تفسير سورة الرحمن

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الرحمان١ ٢عز وجل وتسمى عروس القرآن٣.
مقصودها الدلالة على ما ختمت به سورة٤ القمر من عظيم الملك وتمام الاقتدار بعموم رحمته وسبقها لغضبه، المدلول عليه بكمال علمه، اللازم عنه شمول قدرته، المدلول عليه بتفصيل عجائب مخلوقاته وبدائع مصنوعاته في أسلوب التذكير بنعمائه. والامتنان بجزيل آلائه، على وجه منتج للعلم بإحاطته بجميع أوصاف الكمال، فمقصودها٥ بالذات إثبات الاتصاف بعموم الرحمة ترغيبا في إنعامه وإحسانه، وترهيبا من انتقامه بقطع مزيد امتنانه، وعلى ذلك دل اسمها الرحمن لأنه العام الامتنان واسمها عروس القرآن واضح البيان في ذلك، لأنها الحاوية لما فيه من حلي وحلل، وجواهر وكلل، والعروس بجميع النعم والجمال، والبهجة من نوعها والكمال ( بسم الله ) الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته ( الرحمن ) الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته واشتهر من عظيم آياته وبيناته ( الرحيم ) الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا به من الذل المفيد للعز بلزوم عباداته.
١ الخامسة والخمسون من سورة القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها (٧٨) عند الكوفيين والشامي و (٧٧) عند المدنيين والمكي (٧٦) عند البصريين كما في نثر المرجان ٧/ ١٣٦..
٢ - سقط ما بين الرقمين من ظ..
٣ - سقط ما بين الرقمين من ظ..
٤ - سقط من ظ..
٥ - من ظ، وفي الأصل: فالمقصود..

ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها، قصر
139
هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين، وذلك من آثار الملك، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة، وصدرها بالاسم الدال على عموم الرحمة براعة للاستهلال، وموازنة لما حصل بالملك والاقتدار من غاية التبرك والظهور والهيبة والرعب باسم هو مع أنه في غاية الغيب دال على أعظم الرجاء مفتتحاً لها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي هز ذوي الهمم العالية في القمر إلى الإقبال عليه بقوله ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ لأنه لما كان للعظمة الدالة عليها نون ﴿يسرنا﴾ التي هي عماد الملك نظران: نظر الكبرياء والجبروت يقتضي أن يتكلم بما يعجز خلقه من كل جهة في الفهم والحفظ والإتيان بمثله وكل معنى من معانيه، ونظر الإكرام والرحمة، وكانت رحمته سابقة لغضبه نظر بها لخلقه لا سيما هذه الأمة المرحومة فيسر لها الذكر تحقيقاً للرحمة بعد أن أبقى من آثار الجبروت الإعجاز عن النظر، ومن الإعجاز من الفهم الحروف المقطعة أوائل السور، ومنع المتعنت من أن يقول: إنه لا معاني لها بأن فهم بعض الأصفياء بعض أسرارها، فقال جواباً لمن كأنه قال: من هذا المليك المقتدر، فقيل: ﴿الرحمان *﴾ أي العام الرحمة، قال ابن برجان: وهو ظاهر اسمه الله، وباطن اسمه الرب، جعل هذه الأسماء الثلاثة في ظهورها
140
مقام الذات يخبر بها عنه وحجاباً بينه وبين خلقه، يوصل بها الخطاب منه إليهم، ثم أسماؤه الظاهرة مبينة لهذه الأسماء الثلاثة - انتهى.
ومن مقتضى اسمه ﴿الرحمن﴾ انبثت جميع النعم، ولذا ذكر في هذه السورة أمهات النعم في الدارين.
ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصال بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال: ﴿علم القرآن *﴾ أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو المسموع الجامع لكل خير، الفارق بين كل لبس، وكان القياس يقتضي أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته، وصفاته في العظم كذاته، وذاته غيب محض، لأن الخلق أحقر من أن يحيطوا به علماً، «وأين الثريا من يد المتناول» فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد ﴿وعلم آدم الاسماء كلها﴾ [البقرة: ٣١] ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن أجل النعم نعمة الدين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة، وهو أعلى مراتب، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها، وفائدتها الإيصال إلى مقعد الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب.
وقال الإمام جعفر بن الزبير: من المعلوم أن الكتاب العزيز
141
وإن كانت آية كلها معجزة باهرة وسورة في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها، وتظاهر بلاغتها وإيجازها: ألا ترى إلى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى ﴿وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي﴾ [هود: ٤٤] وقوله ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾ [الحجر: ٩٤]، الآيات، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم بأنى له بر لوجه وقوعه، وسورة القمر من هذا النمط، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار، ولولا أني لم أقصد التعليق ما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيه، فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات، وظهرت حجة الله على الخلق، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن ووفقه لفهمه واعتباره، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى ﴿الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان﴾ وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعاراً برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أين للعباد بجميل
142
هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال ﴿الرحمن علم القرآن﴾ ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصاً ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط، فاتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيهاً للثقلين وإعذاراً إليهم وتقريراً للجنسين على ما أودع سبحانه في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى: ﴿فبأيّ آلاء ربكما تكذبان﴾ خطاباً للجنسين وإعذاراً للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: كيف علمه وهو صفة من صفاته ولمن علمه، قال مستأنفاً أو معللاً: ﴿خلق الإنسان *﴾ أي قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات وأصله منها ثم عن سائر الناميات ثم عن غيره من الحيوانات، وجعله أصنافاً، وفصل بين كل قوم بلسانهم عمن عداهم وخلقه لهم دليل على خلقه لكل شيء موجود
﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ [القمر: ٤٩] والإنسان وإن كان اسم جنس لكن أحقهم بالإرادة بهذا أولهم وهو آدم عليه السلام، وإرادته - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - لا تمنع إرادة الجنس من حيث هو.
143
ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا بخلقه، قال: ﴿علمه البيان *﴾ وهو القوة الناطقة، وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية والحكم الحاضر والغائب بقياسه على الحاضرة تارة بالتوسم وأخرى بالحساب ومرة بالعيافة والزجر وطوراً بالنظر في الآفاق وغير ذلك من الأمور مع التمييز بين الحسن والقبيح وغير ذلك ما أدعه سبحانه وتعالى له مع تعبيره عما أدركه بما هو غائب في ضميره وإفهامه للغير تارة بالقول وتارة بالفعل نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة على الكمال في نفسه والتكميل لغيره، فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وهذا وإن كان سبحانه جبلنا عليه وخلقناه به قد صار عندنا مألوفاً ومشهوراً معروفاً، فهو عند غيرنا على غير ذلك مما أوضحه لنا سبحانه نعمة علينا بمحاجته لملائكته الكرام عن نبينا آدم عليه الصلاة والسلام وما أبدى لهم من علمه وبهرهم من رسم كل شيء بمعناه واسمه.
ولما بين سبحانه النعمة في تعليم القرآن الذي هو حياة الأرواح، وبين الطريق فيها، دل على البيان بذكر البينات التي يجمعها أمر ويفرقها آخر، ولها مدخل في حياة الأشباح، وعددها على سبيل الامتنان بياناً لأنها من أكبر النعم فقال في جواب من قال: ما بيانه؟ بادئاً بالكوكب الأعظم الذي هو أعظم نوراً وأكبر جرماً وأعم نفعاً ليكون خضوعه
144
لقبول الآثار أدل على خضوع غيره بياناً لحكمته في تدبيره وقوته في تقديره: ﴿الشمس﴾ وهي آية النهار ﴿والقمر﴾ وهو آية الليل اللذان كان بهما البيان الإبراهيمي، ولعله بدأ لهذه الأمة بغاية بيانه عليه الصلاة والسلام تشريفاً لها بالإشارة إلى علو أفهامها ﴿بحسبان *﴾ أي جريهما، يجري كل منهما - مع اشتراكهما في أنهما كوكبان سماويان - بحساب عظيم جداً لا تكاد توصف جلالته في دقته وكثرة سعته وعظم ما يتفرع عليه من المنافع الدينية ولدنيوية، ومن عظم هذا الحساب الذي أفادته صيغة الفعلان أنه على نهج واحد لا يتعداه، تعلم به الأعوام والشهور والأيام والساعات والدقائق والفصول في منازل معلومة، ويعرف موضع كل منهما في الآفاق العلوية وما يحدث له وما يتأثر عنه في الكوائن السفلية بحيث أن به انتظام غالب الأمور السفلية إلى غير ذلك من الأمور التي خلقهما الله عليها ولها، وبين الإنسان وبين كل منهما من المسافات ما لا يعلمه على التحرير إلا العليم الخبير، وهذا على تطاول الأيام والدهور لا يختل ذرة دلالة على أن صانعه قيوم لا يغفل، ثم بعد هذا الحساب المستجد والحساب الأعظم الذي قدر لتكوير الشمس وانكدار القمر دلالة على أنه فاعل بالاختيار مع ما أفاد ذلك من تعاقب الملوين تارة بالاعتدال وتارة بالزيادة وأخرى بالنقص، وغير ذلك من الأمور في لطائف المقدور.
