تفسير سورة سورة الفجر من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الفجر
مكية وهي ثلاثون آية
ﰡ
﴿ والفجر ١ ﴾ أقسم الله تعالى بالفجر أي انفجار صبح كل يوم كذا روى أبو صالح عن ابن عباس وهو قول عكرمة وقال عطية هو صلاة الفجر، وقال قتادة هو أول فجر المحرم ينفجر منه السنة وقال الضحاك فجر أول يوم ذي الحجة لأنه قرن به الليالي العشرة.
﴿ وليال عشر ٢ ﴾ تنكير للتعظيم روى عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة وهو قول قتادة ومجاهد والضحاك والسدي والكلبي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ) رواه الترمذي وابن ماجه بسند ضعيف وقال أبو روق عن الضحاك هي العشر الأول من شهر رمضان وروى أبو ظبيان هي العشر الآخر من شهر رمضان وقد ذكرنا فضائل رمضان في سورة البقرة وأيضا في العشر الأخير ليلة القدر وسنذكرها في سورة ليلة القدر إن شاء الله تعالى، وقال يمان بن رباب هي العشر الأول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ) رواه مسلم.
﴿ والشفع والوتر ٣ ﴾ قرأ حمزة والكسائي بكسر الواو والباقون بالفتح قيل : الشفع الخلق، قال الله تعالى :﴿ وخلقناكم أزواجا ٨ ﴾ والوتر الواحد روى ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول عطية والعوفي وقال مجاهد ومسروق نحوه فقال : الخلق كله شفع يعني يقابل بعضها بعضا قال الله تعالى :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾ الكفر والإيمان والهدى والضال والسعادة والشقاوة والليل والنهار والسماء والأرض والبر والبحر والشمس والقمر والجن والإنس والذكر والأنثى والوتر هو الله أحد.
سئل أبو بكر عن الشفع والوتر ؟ قال : الشفع تضاد أوصاف المخلوقين الحياة والموت والعز والذل والعجز والقدرة والقوة والضعف والعلم والجهل والبصر والعمى والسمع والبكم والكلام والسكوت والغنى والفقر والوتر انفراد صفات الله تعالى حياة بلا موت وعز بلا ذل وقدرة بلا عجز وقوة بلا ضعف وعلم بلا جهل وكلام بلا سكوت وغنا بلا فقر وقال الحسن وابن زيد الشفع والوتر الخلق كله شفع ومنه وتر، وروى قتادة عن الحسن قال : هو العدد منه شفع ومنه وتر قال : هي الصلاة منها شفع ومنها وتر مالك عن ابن حصين مرفوعا رواه أحمد والترمذي وعن عبد الله بن زبير الشفع النفر الأول من الحج والوتر النفر الثاني قال الله تعالى :﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ﴾ وقال مقاتل بن حبان الشفع الأيام والليالي والوتر يوم القيامة لا ليلة لها وقال الحسن الشفع درجات الجنة الثمان والوتر درجات النار لأنها سبع كأنه أقسم بالجنة والنار.
﴿ والليل إذا يسر ٤ ﴾ إذا سار وذهب كما قال الليل إذا أدبر وقال قتادة إذا جاء وأقبل وإنما قيد بذلك لما في التعاقب من قوة الدالة على كمال القدرة ووفور النعمة الماد يسري فيه من قولهم صلى المقام بمعنى صلى فيه وأراد بالليل كل ليلة، وقال مجاهد وعكرمة هي ليلة مزدلفة. قرأ ابن كثير يسري بإثبات الياء وصلا وقفا لأنها لام الفعل فلا يحذف منه وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا وبالحذف وقفا والباقون بالحذف في الحالين لوفاق رؤوس الآي، سئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال : الليل ما يسري ولكن يسرى فيه فهو مصروف فلما صرف بحسبه صفة من الإعراب كقوله :﴿ وما كنت أمك بغيا ﴾ ولم يقل بغية لأنه صرف عنه باغية.
﴿ هل في ذلك ﴾ أي فيما ذكرت ﴿ قسم ﴾ التنكير للتعظيم مقنع ويكتفى في القسم والاستفهام للتقرير والجملة الاستفهامية معترضة لتفخيم شأن المقسم به فإنه من عجائب قدرة الله تعالى وبدائع حكمته ﴿ لذي حجر ﴾ أي لذي عقل سمى العقل بذلك لأنه يحجر صاحبه عن القبائح وجواب القسم إن ربك لبالمرصاد وما بينهما اعتراض جيء لتأكيد الجواب أو الجواب محذوف وهو هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا كما أهلكنا عاد وثمود يدل عليه ما بعده.
