تفسير سورة ص

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة ص من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة ص مكية وهي ثمانون وثمان آيات.

سورة ص
وهي ثمانية وثمان آيات مكية
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)
قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ قرأ الحسن: صاد بالكسر. وجعلها من المصاداة. يقول عارض القرآن: أي عارض عملك بالقرآن. ويقال: بقلبك. وروى معمر، عن قتادة، في قوله ص قال: هو كما تقول تلق كذا أي: هيئ نفسك لقدوم فلان. يعني: طهر نفسك بآداب القرآن كما قال صلّى الله عليه وسلم: «القُرْآنُ مَأْدُبَةُ الله تَعَالَى فَتَطَّعمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ» وكان عيسى ابن مريم يعمر، يقرأ صَادَ بالنصب، وكذلك يقرأ قاف، ونون بالنصب. ومعناه: اقرأ صاد، وقراءة العامة بسكون الدال، لأنها حروف هجاء، فلا يدخلها الإعراب، وتقديرها الوقف عليها. وقيل: في تفسير قول الله تعالى: ص يعني: الله هو الصادق. ويقال: هو قسم. وَالْقُرْآنِ عطف عليه قسم بعد قسم. ومعناه أقسمت بصاد، وبالقرآن. وقال علي بن أبي طالب: الصاد اسم بحر في السماء. وقال ابن مسعود في قوله: ص وَالْقُرْآنِ يعني: صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من الباطل. وقال الضحاك: معناه صدق الله.
ثم قال وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يعني: والقرآن ذي الشرف. ويقال: فيه ذكر من كان قبله، وجواب القسم عند قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤] والجواب قد يكون مؤخراً عن الكلام كما قال: وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر: ١، ٢] وجوابه قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤] وقوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج: ١] وجوابه قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢] وقال بعضهم: جواب القسم هاهنا كَمْ أَهْلَكْنا ومعناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذف اللام.
ثم قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي: في حمية. كقوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة: ٢٠٦]
يعني: الحمية. ويقال: فِي عِزَّةٍ يعني: في تكبر وَشِقاقٍ يعني: في خلاف من الدين بعيد.
ويقال: في عداوة، ومباعدة، وتكذيب. وقال القتبي: بل في اللغة على وجهين أحدهما لتدارك كلام غلطت فيه. تقول: رأيت زيداً بل عمراً. والثاني أن يكون لترك شيء، وأخذ غيره من الكلام كقوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ.
ثم خوّفهم فقال عز وجل: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني: من أمة فَنادَوْا يعني: فنادوا في الدنيا، واستغاثوا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يعني: وليس تحين فرار. قال الكلبي: فكانوا إذا قاتلوا، قال بعضهم لبعض: مَناصٍ يعني: يقول احمل حملة واحدة، فينجو من نجا، ويهلك من هلك. فلما أتاهم العذاب قالوا: مَناصٍ مثل ما كانوا يقولون.
فقال الله تعالى: ليس تحين فرار وهي لغة اليمن. وقال القتبي: النوص التأخر. والبوص التقدم في كلام العرب. وروى معمر عن قتادة في قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: نادوا على غير حين النداء. وقال عكرمة: نادوا وليس تحين انفلات. وقال أبو عبيدة: اختلفوا في الوقف. فقال بعضهم: يوقف عند قوله: وَلاتَ ثم يبتدأ ب حِينَ مَناصٍ لأنا لا نجد في شيء من كلام العرب ولات. أما المعروف لا ولأنَّ تفسير ابن عباس يشهد لها، وذلك أنه قال: ليس تحين فرار. وليس هي أخت لا ولا بمعناها. قال أبو عبيد ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له: مصحف الإمام. وهو مصحف عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فوجدت التاء متصلة مع حين.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤ الى ١٠]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
ثم قال عز وجل: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني: مخوف منهم، ورسول منهم يعني: من العرب وهو محمد صلّى الله عليه وسلم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ يكذب على الله تعالى أنه رسوله أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً يعني: كيف يتسع لحاجتنا إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ يعني: لأمر عجيب. والعرب تحول فعيلاً إلى فعال. وهاهنا أصله شيء عجيب. كما قال في سورة ق عَجِيبٌ [هود: ٧٢، ق: ٢] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قال الفقيه أبو الليث رحمه
الله: أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه نفر من قريش، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويقول ويقول، ويفعل ويفعل، فأرسل إليه، فانهه عن ذلك، فأرسل إليه أبو طالب، وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل، فخشي أبو جهل إن جاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه، أن يكون أرق له عليه. فوثب أبو جهل، فجلس في ذلك المجلس، فلما جاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يجد مجلساً إلا عند الباب. فلما دخل، قال له أبو طالب: يا ابن أخي إن قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول، وتفعل وتفعل. فقال: «يَا عَمُّ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، تُدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِي إليهِم بِهَا العَرَبُ والعَجَمُ الجِزْيَةَ». فقالوا: وما هي فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، ويقولون: جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
يعني: الأشراف من قريش أَنِ امْشُوا يعني: امكثوا وَاصْبِرُوا يعني:
اثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ يعني: على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يعني: لأمر يراد كونه بأهل الأرض. ويقال: إن هذا لشىء يراد. يعني: لا يكون ولا يتم له مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ يعني: في اليهود والنصارى إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ يعني: يختلقه من قبل نفسه.
