنفسهم أنها حق من عند الله ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها ﴿ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾، أي ظلماً من أنفسهم ﴿ وَعُلُوّاً ﴾ أي استكباراً عن اتباع الحق، ولهذا قال تعالى :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين ﴾ أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم، وفحوى الخطاب، يقول : احذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإن محمداً ﷺ أشرف وأعظم من موسى، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
1869
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه ( داود ) وابنه ( سليمان ) عليهما السلام، من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة، والصفات الجميلة، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة، والملك والنبوة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ أي في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال إ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة، فإن الأنبياء لا نورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ في قوله :« نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة »، ﴿ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم، حتى أنه سخر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً على اختلاف أصنافها، ولهذا قال تعالى :﴿ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي ما يحتاج إليه الملك، ﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين ﴾ أي الظاهر البين لله علينا، وقوله تعالى :﴿ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي وجمع لسليمان جنوده من الجن، والإنس والطير، يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة، في الإنس وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها، وقوله ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته، قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله تعالى :﴿ حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل ﴾ أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها :﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾ أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾ أي عملاً تحبه وترضاه، ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين ﴾ أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك. والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك وهذا أمر عظيم جداً، وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلاّ تسقنا تهلكنا، فقال سليمان : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« قرصت نبياً من الأنبياء نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه، أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبّح؟ فهلا نملة واحدة؟ »
قال ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان، حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره ﴿ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين ﴾ حدث يوماً ابن عباس بنحو هذا وفي القوم رجل من الخوارج يقال له ( نافع بن الأزرق ) وكان كثير الاعتراض على ابن عباس فقال له : قف يا ابن عباس غلبت اليوم، قال : ولم؟ قال : إنك تخبر أن الهدهد يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ تراباً فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي، فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته، ثم قال له : ويحك إنه نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر، فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً، وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير، وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلاّ الهدهد ﴿ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين ﴾ أخطأه بصري من الطير أم غاب فلم يحضر؟ وقوله :﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ قال ابن عباس يعني نتف ريشه، وكذا قال غير واحد من السلف إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل، وقوله :﴿ أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ ﴾ يعني قتله ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ بعذر بين واضح، وقال سفيان بن عيينة : لما أقدم الهدهد قالت له الطير : ما خلفك فقد نذر سليمان دمك، فقال : له استثنى؟ قالوا : نعم، قال :﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ قال : نجوت إذاً.
يقول تعالى :﴿ فَمَكَثَ ﴾ الهدهد ﴿ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ أي غاب زماناً يسيراً ثم جاء فقال لسليمان ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك ﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ أي بخبر صدق حق يقين، وسبأ هم ملوك اليمن، ثم قال :﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ ﴾ قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ، وعن قتادة في قوله تعالى :﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ ﴾ كانت من بيت مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلاً، كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل، وكانت بأرض يقال لها ( مأرب ) على ثلاثة أميال من صنعاء، وقوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل، مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآليء، قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه، ومثلها من مغربه، وقد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحاً ومساء، ولهذا قال :﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل ﴾ أي عن طريق الحق ﴿ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾، وقوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ﴾ أي لا يعرفون سبيل الحق اليت هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها، كما قال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ].
وقوله تعالى :﴿ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض ﴾ قال ابن عباس : يعلم كل خبيثة في السماء والأرض، وقال سعيد بن المسيب : الخبء الماء، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال، وهذا كقوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، وقوله :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم ﴾ الذي ليس في المخلوقات أعظم منه. ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير، وعبادة الله وحده، نهي عن قتله، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى النبي ﷺ عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد.
يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم ﴿ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين ﴾ أي أصدقت في إخبارك هذا ﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين ﴾ في مقالتك للتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟ ﴿ اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾، وذلك أن سليمان عليه السلام كنت كتاباً إلى بلقيس وقومها، وأعطاه ذلك الهدهد فحمله وذهب إلى بلادهم، فجاء إلى قصر بلقيس فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها، ثم تولى ناحية أدباً ورياسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته، فإذا فيه :﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ثم قالت لهم :﴿ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ تعين بكرمه ما رأته من عجيب أمره، كون طائر ذهب به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدباً وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ولا سبيل لهم إلى ذلك ثم قرأته عليهم ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام، وأنه لا قبل لهم به وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء : لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وقوله :﴿ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ ﴾ قال قتادة يقول : لا تتجبروا علي ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، وقال ابن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا عليّ وأتوني مسلمين، قال ابن عباس : موحدين : وقال غيره : مخلصين، وقال سفيان بن عيينة : طائعين.