﴿ ألم تر ﴾ استفهام لإنكار النفي فهو التقرير للإثبات وللتعجب والرؤية هنا لمعنى اليقين والجملة الاستفهامية بعده في محل النصب بالمفعولية ﴿ كيف فعل ربك بعاد ﴾ كانوا أطول أعمار أو أشد قوى من هؤلاء الكفار يعني أهلكهم وسلط عليهم ريحا دمرهم فكيف هؤلاء.
﴿ إرم ﴾ بدل أو عطف بيان ومنع الصرف للعملية والعجمية والتأنيث وإنها اسم قبيلة من عاد كان فيهم الملك وكانوا وكان في الأصل اسما لأبي قبيلة وهو إرم بن عاد بن سام بن نوح عليه السلام وقال محمد بن إسحاق هو جد عاد وهو عاد بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام وعلى هذا التقرير عاد سبط إرم، وقال الكلبي إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة كان يقال عاد أرم وثمود أرم فأهلك الله عادا ثم ثمود وبقي أهل السواد والجزيرة فعلى هذا الأقوال أرم اسم أمة، قال مجاهد ثم وصف تلك الأمة بقوله ﴿ ذات العماد ﴾ أي ذات العدد والطوال كذا قال ابن عباس يعني كان طولهم مثل عماد قال مقاتل كان طولهم اثني عشر ذراعا يعني من ذراع النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : أكثر من ذلك، وقيل سمى تلك الأمة بذلك لأنهم كانوا أهل أعمدة وخيام سيارة في الربيع فإذا أباح العود رجعوا إلى منازلهم وكان أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى وقيل : سموا ذات عماد لبناء بعضهم نشدا عمدة ورف بنائه يقال بنا شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله وسار إليه في قومه فلما كان منه على مسيرة يوم ليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، وقال سعيد بن المسيب أرم ذات العماد بلدة يقال لها دمشق وقال القرطبي هي الاسكندرية فتقدير الكلام عاد أهل أرم ذات العماد أي ذات البناء الرفع وأساطين.
﴿ التي ﴾ صفة أخرى لأرم سواء كانت بلدة أو قبيلة ﴿ لم يخلق مثلها ﴾ أي مثل ذلك الأمة في القامة والقوة أو مثل تلك البلدة في رفعة البناء والاستحكام والحسن إليها ﴿ في البلاد وثمود ﴾ عطف على عاد ﴿ الذين جابوا ﴾.
﴿ وثمود ﴾ عطف على عاد ﴿ الذين جابوا ﴾ أي قطعوا ﴿ الصخر ﴾ واحدتها صخرة وهي الحجر كانوا ينحتون بيوتا ﴿ بالواد ﴾ أي بواد القرى أثبت ياء الوادي في الحالين البذي وكذا روى عن قنبل وفي الوصل فقط ورش وقنبل وحذف الباقون في الحالين لموافقة رؤوس الآي.
﴿ وفرعون ﴾ عطف على ثمود ﴿ ذي الأوتاد ﴾ قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرطبي أي البناء المحكم، وقيل : المراد بأوتاد الملك الشديد الثابت يقول العرب هم في العز ثابت الأوتاد ويريدون الدائم وقال عطية ذي الجنود والجموع الكثيرة وسميت الجنود الأوتاد لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويرتدونها في أسفارهم وهي رواية عطية عن ابن عباس، وقال مقاتل والكلبي الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد وشد كل يد وكل رجل إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت وقال مجاهد ومقاتل بن حبان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يمد يديه ورجليه على الأرض بالأوتاد، وقال السدي كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال قتادة وعطاء كانت له أوتاد وملاعب يلعب عليها بين يديه، روى البغوي بسنده عن ابن عباس أن فرعون سمي بذي الأوتاد لأنه كانت له امرأة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمنا وكتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت : سبعين شهرا ما كفرت بالله وكانت لها ابنتان فجاء ابنتها الكبرى فذبحها على فيها وقال لها اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعا، فقالت : لو ذبحت من على الأرض علي في ما كفرت بالله عز وجل فأتى فلما اضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا فقالت : يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة اصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة، قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رأي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فلما انتهيا إليه وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحوش خلفه يصلون فلما رأى ذلك انصرفا قال حزقيل اللهم كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر على أحد فأيما هذين الرجلين أظهر علي فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف رجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال : وهل كان معك غيرك ؟ قال : نعم فلان فدعا به، فقال : أحق ما يقول هذا ؟ قال : لا ما رأيت مما قال شيئا فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها : آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : كيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت : يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها فقال : فلعل بك الجنون الذي كان بها ؟ قالت : ما بي جنون وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما، فقال لهما ألا تريان أن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها ؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك رب السماوات والأرض واحد لا شريك له فقال أبوها يا آسية ألست من خير نساء عماليق وزوجك إله العماليق ؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقا فقولا لأن يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله فقال لهما فرعون أخرجا عن أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله فقبض الله روحها وأسكنها في الجنة انتهى، وامرأة فرعون هذه هي التي منعت فرعون عن قتل موسى عليه السلام حين التقطه آل فرعون من اليم وقد ألقاها بإذن ربها حين خافت القتل على موسى وذكر القصة في سورة القصص ﴿ وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا ﴾ وقد نفعهما الله به حيث آمنت.
