ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله جلَّ وعزَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)(الأنْفَال) الْغَنَائِم، واحدها نَفَل، قال لبيد:
إِن تقوى ربنا خير نَفَل... وبإِذن الله رَيْثِي وَعَجَلْ
وإِنما يَسْألوا عَنْهَا لأنَّهَا فيما رُوِيَ كانت حَراماً عَلَى من كَانَ قبلهم.
ويُروى أن الناسَ في غَزَاةِ بَدْرٍ كانوا قليلين، فجعل النبي - ﷺ - لمن جاءَ بأسير غنْماً ومن جاءَ بأسيرين على حسب ذلك.
وقيل أيضاً انه نفل في السرايا فقال الله جلَّ وعز: (الأنفَال للَّهِ والرسُولِ).
* * *
وقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥)
أي بالحق الواجب، ويكون تأويله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
كذلك نَنْفل من رأيْنَا وإِن كرِهوا. لأن بعض الصحابة قال للنبي - ﷺ - حين جعل لكل مَن أتى بأسير شيئاً، قال يبقى أكثر الناس بغير شيءٍ.
ربِّكَ إِياك مِن بَيتكَ بالحق.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).
معنى (ذَاتَ بَيْنِكُمْ) حقيقة وصْلِكُم، والبَيْنُ: الوَصْلُ، قال تعالى:
(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي وصلكم.
فالمعنى: اتقُوا اللَّهَ وكُونوا مُجْتَمعينَ على ما أمر الله ورسُولُه، وكذلك
اللهم أصلح ذات البَيْن، أي أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون.
وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
أي اقبَلُوا ما أمِرْتُمْ بِه في الغنائم وغيرها.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
تأويله: إذا ذكِرَت عظمةُ اللَّهِ وقُدْرَتُه، وما خوَّف به مَنْ عصاه، وَجلَتْ
قلُوبُهُم أي فَزِعَتْ لذلك قال الشاعِر:
لعمرك ما أدري وإِني لأوجل... على أيِّنا تعدو المنية أول
يقال: وَجِل يَوْجل وَجَلاً، ويقال في معنى يوجَل ياجَلُ يِيجل وييْجَل،
وقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).
تأويل: الإيمان التصديق، وكل ما تلى عليهم من عند اللَّه صدقوا به
فزاد تصديقهم، بذلك زيادَة إيمانهم.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
(حَقًّا) منصوب بمعنى دلَّت عليه الجملةُ.
والجملة هي (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) حقا.
فالمعنى أحُق ذَلك حقا.
وقوله: (لَهُمْ دَرَجَات عِندَ رَبِّهِمْ)
أي لهم مَنَازِل في الرفعة على قدر منازلهم.
* * *
وقوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
وعدهم الله جلَّ وعزَّ في غَزَاةِ بدر أنَّهُم يظفرون بأهل مكة وبالعِيرِ وهي
الإبل لِكراهَتِهم القِتالَ، فَجَادَلوا النبي - ﷺ - وقالوا إنما خرجنا إِلى العير.
وقوله: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ).
أي وهم كانوا في خروجهم للقتال كأنهم يساقون إِلى الموت لِقلَّة
عدَدهم وأنهم رَجَّالَة، يروى أنهم إنما كان فيهم فارسان فخافوا.
* * *
وقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧)
المعنى: واذكروا إذ يعدكم الله أن لكم إِحدى الطائفتين.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ)
المعنى: ولولا أن تطؤوهم.
وقوله: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
أي تودُّون أنَّ الطائفة التي ليسَت فيها حرب وَلا سِلاح، وهي الإبلِ
تكونُ لكم، وذاتُ الشوْكةِ ذاتُ السِلاح، يقال: فلان شَاك في السلاح.
وشائِك في السلاح وشَالٌّ السلاح بتشديد الكاف من الشكَةِ، ومثل شاكي
قول الشاعر:
فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ... شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ
وقوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).
أي ظفركم بذات الشوكة أقطعُ لدابرهم.
* * *
وقوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
لما رأوا أنفسهم في قلة عَدَدٍ استغاثوا فَأمَدَّهم اللَّه بالملائكة.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
يقال: رَدِفت الرجلَ إذا ركبْت خَلْفَهُ، وَأرْدَفته إذا أرْكَبْته خلفي، ويقال:
هذه دابة لا ترادِف، ولا يقال لا تُرْدَفُ، ويقال أردَفْتُ الرجُلَ إذا جئتُ
بعده، فمعنى (مُرْدِفِين) يأتون فرقة بعد فِرْقة، ويقرأ مُرْدَفِين، ويجوز في اللغة
قال سيبويه: الأصل مُرْتَدِفِينَ. فأدغمت التاءُ في الدال فصارت مُرَدَّفينَ، لأنك طرحت حركة التاءِ على الراءِ، قال: وإن شئت لم تطرح حركة التاءِ وكسرت الراءَ لالتقاءِ السَّاكنين، والذين ضموا الراءَ جعلوها تابعة لضمة الميم.