145
ولما كان سيرهما على هذا المنهاج مع ما لهما فيه من الدؤب فيه بالتغير والتنقل طاعة منهما لمدبرهما ومبدعهما ومسيرهما، وكان خضوعهما - وهما النيران الأعظمان - دالاً على خضوع ما دونهما من الكواكب بطريق الأولى، كان ذكرهما مغنياً عن ذكر ما عداهما بخصوصه، فأتبعهما حضور ما هو للأرض كالكواكب للسماء في الزينة والنفع والضر والصغر والكبر والكثرة والقلة من النبات مقدماً صغاره لعموم نفعه وعظيم وقعه بأن من أكثر الأقوات لجميع الحيوان والملابس من القطن والكتان وغير ذلك من عجيب الشأن، معبراً بما يصلح لبقية الكواكب فقال: ﴿والنجم﴾ أي وجميع الكواكب السماوية وكل نبت ارتفع من الأرض ولا ساق له من النبات الأرضية التي هي أصل قوام الإنسان وسائر الحيوان ﴿والشجر﴾ وكل ما له ساق ويتفكه به أو يقتات ﴿يسجدان *﴾ أي يخضعان وينقادان لما يراد منهما ويذلان للانتفاع بهما انقياد الساجد من العقلاء لما أمر به بجريهما لما سخرا له وطاعتهما لما قدرا فيه غير إباء على تجدد الأوقات من نمو في النبات ووقوف واخضرار ويبس وإثمار وعطل، لا يقدر النجم أن يعلو إلى رتبة الشجرة ولا الشجرة أن يسفل إلى وهدة النجم إلى غير ذلك مما صرفنا فيه من سجود الظلال ودوران الجبال
146
والمثال مما يدل على وحدانية الصانع وفعله بالاختيار، ونفي الطبائع، ومن تسيير في الكواكب وتدبير في المنافع في الحر والبرد اللذين جعل سبحانه بهما الاعتدال في النبات من الفواكهة والأقوات، وغير ذلك من وجود الانتفاعات.
ولما كان تغير ما تقدم من الشمس والقمر والنجم والشجر يدل دلالة واضحة على أنه سبحانه هو المؤثر فيه، وكانت السماء والأرض ثابتتين على حالة واحدة، فكان ربما أشكل أمرهما كما ضل فيهما خلق من أهل الوحدة أهل الجمود والاغترار والوقوف مع الشاهد وغيرهم، وكان إذا ثبت أنه تعالى المؤثر فيهما، فلذلك قال مسنداً التأثير فيهما إليه بعد أن أعرى ما قبلهما من مثله لما أغنى عنه من الدلالة بالتغير والسير والتنقل عطفاً على ما تقديره: وهو الذي دبر ذلك: ﴿والسماء رفعها﴾ أي حساً بعد أن كانت ملتصقة بالأرض ففتقها منها وأعلاها عنها بما يشهد لذلك من العقل عند كل من له تأمل في أن كل جسم ثقيل ما رفعه عما تحته إلا رافع، ولا رافع لهذه إلا الله فإنه لا يقدر على التأثير غيره، ولعظمها قدمها على الفعل تنبيهاً على التفكر فيما فيها من جلالة الصنائع وأنواع البدائع، ومعنى بأنه جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه.
ولما كانت السماء مع علوها الدال على عزة موجدها ومدبرها
147
دالة على عدله باعتدال جميع أحوالها من الحر والبرد والمطر والثلج والندى والطل وغير ذلك في أن كل فصل منها معادل لضده وأنها لا ينزلها سبحانه إلا بقدر معلوم، وإلا لفسدت الأرض كلها، ودلنا على أنه شرع لنا مثل ذلك العدل لتقوم أحوالنا وتصلح أقوالنا وأفعالنا بما قامت به السماوات والأرض فقال: ﴿ووضع الميزان *﴾ أي العدل الذي بدر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا.
ولما ذكر أولاً القرآن الذي هو ميزان المعلومات، ودل على رحمانيته بأنواع من البيان، الذي رقي به الإنسان فصار أهلاً للفهم، وذكره نعمة الميزان للمحسوسات، أقبل بالخطاب عليه لافتاً له عن أسلوب الغيبة تنشيطاً له إلى ارتقاء مراتب الكمال بحسن الامتثال معللاً فقال: ﴿أن﴾ أي لأن ﴿لا تطغوا﴾ أي لا تتجاوزا الحدود ﴿في الميزان *﴾ أي الأشياء الموزونة من الموزونات المعروفة والعلم والعمل المقدر أحدهما بالآخر، وفي مساواة الظاهر والباطن والقول والفعل، فالميزان الثاني عام لميزان المعلومات وميزان المحسوسات.
ولما كان التقدير: فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي، عطف عليه قوله: ﴿وأقيموا الوزن*﴾ أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء ﴿بالقسط﴾.
ولما كان المراد العدل العظيم، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن
148
الضد فقال: ﴿ولا تخسروا الميزان *﴾ أي توقعوا في شيء من آلة العدل التي يقدر بها الأشياء من الذرع والوزن والعدل والكيل ونحو - نوعاً من أنواع الخسر - بما دل عليه تجريد الفعل فتخسروا ميزان أعمالكم وجزائكم يوم القيامة، وقد علم بتكرير الميزان ما أريد من التأكيد في الأمر به لما له من الضخامة سواء كان بمعنى واحد أو بمعان مختلفة.
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدة العناية والاهتمام به فقال: ﴿والأرض﴾ أي ووضع الأرض: ثم فسر ناصبها ليكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدة ما فيه من الحكم فقال: ﴿وضعها﴾ أي دحاها وبسطها على الماء ﴿للأنام *﴾ أي كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت بعد أن وضع لهم الميزان الذي لا تقوم الأرض إلا به.
149
ولما كان في سياق بيان الرحمة بمزيد الإنعام، وكان إقامة البينة أعظم نعمة، وكانت الفواكه ألذ ما يكون، وكانت برقتها وشدة لطافتها منافية للأرض في يبسها وكثافتها، فكان كونها فيها عجباً دالاً على عظيم قدرته، وكان ذكرها يدل على ما تقدمها من النعم من جميع الأقوات،
149
بدأ بها ليصير ما يتقدمها كالمذكور مرتين، فقال مستأنفاً وصفها بما هو أعم: ﴿فيها فاكهة﴾ أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان، والطعوم والمنافع - وغير ذلك من بديع الشأن.
ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها، نبه عليه بتعريف بنوع منها، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال: ﴿والنخل﴾ ودل على تمام القدرة بقوله: ﴿ذات﴾ أي صاحبة ﴿الأكمام *﴾ أي أوعية ثمرها، وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، وكل نبت يخرج ما هو مكمم فهو ذو كمام، ولكنه مشهور في النخل لشرفه وشهرته عندهم، قال البغوي: وكل ما ستر شيئاً فهو كم وكمة، ومنه كم القميص، وفيه تذكير بثمر الجنة الذي ينفتق عن نباهم، وذكر أصل النخل دون ثمره للتنبيه عن كثرة منافعه من الليف والسعف والجريد والجذوع وغيرها من المنافع التي الثمر منها.
ولما ذكر ما يقتات من الفواكه وهو في غاية الطول، أتبعه الأصل في الاقتيات للناس والبهائم وهو بمكان من القصر، فقال ذاكراً ثمرته لأنها المقصودة بالذات: ﴿والحب﴾ أي من الحنطة وغيرها، ونبه على
150
تمام القدرة بعد تنبيه بتمايز هذه المذكورات مع أن أصل الكل الماء بقوله: ﴿ذو العصف﴾ أي الورق والبقل الذي إذا زال عنه ثقل الحب كان مما تعصفه الرياح التي تطيره، وهو التبن الذي هو من قوت البهائم.
ولما كان الريحان يطلق على كل نبت طيب الرائحة خصوصاً، وعلى كل نبت عموماً، أتبعه به ليعم ويخص جميع ما ذكر من سائر النبات وغيره على وجه مذكر بنعمه بغذاء الأرواح بعد ما ذكر غذاء الأشباح فقال: ﴿والريحان *﴾ ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بانكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله ﴿الأنام﴾ قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها: ﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم عطايا ﴿ربكما﴾ أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على
151
وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته ﴿تكذبان *﴾ فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس، وأن لهم من ذلك ما لهم، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه.
152
. نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه، وكلما ذكر بفرد منه قيل له: لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح، وإن كانت نقمة فالنعمة دفعها أو تأخير الإيقاع بها، ولما تقدم من أن كل تذكير بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضروبة في الجهات الستّ على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك، فإن كل كلمة منها - إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف - خمسة أحرف أن اعتبرت هجاء الأولين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي أسقطت ألفها، فإن في إثباتها وحذفها اختلافاً بين أئمة المصاحف، وهي إشارة إلى الجهات التي يملك الإنسان التصرف فيها، أما الحواس فلا اختيار له فيها، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم
153
أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جداً، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست، وذلك في الحقيقة فائدة، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب يوجب التكرير عند التقرير، ويبلغ به النهاية في حسن التأثير، وزاد العدد على مسطح الخمس في الست واحد إشارة إلى أن نعم الواحدة لا انقطاع لها، ولذلك فصلت إلى ثمان ذكرت أولاً عقب النعم، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الأبواب الثمانية إن شكرت، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سببيتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية، وثمانية أخرى عقب الجنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم، وكان ترتيبها في غاية الحسن، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح، وبدأ
154
بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام، فكأنه قيل: أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان.
ولما كان قد تقدم في إشارة الخطاب الامتنان بخلق الإنسان، ثم ذكر أصول النعم عليه على وجه بديع الشأن، إلى أن ذكر غذاء روحه: الريحان، أتبع ذلك تفصيلاً لما أجمل فقال: ﴿خلق الإنسان﴾ أي أصل هذا النوع الذي هو من جملة الأنام الذي خلقنا الريحان لهم والغالب عليه الأنس بنفسه وبما ألفه.