﴿ الذين ﴾ مجرور صفة للمذكورين أو منصوب على الذم أو مرفوع خبر مبتدأ ومحذوف أي هم الذين ﴿ طغوا ﴾ أي جاوزوا في الحد والعصيان ﴿ في البلاد ﴾ متعلق بطغوا.
﴿ فأكثروا ﴾ عطف على طغوا ﴿ فيها ﴾ أي في البلاد ﴿ الفساد ﴾ بالكفر والظلم.
﴿ فصب ﴾ عطف على طغوا والفاء للسببية ﴿ عليهم ربك سوط عذاب ﴾ أي عذابا مختلطا بعضها ببعض فهي إضافة صفة إلى موصوفها كأخلاق ثياب وأصل السوط الخلط ومنه يقال السوط للحد لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض وشبه بالصوت ما حل بهم في الدنيا من العذاب إشعارا بأنه بالقياس إلى ما أعدلهم في الآخرة من العذاب كالسوط إذا قبس بالسيف وقال قتادة يعني سوطا من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب فالمعنى أنه دفع العذاب بهم على أبلغ الوجوه دفعة واحدة كما يشير به الصب.
﴿ إن ربك لبالمرصاد ١٤ ﴾ جواب للقسم أو بجواب محذوف والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد وكونه بالمرصاد كناية من أنه تعالى يريد من العباد الطاعة والسمع لأجل الآخرة فيترصد أعمالهم ويحبط بحيث لا يفوته شيء منها كما لا يفوت ممن يرصد في المرصاد من يمر بها يجازيهم عليها والإنسان غافل عن ذلك لا يهم إلا للدنيا ولذاتها ولذلك عطف عليه قوله :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ﴾
قوله :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ﴾ أي امتحنه بالغنى واليسرى حتى يظهر أنه يشكر المنعم أو يكفر والظرف متعلق بيقول ﴿ فأكرمه ﴾ في الدنيا بالجاه ﴿ ونعمه ﴾ بالأموال والأزواج والأولاد وغير ذلك بيان للابتلاء ﴿ فيقول ﴾ أخبر للإنسان والفاء بمعنى الشرط في إفادته معلولية القول ﴿ ربي ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بسكون الياء والباقون بالفتح، وكذا في ربي أهانن ﴿ أكرمن ﴾ أي فضلني بما أعطاني أثبت الياء في أكرمني وأهانني يعقوب والبزي وصلا ووقفا ونافع في الوصل فقط وجر فيها أبو عمرو قياس قوله في رؤوس الآي يوجب حذفها في الحالين قال أبو عمر الدالاني بذلك قرأت وبه أخذوا والباقون حذفها في الحالين.
﴿ وأما إذا ما ابتلاه ﴾ أي امتحنه بالفقر حتى يظهر أنه يصبر ويرجع إلى الله تعالى أو يجزع ويكفر متى غير رجوع إليه تعالى ﴿ فقدر عليه رزقه ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر قدّر بالتشديد والباقون بالتخفيف فقيل أولى بمعنى قتر والثاني بمعنى أعطاه ما يكفيه، وقيل : معناهما واحد أي ضيق ولم يقل ها هنا أهانه وقدر عليه رزقه ما قال : هناك فأكرمه ونعمه لأن توسعته المال في الدنيا تفضل يوجب الشكر وقد يكون موجبا للإكرام في الآخرة أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا حسد إلا على اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار ) متفق عليه، وأما التقتير فلا يكون إهانة فقط ﴿ فيقول ﴾ الإنسان ﴿ ربي أهانن ﴾ ويقول ذلك لقصور نظره على الدنيا وانهماكه فيها، قال الكلبي ومقاتل نزلت في أمية ابن خلف الجمحي الكافر والله تعالى أعلم.
