تفسير سورة الذاريات

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الذاريات وهي مكية وحروفها ألف ومائتان وستة وثمانون كلماتها ثلاثمائة وسبعون آياتها ستون ).

ﯤﯥ ﯧﯨ ﯪﯫ ﯭﯮ ﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء السابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
(سورة الذاريات)
(وهي مكية وحروفها ألف ومائتان وستة وثمانون كلماتها ثلاثمائة وسبعون آياتها ستون)
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩)
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
182
القراآت:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال: حمزة وأبو عمرو ومثل ما بالضم: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. الباقون: مِثْلَ بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن، أو على أنه لحق حقا مثل نطقكم سلم بكسر السين وسكون اللام: حمزة علي وخلف والمفضل والصعقة بسكون العين للمرة: علي وقوم نوح بالجر: أبو عمرو وعلي وخلف.
الوقوف:
ذَرْواً ط وِقْراً هـ لا يُسْراً هـ لا أَمْراً هـ ط لَصادِقٌ هـ لا لَواقِعٌ هـ الْحُبُكِ هـ لا مُخْتَلِفٍ هـ لا أُفِكَ هـ ط الْخَرَّاصُونَ هـ لا ساهُونَ هـ لا لأن يَسْئَلُونَ صلة بعد صلة، الدِّينِ هـ ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا يُفْتَنُونَ هـ فِتْنَتَكُمْ ط تَسْتَعْجِلُونَ هـ وَعُيُونٍ هـ لا رَبُّهُمْ ط مُحْسِنِينَ هـ ط يَهْجَعُونَ هـ يَسْتَغْفِرُونَ هـ وَالْمَحْرُومِ هـ لِلْمُوقِنِينَ هـ ط للعطف أَنْفُسِكُمْ ط تُبْصِرُونَ هـ تُوعَدُونَ هـ تَنْطِقُونَ هـ الْمُكْرَمِينَ هـ م لأن عامل «إذ» محذوف وهو «اذكر» ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان سَلاماً ط سَلامٌ ج لحق المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم مُنْكَرُونَ هـ سَمِينٍ هـ لا للعطف تَأْكُلُونَ هـ للآية مع العطف خِيفَةً ط لا تَخَفْ هـ عَلِيمٍ هـ عَقِيمٌ هـ كَذلِكَ لا للتعلق بما بعده رَبُّكِ ط الْعَلِيمُ هـ الْمُرْسَلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ طِينٍ هـ لِلْمُسْرِفِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى الْمُسْلِمِينَ هـ ط كذلك الْأَلِيمَ هـ لتناهي القصة وحكم العربية الوصل للعطف على قوله وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ مُبِينٍ هـ مَجْنُونٌ هـ لِيمٌ
هـ كما مر الْعَقِيمَ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته كَالرَّمِيمِ هـ حِينٍ هـ يَنْظُرُونَ هـ مُنْتَصِرِينَ هـ لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف قَبْلُ ج فاسِقِينَ هـ لَمُوسِعُونَ هـ الْماهِدُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ إِلَى اللَّهِ ط مُبِينٌ هـ للآية مع العطف آخَرَ ط مُبِينٌ هـ أَوْ
183
مَجْنُونٌ
هـ أَتَواصَوْا بِهِ ج لأن «بل» للإضراب معنى مع العطف لفظا طاغُونَ هـ بِمَلُومٍ هـ لا للآية مع اتفاق الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ لِيَعْبُدُونِ هـ يُطْعِمُونِ هـ الْمَتِينُ هـ يَسْتَعْجِلُونِ هـ يُوعَدُونَ هـ
التفسير:
لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر، ولهذا سلى نبيه ﷺ بقوله نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك.
عن علي كرم الله وجهه أنه قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي.
فقال ابن الكواء فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح.
وقد مر في الكهف في قوله تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الآية: ٤٥] قال: فَالْحامِلاتِ وِقْراً؟ قال رضي الله عنه: السحاب لأنها تحمل المطر. وإنما لم يقل أوقارا باعتبار جنس المطر وهو واحد. قال: فَالْجارِياتِ يُسْراً؟ قال رضي الله عنه: الفلك والمراد جريان اليسر. قال: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال رضي الله عنه:
الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدرا في موضع الحال. ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر. ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر.
