تفسير سورة هود

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة هود من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

سُورَةُ هُودٍ
مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ: ١٢ وَ ١٧ وَ ١١٤ فَمَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا ١٢٣ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يونس
[سورة هود (١١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ الر اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ كِتابٌ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الر مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ خَبَرٌ، لِأَنَّ الر لَيْسَ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَحْدَهُ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبْتَدَأً أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ مَحْصُورًا فِيهِ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ لِلزَّجَّاجِ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ إِنَّ الزَّجَّاجَ اخْتَارَ قَوْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر هَذَا كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَقَعُ قَوْلُهُ: الر كَلَامًا بَاطِلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا كِتَابٌ، فَقَوْلُهُ: «هَذَا» يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: الر فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ الر مُخْبَرًا عَنْهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، فَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ نُظِمَتْ نَظْمًا رَصِيفًا مُحْكَمًا لَا يَقَعُ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا خَلَلٌ، كَالْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُرَصَّفِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْكَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْفَسَادِ مِنَ الشَّيْءِ فَقَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ أَيْ لَمْ تُنْسَخْ بِكِتَابٍ كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كُلُّ الْكِتَابِ مُحْكَمًا، لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ آيَاتٌ مَنْسُوخَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ كَذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ إِجْرَاءً لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْغَالِبِ مُجْرَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْكُلِّ.
الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أُحْكِمَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا بِالْهَمْزَةِ مِنْ حَكُمَ بِضَمِّ الْكَافِ إِذَا صَارَ حَكِيمًا، أَيْ جُعِلَتْ حَكِيمَةً، كَقَوْلِهِ: آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُسَ: ١] الرَّابِعُ: جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةً فِي أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا الْكِتَابِ هِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْعَدْلُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالْمَعَادُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ، فَهِيَ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهِ غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ، وَالتَّنَاقُضُ ضِدُّ الْإِحْكَامِ فَإِذَا خَلَتْ آيَاتُهُ عن التناقض
312
فَقَدْ حَصَلَ الْإِحْكَامُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْآيَاتِ بَلَغَتْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ وَالْإِحْكَامِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ إِمَّا نَظَرِيَّةٌ وَإِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَمَّا النَّظَرِيَّةُ فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِلَهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهَذَا الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرَائِفِ هَذِهِ الْعُلُومِ وَلَطَائِفِهَا، وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ تَهْذِيبِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ الْفِقْهُ، أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علمي التَّصْفِيَةِ وَرِيَاضَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَجِدُ كِتَابًا فِي الْعَالَمِ يُسَاوِي هَذَا الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ الرُّوحَانِيَّةِ وَأَعْلَى الْمَبَاحِثِ الْإِلَهِيَّةِ، فَكَانَ كِتَابًا مُحْكَمًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْهَدْمِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: فُصِّلَتْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ فُصِّلَ كَمَا تُفَصَّلُ الدَّلَائِلُ بِالْفَوَائِدِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهِيَ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا جُعِلَتْ فُصُولًا سُورَةً سُورَةً، وَآيَةً آيَةً. الثَّالِثُ: فُصِّلَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا فُرِّقَتْ فِي التَّنْزِيلِ وَمَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [الْأَعْرَافِ: ١٣٣] وَالْمَعْنَى مَجِيءُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَفَرِّقَةً مُتَعَاقِبَةً. الرَّابِعُ: فَصْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ أَيْ جُعِلَتْ مُبَيِّنَةً مُلَخِّصَةً. الْخَامِسُ: جُعِلَتْ فُصُولًا حَلَالًا وَحَرَامًا، وَأَمْثَالًا وَتَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا وَمَوَاعِظَ، وَأَمْرًا وَنَهْيًا لِكُلِّ مَعْنًى فِيهَا فَصْلٌ، قَدْ أُفْرِدَ بِهِ غَيْرَ مُخْتَلِطٍ بِغَيْرِهِ حَتَّى تُسْتَكْمَلَ فَوَائِدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، / وَيَحْصُلَ الْوُقُوفُ عَلَى كُلِّ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ فُصِّلَتْ لَيْسَ لِلتَّرَاخِي فِي الْوَقْتِ، لَكِنْ فِي الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ أَحْسَنَ الْإِحْكَامِ، ثُمَّ مُفَصَّلَةٌ أَحْسَنَ التَّفْصِيلِ، وَكَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَرِيمُ الْأَصْلِ ثُمَّ كَرِيمُ الْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ أَيْ أَحْكَمْتُهَا أَنَا ثُمَّ فَصَّلْتُهَا، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ثُمَّ فُصِّلَتْ أَيْ فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُحْكَمُ: هُوَ الَّذِي أَتْقَنَهُ فَاعِلُهُ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُحْدِثُ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْكَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُحْكَمٍ ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّه مُحْكَمًا، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي فِي بَعْضِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مُحْكَمًا أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ بَعْضُهُ قَدِيمٌ وَبَعْضُهُ مُحْدَثٌ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:
ثُمَّ فُصِّلَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ انْفِصَالٌ وَافْتِرَاقٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِصَالَ وَالِافْتِرَاقَ إِنَّمَا حَصَلَ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، وَتَكْوِينِ مُكَوِّنٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وَالْمُرَادُ مِنْ عِنْدِهِ، وَالْقَدِيمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ مِنْ عِنْدِ قَدِيمٍ آخَرَ، لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا قَدِيمَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ عَائِدَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ أَمْرٌ آخَرُ سِوَى هَذِهِ الحروف والأصوات.
313
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّا ذكرنا أن قوله: كِتابٌ خبر وأُحْكِمَتْ صِفَةٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَقَوْلَهُ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ وَالتَّقْدِيرُ:
الر كِتَابٌ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: الر مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَالثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: (أحكمت، وفصلت) أَيْ أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ آخِرِهَا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ وَفُصِّلَتْ من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢ الى ٤]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
[في قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ وَالتَّقْدِيرُ:
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ لِأَجْلِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه وَأَقُولُ هَذَا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ إِلَّا هَذَا الْحَرْفُ الْوَاحِدُ، فَكُلُّ مَنْ صَرَفَ عُمُرَهُ إِلَى سَائِرِ الْمَطَالِبِ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (أَنْ) مُفَسِّرَةً لِأَنَّ فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ لَا تَعْبُدُوا لِيَكُونَ الْأَمْرُ مَعْطُوفًا عَلَى النَّهْيِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ بِمَعْنَى لِئَلَّا تَعْبُدُوا يَمْنَعُ عَطْفَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لِيَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه وَيَقُولَ لَهُمْ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّكْلِيفِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه، وَإِذَا قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ النَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّا بَيِّنَّا أَنَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ بِتَكْوِينِ اللَّه وَإِيجَادِهِ، وَالْعِبَادَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَنِهَايَةِ التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ الْمُحْسِنِ، فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّه مُنْكَرَةٌ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه مُنْكَرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَادَةَ اللَّه مَشْرُوطَةٌ بِتَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْبُودَهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعِبَادَتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّه أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ أَوَّلًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَةِ: ٢١] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي/ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] إنما حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
314
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّنِي لَكُمْ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مِنْ جِهَتِهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه، وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذِيرٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِإِلْحَاقِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا وَبَشِيرٌ عَلَى الثَّانِي بِإِلْحَاقِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ لِمَنْ أَتَى بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بُعِثَ إِلَّا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الْإِنْذَارُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَالْبِشَارَةُ عَلَى فِعْلِ مَا ينبغي.
[في قوله تعالى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ] الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ عَلَى وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوْبَةُ، فَقَالَ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمُحَرِّضَ عَلَيْهَا هُوَ الِاسْتِغْفَارُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّه إِلَّا بِإِظْهَارِ التَّوْبَةِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُذْنِبَ مُعْرِضٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، والمعرض والمتمادي فِي التَّبَاعُدِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ لَا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُضَادُّهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مَطْلُوبَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الِاسْتِغْفَارِ، وَمَا كَانَ آخِرًا فِي الْحُصُولِ كَانَ أَوَّلًا فِي الطَّلَبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذِكْرَ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى التَّوْبَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ الْمُرَادَ: اسْتَغْفِرُوا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، ثُمَّ تُوبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الِاسْتِغْفَارُ طَلَبٌ مِنَ اللَّه لِإِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي وَالتَّوْبَةُ سَعْيٌ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَدَّمَ الِاسْتِغْفَارَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَجِبُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الشَّيْءَ إِلَّا مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي/ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ ذَكَرَ التَّوْبَةَ لِأَنَّهَا عَمَلٌ يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِسَعْيِ النَّفْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْآثَارِ النَّافِعَةِ وَالنَّتَائِجِ الْمَطْلُوبَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَطَالِبَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُصُولُهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ الدُّنْيَوِيَّةُ: فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْمُشْتَغِلَ بِهَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا مُنْتَظِمَ الْحَالِ مُرَفَّهَ الْبَالِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»
وَقَالَ أَيْضًا: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ»
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ: ٣٣] فَهَذِهِ النُّصُوصُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمُشْتَغِلِ بِالطَّاعَاتِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الشِّدَّةُ وَالْبَلِيَّةُ. وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نَصِيبَ الْمُشْتَغِلِ بِالطَّاعَاتِ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟
315
الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا اسْتَأْصَلَ أَهْلَ الْقُرَى الَّذِينَ كَفَرُوا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَصِّلُ إِلَيْهِمُ الرِّزْقَ كَيْفَ كَانَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه: ١٣٢] الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّه وَبِمَحَبَّةِ اللَّه مُشْتَغِلٌ بِحُبِّ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ وَزَوَالُهُ وَفَنَاؤُهُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِمْعَانُهُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ أَكْثَرَ وَتَوَغُّلُهُ فِيهِ أَتَمَّ كَانَ انْقِطَاعُهُ عَنِ الْخَلْقِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَكُلَّمَا كَانَ الْكَمَالُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ، كَانَ الِابْتِهَاجُ وَالسُّرُورُ أَتَمَّ، لِأَنَّهُ أَمِنَ مِنْ تَغَيُّرِ مَطْلُوبِهِ، وَأَمِنَ مِنْ زَوَالِ مَحْبُوبِهِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِحُبِّ غَيْرِ اللَّه، كَانَ أَبَدًا فِي أَلَمِ الْخَوْفِ مِنْ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ وَزَوَالِهِ، فَكَانَ عَيْشُهُ مُنَغَّصًا وَقَلْبُهُ مُضْطَرِبًا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِخِدْمَتِهِ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْلِ: ٩٧].
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَجَلَيْنِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ؟
وَالْجَوَابُ: لَا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ لَكَانَ أَجَلُهُ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَلَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا لَكَانَ أَجَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ أَمْ لَا فَإِنَّ أَجَلَهُ لَيْسَ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلًا وَاحِدًا فَقَطْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ؟
الْجَوَابُ: لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى حَقَارَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهَا مُنْقَضِيَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كَوْنِهَا حَقِيرَةً خَسِيسَةً مُنْقَضِيَةً، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ قَالَ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّعَادَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ، وَفِيهَا لَطَائِفُ وَفَوَائِدُ.
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ مَعْنَاهُ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلِ مُوجِبَ فَضْلِهِ وَمَعْلُولَهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه وَكَانَ فِي غَايَةِ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَلْبُهُ فَصًّا لِنَقْشِ الْمَلَكُوتِ وَمِرْآةً يَتَجَلَّى بِهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ، إِلَّا أَنَّ الْعَلَائِقَ الْجَسَدَانِيَّةَ الظُّلْمَانِيَّةَ تُكَدِّرُ تِلْكَ الْأَنْوَارَ الرُّوحَانِيَّةَ، فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْعَلَائِقُ أَشْرَقَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ وَتَلَأْلَأَتْ تِلْكَ الْأَضْوَاءُ وَتَوَالَتْ مُوجِبَاتُ السَّعَادَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارِ الدَّرَجَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِ الْحَقِّ وَالْإِقْبَالُ عَلَى عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ دَرَجَاتٍ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَكَذَلِكَ مَرَاتِبُ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً وَقَالَ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وَجُودِهِ. وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ وَاشْتِغَالُ عُقُولِهِمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الْفَانِيَةِ يُعْمِيهَا عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَوَغَّلُوا فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَخَاضُوا فِي بِحَارِ أَنْوَارِ الْحَقِيقَةِ عَلِمُوا أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، فَانْقَطَعَ نظرهم
316
عَمَّا سِوَاهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ وَالْمُعْطِي وَالْمَانِعُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه صار في الدنيا أعمى، مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: ٧٢] وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَطَيِّبَاتِهَا قَوِيَ حُبُّهُ لَهَا وَمَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهَا وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، فَإِذَا مَاتَ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الْحُبُّ الشَّدِيدُ وَالْمَيْلُ التَّامُّ وَصَارَ عَاجِزًا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ الْبَلَاءُ وَيَتَكَامَلُ الشَّقَاءُ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَعْلُومُ عِنْدَنَا مِنْ عَذَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَهِيَ غَائِبَةٌ عَنَّا مَا دُمْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. ثُمَّ/ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، يَعْنِي أَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَى اللَّه لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ وَلَا مُتَصَرِّفَ هُنَاكَ إِلَّا هُوَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ أَقْوَامًا اشْتَغَلُوا بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَسَائِطِ فَعَجَزُوا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَادِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا فِي دَارِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا الْحَالُ الْفَاسِدُ زَائِلٌ أَيْضًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى بَيَّنَ هَذَا الْحَصْرَ بِقَوْلِهِ:
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِنَّهُ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَرْجِعُنَا إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَوْلَهُ:
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَشِيئَتِهِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَاكِمِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ الْعُيُوبِ الْكَثِيرَةِ وَالذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ مُشْكِلٌ وَأَمَّا إِنَّهُ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ فَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةٍ غَالِبَةٍ وَجَلَالَةٍ عَظِيمَةٍ لِهَذَا الْحَاكِمِ وَعَلَى ضَعْفٍ تَامٍّ وَعَجْزٍ عَظِيمٍ لِهَذَا الْعَبْدِ، وَالْمَلِكُ الْقَاهِرُ الْعَالِي الْغَالِبُ إِذَا رَأَى عَاجِزًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُخَلِّصُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ: مَلَكْتَ فَاسْجَحْ.
يَقُولُ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ: قَدْ أَفْنَيْتُ عُمُرِي فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُطَالَعَةِ لِلْكُتُبِ وَلَا رَجَاءَ لِي فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنِّي فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْكَرِيمُ إِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَأَسْأَلُكَ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَسَاتِرَ عُيُوبِ الْمَعْيُوبِينَ وَمُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ أَنْ تُفِيضَ سِجَالَ رَحْمَتِكَ عَلَى وَلَدِي وَفِلْذَةِ كَبِدِي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم.
[سورة هود (١١) : آية ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: ٣] بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ ذَلِكَ بَاطِنًا كَالتَّوَلِّي عَنْهُ ظَاهِرًا فَقَالَ: أَلا إِنَّهُمْ يَعْنِي الْكُفَّارَ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
واعلم أنها تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يُقَالُ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ وَطَوَيْتَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِذَا أَغْلَقْنَا أَبْوَابَنَا وَأَرْسَلْنَا سُتُورَنَا، وَاسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا وَثَنَيْنَا صُدُورَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَكَيْفَ يَعْلَمُ بِنَا؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ قَوْلُهُ: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كِنَايَةً عَنِ النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يُضْمِرُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ مِنْهُ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانَ إِذَا مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّه ثَنَى صَدْرَهُ وَوَلَّى ظَهْرَهُ وَاسْتَغْشَى ثِيَابَهُ،
وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قيل: إنهم يتصرفون عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَ رَسُولِ اللَّه وَمَا يَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِيَقُولُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعْنِ. وَقَوْلُهُ: أَلا لِلتَّنْبِيهِ، فَنَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى أنهم ينصرفوا عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا ثُمَّ كَرَّرَ كَلِمَةَ أَلا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِخْفَاءِ لِيُنَبِّهَ عَلَى وَقْتِ اسْتَخْفَائِهِمْ، وَهُوَ حِينُ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا إِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهُ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّه، أَلَا إِنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي اسْتِخْفَائِهِمْ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
[سورة هود (١١) : آية ٦]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ رِزْقَ كُلِّ حَيَوَانٍ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُهِمَّاتُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّبِيبِ، وَبُنِيَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ، وَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ ذِي رُوحٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ عُرْفِ الْعَرَبِ اخْتُصَّ بِالْفَرَسِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ اللُّغَوِيُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْسَامَ الْحَيَوَانَاتِ/ وَأَنْوَاعَهَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ الْأَجْنَاسُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجِبَالِ، واللَّه يُحْصِيهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكَيْفِيَّةِ طَبَائِعِهَا وَأَعْضَائِهَا وَأَحْوَالِهَا وَأَغْذِيَتِهَا وَسُمُومِهَا وَمَسَاكِنِهَا، وَمَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا، فَالْإِلَهُ الْمُدَبِّرُ لِأَطْبَاقِ السموات وَالْأَرَضِينَ وَطَبَائِعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، كَيْفَ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا؟
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِأَحْوَالِ أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّتْ وَخَرَجَتْ صَخْرَةٌ ثَانِيَةٌ. ثُمَّ ضَرَبَ بِعَصَاهُ عَلَيْهَا فَانْشَقَّتْ وَخَرَجَتْ صَخْرَةٌ ثَالِثَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَهَا بِعَصَاهُ فَانْشَقَّتْ فَخَرَجَتْ مِنْهَا دُودَةٌ كَالذَّرَّةِ وَفِي فَمِهَا شَيْءٌ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ لَهَا، وَرُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ سَمْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَمِعَ الدُّودَةَ تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ يَرَانِي، وَيَسْمَعُ كَلَامِي، وَيَعْرِفُ مَكَانِي، وَيَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَعْضُ الْأَشْيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيصَالَ الرِّزْقِ إِلَى الدَّابَّةِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا، قَالُوا لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ إِيصَالَ الرِّزْقِ إِلَى كُلِّ حَيَوَانٍ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى بِحَسَبِ الْوَعْدِ وَبِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، واللَّه تَعَالَى لَا يُحِلُّ بِالْوَاجِبِ، ثُمَّ قَدْ نَرَى
إِنْسَانًا لَا يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ طُولَ عُمُرِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَرَامُ رِزْقًا لَكَانَ اللَّه تَعَالَى مَا أَوْصَلَ رِزْقَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخَلَّ بِالْوَاجِبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَكُونُ رِزْقًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها فَالْمُسْتَقَرُّ هُوَ مَكَانُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ كَانَ مُودَعًا قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ أَوْ بَيْضَةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَمُسْتَوْدَعُهَا مَوْضِعُهَا الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى اسْتِقْصَاءُ تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ قَالَ: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٥٩].
[سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ، أَثْبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللَّه وَعَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَى سبيل الاستقصاء. بقي هاهنا أَنْ نَذْكُرَ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قَالَ كَعْبٌ خَلَقَ اللَّه تَعَالَى يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً يَرْتَعِدُ، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الْمَاءَ عَلَى مَتْنِهَا ثُمَّ وَضَعَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ كَقَوْلِهِمْ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مُلْتَصِقًا بِالْآخَرِ وَكَيْفَ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ كانا قبل السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ خَلْقِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض وَالْمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُمَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ أَوْ لَا لِمَنْفَعَةٍ وَالثَّانِي عَبَثٌ، فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ، وَتِلْكَ الْمَنْفَعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّه وَهُوَ مُحَالٌ لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ أَوْ إِلَى الْغَيْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ حَيًّا، لِأَنَّ غَيْرَ الْحَيِّ لَا يَنْتَفِعُ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ الْحَيُّ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي بناؤه السموات كَانَ عَلَى الْمَاءِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا بنى السموات عَلَى الْمَاءِ كَانَتْ أَبْدَعَ وَأَعْجَبَ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يُؤَسَّسْ عَلَى أَرْضٍ صُلْبَةٍ لَمْ يَثْبُتْ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِذَا بسط على الماء؟ وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ؟
وَالْجَوَابُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ من وجوه: الأول: أن العرش كونه مع أعظم من السموات وَالْأَرْضِ كَانَ عَلَى الْمَاءِ فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِمْسَاكِ الثَّقِيلِ بِغَيْرِ عَمَدٍ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمْسَكَ الْمَاءَ لَا عَلَى قَرَارٍ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقْسَامُ الْعَالَمِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ
الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْ أَمْسَكَهُ اللَّه تعالى فوق سبع/ سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ مَا
يُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ؟ فَقَالَ كَانَ فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَهُوَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اللَّه وَمَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يَقْتَضِي أَنَّهُ تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ لِابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْكَثِيرَ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ طَوَائِفُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ سِوَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْآخَرُونَ، وَشَرْحُ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ أَفْعَالَهُ وَأَحْكَامَهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِالْمَصَالِحِ قَالُوا: لَامُ التَّعْلِيلِ وَرَدَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ فِعْلًا لَوْ كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ لَمَا فَعَلَهُ إِلَّا لِهَذَا الْغَرَضِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الِابْتِلَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْجَاهِلِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَذَلِكَ عَلَيْهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي حَقِّهِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢١].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِأَجْلِ ابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ وَامْتِحَانِهِمْ فَهَذَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِامْتِحَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمُحْسِنِ بِالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَتَخْصِيصَ الْمُسِيءِ بِالْعِقَابِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ وَالْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ هَذَا خَاطَبَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ:
وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَحْكُمُونَ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ.
فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ سِحْرٌ مَا يَكُونُ فِعْلًا مَخْصُوصًا، وَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَدِيعَةٌ مِنْكُمْ وَضَعْتُمُوهَا لِمَنْعِ النَّاسِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَإِحْرَازًا لَهُمْ إِلَى الِانْقِيَادِ لَكُمْ وَالدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَتِكُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ هُوَ أَنَّ السِّحْرَ أَمْرٌ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: ٨١] فَقَوْلُهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ بَاطِلٌ مُبِينٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ/ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَاكِمُ بِحُصُولِ الْبَعْثِ وَطَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ سِحْرًا لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْأَصْلِ يُفِيدُ الطَّعْنَ فِي الْفَرْعِ. الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى اللَّه عليه وسلم والساحر كاذب.
[سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فَحَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَخَذُوا فِي الِاسْتِهْزَاءِ وَيَقُولُونَ: مَا السَّبَبُ الَّذِي حَبَسَهُ عَنَّا؟
فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّه لِنُزُولِ ذَلِكَ العذاب الذي كانوا يستهزؤن بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ ذَلِكَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ وَأَحَاطَ بهم ذلك العذاب. بقي هاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ؟
الْجَوَابُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى حُكْمِ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَخَّرَ اللَّه عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ مَا الَّذِي حَبَسَهُ عَنَّا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَمَا نَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ هَذَا الْعَذَابُ يَوْمَ بَدْرٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ.
الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأُمَّةِ هُمُ النَّاسُ وَالْفِرْقَةُ فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ.
فَالْمُرَادُ طَائِفَةٌ مُجْتَمِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَصِ: ٢٣] وَقَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ: ٤٥] أَيْ بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا هاهنا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أَيْ إِلَى حِينِ تَنْقَضِي أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ انْقَرَضَتْ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ بِالْقَوْلِ، لَقَالُوا مَاذَا يَحْبِسُهُ عَنَّا وَقَدِ انْقَرَضَ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَعَّدِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ؟ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ كَقَوْلِكَ: كُنْتُ عِنْدَ فُلَانٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْحِينِ. الثَّانِي: أَنَّ اشْتِقَاقَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَمِّ، وَهُوَ الْقَصْدُ، كَأَنَّهُ يَعْنِي الْوَقْتَ الْمَقْصُودَ بِإِيقَاعِ هَذَا الْمَوْعُودِ فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: وَحاقَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ؟
وَالْجَوَابُ: قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَالضَّابِطُ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ بِلَفْظِ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَذَابَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحِيقَ بِهِمْ، ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ الْإِنْسانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلَهُ: إِلَّا
321
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَاخِلٌ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَافِقَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْرِ: ١- ٣] وَمُوَافِقَةٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: ١٩- ٢١] الثَّالِثُ: أَنَّ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولٌ عَلَى الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا نزلت لك نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه فَأَنْتَ كَفُورٌ، فَإِذَا نُزِعَتْ منك فيؤس قَنُوطٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْكَافِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى المعهود السابق لولا المانع، وهاهنا لَا مَانِعَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ/ وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْكَافِرِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ يؤسا، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُفَ: ٧٨] وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ كَفُورًا، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْكُفْرِ وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ عِنْدَ وِجْدَانِ الرَّاحَةِ يَقُولُ:
ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، [هود: ١٠] وذلك جزاءة عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ فَرِحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: ٧٦] وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ فَخُورًا، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ النَّاظِرُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ: وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ حَتَّى لَا تَلْزَمْنَا هَذِهِ الْمَحْذُورَاتُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ الْإِذَاقَةِ وَالذَّوْقِ يُفِيدُ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ بِهِ الطَّعْمُ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِوِجْدَانِ أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ يَقَعُ فِي التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ، وَبِإِدْرَاكِ أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ يَقَعُ فِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَالْكُفْرَانِ فَالدُّنْيَا فِي نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ، وَالْحَاصِلُ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ قَلِيلٌ، وَالْإِذَاقَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَيْرٌ قَلِيلٌ ثُمَّ إِنَّهُ فِي سُرْعَةِ الزَّوَالِ يُشْبِهُ أَحْلَامَ النَّائِمِينَ وَخَيَالَاتِ الموسوسين، فهذه الإذاقة مِنْ قَلِيلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا طَاقَةَ لَهُ بِتَحَمُّلِهَا وَلَا صَبْرَ لَهُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالطَّرِيقِ الْحَسَنِ مَعَهَا. وَأَمَّا النَّعْمَاءُ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهَا إِنْعَامٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالضَّرَّاءُ مَضَرَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى صَاحِبِهَا، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ نَحْوُ حَمْرَاءَ وَعَوْرَاءَ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالْمَضَرَّةِ وَالضَّرَّاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ، بَلْ هِيَ أَبَدًا فِي التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ، وَالتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ، إِلَّا أَنَّ الضَّابِطَ فِيهِ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى الْمِحْنَةِ، وَمِنَ اللَّذَّاتِ إِلَى الْآفَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى الطَّيِّبَاتِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَئُوسٌ كَفُورٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالَ زَوَالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ يَصِيرُ يؤسا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ سَبَبٌ اتِّفَاقِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْتَبْعِدُ حُدُوثَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَا جَرَمَ يَسْتَبْعِدُ عَوْدَ تِلْكَ النِّعْمَةِ فَيَقَعُ فِي الْيَأْسِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَطَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْيَأْسُ، بَلْ يَقُولُ لَعَلَّهُ تَعَالَى يَرُدُّهَا إِلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَحْسَنَ وَأَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ، وَأَمَّا حَالَ كَوْنِ تِلْكَ النِّعْمَةِ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ يَكُونُ كَفُورًا لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ حُصُولَهَا إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ أَوْ بِسَبَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَّلَهَا بِسَبَبِ جِدِّهِ وَجُهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يشتغل بشكر
322
اللَّه تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَكُونُ كَفُورًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَمِنَ الْمِحْنَةِ إِلَى النِّعْمَةِ، فَهَهُنَا الْكَافِرُ يَكُونُ فَرِحًا فَخُورًا. أَمَّا قُوَّةُ الْفَرَحِ فَلِأَنَّ مُنْتَهَى طَمَعِ الْكَافِرِ هُوَ الْفَوْزُ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلسَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدَ الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَدْ فَازَ بِغَايَةِ السَّعَادَاتِ فَلَا جَرَمَ يَعْظُمُ فَرَحُهُ بِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَخُورًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَوْزُ بِسَائِرِ الْمَطْلُوبِ نِهَايَةَ السَّعَادَةِ لَا جَرَمَ يَفْتَخِرُ بِهِ، فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَ الْبَلَاءِ لَا يَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَعِنْدَ الْفَوْزِ بِالنَّعْمَاءِ لَا يَكُونُ مِنَ الشَّاكِرِينَ. ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ قَالَ:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ ضِدُّ مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَلَاءِ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّاحَةِ وَالْخَيْرِ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الْعِقَابِ وَالْخَلَاصُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَالثَّانِي: الْفَوْزُ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ أَلْفَاظِهِ فَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بحسب معانيه.
[سورة هود (١١) : آية ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفَّارِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ قَلْبَ الرَّسُولِ ضَاقَ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَوَّاهُ وَأَيَّدَهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ اجْعَلْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا إِنْ كُنْتَ رَسُولًا، وَقَالَ آخَرُونَ: ائْتِنَا بِالْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ بِنُبُوَّتِكَ. فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتِنَا بِكِتَابٍ لَيْسَ فِيهِ شَتْمُ آلِهَتِنَا حَتَّى نَتَّبِعَكَ وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ اطْلُبُوا مِنْهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: ١٥] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ نِسْبَتُهُمْ إِلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَخُونَ فِي الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يُؤَدِّي إِلَى الشَّكِّ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ تَبْلِيغُ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فَقَدْ خَرَجَتِ الرِّسَالَةُ عَنْ أَنْ تُفِيدَ فَائِدَتَهَا الْمَطْلُوبَةَ مِنْهَا، وَإِذَا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ وَلِلنَّاسِ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ إنما ترك التَّقْصِيرَ فِي أَدَاءِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ لِسَبَبٍ يَرِدُ عليه من اللَّه تعالى أمثال هذه التهديدات.
الْبَلِيغَةِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَهَاوَنُونَ بِهِ، فَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَقْبَلُونَهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، فَهَيَّجَهُ اللَّه تَعَالَى لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَطَرْحِ الْمُبَالَاةِ بِكَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّى ذَلِكَ الْوَحْيَ وَقَعَ فِي سُخْرِيَّتِهِمْ وَسَفَاهَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ
الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَقَعَ فِي تَرْكِ وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِيهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ وَتَحَمُّلُ سَفَاهَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ تَحَمُّلِ إِيقَاعِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الضَّرَرَ فِي جَانِبِ التَّرْكِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَخَفَّ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: فَلَعَلَّكَ كَلِمَةُ شَكٍّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادُوا إِبْعَادَهُ عَنْ أَمْرٍ لَعَلَّكَ تَقْدِرُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَقُولُ لِوَلَدِهِ لَوْ أَمَرَهُ لَعَلَّكَ تُقَصِّرُ فِيمَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَيُرِيدُ تَوْكِيدَ الْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فَالضَّائِقُ بِمَعْنَى الضَّيِّقِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّائِقَ يَكُونُ بِضِيقٍ عَارِضٍ غَيْرِ لَازِمٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْسَحَ النَّاسِ صَدْرًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: زَيْدٌ سَيِّدٌ جَوَادٌ تُرِيدُ السِّيَادَةَ وَالْجُودَ الثَّابِتَيْنِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْحُدُوثَ قُلْتَ: سَائِدٌ/ وَجَائِدٌ، وَالْمَعْنَى: ضَائِقٌ صَدْرُكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَنْزُ كَيْفَ يَنْزِلُ؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مَا يُكْنَزُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى الْمَالُ الْكَثِيرُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّكَ رَسُولُ الْإِلَهِ الَّذِي تَصِفُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّكَ عَزِيزٌ عِنْدَهُ فَهَلَّا أَنْزَلَ عَلَيْكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ وَتُغْنِي أَحْبَابَكَ مِنَ الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ وَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِكَ وَتُعِينُ أَنْصَارَكَ وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهَلَّا أَنْزَلَ اللَّه مَعَكَ مَلَكًا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى صِدْقِ قَوْلِكَ وَيُعِينُكَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِكَ فَتَزُولَ الشُّبْهَةُ فِي أَمْرِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ إِلَهُكَ ذَلِكَ فَأَنْتَ غَيْرُ صَادِقٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِالْعِقَابِ وَمُبَشِّرٌ بِالثَّوَابِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَالَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ وَفِي حُكْمِهِ.