ولما كان أغلب عناصره التراب وإن كان من العناصر الأربعة، عبر عن إشارة به إلى مطابقة اسمه - بما فيه مما يقتضي الأنس الذي حاصله الثبات على حالة واحدة - لمسماه الذي أغلبه التراب لنقله وثباته ما لم يحركه محرك، وعبر عن ذلك بما هو في غاية البعد عن قابلية البيان فقال: ﴿من صلصال﴾ أي طين يابس له صوت إذا نقر عليه ﴿كالفخار *﴾ أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار لأنه أخذه من التراب ثم خلطه بالماء حتى صار طيناً ثم تركه حتى صار حماء مسنوناً مبيناً، ثم صوره كما يصور الإبريق وغيره من الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر عليه صوت صوتاً يعلم منه هل
155
فيه عيب أم لا، كما أن الآدمي بكلامه يعرف حاله وغاية أمره ومآله، فالمذكور هنا غاية تخليقه وهو أنسب بالرحمانية، وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة إنشاؤه، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم، فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه.
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة، وأغلبها في جبلته النار، قال تعالى: ﴿وخلق الجانّ﴾ أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم، وهو اسم جمع للجن. ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال: ﴿من مارج﴾ أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جداً والاختلاط، قال البغوي: وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقال القشيري، هو اللهب المختلط بسواد النار - انتهى. ومرجت نارهم - أي اختلطت - ببرد الزمهرير. ولما كان المارج عاماً في النار وغيرها، بينه بقوله: ﴿من نار *﴾ هي أغلب من عناصر، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار، وليس عندهم مروج ولا اضطراب، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره
156
لئلا يتعدى طوره.
ولما كان خلق هذين القبيلين على هذين الوجهين اللذين هما في غاية التنافي مستوراً أحدهما عن الآخر مع منع كل من التسلط على الآخر إلا نادراً، إظهاراً لعظيم قدرته وباهر حكمته من أعظم النعم، قال مسبباً عنه: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم الملوكية الناشئة عن مبدعكما ومربيكما وسيدكما ﴿تكذبان *﴾ أي بنعمة البصر من جهة الوراء وغيرها من خلقكم على هذا النمط الغريب، وإيداعكم ما أودعكم من القوى، وجعلكم خلاصة مخلوقاته، ومن منع أحد قبيليكم عن الآخر، وتيسيره لكم الأرزاق والمنافع، وحملكم على الحنيفية السمحة، وقدرته على إعادتكم كما قدر على ابتدائكم.
ولما ذكر سبحانه هذين الجنسين اللذين أحدهما ظاهر والآخر مستتر، إرشاداً إلى التأمل فيما فيهما من الدلالة على كمال قدرته، فكانا محتاجين إلى ما هما فيه من المحل، وكان صلاحه مما دبر سبحانه فيه من منازل الشروق الذي هو سبب الأنوار والظهور، والغروب الذي هو منشأ الظلمة والخفاء، أتبعه قوله منبهاً على النظر في بديع صنعه الدال على توحيده: ﴿رب﴾ أي هو خالق ومدير ﴿المشرقين﴾ ومدبرهما على كيفية لا يقدر على شيء منها غيره ﴿ورب المغربين *﴾ كذلك، وهذه المشارق والمغارب هي ما للشتاء من البروج، السافلة الجنوبية التي
157
هي سبب الأمطار والثلوج، التي هي سبب الحياة والظهور، حال كون الشمس منحدرة في آفاق السماء، وما للصيف من البروج العالية في جهة الشمال التي هي سبب التهشم والأفول والشمس مصعدة في جو السماء، وما بينهما من الربيع الذي هو للنمو، والخريف الذي هو للذبول، فهي آية الإيجاد والإعدام، فأول المشارق الصيف وقت استواء الليل والنهار عند حلول الشمس بأول البروج الشمالية صاعدة وهو الكبش، يعتدل الزمان حينئذ بقطعها الجنوبية واستقبالها الشمالية، ثم آخر مشارقه إذا كانت الشمس في آخر الشمالية وأول الجنوبية عند حلولها برأس الميزان يعتدل الزمان ثانياً لاستقبالها البروج الجنوبية، ثم بحلولها بآخر القوس ورأس الجدي يكون الانتهاء في قصر الأيام وطول الليالي لتوسطها البروج الجنوبية، ثم بحلولها كذلك عند خروجها من برج التوأمين إلى السرطان من بروج الشمال، وهي آخر درجات الشمس، يكون طول الأيام وقصر الليالي، فيختلف على هذين الفصلين الحر والبرد، وكون الشمس في أول برج الحمل هو بمثابة طلوعها من المشرق في أول كل نهار، وكونها في الاعتدال الثاني عند استقبالها البروج الجنوبية إذا حلت برأس الميزان هو بمثابة غروبها، ثم بكونها في الانتهائين في طول الأيام حين حلولها برج السرطان هو بمنزلة استوائها في الصيف في كبد السماء كما أن حلولها برأس الجدي عند الانتهاء في الشتاء في قصر الأيام وطول الليالي هو بمثابة استوائها فيما يقابل
158
استواءها في الشتاء في كبد السماء في النهار - ذكر ذلك ابن برجان وقال بعد ذلك: سخر سبحانه لعباده جهنم - أي بواسطة الشمس - وهي أعدى عدو لهم، فأخرج لهما بواسطتها الزرع والزيتون والرمان والنخيل والأعناب والجنان المعروشات وغير المعروشات ومن كل الثمرات.
ولما كان في هذا من النعم ما لا يحصى، قال مسبباً: ﴿فبأيَّ آلاء ربكما﴾ الذي دبر لكم هذا التدبير العظيم ﴿تكذبان *﴾ أي بنعمة البصر من جهة اليمين أو غيرها من تسخير الشمس والقمر دائبين دائرين لإدارة الزمان وتجديد الأيام، وعدد الشهور والأعوام، واعتدال الهواء واختلاف الأحوال على الوجه الملائم لمصالح الدنيا ومعايشها على منهاج محفوظ وقانون لا يزيغ.
ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار، فأغرقت البراري والقفار، وعلت على الأمصار وجميع الأقطار، فقال: ﴿مرج﴾ أي أرسل الرحمن ﴿البحرين﴾ أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين، من طبعهما الاضطراب، حال كونهما ﴿يلتقيان *﴾ أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها، فجعل الحلو آية دالة
159
على مياه الجنة، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه، بل يحرق بطنه ويعييه، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه.
160
ولما كان التقاء المايعين ولا سيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى، فتشوفت النفس إلى المانع من مثل ذلك في البحرين، قال مستأنفاً: ﴿بينهما برزخ﴾ أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط، وقال ابن برجان: البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان.
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال: ﴿لا يبغيان *﴾ أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام،
160
ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء.
ولما كان هذا أمراً باهراً دالاً دلالة ظاهرة على تمام قدرته لا سيما على الآخرة، قال مسبباً عنه: ﴿فبأيَّ آلاء ربكما﴾ أي الموجد لكما والمربي ﴿تكذبان *﴾ أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أو غيره، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعاً في جميع الأكوان.
ولما ذكر المنة بالبحر ذكر النعمة بما ينبت فيه كما فعل بالبر، فقال معبراً بالمبني للمفعول لأن كلاً من وجوده فيه والتسليط على إخراجه منه خارق من غير نظر إلى مخرج معين، والنعمة نفس الخروج، ولذلك قرأ غير نافع والبصريين بالبناء للفاعل من الخروج: ﴿يخرج منهما﴾ أي بمخالطة العذب الملح من غير واسطة أو بواسطة السحاب، فصار ذلك
161
كالذكر والأنثى، قال الرازي: فيكون العذب العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة مولاه رضي الله عنه: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر - انتهى.
فتكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي، والدليل على أنه من ماء المطر كما قال الأستاذ حمزة الكرماني: إن من المشهور أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان، وقلت الأصداف والجواهر - انتهى. ثم لا شك في أنهما وإن كانا بحرين فقد جمعها وصف واحد بكونهما ماء، فيسوغ إسناد الخروج إليهما كما يسند خروج الإنسان إلى جميع البلد، وإنما خرج من دار منها كما نسب الرسل إلى الجن والإنس بجمعهما في خطاب واحد فقال: ﴿رسل منكم﴾ [الأنعام: ١٣٠] وكذا ﴿وجعل القمر فيهن نوراً﴾ [نوح: ١٦] ومثله كثير ﴿اللؤلؤ﴾ وهو الدر الذي هو في غاية البياض والإشراق والصفاء ﴿والمرجان *﴾ أي القضبان الحمر التي هي في غاية الحمرة، فسبحان من غاير بينهما في اللون والمنافع والكون - نقل هذا القول ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: وهذا هو المشهور الاستعمال - انتهى، وقال جمع كثير: إن اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره.
ولما كان ذلك من جليل النعم، سبب عنه قوله: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾
162
أي المالك لكما الذي هو الملك الأعظم ﴿تكذبان *﴾ مع هذه الصنائع العظمى، أبنعمة البصر من جهة الفوق أو غير ذلك من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها وإخراج الحلي الغريبة وغيرها.