ويقال: في قوله: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يعني: أراد أن يكون.
ثم قال عز وجل: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا يعني: أخصّ بالنبوة من بيننا. يقول الله عز وجل: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي يعني: في ريب من القرآن والتوحيد بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: لم يذوقوا عذابي كقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤] أي: لم يدخل فهذا تهديد لهم، أي: سيذوقوا عذابي.
ثم قال: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني: مفاتيح رحمة ربك. يعني: مفاتيح النبوة بأيديهم، ليس ذلك بأيديهم، وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ يعني: بيد الله الْعَزِيزِ في ملكه الْوَهَّابِ لمن يشاء. بل الله يختار من يشاء للوحي، فيوحي الله عز وجل وهي الرسالة لمن يشاء وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني: إن لم يرضوا بما فعل الله تعالى، فليتكلفوا الصعود إلى السماء. وقال القتبي: أسباب السماء أي:
أبواب السماء، كما قال القائل. ولو نال أسباب السماء بسلم. قال: ويكون أيضاً فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني: في الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى إلى السماء، فتأتيهم بآية، وهذا كله تهديد، وتوبيخ بالعجز.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١١ الى ٢٠]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
159
ثم قال عز وجل: جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ يعني: جند عند ذلك، وما زائدة. يعني: حين أرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلم مَهْزُومٌ يعني: مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني: من الكفار. وقال مقاتل: فأخبر الله تعالى بهزيمتهم ببدر. وقال الكلبي: يعني: عند ذلك إن أرادوه مَهْزُومٌ مغلوب.
ثم قال عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ يعني: من قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ يعني: ذو ملك ثابت، شديد دائم ويقال: ذو بناء محكم. ويقال: يعني: في عز ثابت. والعرب تقول: فلان في عز ثابت الأوتاد. يريدون دائم شديد، وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد. ويقال: هي أوتاد كانت لفرعون يعذب بها، وكان إذا غضب على أحد شدّه بأربعة أوتاد.
ثم قال: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ يعني: الغيضة وهم قوم شعيب- عليه السلام- أُولئِكَ الْأَحْزابُ يعني: الكفار، سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا على أنبيائهم. أي:
تجمعوا، وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش، حزب من هؤلاء الأحزاب إِنْ كُلٌّ يعني: ما كل إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ يعني: وجب عذابي عليهم.
قوله عز وجل: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ يعني: قومك إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني: النفخة الأولى مَّا لَها مِنْ فَواقٍ يعني: من نظرة، ومن رجعة. قرأ حمزة والكسائي فَواقٍ بضم الفاء. وقرأ الباقون: بالنصب. ومعناهما واحد. يسمى ما بين حلبتي الناقة فَواقٍ لأن اللبن يعود إلى الضرع. وكذلك إفاقة المريض يعني: يرجع إلى الصحة. فقال: مَّا لَها مِنْ فَواقٍ يعني: من رجوع. وقال أبو عبيدة: من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة يذهب بها إلى إفاقة المريض، ومن ضمها جعلها من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين، يعني: ما لها من انتظار. وقال القتبي: الفُواق والفَواق واحد، وهو ما بين الحلبتين.