وَمَعْنَى وَكِيلٌ حَفِيظٌ أَيْ يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الْفُرْقَانِ: ١٠] وَقَوْلُهُ:
قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٠- ٩٣].
[سورة هود (١١) : آية ١٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
اعلم أن القول لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَ قَالَ مُعْجِزِي هَذَا الْقُرْآنُ وَلَمَّا حَصَلَ الْمُعْجِزُ الْوَاحِدُ كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ بَغْيًا وَجَهْلًا، ثُمَّ قَرَّرَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: يُوحى إِلَيْكَ أَيْ إِنْ قَالُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ مُفْتَرًى فَقُلْ لَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَقَوْلُهُ مِثْلِهِ بِمَعْنَى أَمْثَالِهِ حَمْلًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَجْمُوعَ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ السُّوَرِ الْعَشْرَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا هَذَا التَّحَدِّي مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ سُورَةُ/ الْبَقَرَةِ وَآلِ
عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة وَيُونُسَ وَهُودٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ إِشَارَةٌ إِلَى السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَبَعْضَ السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ سُوَرٍ الَّتِي مَا نَزَلَتْ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ التَّحَدِّي وَقَعَ بِمُطْلَقِ السُّوَرِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا قُوَّةُ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ وَتَأْلِيفِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أَكْتُبُ، فَإِذَا ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِ اقْتَصَرْتُ مِنْهَا عَلَى سَطْرٍ وَاحِدٍ مِثْلِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّحَدِّي بِالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي سُورَةِ يُونُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا تَقَدُّمُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَسُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ يُونُسَ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مَكِّيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ سُورَةُ هُودٍ مُتَقَدِّمَةً فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ يُونُسَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْفَصَاحَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْأُسْلُوبُ، وَقَالَ ثَالِثٌ: هُوَ عَدَمُ التَّنَاقُضِ، وَقَالَ رَابِعٌ: هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَقَالَ خَامِسٌ: هُوَ الصَّرْفُ، وَقَالَ سَادِسٌ: هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ الْفَصَاحَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ هُوَ كَثْرَةَ الْعُلُومِ أَوِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغُيُوبِ أَوْ عَدَمَ التَّنَاقُضِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: مُفْتَرَياتٍ مَعْنًى أَمَّا إِذَا كَانَ وَجْهُ الْإِعْجَازِ هُوَ الْفَصَاحَةَ صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ فَصَاحَةَ الْفَصِيحِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْوَجْهُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا هُوَ الصَّرْفَ لَكَانَ دَلَالَةُ الْكَلَامِ الرَّكِيكِ النَّازِلِ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَوْكَدَ مِنْ دَلَالَةِ الْكَلَامِ الْعَالِي فِي الْفَصَاحَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ وَجْهَ التَّحَدِّي قَالَ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَالْمُرَادُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي ادِّعَاءِ كَوْنِهِ مُفْتَرًى كَمَا قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إِثْبَاتِ الدِّينِ مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الدَّلِيلَ وَهَذِهِ الْحُجَّةَ، وَلَوْلَا أَنَّ الدِّينَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة.
[سورة هود (١١) : آية ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى خِطَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: خِطَابُ الرَّسُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَالثَّانِي: خِطَابُ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: ١٣] فلما أتبعه بقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فِي الْمُعَارَضَةِ لِتَعَذُّرِهَا عَلَيْهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنَّ مَنْ يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّه لَمْ يَسْتَجِيبُوا، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَبَعْضُهُمْ قَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمُعَارَضَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه. وَالْمَعْنَى: فَاثْبُتُوا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَازْدَادُوا يَقِينًا وَثَبَاتَ قَدَمٍ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ
325
مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ مُخْلِصُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَقُولُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ اعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّه إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْكُفَّارُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بَعْدَ لُزُومِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا هَذَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّكُمْ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجْتُمْ إِلَى أَنْ حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: فَاعْلَمُوا عَلَى الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَأَيْضًا فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَاجِبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، وَأَيْضًا أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ [هود: ١٣] وَالْخِطَابَ الثَّانِيَ كَانَ مَعَ جَمَاعَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: ١٣] وقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى.
بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَسْتَجِيبُوا فِيهِ؟
الْجَوَابُ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فِي جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَنِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بقوله: لَكُمْ؟
والجواب: إن حملنا قوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الرَّسُولِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَدُّونَهُمْ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ لِتَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ ادَّعَوْا كَوْنَ الْقُرْآنِ مُفْتَرًى عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُفْتَرًى عَلَى اللَّه لَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ الْخَلْقُ عَلَى مِثْلِهِ وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَقَوْلُهُ: أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه وَمِنْ قِبَلِهِ، كَمَا يَقُولُ الْحَاكِمُ هَذَا الْحُكْمُ جَرَى بِعِلْمِي.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَيُّ تَعَلُّقٍ لِقَوْلِهِ: وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعجزهم عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَطْلُبَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْأَصْنَامِ فِي تَحْقِيقِ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْهَا فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْبَتَّةَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ كونهم آلهة، فصار عجز القوم الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَصْنَامِ مُبْطِلًا لِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَدَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةً إِلَى مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِ الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّه مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ عَجْزُ الْخُصُومِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَثَبَتَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلَمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ محقا في
326
دعوى النبوة ثبت قوله: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ قَهْرِهِ وَعَذَابِهِ وَاتْرُكُوا الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ وَاقْبَلُوا الْإِسْلَامَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ التَّحَدِّي: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٤].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي زِيَادَةِ الْإِخْلَاصِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي أصل الإسلام.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنَازِعُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبْطِلٌ وَنَحْنُ مُحِقُّونَ، وَإِنَّمَا نُبَالِغُ فِي مُنَازَعَتِهِ لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ مَحْضَ الْحَسَدِ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاءِ: ١٨] وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠] وفيه الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالصِّدِّيقُ وَالزِّنْدِيقُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَالِانْتِفَاعَ بِخَيْرَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، إِلَّا أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ الْخَاصُّ وَهُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَقَطْ، أَيْ تَكُونُ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا لِسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، كَانَ حُكْمُهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ بِغَزْوِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغَنَائِمَ مِنْ دُونِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَنَسٍ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَعَمَلُ الْخَيْرِ قِسْمَانِ: الْعِبَادَاتُ، وَإِيصَالُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالصَّدَقَةُ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَتَسْوِيَةُ الطُّرُقِ وَالسَّعْيُ فِي دَفْعِ الشُّرُورِ وَإِجْرَاءُ الْأَنْهَارِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِذَا أَتَى بِهَا الْكَافِرُ
327
لِأَجْلِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ بِسَبَبِهَا تَصِلُ الْخَيْرَاتُ وَالْمَنَافِعُ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ، فَكُلُّهَا تَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذِهِ الْأَعْمَالُ تَكُونُ طَاعَاتٍ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ: فَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ طَاعَاتٍ بِنِيَّاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَإِذَا لَمْ يُؤْتَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا أَتَى فَاعِلُهَا بِهَا عَلَى طَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَتَحْصِيلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهَا صَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا فَلَا تَكُونُ مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الْمُرَادُ مِنْهُ الطَّاعَاتُ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ الْكَافِرِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَجْرِيَ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْكَافِرُ الَّذِي هَذَا صِفَتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لَا يَلِيقُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا إِذَا قلنا المراد أولئك الذين ليس فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالرِّيَاءِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا أَخْبَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْبَابِ.
رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «تَعَوَّذُوا باللَّه مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قِيلَ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَادٍ في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْعَى بِرَجُلٍ جَمَعَ الْقُرْآنَ، فَيُقَالُ لَهُ مَا عَمِلْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قارئ، وقد قيل ذلك، ويؤت بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّه لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ فَيَقُولُ: وَصَلْتُ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ، وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ وَيُؤْتَى بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه فَيَقُولُ قَاتَلْتُ فِي الْجِهَادِ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْبَتِي وَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ الرَّاوِي فَبَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ ثُمَّ أَفَاقَ وَقَالَ صَدَقَ اللَّه وَرَسُولُهُ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ تَوْفِيَةِ أُجُورِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْخَيْرَاتِ، بَلْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا النَّارُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْأَعْمَالِ لِأَجْلِ طَلَبِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَجْلِ الرِّيَاءِ، فَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ حُبُّ الْآخِرَةِ، إِذْ لَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ السَّعَادَاتِ لَامْتَنَعَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَيْرَاتِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَيَنْسَى أَمْرَ الْآخِرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآتِيَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لِأَجْلِ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا عَدِيمَ الطَّلَبِ لِلْآخِرَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ جَمِيعُ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَيَبْقَى عَاجِزًا عَنْ وِجْدَانِهَا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَشْتَعِلَ فِي قَلْبِهِ نِيرَانُ الْحَسَرَاتِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ، أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ لِطَلَبِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ اللَّائِقَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ إلا النار ويصير
328

[سورة هود (١١) : آية ١٧]

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)
اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْجَوَابَ لِظُهُورِهِ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ [فاطر: ٨] وقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزُّمَرِ: ٩] وَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩].
وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفَاظٍ أَرْبَعَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مجمل. فَالْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي/ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مَنْ هُوَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ. وَالثَّالِثُ: أن المراد بقوله: يَتْلُوهُ الْقُرْآنُ أَوْ كَوْنُهُ حَاصِلًا عَقِيبَ غَيْرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ مَا هُوَ؟ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ مُجْمَلَةٌ فَلِهَذَا كَثُرَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهَذَا صِيغَةُ جَمْعٍ، فَلَا يَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ هُوَ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ صِحَّةُ الدِّينِ الْحَقِّ والضمير في يَتْلُوهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ وَالْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ أَيْ مِنَ اللَّه وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى، أَيْ وَيَتْلُو ذَلِكَ الْبُرْهَانَ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ كِتَابِ مُوسَى تَابِعًا لِلْقُرْآنِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَلْ فِي دَلَالَتِهِ على هذا المطلوب وإِماماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَقُولُ اجْتَمَعَ فِي تَقْرِيرِ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا: دَلَالَةُ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ. وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الْقُرْآنِ بِصِحَّتِهِ. وَثَالِثُهَا: شَهَادَةُ التَّوْرَاةِ بِصِحَّتِهِ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَبْقَى فِي صِحَّتِهِ شَكٌّ وَلَا ارْتِيَابٌ، فَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْبَيِّنَةُ هو القرآن، والمراد بقوله: يَتْلُوهُ هُوَ التِّلَاوَةُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الشَّاهِدِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا:
أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ هُوَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ محمد بن الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أَنْتَ التَّالِي قَالَ: وَمَا مَعْنَى التَّالِي قُلْتُ قَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قَالَ وَدِدْتُ أَنِّي هُوَ وَلَكِنَّهُ لِسَانِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ لَا جَرَمَ جُعِلَ اللِّسَانُ تَالِيًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا يُقَالُ: عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ وَلِسَانٌ نَاطِقٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ،
329
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُو تِلْكَ الْبَيِّنَةَ وَقَوْلُهُ: مِنْهُ أَيْ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَبَعْضٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَشْرِيفُ هَذَا الشَّاهِدِ بِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ الْقُرْآنَ بَلْ حُصُولَ هَذَا الشَّاهِدِ عَقِيبَ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهَهُ وَمَخايِلَهُ كُلُّ ذَلِكَ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ/ وَلَا كَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ وَلَا كَذَّابٍ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذَا الشَّاهِدِ مِنْهُ كَوْنُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنُ وَيَتْلُوهُ أَيْ وَيَتْلُو الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْحُجَّةُ يَعْنِي وَيَعْقُبُهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الشَّاهِدُ هُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ وَذَلِكَ الْوَجْهُ هُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ التَّامَّةِ وَالْبَلَاغَةِ الْكَامِلَةِ وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ: شاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُرْآنِ وَصِفَاتِهِ مِنَ القراآت مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يَعْنِي الْإِنْجِيلُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُوهُ فِي التَّصْدِيقِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَتَمُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ إِمَامًا وَرَحْمَةً، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِمَامًا أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدَى الْعَالِمِينَ، وَإِمَامًا لَهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً فَلِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ فَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلرَّحْمَةِ أَطْلَقَ اسْمَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ فِي صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ يُؤْمِنُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطَالِبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْبَدِيهَةِ، وَمِنْهَا مَا يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى طَلَبٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّ طَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ إِمَّا الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ الْمُسْتَنْبَطُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الوحي والإلهام، فهذا الطَّرِيقَانِ هُمَا الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمَا فِي تَعْرِيفِ الْمَجْهُولَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَاعْتَضَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ بَلَغَا الْغَايَةَ فِي الْقُوَّةِ وَالْوُثُوقِ، ثُمَّ إِنَّ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّه تَعَالَى كَثْرَةً، فَإِذَا تَوَافَقَتْ كَلِمَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَائِمًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ، وَقَوْلُهُ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً/ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ بَلَغَ هَذَا الْيَقِينُ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَحْزَابِ أَصْنَافُ الْكُفَّارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْمَعُ بِي يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ فَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا
330
إِلَّا عَنِ الْقُرْآنِ، فَوَجَدْتُ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَكْفُرُ بِهِ لَمْ تَكُنِ النَّارُ مَوْعِدَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [هود: ١٣] الثَّانِي: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ أَنَّ موعد الكافر النار أو قرئ مُرْيَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا ظَهَرَ الْحَقُّ ظُهُورًا فِي الْغَايَةِ، فَكُنْ أَنْتَ مُتَابِعًا لَهُ وَلَا تُبَالِ بِالْجُهَّالِ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يُؤْمِنُونَ بما تقدم ذكره من وصف القرآن.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ عَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَطُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا شِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتُهُمْ فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّه هَذِهِ الطَّرِيقَةَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: ١٥] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَحُونَ في معجزاته، وقد أبطل اللَّه تعالى بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود: ١٧] وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا بَيَّنَ وَعِيدَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّه، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ هَذَا الْكَلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنَّمَا يُورَدُ فِي مَعْرِضِ الْمُبَالَغَةِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّه تَعَالَى أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ وَعِيدَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [إلى آخر الآية] وَمَا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ الْعَرْضِ، لِأَنَّ الْعَرْضَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْعِبَادِ كَمَا قال: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
[الْكَهْفِ: ٤٨] وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ فَيُفْتَضَحُونَ بِأَنْ يَقُولَ الْأَشْهَادُ عِنْدَ عَرْضِهِمْ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى فِي مَكَانٍ، فَكَيْفَ قَالَ: يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَالْجَوَابُ:
أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْحِسَابِ وَالسُّؤَالِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَرْضًا عَلَى مَنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّه مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَنِ الْأَشْهَادُ الَّذِينَ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ؟
الْجَوَابُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ:
الْأَشْهادُ الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، يعني على رؤوس النَّاسِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ
الصلاة والسلام. قال اللَّه تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: ٦] وَالْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَشْهَادِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْفَضِيحَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْأَشْهَادُ جَمْعٌ فَمَا وَاحِدُهُ؟
وَالْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، وَنَاصِرٍ وَأَنْصَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَهِيدٍ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهَذَا كَأَنَّهُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ، كَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي عَذَابِ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْحَالِ فَقَالَ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ لَمَلْعُونُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا يَعْنِي أَنَّهُمْ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْتِزَامِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَقَدْ أَضَافُوا إِلَيْهِ الْمَنْعَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجَ الدَّلَائِلِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَاصِي يَبْغِي/ عِوَجًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِقَامَةِ، وَكَيْفِيَّةَ الْعِوَجِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَتَقْرِيرِ الضَّلَالَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلِمَةُ «هُمْ» كُرِّرَتْ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِثَبَاتِهِمْ فِي الْكُفْرِ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُفْتَرِينَ عَلَى اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّه فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: حُصُولُ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ مَلْعُونِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨].
وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه مَانِعِينَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: سَعْيُهُمْ فِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجِ الدلائل المستقيمة، وهي قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ السَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ كَافِرِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْفِرَارِ مِنْ عَذَابِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي
332
الْأَرْضِ
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْإِعْجَازِ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُرَادِ. يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ أَيْ مَنَعَنِي عَنْ مُرَادِي، وَمَعْنَى مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَهْرُبُوا مِنْ عَذَابِنَا فَإِنَّ هَرَبَ الْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّه مُحَالٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا تَتَفَاوَتُ قُدْرَتُهُ بِالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَالصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ يَدْفَعُونَ عَذَابَ اللَّه عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي وَصْفِهِمُ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِمْ وَبَيَّنَ بِذَلِكَ انْقِطَاعَ حِيَلِهِمْ فِي الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى مَنْعِ اللَّه مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ كَيْ يَتُوبُوا فَيَزُولُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَإِذَا أَبَوْا إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ للَّه عَمَّا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَالصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ قِيلَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا باللَّه وَبِالْبَعْثِ وَبِالنُّشُورِ، فَكُفْرُهُمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ صَارَ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ، وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَعَ ضَلَالِهِمُ الشَّدِيدِ، سَعَوْا فِي الْإِضْلَالِ وَمَنْعِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ هَذَا التَّضْعِيفُ عَلَيْهِمْ.
الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَالْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَمَمِ الْقَلْبِ وَعَمَى النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْلُقُ فِي الْمُكَلَّفِ مَا يَمْنَعُهُ الْإِيمَانَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْكَافِرَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فهو قوله:
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الْقَلَمِ: ٤٢] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَدِيهَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الثَّانِي أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ السَّمْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْحَاسَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوْ عَنْ مَعْنَى يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى فِي صِمَاخِ الْأُذُنِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَتْرُكَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ مُحَالًا، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُهَا مُحَالًا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُ هُوَ الْحَقَّ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِنَا. ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إِهْمَالُهُمْ لَهُ وَنُفُورُهُمْ عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَمُجُّهُ سَمْعِي وَذَكَرَ غَيْرُ الْجُبَّائِيِّ عُذْرًا آخَرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِلْوِلَايَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها باطل، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ حَاصِلٌ فِي
333
الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْصَارَ صُورَتِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الِاسْتِطَاعَةَ فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الِاسْتِثْقَالِ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْفَهْمِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْ، فَإِنْ مَنَعَ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَعَانِي الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ، وَلَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْقَلْبِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِسَبَبِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ حُصُولَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الصَّارِفِ مُحَالٌ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى صَارِفًا عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ حُصُولًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَمْنُوعًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّا نَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَةِ الْأَوْثَانِ فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ثُمَّ قَالَ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَائِدًا إِلَى عَيْنِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَصِيرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ إِبْصَارِ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا عِبَادَةَ الْآلِهَةِ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ هَذَا الْخُسْرَانُ أَعْظَمَ وُجُوهِ الْخُسْرَانِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا بَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرُوا، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الشَّرِيفَ، وَرَضُوا بِأَخْذِ الْخَسِيسِ، وَهَذَا عَيْنُ الْخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الْخَسِيسُ يَضِيعُ وَيَهْلَكُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَتَقْرِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى الشَّرِيفَ الرَّفِيعَ وَرَضِيَ بِالْخَسِيسِ الْوَضِيعِ فَقَدْ خَسِرَ فِي التِّجَارَةِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا الْخَسِيسُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَهْلَكَ وَيَفْنَى انْقَلَبَتْ تِلْكَ التِّجَارَةُ إِلَى النِّهَايَةِ فِي صِفَةِ الْخَسَارَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَقَوْلُهُ لَا جَرَمَ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَقًّا، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا جَرَمَ أَنَّكَ مُحْسِنٌ، عَلَى مَعْنَى حَقًّا إِنَّكَ مُحْسِنٌ، وَأَمَّا النَّحْوِيُّونَ فَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ، أَيْ قَطْعٍ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا جَرَمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ قَاطِعٍ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ كَلِمَةَ لَا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجَرَمَ مَعْنَاهُ كَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ وَكَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُمُ الْخُسْرَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَكَرْنَا جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ فِي تفسير قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَةِ: ٢] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ، الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ: لَا رَدٌّ عَلَى أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، وَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُ حَقُّ كُفْرِهِمْ وُقُوعُ الْعَذَابِ وَالْخُسْرَانِ بِهِمْ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ طَعَنْتُ أبا عيينة طعنة جرمت فزاة بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا
أَرَادَ حَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزَارَةَ أن يغضبوا.
334

[سورة هود (١١) : آية ٢٣]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانَهُمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِخْبَاتُ هُوَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَخَبَتَ ذِكْرُهُ أَيْ خَفِيَ، / فَقَوْلُهُ: «أَخْبَتَ» أَيْ دَخَلَ فِي الْخَبْتِ، كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ صَارَ إِلَى نَجْدٍ أَنْجَدَ وَإِلَى تِهَامَةَ أَتْهَمَ، وَمِنْهُ الْمُخْبِتُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي أَخْبَتَ إِلَى رَبِّهِ أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَلَفْظُ الْإِخْبَاتِ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ، فَإِذَا قُلْنَا: أَخْبَتَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا فَمَعْنَاهُ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِذَا قُلْنَا أَخْبَتَ لَهُ فَمَعْنَاهُ خَشَعَ لَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَوْلُهُ وَأَخْبَتُوا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَعَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ ثُمَّ إِنْ فَسَرَّنَا الْإِخْبَاتَ بِالطُّمَأْنِينَةِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّه وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مُطْمَئِنَّةً بِذِكْرِ اللَّه فَارِغَةً عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَارَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى صِدْقِ اللَّه بِكُلِّ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْإِخْبَاتَ بِالْخُشُوعِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَتَوْا بِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الخلود في الجنة.
[سورة هود (١١) : آية ٢٤]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ ذَكَرَ فِيهِمَا مِثَالًا مُطَابِقًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ذُكِرَ آخِرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هُودٍ: ١٧] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِهِ الْكَافِرِينَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَسَدِ وَمِنَ النَّفْسِ، وَكَمَا أَنَّ لِلْجَسَدِ بَصَرًا وَسَمْعًا فَكَذَلِكَ حَصَلَ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَكَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إِذَا كَانَ أَعْمَى أَصَمَّ بَقِيَ مُتَحَيِّرًا لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، بَلْ يَكُونُ كَالتَّائِهِ فِي حَضِيضِ الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا، فَكَذَلِكَ الْجَاهِلُ الضَّالُّ الْمُضِلُّ، يَكُونُ أَعْمَى وَأَصَمَّ الْقَلْبِ، فَيَبْقَى فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ حَائِرًا تَائِهًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ عِلَاجُ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ، وَإِذَا كَانَ/ الْعِلَاجُ مُمْكِنًا مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ حُصُولِ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الْعِلَاجِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ تعالى إذا ورد عَلَى الْكَافِرِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ أَتْبَعَهَا بِالْقَصَصِ، لِيَصِيرَ ذِكْرُهَا مُؤَكِّدًا لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَصَصِ.
القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَقَدْ أَعَادَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا لِمَا فِيهَا مِنْ زَوَائِدِ الْفَوَائِدِ وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا نُوحًا بِأَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَمَعْنَاهُ أَرْسَلْنَاهُ مُلْتَبِسًا بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ حَرْفُ الْجَرِّ وَهُوَ الْبَاءُ فُتِحَ كَمَا فُتِحَ فِي كَانَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرَّاءِ فَقَرَءُوا إِنِّي بِالْكَسْرِ عَلَى مَعْنَى قَالَ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ كَوْنُهُ مُهَدِّدًا لِلْعُصَاةِ بِالْعِقَابِ، وَمِنَ الْمُبِينِ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا مَا أَعَدَّ اللَّه لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ نَذِيرٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَأَنَّهُ مُبِينٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَكْمَلِ وَالْبَيَانِ الْأَقْوَى الْأَظْهَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه وَفِي الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّه لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النَّفْيِ وَهُوَ يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فَقَوْلُهُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْأَلَمُ الْعَظِيمُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُسْنِدَ ذَلِكَ الْأَلَمُ إِلَى الْيَوْمِ، كَقَوْلِهِمْ نَهَارُكَ صَائِمٌ، وَلَيْلُكَ قائم.
[سورة هود (١١) : آية ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَعَنُوا في نبوته بثلاثة أنوع مِنَ الشُّبُهَاتِ.
فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَالتَّفَاوُتُ الْحَاصِلُ بَيْنَ آحَادِ الْبَشَرِ يَمْتَنِعُ انْتِهَاؤُهُ إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطَّاعَةُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ.
وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَا اتَّبَعَهُ إِلَّا أَرَاذِلُ مِنَ الْقَوْمِ كَالْحِيَاكَةِ وَأَهْلِ الصَّنَائِعِ الْخَسِيسَةِ، قَالُوا وَلَوْ كُنْتَ صَادِقًا لَاتَّبَعَكَ الْأَكْيَاسُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَشْرَافُ مِنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١١١].
وَالشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَالْمَعْنَى: لَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ لَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَا فِي قُوَّةِ الْجَدَلِ فَإِذَا لَمْ نُشَاهِدْ فَضْلَكَ عَلَيْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ
336
الظَّاهِرَةِ فَكَيْفَ نَعْتَرِفُ بِفَضْلِكَ عَلَيْنَا فِي أَشْرَفِ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، فَهَذَا خُلَاصَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْأُولَى لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْبَرَاهِمَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَمَّا الشُّبْهَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِمَا مَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي لَفْظِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ وَفِي اشْتِقَاقِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ مَلِيءٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ مطيقا لَهُ وَقَدْ مُلْئِوا بِالْأَمْرِ، وَالسَّبَبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُلِئُوا بِتَرْتِيبِ الْمُهِمَّاتِ/ وَأَحْسَنُوا فِي تَدْبِيرِهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ وُصِفُوا بِذَلِكَ لأنهم يتمالؤون أَيْ يَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: وُصِفُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يملؤون الْقُلُوبَ هَيْبَةً وَالْمَجَالِسَ أُبَّهَةً. الرَّابِعُ: وُصِفُوا بِهِ لأنهم ملؤوا الْعُقُولَ الرَّاجِحَةَ وَالْآرَاءَ الصَّائِبَةَ.
ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمُ الشُّبْهَةَ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَهَذَا جَهْلٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرَّسُولِ أَنْ يُبَاشِرَ الْأُمَّةَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّثَبُّتِ وَالْحُجَّةِ، لَا بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ بَعَثَ إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا لَكَانَتِ الشُّبْهَةُ أَقْوَى فِي الطَّعْنِ عَلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ لِأَنَّهُ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَعَلَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ أَنَّ قُوَّتَهُ أَكْمَلُ وَقُدْرَتَهُ أَقْوَى، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ مَا بَعَثَ اللَّه إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ.
ثُمَّ حَكَى الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَالْمُرَادُ منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الدِّينِ لَا تَكُونُ بِالْحَسَبِ وَالْمَالِ وَالْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ، بَلِ الْفَقْرُ أَهْوَنُ عَلَى الدِّينِ مِنَ الْغِنَى، بَلْ نَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ مَا بُعِثُوا إِلَّا لِتَرْكِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ فَكَيْفَ تُجْعَلُ قِلَّةُ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا طَعْنًا فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى الشُّبْهَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ، لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَ اللَّه لَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَكَيْفَ اطَّلَعُوا عَلَى بَوَاطِنِ الْخَلْقِ حَتَّى عَرَفُوا نَفْيَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ نُوحٍ وَمَعَ قَوْمِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَكْذِيبُ نُوحٍ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ الْأَرَاذِلِ فَنَسَبُوهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي أَنْ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَرْذَلُ جَمْعُ رَذْلٍ وَهُوَ الدُّونُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَنْظَرِهِ وَحَالَاتِهِ وَرَجُلٌ رَذْلُ الثِّيَابِ وَالْفِعْلِ. وَالْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْأَرْذَلِ، كَقَوْلِهِمْ أَكَابِرُ مُجْرِمِيهَا،
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»
فَعَلَى هَذَا الْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَرْذَلُ مِنْ كَذَا ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قَالُوا: هُوَ الْأَرْذَلُ فَصَارَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْإِضَافَةِ وَقَوْلُهُ: بادِيَ الرَّأْيِ الْبَادِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِكَ:
بَدَا الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: بَادِيَةٌ لِظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا لِلنَّاظِرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَادِيَ الرَّأْيِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: اتَّبَعُوكَ فِي الظَّاهِرِ وَبَاطِنُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اتَّبَعُوكَ فِي ابْتِدَاءِ حُدُوثِ الرَّأْيِ وَمَا احْتَاطُوا فِي/ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَمَا أَعْطَوْهُ حَقَّهُ مِنَ الْفِكْرِ الصَّائِبِ وَالتَّدَبُّرِ الْوَافِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا الْقَوْمَ
337
بِالرَّذَالَةِ قَالُوا: كَوْنُهُمْ كَذَلِكَ بَادِيَ الرَّأْيِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُمْ، وَالرَّأْيُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ رَأْيِ الْعَيْنِ لَا مِنْ رَأْيِ الْقَلْبِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أراذلنا بادي رأي الْعَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنُصَيْرٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ بَادِئَ بِالْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ فَمَنْ قَرَأَ بَادِئَ بِالْهَمْزَةِ فَالْمَعْنَى أَوَّلُ الرَّأْيِ وَابْتِدَاؤُهُ وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ كان من بدا يبدو أي ظهر وبادِيَ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ أَوَّلَ الضَّرْبِ.