* * *
وقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
أي ما جعل اللَّه المدَدَ إلا بشرى.
* * *
وقوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١)
" إذْ " مَوْضِعُها نصبٌ على معنى وما جعله اللَّه إلا بشرى في ذلك
الوقت، ويجوز على أن يكون: اذكروا إذ يغشيكم النعاس.
يقال: نَعَسَ الرجل يَنْعَسُ نُعَاساً وهو نَاعس، وبعضهم يقول: نَعْسان
ولكنْ لا أشتهيها.
وَ (أمَنَةً) منصوب مفعول له كقولك: فعلت ذلك حَذَرَ الشر.
والتاوِبل أن اللَّه أمَّنهم أمْناً حتى غشيهم النعاس لِمَا وَعَدهم من النَصر.
يقال: قد آمنتُ آمَنُ أمْناً - بفتح الألف - وَأمَاناً وأمَنَةً.
وقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).
كان المشركون قد نزلوا على الماءِ وسبقوا المسلمين، ونزل المسلمون
في رَمْلٍ تسوخ فيه الأرجُلُ، وأصابت بعضهم الجنابة فوسوس لهم الشيطانُ
بأن عَدُوَّهم يقدرون على الماء وهم لا يقدرون على الماءِ، وَخيلَ إِليهم أن
الماءِ، واستوت الأرض التي كانوا عليها حتى أمكن الوقوفُ فيها والتصرفُ.
وهذا من آيات اللَّه جل ثناؤُه التي تدل على نبوة النبي - ﷺ -.
وأمْر بدر كان من أعظم الآيات لأن عَدَدَ الْمُسْلِمين كان قليلاً جداً، وكانوا رجَّالةً فأيدهم الله، وكان المشركون أضْعَافَهُم، وَأمَدَّهُم اللَّه بالملائكة.
قال بعضهم: كان الملائكة خمسةَ آلاف، وقال بعضهم تسعة آلاف.
وقوله: (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشيْطَانِ).
أي وَسَاوِسَهُ وخطاياه.
(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ).
أي وَيُثَبِّتَ بالماءِ الذي أنزله على الرمْل حَتى اسْتَوى، وجائز أن يكون
زين به للربط على قلوبهم، فيكون المعنى " وَليْرْبطَ عَلَى قُلُوبكُمْ وَيُثَبِّتَ"
بالربط الأقدام.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢)
" إذ " في موضع نصب على " وَليَرْبِطَ إذْ يُوحِي " ويجوز أن يكون على
" اذكر وا ".
(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).
جائز أن يكون أنهم يُثَبتُوهم بأشياءَ يلقُونَهَا في قُلُوبِهِمْ تَقْوَى بها.
وَجَائِزَ أن يكونوا يَرَوْنهم مدَداً، فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا.
أباحهم اللَّه قتلهم بكل نوع في الحرب.. وَاحِدُ الْبَنانِ: بَنَانَة، وَمَعْناهُ
ههنا الأصابعُ وغيرها من جميع الأعضاء.
وإِنما اشتقاق البنان من قولهم أبَنَّ بِالمكان إذا أقَام به، فالبناءُ به يَعْتَملُ
كلَ ما يَكُونُ للإقامة والحياةِ.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣)
(شَاقُّوا). جانبوا، صَارُوا في شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ الْمؤمِنِينَ، وَمثلُ شَاقُوا جَانَبُوا
وَحَازَبوا وَحَارَبوا.
معنى حَازَبوا صارَهُؤلاءِ حِزْباً وهُؤلاءِ حِزْباً.
(وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
(يُشَاقِقْ، وَيُشاقِّ) جميعاً، إِلا أنها ههنا يشاقق، بإظهار التضعيف مع
الجزم وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يدغِم، فإِذا أدْغمَتَ قلتَ: من يُشاقَّ
زيداً أهِنْه، بفتح القاف، لأن القافين ساكنتان فحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ
السَّاكنين ولأن قبلها ألفاً، وإِن شئت كَسَرْتَ فقلتَ يُشاقِّ زَيْداً، كسرت القاف لأن أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر.
فإذا استقبلتها ألف ولام اخترت الكَسْر فقلت
(وَمَنْ يُشاقِّ اللَّه). ولا أعلم أحداً قرَأ بها.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥)
يقال: أزحَفْتُ للْقَوْمِ إِذا ثَبَت لهم، فالمعنى: إِذا وَاقَفْتموهم للقتال.
(فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).
أي لا تنهزموا حتى تُدْبِرُوا.
يعني يوم حربهم.
(إِلَّا مُتَحَرِّفًا). منصوب على الحال ويجوز أن يكون النصب في متحرف، ومتحيز على الاستثناءِ، أي إلا رجلاً متحيزاً، أي
يكون منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة..
وأصل (مُتَحَيِّز) متَحَيْوزِ فأدْغمت الياءُ في الواو.
