ﰡ
- ١ - الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
- ٢ - أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
- ٣ - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
- ٤ - إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته هنا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ أَيْ هِيَ مُحْكَمَةٌ فِي لَفْظِهَا، مُفَصَّلَةٌ في معناها فالقرآن كَامِلٌ صُورَةً وَمَعْنًى، هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَكِيمِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، الْخَبِيرِ بِعَوَاقِبِ الأمور ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ أي أنزل هَذَا الْقُرْآنَ الْمُحْكَمَ الْمُفَصِّلَ لِعِبَادَةِ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ أَيْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ، وَبَشِيرٌ بِالثَّوَابِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا، فَدَعَا بُطُونَ قُرَيْشٍ الْأَقْرَبَ ثُمَّ الْأَقْرَبَ، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تُصَبِّحُكُمْ أَلَسْتُمْ مُصَدِّقِيَ؟» فَقَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ أَيْ وَآمُرُكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ، وَأَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى ذَلِكَ: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا، ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلِهِ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، كَقَوْلِهِ: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طيبة﴾ الآية، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدٍ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك»، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: " ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾، قَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِنْ عُوقِبَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا، بَقِيَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ لَمْ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا السَّمَاءَ بِفُرُوجِهِمْ وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي لفظ آخر له: أناس كان يستحون أَنْ يَتَخَلَّوْا، فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل بعد ذلك فيهم (أخرجه البخاري عن ابن عباس)، قال البخاري: ﴿يَسْتَغْشُونَ﴾ يغطون رؤوسهم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ،: يَعْنِي بِهِ الشَّكَّ فِي الله وعمل السيئات، أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِذَا قَالُوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله بذلك، فأخبرهم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ عِنْدَ مَنَامِهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ مِنَ الْقَوْلِ، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ مِنَ النِّيَّاتِ وَالضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ (زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى) فِي مُعَلَّقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
فلا تكتمن الله مَا فِي قلوبكم * ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثنى عنه صَدْرَهُ وَغَطَّى رَأْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَعَوْدُ الضمير إلى اللَّهِ أُولَى، لِقَوْلِهِ: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِأَرْزَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ سَائِرِ دَوَابِّ الْأَرْضِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وأنه يعلم مستقرها، أَيْ يَعْلَمُ أَيْنَ مُنْتَهَى سَيْرِهَا فِي الْأَرْضِ وَأَيْنَ تَأْوِي إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِهَا وَهُوَ مُسْتَوْدَعُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ أَيْ حَيْثُ تَأْوِي ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ حَيْثُ تَمُوتُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ في الرحم ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ في الصلب، فجميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله كقوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين﴾.
- ٨ - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قدرته على كل شيء وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا روى الإمام أحمد، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، قَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ»، قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شيء، وكان عرشه تحت الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ»، قَالَ، فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا، قَالَ فَخَرَجْتُ فِي إثرها، فلا أدري ما كان بعدي (قال ابن
كثير: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بألفاظ كثيرة، فمنها قالوا: جئنا نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ غيره، وفي رواية منه كان عرشه على المآء)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»، قال مُجَاهِدٌ: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ قَبْلَ أَنْ يخلق شيئاً، وقال قتادة: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ يُنْبِئُكُمْ كَيْفَ كَانَ بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لارتفاعه، وعن سعيد بن جبير: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ أي خلق السماوات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ أَيْ لِيَخْتَبِرَكُمْ ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ وَلَمْ يَقِلْ أَكْثَرُ عَمَلًا، بَلْ ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ حَسَنًا حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ، عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت﴾ الآية، يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ أَخْبَرَتْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا بَدَأَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الذي خلق السماوات والأرض، وَهُمْ مَعَ هَذَا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، وَقَوْلُهُمْ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا مَا نُصَدِّقُكَ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَحَرْتَهُ فَهُوَ يَتَّبِعُكَ عَلَى مَا تَقُولُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَئِنْ أخرنا عنهم العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ الآية، يقول تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب والمؤخذاة إلى أجل معدود وأمد محصور، وأوعدناهم إِلَى مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ لِيَقُولُنَّ
- ١٠ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
- ١١ - إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، إِلَّا مَنْ رحم الله، أنه إِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ حَصَلَ لَهُ يأس وقنوط بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَكُفْرٌ وَجُحُودٌ لِمَاضِي الْحَالِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا وَلَمْ يَرْجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجًا، وَهَكَذَا إِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِقْمَةٍ ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي﴾ أَيْ يَقُولُ ما يَنَالُنِي بَعْدَ هَذَا ضَيْمٌ وَلَا سُوءٌ، ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ أَيْ فَرِحٌ بِمَا فِي يَدِهِ بَطِرٌ فَخُورٌ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ أي على الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ فِي الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ، ﴿أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ أَيْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ بِمَا أَسْلَفُوهُ فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ وَلَا حَزَنٌ حتى الشوكة يشاكها إلا غفر اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأحد غير المؤمن».
- ١٣ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ١٤ - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله ﷺ عَمَّا كَانَ يَتَعَنَّتُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الرَّسُولِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ في قوله: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، فأمر اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره، ولا يصدنه ذلك ولا يثنيه عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ آنَاءَ الليل
دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَضَمِّنٌ عِلْمَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ﴿وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾.