﴿ كلا ﴾ أي ليس الأمر كما يقول فإن الغنى والنعام الدنيوية قد يكون استدراجا من الله إذا لم يقترن بالشكر بل مع الشكر أيضا لا تقبل عند الله للغني الشاكر على الفقير الصابر، عن مصعب بن سعد قال : رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ) رواه البخاري، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ) رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم ) رواه الترمذي والفقر والضعف إذا اقترن بالصبر والرضا يكون نعمة لا إهانة عن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ) رواه أحمد والترمذي وفي الباب أحاديث كثيرة ﴿ بل لا تكرمون اليتيم ﴾ بالنفقة ولا تحبون إليه مع أن الله تعالى أكرمكم بالغنى، وقيل : لا تعطونه حقه عطف على يقولون يعني بل قولهم دال على انهماكهم في الدنيا حيث لا يكرمون اليتيم قال مقاتل : كان قدامة بن بظعن يتيما في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه عنه حقه، قرأ أبو عمرو لا يكرمون ولا يحضون ويأكلون ويحبون بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الإنسان نظرا إلى معناه الجمعي من حيث كونه جنسا وما سبق من الضمائر المفردة راجع إليه نظر إلى لفظه والباقون الأفعال الأربعة بالتاء الخطاب إليهم على سبيل الالتفات.
﴿ ولا تحاضون ﴾ قرأ الكوفيون بالألف بعد الحاء من التفاعل بحذف أحد التائين أي لا يحض بعضكم بعضا والباقون بغير الألف أي لا تحضون غيركم ﴿ على طعام المسكين ﴾ فضلا أن تطعموا من أموالكم.
﴿ وتأكلون التراث ﴾ أي الميراث أصله الوارث ﴿ أكلا لمّا ﴾ أي ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام كانوا يأكلون مع أبضاعهم أبضاع ضعفاء من النساء والصبيان، قال ابن زيد الأكل اللم الذي يأكل شيئا يجده لا يسأل عنه أحلال أم حرام، وقيل : يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك.
﴿ وتحبون المال حبا جما ٢٠ ﴾ أي كثيرا مع حرص وشره.
﴿ كلا ﴾ ردع عما يفعلون وقال مقاتل أي لا يفعلون ما أمروا به أو هو بمعنى حقا تحقيقا لما يذكر بعده من الوعيد ويخبر عنه تحسرهم حين لا ينفعهم الحسرة ﴿ إذا دكّت الأرض دكّا دكّا ﴾ أي زلزالا بعد زلزال حتى تنكسر ما عليها من الجبال والأشجار والأبنية وصارت هباء منبثا.
﴿ وجاء ربك ﴾ عطف على دكّت وهي من المتشابهات وقد ذكرنا ما فيها من قول السلف والخلف وأصحاب القلوب في سورة البقرة في قوله تعالى :﴿ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ ﴿ والملك ﴾ اللام للجنس أي وجاءت الملائكة ﴿ صفّا صفّا ﴾ حال من الملك، أي جاؤوا يصفون صفا بعد صف، أخرج ابن جرير وابن المبارك عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله سبحانه السماء الدنيا فانشقت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم الرابعة والخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفوا صفا دون صف ثم ينزل الملك الأعلى بجنبه اليسرى جهنم فإذا أراها أهل الأرض فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا لي مكان الذي كانوا فيه وذلك قوله تعالى :﴿ إني أخاف عليكم يوم التناد ٣٢ يوم تولون مدبرين ﴾ الآية وذلك قوله تعالى :﴿ وجاء ربك والملك صفّا صفّا ٢٢ وجيء يومئذ بجهنم ﴾ وقوله تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ﴾ الآية، قوله تعالى :﴿ وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ١٦ والملك على أرجائها ﴾ يعني ما تشقق منها فبينما كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب
﴿ وجيء يومئذ بجهنم ﴾ عطف على جاء، أخرج مسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) وأخرج ابن وهب في كتاب الأهوال عن زيد بن أسلم قال :( أتى جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتكسر الطرف فسأله علي عليه السلام فقال : أتاني جبرائيل فقال :﴿ كلا إذا دكّت الأرض دكّا دكّا ٢١ وجاء ربك والملك صفّا صفّا ٢٢ وجيء يومئذ بجهنم ﴾ بما تقاد سبعين ألف زمام تقاد سبعين ألف ملك فبينما هم إذا خردت انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع فأخذوها. قال القرطبي يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه فيدار بأرض الحشر لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، وأخرج أبو نعيم عن كعب قال : إذا كان يوم القيامة فنزلت الملائكة فصاروا صفوفا فيقول الله لجبرائيل ائت بجهنم فيأتي بها تقاد سبعين زماما حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت طارت بها أفئدة الخلائق ثم زفرت الثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا بني مسر إلا جثى الركبة ثم تزفر الثالثة فبلغ القلوب الحناجر وتزيل العقول فيفزع كل امرء عمله حتى إبراهيم يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي، وقال عيسى بما أكرمني لا أسألك إلا نفسي ولا أسألك مريم التي ولدتني، ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول : أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي فيجيب جل جلاله إن الأولياء من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينيك في أمتك فقم تقف الملائكة بين يدي الله ينتظرون ما يؤمرون ﴿ يومئذ ﴾ بدل من إذا دكّت أي يوم إذا دكّت الأرض، وجيء بجهنم والعامل ﴿ يتذكر الإنسان ﴾ الكافر الذي قال ربي أكرمني ربي أهانن على سرّاء الدنيا وضرائها جزاء بمعنى الشرط في الظرف أي يتذكر معارضيه يتعظ ويتوب ﴿ وأنّى له الذكرى ﴾ استفهام للإنكار أي ليس له منفعة الذكر فإن من شرط قبول التوبة الإيمان بالغيب.
﴿ يقول ﴾ ذلك الإنسان تحسرا جملة مستأنفة كأنه في جواب فما يصنع حين يتذكر ﴿ يا ليتني ﴾ يعني يقول يا ليتني ﴿ قدّمت ﴾ في الدنيا أعمالا صالحا ﴿ لحياتي ﴾ التي لا ينطلق إليها الموت أو اللام بمعنى الوقت والمعنى يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة وقت حياتي في الدنيا.
﴿ فيومئذ ﴾ عطف على يومئذ السابق والظرف متعلق بما بعده ﴿ لا يعذب عذابه ﴾ منصوب بنزع الخافض، أي كعذابه وكذا وثاقه أحد.
﴿ ولا يوثق وثاقه أحد ٢٦ ﴾ قرأ الكسائي ويعقوب لا يعذب ولا يوثق بفتح العين على البناء للمفعول أي لا يعذب أحد من الناس يعني عصاة المؤمنين كعذاب ذلك الإنسان أي الكافر إن كان المراد باللام الجنس أو المعنى لا يعذب أحد كعذاب ذلك الإنسان المعهود وهو أمية بن خلف ولا يوثق أحد في السلاسل والأغلال أوثاقه والباقون بكسر العين فيهما على البناء للفاعل وحينئذ الضمير المجرور في عذابه، ووثاقه إما راجع إلى الله سبحانه والإضافة إلى الفاعل أي لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيامة أحد سواه والأمر يومئذ كله لله أي والإنسان الكافر والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه أحدا وعلى هذا التأويلات يومئذ متعلق بلا يعذب ولا يوثق على سبيل التنازع والمعنى لا يعذب أحد أحدا من الأزل إلى الأبد كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد أحدا من الأزل إلى الأبد كوثاق الله يومئذ فيومئذ وحينئذ متعلق بالمصدر أي عذابه وثاقه.
﴿ يا أيتها ﴾ بتقدير يقال جملة مستأنفة كأنه في جواب السائل إنما ذكر شأن الكفر فما شأن المؤمن فقال وتقديره يقال للمؤمنين :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ٢٧ ﴾ في ذكر الله تعالى وطاعته كما تطمئن السمكة في الماء وذلك الاطمئنان لا يتصور إلا بعد زوال صفاتها الرذائل الموجبة لكونه أمارة بالسوء وزوال تلك الصفات لا يمكن إلا بتجليات صفات الله الحميدة الحسناء وفنائها فيها وبقائها فتصير حينئذ مؤمنة إيمانا حقيقيا كما أن الكلب لا يمكن طهارته إلا بوقوعه في الملح وفنائه فيها وبقائه بصفات الملح حتى يصير حلالا طيبا.
