تفسير سورة الحجرات

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يَغُضُّونَ﴾ غضَّ صوته خفضه وخافت به ﴿فَاسِقٌ﴾ الفاسق: الخارج من حدود الشرع، وهو في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى الخروج، مأخوذ من قولهم: فسقت الرطبة إِذا خرجت من قشرها، وسمي فاسقاً لخروجه عن الطاعة ﴿نبأ﴾ النبأ: الخبر الهام قال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن {
214
عَنِتُّمْ} وقعتم في العَنت وهو المشقة والهلاك قال في اللسان: العن: الهلاك وأعنته أوقعه في الهلكة ﴿الراشدون﴾ جمع راشد وهو المهتدي إلى محاسن الأمور ﴿تفياء﴾ ترجع ﴿بَغَتْ﴾ اعتدت واستطاعت وأصله مجاوزة الحد في الظلم والطغيان ﴿تلمزوا﴾ تعيبوا.
سَبَبُ النّزول: أروي أن بعض الأعراب الجفاة جاءوا إلى حجرات أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعلوا ينادونه: يا محمد أُخرج إلينا، يا محمد أخرج إلينا فأنزل الله ﴿إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.
ب وروي أن النبي بعث «الوليد بن عقبة» إلى الحارث بن ضرار ليقبض ما كان عنده من الزكاة التي جمعها من قومه، فلما سار الوليد واقترب منهم خاف وفزع، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال يا رسول الله: إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فهمَّ بعض الصحابة بالخروج إليهم وقتالهم فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا..﴾ الآية.
ج عن أنس قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو أتيت «عبد الله بن أُبيٍّ» وهو رأس المنافقين فانطلق إليه وركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: إليك عني أي تنحَّ وابتعد عني فوالله لقد آذاني نتنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار والله لحمارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾ أي أيها المؤمون، يا من اتصفتم بالإِيمان، وصدَّقتم بكتاب الله، لا تقُدقموا أمراً أو فعلاً بين يدي الله ورسوله، وحُذِف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع إلى كل ما يمكن تقديمه من قولٍ أو فعل، كما إِذا عرضت مسألة في مجلسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسبقونه بالجواب، وإِذا حضر الطعام لا يبتدئون بالأكل، وإِذا ذهبوا معه إلى مكان لا يمشون أمامه ونحو ذلك قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم وقال البيضاوي: المعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكم الله ورسوله به، وقيل: المراد بين يدي رسول الله، وذُكر اللهُ تعظيماً له وإِشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله ﴿واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واتقوا الله فيما أمركم به، إن الله سمعٌ لأقوالكم، عليمٌ بنياتكم وأحوالكم، وإظهار الاسم الجليل واحترامه فقال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي﴾ أي إِذا كلمتم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاخفضوا أصواتكم ولا ترفعوها على صوتِ النبي ﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ أي ولا تبلغوا حدَّ الجهر
215
عند مخاطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يجهر بعضكم في الحديث مع البعض، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعظكم بعضاً فتقولوا: يا محمد، ولكنْ قولوا يا نبيَّ الله، ويا رسول الله، تعظيماً لقدره، ومراعاةً للأدب قال المفسرون: نزلت في بعض الأعراب الجفاة الذين كانوا ينادون رسول الله باسمه، ولا يعرفون توقير الرسول الكريم ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ أي خشية أن تبطل أعمالكم من حيث لا تشعرون ولا تدرون، فإن في رفع الصوت والجهر بالكلام في حضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط للعمل قال ابن كثير: روي
«أن ثابت بن قيس كان رفيع الصوت، فلما نزلت الآية قال: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهله حزيناً، فافتقده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبروه بما قال، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا بل هو من أهل الجنة» وفي رواية «أترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ فقال: رضيتُ ببشرى الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ أي إن الذين يخفضون أصواتهم في حضرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتقوى ومرَّنها عليها وجعلها صفة راسخةً راسخة فيها قال ابن كثير: أي أخلصها للتقوى وجعلها أهلا ومحلاً ﴿الَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي لهم في الآخرة صفحٌ عن ذنوبهم، وثواب عظيم في جنات النعيم.. ثم ذمَّ تعالى الأعراب الجفاة الذين ما كانوا يتأدبون في ندائهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات﴾ أي يدعونك من وراء الحجرات، منازل أزواجك الطاهرات ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي أكثر هؤلاء غير عقلاء، إذ العقل يقتضي حسن الأب، ومراعاة العظماء عند خطابهم، سيّما لمن كان بهذا المنصب الخطير قال البيضاوي: قيل إِن الذي ناداه «عُيينة بن حُصين» و «الأقرع بن حابس» وفدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد أخرج إلينا ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ أي ولو أنَّ هؤلاء المنادين لم يزعجوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمناداتهم وصبروا حتى يخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيراً لهم وأفضل عند الله وعند الناس، لما فيه من مراعاة الأدب في مقام النبوة ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي الغفور لذنوب العباد، الرحيم بالمؤمنين حيث اقتصر على نصحهم وتقريعهم، ولم يُنزل العقاب بهم.