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها، ولهذا قالت :﴿ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ ﴾ أي حتى تحضرون وتشيرون ﴿ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ أي منّوا عليها بعددهم وعددهم وقوتهم، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا :﴿ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ ؟ أي نحن أشداء إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، قال الحسن البصري : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأياً منهم وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير، وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمراً عجيباً بديعاً فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه، فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه، ويخلص إليّ وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا، ولهذا قالت :﴿ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ﴾، قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلداً عنوة أفسدوه أي خربوه، ﴿ وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً ﴾ أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر، قال ابن عباس، قالت بلقيس :﴿ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً ﴾، قال الرب عزَّ وجلَّ :﴿ وكذلك يَفْعَلُونَ ﴾، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة فقالت :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون ﴾ أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله، وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا، أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا، قال قتادة : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
ذكر غير واحد من المفسرين أنها بعثت إليه بهدية عظيمة، من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك، والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب، فلم ينظر سليمان إلى ما جاءوا به بالكلية، ولا أعتنى به بل أعرض عنه، وقال منكراً عليهم ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ أي أتصانعونني بمال لأترككم على شركم وملككم؟ ﴿ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ ﴾ أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود، خير مما أنتم فيه ﴿ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلاّ الإسلام أو السيف، قال ابن عباس رضي الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة، فلما رأت رسلها ذلك قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا؟ وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد ﴿ ارجع إِلَيْهِمْ ﴾ أي بهديتهم، ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ﴾ أي لا طاقة لهم بقتالهم ﴿ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً ﴾ أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة، ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ أي مهانون مدحورون، فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام، ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم عليه ووفودهم إليه فرح بذلك وسره.
قال محمد بن إسحاق : فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكابرته شيئاً، وبعثت إليه إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما توعدنا إليه من دينك، ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات، ثم أقفلت عليه الأبواب. ثم قالت : لمان خلفت على سلطانها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله، ولا يرينه أحد حتى آتيك، ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف فجعل سلميان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال :﴿ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾. وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جائية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه، وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مستراً بالديباج والحرير، وكانت عليه تسعة مغاليق فكره أن يأخذه بعد إسلامهم، وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم، فقال :﴿ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي ﴿ قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ فتحرم علي أموالهم بإسلامهم، ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن ﴾ أي مارد من الجن، ﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ قال ابن عباس : يعني قبل أن تقوم من مجلسك، وقال مجاهد : مقعدك، وقال السدي وغيره : كان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس، ﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ قال ابن عباس : أي قوي على حمله ﴿ أَمِينٌ ﴾ على ما فيه من الجوهر، فقال سليمان عليه السلام : أريد أعجل من ذلك، ومن هاهنا يظهر أن سليمان أراد بإضحار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك، وما سخر له من الجنود الذي لا يعطه أحد قبله، ولا يكون لأحد من بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها، لأن هذا خارق عظيم، أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه، هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة، فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك، ﴿ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب ﴾ قال ابن عباس : وهو ( آصف ) كاتب سليمان عليه السلام.
وكذا روي عن يزيد بن رومان أنه ( آصف بن برخياء ) وكان صدّيقاً يعلم الاسم الأعظم، وقال قتادة : كان مؤمناً من الإنس واسمه آصف من بني إسرائيل، وقوله :﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ أي ارفع بصرك وانظر فإنه لا يكل بصرك إلاّ وهو حاضر عندك، وقال وهب بن منبه : امدد بصرك فلا يبلغ مداه حت آتيك به، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى، قال مجاهد : قال يا ذا الجلال والإكرام.
1876
وقال الزهري قال : يا إلهنا وإلأه كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلاّ أنت ائتني بعرشها، قال : فمثل بين يديه، فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقراً عنده ﴿ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ أي هذا من نعم الله علي ﴿ ليبلوني ﴾ أي ليختبرني ﴿ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾، كقوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]، وكقوله :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [ الروم : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ أي هو غني عن العباد وعبادتهم، كريم : أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى :﴿ إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم : ٨ ]، وفي « صحيح مسلم » :« يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلاّ نفسه ».