* * *
وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
ويقرأ، وَلَكِنِ اللَّهُ قَتَلَهُمْ، فمن شَدَّدَ نَصَبَ لَنَصْبِ (لكنَّ) وَمَنْ خفف
أبطل عملها ورفع قولَه: (اللَّهُ) بالابتداءِ.
أضافَ اللَّهُ قتلهم إليه، لأنه هو الذي تَوَلى نَصْرَهُمْ، وَأظْهَرَ فِي ذلك
الآيات المعجزات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ).
ليس هذا نَفْيَ رمي النبي - ﷺ - ولكن العرب خوطبت بما تعقل.
ويروى أن النبي - ﷺ - قال لأبي بكر الصديق: ناولني كفا من بَطْحاءَ، فناوله كفًّا فرمى بها فلم يبق منهم أحدٌ - أعني من الْعَدُو إِلا شُغِلَ بعينه فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن كفًّا من تُراب أوْ حصًى لاَ يَمْلأ عيونَ ذلك الجيش الكثير
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).
أي لينصرهم نصراً جميلاً، ويختبرهم بالتي هي أحسن.
ومعنى يبليهم ههنا يُسْديَ إليْهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)
بتشديد الهاءِ والنصب في (كَيْدِ) ويجوز الجر في (كَيْدِ) وإضافة (مُوهِن)
إليه. ففيه أرْبَعة أوجُه. في النصب وجهان، وفي الجر وجهان.
وموضع (ذلكم) رفع، المعنى الأمر ذلكم وأن اللَّه، والأمرُ أن اللَّه موهن.
وقوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ).
موضع (ذلكم) رفع على إضمار الأمر، المعنى: الأمر ذلكم فذقوه، فمن
قال: إنه يَرْفعُ ذلكم بما عادَ عليه من الهاءِ أو بالابتداءِ وجعل الخبر فذُوقوه.
فقد أخطأ من قبل أن مَا بَعدَ الفاءِ لا يكونُ خبراً لمبتدأ.
لا يجوز زيد فمنطلق، ولا زيد فاضربُه، إلا أن تضمر " هذا " تريد هذا زيد فاضربه.
قال الشاعر:
وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ... وأُكْرُومَةُ الحَيّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا
للكافرين عذاب النار. ويلزم على هذا أن يقال: زيد منطلق وعمرا قائماً.
على معنى وَاعْلَمْ عمراً قائماً، بل يلزمه أن يقول عمراً منطلقاً، لأن المخبر
مُعْلِم، وَلَكِنهُ لَمْ يَجُز إِضمار أعلم ههنا، لأن كل كلام يُخبَر به أو يستخبر فيه فأنت مُعْلِمٌ به. فاستغنى عن إِظهار العلم أو إِضماره.
وهذا القول لَمْ يَقُلْه أحَد مِنَ النَحَويين.
* * *
وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
معناه: إِن تستنصروا فقد جاءَكم النصر، ويجوز أن يكون معناه إِن
تستحكموا فقد جاءَكم الحُكْم. ؛ وقد أتى التفسير بالمعنيين جميعاً.
رووا أن أبا جهل قال يوم بدرٍ: " اللهم أقْطَعُنَا للرحم، وأفسَدُنَا للجماعة
فأحنه اليومَ " فسأل الله أن يحكُمَ بحيْنُ من كان كذلك، فنصر النبي - ﷺ - ونال الحَيْنُ أبا جهلٍ وأصحابه، فقال اللَّه جلَّ وعزَّ:
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إِن تَستَقْضُوا فقد جاءَكم القضاءُ.
وقيل إِنه قال: اللهم انصر أحبَّ الفِئَتَينْ إِليك، فهذا يَدلُّ على أن
معناه: إِنْ تَسْتَنْصِروا. وكلا الوجهين جَيدٌ.
* * *
وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١)
يُعنَى به الذين قالوا: قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقلْنَا مِثْل هَذَا.
فسماهم اللَّه جل ثناؤُه لَا يَسْمعونَ، لأنهمْ اسْتَمَعُوا استماعَ عداوة
وبغضاءَ، فلم يتفهموا، ولم يتفكرُوا. فكانوا بمنزلة من لم يسمَعْ.
* * *
وقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)
من لم يسمع ولم يَعْقِل.
* * *
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
أي لوعلم اللَّه فيهم خيراً لأسمَعَهُم جوابَ كل ما يَسألونَ عَنْهُ.
ثم قال جلَّ وعزَّ:
(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
أي لو بَيَّن لَهُم كل ما يعتلجُ في نفوسهم لتوَلَّوْا - وَهُمْ مُعْرضُونَ -
لمعانَدَتِهِمْ.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
أي لما يكون سبباً للحياة وهو العلم. وجائز أن يكون لما يكون
سبَباً للحياة الدائمة، في نعيم الآخرة.
ومعنى استجيبوا في معنى أجيبوا.
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إِلى الندا... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي فلم يُجبْه.
