ﰡ
" ثم " للترتيب " الإخباري " لا " الوجودي " إذ التوبة سابقة على الاستغفار.
أو المعنى : استغفروا ربكم من الشرك، ﴿ ثم توبوا ﴾ [ هود : ٣ ] أي ارجعوا إليه بالطاعة.
إن قلتَ : نجد من لم يستغفر الله ولم يتب، يمتّعه الله متاعا حسنا إلى أجله، أي يرزقه ويوسّع عليه كما كما قال ابن عباس، أو يعمّره( ١ ) كما قال ابن قتيبة، فما فائدة التقييد بالاستغفار والتوبة ؟ !
قلتُ : قال غيرهما : المتاع الحسن –المقيّد بالاستغفار والتوبة- هو الحياة في الطاعة والقناعة، ولا يكونان إلا للمستغفر التّائب( ٢ ).
٢ - أقول: المتاع الحسن للتائب المستغفر، إنما هو للتفضل والإنعام دون حساب ولا عقاب، وللعاصي الفاجر إنما هو للاستدراج مع الحساب والعذاب، كما قال تعالى: ﴿أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون﴾ ؟.
لم يقل " على الأرض " مع أنه أنسب بتفسير الدابة لغةً، لأنها ما يدبّ على الأرض، لأن " في " أعمّ من " على " لأنها تتناوب من الدوابّ ما على ظهر( ١ ) الأرض، وما في بطنها.
وقيل : " في " بمعنى " على " كما في قوله تعالى ﴿ ولأصلّبنكم في جذوع النّخل ﴾ [ طه : ٧١ ] وقوله ﴿ أم لهم سلّم يستمعون فيه ﴾ [ الطور : ٣٨ ] وظاهر أنّ تفسير الدابة بما يدبّ على الأرض، يتناول الطير، فلا يَرِد أنّ الآية، لا تتناول الطير في ضمان رزقه.
فإن قلتَ : " على " للوجوب، والله تعالى لا يجب عليه شيء ؟
قلتُ : المراد بالوجوب هنا " وجوب اختيار " ولا " وجوب إلزام " كقوله صلى الله عليه وسلم :( غسل يوم الجمعة واجب على كلّ محتلم ) ( ٢ ) وكقول الإنسان لصاحبه : حقّك واجب عليّ.
أو " على " بمعنى " مِنْ " كما في قوله تعالى :﴿ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ﴾ [ المطففين : ٢ ].
٢ - الحديث أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى "محتلم" أي مكلّف بالغ، ولا يراد به الجُنُب..
وزاد " من " ثَكّ، لأنه لما حدّ الرحمة وجهتها، حدّ الظرف( ١ ) بعدها لتتشاكلا في التحديد، وهنا لما أهمل الأول، أهمل الثاني ليتشاكلا.
إنما قال " ضائق " ولم يقل : ضيّق، لموافقة قوله قبله : " تارك "، وليدلّ على أنه ضِيق عارض لا ثابت، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أوسع الناس صدرا.
ونظيره قولك : زيد سائد وجائد، تريد حَدَثَ فيه السيادة والجود، فإن أردت وصفه بثبوتهما، قلتَ : زيد سيّد وجواد.
أي مثله في الفصاحة والبلاغة، وإلا فما يأتون به مفترى، والقرآن ليس بمفترى.
أو معناه : عشر سور مفتريات، كما أن القرآن –في زعمكم- مفترى ! !
فإن قلتَ : كيف أفرد في قوله " قل " ثم جمع في قوله :﴿ فإن لم يستجيبوا لكم ﴾ ؟ ( ١ ) [ هود : ١٤ ].
قلتُ : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيهما، لكنه جمع في " لكم " تعظيما، وتفخيما له صلى الله عليه وسلم، ويعضُده قوله في سورة القصص :﴿ فإن لم يستجيبوا لك ﴾ [ القصص : ٥٠ ].
أو الخطاب في الثاني للمشركين، وفي " يستجيبوا " ل " من استطعتم " والمعنى : فأتوا أيها المشركون بعشر سور مثله، إلى آخره، فإن لم يستجب لكم من تدعونه، إلى المظاهرة على معارضته لعجزهم «فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله » وبالنظر إلى هذا الجواب، جُمع الضمير في ﴿ فإن لم يستجيبوا لكم ﴾ هنا، وأفرد في القصص.
فإن قلتَ : قال في سورة يونس ﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ وقد عجزوا عنه، فكيف قال هنا :﴿ فأتوا بعشر سور مثله ﴾ ؟ !
قلتُ : قيل : نزلت سورة هود أولا، لكن أنكره المبرد وقال : بل سورة يونس أولا، قال : ومعنى قوله في سورة يونس ﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ [ يونس : ٣٨ ] أي في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن ذلك، فأتوا بعشر سور مثله في البلاغة، لا في غيره مما ذكر، وما قاله هو المتّجه.