﴿ ارجعي إلى ربك ﴾ أي إلى ذات البحث بلا حجب الأسماء والصفات ﴿ راضية ﴾ بالله وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وبما قدر الله لها حال من فاعل ارجعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ) متفق عليه، وذاق طعم الإيمان المراد به هو الإيمان الحقيق ﴿ مرضية ﴾ فإن رضا العبد بالله موجب لرضاء الله سبحانه عنه بل رضاء العبد أثر لرضائه تعالى ودليل عليه، قال الحسن إذا أراد الله قبضها اطمأنت ورضيت عن الله ورضي الله عنها، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا نكره الموت فقال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وأما الكافر إذا حضره الموت يبشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقائه ) متفق عليه، وفي رواية عائشة والموت قبل لقاء الله، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا حضر المؤمن الموت أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : أخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحانه ورب غير غضبان فيخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضه بعضا حتى يأتوا به أبواب السماء فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائب يقدم عليه فيسألوا ماذا فعل فلان ؟ فيقول : دعوه فإنه كان في غم الدنيا فيقول : قد مات أما أتاكم فيقولون قد ذهب به إلى أمه وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة العذاب بمسح فيقولون أخرجي ساخطة مسخوطا إليك أي عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به إلى باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار ) رواه أحمد والنسائي وفي رواية ابن ماجه نحوه وفيه ( ثم يعرج بها إلى السماء فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنها لا يفتح لك أبواب السماء ثم ترسل من السماء ثم يصير القبور ) وفي الباب أحاديث كثيرة واختلفوا في وقت هذه المقالة ؟ فقال قوم يقال لها ذلك عند الموت كما دلت عليه الأحاديث وقال أبو صالح في قوله ارجعي إلى ربك راضية مرضية، قال : هذا عند خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل فادخلي في عبادي وادخلي جنتي، وقال آخرون إنها يقال لها ذلك عند البعث ارجعي إلى ربك وادخلي في أجساد عبادي يعني جسدك فيأمر الله تعالى الأرواح أن ترجعي إلى الأجساد وهذا قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس، وقال الحسن معناه ارجعي إلى ثواب ربك وكرامة راضية من الله تعالى بما أعد الله مرضية رضي الله عنها ربها فادخلي في عبادي أي مع عبادي جنتي، قلت سياق الآية يؤيد هذا القول يعني أنها يقال عند البعث لأن الله ذكر حال الكفار عند البعث بقوله فيومئذ لا يعذب عذابه الخ فكذلك ذكر ما يقال للمؤمنين يومئذ والأحاديث المذكورة يؤيد القول الأول والجمع بينهما أنه يقال في الوقتين جميعا عند الموت وعند البعث، بل التحقيق ان استحقاق هذا الخطاب يحصل للنفس في الدنيا حصول الاطمئنان فيقال لها ارجعي إلى ربك مدارج قربه وتجلياته الذاتية راضية مرضية.
﴿ فادخلي في عبادي ٢٩ ﴾ أي في جملة عبادي الصالحين الذين سأل سليمان عليه السلام الدخول فيهم فقال :﴿ وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ وسأل يوسف عليه السلام اللحوق بهم حيث قال :﴿ توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾ وقال الله تعالى فيهم لإبليس ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ والفاء في فادخلي للسببية فإن اطمئنان النفس وكونها راضية مرضية سبب لخلوص العبودية لله سبحانه وذلك عن رقبة الإلهية الباطلة الهوائية ووساوس الخناسية قال الله تعالى :﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تعس عبد الدينار والدراهم والقطيفة والخميصة ) الحديث.
﴿ وادخلي جنتي ٣٠ ﴾ إضافة الجنة إلى الله سبحانه يقتضي خصوصا تلك الجنة من بين الجنات كما لا يخفى، قال البغوي قال سعيد بن جبير مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم ير على خلقه فدخل نعشه ثم لم نر خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لم يدر من تلاها :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ٢٧ ارجعي إلى ربك راضية مرضية ٢٨ فادخلي في عبادي ٢٩ وادخلي جنتي ٣٠ ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ٢٧ ﴾ الخ قالت : نزلت في حمزة رضي الله عنه وأخرج من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من اشترى هذه الأمة يستعذب بها غفر الله له فاشتراها عثمان ﴿ يا أيتها النفس المطمئنة٢٧ ﴾ الآية.
فائدة : قال بعض الصوفية : تأويل هذه الآية ﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ٢٧ ﴾ إلى الدنيا ﴿ ارجعي إلى ربك ﴾ بترك الدنيا والسلوك إليه في الطريق الصوفية، والله تعالى أعلم.