تفسير سورة الصافات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الصّافّات
مكية. وهى مائة وإحدى، أو اثنتان، وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: أنها رد على المشركين فى عبادة الأصنام، وانكارهم البعث، المختتم بهما السورة قبلها، فقال فى صدر هذه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، ثم قال:
وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذا مِتْنا... «١» إلخ. قال تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً، أقسم بطوائف الملائكة، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة، كل على ما أمر به، فالزجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله، أو:
عن المعاصي بإلهام الخير. أو: الشياطين عن التعرُّض لهم. (فالتاليات ذكراً) لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح، حيث قال في فتاويه: إن الملائكة لا تقرأ القرآن، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال: فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، كما نقله عنه في الإتقان، فانظره.
أو: بنفوس العلماء والعمال، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدراسات شرائعه. أو: بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و (صفاً) : مصدر مؤكد، وكذلك (زجراً)، والفاء تدلُّ على الترتيب، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو بالعكس.
(١) الآية ١٥ من سورة الصافات. [.....]
589
وجواب القسم: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ لا شريك معه يستحق أن يعبد، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهو خبر بعد خبر، أو: خبر عن مضمر، أي: هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي: مطالع الشمس، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها، وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «١» فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ «٢» فإنه أريد به الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة. قال الكواشي: لم يذكر المغارب لأن المشارق تدل عليها.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القُربى منكم، تأنيث الأدنى، بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالإضافة، أي: بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض «٣» فبدل، أي: هي الكواكب، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار «أعني»، أو: بدل من محل «بزينة»، أي: زيَّنَّا الكواكب، أو: على إعمال المصدر منوناً في المفعول، أي: بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي: وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة، متلألئة على سطحها الأزرق. هـ.
وَحِفْظاً من الشياطين، كما قال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «٤» أو:
بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن الطاعة، فيُرمي بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ «٥» إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى: استئناف لبيان حالهم، بعد بيان حفظ السماء منهم، ولا يجوز وصفه لكل شيطان لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى لأنه في معنى شياطين، وتعدية (يسمعون) بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء مبالغة في نفيه، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله: «يتَسمَّعون» فأدغم. والتسمُّع: طلب السماع. يقال: تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم: الملائكة لأنهم في السموات العُلى، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض، وَيُقْذَفُونَ يُرمون بالشُهب، مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء، من أيّ جهة صعدوا للاستراق.
(١) الآية ١٧ من سورة الرحمن.
(٢) الآية ٩ من سورة المزمل.
(٣) قرأ حفص، وحمزة، بتنوين (زينة) وجر (الكواكب). وقرأ أبو بكر بتنوين (زينة) ونصب (الكواكب). والباقون بحذف التنوين، على إضافة «زينة» للكواكب. انظر الإتحاف (٢/ ٤٠٨).
(٤) الآية ٥ من سورة الملك.
(٥) قرأ حفص، وحمزة، والكسائي، بتشديد السين والميم، والأصل «يتسمعون» فأدغمت التاء. وقرأ الباقون بالتخفيف.
انظر الإتحاف (٢/ ٤٠٨).
590
دُحُوراً مفعول له، أي: ويُقذفون للدحور، وهو الطرد، أو: مدحورين، على الحال، أو: لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فيكون مصدراً له، فكأنه قيل: ويُقذفون قذفاً، وَلَهُمْ عَذابٌ آخر واصِبٌ دائم، أو:
شديد، وهو عذاب الآخرة، أو: عذاب الدنيا لأنه دائم الوجوب لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، «مَنْ» : بدل من ضمير «يسمعون»، أي: لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ، أي: اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي: نجم مضيء يثقبه، أو يحرقه، أو يخبله، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم، في طلب الحضور، التالين لذكر ربهم لرفع الستور، إنه منفرد في ألوهيته، متوحِّد في ربوبيته إذ هو ربُّ كل شيء، ربُّ سموات الأرواح، وربُّ أرض النفوس والأشباح، وربُّ مشارق أنوار العرفان، وهي قلوب أهل العيان، ولم يذكر المغارب لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا.. إلخ، قال القشيري: زيَّن السماء بالنجوم، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. هـ. وقوله تعالى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، قال القشيري: كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم، إلا مَن خَطِفَ الخطفة، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه تَذَكَّرُواْ، فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ. هـ.
وقال في لطائف المنن: إن الله تعالى إذ تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب كي لا يسترق السمع منها، فقلبُ المؤمن أولى بذلك، لقول الله سبحانه، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». هـ. والمراد: المؤمن الكامل، الذي تولّى الله حفظه، وهو الولي العارف.
ثم ردّ على مَن أنكر البعث بعد هذه الدلائل الباهرة، فقال:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ...
591

[سورة الصافات (٣٧) : آية ١١]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: فاستخبر كفّار مكّة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أقوى خلقاً وأعظم، أو: أصعب خلقاً وأشقه. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب، والشُهب الثواقب؟. وجيء ب «مَنْ» تغليباً للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ: (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد: الرد على منكري البعث، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم، على عظمها، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق باليد، أو: لازم. وقرئ به، أي: يلزم مَن جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو:
احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر؟ حيث قالوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً «١» الخ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ من ذكر إنكارهم البعث.
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٢]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)
بَلْ عَجِبْتَ من تكذيبهم إيَّاك، وإنكارهم البعث، وَيَسْخَرُونَ هم منك، ومن تعجُّبك، أو: مِن أمر البعث، قال الكواشي: ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين، أَمَرَ نبيّه- عليه الصلاة والسلام- بالإضراب عنهم، والإعجاب منهم، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث، والمعنى: إنك تعجبت من تكذيبهم، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك. هـ. قال قتادة: لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به، فلما سَمِعَه المشركون، ولم يؤمنوا، وسخروا، تعجَّب من ذلك «٢». هـ. وذكر ابن عطية وغيره: أن الآية نزلت في رُكانة، الذي صرعه ﷺ «٣»، وذكر ابن عبد البر: أنه أسلم يوم الفتح. هـ.
وقرأ الأخوان «عجبتُ» بضم التاء، أي: استعظمت. والعجَبُ: روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء لخفاء سببه، وهو في حقه تعالى مُحال، ومعناه: التعجُّب لغيره، أي: كل مَن يرى حالهم يقول: عجبت، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: «عجب الله من شاب ليست له صبوة» «٤». وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه، من التعظيم أو التحقير، أو: قل يا محمد: عجبت ويسخرون.
(١) الآية ٥ من سورة الرعد.
(٢) أخرجه الطبري (٢٣/ ٤٤).
(٣) حديث صرع النبي ﷺ للركانة، أخرجه الترمذي فى (اللباس، باب العمائم على القلانس ٤/ ٢١٧ ح ١٧٨٤) وأبو داود فى (اللباس، باب فى العمائم ٤/ ٣٤١ ح ٤٠٧٨) عن أبى ركانة.
(٤) أخرجه أحمد (٤/ ١٥١) والطبراني فى الكبير (١٧/ ٣٠٩) من حديث عقبة بن عامر. قال الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٢٧٠) :
وإسناده حسن.

[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٣]

وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣)
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي: ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به.
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٤]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة، كانشقاق القمر، ونحوه، يَسْتَسْخِرُونَ يُبالغون في السخرية، ويقولون: إنه سحر، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها،
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٥]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
وَقالُوا إِنْ هذا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته،
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٦]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي: أنُبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟
[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٧]
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، فمن فتح الواو عطف على محلّ «إِنّ» واسمها، والهمزة للإنكار، أي: أو يبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون، على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبْعد وأبطل. ومَن سَكَّن «١» فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين، أي: أيُبعث واحد منا، على المبالغة فى الإنكار.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٨ الى ٢١]
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
قُلْ نَعَمْ تُبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة واحدة، وهى النفحة الثانية، والفاء: جواب شرط مقدر، أي: إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة، وهي مبهمة، يُفسرها خبرها. أو: فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبلَ والغنمَ: إذا صاح عليها، فَإِذا هُمْ أحياء يَنْظُرُونَ إلى سوء أعمالهم، أو:
ينظرون ما يحلُّ بهم.
وَقالُوا يا وَيْلَنا، الويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الذي يُدانُ فيه العباد، ويُجازون بأعمالهم. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، يحتمل أن يكون قوله: هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة، بعضهم مع بعض، وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ من كلام الكفرة، وما بعده كلام الملائكة، جواباً لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنسان فيه عالَمان، عالَم في غاية الضعف والخِسة، وهي بشريته الطينية، أصلها من ماء مهين.
وعالَم في غاية القوة والكمال، وهي روحانيته السماوية النورانية، فإذا حييت الروح بالعلم بالله، واستولت على البشرية، استيلاء النار على الفَحمة، أكسبتها القوة والشرف، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله، فينزل الضعف في ظاهره، والقوة في باطنه، فظاهره يمتد من الوجود بأسره، وباطنه يمُد الوجود بأسره. فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة. هـ.