. ثم حذَّر تعالى من الاستماع للأخبار بغير تثبت فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ أي إِذا أتاكم رجل فاسق غير موثوق بصدقه وعدالته بخبر من الأخبار ﴿فتبينوا﴾ أي فتثبتوا من صحة الخبر ﴿أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ أي لئلا تصيبوا قوماً وأنتم جاهلون حقيقة الامر ﴿فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ أي فتصيروا نادمين أشد الندم على صنيعكم ﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله﴾ أي واعلموا أيها المؤمنون أنَّ بينكم الرسول المعظَّم، والنبيُّ المكرم، المعصوم عن اتباع الهوى {لَوْ يُطِيعُكُمْ
216
فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لو يسمع وشاياتكم، ويصغي بسمعه لإِراتكم، ويطيعكم في غالب ما تشيرون عليه من الأمور، لوقعتكم في الجهد والهلاك قال ابن كثير: أي اعلموا أنَّ بين أظهركم رسو لالله فعظّموه ووقروه، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ولو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدَّى لك ذلك إلى عنتكم وحرجكم ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان﴾ أي ولكنه تعالى بمنّه وفضله نوَّر بصائركم فحبَّب إلى نفوسكم الإِيمان ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي وحسَّنه في قلوبكم، حتى أصبح أغلى عندكم من كل شيء ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ أي وبغَّض إلى نفوسكم أنواع الضلال، من الكفر والمعاصي والخروج عن طاعة الله قال ابن كثير: والمراد بالفسوق الذنوبُ الكبار، وبالعصيان جميع المعاصي ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾ أي أولئك المتصفون بالنعوت الجليلة هم المهتدون، الراشدون في سيرتهم وسلوكهم، والجملة تفيد الحصر أي هم الراشدون لا غيرهم ﴿فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً﴾ أي هذا العطاء تفضلٌ منه تعالى عليكم وإِنعام ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليمٌ بمن يستحق الهداية، حكيم في خلقه وصنعه وتدبيره.. ثم عقَّب تعالى ما يترتب على سماع الأنباء المكذوبة من تخاصم وتباغضٍ وتقاتل فقال ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ أي وإنْ حدث أنَّ فئتين وجماعتين من إخوانكم المؤمنين جنحوا إلى القتال فأصلحا بينهما، واسعوا جهدكم للإِصلاح بينهما، والجمعُ ﴿اقتتلوا﴾ باعتبار المعنى، والتثنية ﴿بَيْنَهُمَا﴾ باعتبار اللفظ ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى﴾ أي فإِن بغت إحداهما على الأخرى، وتجاوزت حدَّها بالظلم والطغيان، ولم تقبل الصلح وصمَّمت على البغي ﴿فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله﴾ أي فقاتلوا الفئة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله وشرعه، وتُقلع عن البغي والعدوان، وتعمل بمقتضى أخوة الإِسلام ﴿فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا﴾ أي فإن رجعت وكفَّت عن القتال فأصلحوا بينهما بالعدل، دون حيفٍ على إِحدى الفئتين، واعدلوا في جميع أموركم ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ أي يحبُّ العادلين الذين لا يجورون في أحكامهم قال البيضاوي: والآية نزلت في قتالٍ حدث بين «الأوس» و «الخزرج» في عهده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان فيه ضرب السَّعف والنعال، وهي تدلُّ على أن الباغي مؤمن، وأنه إِذا كفَّ عن الحرب ترك، وأنه يجب تقديم النصح والسعي في المصالحة ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ أي ليس المؤمنون إلا اخوة، جمعتهم رابطة الإِيمان، لا ينبغي أن تكون بينهم عداوة ولا شحناء، ولا تباغضٌ ولا تقاتل قال المفسرون: ﴿إِنَّمَا﴾ لحصر فكأنه يقول: لا أخوَّة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين مؤمن وكافر، وفي الآية إشارة إلى أنْ أخوة الإِسلام أقوى من أخوَّة النسب، بحيث لا تعتبر أخوَّة النسب إذا خلت عن أخوة الإِسلام ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ أي فأصلحوا بين إخوانكم المؤمنين، ولا تتركوا الفرقة تدبُّ، والبغضاء تعمل عملها ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لتنالكم رحمته، وتسعدوا بجنته