- ١٦ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
قال ابن عباس: إِنَّ أَهْلَ الرِّيَاءِ يُعْطَوْنَ بِحَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، يَقُولُ: مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً الْتِمَاسَ الدُّنْيَا صَوْمًا أَوْ صَلَاةً لا يعمله إلا التماس الدنيا، أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ
فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ وحبط عمله الذي كان يعمله وهو في الآخرة من الخاسرين، وقال أنَس وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّيَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جَازَاهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الْآخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً؛ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ويثاب عليها في الآخرة، كما قال تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾، وقال تعالى: ﴿مَن كان يرد حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخرة من نصيب﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى فِطْرَةِ اللَّهِ تعالى، التي فطر عليها عباده، كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لدين حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه) الحديث. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ على دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتَ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سلطاناً). فَالْمُؤْمِنُ بَاقٍ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ أَيْ وَجَاءَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُكَمَّلَةِ الْمُعَظَّمَةِ، الْمُخْتَتَمَةِ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِهَذَا
- ١٩ - الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
- ٢٠ - أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ
- ٢١ - أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
- ٢٢ - لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
يُبَيِّنُ تَعَالَى حَالَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى رؤوس الخلائق، كما ورد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ:
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نَارًا حَامِيَةً، فَهُمْ مُعَذَّبُونَ فِيهَا لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ، ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾، مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ فَلَمْ تُجْدِ عَنْهُمْ شَيْئًا بَلْ ضَرَّتْهُمْ كُلَّ الضَّرَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً
وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿سيكفرون بعبادتهم ويكون عليهم ضدا﴾، وقال الخليل لقومه: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يكفر بعضكم لبعض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُسْرِهِمْ وَدَمَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مآلهم بأنهم أخسر الناس في الآخرة، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وَعَنِ الْحُورِ الْعَيْنِ بِطَعَامٍ مِنْ غِسْلِينٍ، وَعَنِ القصور العالية بالهاوية، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
- ٢٤ - مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَّنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات، وَبِهَذَا وَرِثُوا الْجَنَّاتِ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْغُرَفِ الْعَالِيَاتِ، والقطوف الدانيات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يهرمون ولا يمرضون وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ رشح مسك يعرقون؛ ثم ضرب تَعَالَى مَثَلَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فَأُولَئِكَ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَهَؤُلَاءِ كَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَالْكَافِرُ أعمى لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحُجَجِ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾، وأما المؤمن
- ٢٦ - أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
- ٢٧ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ ظَاهِرُ النَّذَارَةِ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ أَنْتُمْ عَبَدْتُمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلَّا اللَّهَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَا أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً، ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾، وَالْمَلَأُ هُمَ (السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ) مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾،
أَيْ لَسْتَ بِمَلَكٍ وَلَكِنَّكَ بَشَرٌ، فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دُونِنَا؟ ثم ما نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا كَالْبَاعَةِ وَالْحَاكَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَلَمْ يَتْبَعْكَ الْأَشْرَافُ وَلَا الرُّؤَسَاءُ مِنَّا، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ لم
يكن عن فكر وَلَا نَظَرٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمْ أَجَابُوكَ، ولهذا قالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي﴾ أي في أول بادئ ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، يَقُولُونَ: ما رأينا لكم
علينا فضلية في خَلْق ولا خُلُق لَمَّا دَخَلْتُمْ فِي دِينِكُمْ هَذَا، ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أَيْ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ والصلاح والعبادة والسعادة. هَذَا اعْتِرَاضُ الْكَافِرِينَ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وأتباعه، وهو دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ عَلَى الْحَقِّ رَذَالَةُ مَنِ اتَّبَعَهُ، سواء
اتَّبَعَهُ الْأَشْرَافُ أَوِ الْأَرَاذِلُ، بَلِ الْحَقُّ الَّذِي لا شك فيه أن أتباع الحق وهم الْأَشْرَافُ وَلَوْ كَانُوا فَقُرَّاءَ، وَالَّذِينَ يَأْبَوْنَهُ هُمُ الأراذل ولو كانوا أغنياء. والغالب على الأشراف والكبراء مخالفة الحق، كما قال تعالى: ﴿قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مقتدون﴾، وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل (أخرجه البخاري وهو جزء من حديث طويل)، وَقَوْلُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ لَيْسَ بِمَذَمَّةٍ وَلَا عَيْبٍ، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إِنَّمَا جاءوا بأمر جلي واضح، وفي الحديث: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ (أَبِي بَكْرٍ)، فَإِنَّهُ لَمْ يتلعثم» (أخرجه الشيخان في فضائل أبي بكر) أَيْ مَا تَرَدَّدَ وَلَا تَرَوَّى، لِأَنَّهُ رَأَى أمراً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع، وقوله: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، هَمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عميٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ، بَلْ هُمْ فِي ريبهم يترددون، وفي الآخرة هم الأخسرون.
يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح عَلَى قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ أَيْ عَلَى يَقِينٍ وَأَمْرٍ جَلِيٍّ وَنُبُوَّةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ اللَّهِ بِهِ وَبِهِمْ، ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ فَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا وَلَا عَرَفْتُمْ قَدْرَهَا بَلْ بَادَرْتُمْ إِلَى تَكْذِيبِهَا وَرَدِّهَا ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أَيْ نَغْصِبُكُمْ بِقَبُولِهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
- ٣٠ - وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تذكرون
يقول لقومه: ولا أسألكم على نصحي ﴿مَالاً﴾ أُجْرَةً آخُذُهَا مِنْكُمْ، إِنَّمَا أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ﴿وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾ طلبوا منه أن يطرد المؤمنين احتشاماً أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ، كَمَا سَأَلَ أَمْثَالُهُمْ خَاتَمَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الضُّعَفَاءِ وَيَجْلِسَ مَعَهُمْ مَجْلِسًا خَاصًّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾.
يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِّنَ الله يدعو إلى عبادة الله وحده، ولا يسألهم على ذلك أجراً، ثم هو يدعو الشريف والوضيع، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَدْ نَجَا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لا قدرة له عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ، وَلَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو بشرٌ مُرْسَلٌ مُؤَيَّدٌ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَا أَقُولُ عَنْ هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم، إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾، فَإِنْ كَانُوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى.
- ٣٣ - قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
- ٣٤ - وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ قَوْمِ نُوحٍ نقمة الله وعذابه - وَالْبَلَاءُ موكلٌ بِالْمَنْطِقِ - قَالُوا: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ أَيْ حَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَا نَتَبِّعُكَ، ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ أي من النقمة والعذاب ادع بما شئت علينا فَلْيَأْتِنَا مَا تَدْعُو بِهِ، ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ إِنَّمَا الَّذِي يُعَاقِبُكُمْ وَيُعَجِّلُهَا لَكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ
هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ فِي وَسَطِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، مُؤَكِّدٌ لَهَا مقرر لها، يَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الْجَاحِدُونَ افْتَرَى هَذَا وَافْتَعَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ،
﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ أي قائم ذَلِكَ عَلَيَّ، ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مُفْتَعَلًا وَلَا مُفْتَرًى، لِأَنِّي أَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ كَذَبَ عليه.
- ٣٧ - وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- ٣٨ - وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
- ٣٩ - فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نُوحٍ، لَمَّا اسْتَعْجَلَ قَوْمُهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَعَذَابَهُ لهم، فدعا عليهم نوح دعوته: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا﴾، ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر﴾ فعند ذلك أوحى الله إِلَيْهِ: ﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يَهُمَّنَّكَ أَمْرُهُمْ، ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ يَعْنِي السَّفِينَةَ، ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ أي بمرأى منا، ﴿وَوَحْيِنَا﴾ أي تعليمنا لك ما تَصْنَعُهُ، ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾. قال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ، وَعَنِ الْحَسَنِ: طُولُهَا ستمائة ذراع وعرضها ثلثمائة، وقيل غير ذلك، قالوا: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ كُلُّ طَبَقَةٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلْإِنْسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ، وَكَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبِقٌ عليها.
وقوله تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ أي يهزأون بِهِ وَيُكَذِّبُونَ بِمَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، ﴿قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ الآية. وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ، ﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي يهينه فِي الدُّنْيَا، ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا.
هذه موعدة مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا جَآءَ أَمْرُ الله من المطر الهتَّان، الذي لا يقلع ولا يفتر، كما
- ٤٢ - وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ
- ٤٣ - قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ للذين أمر بحملهم معه في السفينة أنه قال: ﴿ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ أَيْ بِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ جَرْيُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَبِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ رُسُوُّهَا. قال تَعَالَى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين﴾، وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ، عِنْدَ الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما روى الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَانُ أُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم اللَّهِ الْمَلِكِ ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ - الآية، - {بِسْمِ الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ "، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ مُنَاسِبٌ عِنْدَ ذِكْرِ الِانْتِقَامِ من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ * وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ أَيِ السَّفِينَةُ سَائِرَةٌ بِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طغت على رؤوس الْجِبَالِ، وَارْتَفَعَ عَلَيْهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ بثمانين ميلاً، وهذه السفينة جارية على وجه الماء بإذن الله وكنفه وعنايته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كفر﴾، وقوله: ﴿ونادى نُوحٌ ابنه﴾ الآية، هذا هو الابن الرابع واسمه يام (وقيل كنعان، وهو الهالك، وأما الناجي من ولد آدم فهو (سام، وحام، ويافث)) وكان كافراً، دعاه أبوه أَنْ يُؤْمِنَ وَيَرْكَبَ مَعَهُمْ، وَلَا يَغْرَقَ مِثْلَ مَا يَغْرَقُ الْكَافِرُونَ، ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ اعْتَقَدَ بِجَهْلِهِ أَنَّ الطُّوفَانَ لا يبلغ إلى رؤوس الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَنَجَّاهُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرَقِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ أَيْ لَيْسَ شيء
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إِلَّا أَصْحَابَ السَّفِينَةِ، أَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تَبْلَعَ مَاءَهَا الَّذِي نَبَعَ مِنْهَا وَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ عَنِ الْمَطَرِ ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾، أَيْ شَرَعَ فِي النَّقْصِ، ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أَيْ فُرِغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً مِمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَيَّارٌ، ﴿وَاسْتَوَتِ﴾ السَّفِينَةُ بِمَنْ فِيهَا ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ جبل بالجزيرة أرست عَلَيْهِ
سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها وأبقى الله السفينة على الجودي عِبْرَةً وَآيَةً، حَتَّى رَآهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ قَدْ كَانَتْ بَعْدَهَا فَهَلَكَتْ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْمَوْصِلِ، وقال بعضهم: هو الطور، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ السَّفِينَةَ طَافَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي عَاشِرِ شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً، وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ وَرَدَ نَحْوَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رواه
ابن جرير، وأنهم صاموا يومهم ذلك، والله أعلم، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ هَلَاكًا وَخَسَارًا لَهُمْ وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بقية، وقد روى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لرحم أم الصبي».
