ﰡ
مكية على الصحيح، وآياتها عشرون آية، وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد، ثم بيان بعض نعم الله على الإنسان، ثم دعوته لاقتحام العقبة، مع بيان أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٢٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
المفردات:
كَبَدٍ: تعب ومشقة. لُبَداً: كثيرا. وَهَدَيْناهُ: دللناه وبينا له.
النَّجْدَيْنِ النجد: الطريق المرتفع، والمراد هنا سبيلا الخير والشر. اقْتَحَمَ اقتحم الدار: دخلها بشدة وصعوبة. الْعَقَبَةَ: الطريق الصعب، والمراد المشاق
المعنى:
ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بعبارة تدل على القسم وتأكيده- كما بيناه في سورة القيامة وفي سورة التكوير وفي سورة الانشقاق-: أقسم بهذا البلد، والمراد مكة المكرمة التي جعلت حرما آمنا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ «١» فيها الكعبة التي هي قبلة المسلمين، وفيها مقام إبراهيم، وفيها ظهور النور المحمدي الذي كان قياما للناس، وأقسم بكل والد وما ولد من إنسان وحيوان ونبات، أقسم بهذا كله على أن الإنسان خلق في تعب ومشقة، ولعلك تسأل ما السر في قوله: وأنت حل بهذا البلد؟ أى مكة، وقد جعل معترضا بين ما أقسم به من هذا البلد والوالد والولد وبين المقسم عليه، فأقول لك: هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها، أى: أقسم بهذا البلد، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك- وهذا معنى: وأنت حل، أى:
مستحل لهم- فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك، وفي هذا إيقاظ لضميرهم، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولعلك تسأل: وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه؟ والجواب: أنه جاء تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز:
وإن يكن هذا مع تعب ومشقة، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد.
أيحسب «٢» الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد؟! وهذا نوع منه، وذاك نوع آخر يقول: أهلكت مالا كثيرا،
(٢) هذا الاستفهام للإنكار.
يقول الشيخ محمد عبده- رحمه الله- في تفسيره: بعد أن أخبر الله- جل شأنه- بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر.
أما كان الأجدر بالإنسان: وقد خلق الله له العين ليبصر بها، واللسان والشفة ليتكلم وينطق بهما، وهداه إلى طريق الخير والشر بما وهبه من عقل مميز، وبما أرسل له من رسل وبما أنزل عليه من كتب، وترك له بعد ذلك حرية الاختيار، أما كان يجدر به أن يختار سبيل الخير، وينأى بنفسه عن سبيل الشر، ويصعد بها عن الدنايا ويقتحم العقبة التي في طريقه- وللإنسان عقبات من نفسه وشيطانه وهما أدنياه- وذلك بأن يكون جودا لله فيفك الرقبة ويعتقها أو يعمل على ذلك بكل قواه، أو يطعم في المجاعة والشدة يتيما، والقريب أولى، أو مسكينا يده ملصقة بالتراب لا يجد شيئا، ثم كان بعد ذلك من المؤمنين الكاملين الذين يتواصون بالصبر على تحمل المكاره في سبيل الله، ويتواصون أى: يوصى بعضهم بعضا بالرحمة على خلق الله، لا تنس أن السورة تدور حول تسلية النبي ليتحمل أذى قومه.
أولئك- الموصوفون بما ذكر- هم أصحاب الميمنة السابقون السعداء في الآخرة، أما من كفر بآيات ربه الكونية والقرآنية فأولئك هم أصحاب المشأمة: أصحاب الشمال الأشقياء الخالدون في جهنم كما يشير إلى ذلك قوله: عليهم نار مطبقة من كل جانب، فلا خلاص لهم منها.