[سورة هود (١١) : آية ٢٨]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَى بَعْدَهُ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فَقَالَ نُوحٌ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُفَارَقَةِ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الدَّالَّ عَلَى إِمْكَانِهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ وَمَا يَمْتَنِعُ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ إِمَّا النُّبُوَّةُ وَإِمَّا الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى النُّبُوَّةِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَيْ صَارَتْ مَظِنَّةً مُشْتَبِهَةً مُلْتَبِسَةً فِي عُقُولِكُمْ، فَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَكُمْ بِحَيْثُ تَصِلُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا شِئْتُمْ أَمْ أَبَيْتُمْ؟ وَالْمُرَادُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ: واللَّه لَوِ اسْتَطَاعَ نَبِيُّ اللَّه لَأُلْزِمَهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧] ذَكَرَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الْحُجَّةَ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ وَاشْتَبَهَتْ، فَأَمَّا لَوْ تَرَكْتُمُ الْعِنَادَ وَاللَّجَاجَ وَنَظَرْتُمْ فِي الدَّلِيلِ لَظَهَرَ الْمَقْصُودُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانَا عَلَيْكُمْ فَضْلًا عَظِيمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، بِمَعْنَى أُلْبِسَتْ وَشُبِّهَتْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخَفَّفَةَ الْمِيمِ، أَيِ الْتَبَسَتْ وَاشْتَبَهَتْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَقِيَ مَجْهُولًا مَحْضًا أَشْبَهَ الْمُعَمَّى، لِأَنَّ الْعِلْمَ نُورُ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْأَبْصَارَ نُورُ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ فَحَسُنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَجَازًا عَنِ الْآخَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوصَفُ بِالْأَبْصَارِ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النَّمْلِ: ١٣] وَكَذَلِكَ تُوصَفُ بِالْعَمَى، قَالَ تَعَالَى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الْقَصَصِ:
٦٦] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنُلْزِمُكُمُوها فِيهِ ثَلَاثُ مُضْمَرَاتٍ: ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرُ الْغَائِبِ وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ إِسْكَانَ الْمِيمِ الْأُولَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ تَوَالَتْ فَسُكِّنَتِ الْمِيمُ وَهِيَ أَيْضًا مَرْفُوعَةٌ وَقَبْلَهَا كَسْرَةٌ وَالْحَرَكَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ضَمَّةٌ ثَقِيلَةٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ إِسْكَانَ حَرْفِ الْإِعْرَابِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو فَلَمْ يَضْبِطْهُ عَنْهُ الْفَرَّاءُ، وَرُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ الْحَرَكَةَ وَيَخْتَلِسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْإِسْكَانُ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَالْيَوْمَ أُشْرَبْ غير مستحقب

[سورة هود (١١) : الآيات ٢٩ الى ٣١]

وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَا يَتَّبِعُكَ إِلَّا الْأَرَاذِلُ مِنَ النَّاسِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَنَا لَا أَطْلُبُ عَلَى تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مَالًا حَتَّى يَتَفَاوَتَ الْحَالُ بِسَبَبِ كَوْنِ الْمُسْتَجِيبِ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا وَإِنَّمَا أَجْرِي عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ»
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَسَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ لَمْ يَتَفَاوَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لَمَّا نَظَرْتُمْ إِلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَجَدْتُمُونِي فَقِيرًا وَظَنَنْتُمْ أَنِّي إِنَّمَا اشْتَغَلْتُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ لِأَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِكُمْ وَهَذَا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ سَعَادَةِ الدِّينِ بِسَبَبِ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧] فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً تُوجِبُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَسْعَى فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَقْرِيرُ حُصُولِ الْفَضِيلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوهُ طَرْدَهُمْ رَفْعًا لِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُشَارَكَةِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ. رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَحْبَبْتَ يَا نُوحُ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْهُمْ فَإِنَّا لَا نَرْضَى بِمُشَارَكَتِهِمْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ: ٢٧] كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ طَرْدَهُمْ لِأَنَّهُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوِ اتَّبَعَكَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ لَوَافَقْنَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ مَا طَرَدَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ هَذَا الطَّرْدِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا هُمْ مُنَافِقُونَ فِيمَا أَظْهَرُوا فَلَا تَغْتَرَّ بِهِمْ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْكَشِفُ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ عِلَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الطرد وأراد أنهم ملاقوا مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ، فَإِنْ طَرَدْتُهُمُ اسْتَخْصَمُونِي فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّا نَجْتَمِعُ فِي الْآخِرَةِ فَأُعَاقَبُ عَلَى طَرْدِهِمْ فَلَا أَجِدُ مَنْ يَنْصُرُنِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِالْعَوَاقِبِ وَالِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ فَقَالَ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَقْلَ والشرع تطابقا
339
عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُؤْمِنِ الْبَرِّ التَّقِيِّ وَمِنْ إِهَانَةِ الْفَاجِرِ الْكَافِرِ، فَلَوْ قَلَبْتَ الْقِصَّةَ/ وَعَكَسْتَ الْقَضِيَّةَ وَقَرَّبْتَ الْكَافِرَ الْفَاجِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَطَرَدْتَ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ كُنْتَ عَلَى ضِدِّ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى عَكْسِ حُكْمِهِ وَكُنْتَ فِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى ضِدِّ مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى مِنْ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْمُحِقِّينَ، وَالْعِقَابِ إِلَى الْمُبْطِلِينَ وَحِينَئِذٍ أَصِيرُ مُسْتَوْجِبًا لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمَنِ الَّذِي يُخَلِّصُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أَيْ كَمَا لَا أَسْأَلُكُمْ فَكَذَلِكَ لَا أَدَّعِي أَنِّي أَمْلِكُ مَالًا وَلَا لِي غَرَضٌ فِي الْمَالِ لَا أَخْذًا وَلَا دَفْعًا، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَصِلَ بِهِ إِلَى مَا أُرِيدُ لِنَفْسِي وَلَا أَتْبَاعِي وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى أَتَعَظَّمَ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، بَلْ طَرِيقِي الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ وَطَرِيقَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا يَطْلُبُ مُجَالَسَةَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَإِنَّمَا شَأْنُهُ طَلَبُ الدِّينَ وَسِيرَتُهُ مُخَالَطَةُ الْخَاضِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَتِي تُوجِبُ مُخَالَطَةَ الْفُقَرَاءِ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَيْبًا عَلَيَّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ بِطَرِيقٍ رَابِعٍ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ أَتْبَاعَهُ مَعَ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ إِلَى النِّفَاقِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَيْبِ وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، فَرُبَّمَا كَانَ بَاطِنُهُمْ كَظَاهِرِهِمْ فَيُؤْتِيهِمُ اللَّه مُلْكَ الْآخِرَةِ فَأَكُونُ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرْتُ بِهِ، فَإِنِّي إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لِنَفْسِي وَمِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ فِي وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ مَعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَاهُمُ الْخَيْرَ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَالُوا: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: أَنَا لَا أَدَّعِي كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَشْرَفَ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَلَمَّا كَانَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَرَجَةُ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْمَلَائِكَةُ دَاوَمُوا عَلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى طُولَ الدُّنْيَا مُذْ خُلِقُوا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّ الْفَضَائِلَ الْحَقِيقِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: الِاسْتِغْنَاءُ الْمُطْلَقُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ الْمَالَ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا فَقَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنِّي لَا أَدَّعِي الِاسْتِغْنَاءَ الْمُطْلَقَ وَثَانِيهَا: الْعِلْمُ التَّامُّ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَثَالِثُهَا: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْكَامِلَةُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْخَوَاطِرِ أَنَّ أَكْمَلَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَالْمَقْصُودُ من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أنه مَا حَصَلَ عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا مَا يَلِيقُ بِالْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالطَّاقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فَأَنَا لَا أَدَّعِيهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْمَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ جَعْلُ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُمْ طَعَنُوا فِي أَتْبَاعِهِ بِالْفَقْرِ فَقَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حَتَّى أَجْعَلَهُمْ أَغْنِيَاءَ وَطَعَنُوا فِيهِمْ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ فَقَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى أَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ بَاطِنِهِمْ وَإِنَّمَا أُجْرِي الْأَحْوَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَطَعَنُوا فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ بِأَفْعَالٍ لَا كَمَا يَنْبَغِي فَقَالَ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حَتَّى أَكُونَ مُبَرَّأً عَنْ جَمِيعِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْبَوَاعِثِ النَّفْسَانِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ طَرْدَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ الْكُفَّارِ مِنْ أُصُولِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَدَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ الْكُفَّارِ
340
حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِقْدَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الذَّنْبِ.
وَالْجَوَابُ: يُحْمَلُ الطَّرْدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرْدِ الْمُطْلَقِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وَالطَّرْدُ الْمَذْكُورُ فِي وَاقِعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى التَّقْلِيلِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّه فِي دَفْعِ الْعِقَابِ بِقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ هَذَا الطَّرْدُ مُحَرَّمًا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّه، أَيْ مَنِ الَّذِي يُخَلِّصُنِي مِنْ عِقَابِهِ وَلَوْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ جَائِزَةً لَكَانَتْ فِي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا جَائِزَةً وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ:
مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُشْبِهُ اسْتِدْلَالَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٨، ١٢٣] وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ.
وَأَجَابَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا بِالْجَوَابَاتِ الْمُوَافِقَةِ الصَّحِيحَةِ أَوْرَدَ الْكُفَّارُ عَلَى نُوحٍ كَلَامَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَثْرَةِ الْمُجَادَلَةِ فَقَالُوا: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَكْثَرَ فِي الْجِدَالِ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ الْجِدَالُ مَا كَانَ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَفِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْجَهْلَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ حِرْفَةُ الْكُفَّارِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، فَقَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَ عَنْهُ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ فَقَالَ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْزَالَ الْعَذَابِ لَيْسَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا هُوَ خَلْقُ اللَّه تَعَالَى فَيَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ كَمَا شَاءَ، وَإِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ الْعَذَابِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُعْجِزُهُ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَالْمُعْجِزُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا عِنْدَهُ لِتَعَذُّرِ مُرَادِ الْغَيْرِ فَيُوَصَفُ بِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ، فَقَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى فِعْلِ مَا عِنْدَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُ بِكُمْ، وَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتُمْ بِمَانِعِينَ، وَقِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِمَصُونِينَ، وَقِيلَ: وَمَا أَنْتُمْ بِسَابِقِينَ إِلَى الْخَلَاصِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِهِمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِخَاتِمَةٍ قَاطِعَةٍ، فَقَالَ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ أَيْ إِنْ كَانَ اللَّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْبَتَّةَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُ،
341
قَالُوا: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ كَانَ اللَّه يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَيُضِلَّكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَذْهَبِنَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنْ أَرَادَ إِغْوَاءَ الْقَوْمِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِنُصْحِ الرَّسُولِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ، فَإِنَّا نَعْرِفُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ نُصْحُ النَّاصِحِينَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ هَذَا الْإِغْوَاءَ فَإِنَّ النِّزَاعَ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ، بَلْ نَقُولُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ، بَلْ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ إِغْوَاءَهُمْ لَمَا بَقِيَ فِي النُّصْحِ فَائِدَةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَنْصَحَ الْكُفَّارَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورٌ/ بِدَعْوَةِ الْكُفَّارِ وَنَصِيحَتِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النُّصْحَ غَيْرُ خَالٍ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَغْوَاهُمْ، فَهَذَا صَارَ حُجَّةً لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَغْوَاهُمْ لَصَارَ هَذَا عُذْرًا لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوع مُنْقَطِعًا فِي مُنَاظَرَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ إِنَّكَ سلمت أن اللَّه إذا أَغْوَانَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي نُصْحِكَ وَلَا فِي جِدِّنَا وَاجْتِهَادِنَا فَائِدَةٌ، فَإِذَا ادَّعَيْتَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَغْوَانَا فَقَدْ جَعَلْتَنَا مَعْذُورِينَ فَلَمْ يَلْزَمْنَا قَبُولُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، لَصَارَ هَذَا حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ كَلَامًا يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مُفْحَمًا مُلْزَمًا عَاجِزًا عَنْ تَقْرِيرِ حُجَّةِ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ: الْأَوَّلُ:
أُولَئِكَ الْكُفَّارُ كَانُوا مُجَبِّرَةً، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ كُفْرَهُمْ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ نُصْحَهُ لَا يَنْفَعُهُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، وَمِثَالُهُ أَنْ يُعَاقِبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ عَلَى ذَنْبِهِ فَيَقُولُ الْوَلَدُ: لَا أَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ الْوَالِدُ فَلَنْ يَنْفَعَكَ إِذًا نُصْحِي وَلَا زَجْرِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِذَلِكَ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ أَيْ يُعَذِّبَكُمْ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ فَآمَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يُقْبَلُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِذَا آمَنْتُمْ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْغَوَايَةُ هِيَ الْخَيْبَةُ مِنَ الطَّلَبِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مَرْيَمَ: ٥٩] أَيْ خَيْبَةً مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا
الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادَى فِيهِ مَنَعَهُ اللَّه تَعَالَى الْأَلْطَافَ وَفَوَّضَهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا شَبِيهُ مَا إِذَا أَرَادَ إِغْوَاءَهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَغْوَاهُ هَذَا جُمْلَةُ كَلِمَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ بَعْدَهُ شَرْطٌ آخَرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُؤَخَّرُ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، كَانَ الْمَفْهُومُ كَوْنَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الدُّخُولِ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ شَرْطًا آخَرَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَكَلْتِ الْخُبْزَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ الثَّانِي وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِي الْوُجُودِ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَصَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي تَعَلَّقَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَمَّا إِنْ/ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ،
342
هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الشَّرْطَ الْمُؤَخَّرَ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَالَ: هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَعِيدِ أَيْ هُوَ إِلَهُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَبَّاكُمْ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي ذَوَاتِكُمْ وَفِي صِفَاتِكُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا يُفِيدُ نهاية التحذير.
[سورة هود (١١) : آية ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى افْتَرَاهُ اخْتَلَقَهُ وَافْتَعَلَهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَالْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَعَلَيَّ إِجْرامِي الْإِجْرَامُ اقْتِرَاحُ الْمَحْظُورَاتِ وَاكْتِسَابُهَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
فَعَلَيَّ عِقَابُ إِجْرَامِي، وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ عِقَابُ جُرْمِي، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا وَكَذَّبْتُمُونِي فَعَلَيْكُمْ عِقَابُ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزُّمَرِ: ٩] وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَقِيَّةَ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِقَابِ جُرْمِكُمْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَقَعَتْ فِي قِصَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ نُوحٍ، وَقَوْلُهُمْ بَعِيدٌ جِدًّا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا، إِلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ القبول.
[سورة هود (١١) : آية ٣٦]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا جَاءَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى دَعَا عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ:
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَقَوْلُهُ: فَلا تَبْتَئِسْ أَيْ لَا تَحْزَنْ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
ابْتَأَسَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
مَا يَقْسِمُ اللَّه أَقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ بِهِ وَأَقْعُدْ كَرِيمًا نَاعِمَ الْبَالِ
أَيْ غَيْرَ حَزِينٍ وَلَا كَارِهٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ لَكَانَ إِمَّا مَعَ بَقَاءِ هَذَا الْخَبَرِ صِدْقًا، وَمَعَ بَقَاءِ هَذَا الْعِلْمِ عِلْمًا أَوْ مَعَ انْقِلَابِ هَذَا الْخَبَرِ كَذِبًا وَمَعَ انْقِلَابِ هَذَا الْعَلَمِ جَهْلًا وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ مَعَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ صِدْقًا، وَمَعَ كَوْنِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ حَاصِلًا حَالَ وُجُودِ الْإِيمَانِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ انْقِلَابَ خَبَرِ اللَّه كَذِبًا وَعِلْمِ اللَّه جَهْلًا مُحَالٌ، وَلَمَّا كَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَالٌ كَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالًا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَأَيْضًا الْقَوْمُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِيمَانِ وَمِنَ الْإِيمَانِ تَصْدِيقُ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ.
وَذَلِكَ تَكْلِيفُ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه تَعَالَى عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى قَوْمٍ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ كَانَ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: ٢٦، ٢٧] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَلَا فِي أَوْلَادِهِمْ أَحَدٌ يُؤْمِنُ. قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَأَمَّا قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عِبَادَهُ وَلَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ قَوْلًا بِمَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ، وَأَيْضًا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلَا لَمَا جَازَ إِنْزَالُ الْإِهْلَاكِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِإِيمَانِهِمْ كَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِهِ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ/ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ لَا تَحْزَنْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ وَلَا تَظُنَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَذَلَّةً، فَإِنَّ الدِّينَ عَزِيزٌ، وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ ذَلِيلٌ وَإِنْ كثر عدد من يقول به.
[سورة هود (١١) : آية ٣٧]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦] يَقْتَضِي تَعْرِيفَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مُعَذِّبُهُمْ وَمُهْلِكُهُمْ، فَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ، فَعَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِهَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْغَرَقُ، وَلَمَّا كَانَ السَّبِيلُ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ النَّجَاةُ مِنَ الْغَرَقِ تَكْوِينَ السَّفِينَةِ. لا جرم أمر اللَّه تَعَالَى بِإِصْلَاحِ السَّفِينَةِ وَإِعْدَادِهَا، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَهَا عَلَى مِثَالِ جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ.
قُلْنَا: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى صَوْنِ رُوحِ نَفْسِهِ وَأَرْوَاحِ غَيْرِهِ عَنِ الْهَلَاكِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَصَوْنُ النَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ كَانَ أَمْرَ إِبَاحَةٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا وَيُقِيمَ بِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: بِأَعْيُنِنا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ للَّه تَعَالَى أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَصْنَعَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْفُلْكَ بِتِلْكَ الْأَعْيُنِ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى بِأَعْيُنِنا أَيْ بِعَيْنِ الْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يُعَرِّفُهُ كَيْفَ يَتَّخِذُ السَّفِينَةَ، يُقَالُ فُلَانٌ عَيْنٌ عَلَى فُلَانٍ نُصِّبَ عليه ليكون منفحصا عَنْ أَحْوَالِهِ وَلَا تُحَوَّلُ عَنْهُ عَيْنُهُ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ عَظِيمَ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَضَعُ عَيْنَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْعَيْنِ عَلَى الشَّيْءِ سَبَبًا لِمُبَالَغَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْعِنَايَةِ جَعَلَ الْعَيْنَ كِنَايَةً/ عَنِ الِاحْتِيَاطِ، فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاكَ وَيَمْلِكُ دَفْعَ السُّوءِ عَنْكَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى عَمَلِ السَّفِينَةِ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَعْدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي تَأْلِيفُ السَّفِينَةِ وَتَرْكِيبُهَا وَدَفْعُ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَوَحْيِنا
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي عَمَلُ السَّفِينَةِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي لَا تَطْلُبْ مِنِّي تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فَإِنِّي قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَلَمَّا عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ:
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] الثَّانِي: وَلا تُخاطِبْنِي فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ الْعِقَابِ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَإِنِّي لَمَّا قَضَيْتُ إِنْزَالَ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَانَ تَعْجِيلُهُ مُمْتَنِعًا، الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصْنَعُ الْفُلْكَ. الثَّانِي: التَّقْدِيرُ وَأَقْبَلَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ فَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي صِفَةِ السَّفِينَةِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً: فَأَحَدُهَا: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ السَّفِينَةَ فِي سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ وَكَانَ طُولُهَا ثلاثمائة ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ وَجَعَلَ لَهَا ثَلَاثَ بُطُونٍ فَحَمَلَ فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ الْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ، وَفِي الْبَطْنِ الْأَوْسَطِ الدَّوَابَّ وَالْأَنْعَامَ، وَفِي الْبَطْنِ الْأَعْلَى جَلَسَ هُوَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مَعَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنَ الزَّادِ، وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ/ كَانَ طُولُهَا أَلْفًا وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا سِتَّمِائَةِ ذِرَاعٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ لَا تُعْجِبُنِي لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا الْبَتَّةَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَتِهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا وَكَانَ الْخَوْضُ فِيهَا مِنْ بَابِ الْفُضُولِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَانِبِ الصَّحِيحِ وَالَّذِي نَعْلَمُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّعَةِ بِحَيْثُ يَتَّسِعُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَلِحُصُولِ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فَفِي تَفْسِيرِ الْمَلَأِ وَجْهَانِ قِيلَ جَمَاعَةٌ وَقِيلَ طَبَقَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ كَانُوا يَسْخَرُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَا نُوحُ كُنْتَ تَدَّعِي رِسَالَةَ اللَّه تَعَالَى فَصِرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ نَجَّارًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ لَكَانَ إِلَهُكَ يُغْنِيكَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الشَّاقِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ مَا رَأَوُا السَّفِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا عَرَفُوا كَيْفِيَّةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَسْخَرُونَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كَانَتْ كَبِيرَةً وَهُوَ كَانَ يَصْنَعُهَا فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنِ الماء جدا وكانوا يقولون: ليس هاهنا مَاءٌ وَلَا يُمْكِنُكَ نَقْلُهَا إِلَى الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ وَإِلَى الْبِحَارِ، فَكَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّفَهِ وَالْجُنُونِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ مَعَ الْقَوْمِ وَكَانَ يُنْذِرُهُمْ بِالْغَرَقِ وَمَا شَاهَدُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى خَبَرًا وَلَا أَثَرًا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ كَوْنُهُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ الْمَقَالِ فَلَمَّا اشْتَغَلَ بِعَمَلِ السَّفِينَةِ لَا جَرَمَ سَخِرُوا مِنْهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُحْتَمَلَةٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ سُخْرِيَةً مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا وَقَعَ عَلَيْكُمُ الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيُ فِي الْآخِرَةِ. الثَّانِي: إِنْ حَكَمْتُمْ عَلَيْنَا بِالْجَهْلِ فِيمَا نَصْنَعُ فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالْجَهْلِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّه تَعَالَى وَعَذَابِهِ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالسُّخْرِيَةِ مِنَّا. الثَّالِثُ: إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ وَاسْتِجْهَالُكُمْ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ، لِأَنَّكُمْ لَا تَسْتَجْهِلُونَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ الْحَالِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأَطْفَالِ وَالْجُهَّالِ.
فَإِنْ قِيلَ: السُّخْرِيَةُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْمُقَابَلَةَ سُخْرِيَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أَيْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالسُّخْرِيَةِ وَمَنْ هُوَ أَحْمَدُ عَاقِبَةً، وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَأْتِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى أَيْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَحَلُّ «مَنْ» رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ/ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ به.
[سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَتَّى هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ أُدْخِلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَوَقَعَتْ غَايَةً لِقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أَيْ فَكَانَ يَصْنَعُهَا إِلَى أَنْ جَاءَ وَقْتُ الْمَوْعِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] فَكَانَ الْمُرَادُ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الأمر هاهنا هُوَ الْعَذَابَ الْمُوعَدَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ فَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَنُّورٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: كَانَ لِآدَمَ قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَةٍ، وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صَارَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ،
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، قَالَ: وَقَدْ صَلَّى فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا،
وَقِيلَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: عين ووردان وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَقِيلَ: فَارَ التَّنُّورُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ تَخْبِزُ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ فَأَخْبَرَتْهُ بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ ذَلِكَ التَّنُّورِ فَاشْتَغَلَ فِي الْحَالِ بِوَضْعِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفِينَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّنُّورِ تَنُّورَ الْخُبْزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْفَجَرَ الْمَاءُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ:
١١، ١٢] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورًا. الثَّانِي: أَنَّ التَّنُّورَ أَشْرَفُ مَوْضِعٍ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَى مَكَانٍ فِيهَا وَقَدْ أَخْرَجَ إِلَيْهِ
346
الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَأَيْضًا/ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا نَبَعَ الْمَاءُ مِنْ أَعَالِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْأَمْكِنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَشُبِّهَتْ لارتفاعها بالتنانير. الثالث: فارَ التَّنُّورُ أَيْ
طَلَعَ الصُّبْحُ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ علي رضي اللَّه عنه.
الرابع: فارَ التَّنُّورُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَشَدَّ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: حَمِيَ الْوَطِيسُ وَمَعْنَى الْآيَةِ إِذَا رَأَيْتَ الْأَمْرَ يَشْتَدُّ وَالْمَاءَ يَكْثُرُ فَانْجُ بِنَفْسِكَ وَمَنْ مَعَكَ إِلَى السَّفِينَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الأصح من هذه اقوال؟
قُلْنَا: الْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَفْظُ التَّنُّورِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْعَقْلِ فِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ نَبَعَ أَوَّلًا مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ تَنُّورًا.
فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ التَّنُّورَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعْهُودٌ سَابِقٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ تَنُّورٌ هَذَا شَأْنُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَشْتَدُّ نُبُوعُهُ وَالْأَمْرَ يَقْوَى فَانْجُ بِنَفْسِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ.
قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ التَّنُّورَ كَانَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ كَانَ تَنُّورَ آدَمَ أَوْ حَوَّاءَ أَوْ كَانَ تَنُّورًا عَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَرَّفَهُ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَعَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى فارَ نَبَعَ عَلَى قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ تَشْبِيهًا بِغَلَيَانِ الْقِدْرِ عِنْدَ قُوَّةِ النَّارِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ نَفْسَ التَّنُّورِ لَا يَفُورُ فَالْمُرَادُ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ، وَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ فَوْرَ التَّنُّورِ كَانَ عَلَامَةً لِهَلَاكِ الْقَوْمِ لَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّه تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ النَّجَاةَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً بِهَا يَعْرِفُونَ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ، فَلَا يَبْعُدُ جَعَلَ هَذِهِ الْحَالَةَ عَلَامَةً لِحُدُوثِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: التَّنُّورُ لَفْظَةٌ عَمَّتْ بِكُلِّ لِسَانٍ وَصَاحِبُهُ تَنَّارٌ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ أَعْجَمِيًّا فَتُعَرِّبُهُ الْعَرَبُ فَيَصِيرُ عَرَبِيًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ تَنَّارٌ وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَنُّورٌ قَبْلَ هَذَا، وَنَظِيرُهُ مَا دَخَلَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ الدِّيبَاجُ وَالدِّينَارُ وَالسُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَارَتْ عَرَبِيَّةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا فَارَ التَّنُّورُ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَالْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الِاثْنَانِ هُمَا زَوْجَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: ٤٩] فَالسَّمَاءُ زَوْجٌ وَالْأَرْضُ زَوْجٌ وَالشِّتَاءُ زَوْجٌ وَالصَّيْفُ زَوْجٌ وَالنَّهَارُ زَوْجٌ وَاللَّيْلُ زَوْجٌ، وَتَقُولُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ زَوْجٌ وَهُوَ زَوْجُهَا قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاءِ: ١] يَعْنِي الْمَرْأَةَ، وَقَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: ٤٥] فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقَالُ لَهُ: زَوْجٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ومِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام: ١٤٣].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الزَّوْجَانِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ شَيْئَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى وَالتَّقْدِيرُ كُلُّ شَيْئَيْنِ هُمَا كَذَلِكَ فَاحْمِلْ مِنْهُمَا فِي السَّفِينَةِ اثْنَيْنِ وَاحِدٌ ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَلِذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ
347
وَأَرَادُوا حَمَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الذَّكَرُ زَوْجٌ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا اثْنَيْنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النَّحْلِ: ٥١] وَقَوْلِهِ: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٣] وَأَمَّا على القراءة المشهورة، فهذا السؤال غير وأراد وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غَيْرُ الْحَيَوَانِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَيَوَانُ فَدَاخِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَّا النَّبَاتُ فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ قَرِينَةِ الْحَالِ لَا يَبْعُدُ بِسَبَبِ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى النَّبَاتِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ،
وَجَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْتَطِعْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَسَدَ حَتَّى أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ الْأَسَدَ إِذَا حَمَلْتُهُ قَالَ تَعَالَى: «فَسَوْفَ أَشْغَلُهُ عَنِ الطَّعَامِ» فَسَلَّطَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ الْحُمَّى
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَوْلَى تَرْكُهَا، فَإِنَّ حَاجَةَ الْفِيلِ إِلَى الطَّعَامِ أَكْثَرُ وَلَيْسَ بِهِ حُمَّى. الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ اللَّه نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَمْلِهَا فِي السَّفِينَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قَالُوا: كَانُوا سَبْعَةً نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَلَاثَةُ أَبْنَاءٍ لَهُ وَهُمْ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَةٌ، وَقِيلَ أَيْضًا كَانُوا ثَمَانِيَةً، هَؤُلَاءِ وَزَوْجَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَالْمُرَادُ ابْنُهُ وَامْرَأَتُهُ وَكَانَا كَافِرَيْنِ، حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِنْسَانُ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا السَّبَبُ أَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْحَيَوَانَاتِ؟
قُلْنَا: الْإِنْسَانُ عَاقِلٌ وَهُوَ لِعَقْلِهِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى دَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، بِخِلَافِ السَّعْيِ فِي تَخْلِيصِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِ الْقَضَاءِ اللَّازِمِ وَالْقَدَرِ الْوَاجِبِ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بطن أمه».
[قوله تعالى وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ قَوْلُهُ: وَمَنْ آمَنَ قَالُوا كَانُوا ثَمَانِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْهَا، فَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَكَرُوا مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ وَمَا هُوَ أَنْقَصُ مِنْهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَدَخَلُوا فِي السَّفِينَةِ كَانُوا جَمَاعَةً فَلِمَ لَمْ يَقُلْ قَلِيلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٥٤].
قُلْنَا: كِلَا اللَّفْظَيْنِ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ هاهنا وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، فَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ السَّفِينَةَ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ جِسْمٌ نَارِيٌّ أَوْ هَوَائِيٌّ وَكَيْفَ يُؤَثِّرُ الْغَرَقُ فِيهِ، وَأَيْضًا كِتَابُ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَخَبَرٌ صَحِيحٌ مَا وَرَدَ فِيهِ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْخَوْضِ فِيهِ.
[سورة هود (١١) : آية ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
[في قوله تعالى وَقالَ ارْكَبُوا فِيها] أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ يَعْنِي نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ارْكَبُوا وَالرُّكُوبُ الْعُلُوُّ عَلَى ظَهْرِ الشَّيْءِ ومنه ركوب
348
الدَّابَّةِ وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ وَرُكُوبُ الْبَحْرِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ رَكِبَهُ، يُقَالُ رَكِبَهُ الدَّيْنُ قَالَ اللَّيْثُ: وَتُسَمِّي الْعَرَبُ مَنْ يَرْكَبُ السَّفِينَةَ رَاكِبَ السَّفِينَةِ. وَأَمَّا الرُّكْبَانُ وَالرَّكْبُ مَنْ رَكِبُوا الدَّوَابَّ وَالْإِبِلَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَفْظَةُ (فِي) فِي قَوْلِهِ: ارْكَبُوا فِيها لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِلَةِ الرُّكُوبِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ رَكِبْتُ السَّفِينَةَ وَلَا يُقَالُ رَكِبْتُ فِي السَّفِينَةِ، بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ مَفْعُولُ ارْكَبُوا مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ ارْكَبُوا الْمَاءَ فِي السَّفِينَةِ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي جَوْفِ الْفُلْكِ لَا عَلَى ظَهْرِهَا فَلَوْ قَالَ ارْكَبُوهَا: لَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عن عاصم مجريها بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَاتَّفَقُوا فِي مُرْسَاهَا أَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرأ مجاهد مَجْراها وَمُرْساها بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَجْرُورَيِ الْمَحَلِّ صِفَتَيْنِ للَّه تَعَالَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَجْرَى مَصْدَرٌ كَالْإِجْرَاءِ، وَمِثْلُهُ قوله: مُنْزَلًا مُبارَكاً [المؤمنون: ٢٩] وأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: ٨٠] وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ مَجْراها بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ، مِثْلُ الْجَرْيِ. وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ [هُودٍ: ٤٢] وَلَوْ كَانَ مُجْرَاهَا لَكَانَ وَهِيَ تُجَرِّيهِمْ، وَحُجَّةُ مَنْ ضَمَّ الْمِيمَ أَنَّ جَرَتْ بِهِمْ وَأَجْرَتْهُمْ يَتَقَارَبَانِ فِي المعنى، فإذا قال:
تَجْرِي/ بِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُجَرِّيهِمْ، وَأَمَّا الْمُرْسَى فَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ كَالْإِرْسَاءِ. يُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو إِذَا ثَبَتَ وَأَرْسَاهُ غَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النَّازِعَاتِ: ٣٢] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ تَجْرِي بِسْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ، وَتَرْسُو بِسْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ تَجْرِيَ بِهِمْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فَتَجْرِي، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَرْسُوَ قَالَ: بِسْمِ اللَّه مُرْسَاهَا فَتَرْسُو.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي عَامِلِ الْإِعْرَابِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: ارْكَبُوا بِسْمِ اللَّه، وَالثَّانِي: ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّه، وَالثَّالِثُ: بِسْمِ اللَّه إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا سَارَتْ لِأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَقِيلَ: لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، فَصَارَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَوَتْ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْجُودِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ:
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها كَلَامًا وأحدا، والتقدير: وقال اركبوا فيها بسم مجريها وَمُرْسَاهَا، يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَقْرُونًا بِهَذَا الذِّكْرِ.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا كَلَامَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالرُّكُوبِ، ثم أخبرهم بأن مجريها وَمُرْسَاهَا لَيْسَ إِلَّا بِسْمِ اللَّه وَأَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ.
فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا وَيَكُونُ فِي وَقْتِ الشُّرُوعِ فِيهِ ذَاكِرًا لِاسْمِ اللَّه تَعَالَى بِالْأَذْكَارِ الْمُقَدَّسَةِ حَتَّى يَكُونَ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الذِّكْرِ سَبَبًا لِتَمَامِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ أَخْبَرَ الْقَوْمَ بِأَنَّ السَّفِينَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ النَّجَاةِ بَلِ الْوَاجِبُ رَبْطُ الْهِمَّةِ وَتَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجِرِي وَالْمُرْسِي لِلسَّفِينَةِ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُعَوِّلُوا عَلَى السَّفِينَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَعْوِيلُكُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّه فَإِنَّهُ هُوَ الْمُجِرِي وَالْمُرْسِي لَهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقْتَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ، وعلى التقدير الثاني كان في مقام الكفر والبراءة
349
عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَاسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي نُورِ جَلَالِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَفَكَّرَ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ جَلَسَ فِي سَفِينَةِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمْوَاجُ الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ قَدْ عَلَتْ تِلْكَ الْجِبَالَ وَارْتَفَعَتْ إِلَى مَصَاعِدِ الْقِلَالِ، فَإِذَا ابْتَدَأَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَضَرُّعُهُ/ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْقَلْبِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ. يَقُولُ: بِسْمِ اللَّه مجريها وَمُرْسَاهَا حَتَّى تَصِلَ سَفِينَةُ فِكْرِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ وَتَتَخَلَّصَ عَنْ أَمْوَاجِ الضَّلَالَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ الْإِهْلَاكِ وَإِظْهَارِ الْقَهْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الذِّكْرُ؟
وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّا إِنَّمَا نَجَوْنَا بِبَرَكَةِ عِلْمِنَا فاللَّه تَعَالَى نَبَّهَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَجَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَنْوَاعِ الزَّلَّاتِ وَظُلُمَاتِ الشَّهَوَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ اللَّه وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَنْ يَكُونَ رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
واعلم أن قَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، فَرَكِبُوا فِيهَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّه وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ حُصُولِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْعَاصِفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: بَيَانُ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرَيَانُ فِي الْمَوْجِ، هُوَ أَنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ دَاخِلَ الْمَوْجِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَقَ، / فَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِالسَّفِينَةِ مِنَ الْجَوَانِبِ، شُبِّهَتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِمَا إِذَا جَرَتْ فِي داخل تلك الأمواج.
[في قوله تعالى ونادى نوح ابنه وكان في معزل] ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى ابْنَهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْنُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضا نص عليه فقال: يا بُنَيَّ وَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الِابْنِ لِهَذَا السَّبَبِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الظَّاهِرَ إِنَّمَا خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كَافِرًا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَوَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كافرا بنص القرآن، فكذلك هاهنا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] فَكَيْفَ نَادَاهُ مَعَ كُفْرِهِ؟
350
فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يُنَافِقُ أَبَاهُ فَظَنَّ نُوحٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلِذَلِكَ نَادَاهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَحَبَّ نَجَاتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَافِرٌ، لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ الْغَرَقَ وَالْأَهْوَالَ العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أَيْ تَابِعْهُمْ فِي الْكُفْرِ وَارْكَبْ مَعَنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ لَعَلَّهَا حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ النِّدَاءِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كَانَ كَالْمُجْمَلِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ
وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَيُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَرَأَ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهَا
وَالضَّمِيرُ لِامْرَأَتِهِ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَهَ بِفَتْحِ الْهَاءِ
يُرِيدُ أَنَّ ابْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمَا اكْتَفَيَا بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْهُ فَقَالَ: واللَّه مَا كَانَ ابْنَهُ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّه حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هُودٍ: ٤٥] وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا كَانَ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ مِنِّي وَلَكِنَّهُ قَالَ مِنْ أَهْلِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِي.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فَخَانَتَاهُمَا وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَجِبُ صَوْنُ مَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ. أما قوله تعالى: فَخانَتاهُما فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْخِيَانَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَا كَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ، فَقَالَ: / كَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ: زَوْجِي مَجْنُونٌ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ تَدُلُّ النَّاسَ عَلَى ضَيْفِهِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: ٢٦] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: ٣] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَقُولُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْزِلَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: مَوْضِعٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ. تَقُولُ: كُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنْ كَذَا، أَيْ بِمَوْضِعٍ قَدْ عُزِلَ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْزِلٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَبَلَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْغَرَقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَقَوْمِهِ: الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ فَظَنَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ أَحَبَّ مُفَارَقَتَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَنَقُولُ: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْوَجْهُ الْكَسْرُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ مِنِ ابْنٍ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ فَإِذَا صَغَّرْتَ أَلْحَقْتَ يَاءَ التَّحْقِيرِ، فَلَزِمَ أَنْ تَرُدَّ اللَّامَ الْمَحْذُوفَةَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تُحَرِّكَ يَاءَ التَّحْقِيرِ بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ لَكِنَّهَا لَا تُحَرَّكُ لِأَنَّهَا لَوْ حُرِّكَتْ لَزِمَ أَنْ تَنْقَلِبَ كَمَا تَنْقَلِبُ سَائِرُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ إِذَا كَانَتْ حُرُوفَ إِعْرَابٍ، نَحْوُ عَصًا وَقَفًا وَلَوِ انْقَلَبَتْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى التَّحْقِيرِ ثُمَّ أَضَفْتَ إِلَى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الْأُولَى: مِنْهَا لِلتَّحْقِيرِ. وَالثَّانِيَةُ:
لَامُ الْفِعْلِ. وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي لِلْإِضَافَةِ تَقُولُ: هَذَا بُنَيَّ فَإِذَا نَادَيْتَهُ صَارَ فِيهِ وَجْهَانِ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا وَالِاخْتِيَارُ
351
حَذْفُ الْيَاءِ الَّتِي لِلْإِضَافَةِ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ دَلَالَةً عَلَيْهِ نَحْوَ يَا غُلَامِ وَمَنْ قَرَأَ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْإِضَافَةَ أَيْضًا كَمَا أَرَادَهَا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ لَكِنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْكَسْرَةِ الْفَتْحَةَ وَمِنَ الْيَاءِ الْأَلِفَ تَخْفِيفًا فَصَارَ يَا بُنَيَّا كَمَا قَالَ:
يَا ابْنَةَ عَمَّا لَا تَلُومِي وَاهْجَعِي
ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ لِلتَّخْفِيفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ حَكَى عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ قَالَ:
سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُتَمَادِيًا فِي الْكُفْرِ مُصِرًّا عَلَيْهِ مُكَذِّبًا لِأَبِيهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ اللَّه مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ اسْتِثْنَاءُ الْمَعْصُومِ مِنَ الْعَاصِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ طُرُقًا كَثِيرَةً.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: ٤١] فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ مِنْ آفَةِ الْغَرَقِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ ابْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْطَأْتَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَالْمَعْنَى: إِلَّا ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْغَرَقِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ عَذَابِ اللَّه إِلَّا اللَّه الرَّحِيمُ وَتَقْدِيرُهُ: لَا فِرَارَ مِنَ اللَّه إِلَّا إِلَى اللَّه، وَهُوَ نَظِيرُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»
وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعقدِ» أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ مِنْ مُضْمَرٍ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ لِظُهُورِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَهُوَ كَقَوْلِكَ لَا نَضْرِبُ الْيَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تَضْرِبْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عليه فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا عاصِمَ أَيْ لَا ذَا عِصْمَةٍ كَمَا قَالُوا: رَامِحٌ وَلَابِنٌ وَمَعْنَاهُ ذُو رُمْحٍ، وَذُو لَبَنٍ وقال تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: ٦] وعِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] ومعناه ما ذكرنا فكذا هاهنا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْعَاصِمُ هُوَ ذُو الْعِصْمَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْصُومُ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ مِنْهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ عَنَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ نَفْسَهُ، لِأَنَّ نُوحًا وَطَائِفَتَهُ هُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّه تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَالْمُرَادُ: لَا عَاصِمَ لَكَ إِلَّا اللَّه بِمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ رَحْمَةُ اللَّه، كَمَا أُضِيفَ الْإِحْيَاءُ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السلام في قوله: وَأُحْيِ الْمَوْتى [آلِ عِمْرَانَ: ٤٩] لِأَجْلِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ بِدُعَائِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللَّه مَعْصُومٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النِّسَاءِ: ١٥٧] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ خَرَجَ مِنْ أن يخاطبه نوح فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
352

[سورة هود (١١) : آية ٤٤]

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَصْفٌ آخَرُ لِوَاقِعَةِ الطُّوفَانِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى أَمْرُ الطوفان قيل كذا وكذا يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ يُقَالُ بَلَعَ الْمَاءَ يَبْلَعُهُ بَلْعًا إِذَا شَرِبَهُ وَابْتَلَعَ الطَّعَامَ ابْتِلَاعًا إِذَا لَمْ يَمْضُغْهُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفَصِيحُ بَلِعَ بِكَسْرِ اللَّامِ يَبْلَعُ بِفَتْحِهَا وَيا سَماءُ أَقْلِعِي يُقَالُ أَقْلَعَ الرَّجُلُ عَنْ عَمَلِهِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ، وأقلعت السماء بعد ما مَطَرَتْ إِذَا أَمْسَكَتْ وَغِيضَ الْماءُ يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ غَيْضًا وَمَغَاضًا إِذَا نَقَصَ وَغِضْتُهُ أَنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ فَعَلَ الشَّيْءُ وَفَعَلْتُهُ أَنَا وَمِثْلُهُ جَبَرَ الْعَظْمُ وَجَبَرْتُهُ وَفَغَرَ الْفَمُ وَفَغَرْتُهُ، وَدَلَعَ اللِّسَانُ وَدَلَعْتُهُ، وَنَقَصَ الشَّيْءُ وَنَقَصْتُهُ، فَقَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ أَيْ نَقَصَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ كِبْرِيَائِهِ:
فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْجَلَالِ وَالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ مَتَى قِيلَ قِيلَ لَمْ يَنْصَرِفِ الْعَقْلُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الْفِكْرُ إِلَّا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ هُوَ هُوَ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ فِي الْعَالَمِينَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَّا هو. وثانيها: قوله:
يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فَإِنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّتِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِذَا شَعَرَ الْعَقْلُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ قَاهِرٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا مُتَصَرِّفٍ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَمَالِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ قَهْرِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ السماء والأرض من الجمادات فقوله: يا أَرْضُ وَيَا سَماءُ مُشْعِرٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ نَافِذٌ فِي الْجَمَادَاتِ فَعِنْدَ هَذَا يَحْكُمُ الْوَهْمُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ نَافِذًا عَلَى الْعُقَلَاءِ كَانَ أَوْلَى وَلَيْسَ مُرَادِي مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ الْجَمَادَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ تَوْجِيهَ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ عَلَى هَذِهِ الْجَمَادَاتِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ يُقَرِّرُ فِي الْوَهْمِ نَوْعَ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ تَقْرِيرًا كَامِلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ وَقَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ قَضَاءٌ جَزْمًا حَتْمًا فَقَدْ وَقَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ وَاقِعٌ فِي وَقْتِهِ وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ نَفَاذِ حُكْمِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُغْرِقَ الْأَطْفَالَ بِسَبَبِ جُرْمِ الْكُفَّارِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْغَرَقِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَغْرَقْ إِلَّا مَنْ بَلَغَ سِنُّهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَجِيبَةً قَاهِرَةً. وَيَبْعُدُ مَعَ ظُهُورِهَا اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِهْلَاكِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في أفعاله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَ الْأَطْفَالَ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الشَّدِيدَةِ.
353
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فَالْمَعْنَى وَاسْتَوَتِ السَّفِينَةُ عَلَى جَبَلٍ بِالْجَزِيرَةِ يُقَالُ لَهُ الْجُودِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ جَبَلًا مُنْخَفِضًا، فَكَانَ اسْتِوَاءُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى انْقِطَاعِ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللَّعْنِ وَالطَّرْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَسْلَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ قَوْمٍ من الظلمة فإذا هلكوا وَنَجَا مِنْهُمْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَجَعْلُهُ مِنْ كَلَامِ البشر أليق.
تم الجزء السابع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثامن عشر وأوله قوله تعالى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ من سورة هود. أعان اللَّه على إكماله
354
الجزء الثامن عشر
[تتمة سورة هود]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ابْنًا لَهُ أَمْ لَا فَلَا نُعِيدُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكَ.
وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ مَعَكَ وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقَرَابَةِ الدِّينِ لَا بِقَرَابَةِ النَّسَبِ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ/ كَانَتْ قَرَابَةُ النَّسَبِ حَاصِلَةً مِنْ أَقْوَى الْوُجُوهِ وَلَكِنْ لَمَّا انْتَفَتْ قَرَابَةُ الدِّينِ لَا جَرَمَ نَفَاهُ اللَّه تَعَالَى بِأَبْلَغِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قَرَأَ الكسائي: عمل على صيغة الفعل الماضي، وغير بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ابْنَكَ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ يَعْنِي أَشْرَكَ وَكَذَّبَ، وَكَلِمَةُ غَيْرُ نَصْبٌ، لِأَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَمَلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى السُّؤَالِ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ عَمَلٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ غَيْرُ صَالِحٍ، لِأَنَّ طَلَبَ نَجَاةِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ سَبَقَ الْحُكْمُ، الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي أَحَدًا مِنْهُمْ سُؤَالٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الِابْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَثُرَ عَمَلُهُ وَإِحْسَانُهُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ عِلْمٌ وَكَرَمٌ وُجُودٌ، فَكَذَا هاهنا لَمَّا كَثُرَ إِقْدَامُ ابْنِ نُوحٍ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَمَلٌ بَاطِلٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذُو عَمَلٍ بَاطِلٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أَيْ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا.
357
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَدَحَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ عَمَلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ إِمَّا إِلَى ابْنِ نُوحٍ وَإِمَّا إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ نُوحٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارٍ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضرورة هاهنا، لِأَنَّا إِذَا حَكَمْنَا بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى السُّؤَالِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ هَذَا الضَّمِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، أَيْ قَوْلُكَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي لِطَلَبِ نَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً.
الوجه الثاني: أن قوله: فَلا تَسْئَلْنِ نَهْيٌ لَهُ عَنِ السُّؤَالِ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ قَوْلُهُ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ فَكَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أن قوله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَانَ قَدْ صَدَرَ لَا عَنِ الْعِلْمِ، وَالْقَوْلُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ ذَنْبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٦٩].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ/ كَانَ مَحْضَ الْجَهْلِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّقْرِيعِ وَنِهَايَةِ الزَّجْرِ، وَأَيْضًا جَعْلُ الْجَهْلِ كِنَايَةً عَنِ الذَّنْبِ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النِّسَاءِ: ١٧] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٧].
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَرَفَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فإنه قال: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَاعْتِرَافُهُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُذْنِبًا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُوحًا نَادَى رَبَّهُ لِطَلَبِ تَخْلِيصِ وَلَدِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قوله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وقال: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا تَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ ابْنِهِ الْمُوَافَقَةَ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ طَلَبَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللَّه كَانَ سَابِقًا عَلَى طَلَبِهِ مِنَ الْوَلَدِ أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللَّه تَعَالَى سَابِقًا عَلَى طَلَبِهِ مِنَ الِابْنِ لَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّصُ ذَلِكَ الِابْنَ مِنَ الْغَرَقِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ الطلب، وبعد هذا كيف قال له: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الطَّلَبَ مِنَ الِابْنِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ الِابْنِ قَوْلَهُ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَظَهَرَ بِذَلِكَ كُفْرُهُ، فَكَيْفَ طَلَبَ مِنَ اللَّه تَخْلِيصَهُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ نُوحًا لَمَّا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَامْتَنَعَ هُوَ صَارَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّه تَخْلِيصَهُ مِنَ الْغَرَقِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَدَلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ
358
هَذَا الْعِتَابُ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سَابِقَةِ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْرِ: ١- ٣] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَجِيءَ نَصْرِ اللَّه وَالْفَتْحِ وَدُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّه أَفْوَاجًا لَيْسَتْ بِذَنْبٍ يُوجِبُ الِاسْتِغْفَارَ وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: ١٩] وَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ مُذْنِبِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ تَرْكِ لأفضل.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ تَسْأَلَنِّي وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ بِرِوَايَةِ قَالُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ/ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَحَذْفِ الْيَاءِ تَسْأَلْنِ أَمَّا التَّشْدِيدُ فَلِلتَّأْكِيدِ وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْيَاءِ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَأَمَّا تَرْكُ التَّشْدِيدِ وَالْحَذْفُ فَلِلتَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ إخلال.
[في قوله تعالى رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ السؤال حكى عنه أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تعالى لما قال له: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ قَبِلْتُ يَا رَبِّ هَذَا التَّكْلِيفَ، وَلَا أعوذ إِلَيْهِ إِلَّا أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ إِلَّا بِإِعَانَتِكَ وَهِدَايَتِكَ، فَلِهَذَا بَدَأَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ إِخْبَارٌ عَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالِاعْتِذَارِ عَمَّا مَضَى، فَقَالَ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَالثَّانِي: فِي الْمَاضِي وَهُوَ النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَنَخْتِمُ هَذَا الْكَلَامَ بِالْبَحْثِ عَنِ الزَّلَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَنَقُولُ: إِنَّ أُمَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَافِرٌ يَظْهَرُ كُفْرُهُ وَمُؤْمِنٌ يُعْلَمُ إِيمَانُهُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ النَّجَاةُ وَحُكْمُ الْكَافِرِينَ هُوَ الْغَرَقُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَبَقِيَ حُكْمُهُمْ مَخْفِيًّا وَكَانَ ابْنُ نُوحٍ مِنْهُمْ وَكَانَ يَجُوزُ فِيهِ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وَكَانَتِ الشَّفَقَةُ الْمُفْرِطَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْأَبِ فِي حَقِّ الِابْنِ تَحْمِلُهُ عَلَى حَمْلِ أَعْمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لَا عَلَى كَوْنِهِ كَافِرًا، بَلْ عَلَى الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، فَلَمَّا رَآهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقَوْمِ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ السَّفِينَةَ فَقَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ أَنَّ الصُّعُودَ عَلَى الْجَبَلِ يَجْرِي مَجْرَى الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ فِي أَنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ الْغَرَقِ، وَقَوْلُ نُوحٍ:
لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُقَرِّرُ عِنْدَ ابْنِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنَ ابْنِهِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَعِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ ظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِابْنَ مُؤْمِنٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَخْلِيصَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ إِمَّا بِأَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي السَّفِينَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَالزَّلَّةُ الصَّادِرَةُ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ فِي تَعْرِيفِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَكُفْرِهِ، بَلِ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، مَعَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا الْخَطَأُ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الزَّلَّةُ إِلَّا لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّادِرَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ باب الخطأ في الاجتهاد، واللَّه أعلم.
359

[سورة هود (١١) : آية ٤٨]

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ السَّفِينَةِ أَنَّهَا اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، فَهُنَاكَ قَدْ خَرَجَ نُوحٌ وَقَوْمُهُ مِنَ السَّفِينَةِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَزَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَوْلُهُ: اهْبِطْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّفِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْجَبَلِ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ بِالسَّلَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْبَرَكَةِ ثَانِيًا، أَمَّا الْوَعْدُ بِالسَّلَامَةِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابَ عَنْ زَلَّتِهِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود: ٤٧] وَهَذَا التَّضَرُّعُ هُوَ عَيْنُ التَّضَرُّعِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ تَوْبَتِهِ مِنْ زَلَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٣] فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحْتَاجًا إِلَى أَنْ بَشَّرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالسَّلَامَةِ من التهديد والوعيد فلما قيل له: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَكَارِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْغَرَقَ لَمَّا كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فعند ما خَرَجَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّفِينَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَكَانَ كَالْخَائِفِ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَعِيشُ وَكَيْفَ يَدْفَعُ جَمِيعَ الْحَاجَاتِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالسَّلَامَةِ أَرْدَفَهُ بِأَنْ وَعَدَهُ بِالْبَرَكَةِ هي عِبَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَالثَّبَاتِ، وَنِيلِ الْأَمَلِ، وَمِنْهُ بُرُوكُ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ الْبِرْكَةُ لِثُبُوتِ الْمَاءِ فِيهَا، وَمِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ ثَبَتَ تَعْظِيمُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَيَّرَ نُوحًا أَبَا الْبَشَرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بَقِيَ كَانُوا مِنْ نَسْلِهِ وَعِنْدَ هَذَا/ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ كُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلَمْ يَحْصُلِ النَّسْلُ إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مِنْ نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصَّافَّاتِ: ٧٧] فَثَبَتَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ آدَمَ الْأَصْغَرَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَرَكَاتِ الَّتِي وَعَدَهُ اللَّه بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَعَدَهُ بِأَنَّ مُوجِبَاتِ السَّلَامَةِ، وَالرَّاحَةِ وَالْفَرَاغَةِ يَكُونُ فِي التَّزَايُدِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَّفَهُ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَرَكَةِ شَرَحَ بَعْدَهُ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَقَالَ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ وَجَعَلَهُمْ أُمَمًا وَجَمَاعَاتٍ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا هُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَهُمْ أُمَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِمَّنْ مَعَكَ نَسْلًا وَتَوَلُّدًا قَالُوا: وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَقَدْ حَكَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْقِلَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هُودٍ: ٤٠] وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَجْمُوعُ الْحَاضِرِينَ مَعَ الَّذِينَ سَيُولَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى أُمَمٍ نَاشِئَةٍ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ عَطَفَهُمْ عَلَى نُوحٍ فِي وُصُولِ سَلَامِ اللَّه وَبَرَكَاتِهِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أُمَمٌ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُمَتِّعُهُمْ مُدَّةً فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَإِلَى كَافِرٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّلَامَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكُلُّ مُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَفِي ذَلِكَ الْعَذَابِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَظَّمَ شَأْنَ نُوحٍ بِإِيصَالِ السَّلَامَةِ وَالْبَرَكَاتِ مِنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: بِسَلامٍ مِنَّا وهدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ وَلَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ الْحَقِّ، وَفِي التَّحْقِيقِ يَكُونُ فَرَحُهُمْ بِالْحَقِّ وَطَلَبُهُمْ لِلْحَقِّ وَتَوَجُّهُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا خَوَاصُّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالسَّلَامَةِ والبركة مِنْ حَيْثُ هُمَا سَلَامَةٌ وَبَرَكَةٌ غَيْرٌ، وَالْفَرَحُ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَرَكَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مِنَ الْحَقِّ غَيْرٌ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ عَامَّةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالثَّانِي، وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ/ الْوُصُولِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِقَابِ فَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ نَصِيبًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى خَسَاسَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَذْكُرْ أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا أَمْ لَا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى خَسَاسَةِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَقَامَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ.
[سورة هود (١١) : آية ٤٩]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّفْصِيلِ قَالَ: تِلْكَ أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَتِلْكَ التَّفَاصِيلُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْخَلْقِ فَقَوْلُهُ:
تِلْكَ فِي مَحَلِّ الرفع على الابتداء، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الخبر ونُوحِيها إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا خَبَرٌ ثَالِثٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، بَلْ قَوْمُكَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا أَيْضًا، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ لِإِنْسَانٍ لَا تَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا أَنْتَ وَلَا أَهْلُ بَلَدِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ كَانَتْ قِصَّةُ طُوفَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؟
قُلْنَا: تِلْكَ الْقِصَّةُ بِحَسْبِ الْإِجْمَالِ كَانَتْ مَشْهُورَةً، أَمَّا التَّفَاصِيلُ الْمَذْكُورَةُ فَمَا كَانَتْ مَعْلُومَةً.
ثُمَّ قَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ اصْبِرْ أَنْتَ وَقَوْمُكَ عَلَى أَذَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ وَقَوْمُهُ عَلَى أَذَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَاقِبَتُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ كَمَا كَانَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَوْمِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ثُمَّ إِنَّهُ أَعَادَهَا هاهنا مَرَّةً أُخْرَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ: فَفِي السُّورَةِ الْأُولَى كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ نُوحٍ فِي بَيَانِ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَذَابَ مَا كَانَ يَظْهَرُ/ ثُمَّ فِي الْعَاقِبَةِ ظَهَرَ فَكَذَا فِي وَاقِعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْإِيحَاشِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ لِبَيَانِ أَنَّ إِقْدَامَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ كَانَ حَاصِلًا فِي زَمَانِ نُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَبَرَ نَالَ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكُنْ يَا مُحَمَّدُ كَذَلِكَ لِتَنَالَ الْمَقْصُودَ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرُهَا خاليا عن الفائدة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا معطوف على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الحديد: ٢٦] وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وَقَوْلُهُ: هُوداً عَطْفُ بَيَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هُودًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ مَا كَانَتْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ هُودًا كَانَ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ، وَهَذِهِ الْقَبِيلَةُ كَانَتْ قَبِيلَةً مِنَ الْعَرَبِ وَكَانُوا بِنَاحِيَةِ الْيَمَنِ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَا أَخَا تَمِيمٍ وَيَا أَخَا سُلَيْمٍ، وَالْمُرَادُ رَجُلٌ مِنْهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى، قَالَ فِي ابْنِ نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: ٤٦] فَبَيَّنَ أَنَّ قَرَابَةَ النِّسَبِ لَا تُفِيدُ إِذَا لم تحصل قرابة الدين، وهاهنا أَثْبَتَ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ فِي مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هُودًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ عَادٍ وَأَنَّ صَالِحًا كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَمُودَ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إلى التوحيد، فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ/ إِلَّا مُفْتَرُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ أَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ تَعَالَى؟
قُلْنَا: دَلَائِلُ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ دَلَائِلُ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَقَلَّمَا تُوجَدُ فِي الدُّنْيَا طَائِفَةٌ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْإِلَهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
قَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ رحمه اللَّه وختم له بالحسن، دَخَلْتُ بِلَادَ الْهِنْدِ فَرَأَيْتُ
أُولَئِكَ الْكُفَّارَ مُطْبِقِينَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ، وَأَكْثَرُ بِلَادِ التُّرْكِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهَا آفَةٌ عَمَّتْ أَكْثَرَ أَطْرَافِ الْأَرْضِ وَهَكَذَا الْأَمْرُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْقَدِيمِ، أَعْنِي زَمَانَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام، فكان قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَعْنَاهُ لَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّه وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَنْعُهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فقرىء غَيْرُهُ بِالرَّفْعِ صِفَةً عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَقُرِئَ بِالْجَرِّ صِفَةً عَلَى اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ تَحْسُنُ عِبَادَتُهَا، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً وَهِيَ جَمَادَاتٌ لَا حِسَّ لَهَا وَلَا إِدْرَاكَ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ الَّذِي رَكَّبَهَا وَصَوَّرَهَا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي صَنَعَهَا أَنْ يَعْبُدَهَا وَأَنْ يَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَى التُّرَابِ تَعْظِيمًا لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَرْشَدَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَمَنَعَهُمْ عَنْ عبادة الأوثان قال: ويا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَتْ مُطَهَّرَةً عَنْ دَنَسِ الطَّمَعِ، قَوِيَ تَأْثِيرُهَا فِي الْقَلْبِ.
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ يَعْنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنِّي مُصِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْمَنْعِ، كَأَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ.
[سورة هود (١١) : آية ٥٢]
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ دَعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: اسْتَغْفِرُوا: أَيْ سَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شِرْكِكُمْ ثُمَّ تُوبُوا مِنْ بَعْدِهِ بِالنَّدَمِ عَلَى ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إِلَى مِثْلِهِ ثُمَّ
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّكُمْ مَتَى فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فاللَّه تَعَالَى يُكْثِرُ النِّعَمَ عِنْدَكُمْ وَيُقَوِّيكُمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ النِّعَمِ»
وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرَادُ مِنَ السَّعَادَاتِ، فَإِنَّ النِّعَمَ إِنْ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ وَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً، إِلَّا أَنَّ الْحَيَوَانَ قَامَ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ أَيْضًا، أَمَّا إِذَا كَثُرَتِ النِّعْمَةُ وَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، فَهَهُنَا تَحْصُلُ غَايَةُ السَّعَادَةِ وَالْبَهْجَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً إِشَارَةٌ إِلَى تَكْثِيرِ النِّعَمِ لِأَنَّ مَادَّةَ حُصُولِ النِّعَمِ هِيَ الْأَمْطَارُ الْمُوَافِقَةُ، وَقَوْلُهُ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ جَامِعَةٌ فِي الْبِشَارَةِ بِتَحْصِيلِ السِّعَادَاتِ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا مُمْتَنِعَةٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ لِيَعْرِفَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمَخْفِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْقَوْمُ كَانُوا مَخْصُوصِينَ فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْكَمَالِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَسَاتِينَهُمْ وَمَزَارِعَهُمْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الطِّيبِ وَالْبَهْجَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الْفَجْرِ: ٧، ٨] وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فُصِّلَتْ: ١٥]، وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ مُفْتَخِرِينَ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ
بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعَدَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَاشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُقَوِّي حَالَهُمْ فِي هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ وَيَزِيدُهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً،
وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ هُودًا عَلَيْهِ السلام إليهم وكذبوه وَحَبَسَ اللَّه عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ: إِنْ آمَنْتُمْ باللَّه أَحْيَا اللَّه بِلَادَكُمْ وَرَزَقَكُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ فَفَسَّرُوا هَذِهِ الْقُوَّةَ بِالْمَالِ والولد، والشدة في الأعضاء، لأن كل ذلكم ما يَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ.
فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوِ اشْتَغَلْتُمْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى لَانْفَتَحَتْ عَلَيْكُمْ أَبْوَابُ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ»
فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ بِسَبَبِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ، لِأَجْلِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ بَلْ هُوَ طَرِيقٌ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرَ التَّرْغِيبَ فِي السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَمْ يُبْعِدِ التَّرْغِيبَ أَيْضًا فِي خَيْرِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ فَمَعْنَاهُ: لَا تُعْرِضُوا عَنِّي وَعَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَأُرَغِّبُكُمْ فِيهِ مُجْرِمِينَ أَيْ مُصِرِّينَ عَلَى إِجْرَامِكُمْ وَآثَامِكُمْ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ لِلْقَوْمِ، حَكَى أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ لَهُ وَهُوَ أَشْيَاءُ:
أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أَيْ بِحُجَّةٍ، وَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ بِجَهْلِهِمْ أَنْكَرُوهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَا جَاءَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَهَذَا أَيْضًا رَكِيكٌ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَتَرْكُهُمْ آلِهَتَهُمْ لَا يَكُونُ عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ بَلْ عَنْ حُكْمِ نَظَرِ الْعَقْلِ وَبَدِيهَةِ النفس. وثالثها: قوله: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِصْرَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْجُحُودِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يُقَالُ: اعْتَرَاهُ كَذَا إِذَا غَشِيَهُ وَأَصَابَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ شَتَمْتَ آلِهَتَنَا فَجَعَلَتْكَ مَجْنُونًا وَأَفْسَدَتْ عَقْلَكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ إلى قوله: وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١].
