تفسير سورة سورة النمل من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
ﰡ
﴿ تلك آيات القرآن... ﴾ بين الله أن آيات هذه السورة من القرآن المنزل والكتاب المبين : هدى وبشرى للمؤمنين ؛ وعطف الكتاب على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى. ووصف المؤمنين بثلاث صفات جامعة بين خيري الدنيا والآخرة، ثم بين بعدها سوء عاقبة الكافرين.
﴿ زينا لهم أعمالهم ﴾ حببنا إليهم أعمالهم السيئة بما ركبنا فيهم من الشهوات حتى رأوها حسنة وسهلنا عليهم وسائلها ومباديها. ﴿ فهم يعمهون ﴾ أي يعمون عن الرشد، أو هم في تيه الضلال يترددون [ آية ١٥ البقرة ص ١٨ ].
﴿ إذ قال موسى لأهله ﴾ اشتملت هذه السورة على خمس قصص : قصة موسى، وقصة النمل، وقصة بلقيس ، وقصة صالح، وقصة لوط. ثم على خمسة أدلة : على التوحيد وإبطال الشرك، ثم على التنديد بمنكري البعث، ثم على اليوم الآخر وما يصيب المشركين فيه من الهول والعذاب، ثم على الأمر بعبادة الله وحده. ﴿ آنست نارا ﴾ أبصرت من بعد نارا. يقال : آنس الشيء، أبصره وعلمه وأحس به. ﴿ بشهاب قبس ﴾ بشعلة نار مقبوسة ؛ أي مأخوذة من أصلها. والشهاب في الأصل : كل أبيض ذي نور نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس : ما يقبس من النار في رأس عود أو قصبة ونحوها، وهو بدل من " شهاب "، أو صفة له على تأويله بالمقبوس. وقرئ بالإضافة وهي بمعنى من ؛ كما في خاتم فضة. ﴿ لعلكم تصطلون ﴾ رجاء أن تستدفئوا بها من البرد. والاصطلاء : الدنو من النار لتسخين البدن، وهو الدفء. يقال : اصطلى يصطلى، إذا استدفأ ؛ والطاء فيه مبدلة من تاء الافتعال.
﴿ بورك من في النار ومن حولها ﴾ قدس وطهر واختير للرسالة من في مكان النار، وهو موسى عليه السلام ومن حول مكانها، وهم الملائكة الحاضرون. والمكان : هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة " . وهو تحية من الله تعالى لموسى ؛ كما حيا إبراهيم عليهما السلام على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه بقولهم : " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " . وأصل البركة : ثبوت الخير الإلهي في الشيء. والخير هنا : تكليم الله موسى وإرساله وإظهار المعجزات له. والنار : النور ؛ كما روي عن الحبر رضي الله عنه. ﴿ وسبحان الله ﴾ نزه الله نفسه عن كل سوء ونقص ومماثلة للحوادث. وهو من تتمة النداء، وخبر منه تعالى لموسى بالتنزيه ؛ لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر.
﴿ كأنها جان ﴾ أي كأنها في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها : حية صغيرة سريعة الحركة. وقال الطبري : الجان الحية العظيمة. ﴿ ولم يعقب ﴾ أي لم يرجع على عقبه ؛ من عقب المقاتل ؛ إذا كرّ بعد الفرار.
﴿ وأدخل يدك في جيبك ﴾ أي أدخل يدك اليمنى في طوق قميصك – وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر – وضعها تحت عضدك الأيسر ؛ وكان الذي عليه يومئذ مدرعة من صوف ولا كم لها. ﴿ تخرج بيضاء من غير سوء ﴾ أي داء برص [ آية ٢٢ طه ص ١٦ ]. ﴿ في تسع آيات ﴾ أي آية معدودة من جملة تسع آيات [ آية ١٠١ الإسراء ص ٤٦٧ ].
﴿ جاءتهم آياتنا مبصرة ﴾ واضحة بينة. وإسناد الإبصار إلى الآيات مجاز، من الإسناد على السبب. والمبصر حقيقة هم المتأملون فيها، وهم إنما يبصرونها بسبب تأملهم فيها.
﴿ ظلما ﴾ للآيات حيث أنزلوها عن منزلتها الرفيعة وسموها سحرا. ﴿ وعلوا ﴾ أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها.