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
قيل فيه ثلاثةُ أقوال، قال بعضهم يَحُول بينَ المؤْمِنِ والكُفْر، ويحول
بين الكافِر والإيمان بالموت، أي يحول بين الإِنسان وما يسوف به نفسه
بالموت، وقيل: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
معناه: واعلموا أن الله مع المرءِ في القرب بهذه المنزلة.
كما قال: جلَّ وعزّ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)
وقيل إِنهم كانوا يفكرُون في كَثْرَةِ عَدُوهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ فيدخل في
بالخوفِ الأمن، ويُبَدِّلَ عَدُوَّهم - بظنهم أنهم قادرون عليْه - الجُبْنَ والخَوَرَ.
* * *
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥)
أي اتقوا أن يُبَدَلَ الظالمون بنقمة من اللَّه، يُعنى بهذا مَرَدَة المنافِقِينَ
الذين كانوا يصدُّونَ عن الإيمان باللَّهِ.
وزعم بعض النحويين أنَّ الكلام جزاء فيه طرف من النهي، فَإِذَا
قلْتَ: أنزِل عن الدابة لا تَطْرَحْكَ ولا تَطْرَحَنك، فهذا جواب الأمر بلفظ
النهي، فالمعنى: إنْ تَنْزل عنها لا تطرحك فإِذا أتيت بالنُون الخفيفة أو
الثقيلة كان أوكَدَ للكلام.
ومثله: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)
إِنها أمَرتْ بالدخول ثم نَهَتْهُم أن يُحْطِمَهُم سليمانُ فقالت: (لَا يَحْطِمنكمْ سلَيْمَانُ وجنودُه). فلفظ النهي لِسلَيْمانَ، ومعناه للنمْلِ، كما تقول:
لا أريَنكَ هَهنَا، فلفظ النهي لنَفْسِكَ ومعناه: " لا تَكُونَن هَهُنَا فإِني أراك ".
* * *
وقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)
المعنى: واذْكُرْ إِذ يمكُرُ بك الذِين كفروا. فأذكَرَه اللَّه جل ثناؤُه نِعْمَةَ مَا
أنعَمَ عليه من النَّصْرِ والطفَرِ يوم بدْرٍ ذلك فقال (وَإِذْ يمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اذكر تلكَ الخلال.
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
لأن مكر الله إِنما هو مجازاة ونصر للمؤْمنين، فاللَّه خير الماكرين.
وقد دُعوا بأن يَأتوا بِسُورَةٍ واحِدَةٍ من مثل القرآن فلم يَأْتُوا.
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
واحدتها أسطورة، يعنون ما سَطَّرَة الأوَلُونَ من الأكاذيب.
ثم قالوا:
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
القراءَة على نصب (الْحَقَّ) على خَبَرِ " كان " وَدَخَلَتْ " هُوَ " للفَصْل.
وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.
وَاعْلَمْ أن (هُوَ) لا موضع لها في قولنا، وأنها بمنزلة " ما " المؤَكَدَة.
ودخلت ليُعْلَم أن الحق ليس بصفة لهذا أو أنه خبر، ويجوز هو الحق مِنْ
عِنْدكَ ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ولا اختلاف بين النحويين في إِجازتها ولكن القراءَة سُنَّة
لا يقرأ فيها إِلا بقراءَة مَرْويةٍ.
وقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
المعنى: واذكر إِذ قالوا هذا القولَ، وقالوا على وجه الدفع لهُ وقالوه
والنبي - ﷺ - بين أظهرهم. فأعلَمَ الله إنَّه لم يكن ليُعَذِبَهمْ وَرَسُوله بين أظهرهم.
فقال:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤)
المعنى: أي شيءٍ لهم في ترك العذاب، أي في دَفْعِه عَنهُم.
(وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ).
المعنى: وهم يَصُدُّونَ عن المسجدِ الحَرام أولياءَهُ وما كانوا أولياءَه.
(إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ).
المعنى: ما أولياؤُهُ إِلا المتقون.
فأعلم الله النبي - ﷺ - أنَّه لم يكن ليعذِبَهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بَيْن أظهُرهِم، ولا لِيُوقع ذلك العذاب بمن يؤُول أمْرُه إِلى الِإسلامِ مِنْهُمْ، وأعلمه إنَّه لا يدفع العذاب عن جملتهم الذي أوقعه بِهِمْ، ثم أعلم أنهم ما كانوا مع صَدِّهِمْ أولياءَ الْمسجدِ الحرام وَأولياءَ اللَّه، إِنهم إِنما كانَ تَقَربُهُمْ إِلى الله جلَّ وعزَّ بالصفير والتصفيق فقال جلَّ وعزَّ: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
فالمكَاءُ الصفير، والتصدِيَةُ التصفيق.
* * *
وقوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧)
أي ليميز ما أَنفقه المؤْمنون في طاعة الله مما أَنفقه المشركون في
معصية اللَّه، (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا).
ركماً، والرُّكام الاسم.
(فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ).