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الْعَظِيمِ وَقَالَ لَهُمْ: بَالِغُوا فِي عَدَاوَتِي وَفِي مُوجِبَاتِ إِيذَائِي، وَلَا تُؤَجِّلُونِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاثِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الْأَعْدَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّاصِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْبَتُ الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيُسَمَّى الشِّعْرُ النَّابِتُ هُنَاكَ نَاصِيَةً بَاسِمِ مَنْبَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا وَصَفُوا إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ قَالُوا: مَا نَاصِيَةُ فُلَانٍ إِلَّا بِيَدِ فُلَانٍ، أَيْ أَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا الْأَسِيرَ فَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَهْرِهِ فَخُوطِبُوا فِي الْقُرْآنِ بِمَا يَعْرِفُونَ فَقَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَيْ مَا مِنْ حَيَوَانٍ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمُنْقَادٌ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَشْعَرَ ذَلِكَ بِقُدْرَةٍ عَالِيَةٍ وَقَهْرٍ عَظِيمٍ فَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِلَّا مَا هُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ وَالصَّوَابُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. الثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ سُلْطَانَهُ قَهَرَ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُسْتَتِرٌ، وَلَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ، فَذَكَرَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مَسْلَكٌ إِلَّا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: ١٤] الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه.
[سورة هود (١١) : آية ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي فَإِنْ تَتَوَلَّوْا ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ أُعَاتَبْ عَلَى تَقْصِيرٍ فِي الْإِبْلَاغِ وَكُنْتُمْ مَحْجُوبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ أَصْرَرْتُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ. الثَّانِي: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يَعْنِي يَخْلُقُ بَعْدَكُمْ مَنْ هُوَ أَطْوَعُ للَّه مِنْكُمْ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ إِهْلَاكَكُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: حَفِيظٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا. الثَّانِي: يَحْفَظُنِي مِنْ شَرِّكُمْ وَمَكْرِكُمْ. الثَّالِثُ: حَفِيظٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَحْفَظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ إِذَا شَاءَ وَيُهْلِكُهُ إذا شاء.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
365
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ عَذَابُنَا وَذَلِكَ هُوَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَذَّبَهُمُ اللَّه بِهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، تَدْخُلُ فِي مَنَاخِرِهِمْ وَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ وَتَصْرَعُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى وُجُوهِهِمْ حَتَّى صَارُوا كَأَعْجَازِ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الرِّيحُ كَيْفَ تُؤَثِّرُ فِي إِهْلَاكِهِمْ؟
قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ حَرِّهَا أَوْ لِشِدَّةِ بَرْدِهَا أَوْ لِشَدِّهِ قُوَّتِهَا، فَتَخْطَفُ الْحَيَوَانَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَضْرِبُهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَجَّيْنا هُوداً فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ إِتْيَانُ الْبَلِيَّةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَلَى الْكَافِرِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْبَلِيَّةُ رَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَذَابًا عَلَى الْكَافِرِ، فَأَمَّا الْعَذَابُ النَّازِلُ بِمَنْ يُكَذِّبُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُنَجِّيَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَ كَوْنُهُ عَذَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ اللَّه تَعَالَى هاهنا: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِرَحْمَةٍ مِنَّا فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو أَحَدٌ وَإِنِ اجْتَهَدَ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّه، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ: مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ باللَّه وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ رَحِمَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَيَّزَهُمْ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي الْعِقَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فَالْمُرَادُ مِنَ النَّجَاةِ الْأُولَى هِيَ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَالنَّجَاةُ الثَّانِيَةِ مِنْ عَذَابِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ كَانَ عَذَابًا غَلِيظًا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَجَّيْناهُمْ أَيْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْغَلِيظَ وَلَا يَقَعُونَ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ عَادٍ خَاطَبَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَتِلْكَ عادٌ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قُبُورِهِمْ وَآثَارِهِمْ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ أَوْصَافَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ عَاقِبَةَ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا أَوْصَافُهُمْ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ: جَحَدُوا دَلَالَةَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الصِّدْقِ، أَوِ الْجَحَدِ، وَدَلَالَةَ الْمُحْدَثَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا زَنَادِقَةً.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، فَقَدْ عَصَوْا جَمِيعَ الرُّسُلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] وَقِيلَ: لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّفَلَةَ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الرُّؤَسَاءَ فِي قَوْلِهِمْ:
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَبَّارِ الْمُرْتَفِعُ الْمُتَمَرِّدُ الْعَنِيدُ الْعَنُودُ وَالْمُعَانِدُ، وَهُوَ الْمُنَازِعُ الْمَعَارِضُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَهُمْ فَقَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
366
الْقِيامَةِ
أَيْ جُعِلَ اللَّعْنُ رَدِيفًا لَهُمْ، وَمُتَابِعًا وَمُصَاحِبًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى اللَّعْنَةِ الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمَكْرُوهَةِ بِهِمْ فَقَالَ: أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ قِيلَ: أَرَادَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فَحُذِفَ الْبَاءُ، وَقِيلَ: الْكُفْرُ هُوَ الْجَحْدُ فَالتَّقْدِيرُ: أَلَا إِنَّ عَادًا جَحَدُوا رَبَّهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: اللَّعْنُ هُوَ الْبُعْدُ، فَلَمَّا قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِعادٍ.
وَالْجَوَابُ: التَّكْرِيرُ بِعِبَارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّأْكِيدِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ.
الْجَوَابُ: كَانَ عَادٌ عَادَيْنَ، فَالْأُولَى: الْقَدِيمَةُ هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَالثَّانِيَةُ: هُمْ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْصِيصِ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقَصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قِصَّةُ صَالِحٍ مَعَ ثَمُودَ، وَنَظْمُهَا مِثْلُ النَّظْمِ المذكور في قصة هود، إلا أن هاهنا لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ دَلِيلَيْنِ:
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُلَّ مَخْلُوقُونَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَهُوَ كَانَ مَخْلُوقًا مِنَ الْأَرْضِ. وَأَقُولُ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ، وَالْمَنِيُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الدَّمِ، فَالْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةً وَإِمَّا نَبَاتِيَّةً، وَالْحَيَوَانَاتُ حَالُهَا كَحَالِ الْإِنْسَانِ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْكُلِّ إِلَى النَّبَاتِ وَظَاهِرٌ أَنَّ تَوَلُّدَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَنَا مِنَ الْأَرْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (مِنْ) مَعْنَاهَا فِي التَّقْدِيرِ: أَنْشَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَرْفِهِ عَنْهُ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ أَنَّ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، قَالُوا: كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، لَا جَرَمَ حَصَلَتْ لَهُمُ الْأَعْمَارُ الطَّوِيلَةُ فَسَأَلَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ زَمَانِهِمْ رَبَّهُ، مَا سَبَبُ تِلْكَ الْأَعْمَارِ؟ فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي، وَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ
فِي إِحْيَاءِ أَرْضٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ:
لَيْسَ الْفَتَى بِفَتًى لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ آثَارُ
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا وَاشْتِقَاقُ وَاسْتَعْمَرَكُمْ مِنَ الْعُمْرِ مِثْلَ اسْتَبْقَاكُمْ مِنَ الْبَقَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُمْرَى، أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ فَإِذَا مُتُّمُ انْتَقَلَتْ إِلَى غَيْرِكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ الْأَرْضِ قَابِلَةً لِلْعِمَارَاتِ النَّافِعَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ قَادِرًا عَلَيْهَا دَلَالَةً عَظِيمَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى:
٣] وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَاتِهِ الْعَقْلُ الْهَادِي وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْمُوَافِقَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ مُطَابِقَةٍ لِلْمَصَالِحِ مُوَافِقَةٍ لِلْمَنَافِعِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ يَعْنِي أَنَّهُ قَرِيبٌ بِالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ مُجِيبٌ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَجُلًا قَوِيَّ الْعَقْلِ قَوِيَّ الْخَاطِرِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُمْ وَيُقَوِّيَ مَذْهَبَهُمْ وَيُقَرِّرَ طَرِيقَتَهُمْ لِأَنَّهُ مَتَى حَدَثَ رَجُلٌ فَاضِلٌ فِي قَوْمٍ/ طَمِعُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ أَنَّكَ كُنْتَ تَعْطِفُ عَلَى فُقَرَائِنَا وَتُعِينُ ضُعَفَاءَنَا وَتَعُودُ مَرْضَانَا فَقَوِيَ رَجَاؤُنَا فِيكَ أَنَّكَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْأَحْبَابِ، فَكَيْفَ أَظْهَرْتَ الْعَدَاوَةَ وَالْبِغْضَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ التَّعَجُّبَ الشَّدِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَوُجُوبُ مُتَابِعَةِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّعَجُّبِ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ حَيْثُ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] ثُمَّ قَالُوا: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ وَالشَّكُّ هُوَ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُتَوَقِّفًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْمُرِيبُ هُوَ الَّذِي يُظَنُّ بِهِ السُّوءُ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِي اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةُ قَوْلِهِ وَقَوْلُهُ: مُرِيبٍ يَعْنِي أَنَّهُ تَرَجَّحَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَسَادُ قَوْلِهِ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تزييف كلامه.
[سورة هود (١١) : آية ٦٣]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَدَ بِحَرْفِ الشَّكِّ وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ تَامٍّ فِي أَمْرِهِ إِلَّا أَنَّ خِطَابَ الْمُخَالِفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبُ إِلَى الْقَبُولِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدِّرُوا أَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَأَنِّي نَبِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَانْظُرُوا أَنِّي إِنْ تَابَعْتُكُمْ وَعَصَيْتُ رَبِّي فِي أَوَامِرِهِ فَمَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّه فَمَا تَزِيدُونَنِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تُخْسِرُونَ أَعْمَالِي وَتُبْطِلُونَهَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَمَا تَزِيدُونَنِي بِمَا تَقُولُونَ لِي وَتَحْمِلُونِي عَلَيْهِ غَيْرَ أَنْ أُخْسِرَكُمْ أَيْ أَنْسُبُكُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ، وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّكُمْ خَاسِرُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [هود: ٦٣] كالدلالة
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ أَتْبَعْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ لَمْ أَزْدَدْ إِلَّا خُسْرَانًا فِي الدِّينِ فَأَصِيرَ مِنَ الهالكين الخاسرين.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
اعْلَمْ أَنَّ الْعَادَةَ فِيمَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ عِنْدَ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه ثُمَّ يُتْبِعَهُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ وَأَمْرُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا كَانَ
يُرْوَى أَنَّ قَوْمَهُ خَرَجُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَأَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَشَارُوا إِلَيْهَا نَاقَةً فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ كَمَا سَأَلُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي جَوْفِ الْجَبَلِ ثُمَّ شَقَّ عَنْهَا الْجَبَلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا حَامِلًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ، وَخَامِسُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلِكُلِّ الْقَوْمِ شِرْبُ يَوْمٍ آخَرَ،
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهَا لَبَنٌ كَثِيرٌ يَكْفِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُعْجِزٌ قَوِيٌّ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ آيَةً وَمُعْجِزَةً، فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُهُ.
ثُمَّ قَالَ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ عَنِ الْقَوْمِ مُؤْنَتَهَا، فَصَارَتْ مَعَ كَوْنِهَا آيَةً لَهُمْ تَنْفَعُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِلَبَنِهَا عَلَى مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ لَمَّا شَاهَدَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ،
فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُحِبُّ ظُهُورَ حُجَّةِ خَصْمِهِ، بل يسعى في إخفاءها وَإِبْطَالِهَا بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ يَخَافُ مِنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى قَتْلِهَا، فَلِهَذَا احْتَاطَ وَقَالَ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وَتَوَعَّدَهُمْ إِنْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ لَهُمْ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَقَرُوهَا وَذَبَحُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَقَرُوهَا لِإِبْطَالِ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهَا ضَيَّقَتِ الشُّرْبَ عَلَى الْقَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ رَغِبُوا فِي شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا، وَقَوْلُهُ: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ يُرِيدُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ/ الْقَوْمَ عَقَرُوهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: التَّلَذُّذُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَلَاذِّ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَمَّا كَانَ التَّمَتُّعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْحَيِّ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَقَوْلُهُ: فِي دارِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّارِ الْبَلَدُ، وَتُسَمَّى الْبِلَادُ بِالدِّيَارِ، لِأَنَّهُ يُدَارُ فِيهَا أَيْ يُتَصَرَّفُ يُقَالُ: دِيَارُ بَكْرٍ أَيْ بِلَادُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّيَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَرِدُ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ كَالْمَجْلُودِ وَالْمَعْقُولِ وبأيكم الْمَفْتُونُ، وَقِيلَ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ،
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمْهَلَهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، فَقَالُوا وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَصِيرُ وُجُوهُكُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُصْفَرَّةً، وَفِي الثَّانِي مُحْمَرَّةً، وَفِي الثَّالِثِ مُسْوَدَّةً، ثُمَّ يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ،
فَلَمَّا رَأَوْا وُجُوهَهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَاحْتَاطُوا وَاسْتَعَدُّوا لِلْعَذَابِ فَصَبَّحَهُمُ الْيَوْمُ الرَّابِعُ وَهِيَ الصَّيْحَةُ وَالصَّاعِقَةُ وَالْعَذَابُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ مُطَابِقَةً لِقَوْلِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ يَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ.
قُلْنَا: مَا دَامَتِ الْأَمَارَاتُ غَيْرَ بَالِغَةٍ إِلَى حَدِّ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ لَمْ يَمْتَنِعْ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا صَارَتْ يَقِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَالْإِيمَانُ فِي ذلك الوقت غير مقبول.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
اعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ خِزْيِ وَاوُ الْعَطْفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ/ التَّقْدِيرُ:
نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ وَمِنَ الْخِزْيِ الَّذِي لَزِمَهُمْ وَبَقِيَ الْعَارُ فِيهِ مَأْثُورًا عَنْهُمْ وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخِزْيِ الْعَيْبُ الَّذِي تَظْهَرُ فَضِيحَتُهُ وَيُسْتَحْيَا مِنْ مِثْلِهِ فَحُذِفَ مَا حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: نَجَّيْنَا صَالِحًا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ ونافع في رواية ورش وقالوا وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي الْمَعَارِجِ عَذَابِ يَوْمَئِذٍ [الْمَعَارِجِ: ١١] وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِيهِمَا فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَعَلَى أَنَّ يَوْمَ مُضَافٌ إِلَى إِذْ وَأَنَّ إِذْ مَبْنِيٌّ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمَبْنِيِّ يَجُوزُ جَعْلُهُ مَبْنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَافَ يَكْتَسِبُ من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا هاهنا، وَأَمَّا الْكَسْرُ فِي إِذْ فَالسَّبَبُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ تَقُولُ:
جِئْتُكَ إِذِ الشَّمْسُ طَالِعَةٌ، فَلَمَّا قُطِعَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نُوِّنَ لِيَدُلَّ التَّنْوِينُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كُسِرَتِ الذَّالُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّنْوِينِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ فَعَلَى إِضَافَةِ الْخِزْيِ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِيِّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِزْيُ الذُّلُّ الْعَظِيمُ حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الْفَضِيحَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا [الْمَائِدَةِ: ٣٣] وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ خِزْيًا لِأَنَّهُ فَضِيحَةٌ بَاقِيَةٌ يَعْتَبِرُ بِهَا أَمْثَالُهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِلَى الْكَافِرِ وَصَانَ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَنْهُ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْقَادِرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ طَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ بَلَاءً وَعَذَابًا وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ رَاحَةً وَرَيْحَانًا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: أَخَذَ وَلَمْ يَقُلْ أَخَذْتُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّيَاحِ، وَأَيْضًا فُصِلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِفَاصِلٍ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ لَهَا نَظَائِرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الصَّيْحَةِ وَجْهَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمُرَادُ الصَّاعِقَةُ الثَّانِي:
الصَّيْحَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ سَمِعُوهَا فَمَاتُوا أَجْمَعُ مِنْهَا فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مَوْتَى جَاثِمِينَ فِي دُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَجُثُومُهُمْ سُقُوطُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَصِيحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي مَاتُوا بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى خَلَقَهَا، وَالصِّيَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا الصَّوْتَ الْحَادِثَ فِي حَلْقٍ وَفَمٍ وَكَذَلِكَ الصُّرَاخُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ خَلَقَهُ فِي حَلْقِ حَيَوَانٍ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ حَصَلَ فِي فَمِهِ وَحَلْقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَوْتَ الرَّعْدِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ صَيْحَةٍ وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ وَلَا بِأَنَّهُ صُرَاخٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي كَوْنِ الصَّيْحَةِ مُوجِبَةً لِلْمَوْتِ؟
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ يُوجِبُ تَمَوُّجَ الْهَوَاءِ وَذَلِكَ التَّمَوُّجُ الشَّدِيدُ رُبَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى صِمَاخِ الْإِنْسَانِ فَيُمَزِّقُ غِشَاءَ الدِّمَاغِ فَيُورِثُ الْمَوْتَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيْءٌ مَهِيبٌ فَتَحْدُثُ الْهَيْبَةُ الْعَظِيمَةُ عِنْدَ حُدُوثِهَا وَالْأَعْرَاضُ النَّفْسَانِيَّةُ إِذَا قَوِيَتْ أَوْجَبَتِ الْمَوْتَ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِذَا حَدَثَتْ من السحاب فلا بد وأن يصحبها بَرْقٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّاعِقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجُثُومُ هُوَ السُّكُونُ يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا بَاتَتْ فِي أَوْكَارِهَا إِنَّهَا جَثَمَتْ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَوْتِ فَوَصَفَ اللَّه تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ بِأَنَّهُمْ سَكَنُوا عِنْدَ الْهَلَاكِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا أَحْيَاءً وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا، وَالْمَغْنَى الْمُقَامُ الَّذِي يُقِيمُ الْحَيُّ بِهِ يُقَالُ: غَنِيَ الرَّجُلُ بِمَكَانِ كَذَا إِذَا أَقَامَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَلا إِنَّ ثَمُودَ غَيْرَ مُنَوَّنٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ الباقون ثمودا بالتنوين ولثمود كِلَاهُمَا بِالصَّرْفِ، وَالصَّرْفُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْحَيِّ، أَوْ إِلَى الْأَبِ الْأَكْبَرِ وَمَنْعُهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى القبيلة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: دَخَلَتْ كَلِمَةُ «قد» هاهنا لِأَنَّ السَّامِعَ لِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَوَقَّعُ قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخت اللَّامُ فِي «لَقَدْ» لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَلَفْظُ رُسُلُنا جَمْعٌ/ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِحُصُولِ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فَقِيلَ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كَانُوا تِسْعَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كَانُوا
371
ثَلَاثَةً جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه فِي سُورَةِ وَالذَّارِيَاتِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذَّارِيَاتِ: ٢٤] وَفِي الْحِجْرِ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الْحِجْرِ: ٥١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبُشْرَى عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَا بَشَّرَهُ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَلَامَةِ لُوطٍ وَبِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَالُوا سِلْمٌ قَالَ سِلْمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَفِي وَالذَّارِيَاتِ مِثْلُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا قَالُوا حِلٌّ وَحَلَالٌ وَحَرَمٌ وَحَرَامٌ لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا سَلَّمُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سِلْمٌ خِلَافَ الْعَدُوِّ وَالْحَرْبِ كَأَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ تَنَاوُلِ مَا قَدَّمَهُ إِلَيْهِمْ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالَ إِنَّا سِلْمٌ وَلَسْتُ بِحَرْبٍ وَلَا عَدُوٍّ فَلَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِي كَمَا يُمْتَنَعُ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي بَعِيدٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ إِحْضَارِ الطَّعَامِ، إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا وُجِدَ قَبْلَ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: ٦٩] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَجِيئَهُ بِذَلِكَ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ كَانَ بَعْدَ ذِكْرِ السَّلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا سَلَامًا تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ تَقْدِيرُهُ: أَمْرِي سَلَامٌ، أَيْ لَسْتُ مُرِيدًا غَيْرَ السَّلَامَةِ وَالصُّلْحِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَجَاءَ بِهِ مَرْفُوعًا حِكَايَةً لِقَوْلِهِ كَمَا قَالَ: وَحُذِفَ عَنْهُ الْخَبَرُ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُفَ: ١٨] وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا الْحَذْفُ إِذَا كان المقصود معلوما بعد الحذف، وهاهنا الْمَقْصُودُ مَعْلُومٌ فَلَا جَرَمَ حَسُنَ الْحَذْفُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: ٨٩] عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، رِعَايَةً لِلْإِذْنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ جَعْلُ النَّكِرَةِ مُبْتَدَأً؟
قُلْنَا: النَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً جَازَ جَعْلُهَا مُبْتَدَأً، فَإِذَا قُلْتَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: فَالتَّنْكِيرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سَلَامٌ كَامِلٌ تَامٌّ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: ٤٧] وَقَوْلُهُ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: ٧٩] الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طَه: ٤٧] فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَاهِيَّةُ وَالْحَقِيقَةُ.
وَأَقُولُ: قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ في قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يُفِيدُ الْكَمَالَ وَالْمُبَالَغَةَ وَالتَّمَامَ. وَأَمَّا لَفْظُ السَّلَامِ: فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَاهِيَّةَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: سَلَامٌ
372
عَلَيْكُمْ فَيُعَرِّي قَوْلَهُ: سَلَامٌ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ والتنوين، والسبب في ذلك كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ أَبَاحَ هَذَا التَّخْفِيفَ، واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قَالُوا: مَكَثَ إِبْرَاهِيمُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ فَرَأَى أَضْيَافًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ، فَعَجَّلَ وَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَقَوْلُهُ: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه: فلما لَبِثَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ بَلْ عَجَّلَ فِيهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. أَمَّا الْحَنِيذُ: فَهُوَ الَّذِي يُشْوَى فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَحْنُوذٌ فِي الْأَصْلِ كَمَا قِيلَ: طَبِيخٌ وَمَطْبُوخٌ، وَقِيلَ: الْحَنِيذُ الَّذِي يَقْطُرُ دَسَمُهُ. يُقَالُ: حَنَذَتِ الْفَرَسُ إِذَا أَلْقَيْتَ عَلَيْهِ الْجُلَّ حَتَّى تَقْطُرَ عَرَقًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى قوله إِلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْ إِلَى الْعِجْلِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعِجْلُ نَكِرَهُمْ أَيْ أَنْكَرَهُمْ. يُقَالُ: نَكِرَهُ وَأَنْكَرَهُ وَاسْتَنْكَرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَضْيَافَ إِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنَ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا أَتَوْهُ فِي صُورَةِ الْأَضْيَافِ لِيَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُحِبُّهَا، وَهُوَ كَانَ مَشْغُوفًا بِالضِّيَافَةِ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَسَبَبُ خَوْفِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ بَعِيدٍ عَنِ النَّاسِ، فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ خَافَ أن يريدوا به مكروها، وثانيها: أَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِذَا حَضَرَ وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَإِنْ أَكَلَ حَصَلَ الْأَمْنُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ حَصَلَ الْخَوْفُ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى، / فَسَبَبُ خَوْفِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَمْرَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِأَمْرٍ أَنْكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ أَقْرَبُ وَأَظْهَرُ؟
قُلْنَا: أَمَّا الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى فَلَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَسَارَعَ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ مُمْتَنِعِينَ مِنَ الْأَكْلِ خَافَهُمْ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَدَلَّ بِتَرْكِ الْأَكْلِ عَلَى حُصُولِ الشَّرِّ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَآهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِمَنْ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْ بِأَيِّ سَبَبٍ أُرْسِلُوا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَزَالُوا ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْهُ فَقَالُوا: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَمَعْنَاهُ: أُرْسِلْنَا بِالْعَذَابِ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، لِأَنَّهُ أَضْمَرَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً [الذَّارِيَاتِ: ٣٢، ٣٣].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ يَعْنِي سَارَّةَ بِنْتَ آزَرَ بْنِ بَاحُورَا بِنْتَ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ:
قائِمَةٌ قِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ تَسْتَمِعُ إِلَى الرُّسُلِ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا خَافَتْ أَيْضًا. وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الْأَضْيَافَ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام جالس معهم، ويأكد هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّحِكِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى
373
نَفْسِ الضَّحِكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ سِوَى الضَّحِكِ. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْسِ الضَّحِكِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا لِمَ ضَحِكَتْ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي إِنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا فَرِحَتْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْخَوْفِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:
لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَعَظُمَ سُرُورُهَا بِسَبَبِ سُرُورِهِ بِزَوَالِ خَوْفِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ ضَحِكُهَا بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَخَفْ فَكَانَ كَالْبِشَارَةِ، فَقِيلَ لَهَا: نَجْعَلُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَتَيْنِ، فَكَمَا حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ بِزَوَالِ الْخَوْفِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ أَيْضًا بِحُصُولِ الْوَلَدِ الَّذِي كُنْتُمْ تَطْلُبُونَهُ مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَظِيمَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ الْخَبِيثِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِهْلَاكِهِمْ لَحِقَهَا السُّرُورُ فَضَحِكَتْ. الثَّالِثُ:
قَالَ السُّدِّيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ: أَلا تَأْكُلُونَ قَالُوا: / لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِالثَّمَنِ، فَقَالَ: ثَمَنُهُ أَنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ عَلَى آخِرِهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ لِمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «حُقَّ لِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا» فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ فَرَحًا مِنْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَارَّةَ قَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ وَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَتْرُكُ قَوْمَهُ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ، فَعِنْدَ تَمَامِ هَذَا الْكَلَامِ دَخَلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ صَارَ قَوْلُهُمْ مُوَافِقًا لِقَوْلِهَا، فَضَحِكَتْ لِشِدَّةِ سُرُورِهَا بِحُصُولِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ كَلَامِهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. الْخَامِسُ:
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَدَعَوْا رَبَّهُمْ بِإِحْيَاءِ الْعِجْلِ الْمَشْوِيِّ فَطَفَرَ ذَلِكَ الْعِجْلُ الْمَشْوِيُّ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِ إِلَى مَرْعَاهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمَةً فَضَحِكَتْ لَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْعِجْلَ الْمَشْوِيَّ قَدْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ تَعَجُّبًا مِنْ أَنَّ قَوْمًا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ. السَّابِعُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَشَّرُوهَا بِحُصُولِ مُطْلَقِ الْوَلَدِ فَضَحِكَتْ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنْتَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ السُّرُورِ. ثُمَّ لَمَّا ضَحِكَتْ بَشَّرَهَا اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ إِسْحَاقُ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ثَلَاثِ أَنْفُسٍ حَالَ مَا كَانَ مَعَهُ حَشَمُهُ وَخَدَمُهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ سُرُورًا بِسَبَبِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ فَقُدِّمَ الضَّحِكُ، وَمَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ. الثاني: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَضَحِكَتْ حَاضَتْ وَهُوَ منقول عن مجاهد وعكرمة قالا: ضحكت أَيْ حَاضَتْ عِنْدَ فَرَحِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَمَّا ظَهَرَ حَيْضُهَا بُشِّرَتْ بِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ هَذِهِ اللُّغَةُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ عَرَفَهَا غَيْرُهُمْ، حَكَى اللَّيْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضَحِكَتْ طَمِثَتْ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ ضِحَاكِ الطَّلْعَةِ يُقَالُ ضَحِكَتِ الطَّلْعَةُ إِذَا انْشَقَّتْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا زَوَائِدُ. وَإِنَّمَا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عاصم ويعقوب بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ أَمَّا وَجْهُ
374
النَّصْبِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: بَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَهَبْنَا لَهَا يَعْقُوبَ، وَأَمَّا وَجْهُ الرَّفْعِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ مَوْلُودٌ أَوْ مَوْجُودٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ وَرَاءَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ أَيْ بَعْدَ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَذَا ابْنُكَ، فَقَالَ نَعَمْ مِنَ الْوَرَاءِ، وَكَانَ وَلَدَ وَلَدِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي شديد التعسف، واللفظ كأنه ينبو عنه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
[في قوله تعالى قالت يا ويلتا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ أصل الويل وي وهو الخزي، ويقال: ويل فلان أَيْ خِزْيٌ لَهُ فَقَوْلُهُ وَيْلَكَ أَيْ خِزْيٌ لَكَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيْحَ زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِيهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ أَسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْحَ، وو يس، وو يك، وَوَيْهَ، وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا قوله: يا وَيْلَتى فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْأَلِفُ أَلِفُ النُّدْبَةِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَلِفُ فِي وَيْلَتَا مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ فِي يَا وَيْلَتى وَكَذَلِكَ فِي يَا لَهَفَا وَيَا عَجَبَا ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ الْأَلِفُ وَالْفَتْحَةُ، لِأَنَّ الْفَتْحَ وَالْأَلِفَ أَخَفُّ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو آلِدُ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يُوجِبُ الْكُفْرَ، بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهَا فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمَا بَيَانُ أَنَّ التَّعَجُّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَلِأَنَّ هَذَا التَّعَجُّبَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهَا بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكُفْرَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَعَجَّبَتْ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لَوْ أَخْبَرَهُ/ مُخْبِرٌ صَادِقٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْلِبُ هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا إِبْرِيزًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ نَظَرًا إِلَى أَحْوَالِ الْعَادَةِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ اسْتَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فَاعْلَمْ أَنَّ شَيْخًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ النَّحْوِ وَغَامِضِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ هَذَا لِلْإِشَارَةِ، فَكَأَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً قَائِمٌ مَقَامَ أَنْ يُقَالَ أُشِيرَ إِلَى بَعْلِي حَالَ كَوْنِهِ شَيْخًا، وَالْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهِيَ الشَّيْخُوخَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا بَعْلِي وَهُوَ شَيْخٌ، أَوْ بَعْلِي بَدَلٌ من المبتدأ وشيخ خَبَرٌ أَوْ يَكُونَانِ مَعًا خَبَرَيْنِ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ تَعَجُّبِهَا، ثُمَّ قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ وَتَقْدِيرُهُ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ مُتَكَاثِرَةٌ وَبَرَكَاتِهِ لَدَيْكُمْ مُتَوَالِيَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ، وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَالْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ وَالتَّوْفِيقُ لِلْخَيْرَاتِ الْعَظِيمَةِ فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّ اللَّه خَرَقَ الْعَادَاتِ فِي تَخْصِيصِكُمْ بِهَذِهِ
الْكَرَامَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ وَفِي إِظْهَارِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَإِحْدَاثِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ التَّعَجُّبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُمْ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ وَهُوَ الَّذِي تُحْمَدُ أَفْعَالُهُ، وَالْمَجِيدُ الْمَاجِدُ، وَهُوَ ذُو الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمِنْ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ إِيصَالُ الْعَبْدِ الْمُطِيعِ إِلَى مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَنْ لَا يُمْنَعَ الطَّالِبُ عَنْ مَطْلُوبِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَكَيْفَ يَبْقَى هَذَا التَّعَجُّبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هذه الكلمات إزالة التعجب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوْعَ هُوَ الْخَوْفُ/ وَهُوَ مَا أَوْجَسَ مِنَ الْخِيفَةِ حِينَ أَنْكَرَ أَضْيَافَهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا زَالَ الْخَوْفُ وَحَصَلَ السُّرُورُ بِسَبَبِ مَجِيءِ الْبُشْرَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ، أَخَذَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ وَجَوَابُ لَمَّا هُوَ قَوْلُهُ: أَخَذَ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ فِي اللَّفْظِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ جَادَلَنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يُجادِلُنا أَيْ يُجَادِلُ رُسُلَنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ إِنْ كَانَتْ مَعَ اللَّه تَعَالَى فَهِيَ جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّه، وَالْجَرَاءَةُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَفَرَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَهِيَ أَيْضًا عَجِيبَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنْ يَتْرُكُوا إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ يُجَادِلُونَ فِي هَذَا الْإِهْلَاكِ فَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِهِمْ.
وَإِنِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ بِأَمْرِ اللَّه جَاءُوا فَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا مُنْكَرٌ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَدَلُ مِنَ الذُّنُوبِ لَمَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ الْعَظِيمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَوَابُ التَّفْصِيلِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ سَعْيُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قالوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَثَلَاثُونَ قَالُوا لَا. حَتَّى بَلَغَ الْعَشْرَةَ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣١، ٣٢].
ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ
فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مُجَادَلَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي قَوْمِ لُوطٍ بِسَبَبِ مُقَامِ لُوطٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَنْ تَلْحَقَهُمْ رَحْمَةُ اللَّه بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ رجاء أنهم أَقْدَمُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ تِلْكَ الْمُجَادَلَاتُ/ بِسَبَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَ اللَّه وَرَدَ بِإِيصَالِ الْعَذَابِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ يَقْبَلُ التَّرَاخِيَ فَاصْبِرُوا مُدَّةً أُخْرَى، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْبَلُ الْفَوْرَ، وَقَدْ حَصَلَتْ هُنَاكَ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُقَرِّرُ مَذْهَبَهُ بِالْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ فَحَصَلَتِ الْمُجَادِلَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ لَفْظِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَكَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ هَلْ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْقَوْمِ أَمْ لَا فَحَصَلَتِ الْمُجَادَلَةُ بِسَبَبِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ نَرَى الْعُلَمَاءَ فِي زَمَانِنَا يُجَادِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ القدح في واحد منها فكذا هاهنا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَهَذَا مَدْحٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ، أَمَّا الْحَلِيمُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَجَّلُ بِمُكَافَأَةِ غَيْرِهِ، بَلْ يَتَأَنَّى فِيهِ فَيُؤَخِّرُ وَيَعْفُو وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ مِنْ غَيْرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جِدَالَهُ كَانَ فِي أَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحِلْمِ وَتَأْخِيرِ الْعِقَابِ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَتَأَوَّهُ إِذَا شَاهَدَ وُصُولَ الشَّدَائِدِ إِلَى الْغَيْرِ فَلَمَّا رَأَى مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ عَظُمَ حُزْنُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَتَأَوَّهُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُنِيبٌ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّفَقَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُنِيبُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّه فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ غَيْرِهِ فِي الشَّدَائِدِ فَأَنْ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ نَفْسِهِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى وَلَا طَرِيقَ إِلَى صَوْنِ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ اللَّه إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَوَجَبَ فِيمَنْ هذا شأنه يكون منيبا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَهُ: اتْرُكْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ لِأَنَّهُ/ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِإِيصَالِ هَذَا الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَإِذَا لَاحَ وَجْهُ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ فَلِذَلِكَ أَمَرُوهُ بِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِمَاذَا جَاءَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، أَيْ عَذَابٌ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِالْوَلَدِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: انْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ وَبَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَرْبَعُ فَرَاسِخَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ عَلَى صُورَةِ شَبَابٍ مُرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَكَانُوا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَلَمْ يَعْرِفْ لُوطٌ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه وَذَكَرُوا فِيهِ سِتَّةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَخَافَ عَلَيْهِمْ خُبْثَ قَوْمِهِ وَأَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ.
الثَّانِي: سَاءَهُ مَجِيئُهُمْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَجِدُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّ ضِيَافَتِهِمْ. وَالثَّالِثُ: سَاءَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَهُ مَنَعُوهُ مِنْ إِدْخَالِ الضَّيْفِ دَارَهُ. الرَّابِعُ: سَاءَهُ مَجِيئُهُمْ، لِأَنَّهُ عَرَفَ بِالْحَذَرِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود: ٧٨] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ أَلْفَاظٌ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهَا:
اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: سِيءَ بِهِمْ وَمَعْنَاهُ سَاءَ مَجِيئُهُمْ وَسَاءَ يَسُوءُ فِعْلٌ لَازِمٌ مُجَاوِزٌ يُقَالُ سُؤْتُهُ فَسِيءَ مِثْلُ شَغَلْتُهُ فَشُغِلَ وَسَرَرْتُهُ فَسُرَّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ سُوِّئَ بِهِمْ إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ سُكِّنَتْ وَنُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إِلَى السين.
واللفظ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الذَّرْعُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الطَّاقَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبَعِيرُ يَذْرَعُ بِيَدَيْهِ فِي سَيْرِهِ ذَرْعًا عَلَى قَدْرِ سِعَةِ خُطْوَتِهِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ طَاقَتِهِ ضَاقَ ذَرْعُهُ عَنْ ذَلِكَ فَضَعُفَ وَمَدَّ عُنُقَهُ، فَجُعِلَ ضِيقُ الذَّرْعِ عِبَارَةً عَنْ قَدْرِ الوسع والطاقة. فيقال: مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي بِهِ طَاقَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الذِّرَاعَ فِي مَوْضِعِ الذَّرْعِ فَيَقُولُونَ ضِقْتُ بِالْأَمْرِ ذِرَاعًا.
وَاللَّفْظُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أَيْ يَوْمٌ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٨ الى ٨٠]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَتِ الْمَلَائِكَةُ دَارَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَضَتِ امْرَأَتُهُ عَجُوزُ السُّوءِ فَقَالَتْ لِقَوْمِهِ دَخَلَ دَارَنَا قَوْمٌ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ وُجُوهًا وَلَا أَنْظَفَ ثِيَابًا ولا أطيب رائحة منهم ف جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أَيْ يُسْرِعُونَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِسْرَاعَهُمْ رُبَّمَا كَانَ لِطَلَبِ الْعَمَلِ الْخَبِيثِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ نُقِلَ أَنَّ الْقَوْمَ دَخَلُوا دَارَ لُوطٍ وَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَهُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يُطِيقُوا فَتْحَهُ حَتَّى كَسَرُوهُ، فَمَسَحَ أَعْيُنَهُمْ بِيَدِهِ فَعَمُوا، فَقَالُوا: يَا لُوطُ قَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْنَا السَّحَرَةَ وَأَظْهَرْتَ الْفِتْنَةَ. وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي يُهْرَعُونَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مَا جَاءَتْ صِيغَةُ الْفَاعِلِ فِيهِ عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فَاعِلٌ نَحْوُ: أُولِعَ فُلَانٌ فِي الْأَمْرِ، وَأُرْعِدَ زَيْدٌ، وَزُهِيَ عَمْرٌو مِنَ الزَّهْوِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْفَاعِلِ عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ حُذِفَ فَاعِلُوهَا فَتَأْوِيلُ أُولِعَ زَيْدٌ أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهيا وأهرع مَعْنَاهُ أَهْرَعَهُ خَوْفُهُ أَوْ حِرْصُهُ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِهْرَاعُ هُوَ الْإِسْرَاعُ مَعَ الرِّعْدَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بناته لصلبه.
378
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ نِسَاءُ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ بَنَاتٌ وَلَهُنَّ إِضَافَةٌ إِلَيْهِ بِالْمُتَابَعَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ. قَالَ أَهْلُ النَّحْوِ: يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا لَهُمْ فَكَانَ كَالْأَبِ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٦] وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى عَرْضِ بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ؟
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَبَنَاتُهُ اللَّوَاتِي مِنْ/ صُلْبِهِ لَا تَكْفِي لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ. أَمَّا نِسَاءُ أُمَّتِهِ فَفِيهِنَّ كِفَايَةٌ لِلْكُلِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ، وَهُمَا: زَنْتَا، وَزَعُورَا، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْبَنَاتِ عَلَى الْبِنْتَيْنِ لَا يَجُوزُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَعِ ثَلَاثَةٌ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا دَعَا الْقَوْمَ إِلَى الزِّنَا بِالنُّسْوَانِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّزَوُّجِ بِهِنَّ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْإِيمَانَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُؤْمِنَةِ مِنَ الْكَافِرِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ مِنْ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ مُشْرِكًا وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١] وَبِقَوْلِهِ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [الْبَقَرَةِ: ٢٢١] وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: كَانَ لَهُ بِنْتَانِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرَ الِاثْنَتَيْنِ بلفظ الجمع، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النِّسَاءِ: ١١] فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَقِيلَ: إِنَّهُنَّ كُنَّ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ طَاهِرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَلِأَنَّهُ لَا طَهَارَةَ فِي نِكَاحِ الرَّجُلِ، بَلْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى قَوْلِنَا: اللَّه أَكْبَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَبِيرٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصَّافَّاتِ: ٦٢] وَلَا خَيْرَ فِيهَا
ولما قال أبو سفيان: اعل أحدا واعل هُبَلُ قَالَ النَّبِيُّ:
«اللَّه أَعْلَى وَأَجَلُّ»
وَلَا مُقَارَبَةَ بَيْنَ اللَّه وَبَيْنَ الصَّنَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالْحَسَنِ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قوله تعالى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ قَالُوا لَوْ قُرِئَ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ كَانَ هَذَا نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ «هُنَّ» قَدْ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ أَطْهَرُ حَالًا وَطَوَّلُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَلَا تُخْزُونِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا لِلتَّخْفِيفِ وَدَلَالَةِ الْكَسْرِ عليه.
المسألة الثانية: في لفظ لا تُخْزُونِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تَفْضَحُونِي فِي أَضْيَافِي، يُرِيدُ أَنَّهُمْ إِذَا هَجَمُوا عَلَى أَضْيَافِهِ بِالْمَكْرُوهِ لَحِقَتْهُ الْفَضِيحَةُ. وَالثَّانِي: لَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَيْ لَا تُخْجِلُونِي فِيهِمْ، لِأَنَّ مُضِيفَ الضَّيْفِ يَلْزَمُهُ الْخَجَالَةُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ قَبِيحٍ يُوصَلُ إِلَى الضَّيْفِ يُقَالُ: خَزِيَ الرَّجُلُ إِذَا اسْتَحْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضيف هاهنا قَائِمٌ مَقَامَ الْأَضْيَافِ، كَمَا قَامَ الطِّفْلُ مَقَامَ الْأَطْفَالِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ
379
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا
[النُّورِ: ٣١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ مَصْدَرًا فَيُسْتَغْنَى عَنْ جَمْعِهِ كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ صُوَّمٌ. ثُمَّ قَالَ: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ أَيْ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَرُدُّ هَؤُلَاءِ الْأَوْبَاشَ عَنْ أَضْيَافِي. وَالثَّانِي: رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشَدٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَيْسَ فِيكُمْ رَجُلٌ أَرْشَدَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى الصَّلَاحِ. وَأَسْعَدَهُ بِالسَّدَادِ وَالرَّشَادِ حَتَّى يَمْنَعَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَاجَةٍ وَلَا شَهْوَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِيهِ نَوْعُ حَقٍّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ نَفْيُ الْحَقِّ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْحَاجَةِ. الثَّانِي: أَنْ نُجْرِيَ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَنَقُولَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ لَسْنَ لَنَا بِأَزْوَاجٍ وَلَا حَقَّ لَنَا فِيهِنَّ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَمِيلُ أَيْضًا طَبْعُنَا إِلَيْهِنَّ فَكَيْفَ قِيَامُهُنَّ مَقَامَ الْعَمَلِ الَّذِي نُرِيدُهُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْخَبِيثِ. الثَّالِثُ: مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ لِأَنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى نِكَاحِهِنَّ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَنَحْنُ لَا نُجِيبُكَ إِلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَنَا فِيهِنَّ حَقٌّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ «لَوْ» مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: لَمَنَعْتُكُمْ وَلَبَالَغْتُ فِي دَفْعِكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَامِ:
٢٧] قَالَ الواحدي وحذف الجواب هاهنا لِأَنَّ الْوَهْمَ يَذْهَبُ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَنْعِ وَالدَّفْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَيْ لَوْ أَنَّ لِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَيْكُمْ وَتَسْمِيَةُ مُوجِبِ الْقُوَّةِ بِالْقُوَّةِ جَائِزٌ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الْأَنْفَالِ: ٦٠] وَالْمُرَادُ السِّلَاحُ، وَقَالَ آخَرُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الْمَنِيعُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرُّكْنِ الشَّدِيدِ مِنَ الْجَبَلِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْوَجْهُ هاهنا فِي عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ؟
قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ أَوْ آوِي بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ عَلَى فَائِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً كَوْنُهُ بِنَفْسِهِ قَادِرًا عَلَى الدَّفْعِ وَكَوْنُهُ مُتَمَكِّنًا إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ عَلَى قَهْرِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: / أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَصُّنِ بِحِصْنٍ لِيَأْمَنَ مِنْ شَرِّهِمْ بِوَاسِطَتِهِ. الثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ سَفَاهَةَ الْقَوْمِ وَإِقْدَامَهُمْ عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ تَمَنَّى حُصُولَ قُوَّةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى الدَّفْعِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: بَلَى الْأَوْلَى أَنْ آوِيَ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِعِنَايَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّه أَخِي لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى ركن شديد».
[سورة هود (١١) : آية ٨١]
قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
380
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: ٨٠] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقَلَقِ وَالْحُزْنِ بِسَبَبِ إِقْدَامِ أُولَئِكَ الْأَوْبَاشِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَضِيحَةَ فِي حَقِّ أَضْيَافِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْحَالَةَ بَشَّرُوهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبِشَارَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّه. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا هَمُّوا بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّيهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ رُكْنَكَ شَدِيدٌ وَإِنَّ نَاصِرَكَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَحَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ،
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَافْتَحِ الْبَابَ فَدَخَلُوا فَضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ وُجُوهَهُمْ فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَأَعْمَاهُمْ فَصَارُوا لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ،
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [الْقَمَرِ: ٣٧] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أَيْ بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ فَإِنَّا نُحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فَاسْرِ مَوْصُولَةً وَالْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ سَرَيْتُ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَيْتُ وَأَنْشَدَ حَسَّانُ:
أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي
فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فَمَنْ قَرَأَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَمَنْ وَصَلَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ: ٤] وَالسُّرَى السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ. يُقَالُ: سَرَى يَسْرِي إِذَا سَارَ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَى بِفُلَانٍ إِذَا سِيرَ بِهِ بِاللَّيْلِ، وَالْقِطْعُ مِنَ اللَّيْلِ بَعْضُهُ وَهُوَ مِثْلُ الْقِطْعَةِ، يُرِيدُ اخْرُجُوا لَيْلًا لِتَسْبِقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي مَوْعِدُهُ الصُّبْحُ. قَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّه بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُطِعَ بِنِصْفَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ نَهَى مَنْ مَعَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالِالْتِفَاتُ نَظَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ فِي الْبَلْدَةِ أَمْوَالٌ وَأَقْمِشَةٌ وَأَصْدِقَاءُ، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا وَيَتْرُكُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَطْعَ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ يُرَادُ مِنْهُ الِانْصِرَافُ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا [يُونُسَ: ٧٨] أَيْ لِتَصْرِفَنَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ النَّهْيُ عَنِ التَّخَلُّفِ.
ثُمَّ قَالَ: إِلَّا امْرَأَتَكَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
مَنْ نَصَبَ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَقَدْ جَعَلَهَا مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْأَهْلِ عَلَى مَعْنَى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ وَالَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَأَسْقَطَ قَوْلَهُ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَفَعُوا فَالتَّقْدِيرُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُوجِبُ أَنَّهَا أُمِرَتْ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لَا يَقُمْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لِزَيْدٍ بِالْقِيَامِ.
وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: معنى إِلَّا هاهنا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ عَلَى مَعْنَى، لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد،
381
لَكِنِ امْرَأَتُكَ تَلْتَفِتُ فَيُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَإِذَا ان هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا كَانَ الْتِفَاتُهَا مَعْصِيَةً وَيَتَأَكَّدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ مَعَ لُوطٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ فَلَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْعَذَابَ الْتَفَتَتْ وَقَالَتْ يَا قَوْمَاهُ فَأَصَابَهَا حَجَرٌ فَأَهْلَكَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَقْوَى، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ تَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِهَا مَعَ أَهْلِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْأَهْلِ كَأَنَّهُ أَمَرَ لُوطًا بِأَنْ يَخْرُجَ بِأَهْلِهِ وَيَتْرُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ مَعَ الْهَالِكِينَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا أَقْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ يَبْقَى الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا/ وَمَعَ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ يَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُصِيبُهَا ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَهُمْ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ روي أنهم لما قالوا لوط عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قَالَ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ بَلِ السَّاعَةَ فَقَالُوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ بِأَهْلِهِ في الليل.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْأَمْرِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. الثَّانِي: أَنَّ الأمر لا يمكن حمله هاهنا عَلَى الْعَذَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَهَذَا الْجَعْلُ هُوَ الْعَذَابُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرْطٌ وَالْعَذَابُ جَزَاءٌ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ الْجَزَاءِ، فَهَذَا الْأَمْرُ غَيْرُ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هُودٍ: ٧٠] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَبِإِيصَالِ هَذَا الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ يُخَرِّبُوا تِلْكَ الْمَدَائِنَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ التَّكْلِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلُوا عَالِيَهَا سَافِلَهَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَنَا. وَأَيْضًا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَبِقُدْرَتِهِ، فَلَمْ يَبْعُدْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا تَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ، فَقَدْ تَحْسُنُ أَيْضًا إِضَافَتُهُ إِلَى السَّبَبِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ هاهنا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَذَابَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيُحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَالْمَعْنَى: وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ عَذَابِنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.
382
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ قَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:
جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ الْوَاحِدَ تَحْتَ مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطِ وَقَلَعَهَا وَصَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نَهِيقَ الْحَمِيرِ وَنُبَاحَ الْكِلَابِ وَصِيَاحَ الدُّيُوكِ، وَلَمْ تَنْكَفِئْ لَهُمْ جَرَّةٌ وَلَمْ يَنْكَبَّ لَهُمْ إِنَاءٌ، ثُمَّ قَلَبَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَهَا عَلَى الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ كَانَ مُعْجِزَةً قَاهِرَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَلْعَ الْأَرْضِ وَإِصْعَادَهَا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ضَرْبَهَا مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ عَلَى الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ تَتَحَرَّكْ سَائِرُ الْقُرَى الْمُحِيطَةِ بِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَمْ تَصِلِ الْآفَةُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِهِ مَعَ قُرْبِ مَكَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ أَيْضًا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وَاخْتَلَفُوا فِي السِّجِّيلِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَارِسِيٌّ معرب وأصله سنگ گل وَأَنَّهُ شَيْءٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَجَرِ وَالطِّينِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الصَّلَابَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
لَمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ صَارَ عَرَبِيًّا وَقَدْ عَرَّبَتْ حُرُوفًا كَثِيرَةً كَالدِّيبَاجِ وَالدِّيوَانِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. وَالثَّانِي: سِجِّيلٌ، أَيْ مِثْلُ السَّجْلِ وَهُوَ الدَّلْوُ الْعَظِيمُ. وَالثَّالِثُ: سِجِّيلٌ، أَيْ شَدِيدٌ مِنَ الْحِجَارَةِ. الرَّابِعُ: مُرْسَلَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْجَلْتُهُ إِذَا أَرْسَلْتَهُ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْهُ. الْخَامِسُ: مِنْ أَسْجَلْتُهُ، أَيْ أَعْطَيْتُهُ تَقْدِيرُهُ مِثْلُ الْعَطِيَّةِ فِي الْإِدْرَارِ، وَقِيلَ: كَانَ كُتِبَ عَلَيْهَا أَسَامِي الْمُعَذَّبِينَ. السَّادِسُ: وَهُوَ مِنَ السِّجِلِّ وَهُوَ الْكِتَابُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَكْتُوبٍ فِي الْأَزَلِ أَيْ كَتَبَ اللَّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا، وَالسِّجِّيلُ أُخِذَ مِنَ السَّجْلِ وَهُوَ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ الْمُفَاخِرَةُ. وَالسَّابِعُ: مِنْ سِجِّيلٍ أَيْ مِنْ جَهَنَّمَ أُبْدِلَتِ النُّونُ لَامًا، وَالثَّامِنُ: مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَتُسَمَّى سِجِّيلًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَالتَّاسِعُ: السِّجِّيلُ الطِّينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذَّارِيَاتِ: ٣٣] وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. قَالَ الْحَسَنُ كَانَ أَصْلُ الْحَجَرِ هُوَ مِنَ الطِّينِ، إِلَّا أَنَّهُ صَلُبَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَالْعَاشِرُ: سِجِّيلٌ مَوْضِعُ الْحِجَارَةِ، وَهِيَ جِبَالٌ مَخْصُوصَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: ٤٣].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْحِجَارَةَ بِصِفَاتٍ:
فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا مِنْ سِجِّيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْضُودٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنَ النَّضْدِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فِي النُّزُولِ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ فَإِنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ مَنْضُودٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَمُلْتَصِقٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَلَقَهَا فِي مَعَادِنِهَا وَنَضَّدَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَعَدَّهَا لِإِهْلَاكِ الظَّلَمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْضُودٍ صِفَةٌ لِلسِّجِّيلِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مُسَوَّمَةً، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةٌ لِلْأَحْجَارِ وَمَعْنَاهَا الْمُعَلَّمَةُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤] وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْعَلَامَةِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ عَلَيْهَا أَمْثَالُ الْخَوَاتِيمِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ صَالِحٍ: رَأَيْتُ مِنْهَا عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ حِجَارَةً فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْجِزْعِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ عَلَيْهَا سِيمَا لَا تُشَارِكُ حِجَارَةَ الْأَرْضِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلْعَذَابِ. الرَّابِعُ: قَالَ الرَّبِيعُ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّكَ أَيْ فِي خَزَائِنِهِ الَّتِي لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا هُوَ.
383
ثُمَّ قَالَ: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْمِيهِمْ بِهَا.
عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: يَعْنِي عَنْ ظَالِمِي أُمَّتِكَ، مَا مِنْ ظَالِمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ بِمَعْرِضِ حَجَرٍ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَما هِيَ لِلْقُرَى. أَيْ وَمَا تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ بِبَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَى كَانَتْ فِي الشَّأْمِ، وهي قريب من مكة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَدِينَ اسْمُ ابْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ مَدِينَةٍ بَنَاهَا مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَحُذِفَ الْأَهْلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَشْرَعُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَلِهَذَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ يَشْرَعُونَ فِي الْأَهَمِّ ثُمَّ الْأَهَمِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَادُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ الْبَخْسَ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْعَادَةِ فَقَالَ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَالنَّقْصُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيفَاءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَيَنْقُصُونَ مِنْ قَدْرِهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الِاسْتِيفَاءُ فَيَأْخُذُونَ أَزْيَدَ مِنَ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ حَقِّ الْغَيْرِ، وَفِي الْقِسْمَيْنِ حَصَلَ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنْ غَلَاءِ السِّعْرِ وَزَوَالِ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكُوا هَذَا التَّطْفِيفَ وَإِلَّا أَزَالَ اللَّه عَنْكُمْ مَا حَصَلَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتَاكُمْ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ وَالرُّخْصِ وَالسَّعَةِ فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا التَّطْفِيفِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخَافُ أَيْ أَعْلَمُ حُصُولَ عَذَابِ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلِ الْمُرَادُ هُوَ الْخَوْفُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّخْوِيفُ قَائِمًا فَالْحَاصِلُ هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يُحِيطُ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَالْمُحِيطُ مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْمَعْنَى مِنْ صِفَةِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هُودٍ: ٧٧].
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَذَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي نُصِبَ لِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِالْمُعَذَّبِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ/ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ كُلِّ عَذَابٍ فِيهِ وَإِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ
384
كَإِحَاطَةِ الدَّائِرَةِ بِمَا فِي دَاخِلِهَا فَيَنَالُهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعْدِ كَقَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْفِ:
٤٢] ثُمَّ قَالَ: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَقَعَ التَّكْرِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ثُمَّ قَالَ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَهَذَا عَيْنُ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ وُجُوهًا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ العمل فاحتج فِي الْمَنْعِ مِنْهُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، وَالتَّكْرِيرُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَشِدَّةَ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ نَهْيٌ عَنِ التَّنْقِيصِ وَقَوْلَهُ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أَمْرٌ بِإِيفَاءِ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ ضِدِّ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِلْأَمْرِ بِهِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ، فَكَانَ التَّكْرِيرُ لَازِمًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالشَّيْءِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: صِلْ قَرَابَتَكَ وَلَا تَقْطَعْهُمْ، فَيَدُلُّ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى غَايَةِ التَّأْكِيدِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ التَّنْقِيصِ وَيَنْهَى أَيْضًا عَنْ أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ، فَهُوَ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ التَّنْقِيصِ وَأَمَرَ بِإِيفَاءِ الْحَقِّ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعْ عَنِ الْمُعَامَلَاتِ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْمُبَايَعَاتِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُبَايَعَاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ التَّطْفِيفِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ فَكَانَتِ الْمُبَايَعَاتُ مُحَرَّمَةً بِالْكُلِّيَّةِ، فَلِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذَا الْخَيَالِ، مَنَعَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ التَّطْفِيفِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَمَرَ بِالْإِيفَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمَنْعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالنُّقْصَانِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَمَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَظَهَرَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ، بَلْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَالْإِيفَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا أَعْطَى قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى نَهَى عَنِ النُّقْصَانِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَمَرَ بِإِعْطَاءِ قَدْرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ/ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى أَوَّلًا عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَجْعَلَ مَالَ غَيْرِهِ نَاقِصًا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أَمَرَ بِالسَّعْيِ فِي تَنْقِيصِ مَالِ نَفْسِهِ لِيَخْرُجَ بِالْيَقِينِ عَنِ الْعُهْدَةِ وَقَوْلُهُ: بِالْقِسْطِ يَعْنِي بِالْعَدْلِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَعَهُ الْيَقِينُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ فَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَالْبَخْسُ هُوَ النَّقْصُ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَثْوُ الْفَسَادُ التَّامُّ فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ جَارٍ مَجْرَى أَنْ يُقَالَ: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
385
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ سَعَى فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ فَقَدْ حَمَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ عَلَى السَّعْيِ إِلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مَعْنَاهُ وَلَا تَسْعَوْا فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ الْغَيْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيٌ مِنْكُمْ فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ أَنْفُسِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مَصَالِحَ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. وَالثَّالِثُ: وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قُرِئَ تَقِيَّةُ اللَّه وَهِيَ تَقْوَاهُ وَمُرَاقَبَتُهُ الَّتِي تَصْرِفُ عَنِ الْمَعَاصِي. ثُمَّ نَقُولُ الْمَعْنَى: مَا أَبْقَى اللَّه لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ خَيْرٌ مِنَ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ يَعْنِي الْمَالُ الْحَلَالُ الَّذِي يَبْقَى لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِطَرِيقِ الْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ وَقَالَ الْحَسَنُ: بَقِيَّةُ اللَّه أَيْ طَاعَةُ اللَّه خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ، لِأَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ يَبْقَى أَبَدًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَأَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ إِمَّا الْمَالُ الَّذِي يُبْقَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا ثَوَابُ اللَّه، وَإِمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ وَالْكُلُّ خَيْرٌ مِنْ قَدْرِ التَّطْفِيفِ، أَمَّا الْمَالُ الْبَاقِي فَلِأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفُوا إِنْسَانًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخِيَانَةِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَرَجَعُوا فِي كُلِّ الْمُعَامَلَاتِ إِلَيْهِ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ بَابُ الرِّزْقِ، وَإِذَا عَرَفُوهُ بِالْخِيَانَةِ وَالْمَكْرِ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَلَمْ يُخَالِطُوهُ الْبَتَّةَ فَتُضَيَّقُ أَبْوَابُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْبَقِيَّةَ عَلَى الثَّوَابِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ الدُّنْيَا تَفْنَى وَتَنْقَرِضُ وَثَوَابُ اللَّه بَاقٍ، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى حُصُولِ رِضَا اللَّه تَعَالَى فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ بَقِيَّةَ اللَّه خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَرَفُوا أَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَفِي الْحَذَرِ مِنَ الْعِقَابِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْقَلِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ/ عَنْ هَذَا التَّطْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي نَصَحْتُكُمْ وَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَيْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مَنْعِكُمْ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ يُوجِبُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يَعْنِي لَوْ لَمْ تَتْرُكُوا هَذَا الْعَمَلَ الْقَبِيحَ لَزَالَتْ نِعَمُ اللَّه عَنْكُمْ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ على حفظها عليكم في تلك الحالة.
[سورة هود (١١) : آية ٨٧]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
[في قوله تعالى قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَصَلاتُكَ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَالْبَاقُونَ أَصَلَوَاتُكَ عَلَى الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِشَيْئَيْنِ، بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ فَالْقَوْمُ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ بِهَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْبَخْسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ أَشَارُوا فِيهِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ التقليد،
لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ يَعْنِي الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَخَذْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا كَيْفَ نَتْرُكُهَا، وَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَفْظِ الصلاة وهاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَظْهَرُ شِعَارِ الدِّينِ فَجَعَلُوا ذِكْرَ الصَّلَاةِ كِنَايَةً عَنِ الدِّينِ، أَوْ نَقُولُ: الصَّلَاةُ أَصْلُهَا مِنَ الِاتِّبَاعِ وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي يَتْلُو السَّابِقَ لِأَنَّ رَأْسَهُ يَكُونُ عَلَى صِلْوَيِ السَّابِقِ وَهُمَا نَاحِيَتَا الْفَخِذَيْنِ وَالْمُرَادُ: دِينُكَ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمَخْصُوصَةُ،
رُوِيَ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَكَانَ قَوْمُهُ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي تَغَامَزُوا وَتَضَاحَكُوا،
فَقَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ السُّخْرِيَةَ وَالْهَزْءَ، وَكَمَا أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ مَعْتُوهًا يُطَالِعُ كُتُبًا ثُمَّ يَذْكُرُ كَلَامًا فَاسِدًا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مِنْ مُطَالَعَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ والسخرية فكذا هاهنا.
فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ وَهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ ما يشاؤن، فَكَيْفَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ.
