ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) ﴾اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (يس) ؛ فقال بعضهم: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (يس) قال: فإنه قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله وقال آخرون: معناه: يا رجل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تُميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (يس) قال: يا إنسان بالحبشية.
حدثنا ابن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن شرقي، قال: سمعت عكرمة يقول: تفسير) يس) : يا إنسان.
وقال آخرون: هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال (يس) مفتاح كلام افتتح الله به كلامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يس) قال: كل هجاء في القرآن اسم من أسماء القرآن.
قال أبو جعفر، وقد بيَّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى عن إعادته وتكريره في هذا الموضع.
وقوله (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) يقول: والقرآن المحكم بما فيه من أحكامه، وبيِّنات حججه (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول تعالى ذكره مقسمًا بوحيه وتنزيله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنك يا محمد لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قسم كما تسمعون (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وقوله (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإسلام.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي على الإسلام.
وفي قوله (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وجهان؛ أحدهما: أن يكون معناه: إنك لمن المرسلين على استقامة من الحق، فيكون حينئذٍ "على" من قوله (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) من صلة الإرسال. والآخر أن يكون خبرًا مبتدأ، كأنه قيل: إنك لمن المرسلين، إنك على صراط مستقيم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) ﴾
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. ومعنى الكلام: إنك لمن المرسلين يا محمد إرسال الرب العزيز في انتقامه من أهل الكفر به، الرحيم بمن تاب إليه، وأناب من كفره وفسوقه أن يعاقبه على سالف جرمه بعد توبته له.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) فقال بعضهم: معناه: لتنذر قومًا بما أنذر الله من قبلهم من آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة في هذه الآية (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) قال: قد أنذروا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم (١).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) قال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم من إنذار الناس قبلهم. وقال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم أي: هذه الأمة لم يأتهم نذير، حتى جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
واختلف أهل العربية في معنى "ما" التي في قوله (مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) إذا وجِّهَ معنى الكلام إلى أن آباءهم قد كانوا أنذروا، ولم يُرد بها الجحد؛ فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: إذا أريد به غير الجحد لتنذرهم الذي أُنذِر آباؤهم (فَهُمْ غَافِلُونَ) وقال: فدخول الفاء في هذا المعنى لا يجوز، والله أعلم. قال: وهو على الجحد أحسن، فيكون معنى الكلام: إنك لمن المرسلين إلى قوم لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا في الفترة.
وقال بعض نحويي الكوفة: إذإ لم يُرد بما الجحد، فإن معنى الكلام: لتنذرهم بما أنذر آباؤهم، فتلقى الباء، فتكون "ما" في موضع نصب (فَهُمْ غَافِلُونَ) يقول: فهم غافلون عما الله فاعل: بأعدائه المشركين به، من إحلال نقمته، وسطوته بهم.
وقوله (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يقول تعالى ذكره: لقد وجب العقاب على أكثرهم، لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) ﴾
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ وَجْهًا | أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي |
أألخَيرُ الذي أنَا أبْتَغِيهِ | أم الشَّرُّ الَّذي لا يَأتَلِيني (١) |
وقوله (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) والمقمَح هو المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة، وفي قول بعض الكوفيين: هو الغاض بصره بعد رفع رأسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) قال: هو كقول الله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) قال: رافعو رءوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) : أي فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) يقول تعالى ذكره: وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدًّا، وهو الحاجز بين الشيئين؛ إذا فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم. وبالضم قرأ ذلك قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين. وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين (سَدًّا) في الحرفين كلاهما؛ والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.
وعنى بقوله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يَعْمَهُونَ، ولا يبصرون رشدًا، ولا يتنبهون حقًّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن،
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) عن الحق فهم يترددون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) قال: ضلالات.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) قال: جعل هذا سدًّا بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقرأ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)... الآية كلها، وقال: من منعه الله لا يستطيع.
وقوله (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يقول: فأغشينا أبصار هؤلاء أي: جعلنا عليها غشاوة؛ فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) هدى، ولا ينتفعون به.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عُمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا).. إلى قوله (فَهُمْ لا
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وسواء يا محمد على هؤلاء الذين حق عليهم القول، أي الأمرين كان منك إليهم؛ الإنذار، أو ترك الإنذار، فإنهم لا يؤمنون؛ لأن الله قد حكم عليهم بذلك. وقوله (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) يقول تعالى ذكره: إنما ينفع إنذارك يا محمد من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من أحكام الله (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ) يقول: وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناظرين، لا المنافق الذي يستخف بدين الله إذا خلا ويظهر الإيمان في الملأ ولا المشرك الذي قد طبع الله على قلبه. وقوله (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) يقول: فبشر يا محمد هذا الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة من الله لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) يقول: وثواب منه له في الآخرة كريم، وذلك أن يعطيه على عمله ذلك الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) واتباع الذكر: اتباع القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ
يقول تعالى ذكره (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى) من خلقنا (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) في الدنيا من خير وشر، وصالح الأعمال وسيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) من عمل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا إبن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) قال: ما عملوا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا قَدَّمُوا) قال: أعمالهم.
وقوله (وَآثَارَهُمْ) يعني: وآثار خطاهم بأرجلهم، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ليقرب عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت الأنصار بعيده منازلهم من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا، قال: فنزلت (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فثبتوا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سَلِمة قرب المسجد، قال: فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر، قال: سمعت كهمسا يحدث، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ " قال: فأقاموا وقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا.
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن طريف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: شكت بنو سَلِمة بُعد منازلهم إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنزلت (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال: "عَلَيكُمْ مَنَازِلَكُم تُكْتَبُ آثارُكم".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو نُمَيلة، قال: ثنا الحسين، عن ثابت، قال: مشيت مع أنس، فأسرعت المشي، فأخذ بيدي، فمشينا رُويدا، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت، فأسرعت المشي، فقال: يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن يونس، عن الحسن أن بني سَلِمة كانت دورهم قاصية عن المسجد، فهموا أن يتحولوا قرب المسجد، فيشهدون الصلاة مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال لهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "ألا تَحْتَسِبون آثارَكم يا بني سَلِمة؟ " فمكثوا في ديارهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم ابن أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله (مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) قال: خطاهم بأرجلهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَآثَارَهُمْ) قال: قال الحسن: وآثارهم قال: خطاهم. وقال قتادة: لو كان مُغْفِلا شيئًا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار.
وقوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: وكل شيء كان أو هو كائن أحصيناه، فأثبتناه في أم الكتاب، وهو الإمام المبين. وقيل (مُبِينٌ) لأنه يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) قال: في أم الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) كل شيء محصًى عند الله في كتاب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) قال: أم الكتاب التي عند الله فيها الأشياء كلها هي الإمام المبين.