أي يجعل بعض ما أنفقه المشركون على بعض، ويجْعَلُ عليهم في
النارِ، فيكون مما يُعذبُونَ بِه، كما قال جلَّ وعزَّ: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ).
* * *
وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)
أَي حَتى لا يُفْتَنَ الناسُ فتنة كُفْر.
ويدلُّ على معنى فتنة كفر قوله عز وجلَّ: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
* * *
وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
المعنى: فإِن أقاموا على كفرهم وعَدَاوتهم فاعْلَمُوا أن الله مولاكم، أي
هو المولى لكم، فلا تضركُم مُعَادَاتهم.
* * *
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
كثر اختلاف الناس في تأْوِيل هذه الآية والعمل بها وجُمْلَتُها أنَّها مال من
الأمْوَالِ التي فَرَضَ الله جل ثناؤُه فيها الفُروضَ، والأموال التي جرى فيها ذكَر الفُروض للفقراءِ والمسَاكينِ وَمَنْ أَشْبهم ثلاثة أصنافٍ.
سمى الله كل صنف منها، فسمى ما كان من الأموال التي يأخدْها المسلمون من المشركين في حال الحرب أَنْفَالَاَ وغَنَائِمَ، وسمى ما صار إِلى المسلمين مما لم يُؤخَذ في الحرب من الخراج والجزية فيئاً، وسَمَى ما خرج أَموال المسلمين
ونحن نبين في هذه الآية ما قاله جمهوو الفقهاء وما توجبه اللغة إِن شاءَ
اللَّه.
قال أبو إسحاق: اجمعت الفقهاء أن أربَعةَ أخماس الغنيمة لأهل الحرب
خاصة، والخمس الذي سُمِّي في قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) إِلى آخر الآية في الاختلاف.
فأما الشافعي فذكر أن هَذَا الخُمس مقسوم على ما سمَّى اللَّه جلَّ وعزَّ
من أهل قسمته وجعل قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتاحُ كلامٍ.
قال أبو إِسحاق، وأحسب معنى " افتتاح كلام " عنده " هذا أن الأشياءَ
كلها لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، فابتدأ وافتتح الكلام.
فإنَ قال قائل: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) كما قال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، ثم قَسّم هذا الخمس على خمْسَةِ أَنْصِبَاءَ، خمسٍ للنبي - ﷺ - وخمس ليتامى المسلمين لا ليتامى آل النبي - ﷺ - وخمس في المساكين - مَساكين المسْلمين لا مساكين النبي - ﷺ - وخمس لابن السمبيل.
ولا يرى الشَافعي أن يَتْركَ صنفاً من هذه الأصناف بغيرِ حظ في القسمة.
قال أبو إسحاق: وبلغني أنه يرى أن يُفضَّلَ بعضهُم على بعض على
قدر الحاجة، ويرى في سهم الرسولِ - ﷺ - أن يصرف إلى ما كان النبي - ﷺ - يصرفه فيه.
والذي رُوِيَ أنَّه كان يصرف الخمس في عُدَدٍ للمسلمين نحو اتخاذ
الكتاب.
فأما أبو حنيفة - ومن قال: بقوله - فيقسم هذا الخمس على ثلاثة
أصناف، يسقط ما للرسول من القسمة، وما لذوي القُرْبَى، وحجته في هذا أن أبا بكر وعمرَ لم يعطيا سَهْمَ ذوي القربى، وأن سهم النبي - ﷺ - ذهب بوفاته، لأن الأنبياء لا تورثُ. فيُقَسَّم على اليتامى والمساكين وابن السبيل على قدر حاجة كل فريق منهم ويعطي بعضاً دون بعض منهم خاصةً، إِلَّا إنَّه لا يخرج القَسْم عن هُؤلاءِ الثلاثة.
وأما مذهب مَالِك فيُرْوَى أن قوله في هذا الخمس، وفي الفيءِ أنه إنما
ذكر هُؤلاءِ المُسَمَّوْنَ لأنهم من أهم مَنْ يدفع إليهم، فهو يجِيزُ أن يَقْسِمَ بينهم، ويجيز أن يُعْطِيَ بعضاً دون بعض، ويجوز أن يُخْرِجَهُمْ مِن القسم إِن كان أمرُ غيرهم أهمَّ من أمرهم، فيفعل هذا على قدر الحاجة.
وحجته في هذا أن أمرَ الصدَقاتِ لم يزل يجري في الاستعمال على ما
يراه الناس.
وقال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فلو أن رَجُلاً وجبت عليه خمسة دراهم لأخرجها إِلى صنف
من هذه أو إِلى ما شاءَ من هذه الأصناف، ولو كان دْكر التسْمِية يوجب الحق للجماعة لما جاز أن يُخَصَّ وَاحد دون غيره، ولا أن يُنْقَصَ واحد مما يُعَطى غَيْرُه
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ).
فذكر جملة الملائكة، فقد دخل جبريل وميكال في الجملة وذكِرَا بأسمائهم
لخصوصِهِمَا، وكذلك ذكر هؤلاءِ في القسمة والفيءِ والصدقة، لأنهم من أهم مَنْ يصرف إليه الأموال من البر والصدقة.