- ٤٦ - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
- ٤٧ - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ من الخاسرين
هذا سؤال استعلام مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الذي غرق: ﴿فقال إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ أَيْ وَقَدْ وَعَدَتْنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي وَوَعْدُكَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، فكيف غرق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أَيِ الَّذِينَ وَعَدْتُ إِنْجَاءَهَمْ لِأَنِّي إِنَّمَا وَعَدْتُكَ بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مَنْ أَهْلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول منهم﴾ فَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْغَرَقِ، لِكُفْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ أَبَاهُ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عليه السلام، قال ابن عباس: هُوَ ابْنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْعَمَلِ والنية، وقال عكرمة: إنه عمل عملاً غير صالح، وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قرأ بذلك.
قال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أَنْ يَكُفَّ الطُّوفَانُ أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الارض فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقِيلَ يَا أرض ابلعي ماءك﴾ الآية، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ عَلَى الْجُودِيِّ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رأى رؤوس الجبال، وظهر البر، وكشف نوح غطاء الفلك ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ الآية.
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَأَشْبَاهُهَا ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ يَعْنِي مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السالفة نوحيها إليك كَأَنَّكَ شَاهِدُهَا ﴿نُوحِيهَآ إِلَيْكَ﴾ أَيْ نُعْلِمُكَ بِهَا وَحْيًا مِنَّا إِلَيْكَ، ﴿مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا﴾ أَيْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ عَلِمٌ بِهَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ يُكَذِّبُكَ إِنَّكَ تَعَلَّمْتَهَا مِنْهُ، بَلْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا مُطَابِقَةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، فَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَأَذَاهُمْ لَكَ فَإِنَّا سَنَنْصُرُكَ وَنَحُوطُكَ بِعِنَايَتِنَا، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بِالْمُرْسَلِينَ حَيْثُ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمنوا﴾ الآية، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
- ٥١ - يا قوم لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- ٥٢ - وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تتولوا مجرمين
يقول تعالى: ﴿وَ﴾ لقد أَرْسَلْنَا ﴿إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ آمِرًا لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ نَاهِيًا لهم عن الْأَوْثَانِ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَاخْتَلَقُوا لَهَا أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى هَذَا النُّصْحِ وَالْبَلَاغِ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا يَبْغِي ثوابه مِنَ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَهُ، ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ وَبِالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه، ولهذا قال: ﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ».
- ٥٤ - إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
- ٥٥ - مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
- ٥٦ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
يخبر تعالى أَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ﴿مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ أَيْ بحجة وَبُرْهَانَ عَلَى مَا تَدَّعِيهِ، ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ أَيْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ اتْرُكُوهُمْ نتركهم ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بِمُصَدِّقِينَ، ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ يَقُولُونَ مَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْآلِهَةِ أَصَابَكَ بِجُنُونٍ وَخَبَلٍ فِي عَقْلِكَ، بِسَبَبِ نَهْيِكَ عَنْ عِبَادَتِهَا وَعَيْبِكَ لَهَا، ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ﴾، يَقُولُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ أَيْ أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ إن كانت حقاً ﴿ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ أي طرفة عين. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ أي تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مستقيم، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْمَقَامُ حُجَّةً بَالِغَةً، وَدَلَالَةً قاطعة على صدق ما جاء هم بِهِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ هِيَ جَمَادٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ الله وحده، الذي ما من شيء إلا تحت قهره وَسُلْطَانِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ٥٨ - وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
- ٥٩ - وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
- ٦٠ - وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود
يقول لهم هُودٌ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِإِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي بَعَثَنِي بِهَا، ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ يعبدونه وحده ولا يشركون به وَلَا يُبَالِي بِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَهُ بِكُفْرِكُمْ بَلْ يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ أَيْ شَاهِدٌ وَحَافِظٌ لأقوال عباده وأفعالهم، ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ وهو الريح العقيم أهلكهم الله عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ، ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ كَفَرُوا بِهَا وَعَصَوْا رُسُلَ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فنزّل كفرهم مَنْزِلَةَ مَنْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ ﴿وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ تَرَكُوا اتِّبَاعَ رَسُولِهِمُ الرَّشِيدِ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فَلِهَذَا أُتْبِعُوا في هذه الدنيا لعنة كُلَّمَا ذُكِرُوا، وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يقول تعالى: ﴿وَ﴾ لقد أَرْسَلْنَا ﴿إِلَى ثَمُودَ﴾ وَهْمُ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ مَدَائِنَ الْحِجْرِ بَيْنَ تَبُوكَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ فَبَعَثَ اللَّهُ مِنْهُمْ ﴿أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ فَأَمَرَهُمْ بعبادة الله وحده، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ﴾ أَيِ ابتدأ خلقكم منها خلق أباكم آدم،
﴿واستعمركم فِيهَا﴾ أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها، ﴿فاستغفروه﴾ لسالف ذنوبكم ﴿ثُمَّ
توبوا إليه﴾ فيما تسقبلونه ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ الآية.
- ٦٣ - قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ بَيْنَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا﴾ أَيْ كُنَّا نَرْجُوكَ فِي عَقْلِكَ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ مَا قُلْتَ ﴿أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُنَا، ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ أي شك كثير، ﴿قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ عَلَى يَقِينٍ وَبُرْهَانٍ، ﴿وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾، وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا نَفَعْتُمُونِي وَلَمَا زِدْتُمُونِي ﴿غَيْرَ تَخْسِير﴾ أَيْ خَسَارَةٍ.