ثم قال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال ابن عباس وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لقريش: «مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ». فقالوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا يعني:
160
صحيفتنا، وكتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة. ويقال:
لما نزل قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: ١٩] فقالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا هذا الكتاب قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ استهزاء.
ثم عزّى نبيه صلّى الله عليه وسلم فقال عز وجل: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من التكذيب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ يعني: ذا القوة على العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبل على طاعة الله عز وجل.
وقال مقاتل: أَوَّابٌ يعني: مطيع.
قوله عز وجل: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يعني: ذلّلنا الجبال يُسَبِّحْنَ مع داود- عليه السلام- بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ يعني: في آخر النهار، وأوله. وروى طاوس أن ابن عباس قال لأصحابه: هل تجدون صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا: لا. قال: بلى. قوله: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ كانت صلاة الضحى يصليها داود- عليه السلام-.
ثم قال عز وجل: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً يعني: مجموعة كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ يعني: مطيع.
وقال عمرو بن شرحبيل: الأواب بلغة الحبشة المسيح. وقال الكلبي: المقبل على طاعة الله تعالى.
قوله عز وجل: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ يعني: قوّينا حراسه. قال مقاتل والكلبي: كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. ويقال: قوينا ملكه، وأثبتناه، وحفظناه عليه. وروي في الخبر أن غلاماً استعدى على رجل، وادعى عليه بقراً فأنكر المدعى عليه، وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه، فسأل داود من الغلام البينة، فلم يقمها، فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه، ويسلم البقر إلى الغلام. فقال داود: هو منام ثم أتاه الوحي بذلك، فأخبر بذلك بنو إسرائيل، فجزعت بنو إسرائيل وقالوا: رجل لطم غلاماً لطمة فقتله بذلك. فقال داود- عليه السلام-: هذا أمر الله تعالى به، فسكتوا. ثم أحضر الرجل فأخبره أن الله تعالى أمره بقتله. فقال الرجل: صدقت يا نبي الله: إني قتلت أباه غيلة، وأخذت البقر، فقتله داود، فعظمت هيبته، وشدد ملكه. فلما رأى الناس ذلك جلّ أمره في أعينهم، وقالوا:
إنه يقضي بوحي الله تعالى، ثم إن الله تعالى أرخى سلسلة من السماء، وأمره بأن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان ظالماً لا يقدر على أخذ السلسلة. وقد كان غصب رجل من رجل لؤلؤاً، فجعل اللؤلؤ في جوف عصاً له، ثم خاصمه المدعي إلى داود- عليه السلام- فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤاً، وإني لصادق في مقالتي. فجاء، وأخذ السلسلة، ثم قال المدعى عليه: خذ مني العصا، فأخذ عصاه، وقال: إني قد دفعت إليه اللؤلؤ، وإني لصادق في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة. فتحير داود- عليه السلام- في ذلك، فرفعت السلسلة، وأمره بأن يقضي بالبينات والأيمان، فذلك قوله عز وجل: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ
161
يعني: الفهم، والعلم. ويقال: يعني: النبوة وَفَصْلَ الْخِطابِ يعني: القضاء بالبينات، والأيمان. وقال قتادة، والحسن وَفَصْلَ الْخِطابِ يعني: البينة على الطالب، واليمين على المطلوب.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
ثم قال عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ يعني: خبر الخصم. ويقال: خبر الخصوم أي: وهل أتاك يا محمد، ما أتاك، حين أتاك، ويقال: وقد أتاك إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ والتسور أن يصعد في مكان مرتفع، وإنما سمي المحراب سوراً، لارتفاعه من الأرض. ويقال تَسَوَّرُوا يعني: دخلوا عليه من فوق الجدار. وقال الحسن البصري: وذلك أن داود- عليه السلام- جزأ الدهر أربعة أيام. فيوماً لنسائه، ويوماً لقضائه، ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه، ويوماً لبني إسرائيل ليسألونه فقال يوماً لبني إسرائيل: أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوماً لا يصيب الشيطان منه شيئاً؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لا نستطيع. فحدث داود نفسه أنه يستطيع ذلك.