1877
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها، أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها، فقال :﴿ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ ﴾ قال مجاهد : أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر، وما كان أصفر جعل أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر، وغير كل شيء عن حاله، وقال عكرمة : زادوا فيه ونقصوا ﴿ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه مكان فيها ثبات وعقل، ولها لب ودهاء وحزم، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من أثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر، فقالت ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ أي يشبهه ويقاربه، وهذا غاية في الذكاء والحزم. وقوله :﴿ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ قال مجاهد : يقوله سليمان، وقوله تعالى :﴿ مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾، وهذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد أي قال سليمان ﴿ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾، وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده ﴿ مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾.
قلت : ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي، وقوله :﴿ قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ﴾، وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه، قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان : ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها، فلما رأته حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء ماء تخوضه، فقيل لها ﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ ﴾ فلما وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله، قالت :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ فأسلمت وحسن إسلامها. وأصلالصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع، قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله ﴿ ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب ﴾ [ غافر : ٣٦ ] الآية، والصرح قصر في اليمن عالي البناء، والممرد المبني بناء محكماً أملس ﴿ مِّن قَوارِيرَ ﴾ أي زجاج، والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج، لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لله عزَّ وجلَّ، وقالت :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ أي متابعة لدين سليمان في عبادته للهوحده لا شريك له، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها ( صالح ) عليه السلام، حين بعثه الله إليهم فدعاهم إل عبادة الله وحده لا شريك له ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ قال مجاهد : مؤمن وكافر. قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته، ولهذا قال :﴿ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيراً، وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحداً منهم سوء إلاّ قال هذا من قبل صالح وأصحابه، قال مجاهد : تشاءموا بهم، وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله ﴾ [ النساء : ٧٨ ] أي بقضائه وقدره، وقال تعالى :﴿ قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ [ يس : ١٨-١٩ ] الآية، وقال هؤلاء ﴿ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله ﴾ أي الله يجازيكم على ذلك ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ قال قتادة : تبتلون بالطاعة والمعصية، والظاهر أن المراد بقوله ﴿ تُفْتَنُونَ ﴾ أي : تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال.
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وعقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضاً، بأن يبيتوه في أهله ليلاً فيقتلوه غيلة، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه إنهم ما علموا بشيء من أمره، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك. فقال تعالى :﴿ وَكَانَ فِي المدينة ﴾ أي مدينة ثمود ﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ أي تسعة نفر ﴿ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ ﴾ وإنما غلبت هؤلاء على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم، قال ابن عباس : هؤلاء هم الذين عقروا الناقة أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم، والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها.
وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله ( صالح ) عليه السلام من لقيه ليلاً غيلة، فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين، وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة، بعدما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربكم عليكم غضباً، وإن كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك. وقال ابن أبي حاتم : لما عقروا الناقة قال لهم صالح :﴿ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث، وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه، فخرجوا إلى كهف أي غار هناك ليلاً فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله، ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار، فلا يدري قومهم أين هم، ولا يدرون ما فعل بقومهم : فعذب الله هؤلاء هاهنا وهؤلاء هاهنا وأنجى الله صالحاً ومن معه، ثم قرأ :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ﴾ أي فارغة ليس فيها أحد ﴿ بِمَا ظلموا إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( لوط ) عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة، التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي ( إتيان الذكور ) دون الإناث، وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فقال ﴿ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ أي يرى بعضكم بعضاً وتأتون في ناديكم المنكر ﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ أي لا تعرفون شيئاً لا طبعاً ولا شرعاً كما قال في الآية الأخرى :﴿ أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٥-١٦٦ ] ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ أي يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم، فعزموا على ذلك فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، قال الله تعالى :﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين ﴾ أي من الهالكين مع قومها، لأنها كانت ردءاً لهم على دينهم، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم، وقوله تعالى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً ﴾ أي حجارة من سجيل منضود، ولهذا قال :﴿ فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين ﴾ أي الذين قامت عليهم الحجة، ووصل إلهم الإنذار، فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم.
