تفسير سورة الطارق

زاد المسير
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الطارق وهي مكية كلها بإجماعهم

سورة الطّارق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي:
يطلع ليلاً، وكل من أتاك ليلاً، فقد طرقك، ومنه قول هند ابنة عتبة:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوّه.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قال المفسّرون: وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني:
المضيء، كما بيَّنا في الصافات»
وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه زحل، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد. والثالث:
أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النّيسابوريّ.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو المتوكل «إنَّ» بالتشديد «كلَّ» بالنصب لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لَعَلَيْها حافظ و «ما» ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين: أحدهما: هذا.
والآخر: في باب القسم. تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت. قال المفسرون: المعنى: ما
(١) الصافات: ١٠.
من نفس إلا عليها حافظ. وفيه قولان: أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس. قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر. والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير، قاله الفرّاء. ثم نبّه على البعث ب قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي: من أي شيء خلقه ربّه؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته.
قوله جلّ جلاله: مِنْ ماءٍ دافِقٍ قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب. سرٌّ كاتم، وهمٌ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشة راضية. وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً. قال الزجاج: ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماءٍ ذي اندفاق.
قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وقرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد، واللام جميعاً. يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. قال الفراء:
يريد يخرج من الصلب والترائب. يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير. بمعنى: يخرج منهما.
وفي «الترائب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس. قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: التّرائب: موضع القلادة من الصّدر، وأنشدوا لامرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: السجنجل: المرآة بالرومية. وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب. ويروى البيت: «بالسجنجل». والثاني: أن الترائب:
اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ الهاء كناية عن الله عزّ وجلّ عَلى رَجْعِهِ الرجع: رد الشيء إلى أول حاله.
وفي هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها تعود على الإنسان. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة. قال الزّجّاج: ويدل على هذا القول قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضّحّاك. والقول الثاني: أنها تعود على الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد. والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك. والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ تختبر السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤدِّيها من مضيِّعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يُدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ، فكان زَيْناً في الوجه، أو شَيْناً. وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ ينصره.
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
429
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي: ذات الشقّ. وقيل لها هذا، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات، هذا قول المفسّرين وأهل اللغة في الحرفين.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني به القرآن، وهذا جواب القسم. والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي: بالَّلعِب. والمعنى: إنه جِدٌّ، ولم ينزل بالَّلعِب. وبعضهم يقول: الهاء في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة يَكِيدُونَ كَيْداً أي: يحتالون وهذا الاحتيال في المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة. وَأَكِيدُ كَيْداً أي: أُجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ هذا وعيد من الله عزّ وجلّ لهم. ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا. ومعنى الآية: مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك بِبَدْر، ونسخ الإمهال بآية السيف. قال ابن قتيبة: ومعنى «رويداً» مهلاً، ورويدَك. بمعنى أمهل.
قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي: قليلاً، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً».
ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر.
قال الشاعر:
كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ
أي: على مهل.
430
Icon