ولما كان قد ذكر الخارج منه بماء السماء، ذكر السائر عليه بالهواء، وأشار بتقديم الجار إلى أن السائر في الفلك لا تصريف له، وإن ظهر له تصريف فهو لضعفه كلا تصريف، فقال: ﴿وله﴾ أي لا لغيره، فلا تغتروا بالأسباب الظاهرة فتقوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها كما وقف أهل الاغترار بالشاهد، الذين أجمد أهل الأرض أذهاناً وأحقرهم شأناً فقالوا بالاتحاد والوحدة ﴿الجوار﴾ أي السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة. ولما كانت حياة كل شيء كونه على صفة كماله، وكانت السفن تبنى من خشب مجمع وتوصل حتى تصير على هيئة تقبل المنافع الجمة، وكانت تربى بذلك الجمع كما تربى النبات والحيوان، وكانت ترتفع على البحر ويرفع شراعها وتحدث في البحر بعد أن كانت مستترة بجبال الأمواج قال تعالى: ﴿المنشآت﴾ من نشأ - إذا وربا، والسحابة: ارتفعت، وأصل الناشئ كل ما حدث بالليل وبدأ، ومعنى قراءة حمزة وأبي بكر بكسر الشين أنها رافعة شراعها بسبب استمساكها عن الرسوب ومنشئة للسير، ومعنى قراءة الباقين أنه أنشأها الصانع وأرسلها ورفع شراعها.
163
ولما كانت مع كونها عالية على الماء منغمسة فيه مع أنه ليس لها من نفسها إلا الرسوب والغوص قال: ﴿في البحر﴾ ولما كانت ترى على البعد كالجبال على وجه الماء قال: ﴿كالأعلام *﴾ أي كالجبال الطوال.
ولما كان ما فيها من المنافع بالتكسب من البحر بالصيد وغيره والتوصل إلى البلاد الشاسعة للفوائد الهائلة، وكانت أعمالهم في البحر الإخلاص الذي يلزم منها الإخلاص في البر، لأنهما بالنسبة إلى إبداعه لهما وقدرته على التصرف فيهما بكل ما يريده على حد سواء، سبب عن ذلك قوله: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعمة العظمى ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة البصر من تحتكم أو غيرها من الأسفار، في محل الأخطار، والإنجاء عند الاضطراب والريح في محل الخسار، والإرشاد إلى ذلك بعد خلق مواد السفن وتعليم صنعتها وتسخيرها والفلك لعدصي لوهما (؟) بمثابة جميع الكون، فخدامها كالملائكة في إقامة الملكوت وتحسين تماسكه بإذن ربهم، والمسافرون بها الذين أنشئت لأجلهم وزان المأمورين المكلفين المتهيئين الذين من أجلهم خلقت السماوات والأرض وما بينهما فعبر بهم من غربتهم إلى قرارهم، ومن غيبتهم إلى حضورهم ومشاهدهم، ومدبرها أمرها في أعلاها يأمرهم بأمره فيعدونه ويسمعون له، ثم قد يصرف الاعتبار إلى أن تكون آية على قطع المؤمن أيام الدنيا فالدنيا هي البحر، والسفينة جسمه، وباطن العبد هو المحمول فيها، العقل صاحب سياستها، والقوى خدمتها، وأمر الله وتدبيره محيط بها، والإيمان أمنتها، والتوفيق
164
ريحها، والذكر شراعها، والرسول سائقها بما جاء به من عند ربه، والعمل الطيب يصلح شأنها - ذكر ذلك ابن برجان.
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان والمعاني، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي أسس عليها المركبات، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر، وكان راكبه في حكم العدم، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب ﴿من﴾ للدلالة على التصريح تهويلاً بفتاء العاقل على فناء غير العاقل بطريق الأولى: ﴿كل من عليها﴾ أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً ﴿فان *﴾ أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى إليه، وليس لذل كله من ذاته إلا العدم، فهو فان بهذا الاعتبار، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين ذلك يتعاوره الإيجاد والإفناء في حين من أحواله وأعراضه وقواه، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته.
165
ولما كان الوجه أشرف ما في الوجود، وكان يعبر به عما أريد به صاحب الوجه مع أنه لا يتصور بقاء الوجه صاحبه، فكان
165
التعبير به عن حقيقة ذلك الشيء أعظم وأدل على الكمال، وكان من المقرر عند أهل الشرع أنه سبحانه ليس كمثله شيء فلا يتوهم أحد منهم من التعبير به نقصاً قال: ﴿ويبقى﴾ أي بعد فناء الكل، بقاء مستمراً إلى ما لا نهاية له ﴿وجه ربك﴾ أي المربي لك بالرسالة والترقية بهذا الوحي إلى ما لا يحد من المعارف، وكل عمل أريد به وجهه سبحانه وتعالى خالصاً. ولما ذكر مباينته للمخلوقات، وصفه بالإحاطة الكاملة بالنزاهة والحمد، وقال واصفاً الوجه لأن المراد به الذات الذي هو أشرفها معبراً به ولأنها أبلغ من «صاحب» وبما ينبه على التنزيه عما ربما توهمه من ذكر الوجه بليد جامد مع المحسوسات يقيس الغائب - الذي لا يعتريه حاجة ولا يلم بجنابه الأقدس نقص - بالشاهد الذي كله نقص وحاجة ﴿ذو الجلال﴾ أي العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ﴿والإكرام *﴾ أي الإحسان العام وهو صفة فعله.
ولما كان الموت نفسه فيه نعم لا تنكر، وكان موت ناس نعمة على ناس، مع ما ختم به الآية من وصفه بالإنعام قال: ﴿فبأيّ آلاء ربكما﴾ أي المربي لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ﴿تكذبان *﴾ أي أيها الثقلان الإنس والجان، أبنعمة السمع من جهة الأمام أو غيرها من إيجاد الخلق ثم إعدامهم وتخليف بعضهم في أثر بعض
166
وإيراث البعض ما في يد البعض - ونحو ذلك من أمور لا يدركها على جهتها إلا الله تعالى.
ولما كان أدل دليل على العدم الحاجة، وعلى دوام الوجود الغنى، قال دليلاً على ما قبله: ﴿يسئله﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار ﴿من في السماوات﴾ أي كلهم ﴿والأرض﴾ أي كلهم من ناطق أو صامت بلسان الحال أو القال أو بهما، ولما كان كأنه قيل: فماذا يفعل عند السؤال، وكان أقل الأوقات المحدودة المحسوسة ﴿اليوم﴾ عبر به عن أقل الزمان كما عبر به عن أخف الموزونات بالذرة فقال مجيباً لذلك: ﴿كل يوم﴾ أي وقت من الأوقات من يوم السبت وعلى اليهود لعنة الله وغضبه حيث قالوا في السبت ما هو مناف لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب﴾ [ق: ٣٨] ﴿ولا يؤده حفظهما هو العلي العظيم﴾ [البقرة: ٢٥٥] ﴿هو في شأن﴾ أي من إحداث أعيان وتجديد معان أو إعدام ذلك، قال القشيري: في فنون أقسام المخلوقات وما يجريه عليها من اختلفا الصفات - انتهى.
وهو شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها تتعلق قدرته على وفق إرادته على ما تعلق به العلم في الأزل أنه يكون أو يعدم في أوقاته، فكل شيء قانت له خاضع لديه ساجد لعظمته شاهد لقدرته دالّ عليه ﴿وإن من شيء إلا يسبح يحمده﴾ وذلك التعبير - مع أنه من أجل النعم - أدل دليل على
167
صفات الكمال له وصفات النقص للمتغيرات وأنها عدم في نفسها ولأنها نعم قال: ﴿فبأيّ آلاء ربكما﴾ أي المربي لكما بهذا التدبير العظيم لكل ما يصلحكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة السمع من جهة الخلف أو غيرها من تصريفه إياكم فيما خلقكم له هو أعلم به منكم من معايشكم وجميع تقلباتكم، وقد تكررت في هذه الآية المقررة على النعم من أولها إلى هنا ثماني مرات عقب النعم إشارة - والله أعلم - إلى أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى لأنها تزيد على السبعة التي هي العدد التام الواحد هو مبدأ لدور جديد من العدد إشارة إلى أنه كلما انقضى منها دور ابتدأ دور آخر، ووجه آخر وهو أن الأخيرة صرح فيها ب ﴿من في السماوات والأرض﴾ والسبع التي قبلها يختص بأهل الأرض إشارة إلى أن أمهات النعم سبع كالسماوات والأرض والكواكب السيارة ونحو ذلك.
ولما انقضى عد النعم العظام على وجه هو في غاية الإمكان من البيان، وكان تغير سائر الممكنات من النبات والجماد والملائكة والسماوات والأرض وما حوتا مما عدا الثقلين على نظام واحد لا تفاوت فيه، وأما الثقلان فأحوالهما لأجل تنازع العقل والشهوات لا تكاد تنضبط، بل تغير حال الواحد منهم في اللحظة الواحد إلى ألوان كثيرة متضادة لما فيهم من المكر وأحوال المغالبة والبغي والاستئثار
168
باللهو بالأمر والنهي، وكان أكثرهم يموت بناره من غير أخذ ثأره، واقتضت الحكمة ولا بد أنه لا بد لهم من يوم يجتمعون فيه يكون بينهما فيه الفصل على ميزان العدل، خصهما بالذكر فقال آتياً في النهاية بالوعيد لأنه ليس للعصاة بعد الإنعام والبيان إلا التهديد الشديد للرجوع إلى طاعة الملك الديان، والالتفات في قراءة الجماعة بالنون إلى التكلم أشد تهديداً من قراءة حمزة والكسائي بالتحتية على نسق ما مضى: ﴿سنفرغ﴾ أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت ﴿لكم﴾ أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم: ﴿أيّه الثقلان *﴾ بالنصفة، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان بالذات من الخلائق، وقال الرازي في اللوامع: وصفاً بذلك يعظم ذلك شأنهما، كأن ما عداهما لا وزن له بالإضافة إليهما - انتهى.