﴿ علمنا منطق الطير ﴾ فهم ما يريده كل طائر إذا صوت ؛ وهو إحدى معجزاته عليه السلام.
﴿ فهم يوزعون ﴾ أي تحبس أوائلهم وتمنع من السير حتى يلحقهم أواخرهم ؛ فيكونون مجتمعي لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة ؛ من الوزع وهو الكف والمنع. يقال : وزعه عن الظلم وزعا – كوضعه وضعا -، أي كفه عنه فاتزع، أي فانفك. ومنه قولهم : لا بد للناس من وازع ؛ أي سلطان يكفهم. والوازع في الحرب : من يدبر أمور الجيش، ويرد من شذ منهم.
﴿ لا يحطمنكم ﴾ أي لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم جنود سليمان ؛ على حد : لا أرينك ههنا ؛ أي لا تحضر هنا بحيث أراك. والمراد من الحطم : الإهلاك ؛ وأصله كسر الشيء. يقال حطمه يحطمه، كسره ؛ فانحطم وتحطم. وقد علمت النملة أن الآتي هو سليمان بطريق الإلهام ؛ كما علم الضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم معه وشهد له بالرسالة، ونطقت معجزة له عليه السلام.
﴿ وأوزعني أن أشكر نعمتك ﴾ ألهمني شكر نعمتك بالنبوة والملك والعلم ؛ من الوزع وهو الكف والمنع. أي كفّني عما يؤدى إلى كفران النعمة بأن تلهمني ما به تقييدها من الشكر. أو اجعلني أزع شكر نعمتك ؛ أي أكفه وأرتبطه بحيث لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك. وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه. أو رغبني ووفقني إلى شكر نعمتك ؛ من أوزعه بالشيء، أغراه ؛ فأوزع به فهو موزع أي مغرى به.
﴿ بسلطان مبين ﴾ بحجة تبين عذره في غيابه.
﴿ أحطت ﴾ أي بطريق الألهام.
﴿ من سبأ ﴾ هو في الأصل اسم لسبأ بن يشحب بن بعرب بن قحطان. ثم صار اسما لحي من الناس سموا باسم أبيهم. أو اسم للقبيلة. أو لمدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال. وعلى الأول هو اسم مصروف، وعلى الثاني ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
﴿ امرأة تملكهم ﴾ هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان. وكان أبوها ملك اليمن كلها، وكانوا مجبوسا يعبدون الشمس.
﴿ ولها عرش عظيم ﴾ هو سرير الملك المشار إليه في قوله تعالى : " أيكم يأتيني بعرشها " ؟
﴿ ألا يسجدوا لله... ﴾ أي وزين لهم الشيطان أعمالهم لأجل ألا يسجدوا لله عز وجل.
﴿ يخرج الخبء ﴾ يظهر الشيء المخبوء﴿ في السموات والأرض ﴾ كائنا ما كان ؛ من غيث في السماء، ونبات في الأرض، وأسرار في الكائنات، وخواص في الموجودات ؛ يهدي إليها من يشاء من عباده، أفرادا وأمما على تعاقب العصور. والخبء في الأصل : مصدر خبأت الشيء أخبؤه خبأ، أي سترته.
ثم أطلق على الشيء المخبوء ؛ كإطلاق الخلق على المخلوق في قوله تعالى : " هذا خلق الله " .
﴿ يأيها الملأ ﴾ الملأ : أشراف القوم. ﴿ كتاب كريم ﴾ مكرم معظم لكونه مختوما، وفي الأثر : كرامة الكتاب ختمه. وذكرت لهم ما تضمنه.
﴿ وأولوا بأس شديد ﴾ أصحاب نجدة وشجاعة وبلاء في الحرب.
﴿ إذا دخلوا قرية أفسدوها ﴾ أي إذا دخلوها عنوة في حرب خربوها وأتلفوها.
﴿ ارجع إليهم ﴾ أي إلى بلقيس وقومها بما أتيت من الهدية.
﴿ لا قبل لهم بها ﴾ لا قدرة لهم على مقابلتها ومقاومتها. وأصل القبل : المقابلة ؛ فجعل مجازا أو كناية عن القدرة.