(١) قرأ قالون، وابن عامر، وأبو جعفر، بإسكان الواو، وقرأ الباقون بالفتح. انظر الإتحاف (٢/ ٤١٠).
ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره، لكن من آداب العبد: ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية، من الضعف، والذل، والفقر، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مثال أهل الكفر، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٤]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
يقول الحق جلّ جلاله للملائكة يوم القيامة: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: اجمعوا الذين كفروا وَأَزْواجَهُمْ وأَشباهَهم، فيُحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو: نساءهم الكافرات، أو: قرناءهم من الشياطين. و «الواو» بمعنى «مع»، أو: عاطفة. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: الأصنام، اجمعوها معهم، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: دُلوهم على طريقها، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعي: يقال: هديته في الدين هُدى، وهديته الطريق هداية.
وَقِفُوهُمْ: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، أو: استهزاء بهم.
وقيل: هو جواب لأبي جهل، حيث قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «١»، وجملة النفي: حال، أي: ما لكم غير متناصرين، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لِما يُراد بهم لعجزهم، وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم، أو: قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي: التابع على المتبوع يَتَساءَلُونَ يتخاصمون، ويسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتسخُّط، قالُوا أي: الأتباع للمتبوعين: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي: تصدوننا عن
(١) كما حكت الآية ٤٤ من سورة القمر.
الحق والإيمان، قاله الحسن. وبيانه: أن العرب كانت تتيمّن بالسانح «١» عن اليمين من الطير، ويناسبه ما ذكره ابن عطية في جملة التأويلات بقوله: ومنها: أن يريد باليمين اليمْن، أي: تأتوننا من جهة النصائح، والعمل الذي يتيمّن به. هـ. قلت: والأحسن: أن يقدر معلق الجار، أي: تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.
قالُوا أي: الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: بل أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه مع تمكُّنكم منه، مختارين للكفر، غير ملجئين إليه، أو: بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كُفركم لا استئنافه. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وقهر، نسلبكم به تمكُّنكم واختياركم، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي: بل كنتم قوماً مختارين للطغيان، فَحَقَّ عَلَيْنا أي: لزمنا جميعاً قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، يعني: حقت علينا كلمتُه بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال: إنكم لذائقون، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلّمون بذلك عن أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم: فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغي إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا، فَإِنَّهُمْ أي: الأتباع والمتبوعين جميعاً، يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ المشركين، أي: مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.
الإشارة: ويقال على طريق العكس: احْشُروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم، وأزواجهم، ومَن انتسب إليهم، فاهدوهم إلى طريق الجنان، وقِفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون، فينصر بعضكم بعضاً في هذا الموطن الهائل، بل هم اليوم منقادون لأمر الله، حتى يأذن لهم في الشفاعة. وفي الحديث: «اتَّخِذُوا يداً عند الفقراءِ، فإن لهم دَوْلَة يومَ القيامة» «٢» ودولتهم:
الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى، حتى وصلوا إلى حضرته. ومَن صَدّ الناسَ عن طريقه وصحبتهم، يتعلّق به المخذول عنهم، فيقول له: (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين... ) الآية.
ثم ذكر سبب ورودهم العذاب، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
(١) السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبى أو طائر، أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك. انظر اللسان (سنح ٣/ ٢١١٢).
(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٠٤) لأبى نعيم فى الحلية، عن الحسين بن على رضي الله عنه. والحديث ضعفه السيوطي.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّهُمْ أي: المشركين كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، هو أعم من إذا قيل لهم: قولوها، أو: ذكرت بمحضرهم، يَسْتَكْبِرُونَ أي: يتعاظمون عن قولها، أي: كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها، وأَبَوا إلا الشرك، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ، يعنون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ مقابل لقولهم:
«شاعر» لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسول وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، فعذبتم، على الكفر والتكذيب، وخلدتم، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة: ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد، وهي «لا إله إلا الله» أن يخشع قلبه، وتهتز جوارحه، فرحاً بها، ويخضع لمَن جاء بها، ودلَّ عليها، حتى يُدخله في بحار معانيها، وهو التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وهم خلفاء الرسول ﷺ في التربية النبوية. قال القشيري:.. كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ..
الخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.. «١» وقال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ..
«٢»، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته، قال قائلهم:
ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي فيلزمني له ذُلُّ العبيد
ولمَّا لم يحتشموا من وصفه- سبحانه- بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. هـ.
ثم استثنى المخلصين، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٠ الى ٥٠]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)
(١) من الآية ٢٠٦ من سورة الأعراف. [.....]
(٢) من الآية ١٧٣ من سورة النساء.
596
يقول الحق جلّ جلاله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ- بفتح اللام، وكسرها «١» - أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل أُولئِكَ المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول ﷺ مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء- اليوم- لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. هـ.
ثم فسّره بقوله: فَواكِهُ: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ.
أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، وَهُمْ مُكْرَمُونَ:
معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورد الرسُل عليهم من قِبَلِ الله- عزّ وجل- في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. هـ.
وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور، وآنس.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء.
وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. مِنْ مَعِينٍ من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ «٢». وقوله: بَيْضاءَ صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. لا فِيها غَوْلٌ أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، من:
نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي «٣» فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته.
(١) قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، «المخلصين» بفتح اللام.
(٢) من الآية ١٥ من سورة سيدنا محمد.
(٣) قرأ بذلك حمزة، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى.. انظر الإتحاف (٢/ ٤١١).
597
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي: حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم عِينٌ: جمع عيناء، أي: نجلاء، واسعة العين. يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ورجال ونساءٌ عينٌ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار، في الصفاء والبياض.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ في الجنة، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب، كعادة الشَّرْب «١». قال الشاعر:
ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ
أو: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع.
الإشارة: المخلَصين- بالفتح- أبلغ من المخلِصين- بالكسر- المخلَصين: أخلصهم الله واصطفاهم، والمخلصى: ن طالبين الإخلاص، مجتهدين فيه، الأولون مجذوبون، والآخرون سالكون، الأولون محبوبون، والآخرون مُحبون، الأولون واصلون، والآخرون سائرون. قال القشيري: والإخلاص: إفرادُ الحقِّ- سبحانه- بالعبودية، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال: الإخلاص: تصفية العمل، لا توفيقه، وفي الخبر:
«يا معاذ: أخلص العملَ، يكفك القليل منه» «٢». ويقال: الإخلاص: فقد رؤية الأشخاص. هـ.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ للمخلَصين- بالفتح- رزق أرواحهم وأسرارهم، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة، على قدر سعيهم هنا، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني، وشرب خمرة المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها.
وقوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، كان من تمام نعميهم في الشرب: التحادث عليها بما يُناسب حالها، ومدحها، كما قال الشاعر:
وإذا جسلت إلى المدام وشربه فاجعل حديثك كله في الكاس
(١) الشّرب: القوم يشربون، ويجتمعون على الشراب، جمع شارب، كركب ورجل. انظر اللسان (شرب ٤/ ٢٢٢).
(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٢٩٨) لابن أبى الدنيا فى الإخلاص، والحاكم، عن معاذ.
598
كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة، وغاب في الشهود والنظرة، لا يجول إلا في عظمة الذات، وأسرارها، وبهائها، وجمالها، لا يخطر على باله غيرها، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية، والنظرة الشافية، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥١ الى ٦١]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي: من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في الدنيا، قيل:
كان شيطاناً، وقيل: من الإنس، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء، وقيل: كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، أحدهما:
قطروس، وهو الكافر، والآخر: يهوذا، المؤمن، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله، وكان الآخر مُقبلاً على ماله، فحلَّ الشركة مع المؤمن، وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار، أو جارية، أو بستان، عرضه على المؤمن، وفخر عليه، فيمضي المؤمن، ويتصدّق بنحو ذلك، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية «١». قال السهيلي: هما المذكوران في سورة الكهف بقوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ..»
إلخ.
يَقُولُ أي: قرين السوء، لقرينه المؤمن في الدنيا: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من: الدين، وهو الجزاء.
(١) ذكر السيوطي القصة بطولها فى الدر (٥/ ٥١٨- ٥١٩) وعزاها لعبد الرزاق، وابن المنذر، عن عطاء الخراسانى، وأخرجها الطبري (٢٣/ ٥٦) عن فرات بن ثعلبة البهراني. وقد ذكر الشيخ ابن عجيبة- رحمه الله تعالى- القصة كاملة عند تفسير الآية ٣٢ من سورة الكهف.
(٢) الآية ٣٢ وما بعدها من سورة الكهف.
599
قالَ ذلك القائل لمَن معه في الجنة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لأريكم حال ذلك القرين. قيل:
إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت: حال الجنة كله خوارق، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل: القائل: هو الله، أو: بعض الملائكة. يقول لهم: هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، أو: لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي: أو: إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم ناظرون أخي في النار؟، فيقولون له: أنت أعرف به منا، فانظر إليه. فَاطَّلَعَ على أهل النار فَرَآهُ أي:
قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ في وسطها.