وهذا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي» وقال جعفر الصادق: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالذنوب.
169
ولما كان هذا من أجلّ النعم التي يدور عليها العباد، ويصلح بها البلاد، وتقوم بها السماوات والأرض، لأن مطلق التهديد يحصل به انزجار النفس عما لها من الانتشار فيما يضر ولا ينفع، فكيف بالتهديد بيوم الفصل قال: ﴿فبأيّ آلاء ربكما﴾ أي المحسن إليكما بهذا الصنع المحكم ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة السمع عن اليمين أو بغيرها من إثابة أمل طاعته وعقوبة أمل معصيته، وسمى ابن برجان هذا الإخبار الذي لا نون جمع فيه خطاب القبض يخبر فيه عن موجوداته وما هو خالقه، قال: وذلك إخبار منه عن محض الوحدانية، وما قبله من ﴿سنفرغ﴾ ونحوه وما فيه نون الجمع إخبار عن وصف ملكوته وجنوده وهو خطاب البسط.
ولما كان التهديد بالفراغ ربما أوهم أنهم الآن معجوز عنهم أو عن بعض أمرهم، بين بخطاب القبض المظهر لمحض الواحدانية أنهم في القبضة، لا فعل لأحد منهم بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بياناً للمراد بالثقلين: ﴿يا معشر﴾ أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق ﴿الجن﴾ قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء ﴿والإنس﴾ أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع.
ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية، جمع دلالة على كثرتهم فقال:
170
﴿إن استطعتم﴾ أي إن وجدت لكم طاعة الكون في ﴿أن تنفذوا﴾ أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم ﴿من أقطار﴾ أي نواحي ﴿السماوات والأرض﴾ التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم، أو عصيان عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك ﴿فانفذوا﴾ وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق.
ولما كان نفوذهم في حد ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولا سيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف، أشار إليه بقوله مستأنفاً: ﴿لا تنفذون﴾ أي من شيء من ذلك ﴿إلا بسلطان﴾ إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك، قال البغوي: وفي الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا معشر الجن الآية.
انتهى، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة لا أنه خاص بهم.
171
ولما كان هذا نظرهم فيما بينهم وبين بقية الحيوانات بما أعطاهم من القوى الحسية والمعنوية وما نصب لهم، المصاعد العقلية والمعارض النقلية التي ينفذون بها إلى غاية الكائنات ويتخللون بما يؤديهم إليه علمها إلى أعلى المخلوقات، ثم نظرهم فيما بين الحيوانات وبين النباتات ثم بينها وبين الجمادات دالاًّ دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء من يشاء، فلو أراد قواهم على النفوذ منها، ولو قواهم على ذلك لكان من أجل النعم، وأنه سبحانه قادر على ما يريد منهم، فلو شاء أهلكهم ولكنه يؤخرهم إلى آجالهم حلماً منه وعفواً منه عنهم، سبب عن ذلك قوله: ﴿فبأيّ آلاء ربكما﴾ أي المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على كل ما يريد ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة السمع من جهة اليسار أو غيرها من جعلكم سواء في أنكم لا تقدرون على مخالفة مراده سواء ابتدأ بخلقكم أو اليوم المشهود وقد أشهدكم قبل على أنفسكم وعهد إليكم أو بتكشيط السماوات وقد شاهدتم تكشيط السحاب بعد بسطه أو بالجزاء وقد رأيتم الجزاء العاجل وشاهدتم ما أصاب الأمم الماضية.
172
ولما سلب عنهم القدرة على النفوذ المذكور تنبيهاً على سلب جميع القدرة عنهم وعلى أن ما يقدرون عليه إنما هو بتقديره لهم نعمة منه عليهم، ولما كان منهم من بلغ الغاية في قسوة القلب وجمود الفكر
172
فهو يحيل العجز عن بعض الأمور إلى أنه لم يجر بذلك عادة، لا إلى أنه سبحانه المانع من ذلك، فعمهم شيء من ذلك سطوته فقال ﴿يرسل عليكما﴾ أي أيها المعاندون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين تخرجون من القبور بسوقكم إلى المحشر ﴿شواظ﴾ أي لهب عظيم منتشر مع التضايق محيط بكم من كل جانب له صوت شديد كهيئته ذي الخلق الضيق الشديد النفس.
ولما كان الشواظ يطلق على اللهب الذي لا دخان فيه وعلى دخان النار وحرها وعلى غير ذلك، بينه بقوله: ﴿من نار ونحاس﴾ أي دخان هو في غاية الفظاعة فيه شرر متطاير وقطر مذاب، قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها - انتهى. وجرها أبو عمرو وابن كثير عطفاً على ﴿نار﴾ ورفعه الباقون عطفاً على ﴿شواظ﴾.
ولما كان ذلك ممكناً عقلاً وعادة، وكانوا عارفين بأنهم لو وقعوا في مثل ذلك لم يتخلصوا منه بوجه، سبب عنه قوله: ﴿فلا تنصران *﴾ قال ابن برجان: هذا مصداق قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يخرج عنق من نار فيقول بكل جبار عنيد فيلتقطهم من بين الجمع لقط الحمام حب السمسم، ويغشي المجرمين دخان جهنم من بين المؤمنين ولا يضرهم، وآية الشواظ
173
وعنق النار هنالك صواعق ما هنا وبروقه والنار المعهودة».
ولما كان التهديد بهذا لطفاً بهم فهو نعمة عليهم والعفو عن المعالجة بإرسالة لذلك، سبب عنه قوله: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي المربي لكما بدفع البلايا وجلب المنافع ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة السمع من فوق أو غيرها، ألم يكن لكم فيما شهدتموه في الدنيا من دلائل ذلك وآياته ما يوجب لكم الإيمان. ولما كان هذا مما لم تجر عادة بعمومه وإن استطردت بجريانه منه في أشياء منه في أماكن متفرقة كأشخاص كثيرة، بين لهم وقته بقوله: ﴿فإذا﴾ أي فيتسبب عن هذا الإرسال إنه إذا ﴿انشقت السماء﴾ من هوله وعظمته فكانت أبواباً لنزول الملائكة وغيرهم، وغير ذلك من آيات الله ﴿فكانت﴾ لما يصيبها من الحر ﴿وردة﴾ أي حمراء مشرقة من شدة لهيبه، وقال البغوي: كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى حمرة وصفرة. ﴿كالدهان﴾ أي ذائبة صافية كالشيء الذي يدهن به أو كالأديم الأحمر والمكان الزلق، وآية ذلك في الدنيا الشفقان عند الطلوع وعند الغروب، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف تقديره: علمتم ذلك علماً شهودياً أو فما أعظم الهول حينئذ ونحو ذا أن يكون الجواب شيئاً دلت عليه الآيات الآتية نحو: فلا يسأل أحد إذ ذاك عن ذنبه، وحذفه أفخم ليذهب الوهم فيه كل مذهب.
174
ولما كان حفظ السماء عن مثل ذلك بتأخير إرسال هذا وغيره من الأسباب وجعلها محل الروح والحياة والرزق من أعظم الفواضل قال مسبباً عنه: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي المربي لكما هذا التدبير المتقن ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة السمع من تحت أو غيرها وليس شيء بما أخبرتكم به من أحوال الآخرة إلا قد أقمت لكم في الدنيا ما تهتدون به إلى العلم بكونه. ولما كان يوم القيامة ذا ألوان كثيرة ومواقف مهولة طويلة شهيرة تكون في كل منها شؤون عظيمة وأمور كبيرة، ذكر بعض ما سببه هذا الوقت من التعريف بالعاصي والطائع بآيات جعلها الله سبباً في علمها فقال: ﴿فيومئذ﴾ أي فسبب عن يوم انشقت السماء لأنه ﴿لا يسئل﴾ سؤال تعرف واستعلام بل سؤال تقريع وتوبيخ وكلام، وذلك أنه لا يقال له: هل فعلت كذا؟ بل يقال له: لم فعلت كذا، على أنه ذلك اليوم طويل، وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه وتارة لا يسأل، والأمر في غاية الشدة، وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً، فقد مضى في الفاتحة أن اليوم عبارة عن وقت يمتد إلى انقضاء أمر مقدر فيه ظاهر من ليل أو نهار أو غيرهما لقوله تعالى ﴿إلى ربك يومئذ المساق﴾ [القيامة: ٣٠] أي يوم إذا بلغت الروح التراقي وهو لا يختص بليل ولا نهار، وبناه للمفعول تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن شأن المعترف بالذنب لا يكون خاصاً بعهد دون عهد بل يعرفه كل من أراد علمه، وأضمر قبل الذكر لما هو مقدم في الرتبة ليفهم الاختصاص فوجد الضمير لأجل اللفظ فقال: ﴿عن ذنبه﴾ أي خاصة وقد سئل المحسن عن حسنته سؤال تشريف له وتنديم لمن دونه.
175
ولما كان الإنس أعظم مقصود بهذا، ولهذا كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وكان التعريف بالشاهد المألوف أعظم في التعريف، وكان علم أحوال الشيء الظاهر أسهل، قدمهم فقال: ﴿إنس﴾ ولما كان لا يلزم من علم أحوال الظاهر علم أحوال الخفي، بين أن الكل عليه سبحانه هين فقال: ﴿ولا جان *﴾ ولما كان هذا التمييز من أجل النعم لئلا يؤدي الالتباس إلى ترويع بعض المطيعين عاملاً أو نكاية بالسؤال عنه قال: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي الذي ربى كلاًّ منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من الأمام أم من غيرها.