- ٦٥ - فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
- ٦٦ - فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
- ٦٧ - وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
- ٦٨ - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ إِلاَّ أَن ثَمُودَ كَفَرُوا ربهم ألا بعدا لثمود
تقدم في الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا وبالله التوفيق.
- ٧٠ - فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ
- ٧١ - وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
- ٧٢ - قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
- ٧٣ - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رحمت اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ﴾ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قِيلَ تُبَشِّرُهُ بِإِسْحَاقَ، وَقِيلَ بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَيَشْهَدُ للأول قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لوط﴾، ﴿قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ﴾ أَيْ عَلَيْكُمْ، قَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ: هَذَا أَحْسُنُ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ أَيْ ذَهَبَ سَرِيعًا، فَأَتَاهُمْ بِالضِّيَافَةِ وَهُوَ عجلٌ فتيٌّ الْبَقَرِ، ﴿حَنِيذٍ﴾ مشوي على الرَّضْف وهي الحجارة المحماة، هذل معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وَغَيْرِ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إليهم فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ مِنْ وجه كَثِيرَةٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا
رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾ ينكرهم، ﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَلَا يَشْتَهُونَهُ وَلَا يأكلونه، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاء بِهِ فَارِغِينَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكِرَهُمْ ﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِقَوْمِ لُوطٍ أَقْبَلَتْ تَمْشِي فِي صورة رِجَالٍ شُبَّانٍ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَتَضَيَّفُوهُ، فلما رآهم أجلَّهم ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ فذبحه ثم شواه في الرضف وَأَتَاهُمْ بِهِ فَقَعَدَ مَعَهُمْ، وَقَامَتْ سَارَّةُ تَخْدِمُهُمْ، فذلك حين يقول ﴿وامرأته قائمة﴾ (امرأة إبراهيم: هي سارة، والغلام الذي بشرت به - كما ذكره السهيلي - هو إسحاق، قال: ولم تلد سارة لإبراهيم غيره، وأما إسماعيل فهو بكره من هاجر القبطية) وهو جالس، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴿قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾؟ قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالَ: فَإِنَّ لِهَذَا ثَمَنًا، قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ: تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ، فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَقَالَ: حُقَّ لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾، يَقُولُ فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فَزِعَ مِنْهُمْ وأوجس منهم خفية، وقالت سارة: عجباً لأضيافنا نَخْدِمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا كَرَامَةً لَهُمْ وَهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ طعامنا؟! ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾ أَيْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ مِنَّا إِنَّا مَلَائِكَةٌ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ لوط لنهلكم، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، قال ابن عباس: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ أي حاضت، وقول وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّمَا ضَحِكَتْ لَمَّا بُشِّرَتْ بإسحاق، فمخالف لِهَذَا السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ صَرِيحَةٌ مُرَتَّبَةٌ عَلَى ضحكها ﴿فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ أَيْ بِوَلَدٍ لَهَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَعَقِبٌ ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، ومن هنا اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِنَّمَا هُوَ (إِسْمَاعِيلُ) وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يكون إِسْحَاقُ لِأَنَّهُ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ إِبْرَاهِيمُ
- ٧٥ - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ
- ٧٦ - يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مردود
يخبر تعالى عن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خفية حِينَ لَمْ يَأْكُلُوا وَبَشَّرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول: أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا مائتا مؤمن؟ قَالُوا: لَا، حَتَّى بَلَغَ خَمْسَةً، قَالُوا: لَا، قَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ، ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته﴾ الآية، فسكت عنهم واطمأنت نفسه (قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه)، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ مدحٌ لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها. وقوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾ الآية، أَيْ إِنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهِمُ الْقَضَاءُ وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِالْهَلَاكِ وَحُلُولِ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرد عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
- ٧٨ - وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ
- ٧٩ - قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قدوم الملائكة بعدما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه، فَانْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَوْا لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمْ فِي أَجْمَلِ صُورَةٍ تَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ شبان حسان الوجوه، ابتلاءً من الله - وله الحكمة والحجة البالغة - فَسَاءَهُ شَأْنُهُمْ وَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِهِمْ، وَخَشِيَ إِنْ يُضِيفَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فَيَنَالُهُمْ بِسُوءٍ، ﴿وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾، قال ابن عباس: شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُدَافِعُ عَنْهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ أتوه وهو في أرض
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ إِنَّمَا نُرِيدُ الرِّجَالَ.