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتُهلكني بإغوائك. و «إن» مخففة، واللام: فارقة، أي: إنه قربت لتهلكني، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي عليَّ بالهداية، والعصمة، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك، أو: من الذين أُحضروا العذاب، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، الفاء للعطف على محذوف، أي: أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة، تحدُّثاً بنعمة الله. أو: قاله بمرأى من قرينه ومسمع ليكون توبيخاً له، وزيادة تعذيب، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه، كأنه يقول: أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى «١» والتقدير: أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذَّبين، بل الأمر وقع خلافَه، وكان يقال له: نحن نموت ونُسأل في القبر، ثم نموت ونحيا، فيقول:
ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.. إلخ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام، أي: إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال اللهُ- عَزّ وجل: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية، المشوبة بالآلام، السريعة الانصرام. أو: لمثل هذا فليجتهد المجتهدون، مادام يُمكنهم الاجتهاد، فإنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فبقدر ما يزرع هنا يحصد ثَمَّ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
(١) الآية ٣٥ من سورة الدخان.
600
الإشارة: تنسحب الآية من طريق الإشارة على مَن رام النهوض إلى الله، بصحبة الرجال في طريق التجريد، فينهاه رفقاؤه، فيخالفهم، وينهض إلى الله، فإذا كان يوم القيامة رُفع مع المقربين، فيقول لهم: إني كان قرين يُنكر طريقَ الخصوص، وينهاني عن صحبتهم، فيطلع عليه، فيراه في أسفل الجنة، مع عامة أهل اليمين، فيحمد الله على مخالفته، ويقول: لولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرِينَ معك. قال القشيري: فيقول الوليُّ له: إن كدتَّ لتُردين، لولا نعمةُ ربي. نطقوا بالحق، ولكنهم لم يُصَرِّحوا بعين التوحيد إذ جَعَلوا الفضلَ واسطة، والأَوْلى أن يقول: ولولا ربي لكنتُ من المحضَرين. ثم يقول: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. ثم قال: فإذا بدت شظيةٌ، من الحقائق، أو ذَرةٌ من نسيم القرية، فبالحريِّ أَن يقول القائل: لمِثل هذا الحال تُبذلُ الأرواحُ، وأنشدوا:
على مِثْلِ ليلى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه وإِن بات من ليلى على اليأس طاويا «١». هـ.
ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
يقول الحق جلّ جلاله: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي: أنعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام، والشراب، خيرٌ نزلا أم شجرة الزقوم؟ النُزل: ما يُقَدم للنازل من الرزق. و «نزلاً» : تمييز، وفي ذكره: تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية: في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ، مُرَّة، مسمومة، لها لبنٌ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه، في غالب الأمر، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم: البلعُ على شدة وجهد. هـ. وفى
(١) البيت لمجنون ليلى. انظر: ديوانه: / ٢٩٦ وتزيين الأسواق/ ١٢٨. وجاء فى لطائف الإشارات: (سلمى) بدل (ليلى).
601
الحديث: «لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه!» «١». وقال ابن عرفة: هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو: تكون واحدة بالشخص. هـ.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنةً وعذاباً لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قَدَر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها- وهو السمندل- «٢» كيف لا يقدر على خلق شجر في النار، وحفظه من الإحراق؟ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
طَلْعُها أي: حملها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، الطلع للنخلة، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقُبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل: الشياطين: حيَّات هائلة، قبيحة المنظر، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها، وإن كانت لا ترى، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال، كما قال امرؤ القيس:
أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ «٣»
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من طلع تلك الشجرة، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ مما يبلغهم من الجوع الشديد، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها على أكلها، أي: بعد ما شَبِعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استقاؤهم، لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي: لشراباً من غساق، أو: حديد، مشوباً بماء حار، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ «٤» وأتى ب «ثم» لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة فإِنَّ الزقوم حار محرق، وشرابهم أشد حرا وإحراقا.
(١) أخرجه الترمذي وصححه فى (صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار، ٤/ ٦٠٩، ح ٢٥٨٥)، وابن ماجة فى (الزهد، باب صفة النار، ٢/ ٤٤٦، ح ٤٣٢٥) وابن حبان (ح ٧٤٧٠) والحاكم (٢/ ٢٩٤) وصححه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما.
(٢) السمندل: طائر إذا انقطع نسله، وهرم، ألقى نفسه فى الجمر، فيعود إلى شبابه. وقيل: هو دابة يدخل النار فلا تحرقه. انظر اللسان (سمندل، ٣/ ٢١٠٥).
(٣) انظر: ديوان امرئ القيس (ص ٣٣). والكامل (٣/ ٩٦)..
(٤) الآية ٢٧ من سورة المطففين. [.....]
602
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي: إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم- وهو الدركات التي أُسْكِنُوها- إلى شجرةَ الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا. ويشربون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، كما تورد الإبل، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم، فقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ، علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، يعني الأمم الماضية، بالتقليد وترك النظر. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء، حذّروهم العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا، وحذّروا، فقد أُهلكوا جميعاً، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: إلا الذين آمنوا، وأخلصوا دينهم لله، أو: أخلصهم الله لدينه، على القراءتين «١».
الإشارة: إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد، مؤمناً أو كافراً، كان من الخاصة أو العامة، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال: كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أول المنذرين من أولى العزم، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ نادانا أي: دعانا نُوحٌ، حين أيس من قومه بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «٢» أو: دعانا لِنُنجيه من الغرق، فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فأجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه،
(١) فى «المخلصين»، وقد قرأ بفتح اللام: نافع وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر. وقرأ الباقون بالكسر.
(٢) الآية ١٠ من سورة القمر.
603
وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، فو الله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ، فحذف القسم لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص، والجمع دليل العظمة والكبرياء. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ومَن آمن به وأولاده المؤمنين مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو غمّ الغرق، أو: إذاية قومه، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وقد فني غيرهم. قال قتادة: الناسُ كلهم من ذرية نوح، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام- وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام- وهو أبو السودان، من المشرق إلى المغرب- ويافث- وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج «١». وقد نظمه بعضهم، فقال:
العرب والروم وفارس اعلمن أولاد سام فيهم الخير كَمَن
من نسل حام نشا السودان شرقاً وغرباً، ذا له برهان
يأجوج مأجوج مع الصقالبة ليافث، لا خير فيهم قاطبه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، سَلامٌ عَلى نُوحٍ: مبتدأ وخبر، استئناف، فِي الْعالَمِينَ، يعني: أنهم يُسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، أي: ثبتت هذه التحية فيهم، ولا يخلو أحد منهم منها، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلّمون عليه عن آخرهم. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فنُكرمهم ونُحييهم، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية، بأنه مجازاة له على إحسانه، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ليريك جلاله محلّ الإيمان. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي: الكافرين.
ذكر في كتاب حياة الحيوان، عن القشيري: أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا: احملنا معك، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك، فحملهما. فمَن قرأ، حين يخاف مضرتهما، حين يمسي وحين يصبح: سلام على نوح في العالمين، ومحمد في المرسلين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ما ضرتاه. هـ. وقال نبينا- عليه الصلاة والسلام: «مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خَلَقَ، لم يضره شيء» «٢».
الإشارة: إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال: نفوذ الدعوة، والثناء الحسن بعده، والبركة في الذرية، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السّلام.
(١) قاله سعيد بن المسيب، كما فى تفسير ابن كثير (٤/ ١٣).
(٢) أخرجه، بنحوه، مسلم فى: (الذكر والدعاء، باب فى التعوذ من سوء القضاء، ٤/ ٢٠٨٠، ح ٢٧٠٨، ٢٧٠٩) من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبى هريرة- رضى الله عنهما.
604
ثم ذكر خليله إبراهيم عليه السلام، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
قلت: (أَئِفكاً) : مفعول له، و (آلهة) : مفعول «تُريدون»، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكا وزورا. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكونَ «إفكاً» مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي: نوح لَإِبْراهِيمَ، أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان هود، وصالح. إِذْ جاءَ رَبَّهُ: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ، «إذ» : بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكا وزورا وباطلاً. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟. أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟.
الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجئ إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله لاتصاله بالله. قال القشيري: «بقلب سليم» لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر كسره الأصنام، وما ترتب عليه، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٨]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
يقول الحق جلّ جلاله: فَنَظَرَ إبراهيم نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بما يعلمون لئلا ينكروا عليه تخلّفه. وكانو يقولون: إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه، فاعتلّ عليهم لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم، فيقربون إليها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، لتبارك عليه، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم، قال: إِنِّي سَقِيمٌ إني مشارف للسقم- وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى- ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل: إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به.
والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام، أي: سأسقم، أو: مَنْ في عنقه الموت سقيم، أو: سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب، وإنما عرّض. وأيضاً: إنما كان لمصلحة، وقد أُبيح لها، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه لقوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «١»، وقوله لسارة: هي أختي» «٢».
قال السدي: خرج معهم إلى بعض الطريق، فوقع في نفسه كيده آلهتهم، فقال: إني سقيم أَشتكي رجلي.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أعرضوا عنه مولين الأدبار، فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فمال إليها سرّا، وكانت اثنتين وسبعين صنماً من خشب، وحديد، ورصاص، ونحاس، وفضة، وذهب، وكان كبيرهم من ذهب، فى عنقه
(١) من الآية ٦٣ من سورة الأنبياء.
(٢) أخرجه بنحوه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ح ٣٣٥٨) ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام ٤/ ١٨٤٠ ح/ ٢٣٧١) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
606
ياقوتتان، فَقالَ لها، استهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ من الطعام الذي وُضع عندكم، ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟.
والجمع بالواو والنون لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال إليهم سرًّا، فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي: ضرباً شديداً بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما، أو: بالقوة والمتانة، أو: بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «١».
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم يَزِفُّونَ: يسرعون، من: الزفيف، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا «٢» فأجابوه على سبيل التعريض:
سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ «٣»، ثم قالوا بأجمعهم: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟، فأجابهم بقوله:
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ: ما تنجرونه بأيديكم من الأصنام؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام. أو: «ما» مصدرية، أي: وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى، أي: الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلِمَ تعبدون غيره؟!.
قالُوا ابْنُوا لَهُ أي: لأجله بُنْياناً من الحجر، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة: وقيل: كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطباً، وأضرموه ناراً، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً بإلقائه في النار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين عند إلقائه، حين خرج من النار سالماً، فعلاهم بالحُجة والنصرة. قيل: ذكر أسفل، هنا لمناسبة ذكر البناء، بخلاف سورة الأنبياء «٤».
الإشارة: كلُّ عبدٍ مأمور بكسر صنمه، وهو: ما تَرْكَنُ إليه نفسُه من حظٍّ، أو هوىً، أو علم، أو عمل، أو حال، أو مقام. وفي الإشارات عن الله تعالى: لا تركنن لشيء دوننا، فإنه وبال عليك، وقاتلٌ لك، فإن ركنتَ إلى العلم تتبعناه عليك، وإن أويتَ إلى العمل رددناه إليك، وإن وثقت بالحال وقفناك معه، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك، فأيّ حيلة لك، وأيّ قوة معك؟
فارضنَا لك ربًّا حتى نرضاك لنا عبداً. هـ. ولا بأس أن يتعلّل لنفسه، ويحتال عليه بحيل، كما تعلّل الخليل للقعود لكسر الأصنام، لعلها تُوافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه، كما قال القائل «٥» :
فاحتلْ على النفس قربّ حِيله أنفعُ في النُّصْرة من قبيله.
(١) الآية ٥٧ من سورة الأنبياء.
(٢) الآية ٥٩ من سورة الأنبياء.
(٣) الآية ٦٠ من سورة الأنبياء.
(٤) فى قوله تعالى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ الآية ٧٠.
(٥) وهو ابن البنا السرقسطي، فى المباحث الأصلية (ص ٥٠٥).
607
ثم ذكر هجرة إبراهيم، وما امتحن به، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١١١]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
قلت: «معه» : يتعلق بمحذوف، أي: بلغ السعي يسعى معه، ولا يتعلق ببلغ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ، ولا بالسعي لأن المصدر لا يتقدَّم عليه معموله، إلا أن يُقال: يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ إبراهيمُ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه، وهو الشام، أو: إلى مرضاة ربي، بامتثال أمره بالهجرة، أو: إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي، سَيَهْدِينِ أي: سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني، أو: إلى مقصدي، وإنما بتَّ القول لسبق وعده لأن الله وعده بالهداية، أو: لفرط توكله، أو: للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء «١».
ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين، يُعينني على الدعوة والطاعة، ويُونسي في الغربة.
يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب على الولد. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، انطوت البشارة على ثلاث: على أنّ الولد ذكر، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً، وأيّ حليم أعظم من حلمه، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «٢»، ثم استسلم. وقيل: ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه لمَعَزَّةِ وجوده.
(١) حيث قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ الآية ٢٢ من سورة القصص.
(٢) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.
608
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي: الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: سبع سنين. قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي: قيل له في المنام: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي، كاليقظة. قال الكواشي: لم يرَ أنه يذبحه في النوم، ولكنه أُمر في النوم بذبحه، بدليل قوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وقيل: رأى أنه يُعالج ذبحه، ولم يرَ إراقة الدم.
وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه «١». وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم، وفيما يصدر عنهم، فهم صادقون مصدِّقون، فليس للشيطان عليهم سبيل، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق. هـ.
وإنما لم يقل: «رأيت» لأنه رأى مرة بعد أخرى، فقد قيل: رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم، أم لا، فسُمِّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فسُمِّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمَّ بنحره، فسُمِّي يوم النحر «٢».
واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه، فقال أهل الكتابين: هو إسحاق، وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، والعباس، وابنه عبد الله، وكعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي بَرّة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدي. قال سعيد بن جبير: أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى المنحر بمِنى، فلما صرف عنه الذبح، وأمره أن يذبح الكبش، وذبحه، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طُويت له الأودية والجبال. هـ.
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق، وقال هنا: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فتعيَّن أنه إسحاق إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما رُوِي أن موسى عليه السلام قال: يا رب الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبمَ ذلك؟
فقال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو لي بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن «٣». وقال يوسف للملك: أترغب أن تأكل معي، وأنا- والله- يوسف بن
(١) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٥٢٨) لعبد بن حميد. [.....]
(٢) انظر تفسير البغوي (٧/ ٤٨).
(٣) أخرجه الطبري فى تفسيره (٢٣/ ٨٢) وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٥٣٠) لابن أبى شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي فى الشعب، عن عبد الله بن عمير.
609
يعقوب، نبي الله، ابن إسحاق، ذبيح الله، ابن إبراهيم، خليل الله «١». وبما روى أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- سُئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدِّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله» «٢». وفي الجامع الصغير: «الذبيح إسحاق» رواه الدار قطنى عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه عن العباس، وأبي هريرة «٣».
وقال آخرون: هو إسماعيل، وبه قال عُمر، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسعيد من المسيب، والشعبي، ويوسف ابن مهران، ومجاهد، وابن عباس أيضاً، وغيرهم. واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» «٤» فأحدهما: جده إسماعيل، والآخر: أبوه، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم، أو بلغ بنوه عشراً، فلما سَهُل، أقرع بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فَفَدَاه بمائة من الإبل، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة. هـ.
وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته، والثانية بنبوته، أو: بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى، كأنه قال بعد ما فرغ من ذكر المبشر به: وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسي في حاشيته. وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً، كقوله تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «٥» وكان عمًّا له، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. والله تعالى أعلم بغيبه «٦».
(١) أخرجه الطبري (٢٣/ ٨٣) عن أبى ميسرة.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٥٣١) للطبرانى، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(٣) حديث رقم (٤٣٤٩) وعبارة السيوطي: « (قط) فى الإفراد، عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه، عن العباس بن عبد المطلب، وابن مردويه عن أبى هريرة، والحديث ضعّفه السيوطي.
(٤) أخرج ابن جرير (٢٣/ ٨٥) والحاكم فى المستدرك (٢/ ٥٥٤) عن الصّنابحى، قال: كنا عند معاوية بن أبى سفيان، فذكروا الذبيح، إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عد علىّ مما أفاءَ الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك عليه الصلاة والسلام، فقال له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم... »
إلخ. والحديث ضعفه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٢٩).
(٥) من الآية ١٣٣ من سورة البقرة.
(٦) الصواب فى هذه المسألة: أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل عليه السّلام، وهذا هو المروي عن جمهرة الصحابة والتابعين- كسيدنا علىّ، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس، والشعبي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها:
أنّ الله تعالى لَمَّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى هذه السورة (الصافات، الآيات ١٠٠- ١١١) عطف على ذلك فقال:
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فهذه بشارة من الله تعالى، شكرا له على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه، وغير معقول أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح.
610
ولَمَّا قال له: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح. رُوي أن إبراهيم قال لابنه: انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى، فأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه، حتى إذا ذهب بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قربانك؟ فقال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ... الآية، فقال: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة، ولا تذبحني وأنت تنظر لوجهى لئلا ترحمنى، واجعل وجهى إلى الأرض. وفى رواية واذبحني وأنا ساجد، واقرأ على أمي السلام، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل، عسى أن يسليها عني. قال إبراهيم: نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله، وهو يبكي، والابن يبكي، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
فَلَمَّا أَسْلَما أي: انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على جنبه، ووضع السكين على حلقه، فلم تعمل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي:
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لمّا صبر الأب على ما أمر به، وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر، أي: مقدرا نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الغفلة، هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.