ولما كان الكلام عاماً عرف انه خاص بتعرف المجرم من غيره دون التعزير بالذنب أو غيره من الأحوال فقال معللاً لعدم السؤال: ﴿يعرف﴾ أي لكل أحد ﴿المجرمون﴾ أي العريقون في هذا الوصف ﴿بسيماهم﴾ أي العلامات التي صور الله ذنوبهم فيها فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة، وظاهرة الدلالة عليهم كما يعرف أن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذلك النهار ونحوهما لغير الأعمى، وتلك السيما - والله أعلم - زرقة العيون وسواد الوجوه والعمى والصمم والمشي على الوجوه ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم من بياض الوجوه وإشراقها وتبسمها، والغرة والتحجيل ونحو ذلك، وسبب عن هذه المعرفة قوله مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أي آخذ كان ﴿فيؤخذ بالنواصي﴾ أي منهم وهي مقدمات الرؤوس ﴿والأقدام *﴾ بعد أن يجمع بينهما
176
كما أنهم كانوا هم يجمعون ما أمر الله به أن يفرق، ويفرقون ما أمر الله به أن يجمع، فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار.
ولما كان ذلك نعمة لا يقام بشكرها لكل من يسمعها لأن كل أحد ينتفي من الإجرام ويود للمجرمين عظيم الانتقام، سبب عنه قوله: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم الكبار من الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من الوراء أم بغيرها مما يجب أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل.
ولما كان أخذهم على هذا الوجه مؤذناً بأنه يصير إلى خزي عظيم، صرح به في قوله، بانياً على ما هدى إليه السياق من نحو: أخذاً مقولاً فيه عند وصولهم إلى محل النكال على الحال التي ذكرت من الأخذ بنواصيهم وأقدامهم، ﴿هذه﴾ أي الحفرة العظيمة الكريهة المنظر «القريبة منكم» الملازمة للقرب لكم ﴿جهنم التي يكذب﴾
177
أي ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة ﴿ولو ردوا﴾ [الأنعام: ٢٨]- إلى الدنيا - بعد إدخالهم إياها - ﴿لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ٢٨] ﴿بها المجرمون *﴾ أي العريقون في الإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله به، وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاظة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور، قال ابن برجان: وقرأ عبد الله «هذه جهنم التي كنتم بها تكذبان فتصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان» ثم استأنف ما يفعل بهم فيها فقال: ﴿يطوفون بينها﴾ أي بين دركة النار التي تتجهمهم ﴿وبين حميم﴾ أي ماء حار هو من شدة حرارته ذو دخان.
ولما كان هذا الاسم يطلق على البارد، بين أمره فقال: ﴿آن﴾ أي بالغ حره إلى غاية ليس وراءها غاية، قال الرازي في اللوامع: وقيل: حاضر، وبه سمي الحال بالآن لأنه الحاضر الموجود، فإن الماضي لا تدارك له والمستقبل أمل وليس لنا إلا الآن، ثم «الآن» ليس بثابت طرفة عين، لأن الآن هوالجزء المشترك بين زمانين، فهم دائماً يترددون بين عذابي النار المذيبة للظاهر والماء المقطع بحره للباطن لا يزال حاضراً لهم تردد الطائف الذي لا أول لتردده ولا آخر.
ولما كانت عذاب المجرم - القاطع لما من شأنه أن يكون متصلاً - من أكبر النعم وأسرها لكل أحد حتى لمن سواه من المجرمين، سبب
178
قوله: ﴿فبأي آلاء ربكما﴾ أي المحسن إليكما أيها الثقلان بإهلاك المجرم في الدارين وإنجاء المسلم مما أهلك به المجرم لطفاً بالمهددين ليرتدعوا وينزجروا عما يكون سبب إهلاكهم هم ومن والاهم ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من اليمين أمن من غيرها مما أراكم من آياته، وظاهر عليكم من بيناته، في السماوات والأرض، وما أراكم من مطالع الدنيا من الشمس التي هي آية النهار والقمر الذي هو آية الزمهرير، وغير ذلك من آياته المحكمة المرئية المسموعة، وقد كررت هذه الآية عقب ذكر النار وأهوالها سبع مرات تنبيهاً على استدفاع أبوابها السبعة كما مضى - والله المستعان.
179
ولما كان قد عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم، وقدمه لما اقتضاه مقام التكبر من الترهيب وجعله سبعاً إشارة إلى أبواب النار السبعة، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة وجعله ثمانية على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال: ﴿ولمن﴾ أي ولكل من، ووحد الضمير مراعاة للفظ ﴿من﴾ إشارة إلى قلة الخائفين ﴿خاف﴾ أي من الثقلين.
ولما كان ذكر الخوف من الزمان المضروب للحساب والتدبير والمكان المعد لهما أبلغ من ذكر الخوف من الملك المحاسب المدبر، والخوف مع ذكر وصف الإكرام أبلغ من ذكر الخوف عند ذكر
179
أوصاف الجلال، قال دالاًّ بذلك على أن المذكور رأس الخائفين: ﴿مقام ربه﴾ أي مكان قيامه الذي يقيمه وغيره فيه المحسن إليه للحكم وزمانه الذي ضربه له وقيامه عليه وعلى غيره بالتدبير، فهو رقيب عليه وعليهم، فكيف إذا ذكر مقام المنتقم الجبار المتكبر فترك لهذا ما يغضبه وفعل ما يرضيه ﴿جنَّتان﴾ عن يمين وشمال، واحدة للعلم والعقل وأخرى للعمل، ويمكن أن يراد بالتثنية المبالغة إفهاماً لأنها جنان متكررة ومتكثرة مثل ﴿ألقيا في جهنم كل كفَّارٍ عنيد﴾ [ق: ٢٤] ونحو ذلك.
ولما كانت هذه نعمة جامعة، سبب عنها قوله: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي نعم المربي لكما والمحسن إليكم بإحسانه الكبار التي لا يقدر غيره على شيء منها ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من اليسار المنبعثة من القلب أو غيرها من تربة جنان الدنيا بنفس جهنم من حر الشمس وحرورها، فجعل من ذلك جميع الفواكه والزروع إلى غير ذلك من المرافق التي طبخها بها ﴿وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون﴾ [يوسف: ١٠٥] وغير ذلك من نعمه التي لا تحصى.
ولما كانت البساتين لا يكمل مدحها إلا بكثرة الأنواع والألوان والفروع المشتبكة والأغصان، قال واصفاً لهما: ﴿ذواتا﴾ أي صاحبتا
180
برد عين الكلمة فإن أصلها «ذوو» ﴿أفنان *﴾ أي جميع فن يتنوع فيه الثمار، وفنن وهو الغصن المستقيم طولاً الذي تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال عطاء: في كل غصن فنون من الفاكهة؛ ولهذا سبب عنه قوله: ﴿فبأيّ آلاء ربكما﴾ أي المربي لكما والمحسن إليكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من جهة الفوق أو غيرها مما ذكره لكم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بالأنهار قال: ﴿فيهما عينان﴾ أي في كل واحدة عين ﴿تجريان *﴾ أي في كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها جرى على عيني دموعه الجاريتين من خشية الله وذلك على مثال جنان الدنيا، والشمس صاعدة في البروج الشمالية من تكامل المياه وتفجرها عيوناً في أيام الربيع والصيف لقرب العهد بالأمطار ﴿فبأي آلاء ربكما﴾ أي المالك لكما والمحسن إليكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الشم من جهة التحت أو غيرها مما ذكره وجعل له في الدنيا أمثالاً كثيراً.
ولما كان بالمياه حياة النبات وزكاؤه، قال ذاكراً أفضل النبات: ﴿فيهما﴾ أي هاتين الجنتين العاليتين، ودل على جميع كل ما يعلم وزيادة بقوله: ﴿من كل فاكهة﴾ أي تعلمونها أو لا تعلمونها ﴿زوجان﴾
181
أي صنفان يكمل أحدهما بالآخر كما لا يدرك كنه أحد الزوجين بسبب العمل بما يرضى والآخر بالانتهاء عما يسخط ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم الكبار التي رباها الموجد لكما المحسن إليكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من الأمام أو غيرها من أنه أوجد لكما جنان الدنيا بواسطة حر النار التي هي أعدى عدوكما إشارة إلى أنه قادر على أنه يوجد برضوانه ومحبته من موضع غضبه وانتقامه إكراماً، فقد جعل ما في الدنيا مثالاً لما ذكر في الآخرة، فبأي شيء من ذلك تكذبان، لا يكمل الإيمان حتى يصدق المؤمن أنه تعالى قادر على أن يجعل من جهنم جنة بأن يجعل من موضع سخطه رحمة ويشاء ذلك ويعتبر ذلك بما أرانا من نموذجه.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره، قال مخبراً عن الذين يخافون مقام ربهم من قبيلي الإنس والجن مراعياً معنى ﴿من﴾ بعد مراعاة لفظها تحقيقاً للواقع: ﴿متكئين﴾ أي لهم ما ذكر في حال الاتكاء وهو التمكين بهيئة المتربع أو غيره من الكون على جنب، قال في القاموس: توكأ عليه: تحمل، واعتمد كأوكأ، والتكأة كهمزة: العصا، وما يتوكأ عليه، وضربه فأتكأه: ألقاه على هيئة المتكئ أو على جانبه الأيسر، وقال ابن القطاع: وضربته حتى أتكأته
182
أي سقط على جانبه، وهو يدل على تمام التنعم بصحة الجسم وفراغ البال ﴿على فرش﴾ وعظمها بقوله مخاطباً للمكلفين بما تحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا ﴿بطائنها﴾ أي فما ظنك بظواهرها ووجوهها ﴿من إستبرق﴾ وهو ثخين الديباج يوجد فيه من حسنه بريق كأنه من شدة لمعانه يطلب إيجاده حتى كأنه نور مجرد.