وهذا وتحرير الأول، مع زيادة أن يقال : إن الإعجاز وقع أولا بالتحدّي بكل القرآن في آية ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] فلما عجزوا تحدّاهم –بعشر سور، فلما عجزوا تحدّاهم بسورة، فلما عجزوا تحدّاهم( ٢ ) – بدونها بقوله :﴿ فليأتوا بحديث مثله ﴾ [ الطور : ٣٤ ].
٢ - ما بين المعترضتين سقط من النسخة المحمودية..
وما هناك نزل في قوم صدّوا عن سبيل الله، فناسب في الأول " الأخسرون " وفي الثانية " الخاسرون ".
قال هنا بتقديم " رحمة " ( ١ ) على الجار والمجرور، وعكس بعد في قوله ﴿ وآتاني منه رحمة ﴾ وفي قوله ﴿ ورزقني منه رزقا حسنا ﴾( ٢ ) [ هود : ٨٨ ] ليوافق كلّ منهما ما قبله، إذ الأفعال المتقدمة هنا وهي : " ترى، ونرى، ونظن " لم يفصل بينها وبين مفاعليها جار ومجرور، والفعل المتقدم بعد، وهو " كان " في الثاني و " نَفْعَلُ " في الثالث، فصل بينه وبين مفعوله جار ومجرور، إذ خبر " كان " كالمفعول.
فإن قلتَ : لم قال في الأولين " وآتاني " وفي الثالث " ورزقني " ؟ !
قلتُ : لأن الثالث تقدَّمه ذكر الأموال، وتأخّر عنه قوله " رزقا حسنا " وهما خاصّان، فناسبهما قوله " ورزقني " بخلاف الأولين فإنه تقدّمهما أمور عامة، فناسبها قوله( ٣ ) " وآتاني ".
٢ - أشار إلى قوله تعالى في قصة شعيب: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه﴾ آية (٨٨)..
٣ - ما بين القوسين سقط من نسخة الجامعة، وهو مثبت في النسخة المحمودية والمصوّرة..
إن قلتَ : لم قال هنا حكاية عن نوح بلفظ " مالا " وقاله بعد حكاية عن هود بلفظ " أجرا " ( ١ ) ؟ !
قلتُ : توسعة في التعبير عن المراد بمتساويين، ولأن قصة نوح وقع بعدها " خزائن " والمال بها أنسب.
فإن قلتَ : لم قال في الأولى " ويا قوم " بالواو، وفي الثانية " يا قوم " بدونها ؟
قلتُ : لطول الكلام، الواقع بين الندائين في قصة نوح، وقصر ما بينهما في قصة هود، فناسب ذكر الواو في الأول، لتوصيل ما بعدها بما قبلها.
أو متصل لأن معنى من رحم الراحم –وهو الله- فكأنه قيل : لا عاصم إلا الله.
أو لأن عاصما بمعنى معصوم، ك ﴿ ماء دافق ﴾( ١ ) [ الطارق : ٦ ]، و﴿ عيشة راضية ﴾ [ الحاقة : ٢١ ].
إن قلتَ : هما لا يعقلان فكيف أُمِرا ؟
قلتُ : الأمر هنا أمر " إيجاد " لا أمر " إيجاب "، فلا يُشترط فيه فهم ولا عقل، لأن الأشياء كلّها منقادة لله تعالى، ومنه قوله تعالى :﴿ إنم قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ [ النحل : ٤٠ ] وقوله :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ].
إن قلتَ : هود كان رسولا، فكيف لم يظهر معجزة ؟ !
قلتُ : قد أظهرها وهي " الريح الصّرصر " ولا يُقبل قول الكفار في حقه.
قال بعضهم : أو إن الرسول إنما يحتاج إلى معجزة، إذا كان صاحب شريعة، لتنقاد أمته إليها، إذ في كل شريعة أحكام غير معقولة( ١ )، فيحتاج الرسول الآتي بها إلى معجزة، تشهد بصحة صدقه، وهود لم يكن له شريعة، وإنما كان يأمر بالعقل، فلا يحتاج إلى معجزة، لأن الناس ينقادون إلى ما يأمرهم به، لموافقته للعقل.
والمعتمد الجواب الأول، ولا يلزم من عدم إظهاره معجزة، عدمُها في نفس الأمر، فقد قال صلى الله عليه وسلم :( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات، ما مثله آمن عليه البشر... ) ( ٢ ).
وقولهم :﴿ ماجئتنا ببيّنة ﴾ كقوله غيرهم ﴿ إن هو إلا رجل به جِنّة ﴾ [ المؤمنون : ٢٥ ]، ﴿ إن هذا لساحر عليم ﴾ [ الأعراف : ١٠٩ ].
٢ - أخرجه البخاري ومسلم، وهذا دليل على أن كل نبيّ، قد أيّده الله ببعض المعجزات، لكن لم يخبرنا عنها..
قاله في قصة " هود " و " شعيب " بالواو( ١ )، وفي قصة " صالح " و " لوط " بالفاء( ٢ )، لأن العذاب في قصة الأوّليْن تأخّر عن وقت الوعيد، فناسب الإتيان بالواو، وفي قصة الأخيرين وقع العذاب عقب الوعيد، فناسب الإتيان بالفاء، الدّالة على التعقيب.