أن البشارة بإسحاق وقعت مقرونة بولادة يعقوب، على ما هو الظاهر من قوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ سورة هود/ ٧١، ولا يتصور أن يبشر بالولد وولد الولد دفعة، ثم يؤمر بذبح الولد قبل ولادة ولده.
وأيضا: فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعى بين الصفا والمروة، ورمى الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. وكان النحر بمكة من تمام حج البيت، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب- لكانت القرابين والنحر بالشام، لا بمكة.
وفى هذا الشأن نقل عن الأصمعى أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعى أين عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
أما من نقل من أخبار من أن الذبيح هو إسحاق فهو منقول عن أهل الكتاب، وحال أهل الكتاب، لا يخفى عل ذوى الألباب، ونقل ابن القيم فى زاد المعاد (١/ ٧١) عن الشيخ ابن تيمية- رحمهما الله- قوله: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفى لفظ: «وحيده» ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غرّ أصحاب هذا القول أن فى التوراة، التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق. وقال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: (اذبح بكرك ووحيدك)، ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله».
للمزيد فى هذه المسألة انظر: مفاتيح الغيب (٣/ ٢٤٧) - تفسير ابن كثير (٤/ ١٧- ١٩) زاد المعاد لابن القيم (١/ ٧١- ٧٥) القول الفصيح، للسيوطى، ضمن كتاب الحاوي (١/ ٣١٨- ٣٢٢) - الإسرائيليات والموضوعات، للدكتور أبى شهبة (٢٥٢- ٢٦٠).
611
يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى. وجواب «لما» محذوف، أي: فلما أسلما رُحما وسَعدا. وقال بعض الكوفيين: الجواب: (وتله)، والواو: زائِدة. وقال الكسائي: الجواب: (وناديناه). والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه: الجواب محذوف، أي: فلما أسلما سَلِما. وقدّر الراضي: فلما أسلما كان من لطف الله مالا يوصف. هـ.
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي: حققت ما أمرناك به في المنام، من تسليم الولد للذبح، وبالعزم والإتيان بالمقدمات، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل: أن الجزاء هو الوقاية من الذبح، مع إمرار السكين، ولم تقطع، جزاء على إحسانهما، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة، لا تحصيل الذبح، رُوِي أنه لما أُمر السكين فلم تقطع، تعجّب، فنُودي: يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما، لا ذبح ولدك.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الاختبار البيّن، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البيّنة الصعبة، فإنه لا محنة أصعب منها. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ: ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس: هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم. وعنه: لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة، وذَبَحَ الناسُ أولادهم. رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه سبع حصيات، حتى أخذه، فبقيت سُنَّة في الرمي. قلت: والجمهور: أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده، ثلاث مرات، فرماه سبع حصات عند كل مرة، فبقيت سُنَّة في الرمي. ورُوي أنه لما ذبحه، قال جبريل: الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد.
قال البيضاوي: واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح، لقوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولم يحصل. هـ. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية: وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست منه في شيء لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود، ولم يكن منه تقصير، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به، لهذا قال تعالى: صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر. هـ.
وقيل: إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلي في جمع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء، ثم قال: والحق: إن الآية من المنسوخ قبل تمام الفعل وكماله، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية، وقال: فيه تدافع، فانظره.
612
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي: الثناء الحسن في الأمم الآخرين، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، سبق بيانه في نوح «١» كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، لم يقل: إنا كذلك، هنا، كما في غيره لأنه قد سبق في القصة، فاكتفى هنا عن ذكره. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، فيه تنويه بشأن الإيمان لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان.
الإشارة: قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم، سيهدين إلى صريح معرفته، ومكافحة رؤيته، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه، بشهود محبوبه، وهذه الحالة متبوعة للامتحان إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن: تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن، «٢» وذهاب زوجه للجبّار، فوقع اللطف في الجميع، واصطفى خليلاً للرحمن. وأيضاً: الحق غيور، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه، فأمر بذبح ولده لإخراجه من قلبه، كما فرّق بين يوسف ووالده، وامتحن حبيبه ﷺ في عائشة صدِّيقته، وهذه عادة الله مع أصفيائه.
قال القشيري: يُقال في القصة: أنه رآه راكباً على فرس أشهب، فاستحسنه، ونظر إليه بقلبه، فأُمر بذبحه، فلما أخرجه من قلبه، واستسلم لذبحه، ظَهَرَ الفداء. وقيل له: كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه، لا ذبحه. ويقال في القصة: أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح، فيُعاتَب، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال: افتح القيدَ عني، فإني لا أتحرك، فإني أخشى أن أُعاتب، فيقول: أمشدودَ اليد جئتني؟ وأنشدوا:
ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب
قيل: إن الولد كان أشدَّ بلاء، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل، فكان البلاء منها «٣» أشد إذ لم يتوقعه منها. وقيل: بل إبراهيم أشد بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده، ويعيش بعده، ولم يأتِ الولد بالدعوى، بل قال: إن شاء الله، فتأدّب بلفظ الاستثناء. ثم قال: ويقال: إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء، وهو توجُّع القلب
(١) راجع تفسير الآية ٧٩ من هذه السورة.
(٢) هذا على أن الذبيح هو إسحاق، وقد مر آنفا أن الصحيح أنه سيدنا إسماعيل عليه السلام.
(٣) أي: من اليد.
613
بالقهرية، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال في حال البلاء، [ينسد عيون التهدي إلى الحال] «١». وكذلك كان حال نبينا ﷺ في الإفك، وأيوب عليه السلام، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. هـ. ملخصا.
ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
قلت: «نبياً» : حال مقدرة من «إسحاق»، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، أي: وبشرناه بوجود إسحاق نبيًّا، أي: بأن يُوجد مقدراً نبوته، فالعامل في الحال: الوجود، لا فعل البشارة، قاله الكواشي وغيره.
يقول الحق جلّ جلاله: وَبَشَّرْناهُ أي: إبراهيم بِإِسْحاقَ بعد امتحانه، نَبِيًّا أي: يكون نبيّاً.
قال قتادة: بشّره بنبوة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه. قالوا: ولا يجوز أن يُبشَّر بنبوته وذبحه معاً لأن الامتحان لا يصح مع كونه عالماً بأن سيكون نبيًّا. هـ. قلت: لا يبعد أن يُبَشَّر بهما معاً قبل المحنة لأن العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد لاتساع علمه، فإن الوعد قد يكون متوقفاً على شروط، قد لا يُلم العبد بها، وراجع ما تقدم عند قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «٢» بالتخفيف، وعند قوله: وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «٣». ثم قال قتادة: وهذه حجة لمَن يقول: إن الذبيح كان إسحاق. ومَن قال: كان إسماعيل الذبيح، قال: بشَّر إبراهيم بولد يكون نبيًّا بعد القصة لطاعته. هـ. وذكر ابن عطية عن مالك أنه نزع بهذه الآية لكون الذبيح إسماعيل، انظر بقية كلامه. وتقدّم الجواب عنه، فإنّ الأولى بولادته، وهذه بنبوته. انظر الحاشية.
وقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ: حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء لأن كل نبيّ لا بد أن يكون من الصالحين.
قال ابن عرفة: الصلاح مقول بالتشكيك، فصلاح النبي أعظم من صلاح الولي. هـ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي: أفضنا عليهم بركات الدين والدنيا. وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا
(١) عبارة القشيري: (تنسد الوجوه فى الحال).
(٢) الآية ١١٠ من سورة يوسف. [.....]
(٣) الآية ١١ من سورة الأحزاب.
من صلبه ألف نبيّ، أولهم يعقوب، وآخرهم عيسى عليه السلام. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما أي: إبراهيم وإسحاق، وليس لإسماعيل هنا ذكر، استغناء بذكر ترجمته في مريم «١»، مُحْسِنٌ مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر مُبِينٌ ظاهر كفره. أو: محسن إلى الناس، وظالم لنفسه بتعدِّيه عن حدود الشرع.
وفيه تنبيهٌ على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر، فقد يلد البرُّ الفاجرَ، والفاجرُ البرَّ.
وهذا مما يهدم الطبائع والعناصر، وتنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعدْ عليهما بعيب، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله، ويُعاقب بما كسبتْ يداه، لا على ما وجد من أصله وفرعه. قاله النسفي. قلت: قاعدة «العرق نزاع» أغلبية، لا كلية. وقيل: هو حديث، فيكون أغلبيًّا، فالشجرة الطيبة لا تنبت في الغالب إلا الطيب، إلا لعارض، والشجرة الخبيثة لا تجد فروعها إلا مثلها، إلا لسبب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البشارة الكبيرة، والبركة العظيمة، إنما تقع في الغالب بعد الامتحان الكبير، فبقدر الامتحان يكون الامتكان، ويقدر الجلال يعظم الجمال، فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. فبقدر الفقر يعقب الغنى، وبقدر الذل يعقب العز، إن كان في جانب الله. وقس على هذا.. ويسري ذلك في العقب، كما هو مشاهد في عقب الصالحين والعلماء والأولياء. وبالله التوفيق.