- ٨١ - قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ لُوطًا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ الآية، أَيْ لَكُنْتُ نَكَّلْتُ بِكُمْ وَفَعَلْتُ بِكُمُ الْأَفَاعِيلَ بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - يَعْنِي اللَّهَ عزَّ وجلَّ - فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ في ثروة من قومه»، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ إليه، وأنهم لا وصول لهم إليه، ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ وَأَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَأَنْ يَتَّبِعَ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ يَكُونُ سَاقَةً لِأَهْلِهِ، ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ أَيْ إِذَا سَمِعْتَ مَا نَزلَ بِهِمْ وَلَا تَهُولُنَّكُمْ تلك الأصوات المزعجة، وقوله: ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك﴾، ذكروا أنها خرجت معهم ولما سمعت الوجبة التفت وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ، فَجَاءَهَا حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا لَهُ هَلَاكَ قَوْمِهِ تَبْشِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ، فَقَالُوا: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾؟ هَذَا وَقَوْمُ لوط وقوف على
- ٨٣ - مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ جَآءَ أَمْرُنَا﴾ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ طلوع الشمس ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا﴾ وهي سدوم ﴿سَافِلَهَا﴾، كقوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غشى﴾، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي حِجَارَةً مِّن طِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وقد قاله في الآية الأخرى: ﴿حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ أَيْ مُسْتَحْجَرَةً قَوِيَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَشْوِيَّةٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿سِجِّيلٍ﴾ الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ، سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ اللام والنون أختان، وَقَوْلُهُ: ﴿مَّنْضُودٍ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْضُودَةٌ فِي السَّمَاءِ أَيْ مُعَدَّةٌ لِذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿مَّنْضُودٍ﴾ أَيْ يتبع بعضهم بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿مُّسَوَّمَةً﴾ أَيْ معلمة كُلُّ حَجَرٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اسْمُ الَّذِي يَنْزِلُ عليه، فَبَيْنَا أَحَدُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ يَتَحَدَّثُ، إِذْ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَسَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ فَدَمَّرَهُ، فَتَتْبَعُهُمُ الْحِجَارَةُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَ جِبْرِيلُ قَوْمَ لُوطٍ مِنْ سَرْحِهِمْ وَدُورِهِمْ، حَمَلَهُمْ بِمَوَاشِيهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ وَرَفَعَهُمْ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثم كفأها؛ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن، وَلَمَّا قَلَبَهَا كَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شرفاتها. وقال قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيهم مِنْ قُصُورِهَا وَدَوَابِّهَا وَحِجَارَتِهَا وَشَجَرِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَضَمَّهَا فِي جَنَاحِهِ، فَحَوَاهَا وَطَوَاهَا فِي جَوْفِ جَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى سَمِعَ سُكَّانُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ النَّاسِ وَالْكِلَابِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَلَبَهَا، فَأَرْسَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ مَنْكُوسَةً، وَدَمْدَمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فجعل عليها سافلها، ثم أتبعها حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ، قال تَعَالَى: ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الؤتفكات. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَصْبَحَ قَوْمُ لُوطٍ نَزلَ جِبْرِيلُ فَاقْتَلَعَ الْأَرْضَ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ فَحَمَلَهَا حَتَّى بَلَّغَ بِهَا السَّمَاءَ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا نُبَاحَ كِلَابِهِمْ وَأَصْوَاتَ دُيُوكِهِمْ ثُمَّ قلبها فقتلهم فذلك قوله: ﴿والمؤتفكة أهوى﴾، ومن لم يمت حتى سَقَطَ لِلْأَرْضِ أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ الْحِجَارَةَ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاذًّا فِي الْأَرْضِ يَتْبَعُهُمْ فِي الْقُرَى، فَكَانَ الرَّجُلُ يَتَحَدَّثُ فَيَأْتِيهِ الْحَجَرُ فَيَقْتُلُهُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ
عزَّ وجلَّ: ﴿وأمطرنا عليها﴾ أي في القرى حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ أَيْ وَمَا هَذِهِ النِّقْمَةُ مِمَّنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي ظلمهم ببعيد عنه.
-[٢٢٩]-
يَقُولُ تَعَالَى: ؟؟ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ﴾ وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَسْكُنُونَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ قريباً من معان، بلاداً تعرف بِهِمْ يُقَالُ لَهَا (مَدْيَنُ)، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ شعيباً وكان من أشرافهم نَسَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الله تعالى وحده لا شريك له وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أي في معيشتكم ورزقكم، وإني أخاف أَنْ تُسْلَبُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ بِانْتِهَاكِكُمْ مَحَارِمَ اللَّهِ، ﴿وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
- ٨٦ - بقيت اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بحفيظ
نهاهم أَوَّلًا عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِذَا أَعْطَوُا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن، ونهاهم عن العثو فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَقَوْلُهُ: ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَخْسِكُمُ النَّاسَ، وقال الربيع: وَصِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَاعَةُ الله، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. وقال ابن جرير: أَيْ مَا يَفْضُلُ لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس، قُلْتُ: وَيُشْبِهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كثرة الخبيث﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أَيْ بِرَقِيبٍ وَلَا حَفِيظٍ، أَيْ افْعَلُوا ذَلِكَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، لا تفعلوا لِيَرَاكُمُ النَّاسُ بَلْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
يَقُولُونَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التهكم - قبحهم الله - ﴿أصلاتك﴾ أي قراءتك (قاله الأعشى)، ﴿تَأْمُرُكَ
أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ أي الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ فنترك التطفيف عن قولك، وهي أَمْوَالُنَا نُفعل فِيهَا مَا نُرِيدُ، قَالَ الْحَسَنُ في الآية: إيْ وَاللَّهِ إِنَّ صَلَاتَهُ لَتَأْمُرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾؟ يعنون الزكاة، ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد؟!﴾ يقول ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ قَبَّحَهُمُ الله ولعنهم وقد فعل.
- ٩٠ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
يَقُولُ لَهُمْ: ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾ أَيْ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتِي وَبُغْضِي عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عليه من الكفر والفساد، فيصبيكم مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، وقال قَتَادَةُ: ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾ يَقُولُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ فِرَاقِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَدَاوَتِي، عَلَى أن تمادوا فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ فَيُصِيبُكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا أصابهم، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم مِنْ دَارِهِ فَقَالَ: ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم
هكذا، وشبّك بين أصابعه (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ قِيلَ المراد في الزمان، قال قتادة: يعني إنما هلكوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ بِالْأَمْسِ، وَقِيلَ: فِي الْمَكَانِ، وَيُحْتَمَلُ الأمران، ﴿واستغفروا رَبَّكُمْ﴾ من سالف الذنوب، ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ لمن تاب.