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَأَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَالثَّانِي: أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ آمِرَةً وَنَاهِيَةً وَالتَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ بِأَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَتَنْهَاكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَوْ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِيهِمَا وَهُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالِاقْتِنَاعِ بِالْحَلَالِ الْقَلِيلِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْحَرَامِ الْكَثِيرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّكَ لَأَنْتَ السَّفِيهُ الْجَاهِلُ إِلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْبَخِيلِ الْخَسِيسِ لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّكَ مَوْصُوفٌ عِنْدَ نَفْسِكَ وَعِنْدَ قَوْمِكَ بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَةِ طَرِيقَتِهِمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ الْمَعْرُوفُ الطَّرِيقَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَكَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ دِينٍ أَلْفَيْنَاهُ مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا، وَالْمَقْصُودُ اسْتِبْعَادُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَهَذَا الْوَجْهُ أصوب الوجوه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى حكى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِهِمْ
387
فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ وَالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَانِي جَمِيعَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَهِيَ الْمَالُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِهِ وَأَنْ أُخَالِفَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ حِلْمِكَ وَرُشْدِكَ أَنْ تَنْهَانَا عَنْ دِينِ آبَائِنَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى عِنْدِي كَثِيرَةٌ وَهُوَ أَمَرَنِي بِهَذَا التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِي مَعَ كَثْرَةِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه وَالِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ عَمَلٌ مُنْكَرٌ، ثُمَّ أَنَا رَجُلٌ أُرِيدُ إِصْلَاحَ أَحْوَالِكُمْ وَلَا أَحْتَاجُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانِي رِزْقًا حَسَنًا فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَلَا جُعْلًا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قولهم: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى وَبِإِعَانَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِعْزَازَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَالْإِذْلَالَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَأَنَا لَا أُبَالِي بِمُخَالَفَتِكُمْ وَلَا أَفْرَحُ بِمُوَافَقَتِكُمْ، وَإِنَّمَا أَكُونُ عَلَى تَقْرِيرِ دِينِ اللَّه تَعَالَى وَإِيضَاحِ شَرَائِعِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ وَخَالَفَنِي عَنْهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ. فَيَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ يَعْنِي أَنْ أَسْبِقَكُمْ إِلَى شَهَوَاتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لِأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ فَهَذَا بَيَانُ اللُّغَةِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ، وَكَمَالُ الْعَقْلِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الطَّرِيقِ الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ لَمَّا اعْتَرَفْتُمْ بِكَمَالِ عَقْلِي فَاعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ عَقْلِي لِنَفْسِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَصْوَبَ الطُّرُقِ وَأَصْلَحَهَا وَالدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّه تَعَالَى وَتَرْكُ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ يَرْجِعُ حَاصِلُهُمَا إِلَى جُزْأَيْنِ، التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَا مُوَاظِبٌ عَلَيْهِمَا غَيْرُ تَارِكٍ لَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَلْبَتَّةَ فَلَمَّا اعْتَرَفْتُمْ لِي بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أَتْرُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ خَيْرُ الطُّرُقِ، وَأَشْرَفُ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَالْمَعْنَى مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَكُمْ بِمَوْعِظَتِي وَنَصِيحَتِي، وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَطَعْتُ فِيهِ وُجُوهٌ: الأول:
388
أَنَّهُ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِي لِلْإِصْلَاحِ وَمَا دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ لَا آلُو فِيهِ جُهْدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِصْلَاحَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ أَقَرُّوا بأنه حليم رشيد، وإما أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَالِي أَنِّي لَا أَسْعَى إِلَّا فِي الْإِصْلَاحِ وَإِزَالَةِ الْفَسَادِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَمَّا أَمَرْتُكُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ دِينُ حَقٍّ وَأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضِي مِنْهُ إِيقَاعَ الْخُصُومَةِ وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ أَنِّي أَبْغَضُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ وَلَا أَدُورُ إِلَّا عَلَى مَا يُوجِبُ الصُّلْحَ وَالصَّلَاحَ بِقَدْرِ طَاقَتِي، وَذَلِكَ هُوَ الْإِبْلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، وَأَمَّا الْإِجْبَارُ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ تَوَكُّلَهُ وَاعْتِمَادَهُ فِي تَنْفِيذِ كُلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَكَيْفَ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَانٍ بِذَاتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى
وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ»
لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَرَمَ مِثْلُ كَسَبَ فِي تَعْدِيَتِهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأُخْرَى إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُقَالُ جَرَمَ ذَنْبًا وَكَسَبَهُ وَجَرَّمَهُ ذَنْبًا وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ أَيْ لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي إِصَابَةَ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا إِذَا جَعَلْتَهُ جَارِمًا لَهُ أَيْ كَاسِبًا لَهُ.
وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ جَرَمَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَرَمْتُهُ ذَنْبًا وَأَجْرَمْتُهُ إِيَّاهُ، وَالْقِرَاءَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي الْمَعْنَى لَا تَفَاوُتَ بَيْنِهِمَا إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَةَ أَفْصَحُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ كَسَّبَهُ مَالًا أَفْصَحُ مَنْ أَكْسَبَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ لَا تُكْسِبَنَّكُمْ مُعَادَاتُكُمْ إِيَّايَ أي يُصِيبَكُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ مَا حَصَلَ لِقَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَرَقِ، وَلِقَوْمِ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ وَلِقَوْمِ صَالِحٍ مِنَ الرَّجْفَةِ، وَلِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْخَسْفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الْمَكَانِ لِأَنَّ بِلَادَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَدْيَنَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْرَبُ الْإِهْلَاكَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا النَّاسُ فِي زَمَانِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّ الْقُرْبَ فِي الْمَكَانِ وَفِي الزَّمَانِ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْرِفَةِ وَكَمَالَ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْوَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ اعْتَبِرُوا بِأَحْوَالِهِمْ وَاحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمُنَازَعَتِهِ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
389
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ بِبَعِيدِينَ؟
أَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيدو الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى فِي قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَكَثِيرٍ وَقَلِيلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لِوُرُودِهَا عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ الَّتِي هِيَ الصَّهِيلُ وَالنَّهِيقُ وَنَحْوُهُمَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عَنِ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ وَدُودٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْوَدُودُ فِي أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى الْمُحِبُّ لِعِبَادِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَدِدْتُ الرَّجُلَ أَوَدُّهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي «كِتَابِ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِكَثْرَةِ إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي رَاعَاهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ ظُهُورَ الْبَيِّنَةِ لَهُ وَكَثْرَةَ إِنْعَامِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَمْنَعُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَيَصُدُّهُ عَنِ التَّهَاوُنِ فِي تَكَالِيفِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ هُوَ بِهَا مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا رَشِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّتَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِتَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِخْفَاءِ مُوجِبَاتِ الْفِتَنِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ بِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ صِحَّةَ طَرِيقَتِهِ أَشَارَ إِلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْمِلَكُمْ عَدَاوَتِي عَلَى مَذْهَبٍ وَدِينٍ تَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا وَقَعَ فِيهِ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا صَحَّحَ مَذْهَبَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْمَنْعُ مِنَ الْبَخْسِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ وَحُبَّهُ لَهُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي غَايَةِ الكمال.
[سورة هود (١١) : آية ٩١]
قالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)
اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَالَغَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ، أَجَابُوهُ بِكَلِمَاتٍ فَاسِدَةٍ. فالأول: قولهم: يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِمْ، فَلِمَ قَالُوا: مَا نَفْقَهُ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْجَوَابَاتِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا لَا يُلْقُونَ إِلَيْهِ أَفْهَامَهُمْ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ كَلَامِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٥] الثَّانِي: أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لَهُ وَزْنًا، فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهَانَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذْ لَمْ يَعْبَأْ بِحَدِيثِهِ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا مَا أَقْنَعَتْهُمْ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَرْكِ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ، فَقَوْلُهُمْ: مَا نَفْقَهُ أَيْ لَمْ نَعْرِفْ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْفِقْهُ اسْمٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ فَأَضَافَ الْفِقْهَ إِلَى الْقَوْلِ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْفَهْمِ. يُقَالُ: أُوتِيَ فُلَانٌ فِقْهًا فِي الدِّينِ، أَيْ فَهْمًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
أَيْ يُفَهِّمْهُ تَأْوِيلَهُ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الضَّعِيفُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَنْعُ الْقَوْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّعِيفَ هُوَ الْأَعْمَى بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِينا يُبْطِلُ هَذَا الْوَجْهَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنَّا لَنَرَاكَ أَعْمَى فِينَا كَانَ فَاسِدًا، لِأَنَّ الْأَعْمَى أَعْمَى فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ فَنَفَوْا عَنْهُ الْقُوَّةَ الَّتِي أَثْبَتُوهَا فِي رَهْطِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ الَّتِي أَثْبَتُوهَا لِلرَّهْطِ هِيَ النُّصْرَةَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ هِيَ النُّصْرَةَ، وَالَّذِينَ حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلَى ضَعْفِ الْبَصَرِ لَعَلَّهُمْ إِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ للضعف.
واعلم أن أصحابنا يحوزون الْعَمَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ مُتَعَبِّدًا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ النجاسات، ولأنه ينحل بِجَوَازِ كَوْنِهِ حَاكِمًا وَشَاهِدًا، فَلِأَنْ يَمْنَعَ مِنَ النُّبُوَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ لَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الرَّهْطُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَقِيلَ إِلَى السَّبْعَةِ، وَقَدْ كَانَ رَهْطُهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ. قَالُوا لَوْلَا حُرْمَةُ رَهْطِكَ عِنْدَنَا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ عَلَى مِلَّتِنَا لَرَجَمْنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ، وَلَا وَقْعَ لَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلُوهُ/ لِأَجْلِ احْتِرَامِهِمْ رَهْطَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجْمُ سَبَبًا لِلْقَتْلِ لَا جَرَمَ سَمَّوُا الْقَتْلَ رَجْمًا، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الْقَذْفُ، كَقَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الْكَهْفِ: ٢٢] وَقَوْلِهِ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [سَبَأٍ: ٥٣] وَقَدْ يَكُونُ بِالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: ٩٨] وَقَدْ يَكُونُ بِالطَّرْدِ كَقَوْلِهِ: رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: ٥].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَرَجَمْناكَ لَقَتَلْنَاكَ. الثَّانِي: لَشَتَمْنَاكَ وَطَرَدْنَاكَ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَوْلُهُمْ: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَلَيْنَا عَزِيزًا سَهُلَ عَلَيْنَا الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِكَ وَإِيذَائِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَيْسَتْ دَافِعًا لِمَا قَرَّرَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا خَوَّفُوا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ، حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ نَوْعَانِ من الكلام:
النوع الأول: قوله: يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَوْمَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَرَكُوا إِيذَاءَهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ قَوْمِهِ. فَقَالَ: أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ قَتْلِي إِكْرَامًا لِرَهْطِي، واللَّه تَعَالَى أولى أن يتبع أمره، فكأنه يقول: حفظتكم/ إِيَّايَ رِعَايَةً لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى مِنْ حِفْظِكُمْ إِيَّايَ رِعَايَةً لِحَقِّ رَهْطِي.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ نَسِيتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُعْبَأُ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالظِّهْرِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الظَّهْرِ، وَالْكَسْرُ مِنْ تَغَيُّرَاتِ النَّسَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي النِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْسِ إِمْسِيٌّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَحْوَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ وَالْمَكَانَةُ الْحَالَةُ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَمَلِهِ، وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا حَالَ كَوْنِكُمْ مَوْصُوفِينَ بِغَايَةِ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا فِي وُسْعِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ مِنْ إِيصَالِ الشُّرُورِ إِلَيَّ فَإِنِّي أَيْضًا عَامِلٌ بِقَدْرِ مَا آتَانِي اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُدْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَمْ يَقُلْ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» وَالْجَوَابُ: إِدْخَالُ الْفَاءِ وَصْلُ ظَاهِرٍ بِحَرْفٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَصْلِ، وَأَمَّا بِحَذْفِ الْفَاءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَظَهَرَ أن حذف حرف الفاء هاهنا أَكْمَلُ فِي بَابِ الْفَظَاعَةِ وَالتَّهْوِيلِ. ثُمَّ قَالَ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَالْمَعْنَى: فَانْتَظِرُوا الْعَاقِبَةَ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أَيْ مُنْتَظِرٌ، وَالرَّقِيبُ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ رَقَبَهُ كَالضَّرِيبِ وَالصَّرِيمِ بِمَعْنَى الضَّارِبِ وَالصَّارِمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرَاقِبِ كَالْعَشِيرِ وَالنَّدِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُرْتَقِبِ كَالْفَقِيرِ وَالرَّفِيعِ بِمَعْنَى الْمُفْتَقِرِ وَالْمُرْتَفِعِ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ يُعَذِّبِ اللَّه تَعَالَى أُمَّتَيْنِ بِعَذَابٍ وَاحِدٍ إِلَّا قَوْمَ شُعَيْبٍ وَقَوْمَ صَالِحٍ فَأَمَّا قَوْمُ صَالِحٍ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَقَوْمُ شُعَيْبٍ أَخَذَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ/ وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الْعِقَابَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَخْبَرَ اللَّه أَنَّهُ نَجَّى شُعَيْبًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ منه وفيه
وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِمَحْضِ رَحْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْعَبْدِ فَلَيْسَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَا حَصَلَتْ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصَّيْحَةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إِشَارَةً إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهِيَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجَاثِمُ الْمُلَازِمُ لِمَكَانِهِ الَّذِي لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ زَهَقَ رُوحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي مَكَانِهِ مَيِّتًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ أَحْيَاءً مُتَصَرِّفِينَ مُتَرَدِّدِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَإِنَّمَا قَاسَ حَالَهُمْ عَلَى ثَمُودَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ السَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ آخِرُ الْقَصَصِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ التَّوْرَاةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمِنَ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ/ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِشَرَائِعَ وَأَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ وَأَيَّدْنَاهُ بِمُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةٍ وَبَيِّنَاتٍ بَاهِرَةٍ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [يُونُسَ: ٦٨] وَقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْمِ: ٢٣] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ لِمُوسَى على صدق نبوته. الثاني: أن يراد بالسلطان الْمُبِينُ الْعَصَا، لِأَنَّهُ أَشْهَرُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ نَقَصَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ بِإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْحُجَّةَ لِمَ سُمِّيَتْ بِالسُّلْطَانِ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لِأَنَّ صَاحِبَ الْحُجَّةِ يَقْهَرُ مَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عِنْدَ النَّظَرِ كَمَا يَقْهَرُ السُّلْطَانُ غَيْرَهُ، فَلِهَذَا تُوصَفُ الْحُجَّةُ بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ وَالسُّلْطَانُ سُمِّيَ سُلْطَانًا لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّه فِي أَرْضِهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّلِيطِ وَالسَّلِيطُ مَا يُضَاءُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلزَّيْتِ السَّلِيطُ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْلِيطِ، وَالْعُلَمَاءُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ كَمَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُلُوكُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ، إِلَّا أَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ سَلْطَنَةِ الْمُلُوكِ، لِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالْعَزْلَ وَسَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَقْبَلُهُمَا وَلِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَابِعَةٌ لِسَلْطَنَةِ الْعُلَمَاءِ وَسَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلْطَنَةُ الْمُلُوكِ مِنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْفَرَاعِنَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ وَالسُّلْطَانَ أَيْضًا عَلَى الدَّلَائِلِ وَالْمُبِينُ أَيْضًا مَعْنَاهُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلظُّهُورِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ؟
قُلْنَا: الْآيَاتُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تُفِيدُ الظَّنَّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُفِيدُ الْيَقِينَ وَأَمَّا
393
السُّلْطَانُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالْحِسِّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْحِسِّ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ الَّذِي تَأَكَّدَ بِالْحِسِّ فَهُوَ السُّلْطَانُ الْمُبِينُ، وَلَمَّا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا لَا جَرَمَ وَصَفَهَا اللَّه بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ. ثُمَّ قَالَ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يَعْنِي وَأَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ إلى فرعون وملائه، أَيْ جَمَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ بِمُوسَى وَمُعْجِزَاتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الطَّرِيقَ وَالشَّأْنَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ، وقيل رشيد أي ذي رُشْدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بُعْدَ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرُّشْدِ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَكَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ سُلْطَانِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِ رِعَايَةً/ لِمَصْلَحَةِ الْعَالَمِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِي عِبَادَةِ اللَّه وَمَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا كَانَ هُوَ نَافِيًا لِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ خَالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَتَهُ وَصِفَةَ قَوْمِهِ فَقَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يُقَالُ: قَدَمَ فُلَانٌ فُلَانًا بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ قَادِمَةُ الرَّجُلِ كَمَا يُقَالُ قَدَمَهُ بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قُدْوَةً لِقَوْمِهِ فِي الضَّلَالِ حَالَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ مُقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، أَوْ يُقَالُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْمَهُ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ وَأَغْرَقَهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ وَيُحْرِقُهُمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ وَمَا أَمْرُهُ بِصَالِحٍ حَمِيدِ الْعَاقِبَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ، وَإِيضَاحًا لَهُ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ أَمْرُهُ رَشِيدًا مَعَ أَنَّ عَاقِبَتَهُ هَكَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَيُورِدُهُمُ النَّارَ؟ بَلْ قَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ بِلَفْظِ الْمَاضِي.
قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَلَا سَبِيلَ أَلْبَتَّةَ إِلَى دَفْعِهِ، فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي دَلَّ عَلَى غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ «النَّارِ» مُؤَنَّثٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَبِئْسَتِ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ «الْوِرْدِ» مُذَكَّرٌ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ جَائِزَيْنِ كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، وَنَعِمَتِ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، فَمَنْ ذَكَّرَ غَلَّبَ الْمَنْزِلَ وَمَنْ أَنَّثَ بَنَى عَلَى تَأْنِيثِ الدَّارِ هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْوِرْدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوُرُودِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى:
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: ٨٦] وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ كَالْمَاءِ الَّذِي يُورَدُ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ الَّذِي حَصَلَ وُرُودُهُ. فَشَبَّهَ اللَّه تَعَالَى فِرْعَوْنَ بِمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ إِلَى الْمَاءِ وَشَبَّهَ أَتْبَاعَهُ بِالْوَارِدِينَ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يُورَدُونَهُ النَّارُ، لِأَنَّ الْوِرْدَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَسْكِينِ الْعَطَشِ وَتَبْرِيدِ الْأَكْبَادِ، وَالنَّارُ ضِدُّهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّه وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُلْتَصِقٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [الْقَصَصِ: ٤٢].
394
ثُمَّ قَالَ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ وَالرِّفْدُ هُوَ الْعَطِيَّةُ وَأَصْلُهُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قَالَ هُوَ اللَّعْنَةُ بَعْدَ اللَّعْنَةِ. قَالَ قَتَادَةُ:
تَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ جَعَلْتَهُ عونا لشيء فقد رفدته به.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَصَصَ الْأَوَّلِينَ قَالَ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا أُمُورٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ. فَأَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ الدَّلَائِلَ ثُمَّ أَكَّدْتَ بِأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ صَارَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَقَاصِيصِ كَالْمُوَصِّلِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَطَ بِهَذِهِ الْأَقَاصِيصِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَيَذْكُرُ مُدَافَعَاتِ الْكُفَّارِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَشُبُهَاتِهِمْ فِي دَفْعِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُمَا أَجْوِبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهَا ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا وَقَعُوا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنُ وَالْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقَصَصِ سَبَبًا لِإِيصَالِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ عَنِ الشُّبَهَاتِ إِلَى قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ، وَسَبَبًا لِإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ أَحْسَنَ الطُّرُقِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْقَصَصَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ كُتُبٍ، وَلَا تَلْمَذَ لِأَحَدٍ وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْقِصَصَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَاقِبَةَ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُنَافِقِ إِلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ عَنْهَا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكَافِرَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا/ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ عَلَى السَّمْعِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلِينَ الْقَلْبُ وَتَخْضَعَ النَّفْسُ وَتَزُولَ الْعَدَاوَةُ وَيَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ خَوْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَهَذَا كَلَامٌ جَلِيلٌ فِي فَوَائِدِ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
البحث الأول: أو قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هاهنا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهِيَ حَاضِرَةٌ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ٢].
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ «ذَلِكَ» يُشَارُ بِهِ إِلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: ٦٨] وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ كَذَا وَكَذَا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«ذَلِكَ» مُبْتَدَأٌ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى خَبَرٌ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بَعْضُ أَنْبَاءِ الْقُرَى مَقْصُوصٌ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ وَالضَّمِيرُ في قوله:
مِنْها يَعُودُ إِلَى الْقُرَى شَبَّهَ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْقُرَى وَجُدْرَانِهَا بِالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ وَمَا عَفَا مِنْهَا وَبَطِرَ بِالْحَصِيدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْقُرَى بَعْضُهَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَبَعْضُهَا هَلَكَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْقَوْمِ لَيْسَ بِظُلْمٍ مِنَ اللَّه بَلْ هُوَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ أَوَّلًا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَاسْتَوْجَبُوا لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنَ اللَّه ذَلِكَ الْعَذَابَ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ وَمَا نَقَصْنَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالرِّزْقِ، وَلَكِنْ نَقَصُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَخَفُّوا بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا نَفَعَتْهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. يُقَالُ: تَبَّ إِذَا خَسِرَ وَتَبَّبَهُ غَيْرُهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْخُسْرَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا تُعِينُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُعِينِ مَا وَجَدُوا مِنْهَا شَيْئًا لَا جَلْبَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ، ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ فَقَدْ وَجَدُوا ضِدَّهُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ/ الِاعْتِقَادَ زَالَ عَنْهُمْ بِهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَلَبَ إِلَيْهِمْ مَضَارَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ موجبات الخسران.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الباقون بألفين.
المسألة الثانية: [في بيان أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ بِمَا فَعَلَ بِأُمَمِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْدَهُ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ، بَلِ الْحَالُ فِي أَخْذِ كُلِّ الظَّالِمِينَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَهِيَ ظالِمَةٌ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الْأَنْبِيَاءِ: ١١] وَقَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَصِ: ٥٨].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ أَخْذِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا وَتَقْوِيَةً فَقَالَ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فَوَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ بِالْإِيلَامِ وَبِالشِّدَّةِ، وَلَا مُنَغِّصَةَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَلَمَ، وَلَا تَشْدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْوَهْمِ وَالْعَقْلِ إِلَّا تَشْدِيدَ الْأَلَمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْأَخْذِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ/ مُخْتَصَّةٌ بِأُولَئِكَ المتقدمين،
لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى أَحْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَارَكَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ الْأَلِيمِ الشَّدِيدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ قَالَ الْقَفَّالُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِشْرَاكِهِمْ باللَّه، فَإِذَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ دَارُ الْعَمَلِ، فَلَأَنْ يُعَذَّبُوا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ كَانَ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْبَحْثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ يَكُونُ ظُهُورُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ كَالشَّرْطِ فِي حُصُولِ الِاعْتِبَارِ بِظُهُورِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَالْمُضَادِّ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، لِأَنَّ الْقَفَّالَ يَجْعَلُ الْعِلْمَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوُجُودِ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِينَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجَبٌ بِالذَّاتِ وَمَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَأَنَّ جَمِيعَ الحوادث الواقعة في السموات وَالْأَرْضِينَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَكْوِينِهِ وَقَضَائِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا العالم موجب بالذات بلا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالصَّيْحَةِ كُلُّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِسَبَبِ قِرَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ حُصُولُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْقِيَامَةِ، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْإِيمَانُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أنه إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ وَالْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَقِرَانَاتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْآخِرَةَ وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ كُلُّهُمْ يُحْشَرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُجْمَعُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَشْهَدُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ يَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ/ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ الْحُضُورُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِ إِنْسَانٍ أَنَّهُمْ لَمَّا جُمِعُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَعْرِفْ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا وَاقِعَةَ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْوَقَائِعَ تَصِيرُ معلومة للكل بسبب المحاسبة والمسألة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ وَإِفْنَاءَ الدُّنْيَا موقوف على أجل معدود وكل ماله عَدَدٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْنَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ سَيَنْتَهِي إِلَى وَقْتٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقِيمَ اللَّه الْقِيَامَةَ فِيهِ، وَأَنْ تَخَرَبَ الدُّنْيَا فِيهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آت قريب.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
397
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ يَأْتِ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَحَذْفُ الْيَاءِ وَالِاجْتِزَاءُ عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ كَثِيرٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ لَا أَدْرِ حَكَاهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ يَأْتِي هُوَ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ/ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: ٢١٠] وَقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الْأَنْعَامِ: ١٥٨] وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ أَقُولُ لَا يُعْجِبُنِي هَذَا التَّأْوِيلُ، لِأَنَّ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَقْوَامٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَكَذَا قوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أما هاهنا فَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَإِسْنَادُ فِعْلِ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ مُشْكِلٌ.
فَإِنْ قَالُوا: فَمَا قَوْلُكَ في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ.
قُلْنَا: هُنَاكَ تَأْوِيلَاتٌ، وَأَيْضًا فَهُوَ صَرِيحٌ، فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ يَأْتِي الشَّيْءُ الْمَهِيبُ الْهَائِلُ الْمُسْتَعْظَمُ، فَحُذِفَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرُهُ بِتَعْيِينِهِ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي التَّخْوِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْعَامِلُ فِي انْتِصَابِ الظَّرْفِ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ أَوْ إِضْمَارُ اذْكُرْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَفِيهِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تُوهِمُ كَوْنَهَا مُنَاقِضَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْلِ: ١١١] وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَحْلِفُونَ باللَّه عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصَّافَّاتِ:
٢٤] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٥].
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ الْمَنْعُ مِنَ الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَابَاتِ الْحَقِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَلَهُ مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يُجَادِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا يَكُفُّونَ عَنِ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هُودٍ: ١٠٣].
398
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَجَانِينُ وَأَطْفَالٌ وَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مَنْ يُحْشَرُ مِمَّنْ أُطْلِقَ لِلْحِسَابِ وَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدِ احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ مَا يُقَالُ إِنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي النَّارِ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ؟
قُلْنَا: لَمَّا سُلِّمَ أَنَّ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ خَارِجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَاسَبُونَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ خَارِجُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا لَا يُحَاسَبُونَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّ ثَوَابَهُمْ يُسَاوِي عَذَابَهُمْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي حِسَابِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ زَائِدًا أَوْ يَكُونَ عِقَابُهُ زَائِدًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ ثَوَابُهُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّصَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ السَّعِيدَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَالشَّقِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَكْثَرَ الْآيَاتِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ ثَالِثٍ لَا يَكُونُ لَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ أَثْبَتَهُ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ ذَلِكَ الثَّالِثِ عَدَمُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الثَّالِثِ عَدَمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ الْآنَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ وَعَلَى بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ، وَمَنْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وَعُلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ بِخِلَافِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يصير خبر اللَّه تعالى كذبا وعلمه جاهلا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا وَأَنَّ الشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا، وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا لَا تُحْصَى.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يَا عُمَرُ وَجَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ:
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِعَمَلِهِ وَسَعِيدٌ بِعَمَلِهِ.
قُلْنَا: الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لَا يَدْفَعُ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ إِنَّمَا شَقِيَ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا سَعِدَ بِعَمَلِهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ حَاصِلًا بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَاقِيًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ شَرَحَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ وُجُوهًا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الزَّفِيرُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّجُلُ صَدْرَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَمِّ الشَّدِيدِ مِنَ النَّفَسِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، وَالشَّهِيقُ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ النَّفَسَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لِلْفَرَسِ إِنَّهُ عَظِيمُ الزَّفْرَةِ أَيْ عَظِيمُ الْبَطْنِ وَأَقُولُ إن
399
الْإِنْسَانَ إِذَا عَظُمَ غَمُّهُ انْحَصَرَ رَوْحُ قَلْبِهِ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْحَصَرَ الرَّوْحُ قَوِيَتِ الْحَرَارَةُ وَعَظُمَتْ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى النَّفَسِ الْقَوِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَدْخِلَ هَوَاءً كَثِيرًا بَارِدًا حَتَّى يَقْوَى عَلَى تَرْوِيحِ تِلْكَ الْحَرَارَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَعْظُمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ صَدْرُهُ وَيَنْتَفِخُ جَنْبَاهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالرَّوْحُ الحيواني محصورا في دَاخِلَ الْقَلْبِ اسْتَوْلَتِ الْبُرُودَةُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْخَارِجَةِ فَرُبَّمَا عَجَزَتْ آلَاتُ النَّفَسِ عَنْ دَفْعِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ الْمُسْتَنْشَقِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْهَوَاءُ الْكَثِيرُ مُنْحَصِرًا فِي الصَّدْرِ وَيَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَخْتَنِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ تَجْتَهِدُ الطَّبِيعَةُ فِي إِخْرَاجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ الزَّفِيرُ هُوَ اسْتِدْخَالُ الْهَوَاءِ الْكَثِيرِ لِتَرْوِيحِ الْحَرَارَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ انْحِصَارِ الرُّوحِ فِيهِ، وَالشَّهِيقُ هُوَ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ عِنْدَ مُجَاهَدَةِ الطَّبِيعَةِ فِي إِخْرَاجِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى كَرْبٍ شَدِيدٍ وَغَمٍّ عَظِيمٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الزَّفِيرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحِمَارِ بِالنَّهِيقِ.
وَأَمَّا الشَّهِيقُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ صَوْتِ الْحِمَارِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّفِيرَ عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ. فَنَقُولُ: الزَّفِيرُ لَهِيبُ جَهَنَّمَ يَرْفَعُهُمْ بِقُوَّتِهِ حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ جَهَنَّمَ وَطَمِعُوا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا ضَرَبَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَيَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فَارْتِفَاعُهُمْ فِي النَّارِ هُوَ الزَّفِيرُ وَانْحِطَاطُهُمْ مَرَّةً أُخْرَى هُوَ الشَّهِيقُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الزَّفِيرُ مَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّدْرِ مِنَ النَّفَسِ عِنْدَ الْبُكَاءِ الشَّدِيدِ فَيَنْقَطِعُ النَّفَسُ، وَالشَّهِيقُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْكُرْبَةِ وَالْحُزْنِ، وَرُبَّمَا تَبِعَهُمَا الْغَشْيَةُ، وَرُبَّمَا حَصَلَ عَقِيبَهُ الْمَوْتُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ قَوْمٌ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يُرِيدُ نَدَامَةً وَنَفْسًا عَالِيَةً وَبُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ وَحُزْنًا لَا يَنْدَفِعُ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: الزَّفِيرُ مُشْعِرٌ بِالْقُوَّةِ، وَالشَّهِيقُ بِالضَّعْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَسْبِ اللُّغَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزَّفِيرِ قُوَّةَ مَيْلِهِمْ إِلَى عَالَمِ الدُّنْيَا وَإِلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّهِيقِ ضَعْفُهُمْ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِعَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالِاسْتِكْمَالُ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعَارِجِ الْقُدُسِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نِهَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عِقَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُدَّةِ عِقَابِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النَّبَأِ: ٢٣] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَحْقَابًا مَعْدُودَةً.
400
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَوَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْصِيَةَ الْكَافِرِ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُقَابَلَةُ الْجُرْمِ الْمُتَنَاهِي بِعِقَابٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنِ النَّفْعِ فَيَكُونُ قَبِيحًا بَيَانُ خُلُّوِّهِ عَنِ النَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا إِلَى ذَلِكَ الْمُعَاقَبِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الِالْتِذَاذِ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ النَّفْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ دَائِمٌ وَعِنْدَ هَذَا احْتَاجُوا إِلَى الْجَوَابِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَذَكَرُوا عَنْهُ جَوَابَيْنِ: الأول: قالوا المراد سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا. قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْآخِرَةِ سَمَاءً وَأَرْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨] وَقَوْلُهُ:
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: ٧٤] وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مِمَّا يُقِلُّهُمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَرْضُ والسموات.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَعْلُومًا مُقَرَّرًا فَيُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي المشبه ووجود السموات وَالْأَرْضِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يكون وجوده معلوما إلا أن بقاءها عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْنَى الْبَتَّةَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ وُجُودِهِمَا مَجْهُولًا لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَدَوَامُهُمَا أَيْضًا مَجْهُولًا لِلْأَكْثَرِ، كَانَ تَشْبِيهُ عِقَابِ الْأَشْقِيَاءِ بِهِ فِي الدَّوَامِ كَلَامًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وَأَرْضٍ فِي الْآخِرَةِ وَثَبَتَ دَوَامُهُمَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أَهْلِ الْآخِرَةِ وَدَوَامِ أَرْضِهِمْ هُوَ السَّمْعُ، ثُمَّ السَّمْعُ دَلَّ عَلَى دَوَامِ عِقَابِ الْكَافِرِ، فَحِينَئِذٍ الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَاصِلٌ بِعَيْنِهِ فِي الْفَرْعِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ضَائِعٌ وَالتَّشْبِيهَ باطل، فكذا هاهنا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالُوا إِنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الدَّوَامِ وَالْأَبَدِ بِقَوْلِهِمْ مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا طَمَا الْبَحْرُ، وَمَا أَقَامَ الْجَبَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ الْخَالِيَ عَنِ الِانْقِطَاعِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامت السموات وَالْأَرْضُ، يَمْنَعُ مِنْ بَقَائِهَا مَوْجُودَةً بَعْدَ فَنَاءِ السموات، أَوْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْإِشْكَالُ لَازِمٌ، لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ بقاء السموات وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ بَقَائِهِمْ فِي النَّارِ بَعْدَ فناء السموات، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَنَاءِ السموات فَعِنْدَهَا يَلْزَمُكُمُ الْقَوْلُ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْتُمْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ كونهم في النار بعد فناء السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ضَائِعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْحَقَّ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ المعهود من الآية أنه متى كانت السموات وَالْأَرْضُ دَائِمَتَيْنِ، كَانَ كَوْنُهُمْ فِي النَّارِ بَاقِيًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ: أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ.