ثم ذكر موسى وهارون، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بني إسرائيل، مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق والدهش الذي
(١) فى قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا الآيتان: ٥٤- ٥٥.
أصابهم، حين طلعت خيل فرعون عليهم، أو: من سلطان فرعون وقومه وعنتهم. وَنَصَرْناهُمْ أي: موسى وهارون وقومهما، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه. وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه، وهو التوراة، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط أهل الإسلام، وهو الطريق الذي يُوصل إلى الحق، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ الآيتين بعدهما، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكاملين في الإيمان.
الإشارة: منّ عليهما أولاً بالخصوصية، ثم امتحنهما عليها بالكرب العظيم، كما هي عادته في أهل الخصوصية، ثم مَنَّ عليهم بالفرج والنصر والعز، ثم هداهما إلى طريق السير إليه، في الظاهر والباطن، بإنزال الكتاب، وبيان طريق الرشد والصواب، فالطريق المستقيم هي طريق الوصول إلى الحضرة، وشهود عين التوحيد الخاص، ثم ينشر الصيت والذكر الحسن في الحياة والممات. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر إلياس، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهو إلياس بن ياسين بن العيزار، من سبط هارون عليه السلام. قال ابن إسحاق: لَمَّا قبض الله حزقيل النبي، عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إلياس «١»، وبنو إسرائيل حينئذ متفرقون في أرض الشام، وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمَّا فتح الشام بعد موسى عليه السلام وملكها، بوّأها بني إسرائيل، وقسمها بينهم، وأحلّ سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها. ومنهم السبط الذي نشأ منهم إلياس. انظر الثعلبي. وقيل: إلياس هو إدريس. وقرأ ابن مسعود- رضى الله عنه-: «وإن إدريس» موضع إلياس. والمشهور ما تقدم.
(١) أخرجه الطبري (٢٣/ ٩٢) عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه.
616
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ألا تخافون الله، أَتَدْعُونَ بَعْلًا، هو عَلَم لصنم، كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعاً، وكان له أربعة أوجه، فافتتنوا به وعظّموه، حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه.
وكان الشيطان يُوسوس إليهم شريعة من الضلالة، وكان موضعهم يُسمى «بك» فركب معه وصار «بعلبكّ»، وهو من بلاد الشام، قلت: ويسمونه اليوم عكا، وفيه قبر صالح عليه السلام، وقيل: إن إلياس والخضر حيان، يلتقيان كل سنة بالموسم «١»، فيأخذ كل واحد من شعر صاحبه. قيل: إن إلياس وُكِّلَ بالفيافي، والخضر وُكِّلَ بالبحار. وقيل: إن الله قطع عنه لذة المطعم والمشرب، وأليس الريش، وطار مع الملائكة، فصار إنسيًّا ملكيًّا، أرضيًّا سماويًا. فهو مازال حيًّا. فالله أعلم.
ثم قال: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي: تعبدون صنماً جامداً، وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن الخالقين.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «٢». من نصب الثلاثة فبدل، ومن رفعها فمبتدأ وخبر. فَكَذَّبُوهُ فسلّط الله عليهم، بعد رفعه، أو موته، عدوًّا، فقتل ملكهم وكثيراً منهم، فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ في النار، وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة، أو: لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه، فإنهم ناجون من حضور العذاب، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ الثناء الحسن فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «٣»، وهو إلياس وأهله لأن «ياسين» اسم أبيه. وقرأ أكثر القراء: إلياسين، بكسر الهمزة ووصل اللام، أي: إلياس وقومه المؤمنين، كقولهم: الخُبَيْبون والمهَلَّبون، يعنون عبد الله بن الزبير وقومه. والمهلَّب وأتباعه. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وقيل: آل ياسين هو نبينا محمد ﷺ وأهله، والسياق يأباه.
الإشارة: يُؤخذ من قوله تعالى: أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا.. الخ، أن مدار التقوى هو توحيد الله، والانحياش إليه، والبُعد عن كل ما سواه، والرجوع إلى الله في كل شيء، والاعتماد عليه في كل حال. ويؤخذ من قوله: سلام على آل ياسين في قراءة المد، أن الرجل الصالح ينتفع به أهله وأقاربه، وهو كذلك فإن عَظُمَ صلاحه تعدّت منفعته إلى جيرانه وقبيلته، فإذا كبر جاهه شفع فى الوجود بأسره.
(١) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ٥٣٧) لابن عساكر، عن ابن شوذب، والحسن.
(٢) قرأ حفص، وحمزة، والكسائي بنصب الأسماء الثلاثة، وقرأ الباقون بالرفع. انظر الحجة للفارسى (٦/ ٦٣).
(٣) قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: (آل ياسين) بفتح الهمزة، مشبعة، وكسر اللام، مفصولة عما بعدها، والمراد: ولد ياسين وأصحابه، قرأ الباقون «على إلياسين، بكسر الهمزة، وسكون اللام، موصولة بما بعدها، كلمة واحدة، جمع «إلياس». انظر الإتحاف (٢/ ٤١٦).
617
ثم ذكر لوطا عليه السّلام، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ أي: واذكر إذ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ في الباقين لأنها شاركتهم في عصيانهم، فحقّ عليهم العذاب مثل ما حقّ عليهم، ثُمَّ دَمَّرْنَا
: أهلكنا الْآخَرِينَ،
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح، وَبِاللَّيْلِ
أي: ومساء، أو: نهاراً وليلاً. ولعل مدينتهم الخالية كانت قريب منزل ينزل به المسافر، فيغدوا منه ذهاباً، ويروح إليه إياباً، فكانت قريش تنزل به وتروح عنه في متاجرهم إلى الشام، فتشاهد آثارهم والدارسة، وديارهم الخالية.
أَفَلا تَعْقِلُونَ
أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام، كما ختم قصص مَن قبلهما لأن الله تعالى قد سَلَّمَ على جميع المرسلين في آخر السورة، أو: تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع، من أُولي العزم.
الإشارة: ينبغي لمَن له عقل إذا مرَّ بآثار مَن سلف قبله أن يعتبر، وينظر كيف كان حالهم، وإلى ما صار إليه مآلهم، وأنه عن قريب لا حق بهم، فيتأهّب للسفر، ويتزوّد للمسير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة يونس، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
618
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنَّ يُونُسَ
بن متى، اسم أبيه، لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إلى أهل نَيْنَوى، فكذَّبوه، فوعدهم بالعذاب، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم، وهي معنى قوله: إِذْ أَبَقَ
هرب. والإباق: الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب، فسمي هربه من قومه- بغير إذن ربه- إباقاً، مجازاً. رُوي أنه لمَّا فرَّ عنهم، وقف في مكان ينتظر نزول العذاب بهم، وكان يُحب ذلك لتكذيبهم إياه، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء، يجأرون إلى الله تعالى، فكشف عنهم، فلما رأى يونس العذابَ انكشف عنهم، كره أن يرجع إليهم، فركب البحر، فأوى إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
: المملوء بالناس والمتاع، فلما ركب معهم وقفت السفينة، فقالوا:
هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر: أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ، فاقترعوا، فخرجت القرعةُ على يونس، فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في البحر، فذلك قوله: فَساهَمَ
: فقارعهم مرة- أو ثلاثاً- بالسهام، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين بالقرعة. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ داخلٌ في الملامة، أو: آتٍ بما يُلام عليه، ولم يُلَم فإذا ليم كان مألوماً.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ من الذاكرين كثيراً بالتسبيح، أو: من القائلين: لآَّ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «١» أو: من المصلين قبل ذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدّم عملاً صالحاً فنجَّاه، وإنَّ العمل الصالح يرفع صاحبه، إذا عَثَرَ وجد متكئاً. هـ «٢». أي: فلولا طاعته قبل ذلك لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل: للبث حيًّا إلى يوم البعث.
وعن قتادة: لكان بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة. وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام، أو: سبعة أو: أربعين يوماً.
وعن الشعبي: التقمه ضحوة، ولَفَظَه عشية. قيل: أوحى الله تعالى إل الحوت: إني جعلت بطنك ليونس سجناً- وفي رواية: مسجداً- ولم أجعله لك طعاماً «٣». هـ.
فَنَبَذْناهُ أي: أخرجناه بِالْعَراءِ بالمكان الخالي، لا شجر فيه ولا نبات. أو: بالفضاء، وَهُوَ سَقِيمٌ عليل مطبوخ، مما ناله من بطن الحوت. قيل: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يُولد. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً أي: أنبتناها فوقه، مظلة له، كما يطنَّب البيتُ على الإنسان، مِنْ يَقْطِينٍ، الجمهور على أنه القرع،
(١) الآية ٨٧ من سورة الأنبياء.