- ٩٢ - قال يا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
-[٢٣١]-
يَقُولُونَ: ﴿يا شعيب مَا نَفْقَهُ﴾ ما نفهم ﴿كَثِيراً﴾ من قولك، ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فينا ضعيفا﴾ (روي عن سعيد بن جبير والثوري أنهما قالا: كان شعيب ضرير البصر)، قال السدي: أنت واحد، وقال أبو روق: يَعْنُوُنُ ذَلِيلًا، لِأَنَّ عَشِيرَتَكَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ، ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ أي قومك لَرَجَمْنَاكَ} قِيلَ: بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: لَسَبَبْنَاكَ، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ أي ليس عندنا لك معزة، ﴿قال يا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ﴾، يَقُولُ: أَتَتْرُكُونِي لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أَنْ تَنَالُوا نَبِيَّهُ بِمَسَاءَةٍ وَقَدِ اتَّخَذْتُمْ جَانِبَ اللَّهِ ﴿وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ أَيْ نَبَذْتُمُوهُ خَلْفَكُمْ لَا تُطِيعُونَهُ وَلَا تُعَظِّمُونَهُ، ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أَيْ هُوَ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ وَسَيَجْزِيكُمْ عليها.
- ٩٤ - وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
- ٩٥ - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
لَمَّا يئس نبي الله شعيب من استجابتهم لَهُ قَالَ: يَا قَوْمِ ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أي طريقتكم، وهذا تهديد شديد ﴿إني عامل﴾ على طريقتي، ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾، أَيْ مِنِّي وَمِنْكُمْ، ﴿وَارْتَقِبُوا﴾ أَيْ انْتَظِرُوا، ﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿جَاثِمِينَ﴾ أَيْ هامدين لا حراك بهم. وذكر ههنا أنه أتتهم صحية، وَفِي الْأَعْرَافِ رَجْفَةٌ، وَفِي الشُّعَرَاءِ ﴿عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾، وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَذَابِهِمْ هَذِهِ النِّقَمُ كُلُّهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي كل سياق ما يناسبه، وَقَوْلُهُ: ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ أَيْ يَعِيشُوا فِي دَارِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ ﴿أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ وَكَانُوا جِيرَانَهُمْ قَرِيبًا مِنْهُمْ في الدار، وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم.
- ٩٧ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
- ٩٨ - يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
- ٩٩ - وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ
يَقُولُ تعالى مخبراً عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه ﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي، ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أَيْ لَيْسَ فِيهِ رُشْدٌ وَلَا هُدًى، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَكُفْرٌ وَعِنَادٌ؛ وَكَمَا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ وَرَئِيسَهُمْ، كَذَلِكَ هُوَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ القيامة إلى نار جهنم، ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَتْبُوعِينَ يَكُونُونَ مُوفَرِينَ في
- ١٠١ - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
لَمَّا ذَكَرَ تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم من أُمَمِهِمْ وَكَيْفَ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: ﴿ذلك من أَنْبَآءِ القرى﴾ أي أخبارهم، ﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ﴾ أَيْ عَامِرٌ، ﴿وَحَصِيدٌ﴾ أي هالك، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ أَيْ إِذْ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴿وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا وَكَفْرِهِمْ بِهِمْ، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾ أوثانهم التي يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا ﴿مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ ما نفعوهم ولا أنقذوهم بِإِهْلَاكِهِمْ، ﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾. قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ ودمارهم إنما كان باتباعبهم تلك الآلهة، فلهذا خسروا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ الْقُرُونَ الظَّالِمَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِنَا كذلك نفعل بأشباههم،
﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ الآية.