يقول تعالى ذكره: ومثل يا محمد لمشركي قومك مثلا أصحاب القرية،
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) قال: ذُكر لنا أن عيسى ابن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية -مدينة بالروم- فكذبوهما فأعزهما بثالث (فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، قال: ثني السدي، عن عكرمة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) قال: أنطاكية.
وقال آخرون: بل كانوا رسلا أرسلهم الله إليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمَة قال: ثنا ابن إسحاق، فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه، قال: كان بمدينة أنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له أبطيحس بن أبطيحس يعبد الأصنام، صاحب شرك، فبعث الله المرسلين، وهم ثلاثة: صادق، ومصدوق، وسلوم، فقدم إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنان فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله، وصدعت بالذي أمرت به، وعابت دينه، وما هم عليه، قال لهم (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وقوله (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) يقول تعالى ذكره: حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذبوهما فشددناهما بثالث، وقويناهما به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) قال: شددنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد في قوله (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) قال: زدنا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) قال: جعلناهم ثلاثة، قال: ذلك التعزز، قال: والتعزز: القوة.
وقوله (فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) يقول: فقال المرسلون الثلاثة لأصحاب القرية: إنَّا إليكم أيها القوم مرسلون، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده، لا شريك له، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
وبالتشديد في قوله (فَعَزَّزْنَا) قرأت القراء سوى عاصم، فإنه قرأه بالتخفيف، والقراءة عندنا بالتشديد، لإجماع الحجة من القراء عليه، وأن معناه، إذا شُدد: فقوينا، وإذا خُفف: فغلبنا، وليس لغلبنا في هذا الموضع كثير معنى.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم حين أخبروهم أنهم أرسلوا إليهم بما أرسلوا به: ما أنتم أيها القوم إلا أُناس مثلنا، ولو كنتم رسلا كما تقولون، لكنتم ملائكة (وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ) يقول: قالوا:
(قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) يقول: قال الرسل: ربنا يعلم إنَّا إليكم لمرسلون فيما دعوناكم إليه، وإنَّا لصادقون
(وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقول: وما علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله التي أرسلنا بها إليكم بلاغًا يبين لكم أنَّا أبلغناكموها، فإن قبلتموها فحظ أنفسكم تصيبون، وإن لم تقبلوها فقد أدينا ما علينا، والله ولي الحكم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال أصحاب القرية للرسل (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) يعنون: إنَّا تشاءمنا بكم، فإن أصابنا بلاء فمن أجلكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) قالوا: إن أصابنا شر، فإنما هو من أجلكم.
وقوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) يقول: لئن لم تنتهوا عمَّا ذكرتم من أنكم أرسلتم إلينا بالبراءة من آلهتنا، والنهي عن عبادتنا لنرجمنكم، قيل: عني بذلك لنرجمنكم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: ولينالنكم منَّا عذاب موجع.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ
يقول تعالى ذكره: قالت الرسل لأصحاب القرية (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) يقولون: أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم، ذلك كله في أعناقكم، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم، وسبق لكم من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنايزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي: أعمالكم معكم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وعن كعب وعن وهب بن منبه، قالت لهم الرسل (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي: أعمالكم معكم.
وقوله (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) اختلفت القراءة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قراء الأمصار (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) بكسر الألف من "إن" وفتح
والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قراء الأمصار، وهي دخول ألف الاستفهام على حرف الجزاء، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك، لإجماع الحجة من القراء عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي: إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا؟ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
وقوله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) يقول: قالوا لهم: ما بكم التطير بنا، ولكنكم قوم أهل معاصٍ لله وآثامٍ، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام.
وقوله (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) يقول: وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم؛ وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر، فبلغ ذلك هذا الرجل، وكان منزله أقصى المدينة، وكان مؤمنًا، وكان اسمه فيما ذكر "حبيب بن مري".
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مُجِلِّز، قال: كان صاحب يس "حبيب بن مري".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن إسحاق فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان رجلا من أهل أنطاكية، وكان اسمه "حبيبًا" وكان يعمل الجَرير، وكان رجلا سقيمًا، قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبوب المدينة قاصيًا، وكان مؤمنًا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون، فيقسمه نصفين، فيطعم نصفًا عياله، ويتصدق بنصف، فلم يهمَّه
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مِقْسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول: كان اسم صاحب يس "حبيبًا" وكان الجذام قد أسرع فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) قال: ذُكر لنا أن اسمه "حبيب"، وكان في غار يعبد ربه، فلما سمع بهم أقبل إليهم. وقوله (قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) يقول تعالى ذكره: قال الرجل الذي جاء من أقصى المدينة لقومه: يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم، واقبلوا منهم ما أتوكم به.
وذُكر أنه لما أتى الرسل سألهم: هل يطلبون على ما جاءوا به أجرًا؟ فقالت الرسل: لا فقال لقومه حينئذٍ: اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجرًا
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما انتهى إليهم -يعني إلى الرسل- قال: هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا فقال عند ذلك (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي: لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون، فاتبعوهم تهتدوا بهداهم. وقوله (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يقول: وهم على استقامة من طريق الحق، فاهتدوا أيها القوم بهداهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذا الرجل المؤمن (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي: وأي شيء لي لا أعبد الرب الذي خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: وإليه تصيرون أنتم أيها القوم وتردون جميعًا، وهذا حين أبدى لقومه إيمانه بالله وتوحيده.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه قال: ناداهم -يعني نادى قومه- بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ
وقوله (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) يقول: أأعبد من دون الله آلهة، يعني معبودًا سواه (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ) يقول: إذ مسني الرحمن بضر وشدة (لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا) يقول: لا تغني عني شيئًا بكونها إليَّ شفعاء، ولا تقدر على رفع ذلك الضر عني (وَلا يُنْقِذُونِ) يقول: ولا يخلصوني من ذلك الضر إذا مسني.
وقوله (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول إني إن اتخذت من دون الله آلهة هذه صفتها (إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لمن تأمله، جوره عن سبيل الحق.
وقوله (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) فاختلف في معنى ذلك، فقال بعضهم: قال هذا القول هذا المؤمن لقومه يعلمهم إيمانه بالله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب، وعن وهب بن منبه (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) إني آمنت بربكم الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي.
وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسل، وقال لهم: اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، وأني قد آمنت بكم واتبعتكم؛ فذكر أنه لما قال هذا القول، ونصح لقومه النصيحة التي ذكرها الله في كتابه وثبوا به فقتلوه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة قتلهم إياه، فقال بعضهم: رجموه بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا رجل دعا قومه إلى الله، وأبدى لهم
وقال آخرون: بل وثبوا عليه، فوطئوه بأقدامهم حتى مات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما بلغه، عن ابن عباس، وعن كعب، وعن وهب بن منبه قال لهم (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي).. إلى قوله (فَاسْمَعُونِ) وثبوا وثبة رجل واحد فقتلوه واسضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال الله له إذ قتلوه كذلك فلقيه (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره فيه (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي) يقول: يا ليتهم يعلمون أن السبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وجعلني من الذين أكرمهم الله بإدخاله إياه جنته، كان إيماني بالله وصبري فيه، حتى قتلت، فيؤمنوا بالله ويستوجبوا الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًّا يرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما دخلها (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) قال: فلا تلقى المؤمن إلا ناصحًا، ولا تلقاه غاشًّا، فلما عاين من كرامة الله (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله، وما هجم عليه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قال: قيل: قد وجبت له الجنة؛ قال ذاك حين رأى الثواب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قال: وجبت لك الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قال: وجبت له الجنة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مجلز، في قوله (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي) قال إيماني بربي، وتصديقي رسله، والله أعلم.