(٢) انظر: تفسير البغوي (٧/ ٦٠).
(٣) قال الحافظ ابن حجر: «لم أجده». وذكره الزيلعى فى تخريج أحاديث الكشاف (٥٣٥) وعزاه لابن مردويه، عن ابن مسعود، فى قصة يونس. وانظر الفتح السماوي (٣/ ٩٥٧).
619
وفائدته: أن الذباب لا تجتمع عنده، وأنه أسرع الأشجار نباتاً، وامتداداً، وارتفاعاً، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتُحب القرع، فقال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» «١»، قلت: ولعلها النوع الذي يُسمى اليوم «السلاوي» لأنه هو الذي ورقه لينة، وفيه منافع.
رُوي أن ظبية كانت تختلف إليه، فيشرب من لبنها بكرة وعشية، حتى نبت لحمه، وأرسل الله تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها، فتساقطت حتى أذته الشمس، فشكاها إلى الله تعالى. وفي رواية: فحزن عليها، فقيل له: أنت الذي لم تخلُق، ولم تسقِ، ولم تُنبت، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تُريد مني أن أستأصِلَهم في ساعة واحدة، وقد تابوا، وتُبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس، أنا أرحم الراحمين «٢». هـ.
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ، المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام، فتكون «قد» مضمرة، أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، أي: إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج: «أو» بمعنى «بل». وقيل: بمعنى الواو. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفاً. وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً.
وقال ابن جبير: سبعين ألفاً. وقيل: وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل: قوماً آخرين. فَآمَنُوا به، وبما أُرسل به، فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ منتهى أجلهم، ولم يُعاجَلوا، حيث تابوا وآمنوا.
الإشارة: في قصة يونس نكتة صوفية، ينبغي الاعتناء بها، وهو أن العبد إذا زلّت قدمُه، وانحطّ عن منهاج الاستقامة، لا ييأس ولا يضعُف عن التوجه، بل يلزم قرعَ الباب، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال، فإن الله تعالى يرعى ذمام عبده، كما يرعى العبد ذمام سيده، وفي حال البُعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب، وفي ذلك يقول ابن وفا رضي الله عنه:
ونحن على العهد نرعى الذمام وعهد المحبين لا ينقضي
صددت فكنت مليح الصدود وأعرضتَ أُفديك من معرض
وفي حالة السخط لا في الرضا بيان المحب من المبغض.
(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٤٤) لعبد بن حميد، وابن جرير، عن شهر بن حوشب.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٤٥٤- ٥٤٦) لعبد الرزاق، وأحمد فى الزهد، وعبد بن حميد، عن وهب.
620
وفيها أيضاً: الحث على الشفقة على عباد الله، وإن كانوا عصاة. قال القشيري: وفي القصة: أن الله تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته: قُلْ لفلانٍ الفَخَّار: يَكْسِرَ من الجرات ما عمله في هذه السنة كلّها، فقال يونس: يا ربِّ، إنه تعنَّى مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمره أن يكسرها كلّها؟ فقال له: يا يونس، يَرِقُّ قلبُك لخزاف يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ، وأردتَ أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي؟ لم تخلقهم، ولو خَلَقْتَهم لرحمتهم. هـ.
ثم وبَّخ قريشاً على قولهم: الملائكة بنات الله- بعد ذكر هلاك مَن كفر من الأمم قبلهم، تهديدا، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٦٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمَرَ رسولَه أولاً في أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث، بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «١»، ثم أمره هنا باستفتائهم [عن] «٢» وجه القسمة الضّيزى التي قسموها، بأن جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، واستنكافهم من ذكرهن، وليس من باب العطف النحوي، خلافاً للزمخشري.
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم، وتجهيل لهم، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدةً، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر، بل بمجرد ظن وتخمين، وإلقاء الشيطان إليهم. أو: معناه: أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم شاهدوا خلقهم.
(١) الآية ١١ من سورة الصافات.
(٢) فى الأصول [على].
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، الهمزة للاستفهام الإنكاري، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل، أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في دعواكم.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ بين الله وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الملائكة- لاستتارهم، نَسَباً وهو زعمهم أنهم بنات الله.
أو: قالوا: إن الله صاهر الجن، تزوج سَرَوَاتِهم فولدت له الملائكة «١»، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار. أو: لقد علمت الملائكة أنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد، فكيف تكون بنات الله؟. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، استثناء منقطع من «المحضرين»، أي: لكن المخلصون ناجون من النار. و «سبحان الله» : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه، ويجوز أن يقع الاستثناءُ من واو «يصفون»، أي: عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك.
الإشارة: الحق تعالى في عالم القدرة منزَّه عن الولد والصاحبة، وتصور الأثنينية، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة في حضرة الأشباح، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة في حضرة أسرار الذات، فتوحّد الله، وتنزهه عن الاثنينية، وعين تنظر لعالم الحكمة، فتثبت سر الازدواج والتولد في حضرة الأشباح، والمظهر واحد، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات، فحطَّ رأسك لهم، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلم تسلم.
ثم بيّن أنَّ الأمور كلها بيد الله، هداية وإضلالا، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
(١) انظر تفسير الطبري (٢٣/ ١٠٨). [.....]
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ أي: ومعبوديكم، ما أَنْتُمْ وهم جميعاً عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ بمضلّين، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي: إلا مَن سبق في علمه أنه من أهل النار. والمعنى: إنكم لستم تضلُّون أحداً إلا أصحاب النار، الذين سبق في علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار، يقال: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأته: أفسدها عليه. وقال الحسن: فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحداً، إلا مَن أوجبتُ عليه الضلال في السابقة. هـ. وفيها دليل للقدر، بل هي صريحة فيه. و «ما» في «أنتم» : نافية، و «مَن» : في موضع النصب بفاتنين، على الاستثناء المفرغ، أي: لا تفتنون إلا الذي هو صالي الجحيم. وحذفت الياء في الرسم اكتفاء بالكسرة، وقرأ الحسن: «صالُ الجحيم» بضم اللام- ووجهه: أنه جمْع، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين، و «مَن» مفرد في اللفظ، جمع في المعنى، فحمل «هو» على اللفظ، و «الصالون» على المعنى.
الإشارة: ويقال لمَن يُرغّب الناس في الدنيا، ويدلهم على جمعها، والاعتناء بها، بمقاله، أو بحاله، ويزهّد في طريق التجريد والانقطاع إلى الله: ما أنتم بفاتنين أحداً عن طريق الله، إلا مَن سبق أنه يصلى نار القطيعة والبعد، وأما مَن سبقت له سابقة الوصال، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن مَن يدلّ الناس على الدنيا فقد غشّهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه: مَن دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتبعك، ومَن دَلَّكَ على الله فقد نصحك. هـ. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين، ورين الفاتنين، والدلالة على العمل من شأن الصالحين، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية، يدلون على الله، بسقي الكؤوس، ونسيان النفوس، ودخول حضرة القدوس، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
ثم رجع إلى الكلام على الملائكة، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٦]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
يقول الحق جلّ جلاله: حاكياً عن الملائكة: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في العبادة، أو: في السموات، نعبد الله فيه، أو: في القُرب والمشاهدة لا نتعداه، ولا نترقى عنه إلى غيره، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم، القاضي بحدوثهم. وفي اعترافهم بذلك ردٌّ على زعم الكفار أنهم بنات الله، أو شركاء له، وتنزيه له تعالى عن ذلك لتنافي العبودية والطاعة التي اعترفوا بها، والبنوة المدّعاة من الكفار، تعالى الله عن قولهم. وهذا
623
يجري أيضاً في القول الذي يقول: إنهم قسم ثالث، مجردات، ليسوا بجوهر ولا عرض، كالأرواح، فإنها على تقدير كونها كذلك، جائزة لقبولها التفاوت في العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاضٍ بالافتقار، والتخصيص لِمَا هي عليه، المستلزم للحدوث. قاله في الحاشية.
قلت: القول بأن الملائكة مجردات عن المادة، هو قول الفلاسفة، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث لأن كونهم صفوفاً قائمين، أو ساجدين، أو سائرين، يقتضي تشكيلَهم وتحييزَهم، فيستلزم المادة إلا أنها نورانية لطيفة، وكذلك الأرواح، على ما في الأحاديث، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ نصفّ أقدامنا في الصلاة، أو: نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة، من الولد، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو:
المشتغلون بالتسبيح على الدوام، أو: المصلُّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله: سُبْحانَ اللَّهِ.... الخ، من كلام الملائكة، حتى يتصل بذكرهم «١»، كأنه قيل: ولقد عَلِمَ الملائكةُ أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه، وقالوا: سبحان الله، ونزّهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين، وبرّؤوهم من ذلك، وقالوا للكفرة: وإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه، وتضلُّوه، إلاّ مَن كان من أهل النار، وكيف نكون مناسِبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكلّ منا مقامٌ من الطاعة معلومٌ، لا يستطيع أن يزلَّ عنه، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته، مسبِّحين بحمده، كما يجب على العباد. ولعل قولهم: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرب ومقامات اليقين. وقولهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات، وهم طبقات منهم هائمون مستغرقون في الشهود، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل، واعتنى بتصفية روحه وسره، طَوى نوره الوجودَ بأسره، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد، وتتوارد عليه الكشوفات، والعلوم، والأسرار، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية، أبداً سرمداً، بخلاف الملائكة، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوما لايتعداه، كما أخبر تعالى.