فدخل محرابه، وأغلق بابه، فقام يصلي في المحراب، فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون، فوقع قريباً منه، فنظر إليه، فأعجبه، فوقع في نفسه منه، فدنا منه ليأخذه، فوقع قريباً منه وأطمعه، أن سيأخذه، ففعل ذلك ثلاث مرات، حتى إذا كان في الرابعة، ضرب يده عليه فأخطأه، ووقع على سور المحراب. قال: وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء، فضرب يده عليه، وهو على سور المحراب، فأخطأه وهرب الطائر، فأشرف داود، فإذا بامرأة تغتسل، فلما رأته نقضت شعرها، فغطى جسدها، فوقع في نفسه منها ما يشغله عن
162
صلاته، فنزل من محرابه، ولبست المرأة ثيابها، وخرجت إلى بيتها، فخرج حتى عرف بيتها، وسألها من أنت؟ فأخبرته: فقال: هل لك زوج؟ قالت: نعم. قال أين هو؟ فقالت: في بعث كذا وكذا، وجند كذا وكذا. فرجع، وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا، فاجعل فلاناً في أول الخيل. فقدم في فوارس، فقاتل، فقتل. ثم انتظر حتى انقضت عدتها، فخطبها، وتزوجها. فبينما هو في المحراب، إذ تسور عليه ملكان، وكان الباب مغلقاً، ففزع منهما، فقالا: لا تخف خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل. ثم خاصم أحدهما الآخر، فقال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً إلى آخره.
فعلم داود- عليه السلام- أنه مراد بذلك، فخرّ راكعاً وأناب. قال الحسن: سجد أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة. قال: ولم يذق طعاماً، ولا شراباً، حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك. وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس، أنه سجد أربعين يوماً حتى سقط جلد وجهه، ونبت العشب من دموعه. فقال: يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي، وذكر أن جبريل- عليه السلام- قال له: اذهب إلى أوريا فاستحل منه، فإنك تسمع صوته في يوم كذا، فأتاه ذات ليلة فناداه، فأجابه، فاستحل منه، فقال: أنت في حلّ. فلما رجع، قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك. قال: لا. قال: فإنك لم تفعل شيئاً. قال: فارجع، فأخبره بالذي صنعت، فرجع داود فأخبره بذلك، فقال: أنا خصمك يوم القيامة، فرجع مغتماً، وبكى أربعين يوماً فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله تعالى يقول: إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي، وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء، فسري عنه ذلك، وكان محزوناً في عمره، باكياً على خطيئته. وروي في خبر آخر، أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم: يا إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فيستجاب لهم. فقال لهم داود- عليه السلام- اذكروني فيهم. فقولوا: يا إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وداود، فقالوا: الله أمرك بهذا. قال: لا. فقالوا: لا نزيد فيهم ما لم يأمرك الله تعالى بذلك. فسأل داود ربه أن يجعله فيهم، فأوحى الله تعالى إليه، وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد، وما لقي إسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم، فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم. وقال بعضهم: هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي مثل داود أنه يفعل مثل ذلك، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه، فقال للمدعي: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فنسبه إلى الظلم بقول المدعي. فكان ذلك منه زلة، فاستغفر ربه عن زلته، فذلك قوله: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ وقال بعضهم: كانوا اثنين. فذكر بلفظ الجماعة فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ويقال بعضهم: كانوا جماعة، ولكنهم كانوا فريقين فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ يعني: استطال، وظلم بعضنا على بعض فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل وَلا تُشْطِطْ أي ولا تجر في الحكم،
163
والقضاء. ويقال: أشططت إذا جرت وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ يعني: أرشدنا إلى أعدل الطريق.
قوله عز وجل: إِنَّ هذآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها يعني: أعطني هذه النعجة. وهذا قول الكلبي ومقاتل. وقال القتبي أَكْفِلْنِيها يعني: ضمها إليّ، واجعلني كافلها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ يعني: غلبني في الكلام قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي: مع نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ يعني: من الإخوان والشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: ليظلم بعضهم بعضاً إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يظلمون وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ يعني: قليل منهم الذين لا يظلمون.