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يقول :﴿ الحمد لِلَّهِ ﴾ أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى، وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام، هكذا قال عبد الرحمن بن أسلم هم الأنبياء، قال : وهو كقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الصافات : ١٨٠-١٨٢ ]، وقال الثوري والسدي : هم أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم أجمعين، ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار، وقد روى أبو بكر البزار عن ابن عباس ﴿ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى ﴾ قال : هم أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم. وقوله تعالى :﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ؟ استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى. ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال تعالى :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات ﴾ أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النيرة، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك، وقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً ﴾ أي جعله رزقاً للعباد ﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ﴾ أي بساتين ﴿ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ أي منظر حسن وشكل بهي ﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به المشركون ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ العنكبوت : ٦٣ ] أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، ولهذا قال تعالى :﴿ أإله مَّعَ الله ﴾ أي أإله مع الله يعبد، وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق، ومن المفسرين من يقول : معنى قوله ﴿ أإله مَّعَ الله ﴾ فعل هذا؟ وهو يرجع إلى معنى الأول، لأن تقدير الجواب أنهم يقولون : ليس ثَمّ أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال : فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ١٧ ] الآية، وقوله تعالى هاهنا :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ ﴿ أَمَّنْ ﴾ في هذه الآيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر، ثم قال :﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يجعلون لله عدلاً ونظيراً، وهكذا قال تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٩ ] أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب ﴾ [ الزمر : ٩ ].
يقول تعالى :﴿ أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً ﴾ أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بها، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهاداً، ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَآءً ﴾ [ غافر : ٦٤ ]، ﴿ وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً ﴾ أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة، شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك، وسيرها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً ﴾ أي جعل بين المياه العذبة والمالحة ﴿ حَاجِزاً ﴾ أي مانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتقضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس، والمقصود منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى منها الحيوان والنبات والثمار، والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب، والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحاً أجاجاً لئلا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٥٣ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ أإله مَّعَ الله ﴾ ؟ أي فعل هذا أو يعبد على القول الأول والآخر؟ وكلاهما متلازم صحيح ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي في عبادتهم غيره.
ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [ النحل : ٥٣ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ ﴾ أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟ قال الإمام أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من هجيم قال :« قلت يا رسول الله إلام تدعو؟ قال :» أدعوا إلى الله وحده، الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك « قال : قلت أوصني، قال :» لا تسبن أحداً ولا تزهدن في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة «، وفي رواية أخرى لأحمد عن جابر بن سليم الهجيمي قال :» أتيت رسول الله ﷺ وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت : إيكم محمد رسول الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه، فقلت : يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيَّ جفاؤهم فأوصني، قال :« لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك لا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعلى زره، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة، ولا تسبن أحداً » قال : فما سببت بعده أحداً ولا شاة ولا بعيراً « وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله تعالى يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماوات بمن فيهن، والأرض بمن فيها، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي، فإن أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر ( محمد بن داود الدينوري ) المعروف بالدقي الصوفي، قال هذا الرجل : كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي : خذ في هذه فإنها أقرب، لا خبرة لي فيها، فقال : بل هي أقرب فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة، فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني ففرت من بين يديه وتبعني، فناشدته الله، وقلت : خذ البغل بما عليه، فقال : هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه، وقلت إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال : عجل فقمت أصلي، فأرتج عليّ القرآن، فلم يحضرني منه حرف واحد فبقيت واقفاً متحيراً، وهو يقول : هيه افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى :﴿ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء ﴾ فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة، فرمى بها الرجل، فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس، وقلت : بالله من أنت؟ فقال : أنا رسول الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً.
1884
وقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض ﴾ أي يخلف قرناً لقرن قبلهم وخلفاً لسلف، كما قال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ]، وهكذا هذه الآية ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض ﴾ أي أمة بعد أمة، وجيلاً بعد جيل، وقوماً بعد قوم، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين، كما خلق آدم من تراب، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض، ولكن لا يميت أحداً حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد لكانت تضيق عنهم الأرض وتضيق عليهم معايشتهم وأكسابهم ويتضرر بعضهم ببعض، ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة، ثم يكثرهم غاية الكثرة ويجعلهم أمماً بعد أمم، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية كما قدر ذلك تبارك وتعالى، وكما أحصاهم وعدهم عداً، ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله، ولهذا قال تعالى :﴿ أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله ﴾ أي يقدر على ذلك، أو أإله مع الله بعد هذا! وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
1885
يقول تعالى :﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر ﴾ أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال تعالى :﴿ وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل : ٦١ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٩٧ ] الآية، ﴿ وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين القنطين ﴿ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُون ﴾
أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ ﴾ [ البروج : ١٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، ﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض ﴾ أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض، كما قال تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [ سبأ : ٢ ]، فهو تبارك وتعالى ينزل من السماء ماء مباركاً، فيسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به أنواع الزروع والثمار والأزاهير، وغير ذلك من ألوان شتى ﴿ كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى ﴾ [ طه : ٥٤ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ أإله مَّعَ الله ﴾ أي فعل هذا وعلى القول الآخر بعد هذا ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في ذلك، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون ﴾ [ المؤمنون : ١١٧ ].