وقيل: إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذرو التراب وغيره أولا، ثم تنشئ السحاب وتحمله. ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري- أعني الرياح- في الجو جريا سهلا في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب، وقد روعي في ذكر هذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت في الأرض فتميز الريح بينها بالذرو، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر. وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى. وقيل: المقسمات الكواكب السبعة. وجواب القسم إِنَّ ما تُوعَدُونَ و «ما» مصدرية أو موصولة لَصادِقٌ في نفسه كما يقال «خبر صادق» أو «ذو صدق» كعيشة راضية. ثم صرح بالموعود قائلا وَإِنَّ الدِّينَ أي الجزاء لَواقِعٌ أي حاصل. وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم، والحبك الطرائق كطرائق الرمل، والماء إذا ضربته الريح ويقال: إن
184
خلقة السماء كذلك واحدها حباك، وقال الحسن: حبكها نجومها لأنها تزينها كما تزين الموشىّ يكون بطرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق «ما أحسن حبكه». وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المختلف له أيضا طرائق، قال الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون، وللقرآن مثل ذلك، وعن قتادة: أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر. والضمير في يُؤْفَكُ عَنْهُ للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية. ويمكن أن يقال: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد، مغمور في الجهل والعناد. وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ويكون «عن» كما في قوله ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. ثم دعا عليهم بقوله قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولا أوليا. ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان.
وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ والغمرة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى وقوعه؟
ثم أجاب بقوله يَوْمَ هُمْ أي يقع في ذلك اليوم. ومعنى يُفْتَنُونَ يحرقون ويعذبون.
ثم وبخهم وتهكم بهم قائلا ذُوقُوا إلى آخره. وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي في جنات فيها عيون حال كونهم آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال جار الله: قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئا على سخط وكراهية. وقال غيره: أراد أنهم يأخذونه شيئا فشيئا ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: الأخذ بمعنى التملك يقال: بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. قال: إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلا وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له، فكلما ازداد قبولا ازداد تأثرا من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي في الدنيا وظهر عليهم
185
بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجته. وقوله ما آتاهُمْ على المضي لتحقق الإيتاء مثل وَنادى [الأعراف: ٣٨] وَسِيقَ [الزمر: ٧٢] وقال أهل العرفان: ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد. ثم فسر إحسانهم بقوله كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «ما» صلة أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعا قليلا. وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة. وارتفع «ما» مع الفعل على أنه فاعل قليلا من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير، ومن جهة لفظ القلة، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار، ومن جهة ما المزيدة على قول. ولا يجوز أن تكون «ما» نافية لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار. وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم. ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر. ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر. ويمكن أن يقال:
إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله. ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ فيكون كقوله يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [البقرة: ٣] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان أن يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة. قال جار الله: في قوله هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين. وقيل: إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلا يستغفرون على قياس الفعل السابق.
وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله. والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعا وهو الزكاة قيل: إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا سلم سقط عنه. وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعا. والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل: في أموالهم حق للطالب- وهو الزكاة- ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة. ويمكن أن يقال: أراد في أموالهم حق في اعتقادهم وسيرتهم كأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يعطوا من المال حقا معلوما وإن لم يوجبه الشرع. وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر. الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما
قال ﷺ «لكل كبد حرى
186
أجر». «١»
الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه
قال ﷺ «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا: فما هو قال: الذي لا يجد ولا يتصدق عليه.» «٢»
وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث. وقيل: المحروم الذي لا ينمى له مال. وقيل: هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب. ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ كقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إلى قوله إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فصلت: ٣٩] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره. وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع. ثم استدل بالأنفس فقال وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات. وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مرارا. وقيل: هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات. قال أهل النظم: هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلا، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه.