217
ومرضاته ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ أي يا معشر المؤمنين، يا من اتصفتم بالإيمان، وصدَّقتم بكتاب الله وبرسوله، لا يهزأ جماعة بجماعة، ولا يسخر أحد من أحد، فقد يكمون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، وربَّ أشعث أغير ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره ﴿وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ﴾ أي ولا يسخر نساء من نساء فعسى أن تكون المحتقر منها خيراً عند الله وأفضل من الساخرة ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب﴾ أي ولا يعب بعضكم بعضاً، ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، وإنما قال ﴿أَنفُسَكُمْ﴾ لأن المسلمين كأنهم نفسٌ واحدة ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾ أي بئس أن يسمى الإِنسان فاسقاً بعد أن صار مؤمناً قال البيضاوي: وفي الآية دلالة على أن التنابز فسقٌ، والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾ أي ومن لم يتبْ عن اللَّمز والتنابز فأولئك هم الظالمون بتعريض أنفسهم للعذاب ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن﴾ أي ابتعدوا عن التهمة والتخون وإساءة الظنِّ بالأهل والناس، وعبَّر بالكثير ليحتاط الإنسان في كل ظنٍّ ولا يسارع فيه بل يتأملُ ويتحقَّق ﴿إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ﴾ أي إنَّ في بعض الظنِّ إِثم وذنب يستحق صاحبه العقوبة عليه قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيكَ المؤمنِ إلا خيراً، وأنت تجدُ لها في الخير محملاً» ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ﴾ أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوا معايبهم ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾ أي لا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته بما يكرهه ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾ تمثيلٌ لشناعة الغيبة وقبحها بما لا مزيد عليه من التقبيح أي هل يحب الواحد منكم أن يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت؟ ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ أي فكما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا الغيبة شرعاً، فإن عقوبتها أشدُّ من هذا.
. شبَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الأخ حال كونه ميتاً، وإِذا كان الإِنسان يكره لحم الإِنسان فضلاً عن كونه أخاً، وفضلاً عن كونه ميتاً وجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة أو أشد ﴿واتقوا الله﴾ أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إِنه تعالى كثير التوبة، عظيم الرحمة، لمن اتقى اللهَ وتاب وأناب، وفيه حثٌ على التوبة، وترغيبٌ بالمساعة إلى الندم والاعتراف بالخطأ لئلا يقنط الإِنسان من رحمة الله.
218
المنَاسَبَة: لمَّا دعا تعالى إِلى مكارم الأخلاق ونهى عن مساوئها، وحذَّر المؤمنين من بعض الأفعال القبيحة، دعا الناس هنا جميعاً للتعارف والتآلف ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، ثم بيَّن صفات المؤمن الكامل.
اللغَة: ﴿يَلِتْكُمْ﴾ ينقصكم ﴿قَبَآئِلَ﴾ جمع قبيلة وهي الجماعة التي يربطها حسبٌ أو نسبٌ، وهي أخصُّ من الشعب، لأن الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، فالشعب يجمع القبيلة، والقبيلة تجمع البطون والأفخاذ ﴿يَرْتَابُواْ﴾ يشكُّوا والريب: والشكُ ﴿يَمُنُّونَ﴾ المنُّ: الامتنان على الشخص والاعتداد عليه بفعل المعروف، وأصله في اللغة القطع ومنه ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦].