يقول تعالى ذكره: وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم (مِنْ بَعْدِهِ) يعني: من بعد مهلكه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ).
واختلف أهل التأويل في معنى الجند الذي أخبر الله أنه لم ينزل إلى قوم هذا المؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عُنِي بذلك أنه لم ينزل الله بعد ذلك إليهم رسالة، ولا بعث إليهم نبيًّا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ) قال: رسالة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ) قال: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الله تعالى ذكره لم يبعث لهم جنودًا يقاتلهم بها، ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، أن عبد الله بن مسعود، قال: غضب الله له، يعني لهذا المؤمن،
وهذا القول الثاني أولى القولين بتأويل الآية، وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك الرُّسُل، فيكون وجهًا، وإن كان أيضًا من المفهوم بظاهر الآية بعيدًا، وذلك أن الرسل من بني آدم لا ينزلون من السماء والخبر في ظاهر هذه الآية عن أنه لم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا المؤمن على قومه جندًا وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.
وقوله (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) يقول: ما كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها الله من السماء عليهم.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) نصبا على التأويل الذي ذكرت، وأنّ في كانت مضمرًا وذُكر عن أبي جعفر المدني أنه قرأه (إلا صيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) رفعًا على أنها مرفوعة بكان، ولا مضمر في كان.
والصواب من القراءة في ذلك عندي النصب لإجماع الحجة على ذلك، وعلى أن في كانت مضمرًا.
وقوله (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) يقول: فإذا هم هالكون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: يا حسرةً من العباد على أنفسها وتندّما وتلهفا في
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) أي: يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيَّعت من أمر الله، وفرّطت في جنب الله. قال: وفي بعض القراءات: (يَاحَسْرَةَ العِبَادِ عَلى أنْفُسِهَا).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) قال: كان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) يقول: يا ويلا للعباد. وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: يا لها حسرة على العباد.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ألم ير هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم بتكذيبهم رسلنا، وكفرهم بآياتنا من القرون الخالية (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) يقول: ألم يَرَوا أنهم إليهم لا يرجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) قال: عاد وثمود، وقرون بين ذلك كثير.
و"كَمْ" من قوله (كَمْ أَهْلَكْنَا) في موضع نصب إن شئت بوقوع يروا عليها. وقد ذَكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ألَمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنَا) وإن شئت بوقوع أهلكنا عليها؛ وأما "أنهم"، فإن الألف منها فتحت بوقوع يروا عليها. وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها على وجه الاستئناف بها، وترك إعمال يروا فيها.
وقوله (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) يقول تعالى ذكره: وإن كل هذه القرون التي أهلكناها والذين لم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القيامة جميعهم محضرون.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) أي هم يوم القيامة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (وَإنْ كُلٌّ لَمَا) بالتخفيف توجيها منهم إلى أن ذلك "ما" أدخلت عليها اللام التي تدخل جوابًا لإنْ وأن معنى الكلام: وإن كلّ لجميع لدينا محضرون. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة (لَمَّا) بتشديد الميم. ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أن يكون الكلام عندهم كان مرادًا به: وإن كلّ لمما جميع، ثم حذفت إحدى الميمات لما كثرت، كما قال الشاعر:
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بنُ وَائِلٍ | وَعُجْنَا صُدُورَ الخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمٍ (١) |
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ودلالة لهؤلاء المشركين على قُدرة الله على ما يشاء، وعلى إحيائه من مات من خلقه وإعادته بعد فنائه، كهيئته قبل مماته إحياؤه الأرض الميتة، التي لا نبت فيها ولا زرع بالغيث الذي ينزله من السماء حتى يخرج زرعها، ثم إخراجه منها الحب الذي هو قوت لهم وغذاء، فمنه يأكلون.
وقوله (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) يقول تعالى ذكره: وجعلنا
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: أنشأنا هذه الجنات في هذه الأرض ليأكل عبادي من ثمره، وما عملت أيديهم يقول: ليأكلوا من ثمر الجنات التي أنشأنا لهم، وما عملت أيديهم مما غرسوا هم وزرعوا. و"ما" التي في قوله (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) في موضع خفض عطفًا على الثمر، بمعنى: ومن الذي عملت؛ وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر: (وَممَّا عَمِلَتْهُ) بالهاء على هذا المعنى، فالهاء في قراءتنا مضمرة، لأن العرب تضمرها أحيانًا، وتظهرها في صلات: من، وما، والذي. ولو قيل: "ما" بمعنى المصدر كان مذهبًا، فيكون معنى الكلام: ومن عمل أيديهم، ولو قيل: إنها بمعنى الجحد ولا موضع لها كان أيضًا مذهبا، فيكون معنى الكلام: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم. وقوله (أَفَلا يَشْكُرُونَ) يقول: أفلا يشكر هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الميتة التي أحييناها لهم مَنْ رزقهم ذلك وأنعم عليهم به؟
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) ﴾
يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة للذي خلق الألوان المختلفة كلها من نبات الأرض، ومن أنفسهم، يقول: وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا، ومما لا يعلمون أيضًا من الأشياء التي لم يطلعهم عليها، خلق كذلك أزواجًا مما يضيف إليه هؤلاء المشركون، ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك.
يقول تعالى ذكره: ودليل لهم أيضًا على قدرة الله على فعل كل ما شاء (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) يقول: ننزع عنه النهار. ومعنى "منه" في هذا الموضع: عنه، كأنه قيل: نسلخ عنه النهار، فنأتي بالظلمة ونذهب بالنهار. ومنه قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) أي: خرج منها وتركها، فكذلك انسلاخ الليل من النهار. وقوله (فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) يقول: فإذا هم قد صاروا في ظلمة بمجيء الليل.
وقال قتادة في ذلك ماحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) قال: يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهذا الذي قاله قتادة في ذلك عندي، من معنى سلخ النهار من الليل، بعيد، وذلك أن إيلاج الليل في النهار، إنما هو زيادة ما نقص من ساعات هذا في ساعات الآخر، وليس السلْخ من ذلك في شيء، لأن النهار يسلخ من الليل كله، وكذلك الليل من النهار كله، وليس يولج كلّ الليل في كلّ النهار، ولا كلّ النهار في كلّ الليل.
وقوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) يقول تعالى ذكره: والشمس تجري لموضع قرارها، بمعنى: إلى موضع قرارها؛ وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذرَ الغفاريّ، قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى الله
وقال بعضهم في ذلك بما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) قال: وقت واحد لا تعدوه.
وقال آخرون: معنى ذلك: تجري لمجرى لها إلى مقادير مواضعها، بمعنى: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع ولا تجاوزه. قالوا: وذلك أنها لا تزال تتقدم كلّ ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وقوله (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لمستقر لها، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم بمصالح خلقه، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يخفي عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) ﴾
اختلفت القراء في قراءة قوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) فقرأه بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين: (وَالقَمَرُ) رفعا عطفًا بها على الشمس، إذ كانت الشمس معطوفة على الليل، فأتبعوا القمر أيضًا الشمس في الإعراب، لأنه أيضًا من الآيات، كما الليل والنهار آيتان، فعلى هذه القراءة تأويل الكلام: وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين، وعامة قرّاء الكوفة نصبا (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ) بمعنى: وقدّرنا القمر منازل، كما فعلنا ذلك بالشمس، فردّوه على الهاء من الشمس في المعنى، لأن الواو التي فيها للفعل المتأخر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يقول: أصل العِذق العتيق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يعني بالعُرجون: العذقَ اليابس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) قال: كعِذْق النخلة إذا قدُم فانحنى.
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقيّ، قال: ثنا أبو يزيد الخرّاز، يعني خالد بن حيان الرقيِّ، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصمّ في قوله (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) قال: عذق النخلة إذا قدُم انحنى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، عن عكرمة، في قوله (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) قال: النخلة القديمة.
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي وابن سنان القزّاز، قالا ثنا أبو عاصم والمقدمي، قال: سمعت أبا عاصم يقول: سمعت سليمان التيمي في قوله (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) قال: العذْق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) قال: قدّره الله منازل، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق النخلة، شبهه بعذق النخلة.
وقوله (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) يقول تعالى ذكره: لا الشمس يصلح لها إدراك القمر، فيذهب ضوؤها بضوئه، فتكون الأوقات كلها نهارًا لا ليل فيها (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) يقول تعالى ذكره: ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه، فتكون الأوقات كلها ليلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويل ذلك، إلا أن معاني عامتهم الذي قلناه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد في قوله (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال: لا يشبه ضوءها ضوء الآخر، لا ينبغي لها ذلك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال: لا يُشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، ولا ينبغي ذلك لهما
وفي قوله (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) قال: يتطالبان حَثيثين ينسلخ أحدهما من الآخر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) وهذا في ضوء القمر وضوء الشمس، إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر بضوئه لم يكن للشمس ضوء (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) قال: في قضاء الله وعلمه أن لا يفوت الليل النهار حتى يدركه، فيذهب ظلمته، وفي قضاء الله أن لا يفوت النهار الليل حتى يدركه، فيذهب بضوئه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) ولكلٍّ حدٌّ وعلم لا يعدوه، ولا يقصر دونه؛ إذا جاء سلطان هذا، ذهب سلطان هذا، وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) يقول: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر، وأنْ من قوله (أَنْ تُدْرِكَ) في موضع رفع بقوله: ينبغي.
وقوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يقول: وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: مجرى كلّ واحد منهما، يعني الليل والنهار، في فَلَك يسبحون: يجرون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: في فلك السماء يسبحون.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) دورانا، يقول: دورانا يسبحون؛ يقول: يجرون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يعني: كلّ في فلك في السموات؟.
يقول تعالى ذكره: ودليل لهم أيضًا، وعلامة على قُدرتنا على كلّ ما نشاء، حملنا ذرّيتهم، يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح، وإياها عنى جلّ ثناؤه بالفُلك المشحون؛ والفلك: هي السفينة، والمشحون: المملوء الموقر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله (أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يقول: الممتلئ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يعني المثقل.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال: الموقَر.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله (الْمَشْحُونِ) قال: المحمول.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يعني: سفينة نوح عليه السلام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الموقر، يعني سفينة نوح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال: الفلك المشحون: المَرْكَب الذي كان فيه نوح، والذرية التي كانت في ذلك المركب؛ قال: والمشحون: الذي قد شُحِن، الذي قد جعل فيه ليركبه أهله، جعلوا فيه ما يريدون، فربما امتلأ وربما لم يمتلىء.
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: أتدرون ما الفُلك المشحون؟ قلنا: لا قال: هو المُوقَر.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِي، قال: ثنا هارون، عن جُوَيبر، عن
وقوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يقول تعالى ذكره: وخلقنا لهؤلاء المشركين المكذّبيك يا محمد، تفضلا منا عليهم، من مثل ذلك الفلك الذي كنا حملنا من ذرية آدم مَنْ حملنا فيه الذي يركبونه من المراكب.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله (مَا يَرْكَبُونَ) فقال بعضهم: هي السفن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: تدرون ما (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) ؟ قلنا: لا. قال: هي السفن جُعِلت من بعد سفينة نوح على مِثْلها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: السفن الصغار.
قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك، في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: السفن الصغار، ألا ترى أنه قال (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ؟
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن في هذه الآية (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: السفن الصغار.
حدثنا حاتم بن بكر الضَّبي، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن شعبة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: السفن الصغار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يعني: السفن التي اتخذت
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: هي السفن التي ينتفع بها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: وهي هذه الفلك.
حدثني يونس، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: نعم من مثل سفينة.
وقال آخرون: بل عني بذلك الإبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يعني: الإبل، خَلَقها الله كما رأيت، فهي سفن البر، يحملون عليها ويركبونها.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا غندر، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: الإبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، قال: قال عبد الله بن شداد (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) هي الإبل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) قال: من الأنعام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: هي الإبل.
وأشبه القولين بتأويل ذلك قول من قال: عُنِي بذلك السفن، وذلك لدلالة
وقوله (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: وإن نشأ نغرق هؤلاء المشركين إذا ركبوا الفُلك في البحر (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) يقول: فلا مُغِيث لهم إذا نحن غرّقناهم يُغِيثهم، فينجيهم من الغرق.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي: لا مُغِيث
وقوله (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) يقول: ولا هو ينقذهم من الغرق شيء إن نحن أغرقناهم في البحر، إلا أن ننقذهم نحن رحمة منا لهم، فننجيهم منه.
وقوله (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) يقول: ولنمتعهم إلى أجل هم بالغوه، فكأنه قال: ولا هم يُنْقذُونَ، إلا أن نرحمهم فنمتعهم إلى أجل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) أي: إلى الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله، المكذّبين رسوله محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله وَمثُلاته بمن حلّ ذلك به من الأمم قبلكم أن يحلّ مثله بكم بشرككم وتكذيبكم رسوله. (وَمَا خَلْفَكُمْ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) : وقائع الله فيمن خلا قبلهم من الأمم وما خلفهم من أمر الساعة.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) قال: ما مضى من ذنوبهم، وهذا القول قريب المعنى من القول الذي قلنا، لأن معناه: اتقوا عقوبة ما بين أيديكم من ذنوبكم، وما خلفكم مما تعملون من الذنوب ولم تعملوه بعد، فذلك بعد تخويف لهم العقاب على كفرهم.