فلما قضى بينهما داود- عليه السلام- أحب أن يعرفهما، فصعد إلى السماء حيال وجهه وَظَنَّ داوُدُ يعني: علم داود. ويقال: ظن بمعنى أيقن. إلا أنه ليس بيقين عياناً، لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم. أَنَّما فَتَنَّاهُ يعني: ابتليناه، واختبرناه. ويقال: إنهما ضحكا، وذهبا. فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه بذلك. وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ أَنَّما فَتَنَّاهُ بالتخفيف، ومعناه ظن أن الملكين اختبراه، وامتحناه في الحكم وقراءة العامة فَتَنَّاهُ بالتشديد يعني: أن الله عز وجل قد اختبره، وامتحنه بالملكين فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ يعني:
وَخَرَّ وقع راكعاً ساجداً وَأَنابَ يعني: أقبل إلى طاعة الله تعالى بالتوبة. وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الله الجبلي قال: إن داود لم يرفع رأسه إلى السماء، مذ أصاب الخطيئة حتى مات. وذكر في الخبر أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده، فولد له منها سليمان، وكان خليفته بعده.
يقول الله عز وجل: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني: ذنبه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربه وَحُسْنَ مَآبٍ أي: المرجع في الآخرة. وروي أن كاتباً كان يكتب قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ وكان تحت شجرة، فقرأها، وكتبها، فخرت الشجرة ساجدة لله تعالى، وهي تقول: اللهم اغفر بها ذنباً، وخرت الدواة ساجدة كذلك، وهي تقول اللهم: احطط عني بها وزراً. وكذلك الصحيفة التي في يده، وهي تقول: اللهم أحدث مني بها شكراً. وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيتني الليلة، وأنا نائم، كأني أصلي خلف الشجرة، فقرأت السجدة فسجدتُّ فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم آية سجدة، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. وأيضاً سئل ابن عباس عن سجدة ص من أين سجدت. قال: أما تقرأ هذه الآية: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، ثم قال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم اقتداءً به.
164
ثم قوله عز وجل: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يعني: أكرمناك بالنبوة، وجعلناك خليفة، والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله، فقام مقام الخلفاء الذين قبله، وكان قبله النبوة في سبط، والملك في سبط آخر، فأعطاهما الله تعالى لداود.
ثم قال: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني: بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: لا تمل إلى هوى نفسك، فتقضي بغير عدل. ويقال: لا تعمل بالجور في القضاء، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى كما اتبعت في بتشايع، وهي امرأة أوريا، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله تعالى.
ويقال: يعني: الهوى يستزلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن دين الله الإسلام لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ يعني: بما تركوا من العمل ليوم القيامة، فلم يخافوه. ويقال: بما تركوا الإيمان بيوم القيامة.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
قوله عز وجل: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الخلق باطِلًا يعني: عبثاً لغير شيء، بل خلقناهما لأمر هو كائن ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: يظنون أنهما خلقتا لغير شيء، وأنكروا البعث فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ يعني: جحدوا من النار يعني: من عذاب النار أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وذلك أن كفار مكة قالوا: إنا نعطى في الآخرة، من الخير أكثر مما تعطون فنزل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في الثواب كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: كالمشركين. وقال في رواية الكلبي: نزلت في مبارزي يوم بدر أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: علياً، وحمزة، وعبيدة رضي الله عنهم كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد. ويقال: نزلت في جميع المسلمين، وجميع الكافرين. يعني: لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة، كما قال في آية أُخرى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً
[الجاثية: ٢١].
ثم قال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ يعني: كالفجار في الثواب. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الوعيد.
ثم قال عز وجل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ يعني: أنزلنا جبريل- عليه السلام- به إليك مُبارَكٌ يعني: كتاب مبارك فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به، وصدقه، وعمل بما فيه،
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي: لكي يتفكروا في آياته. قرأ عاصم في إحدى الروايتين: لِتَدَبَّرُوا بالتاء مع النصب، وتخفيف الدال. وهو بمعنى: لتتدبروا. فحذفت إحدى التاءين، وتركت الأخرى خفيفة، وقراءة العامة لِيَدَّبَّرُوا بالياء، وتشديد الدال. وهو بمعنى: ليتدبروا. فأدغمت التاء في الدال، وشددت.
ثم قوله عز وجل: وَلِيَتَذَكَّرَ يعني: وليتعظ بالقرآن أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: ذوو العقول من الناس.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ يعني: أعطينا لداود سليمان. وروي عن ابن عباس أنه قال:
أولادنا من مواهب الله عز وجل.
ثم قرأ: ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى: ٤٩] فوهب الله تعالى لداود سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبلاً إلى طاعة الله تعالى.