401
فَإِنْ قُلْنَا: لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَنْتُجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دَائِمَةٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُمْ حَاصِلًا، أَمَّا إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ.
فَإِنْ قَالُوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السموات أَوْ لَمْ تَبْقَ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّشْبِيهِ فَائِدَةٌ؟
قُلْنَا بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَهْرًا، وَزَمَانًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِطُولِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ آخِرُ أَمْ لَا فَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ جَوَابٌ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَفْهَمُهُ إِنْسَانٌ أَلِفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَجْوِبَةِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ اللَّه تَعَالَى وَلَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، كَقَوْلِكَ: واللَّه لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عَزِيمَتَكَ تَكُونُ على ضربه، فكذا هاهنا وَطَوَّلُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، مَعْنَاهُ: لَأَضْرِبَنَّكَ إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ قَدْ حَصَلَتْ أَمْ لَا بِخِلَافِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِخُلُودِهِمْ فِيهَا إِلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي شَاءَ رَبُّكَ، فَهَهُنَا اللفظ تدل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ قَدْ حَصَلَتْ جَزْمًا، فَكَيْفَ يَحْصُلُ قِيَاسُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كلمة إِلَّا هاهنا وَرَدَتْ بِمَعْنَى: سِوَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي النَّارِ فِي جميع مدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ سِوَى مَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ مِنَ الْخُلُودِ الدَّائِمِ فَذَكَرَ أَوَّلًا فِي خُلُودِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَطْوَلُ مِنْهُ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ الدَّوَامَ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا آخِرَ لَهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ زَمَانُ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ إِلَّا وَقْتَ وُقُوفِهِمْ لِلْمُحَاسَبَةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَكُونُونَ/ فِي النَّارِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ وَهُوَ حَالُ كَوْنِهِمْ فِي الْقَبْرِ، أَوِ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ حَالَ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: خَالِدِينَ فِيهَا بِمِقْدَارِ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ مِقْدَارِ وُقُوفِهِمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلى قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: ١٠٦] وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها يُفِيدُ حُصُولَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ مَعَ الْخُلُودِ فَإِذَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ وَقْتٌ لَا يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْمَجْمُوعُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَنَّهُ كَمَا يَنْتَفِي الْمَجْمُوعُ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَكَذَلِكَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَإِذَا انْتَهَوْا آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا
402
سَاكِنِينَ هَامِدِينَ خَامِدِينَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ فَانْتَفَى أَحَدُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْحُكْمِ بِانْقِطَاعِ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُونَ أَبَدًا فِي النَّارِ، بَلْ قَدْ يُنْقَلُونَ إِلَى الْبَرَدِ وَالزَّمْهَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي الْجَوَابِ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ يُفِيدُ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَشْقِيَاءِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. وَيَكْفِي فِي زَوَالِ حُكْمِ الْخُلُودِ عَنِ الْمَجْمُوعِ زَوَالُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى حُكْمُ الْخُلُودِ لِبَعْضِ الْأَشْقِيَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْخُلُودَ وَاجِبٌ لِلْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ زَالَ حُكْمُ الْخُلُودِ عَنْهُمْ هُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْوَجْهُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ إِذَا فَسَدَتْ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَذْكُورٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
قُلْنَا: إِنَّا بِهَذَا الْوَجْهِ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ مِنَ النَّارِ.
قُلْنَا: أَمَّا حَمْلُ كَلِمَةِ «إِلَّا» عَلَى سِوَى فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حَالِ عُمْرِ الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْمَوْقِفِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَنِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحُصُولِ فِي النَّارِ، فَقَبْلَ الْحُصُولِ فِي النَّارِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْخُلُودُ لَمْ يَحْصُلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَامْتَنَعَ حُصُولُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ/ إِلَى الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ فَهَذَا أَيْضًا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْآيَةِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ نَقْلُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ. فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْعَذَابُ بِالزَّمْهَرِيرِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مدة السموات وَالْأَرْضِ. وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّقْلَ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ وَبِالْعَكْسِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ حَاصِلٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ. أَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْإِجْمَاعُ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَهَذَا يَحْسُنُ انْطِبَاقُهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا حَمَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى إِخْرَاجِ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَظْهَرْتُ الْقَهْرَ وَالْقُدْرَةَ ثُمَّ أَظْهَرْتُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِأَنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ حُكْمٌ أَلْبَتَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
403
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَإِنَّمَا جَازَ ضَمُّ السِّينِ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَسْعَدَ وَلِأَنَّ سَعِدَ لَا يَتَعَدَّى وَأَسْعَدَ يَتَعَدَّى وَسَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ الْمَسْعُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي بَابِ السُّعَدَاءِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فيما تقدم وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَإِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: ٧٢] وَقَوْلُهُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَذَّهُ يَجُذُّهُ جَذًّا إِذَا قَطَعَهُ وَجَذَّ اللَّه دَابِرَهُمْ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مَجْذُوذٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: ٣٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَوْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْقَطِعَةً، فَلَمَّا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِهَذَا الْبَيَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْأَشْقِيَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الِانْقِطَاعُ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هذه الآية.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَقَاصِيصَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِأَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَحْوَالِ السُّعَدَاءِ شَرَحَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُنْ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ النُّونَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَنَّ النُّونَ إِذَا وَقَعَ عَلَى طَرَفِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْغُنَّةِ فَلَا جَرَمَ أَسْقَطُوهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُ فِي شَكٍّ مِنْ حَالِ مَا يَعْبُدُونَ فِي أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَشْبَهُوا آبَاءَهُمْ فِي لُزُومِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أَيْ مَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَفَرُوا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ فَإِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا مُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ إِزَالَةِ الْعُذْرِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الكل مرادا.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِصْرَارَ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ، بَيَّنَ أَيْضًا إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِهِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ كَانُوا عَلَى/ هَذِهِ السِّيرَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ كل
404
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَادَةَ الْخَلْقِ هَكَذَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى بِتَأْخِيرِ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ عِنْدَ عَظِيمِ كُفْرِهِمْ إِنْزَالَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ قَضَائِهِ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ. الثَّانِي: لَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِلَّا لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ تَمْيِيزُ الْمُحِقِّ عَنِ الْمُبْطِلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَأَنَّ إِحْسَانَهُ رَاجِحٌ عَلَى قَهْرِهِ وَإِلَّا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَلَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِكَ لَفِي شَكٍّ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ مُرِيبٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ وَمَنْ أُخِّرَتْ وَمَنْ صَدَّقَ الرُّسُلَ وَمَنْ كَذَّبَ فَحَالُهُمْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُوَفِّيهِمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ فَإِنَّ تَوْفِيَةَ جَزَاءِ الطَّاعَاتِ وَعْدٌ عَظِيمٌ وَتَوْفِيَةَ جَزَاءِ الْمَعَاصِي وَعِيدٌ عَظِيمٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَوْكِيدُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ كَانَ عَالِمًا بِمَقَادِيرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي فَكَانَ عَالِمًا بِالْقَدْرِ اللَّائِقِ بِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَضِيعُ شَيْءٌ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْأَجْزِيَةِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْبَيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَإِنَّ مُشَدَّدَةَ النُّونِ لَمَا خَفِيفَةً قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: اللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَقْتَضِيهِ إِنَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ إِنَّ يَقْتَضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى خَبَرِهَا أَوِ اسْمِهَا لَامٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْلِ: ١٨] وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً [الحجر: ٧٧] وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِكَ واللَّه لَتَفْعَلَنَّ وَلَمَّا اجْتَمَعَ لَامَانِ دَخَلَتْ مَا لِتَفْصِلَ بَيْنَهُمَا فَكَلِمَةُ مَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى مَنْ وَبَقِيَّةُ التَّقْرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاءِ: ٧٢].
وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا مُخَفَّفَتَانِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا إِنَّ مُخَفَّفَةً كَمَا تَعْمَلُ مُشَدَّدَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنْ تُشْبِهُ الْفِعْلَ فَكَمَا يَجُوزُ إِعْمَالُ الْفِعْلِ تَامًّا وَمَحْذُوفًا فِي قَوْلِكَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَمْ يَكْ زَيْدٌ قَائِمًا فَكَذَلِكَ إِنَّ وَإِنْ.
وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا [الفجر: ١٩] مُشَدَّدَتَانِ، قَالُوا:
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ أصل لَمًّا بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مَلْمُومِينَ أَيْ مَجْمُوعِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَإِنَّ كُلًّا جَمِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ تَوْفِيَةِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ فِيهَا سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّوْكِيدَاتِ: أَوَّلُهَا: كَلِمَةُ «إِنَّ» وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ. وَثَانِيهَا: كَلِمَةُ «كُلٍّ» وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ. وَثَالِثُهَا: اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى خَبَرِ «إِنَّ» وَهِيَ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ أَيْضًا. وَرَابِعُهَا: حَرْفُ «مَا» إِذَا جَعَلْنَاهُ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ مَوْصُولًا. وَخَامِسُهَا: الْقَسَمُ الْمُضْمَرُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ واللَّه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَسَادِسُهَا: اللَّامُ
405
الثَّانِيَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ. وَسَابِعُهَا: النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَأَمْرِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو من أعظم المؤكدات.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)
[في قوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ قَالَ لرسوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وهذ الْكَلِمَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُشْكِلٌ جِدًّا وَأَنَا أَضْرِبُ لِذَلِكَ مِثَالًا يُقَرِّبُ صُعُوبَةَ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الظِّلِّ وَبَيْنَ الضَّوْءِ جُزْءٌ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فِي الْعَرْضِ، إِلَّا أَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الْخَطِّ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْحِسِّ عَنْ طَرَفَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَرُبَ طَرَفُ الظِّلِّ مِنْ طَرَفِ الضَّوْءِ اشْتَبَهَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْحِسِّ، فَلَمْ يَقَعِ الْحِسُّ عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْخَطِّ بِعَيْنِهِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فِي الْمِثَالِ فَاعْرِفْ مِثَالَهُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْعُبُودِيَّةِ، فَأَوَّلَهَا: مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى وَجْهٍ يُبْقِي الْعَبْدَ مَصُونًا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ عَنِ التَّعْطِيلِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، وَاعْتَبِرْ سَائِرَ مَقَامَاتِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَيْضًا فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَرَفَا إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْفَاصِلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ صَعْبٌ ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، بِتَقْدِيرِ مَعْرِفَتِهِ فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقَامُ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لَا جَرَمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا،
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا فَقَالَ: «نَعَمْ»
فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ آيَةٍ؟ فَقَالَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِأَعْمَالِ الْوُضُوءِ مُرَتَّبَةً فِي اللَّفْظِ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا لِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ فِي الزَّكَاةِ بِأَدَاءِ الْإِبِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مِنَ الْبَقَرِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ أَمْرُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ عُمُومُ النَّصِّ عَلَى حُكْمٍ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ انْحِرَافٌ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ وَأَغْنَى الْوَصْلُ بِالْجَارِّ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِضَمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ أَيْ فَاسْتَقِمْ أنت
وَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أُمِرْتَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً عَلَى تَقْدِيرِ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ فَلْيَسْتَقِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الرُّجُوعُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ اشْتِغَالُهُمَا بِالِاسْتِقَامَةِ، وَأَمَّا التَّائِبُ عَنِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الِاشْتِغَالُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنَاهِجِ دِينِ اللَّه تَعَالَى وَالْبَقَاءُ عَلَى طَرِيقِ عُبُودِيَّةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَطْغَوْا وَمَعْنَى الطُّغْيَانِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِقْدَارَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ تَوَاضَعُوا للَّه تَعَالَى وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَى أَحَدٍ وَقِيلَ وَلَا تَطْغَوْا فِي الْقُرْآنِ فَتُحِلُّوا حَرَامَهُ وَتُحَرِّمُوا حَلَالَهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَجَاوَزُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَحُدَّ لَكُمْ، وَقِيلَ: وَلَا تَعْدِلُوا عَنْ طَرِيقِ شُكْرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ عِنْدَ عِظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَنَقِيضُهُ/ النُّفُورُ عَنْهُ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْكَافِ وَالْمَاضِي مِنْ هَذَا رَكِنَ كَعَلِمَ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى رَكَنَ يَرْكَنُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَلَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أَيْ أَنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ، ثُمَّ قَالَ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ أَوْلِيَاءُ يُخَلِّصُونَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّه.
ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَالْمُرَادُ لَا تَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فكيف يكون حال الظالم في نفسه.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ أَرْدَفَهُ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه هُوَ الصَّلَاةُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ «كُتُبِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ» أَنَّ الْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْوَاجِبَ لَيْسَ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعِشَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا وَاقِعَانِ عَلَى طَرَفَيِ النَّهَارِ واللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يُوجِبُ صَلَوَاتٍ أُخْرَى.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ مَوْصُوفَانِ بِكَوْنِهِمَا زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ فَإِنَّ مَا لَا يَكُونُ نَهَارًا يَكُونُ لَيْلًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ صَلَّى طَرَفَيِ النَّهَارِ كَانَ
407
إِقَامَتُهُمَا كَفَّارَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَاهُمَا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَاجِبَةٌ إِلَّا/ أَنَّ إِقَامَتَهُمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِتَرْكِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَثُرَتِ الْمَذَاهِبُ فِي تَفْسِيرِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي مِنْهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ فَالطَّرَفُ الْأَوَّلُ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ التَّنْوِيرَ بِالْفَجْرِ أَفْضَلُ، وَفِي أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَصْرِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَبَيَّنَّا أَنَّ طَرَفَيِ النَّهَارِ هُمَا الزَّمَانُ الْأَوَّلُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالزَّمَانُ الثَّانِي لِغُرُوبِهَا، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، فَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ:
أَقِمِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْ طَرَفَيِ النَّهَارِ، لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنَ الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَقْتٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِلَى غُرُوبِهَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِقَامَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَ التَّنْوِيرِ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِ الطُّلُوعِ مِنْ إِقَامَتِهَا عِنْدَ التَّغْلِيسِ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ صَلَاةِ العصر عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَقْرَبُ إِلَى وقت الغروب من إقامتها عند ما يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْمَجَازُ كُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي ثَلَاثِ زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتَانِ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الْوَتْرِ حَتَّى يَحْصُلَ زُلَفٌ ثَلَاثَةٌ يَجِبُ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوَتْرِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ [سبأ: ٢٠] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طَهَ: ٣٠] فَالَّذِي هُوَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَالَّذِي هُوَ قَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وهو نظير قَوْلِهِ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ كلما يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ غَيْرَ الْجِمَاعِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِيَتَوَضَّأْ وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ لِيَقُمْ وَلْيُصَلِّ» فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ/ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً، فَقَالَ: «بَلْ هُوَ لِلنَّاسِ عَامَّةً»
وَقَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ قَالَ اللَّيْثُ: زُلْفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ طَائِفَةٌ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
وأصل الكلمة من الزلف وَالزُّلْفَى هِيَ الْقُرْبَى، يُقَالُ: أَزْلَفْتُهُ فَازْدَلَفْ أَيْ قَرَّبْتُهُ فَاقْتَرَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قرئ زُلَفاً بضمتين وزُلَفاً بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَزُلْفَى بِوَزْنِ قُرْبَى فَالزُّلَفُ جَمْعُ زُلْفَةٍ كَظُلَمٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ وَالزُّلْفُ بِالسُّكُونِ نَحْوُ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ وَالزُّلُفُ بِضَمَّتَيْنِ نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النهار من نَحْوُ: يُسُرٌ فِي يُسُرٍ، وَالزُّلْفَى بِمَعْنَى الزُّلْفَةِ كَمَا أَنَّ الْقُرْبَى بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ مَا يَقْرُبُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَقُرَبًا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
408
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَفَّارَاتٌ لِسَائِرِ الذُّنُوبِ بِشَرْطِ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ قول العبد سبحانه اللَّه وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه واللَّه أَكْبَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَشْرَفُ الْحَسَنَاتِ وَأَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فَالْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحَسَنَاتِ دَرَجَةً يُذْهِبُ الْكُفْرَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْعِصْيَانِ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ السَّيِّئَاتِ دَرَجَةً كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ إِزَالَةَ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُفِيدَ إِزَالَةَ الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُؤَبَّدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ إِلَى آخِرِهَا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْتَرْشِدِينَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قِيلَ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ١٣٢].
[سورة هود (١١) : آية ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَمْرَانِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ، وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كَلِمَةِ لَوْلَا فَمَعْنَاهُ هَلَّا إِلَّا الَّتِي فِي الصَّافَّاتِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الصَّافَّاتِ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ [الْقَلَمِ: ٤٩] وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْحِ: ٢٥] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: ٧٤]، وقوله: أُولُوا بَقِيَّةٍ فَالْمَعْنَى أُولُو فَضْلٍ وَخَيْرٍ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى أَيْ فَهَلَّا كَانَ مِنْهُمْ ذُو بَقَاءٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لها من سخط اللَّه تعالى وقرئ أُولُوا بَقِيَّةٍ بِوَزْنِ لُقْيَةٍ مِنْ بَقَّاهُ يُبَقِّيهِ إِذَا رَاقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْبَقِيَّةُ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ انْتِقَامِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِأُولِي الْبَقِيَّةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ النَّاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ هَلَّا قَرَأَ قَوْمُكَ الْقُرْآنَ إِلَّا الصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ تُرِيدُ اسْتِثْنَاءَ الصُّلَحَاءِ مِنَ الْمُرَغَّبِينَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنَ الْقُرُونِ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَسَائِرَهُمْ تَارِكُونَ لِلنَّهْيِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِنُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَالتَّرَفُّهُ النِّعْمَةُ وَصَبِيٌّ مُتْرَفٌ إِذَا كَانَ مُنَعَّمَ الْبَدَنِ، وَالْمُتْرَفُ الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْمَعِيشَةِ وَأَرَادَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكِي النَّهْيِ عن
الْمُنْكَرَاتِ أَيْ لَمْ يَهْتَمُّوا بِمَا هُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاتَّبَعُوا طَلَبَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَاشْتَغَلُوا بِتَحْصِيلِ الرِّيَاسَاتِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا أَيْ وَاتَّبَعُوا حَرَامًا أَتْرَفُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَكانُوا مُجْرِمِينَ ومعناه ظاهر.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أَهْلَ الْقُرَى إِلَّا بِظُلْمٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ المراد من الظلم هاهنا الشِّرْكُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ أَهْلَ الْقُرَى بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِذَا كَانُوا مُصْلِحِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لَا يَنْزِلُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْقَوْمِ مُعْتَقِدِينَ لِلشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، بَلْ إِنَّمَا يَنْزِلُ ذَلِكَ الْعَذَابُ إذا أساؤا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَسَعَوْا فِي الْإِيذَاءِ وَالظُّلْمِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إِنَّ حُقُوقَ اللَّه تَعَالَى مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ. وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الضِّيقِ وَالشُّحِّ. وَيُقَالُ فِي الْأَثَرِ الْمُلْكُ يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ أَيْ لَا يُهْلِكُهُمْ بِمُجَرَّدِ شِرْكِهِمْ إِذَا كَانُوا مُصْلِحِينَ يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ إِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ إِيذَاءِ النَّاسِ وَظُلْمِ الْخَلْقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ الَّذِي تَخْتَارُهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَهْلَكَهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ لَمَا كَانَ مُتَعَالِيًا عَنِ الظُّلْمِ فَلَا جَرَمَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ لِأَجْلِ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَالْإِجْبَارِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَالْمُرَادُ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْأَدْيَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِقْصَاءِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْ كِتَابَنَا الَّذِي سميناه «بالرياض المونقة» إلا أنا نذكر هاهنا تَقْسِيمًا جَامِعًا لِلْمَذَاهِبِ. فَنَقُولُ: النَّاسُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ، وَالشَّمْسَ مُضِيئَةٌ وَالْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُمَا، والمنكرون هم السفسطائية، وَالْمُقِرُّونَ هُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَرْكِيبُ تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ بِحَيْثُ يَسْتَنْتِجُ مِنْهَا نَتَائِجَ عِلْمِيَّةً نَظَرِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَيْضًا النَّظَرَ إِلَى الْعُلُومِ، وَهُمْ قَلِيلُونَ، وَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ لِهَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ مَبْدَأً أَصْلًا وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ لَهُ مَبْدَأً وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمَبْدَأُ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِنْهُمْ من يقول:
410
إِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ الرَّسُولَ، فَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْبَرَاهِمَةُ.
وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمَجُوسُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافَاتٌ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، وَالْعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْمَطَالِبُ غَامِضَةٌ، وَمُنَازَعَاتُ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَلَمَّا حَسُنَ مِنْ بُقْرَاطَ أَنْ يَقُولَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ الْعُمْرُ قَصِيرٌ، وَالصِّنَاعَةُ طَوِيلَةٌ، وَالْقَضَاءُ عُسْرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، فَلِأَنْ يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْغَامِضَةِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّكُمْ حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَدْيَانِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَعْمَالِ.
قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مَا قُلْنَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ، وَتِلْكَ الرَّحْمَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِزَاحَةِ الْعُذْرِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ/ يُقَالَ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِيهِ تِلْكَ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِأَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، فَيَرْحَمُهُ اللَّه بِالثَّوَابِ، وَيَحْتَمِلُ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّه بِأَلْطَافِهِ، فَصَارَ مُؤْمِنًا بِأَلْطَافِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا زَالَ بِسَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ جَارِيَةً مَجْرَى السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالثَّوَابُ شَيْءٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَالِاخْتِلَافُ جَارٍ مَجْرَى الْمُسَبَّبِ لَهُ، وَمَجْرَى الْمَعْلُولِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الثَّوَابِ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْأَلْطَافِ فَنَقُولُ: جَمِيعُ الْأَلْطَافِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَهِيَ مَفْعُولَةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَهَذِهِ الرحمة أمر مختص بِهِ الْمُؤْمِنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْأَلْطَافِ، وَأَيْضًا فَحُصُولُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ هَلْ يُوجِبُ رُجْحَانَ وُجُودِ الْإِيمَانِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ لَا يُوجِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ كَانَ وُجُودُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ سِيَّانِ، فَلَمْ يَكُ لُطْفًا فِيهِ، وَإِنْ أَوْجَبَ الرُّجْحَانَ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ وَجَبَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُصُولُ الْإِيمَانِ مِنَ اللَّه، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه، أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْإِيمَانُ عَنِ الْكُفْرِ، وَالْعِلْمُ عَنِ الْجَهْلِ، امْتَنَعَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الِامْتِيَازُ إِذَا عُلِمَ كَوْنُ أَحَدِ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ وَكَوْنُ الْآخَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ حُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ، أَنْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَالِمًا، وَذَلِكَ
411
يَقْتَضِي تَكْوِينَ الْكَائِنِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ زَوَالَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ وَحُصُولَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين هاهنا هُوَ الرَّحْمَةُ، وَالِاخْتِلَافُ أَبْعَدُهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَأَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كَانُوا مُطِيعِينَ لَهُ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. الثَّالِثُ: إِذَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦].
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ وَلِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ لَقَالَ: وَلِتِلْكَ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.
قُلْنَا: إِنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْفَضْلِ وَالْغُفْرَانِ كَقَوْلِهِ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الْكَهْفِ: ٩٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: ٥٦].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ وَأَهْلَ الِاخْتِلَافِ لِلِاخْتِلَافِ. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّه أَهْلَ الرَّحْمَةِ لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا، وَأَهْلَ الْعَذَابِ لِأَنْ يَخْتَلِفُوا، وَخَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْجَهْلَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا فِي الْعَبْدِ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى الْبَعْضِ بِكَوْنِهِمْ مُخْتَلِفِينَ وَعَلَى الْآخَرِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَعَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ انْقِلَابُ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَقْوَامًا لِلْهِدَايَةِ وَالْجَنَّةِ، وَأَقْوَامًا آخَرِينَ لِلضَّلَالَةِ وَالنَّارِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي هَذَا التأويل.
[سورة هود (١١) : آية ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقِصَصَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْفَائِدَةِ.
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَعَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِمِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَإِذَا رَأَى لَهُ فِيهِ مُشَارِكًا خَفَّ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، كَمَا يُقَالُ: الْمُصِيبَةُ إِذَا عَمَّتْ خَفَّتْ، فَإِذَا سَمِعَ الرَّسُولُ هَذِهِ الْقِصَصَ، وَعَلِمَ أَنَّ حَالَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِمْ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ هَكَذَا، سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ الْأَذَى مِنْ قَوْمِهِ وَأَمْكَنَهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ.
وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي قَوْلِهِ: فِي هذِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَثَانِيهَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَالِثُهَا: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهَذَا بَعِيدٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حَالَ سَائِرِ السُّوَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَكْمَلَ حَالًا مِمَّا ذُكِرَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] لَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْحَقُّ وَالْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى.
أَمَّا الْحَقُّ: فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ الصَّالِحَةِ.
وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْفِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُذَكِّرَةُ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّةِ الْجَسَدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَسِيَ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ فَالْكَلَامُ الْإِلَهِيُّ يُذَكِّرُهُ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الذِّكْرِ عليه.
ثم هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى عَجِيبَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْمَعَارِفَ الْإِلَهِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَابِلٍ وَمِنْ مُوجِبٍ، وَقَابِلُهَا هُوَ الْقَلْبُ، وَالْقَلْبُ مَا لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّجَلِّيَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرَ إِصْلَاحِ الْقَلْبِ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ صَلَاحَ حَالِ الْقَابِلِ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمُوجِبِ، وَهُوَ مَجِيءُ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لِلرَّسُولِ:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ الْبَالِغَةُ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَهَذَا عَيْنُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قال لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوا كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ/ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الشَّرِّ، فَنَحْنُ أَيْضًا عَامِلُونَ. وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٤] وَكَقَوْلِهِ:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] وَانْتَظِرُوا مَا يَعِدُكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْخِذْلَانِ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا وَعَدَنَا الرَّحْمَنُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغُفْرَانِ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَانْتَظِرُوا الْهَلَاكَ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ لَكُمُ الْعَذَابَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ خَاتِمَةً شَرِيفَةً عَالِيَةً جَامِعَةً لِكُلِّ الْمَطَالِبِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ. وَهِيَ: الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ. أَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَوْجُودَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
413
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ الْإِلَهِ وَكُنْهَ هَوِيَّتِهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ لِلْبَشَرِ صِفَاتُهُ، ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِهِ قِسْمَانِ: صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَصِفَاتُ الْإِكْرَامِ. أَمَّا صِفَاتُ الْجَلَالِ، فَهِيَ سُلُوبٌ، كَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ، وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا. وَهَذِهِ السُّلُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِأَنَّ السُّلُوبَ عَدَمٌ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ، لَا كَمَالَ فِيهِ، فَقَوْلُنَا لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ إِنَّمَا أَفَادَ الكلام لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ الدَّائِمِ الْمُبَرَّأِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ عَدَمُ النَّوْمِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ أَصْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ وَالْجَمَادَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤] إِنَّمَا أَفَادَ، الْجَلَالَ وَالْكَمَالَ وَالْكِبْرِيَاءَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُطْعَمُ يُفِيدُ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ غَنِيًّا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَلْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ هِيَ الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ، وَأَشْرَفُ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ صِفَتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَاتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهِمَا فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ. أَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِلْمَهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ وَالْحَاضِرَاتِ وَالْغَائِبَاتِ، وَتَمَامُ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ فِي دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى نِهَايَةِ الْكَمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَأَمَّا صِفَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَوْلُهُ:
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَصْدَرُ الْكُلِّ وَمَبْدَأُ الْكُلِّ هُوَ هُوَ وَالَّذِي يَكُونُ مَبْدَأً لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَيْهِ يَكُونُ مَرْجِعُ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، كَانَ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ نَافِذَ الْمَشِيئَةِ قَهَّارًا لِلْعَدَمِ بِالْوُجُودِ وَالتَّحْصِيلِ جَبَّارًا لَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّكْمِيلِ، فَهَذَانِ الْوَصْفَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي شَرْحِ جَلَالِ الْمَبْدَأِ وَنَعْتِ كِبْرِيَائِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مُهِمٌّ لَهُ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَكْمِيلُ النَّفْسِ بِالْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَهَا بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. أَمَّا بِدَايَتُهَا فَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْجَسَدَانِيَّةُ، فَأَفْضَلُ الْحَرَكَاتِ الصَّلَاةُ، وَأَكْمَلُ السَّكَنَاتِ الصِّيَامُ، وَأَنْفَعُ الْبِرِّ الصَّدَقَةُ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ: الْفِكْرُ، وَالتَّأَمُّلُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّه تَعَالَى في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَأَمَّا نِهَايَةُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَالِانْتِهَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، وَتَوْجِيهُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ إِلَى نُورِ عَالَمِ الْجَلَالِ، وَاسْتِغْرَاقُ الرُّوحِ فِي أَضْوَاءِ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَأَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مُهَرْوِلًا تَائِهًا فِي سَاحَةِ كِبْرِيَائِهِ هَالِكًا فَانِيًا فِي فَنَاءِ سَنَاءِ أَسْمَائِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ السَّيْرِ إِلَى اللَّه تَعَالَى هُوَ عُبُودِيَّةُ اللَّه، وَآخِرُهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُهِمَّةِ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْرِفُ كَيْفَ يَصِيرُ حَالُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَلْ لِأَعْمَالِهِ أَثَرٌ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يُهْمِلُ أَحْوَالَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْجَاحِدِينَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْضَرُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسَبُوا عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ وَيُعَاتَبُوا فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِالْإِشَارَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْعُلْوِيَّةِ، والمقاصد
414
الْقُدْسِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا لِلْعُقُولِ مُرْتَقًى وَلَا لِلْخَوَاطِرِ مُنْتَهًى واللَّه الْهَادِي لِلصَّوَابِ، تَمَّتِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنِهِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي النُّسْخَةِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهَا تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ خَتَمَهُ اللَّه بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتُّمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ لي ولد صالح حسن السِّيرَةِ فَتُوُفِّيَ فِي الْغُرْبَةِ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ، وَكَانَ قَلْبِي كَالْمُحْتَرِقِ لِذَلِكَ السَّبَبِ، فَأَنَا أَنْشُدُ اللَّه إِخْوَانِيَ فِي الدِّينِ وَشُرَكَائِيَ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ وَكُلَّ مَنْ نَظَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَانْتَفَعَ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الشَّابَّ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْمِسْكِينَ بِالدُّعَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آلِ عِمْرَانَ: ٨] وَصَلَّى اللَّه عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
415
Icon