وسرُّ ذلك: أن الآدمي فيه بشرية وروحانية، فكلما جاهد نفسه، وغاب عن حس بشريته ترقى في معارج التوحيد، والمجاهدة لا تنقطع عنه فى هذا الدار لأنها دار أكدار، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة، وأما في تلك
(١) فى قوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ.
624
الدار فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضاً: البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء، كذلك الملائكة لا بشرية لهم، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم.
قال في القوت: لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين، إنما لكلٍّ مقام معلوم، لا ينتقل إلى غيره، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة، بأكثر ما يزداد جملة البشر هـ.
قلت: ومعنى كلامه: أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها، وقَوِي عليها، ومَن كان في مقام الخدمة، دام عليها، وقوي عليها، قوةً لا يطيقها البشر، ولا يترقى عنها، بخلاف الآدمي، فليست فيه هذه القوة، لكنه يترقى من مقام إلى مقام، ويترقى في المعارف على الدوام.
ثم بسط صاحب القوت في ذلك الكلام في فضائل الصلاة، وأنها جامعة لما فُرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال: وبذلك فضل المؤمنون الملائكة، وكذلك فضل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب، على الأملاك بالتنقيل بأن جُمعت فيه، ورُفع فيها مقامات، والملائكة لا يُنقلون، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم، لا ينقل منه إلى غيره، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كله في قلب المؤمن، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. هـ.
قال المحشي الفاسي: وفيه نظر، مع تلقيهم ضروب الوحي الجامع للمقامات، فكيف لا يُمكّنهم تحققاً بها على اختلافها؟، ولو كان كما قال لكان كل مَلَكٍ إنما يتلقى من الوحي ما يناسبه، ويختص بمقامه، وليس الأمر كذلك ضرورة. هـ. قلت: وفي نظره نظر إذ لا يلزم من تلقيهم للوحي على أنواعه أن يترقوا به إذ ليس الترقي هو مجرد العلم، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام، ولا ينتقل عنه إلى غيره، بل قد يعلمه ولا يذوقه، كما هو محقق عند أهل الفن، ثم قال: والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء، ومثله كلام الإحياء. هـ.
ونص البيضاوي في قوله تعالى: قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ «١» الآية: إنَّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، والحكماء مَنعوا ذلك في الطبقات العليا منهم، وحملوا عليه قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
هـ. قلت: ترقي الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام، حتى يُكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، ثم لا يزال يترقى
(١) الآية ٣٣ من سورة البقرة.
625
في الأذواق والكشوفات، يتجدّد له في كل يوم وساعة، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ، بخلاف الملائكة، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ، ولا ينتقل عنه، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر و؟؟؟ ان، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات، لا في العلوم الغيبية، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله.
وقال القشيري: الملائكة لا يتخطون مقامهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله، لا يطلع عليه أحد، والأنبياء- عليهم السلام- لهم مقام مشهورٌ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخَلْقِ قدوة، فأمْرُهُم على الشهرة، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. هـ. وقال الورتجبي: أهل البدايات في مقام الطاعات، والأوْسَاط في المقامات، مثل التوكل والرضا، والتسليم، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة في مقام معارف، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام، ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف، حيث أفناهم قهرُ الجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء، عن كل ما وجدوا من الحق، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. هـ. قلت: ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد، والزهّاد، وأرباب الأحوال، وحالهم كحال الملائكة، يُمَدُّون في مقامهم، ولا ينتقلون منه، فلكل واحدة قوة في مقامه، لا يطيقها العارف، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات، والترقي فيها أبداً.
ثم قال الورتجبي في قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية، من الصلاة والتسبيح، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم: لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة، حتى قالوا بالتفخيم: إِنَّا لَنَحْنُ، فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة، حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. هـ. وكلامنا كله مع عامة الملائكة، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم- صلوات الله وسلامه عليهم.
ثم رجع إلى الكلام مع قريش، فقال:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٨٢]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
626
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كانُوا أي: مشركو قريش لَيَقُولُونَ قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: كتاباً من كتب الأولين، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأخلصنا لله، وما كذّبنا كما كذَّبوا، ولَمَا خالفنا كما خالفوا، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب، فكفروا به، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم، وما يحلّ بهم من الانتقام. و «إن» مخففة، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون، مؤكّدين للقول، جادّين فيه، ثم نقضوا بأشنع نقض، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز، فقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: وعدناهم بالنصر والغلبة.
والكلمةُ هي قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ دون غيرهم، إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
، وإنما سمّاها كلمةٌ، وهي كلمات لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن: ما غُلب نبيّ في حرب قط.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسَه، والغالب منه: الظفَرُ والنصر، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر، والعبرة بالغالب.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ إلى مدة يسيرة. وهى المدة التي أملهوا فيها، أو: إلى بدر، أو: إلى فتح مكة، وَأَبْصِرْهُمْ أي: أبصر ما ينالهم، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك كائن قريب، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من النصر والتأييد، والثواب الجزيل في الآخرة. و «سوف» للوعيد، لا للتبعيد.
ولَمّا نزل: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هو؟ فنزل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قبل وقته؟ فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم. واللام للجنس لأن «ساء» و «ليس» يقتضيان ذلك. قيل: هو
627
نزول رسول الله ﷺ يوم الفتح بمكة. وقيل: نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً.
والصباح: مستعار من: صباح الجيش المبيت، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً، وإن وقعت في غيره.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، كُرر ليكون تسلية بعد تسلية، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد، وفيه فائدة، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول، بعد التقييد له، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل: أريد بأحدهما: عذاب الدنيا، وبالآخرة: عذاب الآخرة.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها، أو: يريد: أن ما من عزّة لأحد إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «١» أي: تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، عمم الرسل بالسلام بعد ما خصص البعض في السورة لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء.
قيل: في ختم السورة بالتسبيح بعد ما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذبيهم، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة، وكلمات فيها رضى الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كُفِّرَ بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ، ومجلس ذكرٍ، إلا ختم الله بهن، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» «٢». والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ- كرّم الله وجهه: مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «٣».. إلخ.
(١) من الآية ٢٦ من سورة آل عمران.
(٢) أخرجه، بلفظه، أبو داود فى (الأدب، باب فى كفارة المجلس ٥/ ١٨١، ح ٤٨٥٧) وابن حبان في صحيحه (٥٩٢) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، موقوفا. وأخرجه أبو داود فى الموضع نفسه (ح ٤٨٥٨) عن أبى هريرة مرفوعا. ولم يذكر أبو داود نص الرواية، بل قال- بعد ذكره لرواية عبد الله بن عمرو: (عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ مثله)، وأخرجه بنحوه الترمذي فى (الدعوات باب: ما يقول إذا أقام من المجلس ٥/ ٤٦٠- ٤٦١، ح ٣٤٣٣) من حديث أبى هريرة، مرفوعا.
(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧/ ٦٦) وعبد الرزاق فى المصنف (٢/ ٢٣٧)، عن سيدنا علىّ، موقوفا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٥٤) لابن أبى حاتم، من رواية الشعبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا.
628
وعنه ﷺ أنه قال: «إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم» «١».
الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين، بصحبته وخدمته، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر، وأَنِفَ واستكبر، وقنع بما عنده من العلم، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه، من الامتحان في أول البادية، قال: ليس هذه طريق الولاية، فيقال له: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين، ولِمن كان على قدمهم، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون، فتولّ عن مثل هذا حتى حين، وهو وقت هجوم الموت عليه، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب، وسوء الحساب، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم، فيقال له: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ... الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن، فينزهونه بقولهم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٢».
(١) أخرجه الطبري (٢٣/ ١١٦) وزاد السيوطي فى الدر (٥/ ٥٥٣) عزوه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن قتادة، بنحوه. كما عزاه السيوطي لابن مردويه، وابن سعد، عن قتادة، عن أنس.
(٢) إلى هنا ينتهى المجلد الرابع بتجزئة المحقق، ويتلوه- إن شاء الله- المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة «ص». - أسأل الله العلى القدير- أن يتقبله بأحسن قبول، وأن يبلّغ من طالعه كل مأمول. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. وكان الفراغ من نسخ هذا المجلد وتحقيقه ومراجعته فى الثاني عشر من ربيع الأول، سنة عشرين وأربعمائة وألف، على يد/ أحمد عبد الله القرشي، عفا الله عنه، آمين.
629
Icon