قال أبو إسحاق: ومن الحجةِ لمالك أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ:
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).
فللرجل أن ينفق في البر على هذه الأصناف وعلى صنف
منها، وله أن يخرج عن هذه الأصناف، لا اختلاف بين الناس في ذلك.
قال أبو إسحاق: هذا جهلة ما علمناه من أقوال الفقهاءِ في هذه الآية.
وقوله عزْ وجلَّ: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا).
يجوز أن يكون " إنْ كنْتمْ " مُعَلقَةً بقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)... إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)
فأيقِنوا أن اللَّه نَصَرَكم إِذ كنتم قد شاهدتم مِنْ نَصْره ما
شاهدتم.
ويجوز أنْ يَكُونَ (إِنْ كُنتمْ آمَنتُمْ بِاللَّه) معناها: اعلموا أن مَا غَنِمْتمْ من
شيءٍ فأن للَّه خمسه وللرسول يأمران فيه بما يريدان إنْ كنتم آمَنْتمْ باللَّه فأقبلوا ما أمِرْتم به في الغنيمة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ).
هو يوم بدر، لأن الله عزَّ وجلَّ أظهر فيه مِنْ نَصْرِهِ بإرداف الملائكة
ذلك فقال عزَّ وجلَّ: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)
أي الدنيا منكم، والعدوة شفير الوادي، يقال: عِدْوة، وعُدْوَة
وعدى الوادي مقصور، فالمعنى إِذ أنتم بالعدْوَةِ الدُّنْيَا، أي بشفير الوادى
الذي يلي المدينة.
(وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقصْوَى).
بشفير الوادي الذي يلي مكَةَ.
(وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ).
الركْبُ: العير التي كان فيها أبو سفيان على شاطئ البحر.
فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن نَصْرَ المؤمنين وهم في هذا الموضع فرقان.
قال أبو إِسحاق: قد بيَّنَّا أنه كان رَمْلًا تسوخ فيه الأرْخل، ولم يكونوا على
ماءٍ، وكان المشرِكونَ نَازِلينَ على موْضِع فيه الماءُ، وهم مع ذلك يُحامونَ عن العِيرِ، فهو أشدُّ لِشوْكَتِهِمْ، فجعل اللَّه جلَّ وعزَّ النصرَ في هذه الحال، مع قلة عَدَدِ المسلمين وكَثْرَة عَدَد المشركين وشِدةِ شَوكَتِهِم، فرقَاناً.
ويجوز فىٍ قوله: (وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ) وجهان:
الوجه أن تنصب (أسْفَلَ)، وعلَيه القراءَة.
ويجَوز أن ترفع (أسْفَلُ) على أنك تريد والركبُ أسْفَلُ
منكم أي أشَد تَسَفُلاً.
ومن نصب أرادَ والركب مكاناً (أسْفَلَ) منكم.
جعل اللَّه عزَّ وجل القاصِدَ للحق بمنزلة الحيِّ، وجعل الضَالَّ بمنزلة
الهَالِك، ويجوز حَيِي بياءَين، وحَيَّ بياءٍ مشددَة مدْغَمة، وقد قرئ بهما
جميعاً. فأمَّا الخليل وسيبويه فيجيزان الِإدغام والِإظهار إِذا كانت الحركة في
الثاني لَازِمةً، فأمَّا من أدغَم فلاجتماع حرفين من جنس واحد.
وأمَّا من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل عن لفظ الياءِ، تقول حَييَ يَحْيَا، والمحيا والممات.
فعلى هذا يجوز ُ الِإظهارُ. فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: (هُوَ يحْيي وُيميتُ)
وقوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠).
فلا يجوز فيه عند جميع البصريين إلا يُحْيي بياءيْنِ ظاهرَتَيْنِ
وأجاز بعضهم. يُحيّ بياءَ واحدة مشددة مُدْغَمة.
وذكر أن بعضهم أنشد:
وكأنها بين النساءِ سبيكة... تمشي بسدة بَيْتِهَا فَتَعي
ولو كان هذا المنشد المستشهد أعلمنا من هذا الشاعر، ومن أي القبائل
هو وهل هو مِمَن يْؤخذ بشعره أم لا مَا كان يضره ذلك.
وليس ينبغي أن يُحْمل كتاب الله على " أنشدني بعضُهُمْ " ولا على بيْت شَاذ لو عرف قائله وكان مِمنْ يْؤخذ بقوله لم يجز.
وهذا عندنا لا يجوز في كلامٍ ولا شِعْرٍ، لأن الحرفَ الثانِيَ إِذَا كانَ
كان من المعتل.
* * *
وقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
رويت عن الحسن أن معناها في عينك التي تنام بها.
وكثير من أصحابِ النحو يذهبون إِلى هذا المَذْهَب.