﴿ أيكم يأتيني بعرشها ﴾ وكان بين سبأ وبين المقدس – حيث ملك سليمان – مسيرة شهرين ؛ وقد طلب سليمان عليه السلام إحضار عرشها ليريها القدرة الإلهية، وبعض ما خصه الله من العجائب، ويشهدها دلائل النبوة والصدق. ﴿ يأتوني مسلمين ﴾ مستسلمين طائعين. وقد وقع ذلك كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ﴾.
﴿ قال عفريت من الجن ﴾ أي مارد قوي من الشياطين. وقد سخروا لسليمان عليه السلام تسخيرا إلهيا ؛ كما يسخر الإنسان للإنسان. ويقال للشديد إذا كان فيه خبث ودهاء : عفريت وعفر وعفرية
وعفارية.
﴿ قال الذي عنده علم من الكتاب ﴾ هو رجل من صلحاء بني إسرائيل، آتاه الله من لدنه علما : اسمه آصف بن برخيا وكان وزير سليمان عليه السلام. وقيل : هو سليمان نفسه، قال ذلك للعفريت ؛ للدلالة على شرف العلم وفضله، وأن هذه الكرامة كانت بسببه. ﴿ أنا آتيك به... ﴾ تمثيل لسرعة الإتيان له على نحو خارق للعادة في أقل مسافة. ﴿ ليبلوني ﴾ ليختبرني ويمتحنني.
﴿ أأشكر ﴾ نعماءه﴿ أم أكفر ﴾ أترك شكرها.
﴿ قال نكروا لها عرشها ﴾ أي قال سليمان، وقد أتي له بالعرش : غيروه عما كان عليه من الهيئة والشكل، إلى حال تنكره إذا رأته ؛ من التنكير ضد التعريف، هو جعل الشيء بحيث لا يعرف.
﴿ وأوتينا العلم من قبلها... ﴾ هو من كلام سليمان – على الأرجح -، وآخره : " من قوم كافرين " ؛ قاله ثناء على الله تعالى وتحدثا بنعمه. أي أنها وإن هديت إلى العلم بجلال الله وقدرته، وصدق الرسالة والمعجزة وإلى الإسلام ؛ لكنا أوتينا العلم من قبل أن تؤتى هي العلم، وكنا مسلمين من قبل أن تسلم. والجملة معطوفة على مقدر ؛ أي فقد أصابت في الجواب وعرفت الحق، وأوتينا العلم من قبلها.
﴿ ادخلي الصرح ﴾ أي صرح القصر. والصرح : الصحن والساحة. يقال : هذه صرحة الدر ؛ أي ساحتها وعرصتها. وكان قد صنع مستويا أملس، واتخذ بلاطه من زجاج صاف كالبلور، يرى
ما يجري تحته من الماء. ﴿ فلما رأته حسبته لجة ﴾ ظنته ماء غزيرا كالبحر. ﴿ إنه صرح ممرد ﴾ أي مماس ؛ من قولهم : شجرة مرداء، إذا لك يكن عليها ورق. والتمريد في البناء : التمليس والتسوية ؛ ومنه الأمرد لملاسة وجهه ونعومته وجود الشعر به. ﴿ من قوارير ﴾ من زجاج لا يحجب ما وراءه ؛ جمع قارورة.
﴿ ولقد أرسلنا إلى ثمود ﴾ أي إلى القبيلة، وتسمى عادا الثانية. وأما عاد الأولى فهم قوم هود. وبينهما على ما قيل نحو مائة عام.
﴿ قالوا اطيرنا بك ﴾ أي قال الكافرون من قومه لجهلهم : أصابنا الشؤم والنحس بك﴿ وبمن معك ﴾ في دينك ؛ حيث توالت علينا الشدائد منذ جئت بما جئت به. وكان العرب أكثر الناس طيرة ؛ فإذا أراد أحدهم سفرا مثلا زجر طائرا فإذا طار يمنة تيامن، وإذا طار يسرة تشاؤم ؛ فنسبوا الخير والشر إلى الطائر، واستعير لما كان سببا لهما ؛ وهو قدر الله أو عمل العبد الذي هو سبب الرحمة أو النقمة. وفي القرطبي : ولا شيء أضر بالرأي، ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة ؛ ومن ظن أن خوار بقرة، أو نعيب غراب يرد قضاء أو يدفع مقدروا فقد جهل. فلما قالوا ذلك﴿ قال ﴾ لهم صالح﴿ طائركم عند الله ﴾ أي سبب ما يصيبك من الشر قدر الله. أو عملكم السيئ مكتوب عليكم عنده تعالى. ﴿ بل أنتم قوم تفتنون ﴾ تخبرون بتعاقب السراء والضراء ؛ لتنبهوا إلى أن ما ينالكم من حسنة فبفضل الله، وما يصيبكم من سيئة فبشؤم أعمالكم. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.