وَما تُوعَدُونَ هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش. وقيل: إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبى كلها مقدرة مكتوبة في السماء. ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى هاهنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقيا من الأدنى وهي المربوبات كالذاريات وغيرها إلى الرب تعالى. و «ما» مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى
(١) رواه البخاري في كتاب المساقاة باب ٩ مسلم في كتاب السلام حديث ١٠٣ أبو داود في كتاب الجهاد باب ٤٤ ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٨ الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٣٣ أحمد في مسنده (٢/ ٢٢٢، ٣٧٥)
(٢) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٢ باب ٤٨ أبو داود في كتاب الزكاة باب ٢٤ النسائي في كتاب الزكاة باب ٧٦ الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢ الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٧ أحمد في مسنده (١/ ٣٨٤، ٤٤٦) (٢/ ٢٦٠، ٣١٦)
187
وتسمع مثل ما أنك هاهنا. قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى. فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح فقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. ثم سلى نبيه ﷺ بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في «هود» و «الحجر» وفي قوله هَلْ أَتاكَ تفخيم لشأن الحديث. والضيف واحد. وجمع والمكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: ٢٦] وجوز أن يكون نصب إِذْ دَخَلُوا بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل. قال المفسرون: أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة. وفي قوله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم.
قالَ أَلا تَأْكُلُونَ سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في «الصافات» وقد مر. والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه فَأَوْجَسَ فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في «هود» وفي «الصافات». واعلم أنه سبحانه ذكر في «هود» أنه لما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال هاهنا سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولا بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد الإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه. قوله فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي في صيحة ومنه صرير القلم. قال الحسن: كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان وَقالَتْ أنا عَجُوزٌ فأجابت الملائكة كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به قالَ رَبُّكِ فلا تستبعدي.
وروي أن جبرائيل قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ
188
شأنكم وطلبكم؟ فأجابوا بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في «هود». والضمير في قوله فِيها للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم، قالت المعتزلة:
في الآية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد. وقال غيرهم: المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس؟ فيقول له: ما في البيت من الحيوان أحد غير زيد. فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. وقوله وَتَرَكْنا فِيها آيَةً كقوله في «العنكبوت» وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً [الآية: ٣٥] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء أسود. قوله وَفِي مُوسى قيل: الأقرب أن يكون معطوفا على قوله وَتَرَكْنا فِيها أي وجعلنا في موسى آية. قال جار الله: هو كقوله من قال:
علفتها تبنا وماء باردا ويمكن أن يقال: إن قصة موسى أيضا آية متروكة باقية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف. قوله فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ كقوله وَنَأى بِجانِبِهِ [الإسراء: ٨٣] وقيل: الباء للمصاحبة. والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقيل:
ركنه هامان وزيره قال العلماء: وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به ﷺ كما مر في «الصافات» لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة، لأن موجبات اللوم تختلف.
فراكب الكبيرة ملوم على قدرها، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها، وبينهما بون، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر. والرميم ما رم وتفتت. قال في الكشاف:
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ تفسيره في قوله تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: ٦٥] قلت:
هذا سهو منه فإن قوله فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله. وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [الصافات: ١٤٨] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعة والأمر أمر تكليف لا تكوين فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بالإصرار على كفرهم. فقيل: على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي كانت نهارا يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ عبارة عن جثومهم كما مر مرارا وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف.
ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وفي لفظ البناء إشارة إلى
189
كونها محكمة البنيان. وفي قوله بِأَيْدٍ أي بقوة تأكيد لذلك. وفي قوله وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن: أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر. وقيل: جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة.
وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا وأنثى. وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة. قال: كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له. وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أو الجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع. وإذا عرفتم الله فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي التجئوا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه. وكرر قوله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتأكيد. وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله ﷺ بقوله كَذلِكَ أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرار الكفرة على الإنكار والسب. ثم فسر ما أجمله بقوله ما أَتَى إلى آخره وقوله أَتَواصَوْا بِهِ استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم. ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك وَذَكِّرْ مع ذلك فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر.
ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة. وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعال الله معللة بغرض. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة، وإنما الخلاص عن الإشكال بما سلف مرارا أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللا بها، وإذا لم يكن الفعل معللا بذلك فقد يكون الفعل، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه. ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم.
والمتين الشديد القوة. ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ المهلكين، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان: وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو. واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر.
190
Icon