وقوله (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) يقول تعالى ذكره: وما تجيء هؤلاء المشركين من قريش آية، يعني حجة من حُجَج الله، وعلامة من علاماته على حقيقة توحيده، وتصديق رَسُوله، إلا كانوا عنها معرضين، لا يتفكرون فيها، ولا يتدبرونها، فيعلموا بها ما احتجّ الله عليهم بها.
فإن قال قائل: وأين جواب قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ) ؟ قيل: جوابه وجواب قوله (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ)... قوله (إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) لأن الإعراض منهم كان عن كل آية لله، فاكتفي بالجواب عن قوله (اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) وعن قوله (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) بالخبر عن إعراضهم عنها لذلك، لأن معنى الكلام: وإذا قيل لهم اتقوا
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله: أنفقوا من رزق الله الذي رزقكم، فأدوا منه ما فرض الله عليكم فيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم، قال الذين أنكروا وحدانية الله، وعبدوا من دونه للذين آمنوا بالله ورسوله: أنطعم أموالنا وطعامنا مَنْ لو يشاء الله أطعمه.
وفي قوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وجهان: أحدهما أن يكون من قيل الكفار للمؤمنين، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ما أنتم أيها القومُ في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم، إلا في ذهاب عن الحق، وجور عن الرشد مُبين لمن تأمله وتدبره، أنه في ضلال، وهذا أولى وجهيه بتأويله. والوجه الآخر: أن يكون ذلك من قيل الله للمشركين، فيكون تأويله حينئذ: ما أنتم أيها الكافرون في قيلكم للمؤمنين: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إلا في ضلال مبين، عن أن قيلكم ذلك لهم ضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون المكذبون وعيد الله، والبعثَ بعد الممات، يستعجلون ربهم بالعذاب (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) أي: الوعد بقيام الساعة (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أيها القوم، وهذا قولهم لأهل الإيمان بالله ورسوله.
يقول تعالى ذكره: ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم، إلا صيحة واحدة تأخذهم، وذلك نفخة الفَزَع عند قيام الساعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الآثار.
* ذكر من قال ذلك، وما فيه من الأثر: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، قالا ثنا عوف بن أبي جميلة عن أبي المغيرة القواس، عن عبد الله بن عمرو، قال: ليُنْفَخَنّ في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يُرسله أحدهما من يده حتى يُنفَخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصُّور، وهي التي قال الله (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً)... الآية".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ذُكر لنا أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: "تَهِيجُ السَّاعَةُ بالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي ماشِيَتَهُ، والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتَهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذلكَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونِ ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) قال: النفخة نفخة واحدة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن ذكره، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة،
واختلفت القراء في قراءة قوله (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) فقرأ ذلك بعض قراء المدينة: (وَهُمْ يَخْصّمُون) بسكون الخاء وتشديد الصاد، فجمع بين الساكنين، بمعنى: يختصمون، ثم أدغم التاء في الصاد فجعلها صادا مشددة، وترك الخاء على سكونها في الأصل. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: (وَهُمْ يَخَصّمُون) بفتح الخاء وتشديد الصاد بمعنى: يختصمون، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتحة التي في يفتعلون إلى الخاء منها، فحرّكوها بتحريكها، وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: (يَخِصِّمُونَ) بكسر الخاء وتشديد الصاد، فكسروا الخاء بكسر الصاد وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك آخرون منهم: (يَخْصِمُون) بسكون الخاء وتخفيف الصاد، بمعنى (يَفْعِلُون) من الخصومة، وكأن معنى قارئ ذلك كذلك: كأنهم يتكلمون،
والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفات في قرّاء الأمصار، متقاربات المعاني، فبأيتهنّ قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) يقول تعالى ذكره: فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في الصُّور أن يوصوا في أموالهم أحدا (وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) يقول: ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم، لأنهم لا يُمْهَلون بذلك. ولكن يُعَجَّلون بالهلاك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي: فيما في أيديهم (وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) قال: أُعْجِلوا عن ذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً)... الآية، قال: هذا مبتدأ يوم القيامة، وقرأ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) حتى بلغ (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣) ﴾
يقول تعالى ذكره (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وقد ذكرنا اختلاف المختلفين
وقوله (فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ) يعني من أجداثهم، وهي قبورهم، واحدها جدث، وفيها لغتان، فأما أهل العالية، فتقوله بالثاء: جَدَث، وأما أهل السافلة فتقوله بالفاء جَدَف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يقول: من القبور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ) أي: من القبور.
وقوله (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يقول: إلى ربهم يخرجون سراعا، والنَّسَلان: الإسراع في المشي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَنْسِلُونَ) يقول: يخرجون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي: يخرجون.
وقوله (قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون لما نفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) وقد قيل: إن ذلك نومة بين النفختين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عن الحسن، عن أُبي بن كعب، في قوله (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) قال: ناموا نومة قبل البعث.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن رجل يقال له خيثمة في قوله (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) قال: ينامون نومة قبل البعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) هذا قول أهل الضلالة. والرَّقدة: ما بين النفختين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا) قال: الكافرون يقولونه.
ويعني بقوله (مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا) من أيقظنا من منامنا، وهو من قولهم: بعث فلان ناقته فانبعثت، إذا أثارها فثارت. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: (مِنْ أّهَبَّنَاِ مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا).. وفي قوله (هَذَا) وجهان: أحدهما: أن تكون إشارة إلى "ما"، ويكون ذلك كلاما مبتدأ بعد تناهي الخبر الأول بقوله (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) فتكون "ما" حينئذ مرفوعة بهذا، ويكون معنى الكلام: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلون. والوجه الآخر: أن تكون من صفة المرقد، وتكون خفضا وردا على المرقد، وعند تمام الخبر عن الأول، فيكون معنى الكلام: من بعثنا من مرقدنا هذا، ثم يبتدىء الكلام فيقال: ما وعد الرحمن، بمعنى: بعثكم وعد الرحمن، فتكون "ما" حينئذ رفعا على هذا المعنى.
وقد اختلف أهل التأويل في الذي يقول حينئذ: هذا ما وعد الرحمن،
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) مما سر المؤمنون يقولون هذا حين البعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) قال: قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرَّحْمَنُ وصدق المرسلون.
وقال آخرون: بل كلا القولين، أعني (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) : من قول الكفار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) ثم قال بعضهم لبعض (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الموت، ونُحاسب ونُجازَى.
والقول الأول أشبه بظاهر التنزيل، وهو أن يكون من كلام المؤمنين، لأن الكفار في قيلهم (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) دليل على أنهم كانوا بمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهَّالا ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلا من غيرهم، ممن خالفت صفته صفتهم في ذلك.