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسدٍ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا يا رسول الله: أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، أخذوا يمنون عليه فنزلت الآية الكريمة ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا﴾ أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف قال مجاهد: ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إحدى التاءين تخفيفاً قال شيخ زاده: والمعنى إن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إلى غير آبائه، لا أن نتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وِإن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز، وهو الإيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ أي إنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةٌ في الآخرة فليتق الله كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله» وفي الحديث «الناسُ رجلان:
219
رجل برٌّ تقيٍ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى» ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ أي عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالح ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى﴾ [النجم: ٢٣]. ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا﴾ أي زعم الأعراب أنهم آمنوا قل لهم يا محمد: إنكم لم تؤمنوا بعد، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب، ولم يحصل لكم، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي قال المفسرون: نزلت في نفرٍ من بني أسد، قدموا المدينة في سنةٍ مجدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كم قاتلك بنو فلان وفلان، يريدون الصَّدقة ويمنّون على الرسول، وقد دلت الآية على الإِيمان مرتبةً أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي ولم يدخل الإِيمان إلى قلوبكم ولم تصلوا إلى حقيقته بعد، ولفظةُ «لمَّا» تفيد التوقع كأنه يقول: وسيحصل لكم الإِيما عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان قال ابن كثير: وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، ولو كانوامنافقين كما ذهب إليه البخاري لعُنفوا وفُضِحوا ﴿وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً﴾ أي وإن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لأن صيغة «فعول» و «فعيل» تفيد المبالغة.
. ثم ذكر تعالى صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي إنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان، الذين صدَّقوا الله ورسوله، فأقروا لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، عن يقين راسخ وإِيمان كامل ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ﴾ أي ثم لم يشكوا ويتزلزوا في إيمانهم بل ثبتوا على التصديق واليقين ﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل اله وابتغاء رضوانه ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ أي أولئك الذين صدقوا في ادعاء الإِيمان.. وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف: الأول: التصديق الجازم بالله ورسوله الثاني: عدم الشك والارتياب الثالث: الجهاد بالمال والنفس، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل يا محمد، أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم؟ ﴿والله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي وهو جل وعلا العليم بأحوال جميع العباد، لا تخفى عليه خافية لا في السموات ولا في الأرض ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي واسع العلم رقيب على كل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ﴾ أي يعدون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة، يستوجبون عليها الحمد والثناء ﴿قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ﴾ أي قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم،
220
فإن نفع ذلك عائد عليكم ﴿بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي بل للهِ المنةُ العظمة عليكم، بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه إن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض﴾ أي يعلم ما غاب عن الأبصار في السموات والأرض ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي مطَّلع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية.
. كرَّر تعالى الإِخباربعلمه بجميع الكائنات، وإحاطته بجميع المخلوقات، ليدل على سعة علمه، وشموله لكل صغيرة وكبيرة، في السر والعلن، والظاهر والباطن.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة التمثيلية ﴿لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١] شبَّه حالهم في إيداء الرأي وقطع الأمر في حضرة الرسول بحال ملكٍ عظيم تقدَّم للسير أمامه بعض الناس وكان الأدب يقضي أن يسيروا خلفه لا أمامه، وهذا بطريق الاستعارة التمثيلية.
٢ - التشبيه المرسل المجمل ﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الحجرات: ٢] لوجود أداة التشبيه.
٣ - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾ بعد قوله ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان﴾ [الحجرات: ٧] وهذا من المحسنات البديعية.
٤ - المقابلة بين ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وبين ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ [الحجرات: ٧].
٥ - الطباق ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩].
٦ - جناس الاشتقاق ﴿وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [الحجرات: ٩].
٧ - التشبيه التمثيلي ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾ [الحجرات: ١٢] مثَّل للغيبة بمن يأكل لحم الميت، وفيه مبالغات عديدة لتصوير الاغتياب بأقبح الصور وأفحشها في الذن.
٨ - طباق السلب ﴿آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ﴾.
٩ - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ ﴿أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ﴾.
١٠ - التشبيه البليغ ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] أصل الكلام المؤمنون كالإِخوة في وجوب التراحم والتناظر، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه فأصبح بليغاً مع إفادة الجملة الحصر.
تنبيه: سورة الحجرات تسمى سورة «الأخلاق والآدب» فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، وجاء فيها النداء بوصف الإِيمان خمس مراتٍ، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات:
أولاً: وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الله ورسوله وعدم التقدم عليه بقول أو رأي ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١].
221
ثانياً: احترام الرسول وتعظيم شأنه ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي..﴾ [الحجرات: ٢].
ثالثاً: وجوب التثبت من الأخبار ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا..﴾ [الحجرات: ٦].
رابعاً: النهي عن السخرية بالناس ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ..﴾ [الحجرات: ١١].
خامساً: النهي عن التجسس والغيبة وسوء الظن ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن﴾ [الحجرات: ١٢] الآية.
لطيفَة: سئل بعض العلماء عما وقع بين الصحابة من قتال فقال «تلك دماءٌ قد ظهَّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته».
222
Icon