ومعناه عندهم: إِذ يريكهم الله في موضع منامك أي بِعَيْنك ثم حذف الموضِعُ، وأقام المقام مكانه، وهذا مَذْهَبٌ حسن.
ولكنه قد جاءَ في التفسير أن النبي - ﷺ - رآهم في النوم قَلِيلًا، وقص الرؤْيا على - أصحابه فقالوا: صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ يا رسول اللَّه، وهذا المذهب أسوغ في العربية، لأنَّه قَد جاءَ:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)
فدَل بهذا أن هذا رؤْية الالتقاءِ، وأن تلك رؤْيةُ النوم.
ويجوز على هذا المذهب الأول أن يكون الخطاب الأول للنبي - ﷺ - وأن الخطاب الثاني لجميع من شاهدَ الحربَ وللنبي - ﷺ -.
وقوله: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ).
أي لتأخرتم عن حربهمْ وكِعْتُمْ وَجَبُنْتُمْ، يقال فشِلَ فشَلاً إِذَا جَبنَ
وهابَ أن يَتَقدم.
* * *
وقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥)
عنى أن هؤلاءِ لا يُؤمنون أبداً، كما قال لنُوح: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
* * *
وقوله: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تَثْقَفَنَّهُمْ) معناه تصادفَنهُمْ وَتَلْقينَّهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)
أي نقضاً للعهد.
(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ).
أي انبذ عهدهم الذي عاهَدْتهم عليه أي ارم به.
على سواءَ، أَي لِتكُونَ وَهُمْ سَواءً في العداوة.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
أي الذين يخونون في عهدهم وغيره.
* * *
وقوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم).
معناه عادةُ هُؤلاءِ في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم، فجوزي هُؤلاءِ
بالقتل والسَّبىِ كما جوزيَ آل فرعونَ بالإِغراق والإِهْلَاكِ، كذا قال بعض أهل اللغة، فِي الدأَب أَنه العادة.
وقال أَبو إِسحاق: وحقيقة الداب إِدَامَة العَمَل، تقول: فلان يداب في
كذا وكذا أَىِ يداوم عليه ويواظب، وُيتْعِبُ نفسه فيه.
وهذا التفسير معنى العادة إِلا أن هذا أَبيَنُ وأَكشفُ.
* * *
وقوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨)
موضع " إِذْ " نصبٌ، المعنى: اذكر إِذ زيَنَ لهم الشيطان أَعمالهم.
(وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ).
تمثل لهم إِبليس في صورة رَجُل يقالُ له سُراقة بنُ مالك بنُ جُعْثُم من
كنانة، وقال لهم: لَنْ يَغْلِبكم أَحَدٌ، وَأَنَا جَارٌ لكم من بني كنانة.
(فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ).
السّماءِ فنكص على عقبيه.
(وَقَالَ إِنَّي بَرِيءٌ مِنْكمْ).
وذلك أَنه عُنِّفَ لهَرَبِه، فقال:
(إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ومعنى نكص رجع بِخِزْيٍ.
فإِن قال قائل: كيف يقول إِبليس: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) وهو كافِر؟
فالجواب في ذلك أنَّه ظن الوقت الذي أُنْظِرَ إِليْه قَدْ حَضر.
* * *
وقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)
معناها: لَا يَحْسَبَنَّ من أفلت من هذه الحرب قَدْ سَبَق إِلى الحياة.
والقراءَة الجيدةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ) بالتاءِ على مخاطبة النبي - ﷺ - وتكون " تَحْسَبَنَّ " عاملة في الذين، ويكون (سبقوا) الخبر.
ويجوز فتح السين وكسرها، وقد قرأ بعض القراءِ، ولا يحسَبَنَ الذين
كفروا، بالياء وَوَجهها ضعيف عند أهل العربية إِلا أنَّها جائزة على أن يكون
المعنى، ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، لأنها في حرف ابن مسعود إنهم
سبقوا، فإِذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك: حسبت أن أقوم وحسبت أقومُ على حذف (أن) وتكون أقوم وقام تنوب عن الاسم والخبر
كما أنك إِذا قلت: ظننت لَزَيْد خَيْر مِنْكَ.
فقد نابت الجملةُ عن اسم الظَنِّ وخَبرِه وفيها وجه آخر:
ولا يحسبَنَ قبيلُ المُؤْمِنينَ الَّذِينَ كَفَروا سَبَقُوا.
و" لا يَحْسبُنَّ الذين كفروا ".
أي لا يحسب المؤمنون الذين كفروا سبقوا.
ولكن القراءَة سنة، لا يُقْرأ إِلا بما قرأت به القراءُ.
ويجوز إِنهم بكسر إِنَّ، ويجوز أنَّهم.
فيكون المعنى: ولا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كفروا أَنهم يعجزون.
ويكون (أن) بَدَلًا مِن (سَبقُوا).
قال أبو إسحاق: هذا الوجه ضعيف، لأن " لا " لا تكون لَغْواً في موضع
يجوز أن تقع فيه غير لغوٍ.