﴿ وكان في المدينة ﴾ وهي الحجر. ﴿ تسعة رهط ﴾ تسعة أشخاص من رؤسائهم ؛ وهم الذين سعوا في عقر لناقة [ آية ٩٢ هود ص ٣٧٣ ].
﴿ قالوا تقاسموا بالله ﴾ أي قال بعضهم لبعض : احلفوا بالله﴿ لنبيتنه وأهله ﴾ لنأتينه بغتة في الليل فنقتله هو ومن آمن معه ؛ ومن البيات وهو مباغتة العدو ليلا. يقال : بيت القوم العدو، إذا أوقعوا له ليلا. ﴿ ما شهدنا مهلك أهليه ﴾ ما حضنا هلاكهم، أي وهلاكه ؛ مصدر كمرجع، من هلك الثلاثي. وقرئ بضم الميم وفتح اللام ؛ أي إهلاكهم وإهلاكه، من أهلك الرباعي.
﴿ ومكرنا مكرا ﴾ دبرنا لصالح ومن آمن معه تدبيرا محمودا، وهو نجاتهم ومجازاة المتآمرين عليهم من قوهم ؛ بالإهلاك والتدمير على غرة وغفلة.
﴿ أخرجوا آل لوط ﴾ أي لوطا وأهله ؛ كما يراد من يني آدم : آدم وبنوه. أو المراد بآل لوط : من اتبع دينه، ويعلم منه إخراجه بالأولى. ﴿ يتطهرون ﴾ يتنزهون ويتباعدون عن أفعالنا. قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء.
﴿ قدرناها من الغابرين ﴾ قدرنا كونها من الباقين في العذاب [ آية ٨٣ الأعراف ص ٢٦٩ ].
﴿ آ الله خير ﴾ الألف منقلبة عن همزة الاستفهام ؛ أي الله الذي ذكرت شئونه العظيمة خير، أم الذي يشركونه به من الأصنام ! ؟ أو أعبادة الله خير أم عبادة ما يشركونه ؟
﴿ أم من خلق السموات والأرض... ﴾ في هذه الآية والآيات الأربع التالية خمسة أدلة على انفراده تعالى بالخلق والإيجاد، والتصرف والتدبير ؛ فلا إله غيره، ولا يستحق العبادة سواه. وقد عقب كل دليل بقوله : " أإله مع الله " ! أي أغيره يقرن به سبحانه ؟ ويجعل شريكا له في العبادة ؛ مع تفرده تعالى بالخلق والتكوين ؟ ! والإنكار للتوبيخ والتبكيت.
﴿ حدائق ذات بهجة ﴾ بساتين ذات منظر حسن، ورونق يسر الناظرين. جمع حديقة، وهي في الأصل البستان الذي عليه حائط ؛ من أحدق بالشيء : إذا أحاط به، فإن لم يكن محوطا فليس بحديقة ؛ ثم توسع فيها فاستعملت في كل بستان وإن لم يكن محوطا بحائط.
﴿ بل هم قوم يعدلون ﴾ أي يعدلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد، إلى الباطل البين وهو الشرك ؛ من العدول بمعنى الانحراف. أو يساوون بالله تعالى غيره من آلهتهم ؛ من العدل بمعنى المساواة.
﴿ وجعل لها رواسي ﴾ جبالا ثوابت تمسكها من التحرك والاضطراب. ﴿ وجعل بين البحرين حاجزا ﴾ برزخا فاصلا من الأرض بين العذب والملح، حتى لا ينبغي أحدهما على الآخر.
﴿ يرسل الرياح بشرا ﴾ مبشرات بالغيب [ آية ٥٧ الأعراف ص ٢٦٤ ].
﴿ هاتوا برهانكم ﴾ حجتكم على أن معه تعالى إلها آخر، أو أن صانعا يصنع صنعه.
