ﰡ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة» «١».
سورة البلد
مكية، وآياتها ٢٠ [نزلت بعد ق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يعنى: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم.
عن شرحبيل: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم
قوله عز وجل إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ابراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أى بأى شيء وضعت، يعنى موضوعا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل:
كل والد وولد.
والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه.
وأصله: كبده، إذا أصاب كبده. قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ | قمنا وقام الخصوم في كبد «٤» |
(٢). قوله «فانه لقيوننا» القيون: جمع قين، وهو الحداد. كذا في الصحاح. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث أبى سلمة عن أبى هريرة وله طرق وألفاظ.
(٤). للبيد برثى أخاه أريد. وكبد كبدا كتعب: وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى صار كتعب في المعنى أيضا. يقول: يا عين هلا بكيت أخى وقت قيامنا للحرب وقيام الخصوم معنا فيه. والعاملان تنازعا قوله فِي كَبَدٍ ونزل عينه منزلة من يعقل، فخاطبها. وهلا: حرف تحضيض.
والضمير في أَيَحْسَبُ لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله ﷺ يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، وأنه يقول أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالى ومفاخر أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارا بينهم، يعنى: أن الله كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان، على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أى في مرض: وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد: هو أبو الأشد، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالنى عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة لُبَداً قرى بالضم والكسر:
جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة: وقرئ: لبدا بضمتين: جمع لبود. ولبدا:
بالتشديد جمع لا بد.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٨ الى ١٦]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)
فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما المرئيات وَلِساناً يترجم به عن ضمائره وَشَفَتَيْنِ يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أى طريقى الخير والشر. وقيل: الثديين فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعنى: فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان
الآية. فإن قلت: قلما تقع «إلا» الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله:
فأىّ أمر سيّئ لأفعله
لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت: هي متكررة في المعنى، لأن معنى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك.
وقال الزجاج قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على معنى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، ولا آمن.
والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبة، وعملها: اقتحاما لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقة: تخليصها من رق أو غيره.
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال:
تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها:
أن تعين في تخليصها من قود أو غرم «٢». والعتق والصدقة: من أفاضل الأعمال. وعن أبى حنيفة رضى الله عنه: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه: الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبى حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذى قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي ﷺ قال: «من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار «٣». قرئ: فك رقبة، أو إطعام على: هي فك رقبة، أو إطعام. وقرئ: فك رقبة، أو أطعم، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة، والمقربة، والمتربة: مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي.
وذو مقربتى. وترب: إذا افتقر، ومعناه. التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أى: صار
(٢). أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في الشعب، والثعلبي وابن مردويه والواحدي من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب وليس عند أحد منهم قوله «من قود أو غرم» وكأنه من كلام الزمخشري.
(٣). أخرجه الحاكم من حديث عقبة بن عامر بلفظ «من أعتق رقبة».
ذو نصب. وقرأ الحسن: ذا مسغبة نصبه بإطعام. ومعناه: أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة: الرحمة، أى: أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدى إلى رحمة الله. الميمنة والمشأمة: اليمين والشمال. أو اليمن والشؤم، أى: الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ. قرئ: موصدة، بالواو والهمزة، من وصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته وأغلقته. وعن أبى بكر بن عياش: لنا إمام يهمز مؤصدة، فأشتهى أن أسدّ أذنى إذا سمعته.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» «٢».
(٢). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.