وقوله: (يُعْجِزُونَ) فتحُ النون الاختيارُ، ويجوز كسرها على أن يكون
المعنى أنهم لا يَعجزُونَنِي، بحذف النون الأولى لاجتماع النونين.
قال الشاعر:
رأته كالنعام يُعَلُّ مِسْكاً... يسوءُ الغاليات إِذا فَلَينِي
يريد فلينني.
* * *
وقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)
(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).
(وَآخَرِينَ) عطف على قوله (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
أي وترهبون آخرين منْ دُونهِمْ.
* * *
وقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
السَّلْمُ: الصلح والمسالمة، يقال: سِلْمٌ وسَلَمٌ وسَلَم في معنى واحِد.
أي إِن مالُوا إِلى الصلح فَمِلْ إِلَيْه.
* * *
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)
أي إِن أرَادُوا بإِظهارِ الصلْح خَدِيعَتك، (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ).
(وَمَنِ اتبَعَكَ مِنَ الْمؤمِنِينَ).
موضع " مَنْ " نصبٌ ورَفْعٌ، أما مَنْ نَصب فعلى تأْويل الكاف، المعنى
فإِن اللَّه يكفيك ويكفي من اتبَعَكَ من المؤْمنين، ومن رفع فعلى العطف على
اللَّه والمعنى: فإن حسبك اللَّهَ وتُبَّاعُك مِن المؤْمنينَ.
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى (أَيَّدَكَ) قَوَاكَ.
(وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
أي جمعهم على المودة على الِإيمان.
وقوله: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).
(جَمِيعًا) منصوب على الحال.
(مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
أعلم الله جلَّ وعزَّ أن تأليف قلوب المؤمنين من الآيات العظام وذلك أن
النبي - ﷺ - بُعِث إِلى قوم أنَفتهم شديدةٌ، ونصرة بعضهم بعضاً ومعاوَنَتُه أبلغ نصرةٍ وَمعَاوَنَةٍ، كان يُلْطَم من القبيلة لطمةً فيقاتل عنه حَتَى يُدْرَكَ ثَأرهُ، فألَّف الايمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذا ما تَوَلَّاة منهم إِلا هو.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥)
تأويله حُثَّهم على القتال.
وتأويل التحريض في اللغة أن يحث الِإنسان على الشَيء حثًّا يعلم معه
أنه حَارضٌ إِن تخلف عنه، والحارض الذي قدْ قَارَبَ الهلاكَ، وقَوله تعالى:
الهالكين.
* * *
وقوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ).
لا يجوز إِلا كسر العين. وزعم أهل اللغة أن أول عشرين كسِرَ كما كُسِرَ
أولُ اثنين، لأن عِشْرين من عَشْرةٍ مثل اثنين من واحِدٍ.
ودليلهم على ذلك فتحهم ثلاثِين كفتح ثلاثةٍ.
وكسرة تِسعين ككسرة تسعة.
* * *
وقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
(وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا).
قرئَت على ثلاثةِ أوْجُهٍ: قُرئت ضَعْفاً بفتح الضادِ، وضُعْفاً بضم الضادِ
والمعنى واحِدٌ، يقال هوِ الضعفُ والضُّعْف، والمَكْثُ والمُكْثُ، والفَقْرُ
والفُقْر، وباب فَعْلٍ وفعْل بمعنَى واحِدٍ في اللغة كثير.
وقرأ بعض الشيخة: وعلم أن فيكم ضُعَفَاءَ على فُعَلَاءَ، على جمع
ضعيف وضعَفاءَ ولم يَصْرفْ ولم يُنَوَّنْ لأن فعلاءَ في آخرها ألف التأنيث.
(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ).
وقُرئت " فإِن تكن " بالتاءِ، فمن أنث فلأن لفظَ المائة مَؤنث، ومن ذكَّر
فلأنَّ المائة وقعت على عَدَد فذكِّر.
* * *
وقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)
ويقرأ أسُارَى، فمن قرأ أسْرَى فهو جمع أسِير وأسْرَى.
وَفعْلى جمع لكل ما أصِيبوا به في أبدانهم وعُقُولهم، يقال: هالك
وهلكى، ومريض ومَرْضَى، وأحمق وحَمْقَى، وسَكْران وسَكرى.
قال أبو إِسحاق: ولا أعلم أحداً قرأها أسارى.
وهي جائزة ولا تقرأن بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة.
(حَتَى يثْخِنَ فِي الأرْضِ).
معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه، ويجوز أن يكون حتى يتمكن في
الأرض.
والِإثخان في كل شيء قوة الشيء وشدته يقال قد أثخنته.
* * *
ومعنى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ).
أي بعضهم في المواريث أولى ببعض.
وهذه المواريث في الولاية بالهجرة منسوخة، نسخها ما في سورة النساءِ
من الفرائض.
* * *
وقوله: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
معناه تذهب صَوْلتكم وقوتكم، ويقال في الأولِ: الريحُ معَ فُلان، أي
الدَّوْلَةُ.