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يقول معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلاّ الله. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ الله ﴾ استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلاّ الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] الآية، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] إلى آخر السورة، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال تعالى :﴿ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض، وقالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أنه يعلم - يعني النبي ﷺ - ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى يقول :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله ﴾، وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن أناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلاّ يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم، وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله تعالى أنه ﴿ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها. قال ابن عباس ﴿ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ ﴾ أي غاب، وقال قتادة :﴿ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة ﴾ يعني بجهلهم بربهم، يقول : لم ينفذ لهم علم في الآخرة، هذا قول، وقال ابن جريج عن ابن عباس ﴿ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة ﴾ حين لم ينفع العلم، وبه قال عطاء والسدي : أن عملهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك، كما قال تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، وكان الحسن يقرأ ﴿ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ ﴾ قال : اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة، وقوله تعالى :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ عائد على الجنس والمراد الكافرون، كما قال قال تعالى :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] أي الكافرون منكم، وهكذا قال هاهنا :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ أي شاكون في وجودها ووقوعها، ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
يقول تعالى مخبراً عن منكري البعث من المشركين، أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاماً ورفاتاً وتراباً، ثم قال :﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا وقوعاً، وقولهم :﴿ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ يعنون ما هذا الود بإعادة الأبدان ﴿ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ أيأخذه قوم عمن قبلهم من كتب، يتلقاه بعض عن بضع وليس له حقيقة، قال الله تعالى مجيباً لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء ﴿ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين ﴾ أي المكذبين بالرسل وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره، كيف حلت بهم نقمة على صدق ما جاءت به الرسل وصحته، ثم قال تعالى مسلياً لنبيه ﷺ :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات، ﴿ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي في كيدك ورد ما جئت به، فإن الله مؤيدك وناصرك، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك، ﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؟ قال الله تعالى مجيباً لهم :﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ قال ابن عباس : أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون، كقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ متى هُوَ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾ [ الإسراء : ٥١ ]، وقال تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين ﴾ [ العنكبوت : ٥٤ ]، وإنما دخلت اللام في قوله :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ لأنه ضمّن معنى عجّل لكم، كما قال مجاهد في رواية عنه ﴿ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ﴾ عُجّل لكم. ثم قال الله تعالى :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلاّ القليل منهم، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، ﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، ﴿ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ [ طه : ٧ ]، ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة، وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه، فقال تعالى :﴿ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ ﴾ قال ابن عباس : يعني وما من شيء ﴿ فِي السمآء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾، وهذه كقوله :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ [ الحج : ٧٠ ].
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من الهدى والبيان والفرقان، أنه يقص على بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل ﴿ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه، فاليهود افتروا والنصارى غلوا، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام، عليه أفضل الصلاة والسلام، كما قال تعالى :﴿ ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ ﴾ [ مريم : ٣٤ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾ أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم، ثم قال تعالى :﴿ إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم ﴾ أي يوم القيامة ﴿ بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز ﴾ أي في انتقامه ﴿ العليم ﴾ بأفعال عباده وأقوالهم ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾ أي في جميع أمورك وبلغ رسالة ربك، ﴿ إِنَّكَ عَلَى الحق المبين ﴾ أي أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليه الشقاوة، وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ أي لا تسمعهم شيئاً ينفعهم، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير، السمع والبصر النافع في القلب، الخاضع لله ولما جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم السلام.