ولما كان المتكىء قد يشق عليه القيام لتناول ما يريد قال: ﴿وجنا الجنتين﴾ أي مجنيهما اسم بمعنى المفعول - كأنه عبر به ليفهم سهولة نفس المصدر الذي هو الاجتناء ﴿دان *﴾ أي قريب من كل من يريده من متكىء وغيره لا يخرج إلى صعود شجرة، وموجود من كل حين يراد غير مقطوع ولا ممنوع.
ولما كان ربما وجد مثل من ذلك شاهد له من أغصان تنعطف بجملتها فتقرب وأخرى تكون قريبة من ساق الشجرة فيسهل تناولها قال: ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم الكبار الملوكية التي أوجدها لكما هذا المربي لكما الذي يقدر على كل ما يريد ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من جهة الوراء أم غيرها من قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار.
183
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان، قال دالاًّ على الكثرة بعد سياق الامتنان بالجمع الذي هو أولى من التثنية بالدلالة على أن في كل بستان جماعة من النسوان، لما بهن من عظيم اللذة وفرط الأنس: ﴿فيهن﴾ أي الجنان التي علم مما مضى أن لكل فرد من الخائفين منها جنتين. ولما كان سياق الامتنان معرفاً بأن جمع القلة أريد به الكثرة مع ما ذكر من محسناته في سورة «ص» قال معبراً به: ﴿قاصرات الطرف﴾ أي نساء مخدرات هن في وجوب الستر بحيث يظن من ذكرهن بغير الوصف من غير تصريح، قد قصرن طرفهن وهممهن على أزواجهن ولهن من الجمال ما قصرن به أزواجهن عن الالتفات إلى غيرهن لفتور الطرف وسحره وشدة أخذه للقلوب جزاء لهم على قصر هممهم في الدنيا على ربهم.
ولما كان الاختصاص بالشيء لا سيما المرأة من أعظم الملذذات قال: ﴿لم يطمثهن﴾ أي يجامعهن ويتسلط عليهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه نوع من أنواع السلطة سواء من إنسيات أو جنيات أو غير ذلك، يقال: طمثت المرأة كضرب وفرح: حاضت، وطمثها الرجل: افتضها وأيضاً جامعها، والبعير عقلته، فكأنه قيل: هن أبكار لم يخالط موضع الطمث منهن ﴿إنس﴾ ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: ﴿قبلهم﴾ أي المتكئين ﴿ولا جان *﴾ وقد جمع هذا
184
كل من يمكن منه جماع من ظاهر وباطن، وفيه دليل على أن الجني يغشى الإنسي كما نقل عن الزجاج ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم الجسام من المربي الكامل العلم الشامل القدرة القيوم ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من جهة اليمنى أم غيرها مما جعله الله لكم مثالاً لهذا من الأبكار الحسان، أو غير ذلك من أنواع الإحسان.
185
ولما دل ما تقدم من وصف المستمتع بهن بالعزة والنفاسة، زاده على وجه أفاد أنه يكون بهن غاية ما يكون من سكون النفس وقوة القلب وشدة البدن واعتدال الدم وغير ذلك من خواص ما شبههن به فقال: ﴿كأنهن الياقوت﴾ الذي هو في صفاته بحيث يشف عن سلكه وهو جوهر معروف، قال في القاموس: أجوده الأحمر الرماني نافع للوسواس والخفقان وضعف القلب شرباً ولجمود الدم تعليقاً: ﴿والمرجان *﴾ في بياضه، وصغار الدر أنصع بياضاً، قال أبو عبد الله القزاز: والمرجان صغار اللؤلؤ، وهذا الذي يخرج من نبات البحر أحمر معروف - انتهى. وقد يستفاد من ذلك أن ألوانهن البياض والحمرة على نوع من الإشراب هو في غاية الإعجاب من الشفوف والصفاء، وهو مع ذلك ثابت لا يعتريه تغير ليطابق الحديث الذي فيه «يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة» وقال أبو حيان: شبههن بهما فيما يحسن التشبيه به فالياقوت في املاسه وشفوفه والمرجان في املاسه وجمال منظره ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي
185
النعم الغريبة البالغة في الحسن من المالك الملك المربي ببدائع التربية ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من جهة اليسرى أم غيرها مما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهن من تشبيه شيء بشيئين لبلوغ الأمر في الحسن إلى حد لا يساويه فيه شيء واحد ليشبه به، فهو كما قيل: بيضاء في دعج صفراء في نعج كأنها فضة قد شابها ذهب، وقد جعل سبحانه الأشياء الشفافة مثلاً لذلك وأنت ترى بعض الأجسام يكاد يرى فيه الوجه بل في سواد العين أعظم غرة حيث يرى فيه الوجه فإن السواد منشأ الظلام.
ولما كان ألذ ما أفاده الإنسان من النعم ما كان تسبب منه، قال ساراً لهم بذلك مع ما فيه من لذة المدح لا سيما والمادح الملك الأعلى، معظماً له بسياق الاستفهام المفيد للإثبات بعد النفي المفيد للاختصاص على وجه الإنكار الشديد على من يتوهم غير ذلك: ﴿هل جزاء الإحسان﴾ أي في العمل الكائن من الإنس أو الجن أو غيرهم ﴿إلا الإحسان *﴾ أي في الثواب، فهذا من المواضع التي أعيدت فيها المعرفة والمعنى مختلف، روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» وذلك جزاء إحسان العبد في العمل في مقابلة إحسان ربه إليه بالتربية ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾
186
أي النعم العظيمة الحسن من السيد الكريم العظيم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من جهة الفوق أم غيرها مما جعله الله سبحانه مثالاً في أن من أحسن قوبل بمثل إحسانه، وهذه الآية ختام ثمان آيات حاثة على العمل الموصل إلى الثمانية الأبواب الكائنة لجنة المقربين - والله الهادي.
ولما كان قد علم مما ذكر أول هذا الكلام من الخوف مع ذكر وصف الإكرام، وآخره من ذكر الإحسان أن هذا الفريق محسنون، وكان من المعلوم أن العاملين طبقات، وأن كل طبقة أجرها على مقدار أعمالها، اقتضى الحال بيان ما أعد لمن دونهم: ﴿ومن دونهما﴾ أي من أدنى مكان، رتبة مما تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين ﴿جنتان *﴾ أي لكل واحد لمن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين وهم أصحاب اليمين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دونهما في الدرج، وجعل ابن برجان الأربع موزعة بين الكل، وأن تخصيص هذه العدة إشارة إلى أنها تكون جامعة لما في فصول الدنيا الأربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف، وفسر بذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جنتان من ذهب أوتيتهما وما فيهما وجنتان من فضة أوتيتهما وما فيهما» ثم جوز أن يكون المراد بالدون الأدنى إلى الإنسان، وهو البرزخ، فتكون هاتان لأهل البرزخ كما كان ﴿وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك﴾ من عذاب القبر ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي المحسن بنعمه السابغة إلى الأعلى ومن دونه
187
﴿تكذبان *﴾ أبنعمة اللمس من جهة التحت أم غيرها مما جعله الله في الدنيا مثالاً لهذا من أن بعض البساتين أفضل من بعض إلى غير ذلك من أنواع التفضيل.
ولما كان ما في هاتين من الماء دون ما في الباقيتين، فكان ربما ظن أن ماءهما لا يقوم بأعلى كفايتهما قال: ﴿مدهامتان *﴾ أي خضراوان خضرة تضرب من شدة الري إلى السواد، من الدهمة، قال الأصبهاني: الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وفي الأوليين الأشجار والفواكه ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي نعم المحسن إلى العالي منكما ومن دونه بسعة رحمته ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من جهة الأمام أم غيرها مما جعله مثالاً لذلك من جنان الدنيا الكثيرة الري وغيره.
188
ولما كان ذكر ما يدل على ريهما، حققه بقوله: ﴿فيهما﴾ أي في كل جنة لكل شخص منهم ﴿عينان نضاختان *﴾ أي تفوران بشدة توجب لهما رشاش الماء بحيث لا ينقطع ذلك، ولم يذكر جريهما فكأنهما بحيث يرويان جنتهما ولا يبلغان الجري، والنضخ دون الجري وفوق النضخ، قال الأصبهاني: وأصل النضخ بالمعجمة - انتهى. وكأنهما لمن تغرغر عيناه بالدمع فتمتلئان من غير جري، وقال ابن برجان ما معناه إن حر (؟) عدم جريهما لكونهما على مثال جنة خريف ما ههنا وشتاء به لبعد عهدهما بنزول الماء وسكنا في أعماق الأرض
188
لينعكس بالنبع والفوران صاعداً مع أن الجنة لا مطر فيها ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي نعم المربي البليغ الحكمة في التربية ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من جهة ما وراء اللسان أم غيرها مما جعله مثالاً لذلك من الأعين التي تفور ولا تجري والأنابيب المصنوعة للفوران لأنها بحيث تروق ناظرها لصعودها بقوة نبعها وترشيشها من النعم الكبار. ولما ذكر الري والسبب فيه، ذكر ما ينشأ عنه فقال: ﴿فيهما فاكهة﴾ أي من كل الفاكهة، وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين الجنتين فقال: ﴿ونخل ورمان *﴾ فإن كلاًّ منهما فاكهة وإدام، فلذا خص تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه وأولاهما أعم نفعاً وأعجب خلقاً فلذا قدم ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي نعم المحسن إليكما أيها الثقلان بجليل التربية ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من اليمين أم من غيرها مما جعل مثالاً لهذا من جنان الدنيا وغير ذلك.