- ١٠٤ - وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ
- ١٠٥ - يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
يقول تعالى: إِنَّ في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين ﴿لآيَةً﴾ أي عظة واعتباراً على صدق موعودنا في الآخرة، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الآية. وقوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ﴾ أَيْ أَوَّلُهُمْ وآخرهم، كقوله: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا﴾، ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الْخَلَائِقُ بِأَسْرِهِمْ،
مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ أَيْ ما نؤخر إقامة الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَتْ كَلِمَةُ
خروجهم قامت السَّاعَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ أَيْ لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ولا ينقص مِنْهَا، ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إِلاَّ بِإِذْنِ الله، كقوله: ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾، وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: «وَلَا يَتَكَلَّمُ يومئذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يومئذٍ اللَّهُمَّ سلّمْ سلّمْ»، وَقَوْلُهُ: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ أَيْ فَمِنْ أَهْلِ الْجَمْعِ شَقِيَ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ، كَمَا قَالَ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَحَالَ السُّعَدَاءِ فقال:
- ١٠٧ - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقِ فِي الصَّدْرِ، أَيْ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيرٌ وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقٌ، لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ العذاب، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ قَالَ ابن جَرِيرٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِالدَّوَامِ أَبَدًا قَالَتْ: هَذَا دَائِمٌ، دوام السماوات وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: هُوَ بَاقٍ مَا اخْتَلَفَ الليل والنهار، يعنون بذلك كله أَبَدًا، فَخَاطَبَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾
قلت: ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات وَالْأَرْضُ الْجِنْسُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي عَالَمِ الآخرة
من سماوات وَأَرْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غير الأرض والسموات﴾، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَّا دامت السماوات والأرض﴾ قال: يقول سَمَاءٌ غَيْرَ هَذِهِ السَّمَاءِ وَأَرْضٌ غَيْرَ هَذِهِ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض، وعن ابن عباس قال: لكل جنة سماء وأرض، وقال ابن أَسْلَمَ: مَا دَامَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا وَالسَّمَاءُ سَمَاءً، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، كقوله: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حكيم عليم﴾، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الاستثناء على أقوال كثيرة نقل كثيراً منها ابن جرير رحمه الله، واختار أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ عَلَى (الْعُصَاةِ) مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، مِمَّنْ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ الشافعين، ثُمَّ تَأْتِي رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَتُخْرِجُ مِنَ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَقَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
﴿لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ إِلَّا من وجب عليه الخلود فيها، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وحديثاً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ﴾ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾ أَيْ فَمَأْوَاهُمُ الْجَنَّةُ، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ معنى الاستثناء ههنا أَنْ دَوَامَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ
- ١١٠ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
- ١١١ - وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ بَاطِلٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِن قَبْلُ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الْآبَاءِ فِي الْجَهَالَاتِ وَسَيَجْزِيهِمُ اللَّهُ على ذلك أتم الجزاء، قال سفيان الثوري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾، قال: ما وعدوا من خير أو شر، وقال ابن أَسْلَمَ: لَمُوَفُّوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْ مُؤْمِنٍ بِهِ وَمِنْ كَافِرٍ بِهِ، فَلَكَ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قبلك يا محمد أسوة، فلا يغظنك تكذيبهم لك، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تأجليه الْعَذَابَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، ثم أخبر تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنَ الْأُمَمِ ويجزيهم بأعمالهم فَقَالَ: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أَيْ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ جميعاً، جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظُلِمُواْ﴾ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الشِّرْكِ، وَقَالَ أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظلموا؛ وهذا القول حسن، أي لا تسعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم، ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مَنْ وَلِيٍّ يُنْقِذُكُمْ، وَلَا ناصر يخلصكم من عذابه.
- ١١٣ - وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
-[٢٣٥]-
يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ
على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عَنِ الطُّغْيَانِ وَهُوَ الْبَغْيُ، فَإِنَّهُ مَصْرَعَةٌ حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَلَى مُشْرِكٍ، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ لَا يَغْفُلُ عَنْ شَيْءٍ ولا يخفى عليه شيء.
- ١١٥ - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ قَالَ: يعنى الصبح والمغرب، وقال الحسن: هِيَ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الصُّبْحُ في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى، ﴿وزلفا من الليل﴾ يعني صلاة العشاء (وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغيرهم)، وقال مجاهد وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ؛ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَجِبُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاتَانِ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَفِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قِيَامٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَثَبَتَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ عنه أيضاً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ السَّالِفَةَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ أَحَدٌ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِلَّا غَفَرَ لَهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهُمْ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ وَقَالَ: «مَنْ توضأ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فيها نفسه، غفر له ما تقد من من ذنبه». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. وقال البخاري، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئات﴾، فقال الرجل: يا رسول الله إلى هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» (أخرجه البخاري ورواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود).
وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قَالَ، قُلْنَا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «غِشُّهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ فيتقبل مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث»، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير عَنْ أَبِي الْيَسَرِ (كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو
- ١١٧ - وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا وُجِدَ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، يَنْهَوْنَ عَمَّا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أَيْ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الضَّرْبِ قَلِيلٌ لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الشَّرِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ﴾ أي استمروا على ما عليه مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِنْكَارِ أُولَئِكَ حَتَّى فَجَأَهُمُ الْعَذَابُ، ﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهِيَ ظَالِمَةٌ لِنَفْسِهَا، وَلَمْ يَأْتِ قَرْيَةً مُصْلِحَةً نقمته وَعَذَابُهُ قَطُّ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بظلام للعبيد﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً من إيمان أو كفر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ أَيْ وَلَا يَزَالُ الْخُلْفُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَدْيَانِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَآرَائِهِمْ، قال عكرمة: مختلفين في الهدى، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَن
يَقُولُ تَعَالَى: وَكُلُّ أَخْبَارٍ نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قَبْلَكَ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَكَيْفَ جَرَى لَهُمْ مِنَ المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من الكتذيب وَالْأَذَى، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ حِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُ الْكَافِرِينَ، كُلُّ هَذَا مِمَّا ﴿نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي قلبك يا محمد لِيَكُونَ لَكَ بِمَنْ مَضَى مِنْ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أُسْوَةً، وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾ أي فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وكيف أنجاهم اللَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، وَأَهْلَكَ الْكَافِرِينَ، جَاءَكَ فِيهَا قَصَصُ حَقٍّ وَنَبَأُ صِدْقٍ وَمَوْعِظَةٌ يَرْتَدِعُ بِهَا الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون.
- ١٢٢ - وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أَيْ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَمَنْهَجِكُمْ، ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ أَيْ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَمَنْهَجِنَا، ﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ أَيْ ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، وقد أنجز الله لرسوله وعده وَأَيَّدَهُ، وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
يخبر تعالى أنه عالم السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب، وسيؤتي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ كَافٍ مِنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ مُكَذِّبُوكَ يَا مُحَمَّدُ بَلْ هُوَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسنصرك وحزبك عليهم في الدارين.