وقوله (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) يقول تعالى ذكره: إن كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثالثة في الصور (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) يقول: فإذا هم مجتمعون لدينا قد أُحْضروا، فأشهدوا مَوْقفَ العرض والحساب، لم يتخلف عنه منهم أحد. وقد بينا اختلاف المختلفين في قراءتهم (إِلا صَيْحَةً) بالنصب والرفع فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
يقول تعالى ذكره (فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) كذلك ربنا لا يظلم نفسا شيئا، فلا يوفيها جزاء عملها الصالح، ولا يحمل عليها وِزْر غيرها، ولكنه يوفي كلّ نفس أجر ما عملت من صالح، ولا يعاقبها إلا بما اجترمت واكتسبت من شيء (وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول: ولا تكافئون إلا مكافأة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا.
وقوله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جلّ ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارَى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شَمِر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) قال: شغلهم افتضاض العذارى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) قال: افتضاض الأبكار.
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن أبيه،
حدثني الحسن بن زُرَيْق الطُّهَوِي، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
حدثني الحسين بن علي الصُّدائي، قال: ثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن وائل بن داود، عن سعيد بن المسيب، في قوله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) قال: في افتضاض العذارى وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: أنهم في نعمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) قال: في نعمة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان، عن جويبر، عن أبي سهل، عن الحسن، في قول الله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).. الآية، قال: شغلهم النعيم عما فيه أهل النار من العذاب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم في شغل عما فيه أهل النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عليّ الجَهْضَمِيّ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبان بن تغلب، عن إسماعيل بن أبي خالد (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)... الآية، قال: في شغل عما يلقى أهلُ النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) وهم أهلها (فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) بنعم تأتيهم في شغل، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة، وافتضاض أبكار، ولهو ولذة، وشغل عما يلقى أهل النار.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله (فِي شُغُلٍ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة وبعض البصريين على اختلاف عنه: (فِي شُغْلٍ) بضم الشين وتسكين
والصواب في ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين، أو بضم الشين وسكون الغين، بأي ذلك قرأه القارئ فهو مصيب، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في قراء الأمصار مع تقارب معنييهما. وأما قراءته بفتع الشين والغين، فغير جائزة عندي، لإجماع الحجة من القراء على خلافها.
واختلفوا أيضًا في قراءة قوله (فَاكِهُونَ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار (فَاكِهُونَ) بالألف. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه: (فَكِهُونَ) بغير ألف.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بالألف، لأن ذلك هو القراءة المعروفة.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فَرِحون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) يقول: فرحون.
وقال آخرون: معناه: عجبون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَاكِهُونَ) قال: عجبون.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَكِهُونَ) قال: عَجِبون.
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّكَ | لابنٌ بالصَّيْفِ تامِرْ (١) |
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) ﴾
يعني تعالى بقوله (هُمْ) أصحاب الجنة (وَأَزْوَاجُهُمْ) من أهل الجنة في الجنة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (فِي ظُلَلٍ) بمعنى: جمع ظلة، كما تُجمع الْحُلة حُلَلا. وقرأه آخرون (في ظِلالٍ) ؛ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان: أحدهما أن يكون مُرادًا به جمع الظُّلَل الذي هو بمعنى الكِنّ، فيكون معنى الكلمة حينئذ: هم وأزواجهم في كِنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنيا، لأنه لا شمس فيها. والآخر: أن يكون مرادا به جمع ظلة، فيكون وجه جمعها كذلك نظير جمعهم الخلة في الكثرة: الخلال، والقُلَّة: قِلال.
وقوله (عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) والأرائك: هي الحِجال فيها السُرر والفُرُش: واحدتها أريكة، وكان بعضهم يزعم أن كل فِراش فأريكة، ويستشهد لقوله ذلك بقول ذي الرمة:
.......................... كأنَّما يُبَاشِرْنَ بالمَعزاءِ مَسَّ الأرَائِكِ (١)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) قال: هي السُّرُر في الحِجال.
"خدودا جفت في السير حتى كأنما". وخدودا منصوب مفعول به لكسا في البيت الذي قبله. وقال شارح ديوانه: أرادوا كسوا حيث موتت الرياح خدودا.. إلخ. أي صيروا المكان الذي ناموا فيه كسوة الخدود. اهـ. والمعزاء: الأرض فيها الحجارة والحصى. والأرائك؛ واحدها أريكة وهي السرير في الحجلة. يقول: من شدة النوم يرون الأرض ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك. واستشهد أبو عبيدة بالبيت في مجاز القرآن (الورقة ٢٠٧) عند قوله تعالى: (على الأرائك) وقال: واحدتها: أريكة، وهو الفرش في الحجال. قال ذو الرمة: "خدودا... " البيت، جعلها فراشا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، في قوله (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) قال: الأرائك: السُّرُر في الحِجال.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حُصَيْن، عن مجاهد، في قوله (عَلَى الأرَائِكِ) قال: سُرُر عليها الحِجال.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم محمد أن عكرمة قال: الأرائك: السُّرُر في الحِجال.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن، وسأله رجل عن الأرائك قال: هي الحجال. أهل اليمن يقولون: أريكة فلان. وسمعت عكرمة وسئل عنها فقال: هي الحجال على السُّرر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) قال: هي الحِجال فيها السرر.
وقوله (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ) يقول لهؤلاء الذين ذكرهم تبارك وتعالى من أهل الجنة في الجنة فاكهة (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) يقول: ولهم فيها ما يتَمنُّون. وذُكر عن العرب أنها تقول: دع عليّ ما شئت أي: تمنّ عليّ ما شئت.