﴿ قل لا يعلم من في السموات... ﴾ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة وألحوا عليه في السؤال ؛ فنزلت الآية. أي لا يعلم أحد ممن في السموات والأرض الغيب إلا الله، أي لكن الله وحده يعلمه، فما لكم تطلبون مني علم الغيب !
﴿ بل إدّارك علمهم في الآخرة ﴾ التدارك : الاضمحلال والفناء. وأصله التتابع والتلاحق. يقال : تدارك بنو فلان، إذا تتابعوا في الهلاك. و " في " بمعنى الباء ؛ أي بل تتابع علمهم في شئون الآخرة التي منها البعث، حتى اضمحل وفني، ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا ؛ مع توافر أسبابه ومباديه من الدلائل. والمراد : أن أسباب علمهم بها مع توافرها قد تساقطت عن درجة اعتبارهم ؛ فأجرى ذلك مجرى تتابعها في الانقطاع. ﴿ بل هم في شك منها ﴾ أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها، فضلا عما سيقع فيها. ﴿ بل هم منها عمون ﴾ عمي عن دلائلها، أو عن كل ما يوصل إلى الحق ومنها هذه الدلائل.
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ وهم منكرو البعث.
﴿ أساطير الأولين ﴾ أباطيلهم التي سطروها في كتبهم.
﴿ عسى أن يكون ردف لكم ﴾ الردف : ما تبع الشيء ولحقه. يقال : ردفت فلانا وردفت له، أي صرت له ردفا ؛ يتعدى بنفسه وباللام، كما في نصحه ونصح له، وشكره وشكر له. أي عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض العذاب الذي تستعجلون حلوله.
﴿ وإذا وقع القول عليهم ﴾ أي دنا وقوع ما نطقت به الآيات الكريمة من مجئ الساعة وأهوالها. ﴿ أخرجنا لهم دابة من الأرض ﴾ في آخر الزمان، وهي من أشراط الساعة الكبرى.
والله أعلم بحقيقتها. والدابة لغة : اسم لما دب من الحيوان، مميزة وغير مميزة. ﴿ تكلمهم ﴾ تخبرهم﴿ أن الناس ﴾ المنكرين للبعث﴿ كانوا بآياتنا ﴾ أي بالآيات المنزلة من عند الله بمجئ الساعة لا محالة﴿ لا يوقنون ﴾ بصدقها ؛ وها هي ذي قد أصبحت بأهوالها منهم قاب قوسين أو أدنى.
﴿ ويوم نحشر من كل أمة فوجا ﴾ بيان لطرف من أهوال يوم القيامة. أي واذكر يوم نجمع من
كل أمة جماعة كثيرة مكذبة بآيتنا، وهم الرؤساء والقادة. وأصل الفوج : الجماعة المارة بسرعة، ثم أطلق على كل جماعة وإن لم يكن مرور ولا إسراع، وجمعه أفواج. ﴿ فهم يوزعون ﴾ [ آية ١٧ من هذه السورة ].
﴿ ويوم ينفخ في الصور ﴾ واذكر هذا اليوم العظيم الشأن. والصور : القرن الذي ينفخ فيه نفخة الصعق والبعث ؛ قال تعالى : " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " . ونحن نؤمن بالصور ونفوض علم حقيقته إلى علام الغيوب. والمراد هنا : النفخة الثانية. والفزع الحاصل فيها : هو الرعب الذي يصيب الناس من مشاهدة الأمور الهائلة في ذلك اليوم.
﴿ وكل أتوه داخرين ﴾ أذلاء صاغرين. يقال : دخر الشخص – كمنع وفرح – دخرا ودخورا، صغر وذل. وأدخرته بالهمز للتعدية. والداخر : الصاغر الراغم.
﴿ مر السحاب ﴾ أي تمر في الجو مر السحب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا.
﴿ فكبت وجوههم في النار ﴾ ألقوا بسبب شركهم في النار على وجوههم منكوسين. يقال : كبه وأكبه، إذا نكسه وقلبه على وجهه. وكبكبوا إذا فعل ذلك بهم مرة بعد أخرى ؛ قال تعالى :﴿ فكبكبوا فيها هم والغاوون ﴾ والله أعلم.