ولما كان ما ذكر لا تكمل لذته إلا بالأنيس، وكان قد ورد أنه يكون في بعض ثمار الجنة وحمل أشجارها نساء وولدان كما أن أمثال ذلك في بطن مياه الدنيا ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ [الأنبياء: ٣٠] قال جامعاً على نحو ما مضى من الإشارة إلى أن الجنتين لكل واحد من أفراد هذا الصنف: ﴿فيهن﴾ أي الجنان الأربع أو الجنان التي خصت للنساء، وجوز ابن برجان أن يكون الضمير للفاكهة والنخل والرمان فإنه يتكون منها نساء وولدان
189
في داخل قشر الرمان ونحوه ﴿خيرات﴾ أي نساء بليغ ما فيهن من الخير، أصله خير مثقلاً لأن «خير» الذي للتفضيل لا يجمع جمع سلامة، ولعله خفف لاتصافهن بالخفة في وجودهن وجميع شأنهن، ولكون هاتين الجنتين دون ما قبلهما ﴿حسان *﴾ أي في غاية الجمال خلقاً وخلقاً ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي نعم الكامل الإحسان إليكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من جهة اليسار أمن من غيرها ممن جعله مثالاً لتكوين النساء والولدان والملابس والحلي من ثمار الأشجار والزروع التي من المياه التي بها العيش، ففيها التوليد وغير ذلك مما تظهره الفكرة لأهل العبرة لأن كل ما في الجنة ينشأ عن الكلمة من الرزق كما ينشأ عنه سبحانه في هذه الدار على تسبيب.
.. والحكمة، ثم بينهن بقوله: ﴿حور﴾ أي ذوات أعين شديدة سواد السواد وشديدة بياض البياض، وقال ابن جرير: بيض جمع ﴿مقصورات﴾ أي على أزواجهن ومحبوسات، صيانة عن التبذل، فهو كناية عن عظمتهن ﴿في الخيام *﴾ التي هي من الدر المجوف الشفاف جزاء لمن قصر نفسه عن... الله فكف جوارحه عن الزلات، وصان قلبه عن الغفلات ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي الجليل الإحسان إليكما ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من جهة الفوق
190
أم بغيرها مما جعله مثالاً لهذا في الدنيا، فإنه كما خلقنا من تراب ثم طورنا في أطوار الخلقة بحسب حكمة الأسباب كذلك خلق أولئك من أرض الجنة ورياضها وفواكهها عن كلمة السكان من غير أسباب.
ولما كانت أنفس الأخيار ذوي الهمم العالية الكبار في الالتفات إلى الأبكار قال: ﴿لم يطمثهن﴾ أي يتسلط عليهن نوع سلطة ﴿إنس﴾ وعم الزمان بحذف الجار فقال: ﴿قبلهم﴾ أي انتفى الطمث المذكور في جميع الزمان الكائن قبل طمث أصحاب هذه الجنان لهن، فلو وجد في لحظة من لحظات القبل لما صدق النفي ﴿ولا جان *﴾ فهن في غاية الاختصاص كل بما عنده ﴿فبأيِّ﴾ أي فتسبب عن هذا التعدد لمثل هذه النعم العظيمة أنا نقول تعجيباً ممن يكذب توبيخاً له وتنبيهاً على ما له تعالى من النعم التي تفوت الحصر: بأيِّ ﴿آلاء ربكما﴾ أي النعم الجليلة من المدبر لكما بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة العامة ﴿تكذبان *﴾ أبنعمة الذوق من تحت أم بغيرها مما جعله مثالاً لهذا من الأبكار المخدرات، وجميع ما ذكر من النعم العامة الظاهرة في كل حالة في الدنيا والآخرة، وختم بالتقرير أربع وعشرون ثمان منها أول السورة من النعم الدنياوية، وست عشرة جنان، وجعلها على هذا العدد، إشارة إلى تعظيمها بتكثيرها فإنه عدد تام لأنه جامع لأكثر الكسور، ولذا قسم الدرهم وغيره أربعة وعشرون قيراطاً. ولما تم التقرير بالنعم المحيطة بالجهات الست والحواس الخمس على الوجه الأكمل من درء المفاسد وجلب المصالح كما تقدمت الإشارة إليه بمدكر،
191
بقوله: ﴿فهل من مدكر﴾ [القمر: ١٧] في القمر، بالحسن فيها إلى الحواس الخمس وبتكرارها، وتكرار ﴿كيف كان عذابي ونذر﴾ [القمر: ١٨] ستاً إلى الجهات الست من جهة الوراء والخلف، أوترها بنعمة أخرى واحدة إشارة إلى أن السبب في هذا اعتقاد وحدانية الواحد تعالى اعتقاداً أدى الخضوع لأمر مرسل كلما جاء من عنده تعالى فلذلك كانت نعمة لا تنقطع أصلاً، بل كلما تم دور منها ابتدأ دور آخر جديد، وهكذا على وجه لا انقطاع له أبداً كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا انتهاء له أصلاً، وهذه النعمة الدالة على الراحة الدائمة التي هي المقصودة بالذات على وجه لا يرى أغرب منه ولا أشرف، فقال تعالى مبيناً حال المحسنين ومن دونهم مشركاً لهم في الراحة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: ﴿متكئين﴾ أي لهم ذلك في حال الاتكاء ديدناً لأنهم لا شغل لهم بوجه إلا التمتع ﴿على رفرف﴾ أي ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة ورياض باهرة وبسط لها أطراف فاضلة، ورفرف السحاب هدبه أي ذيله المتدلي.
ولما كان الأخضر أحسن الألوان وأبهجها قال: ﴿خضر وعبقري﴾ أي متاع كامل من البسط وغيرها هو في كماله وغرابته كأنه من عمل الجن لنسبته إلى بلدهم، قال في القاموس: عبقر موضع كثير الجن، وقرية بناؤها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء، والسيد والذي ليس فوقه شيء، وقال الرازي: هو الطنافس المخملة،
192
قال ابن جرير: الطنافس الثخان، وقال القشيري: العبقري عند العرب كل ثوب موشى، وقال الخليل: كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم، ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه» وقال قطرب: ليس هو من المنسوب بل هو بمزلة كرسي وبختي.
ولما كان المراد به الجنس، دل على كثرته بالجمع مع التعبير بالمفرد إشارة إلى وحدة تكامله بالحسن فقال: ﴿حسان *﴾ أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف ﴿فبأيِّ آلاء ربكما﴾ أي النعم العظيمة من المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه ولا تعد نعمه ولا تحصي ثناء عليه ﴿تكذبان *﴾ وبهذه الآية تمت النعم الثمان المختصة بجنة أصحاب اليمين إشارة إلى العمل لأبوابها الثمانية. والله الموفق.
ولما دل ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال، ودل بالإشارة بالنعمة الأخيرة على أن نعمه لا نهاية لها لأنه مع أن له الكمال كله متعال عن شائبة نقص، فكانت ترجمة ذلك قوله في ختام نعم الآخرة مناظرة لما تقدم من ختام نعم الدنيا معبراً هناك بالبقاء لما ذكر قبله، من الفناء، وهذا بما من البركة إشارة
193
إلى أن نعمه لا انقضاء لها: ﴿تبارك﴾ قال ابن برجان: تفاعل من البركة، ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب - انتهى، ومعناه ثبت ثباتاً لا يسع العقول جمع وصفه لكونه على صيغه المفاعلة المفيدة لبذل الجهد إذا كانت ممن تمكن منازعته، وذلك مع اليمن والبركة والإحسان. ولما كان تعظيم الاسم أقعد وأبلغ في تعظيم المسمى قال: ﴿اسم ربك﴾ أي المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف، ولذلك قال واصفاً للرب في قراءة الجمهور: ﴿ذي الجلال﴾ أي العظمة الباهرة فهو المنتقم من الأعداء ﴿والإكرام *﴾ أي الإحسان الذي لا يمكن الإحاطة به فهو المتصف بالجمال الأقدس المقتضي لفيض الرحمة على جميع الأولياء، وقراءة ابن عامر ﴿ذو﴾ صفة للاسم، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والوصفان الأخيران من شبه الاحتباك حذف من الأول متعلق الصفة وهو النقمة للأعداء، ومن الثاني أثر الإكرام وهو الرحمة للأولياء، فإثبات الصفة أولاً يدل على حذف ضدها ثانياً، وإثبات الفعل ثانياً يدل على حذف ضده أولاً، وقال الرازي في اللوامع: كأنه يريد بالاسم الذي افتتح به السورة وقد انعطف آخر السورة على أولها على وجه أعم، فيشمل الإكرام بتعليم القرآن وغيره والانتقام بإدخال النيران وغيرها - الله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب.
194
سورة الواقعة
مقصودها شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين من المصارحين والمنافقين من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به) بسم الله (الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال) الرحمن (الذي عم بنعمة البيان وفاضل قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال) الرحيم (الذي أقبل بأهل حزبه إلى أهل قربه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
195
Icon