وقوله (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) في رفع سلامٌ وجهان في قول بعض نحويّي الكوفة؛ أحدهما: أن يكون خبرا لما يدّعون، فيكون معنى الكلام: ولهم ما يدّعون مسلَّم لهم خالص. وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى ذلك كان القول حينئذ منصوبا توكيدا خارجا من السلام، كأنه قيل: ولهم فيها ما يدّعون مسلَّم خالص حقا، كأنه قيل: قاله قولا. والوجه الثاني: أن يكون قوله (سَلامٌ) مرفوعا على المدح، بمعنى: هو سلام لهم قولا من الله. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله:
والذي هو أولى بالصواب على ما جاء به الخبر عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، أن يكون (سَلامٌ) خبرا لقوله (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) فيكون معنى ذلك: ولهم فيها ما يدعون، وذلك هو سلام من الله عليهم، بمعنى: تسليم من الله، ويكون قَولا ترجمة ما يدعون، ويكون القول خارجا من قوله: سلام.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لما حَدَّثنا به إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب، يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل يمشي في ظُلَل من الغمام والملائكة، فيقف على أول أهل درجة، فيسلم عليهم، فيردون عليه السلام، وهو في القرآن (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فيقول: سَلُوا، فيقولون: ما نسألك وعزتك وجلالك، لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثَّقَلين لأطعمناهم وسقيناهم وكسوناهم، فيقول: سَلُوا، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: رضائي أحلَّكم دار كرامتي، فيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتى ينتهي، قال: ولو أن امرأة من الحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوَارَيْها الشمس والقمر، فكيف بالمُسَوَّرة".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذ فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام، قال القُرظي: وهذا في كتاب الله (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ؟ فيقول: سَلُوني، فيقولون: ماذا نسألك، أي رَبّ؟ قال: بل سلوني قالوا: نسألك أي ربّ رضاك، قال: رضائي أحلكم
حدثنا ابن سنان القزاز، قال: ثنا أبو عبد الرحمن، قال: ثنا حرملة، قال: ثنا سليمان بن حميد، أنه سمع محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار، أقبل يمشي في ظُلل من الغمام ويقف، قال: ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: فيقولون: فماذا نسألك يا رب، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو أنك قسمت علينا أرزاق الثقلين، الجن والإنس، لأطعمناهم، ولسقيناهم، ولأخدمناهم، من غير أن ينتقص ذلك شيئًا مما عندنا، قال: بلى فسلوفي، قالوا: نسألك رضاك، قال: رضائي أحلَّكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كلّ درجة، حتى ينتهي إلى مجلسه. وسائر الحديث مثله". فهذا القول الذي قاله محمد بن كعب، ينبىء عن أنَّ "سلام " بيان عن قوله (مَا يَدَّعُونَ)، وأن القول خارج من السلام. وقوله (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يعني: رحيم بهم إذ لم يعاقبهم بما سلف لهم من جُرْم في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) ﴾
يعني بقوله (وَامْتَازُوا) : تَميزوا؛ وهي افتعلوا، من ماز يميز، فعل يفعل منه: امتاز يمتاز امتيازا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) قال: عُزِلوا عن كل خير.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أمَرَ اللهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ).. الآية، إلى قوله (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) فيَتَمَيَّزُ النَّاسُ ويَجْثُونَ، وَهِيَ قَوْلُ اللهِ (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ)... الآية ".
فتأويل الكلام إذن: وتميزوا من المؤمنين اليوم أيها الكافرون بالله، فإنكم واردون غير موردهم، داخلون غير مدخلهم.
وقول (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه منه، وهو: ثم يقال: ألم أعهد إليكم يا بني آدم، يقول: ألم أوصكم وآمركم في الدنيا أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه في معصية الله (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يقول: وأقول لكم: إن الشيطان لكم عدو مبين، قد أبان لكم عداوته بامتناعه من السجود، لأبيكم آدم، حسدًا منه له، على ما كان الله أعطاه من الكرامة، وغُروره إياه، حتى أخرجه وزوجته من الجنة.
وقوله (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يقول: وألم أعهد إليكم أن اعبدوني دون كلّ ما سواي من الآلهة والأنداد، وإياي فأطيعوا، فإن إخلاص عبادتي، وإفراد طاعتي، ومعصية الشيطان، هو الدين الصحيح، والطريق المستقيم.
يعني تعالى ذكره بقوله (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا) : ولقد صد الشيطان منكم خلقًا كثيرا عن طاعتي، وإفرادي بالألوهة حتى عبدوه، واتخذوا من دوني آلهة يعبدونها.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا) قال: خلقا.
واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين (جِبِلا) بكسر الجيم وتشديد اللام، وكان بعض المكِّيين وعامة قراء الكوفة يقرءونه (جُبُلا) بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وكان بعض قراء البصرة يقرؤه: (جُبْلا) بضم الجيم وتسكين الباء، وكل هذه لغات معروفات، غير أني لا أحب القراءة في ذلك إلا بإحدى القراءتين اللتين إحداهما بكسر الجيم وتشديد اللام، والأخرى: ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، لأن ذلك هو القراءة التي عليها عامة قراء الأمصار.
وقوله (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) يقول: أفلم تكونوا تعقلون أيها المشركون، إذ أطعتم الشيطان في عبادة غير الله، أنه لا ينبغي لكم أن تطيعوا عدوكم وعدو الله، وتعبدوا غير الله. وقوله (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) يقول: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، فكنتم بها تكذبون. وقيل: إن جهنم أول باب من أبواب النار. وقوله (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) يقول: احترقُوا بها اليوم ورِدُوها؛ يعني باليوم: يوم القيامة (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) : يقول: بما كنتم تَجْحدونها في الدنيا، وتكذبون بها.
يعني تعالى ذكره بقوله (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) : اليوم نطبع على أفواه المشركين، وذلك يوم القيامة (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ) بما عملوا في الدنيا من معاصي الله (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) قيل: إن الذي ينطق من أرجلهم: أفخاذهم من الرجل اليُسرى (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) في الدنيا من الآثام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربُّه عمله فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت، قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها، فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فود أن الناس كلهم يرونها؛ ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول أي: رب، وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول له الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أي رب، ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم على فيه. قال الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه لفخذه اليمنى، ثم تلا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنى يحيى، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الشعبي، قال: يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملت، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول لجوارحه: أبعدكن الله، ما خاصمت إلا فيكن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (الْيَوْمَ
حدثني محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن عقبة بن عامر، أنه سمع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "أوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسانِ، يَوْمَ يَخْتِمُ اللهُ على الأفْوَاهِ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى، وأضللناهم عن قصد المَحَجَّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) يقول: أضللتهم وأعميتهم عن الهدى وقال آخرون: معنى ذلك: ولو نشاء لتركناهم عميا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) قال: لو يشاء لطمس على أعينهم فتركهم عميًا يترددون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَوْ نَشَاءُ
وقوله (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) يقول: فابتدروا الطريق.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) قال الطريق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) أي: الطريق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) قال: الصراط، الطريق.
وقوله (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول: فأي وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق، وقد طمسنا على أعينهم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وقد طمسنا على أعينهم.
وقال الذين وجهوا تأويل قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) إلى أنه معني به العمى عن الهدى، تأويل قوله (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) : فأنى يهتدون للحق
-حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول: فكيف يهتدون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول: لا يبصرون الحق.
وقوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) يقول تعالى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) يقول: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا أن يرجعوا وراءهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) قال: لو نشاء لأقعدناهُمْ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد عن قتادة (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) أي: لأقعدناهم على أرجلهم (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) يقول: ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم، والمكانة والمكان بمعنى واحد. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل.
يقول تعالى ذكره (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) فنمُد له في العمر (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نرده إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس في الخلق، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق، لكيلا يعلم بعد علم شيئا، يعني الهَرَم.
واختلفت القراء في قراءة قوله (نُنَكِّسْهُ) فقرأه عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (نَنْكِسْهُ) بفتح النون الأولى وتسكين الثانية، وقرأته عامة قراء الكوفة (نُنَكِّسْهُ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الكاف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن التي عليها عامة قراء الكوفيين أعجبُ إليّ، لأن التنكيس من الله في الخلق إنما هو حال بعد حال، وشيء بعد شيء، فذلك تأييد للتشديد.