قوله تعالى :﴿ ولما جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجّيناهم من عذاب غليظ ﴾ [ هود : ٥٨ ]. كرّر التنحية، لأن المراد بالأولى : تنحيتُهم من عذاب الدنيا، الذي نزل بقوم هود، وهي " سموم " أرسلها الله عليهم، فقطّعتهم عضوا عضوا.
وبالثانية : تنحيتهم من عذاب الآخرة( ٣ )، الذي استحقّه قوم هود بالكفر.
٢ - قال تعالى في قصة صالح: ﴿فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا.. ﴾ هود: ٦٦ وقال في قصة لوط: ﴿فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها... ﴾ هود: ٨٢..
٣ - ما قاله الشيخ فيه نظر، فإن الراجح أن المراد بالعذاب الغليظ، هي "الريح المدمّرة" التي كانت تخرّب المنازل والمساكن، كما قال تعالى: ﴿ما تدر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرّميم﴾ فهي تأكيد للعذاب السابق، الذي حلّ بعاد قوم هود، وليس عذاب الآخرة..
٢ - في الأعراف: ﴿فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ آية (٧٨)..
٣ - وفي العنكبوت: ﴿فكذّبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ آية (٣٧)..
٤ - وفي الشعراء: ﴿فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم﴾ آية (١٨٩)..
قوله تعالى :﴿ فمنهم شقيّ وسعيد ﴾ [ هود : ١٠٥ ].
إن قلتَ : " مِنْ " للتبعيض، ومعلوم أن الناس كلهم، إما شقيّ أو سعيد، فما معنى التبعيض ؟ !
قلتُ : التبعيض صحيح لأن أهل القيامة ثلاثة أقسام :
أ- قسم شقيّ، وهم أهل النار.
ب- وقسم سعيد، وهم أهل الجنة.
ج- وقسم لا شقي ولا سعيد، وهم أهل الأعراف، وإن كان مصيرُهم إلى الجنة، كما قاله قتادة وغيره.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن السموات والأرض يفنيان، وذلك ينافي الخلود الدائم ؟ !
قلتُ : هذا خرج مخرج الألفاظ، التي يعبّر العرب فيها عن إرادة الدّوام، دون التأقيت، كقولهم : لا أفعل هذا ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السموات والأرض، يريد لا يفعله أبدا.
أو أنهم خوطبوا على معتقدهم أن السموات والأرض لا يفنيان.
أو أن المراد سموات الآخرة وأرضها، قال تعالى :﴿ يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ] وتلك دائمة لا تفنى.
إن قلتَ : إذا كان المراد بما ذُكر الخلود الدائم، فما معنى الاستثناء في قوله :﴿ إلا ما شاء ربّك ﴾ ؟ [ هود : ١٠٧ ].
قلتُ : هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النار( ١ )، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، لأن أهل النار لا يخلّدون في عذابها وحده، بل يعذبون بالزمهرير، وبأنواع أُخر من العذاب، وبما هو أشدّ من ذلك، وهو سخط الله عليهم.
وأهل الجنة لا يخلّدون في نعيمها وحده، بل ينعَّمون بالرضوان، والنظر إلى وجهه الكريم، وغير ذلك، كما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾( ٢ ) [ هود : ١٠٨[.
أو " إلا " بمعنى غير، أي خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، غير ما شاء الله من الزيادة عليهما، إلى ما لا نهاية له.
أو " إلا " بمعنى الواو( ٣ )، كقوله تعالى :﴿ إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ﴾ [ النمل : ١٠، ١١ ].
٢ - أي غير مقطوع بل هو دائم مستمرّ..
٣ - الظاهر –والله أعلم- أنّ "إلا" في قوله: ﴿إلا من ظلم﴾ بمعنى: "لكنْ" أي: لكن من ظلم من سائر الناس، ثم تاب فإن الله يتوب عليه، وعلى ما ذهب إليه الشيخ يكون المعنى: لا يخاف لديّ المرسلون ولا من ظلم من سائر الخلق..
وقاله في القصص( ١ )، بدون ذكر " بظلم "، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، المفيد للحال فقط، وإن كان يُستعمل في الماضي، والمستقبل مجازا.
إن قلتَ : ما الجمع بينه وبين قوله تعالى :﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ ؟ [ النساء : ١٦٤ ].
قلتُ : معناه كل نبأ نقصّه عليك من أنباء الرسل، هو ما نثبت به فؤادك، ف " ما " في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، فلا يقتضي اللفظ قصّ أنباء جميع الرسل.
قوله تعالى :﴿ وجاءك في هذه الحقّ... ﴾ [ هود : ١٢٠ ].
أي في هذه الأنباء، أو الآيات، أو السورة.
خصّها بالذكر، تشريفا لها، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور، كقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى... ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ].
والتعريف ب ﴿ في هذه الحق ﴾ إما للجنس، أو للعهد، والمراد به : البراهين الدالة على التوحيد، والعدل، والنبوّة.