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض. قيل : من مكة، وقيل من غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، فتكلم الناس على ذلك، قال ابن عباس والحسن وقتادة : تكلمهم كلاماً أي تخابطهم مخاطبة وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير، وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة، فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان، روى الإمام أحمد : عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال :« لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل لهم حيث قالوا » حديث قال مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عمرو قال : حفظت من رسول الله ﷺ حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً » حديث آخر : وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« بادروا بالأعمال ستاً : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة »، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام، فتخطم أنف الكافر بالعصا، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر » وعن وهب بن منبه أنه حكى من كلام عزير عليه السلام أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها، وتضع الحبالى قبل التمام، ويعود الماء العذب أجاجاً ويتعادى الأخلاء، وتحرق الحكمة ويرفع العلم وتكلم الأرض التي تليها، وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون، ويتعبون فيما لا ينالون، ويعملون فيما لا يأكلون.
يقول تعالى مخبراً عن يوم القيامة. وحشر الظالمين من المكذبين بآيات الله ورسله، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا، تقريعاً وتصغيراً وتحقيراً، فقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ﴾ أي من كل قوم وقرن فوجاً أي جماعة ﴿ مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ﴾، كما قال تعالى :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ قال ابن عباس : سيدفعون، وقال قتادة : يرد أولهم على آخرهم، وقال عبد الرحمن بن زيد : يساقون ﴿ حتى إِذَا جَآءُوا ﴾ ووقفوا بين يدي الله عزَّ وجلَّ في مقام المساءلة ﴿ قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي فيسألون عن اعتقادهم وأعمالهم، فلما لم يكونوا من أهل السعادة وكانوا كما قال الله عنهم، ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٣١ - ٣٢ ] فحينئذٍ قامت عليهم الحجة ولم يكن لهم عذر يعتذرون به، كما قال الله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥ - ٣٦ ] الآية، وهكذا قال هاهنا ﴿ وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ أي بهتوا فلم يكن لهم جواب، لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية، ثم قال تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم وشأنه الرفيع :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وتهدأ أنفاسهم، ويستريحون من نصب التعب في نهارهم ﴿ والنهار مُبْصِراً ﴾ أي منيراً مشرقاً، فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب والأسفار والتجارات، وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور، وفي حديث الصور : إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولاً نفخة الفزع وبطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع من في السماوات ومن في الأرض ﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ الله ﴾ وهم الشهداء فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وفي حديث مسلم الطويل قال :« فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستيجيبون؟ فيقولون : فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا. قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال : فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطراً كأنه الطل - أو قال الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ ] ثم يقال : أخرجوا بعث النار : فيقال : من كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيباً وذلك يوم يكشف عن ساق » وقوله : ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلاّ أصغى ليتا ورفع ليتا الليت هو صفحة العنق أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيداً، فهذه ( نفخة الفزع ) ثم بعد ذلك ( نفخة الصعق ) وهو الموت، ثم بعد ذلك ( نفخة القيام لرب العالمين ) وهو النشور من القبور لجيمع الخلائق، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ٥٢ ].
وقال تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [ الروم : ٢٥ ] وفي حديث الصور : أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج، أرواح المؤمنين نوراً، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها، فتجيء الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ، ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم، قال الله تعالى :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [ المعارج : ٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب ﴾ أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً ﴾
1894
[ الطور : ٩ - ١٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً ﴾ [ طه : ١٠٥ - ١٠٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة ﴿ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي أتقن كل ما خلق وأودع فيه من الحكمة ما أودع، ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذٍ فقال :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾، قال قتادة : بالإخلاص، وقال زين العابدين : هي لاإله إلاّ الله. وقد بين تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها ﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾، كما قال في الآية الأخرى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة ﴾ [ فصلت : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار ﴾ أي من لقي الله مسيئاً لا حسنة له أو قد رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه، ولهذا قال تعالى :﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله ﴿ وَمَن جَآءَ بالسيئة ﴾ يعني بالشرك.
1895
يقول تعالى مخبراً رسوله وآمراً له أن يقول :﴿ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ ﴾ وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها، كما قال تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ [ قريش : ٣ - ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ الذي حَرَّمَهَا ﴾ أي الذي إنما صارت حراماً شرعاً وقدراً يتحريمه لها كما ثبت في « الصحيحين » عن ابن عباس، قال، قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة :« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلاّ من عرفها، ولا يختلى خلاه » الحديث بتمامه. وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ ﴾ من باب عطف العام على الخاص أي هو رب هذه البلدة ورب كل شيء ومليكه لا إله إلاّ هو، ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين ﴾.
Icon