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فقرأته قراء المدينة (أفَلا تَعْقِلُونَ) بالتاء على وجه الخطاب. وقرأته قراء الكوفة بالياء على الخبر، وقراءة ذلك بالياء أشبه بظاهر التنزيل، لأنه احتجاج من الله على المشركين الذين قال
ويعني تعالى ذكره بقوله (أَفَلا يَعْقِلُونَ) : أفلا يعقل هؤلاء المشركون قُدْرة الله على ما يشاء بمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خلقه فيما شاء وأحب من صغر إلى كبر، ومن تنكيس بعد كبر في هرم.
وقوله (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) يقول تعالى ذكره: وما علَّمنا محمدا الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعرا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثَّل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا، فقال نبي الله: "إني وَاللهِ ما أنا بِشاعِرٍ، وَلا يَنْبَغِي لي".
وقوله (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ) يقول تعالى ذكره: ما هو إلا ذكر، يعني بقوله) إنْ هُوَ) أي: محمد إلا ذكر لكم أيها الناس، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم، ونبهكم به على حظكم (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) يقول: وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن مبين، يقول: يَبِين لمن تدبَّره بعقل ولب، أنه تنزيل من الله أنزله إلى محمد، وأنه ليس بشعر ولا مع كاهن.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) قال: هذا القرآن.
وقوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) يقول: إن محمد إلا ذكر لكم لينذر منكم أيها الناس من كان حي القلب، يعقل ما يقال له، ويفهم ما يُبين له، غير ميت الفؤاد بليد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، عن رجل، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) قال: من كان عاقلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) : حي القلب، حي البصر.
قوله (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) يقول: ويحق العذاب على أهل الكفر بالله، المولِّين عن اتباعه، المعرضين عما أتاهم به من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) بأعمالهم.
يقول تعالى ذكره (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء المشركون بالله الآلهة والأوثان (أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) يقول: مما خلقنا من الخلق (أَنْعَامًا) وهي المواشي التي خلقها الله لبني آدم، فسخَّرها لهم من الإبل والبقر والغنم (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) يقول: فهم لها مصرِّفون كيف شاءوا بالقهر منهم لها والضبط.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) أي: ضابطون.
وقوله (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) يقول: وذللنا لهم هذه الأنعام (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ) يقول: فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون عليها؛ يقال: هذه دابة ركوب، والرُّكوب بالضم: هو الفعل (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) لحومها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ) : يركبونها يسافرون عليها (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) لحومها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولهم في هذه الأنعام منافع، وذلك منافع في أصوافها وأوبارها وأشعارها باتخاذهم من ذلك أثاثًا ومتاعًا، ومن جلودها أكنانا، ومشارب يشربون ألبانها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) يلبسون أصوافها (وَمَشَارِبُ) يشربون ألبانها.
وقوله (أَفَلا يَشْكُرُونَ) يقول: أفلا يشكرون نعمتي هذه، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا تستطيع هذه الآلهة نصرهم من الله إن أراد بهم سوءا، ولا تدفع عنهم ضرا.
وقوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) يقول: وهؤلاء المشركون لآلهتهم جند محضَرون.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (مُحْضَرُونَ) وأين حضورهم إياهم، فقال بعضهم: عني بذلك: وهم لهم جند محضرون عند الحساب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) قال: عند الحساب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهم لهم جند محضَرون في الدنيا يغضبون لهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) الآلهة (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا، ولا تدفع عنهم سوءا، إنما هي أصنام.
وقوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فلا يحْزُنْك يا محمد قول هؤلاء المشركين بالله من قومك لك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.
وقوله (إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يقول تعالى ذكره: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب، فنعلم ما يسرون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) ﴾
يقول تعالى ذكره (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ) واخُتلف في الإنسان الذي عُني بقوله (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ) فقال بعضهم: عُني به أُبي بن خلف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، في قوله (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) قال: أُبي بن خَلَف أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعَظْم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) : ذُكر لنا أن أُبيَّ بن خلف، أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظم حائل، ففتَّه، ثم ذراه في الريح، ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: "والله يحييه، ثم يميته، ثم يُدخلك النار؛ قال: فقتله رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم أُحد.
وقال آخرون: بل عني به: العاص بن وائل السَّهمي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظْم حائل، ففته بين يديه، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرم؟ قال: نَعَمْ يَبْعَثُ اللهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْييكَ، ثُمَّ يُدْخِلُك نَار جَهَنَّم" قال: ونزلت الآيات (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).. " وإلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل عُنِي به: عبد الله بن أُبي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ).. إلى قوله (وَهِيَ رَمِيمٌ) قال: جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظْم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يَبْعَثُ اللهُ هَذَا، ويُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ، فقال الله (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
وقوله (مُبِينٌ) يقول: يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه. وقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يقول: ومثَّل لنا شبها بقوله (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) إذ كان لا يقدر على إحياء ذلك أحد، يقول: فجعلنا كمن لا يقدر على إحياء ذلك من الخلق (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يقول: ونسي خَلْقَنا إياه كيف خلقناه، وأنه لم يكن إلا نطفة، فجعلناها خلقا سَوِيًّا ناطقا، يقول: فلم يفكر في خلقناه، فيعلم أن من خلقه من نطفة حتى صار بشرا سويا ناطقا متصرفا، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرَّميم بشَرا كهيئتهم التي كانوا بها قبل الفناء، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) لهذا المشرك القائل لك: من يُحيي العظام وهي رميم (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) يقول: يحييها الذي ابتدع خلْقها أول مرة ولم تكن شيئا (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يقول: وهو بجميع خلقه ذو علم كيف يميت، وكيف يحيي، وكيف يبدىء، وكيف يعيد، لا يخفي عليه شيء من أمر خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (٨١) ﴾
يقول تعالى ذكره: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا) يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه.
قوله (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) يقول: فإذا أنتم من هذا الشجر توقدون النار؛ وقال) مِنْهُ) والهاء من ذكر الشجر، ولم يقل: منها، والشجر جمع شجرة، لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى، ولو قيل: منها كان صوابا أيضًا، لأن العرب تذكِّر مثل هذا وتؤنِّثه.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) يقول تعالى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) على خطأ قوله، وعظيم جهله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) السبع (وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ) مثلكم، فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السَّمَواتِ والأرض. يقول: فمن لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمَّت وبلِيَت؟ وقوله (بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ) يقول: بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق لما يشاء، الفعَّال لما يريد، العليم بكل ما خلق ويخلق، لا يخفي عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) ﴾
وقوله (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) يقول تعالى ذكره: فتنزيه الذي بيده ملك كل شيء وخزائنه. وقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: وإليه تردون وتصيرون بعد مماتكم.
آخر تفسير سورة يس