قوله عز وجل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ يعني: في آخر النهار الصَّافِناتُ الْجِيادُ يعني: الخيل. قال الكلبي ومقاتل: صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه، فيقوم على طرف حافره. وقال أهل اللغة: الصافن الواقف من الخيل. وفي الخبر: «مَنْ أَحَبَّ أنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفاً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» يعني: يديمون له القيام، والجياد الحسان. ويقال: الإسراع في المشي. وقال ابن عباس في رواية الكلبي: إن أهل دمشق من العرب، وأهل نصيبين جمعوا جموعاً، وأقبلوا ليقاتلوا سليمان، فقهرهم سليمان، وأصاب منهم ألف فرس عراب، فعرضت على سليمان الخيل، فجعل ينظر إليها، ويتعجب من حسنها، حتى شغلته عن صلاة العصر، وغربت الشمس، ثم ذكرها بعد ذلك، فغضب، وقال: رُدُّوها عَلَيَّ، فضرب بسوقها، وأعناقها بالسيف، حتى خرّ منها تسعمائة فرس، وهي التي كانت عرضت عليه، وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه كما كان في أيدي الناس الآن من الجياد، فهو من نسلها أي: من نسل المائة الباقية.
قوله تعالى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ يعني: آثرت حب المال عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني: عن الصلاة، وهي صلاة العصر حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ يعني: حتى غابت الشمس،
166
وهذا إضمار لما لم يسبق ذكره. يعني: ذكر الشمس لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة عن العبارة. قوله. عز وجل رُدُّوها عَلَيَّ يعني: قال سليمان: ردوا الخيل عليّ، فردت عليه فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ يعني: يضرب السوق وهو جماعة الساق وَالْأَعْناقِ وهو جمع العنق. وروي عن إبراهيم النخعي قال: كانت عشرين ألف فرس. وقال السدي: كانت خيل لها أجنحة. وقال أبو الليث: يجوز أن يكون مراده في سرعة السير، كأن لها أجنحة. وقال بعضهم: كانت الجن والشياطين أخرجتها من البحر. وقال عامة المفسرين في قوله: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ يعني: فضرب سوقها، وأعناقها. وقال بعضهم: لم يعقر ولكن جعل على سوقهن، وعلى أعناقهن، سمة وجعلها في سبيل الله. قال: لأن التوبة لا تكون بأمر منكر. ولكن الجواب عنه أن يقال له: يجوز أن يكون ذلك مباحاً في ذلك الوقت، وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يعني:
شيطاناً. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن سليمان أمر بأن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل، فعاقبه الله تعالى. فأخذ شيطان يقال له: صخر خاتمه، وجلس على كرسيه أربعين يوماً، وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة ثُمَّ أَنابَ يعني: رجع إلى ملكه، وأقبل على طاعة الله تعالى. وقال الحسن في قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطاناً. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: سألت كعباً عن قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطاناً. يعني: أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه، فقذفه في البحر، فوقع في بطن سمكة، وانطلق سليمان يطوف، فتصدق عليه بسمكة، فشواها ليأكل، فإذا فيها خاتمه. وقال وهب بن منبه: إن سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب، وكان لها عبد، فطلبت منه أن يجزرها لعبدها. يعني: ينحر الجزور فأجزرها، فكره ذلك منه ثم ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه. وروى معمر عن قتادة في قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: كان الشيطان جلس على كرسيه أربعين ليلة، حتى ردّ الله تعالى إليه ملكه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطان يقال له صخر. قال له سليمان يوماً: كيف تفتنون الناس؟ فقال له: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه، نبذه في البحر، فذهب ملكه، وقعد صخر على كرسيه، ومنعه الله تعالى نساء سليمان، فلم يقربهن، فأنكرته أم سليمان، أهو سليمان أم آصف؟ فكان يقول: أنا سليمان. فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً، فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، ودخل صخر البحر فاراً. وذكر شهر بن حوشب نحو هذا، وقال: لما جلس سليمان على سريره، بعث في طلب صخر، فأتي به، فأمر به، فقورت له صخرة، وأدخله فيها، ثم أطبق عليها، وألقاه في البحر، وقال: هذا سجنك إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: هذا التفسير الذي قاله هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح، لأنه
167
لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطاناً من الشياطين على أحكام المسلمين، ويجلسه على كرسي نبي من الأنبياء- عليهم السلام- ولكن تأويل الآية والله أعلم: أن سليمان كان له ابن، فجاء ملك الموت يوماً زائراً لسليمان، فرآه ابنه فخافه، وتغيّر لونه، ومرض من هيبته، فأمر سليمان- عليه السلام- الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك عنه، فلما رفعته الريح فوق السحاب، ودنا أجله، فقبض ابنه، وألقي على كرسيه فذلك قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يعني: ابنه الميت. قال: والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت الذي لا يأكل الطعام، والشراب، كالميت ونحوه. وذكر أن سليمان جزع على ابنه، إذ لم يكن له إلا ابن واحد، فدخل عليه ملكان، فقال أحدهما: إن هذا مشى في زرعي فأفسده. فقال له سليمان: لم مشيت في زرعه؟ فقال: لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس، ولم أجد مسلكاً غير ذلك. فقال سليمان للآخر: لم زرعت في طريق الناس، أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه؟ فقال لسليمان: صدقت. لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على الموت؟ ثم غابا عنه. فاستغفر سليمان فذلك قوله: ثُمَّ أَنابَ يعني: تاب ورجع إلى طاعة الله عز وجل.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
قوله عز وجل: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً أي: أعطني ملكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قال سعيد بن جبير: أعطني ملكاً لا تسلبه كما سلبت في المرة الأولى. ويقال:
إنما تمنى ملكاً لا يكون لأحد من بعده، حتى يكون ذلك معجزة له، وعلامة لنبوته. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ يعني: المعطي الملك.
قوله عز وجل: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح، والشياطين. فلما دعا بذلك، سخرت له الريح والشياطين. فقال: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: بأمر سليمان. ويقال: بأمر الله تعالى رُخاءً يعني: لينة مطيعة حَيْثُ أَصابَ يعني: حيث أراد من الأرض، والنواحي أَصابَ يعني: أراد. وقال الأصمعي:
العرب تقول: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب. يعني: أراد الصواب، فأخطأ الجواب.
وَالشَّياطِينَ يعني: سخرنا له كل شيء، وسخرنا له الشياطين أيضاً كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ
يعني: يغوصون في البحر، ويستخرجون اللؤلؤ، وقال مقاتل: وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ يعني: مردة الشياطين موثقين فِي الْأَصْفادِ يعني: في الحديد ويقال: الْأَصْفادِ الأغلال.
ثم قال عز وجل: هذا عَطاؤُنا يعني: هذا عطاؤنا لك، وكرامتنا عليك فَامْنُنْ يعني: اعتق من شئت منهم، فخلّ سبيله من الشياطين أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني: احبس في العمل، والوثاق، والسلاسل من شئت منهم بِغَيْرِ حِسابٍ أي: فلا تبعة عليك في الآخرة فيمن أرسلته، وفيمن حبسته. ويقال: ليس عليك بذلك إثم وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى يعني: لقربى وَحُسْنَ مَآبٍ يعني: حسن المرجع.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
قوله عز وجل: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ يعني: واذكر صبر عبدنا أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ يعني: دعا ربه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ يعني: أصابني الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وهو المشقة والعناء والأمراض، وعذاب في ماله. يعني: هلاك أهله، وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء قوله عز وجل: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا يعني: قال له جبريل: اضرب الأرض برجلك، فضرب فنبعت عين من تحت قدميه، فاغتسل فيها، فخرج منها صحيحاً، ثم ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد، فشرب منها، فذلك قوله هذا مُغْتَسَلٌ يعني: الذي اغتسل منها. ثم قال: بارِدٌ وَشَرابٌ يعني: الذي شرب منها.
قوله عز وجل: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً يعني: قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة. وقال الكلبي ضِغْثاً أي: مجتمعاً. وقال مقاتل: الضغث القبضة الواحدة، فأخذ عيداناً رطبة من الآس، فيه مائة عود. وقال القتبي:
الضغث الحزمة من العيدان، والكلأ فَاضْرِبْ بِهِ يعني: اضرب به امرأتك وَلا تَحْنَثْ في يمينك. وقال الزجاج: قالت امرأته: لو ذبحت عناقاً باسم الشيطان؟ فقال: لا، وَلاَ كَفّاً مِن تُرَاب. وحلف أنه يضربها مائة سوط، وأمر بأن يبرّ في يمينه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً على البلاء الذي ابتليناه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبل على طاعة ربه. وقال وهب بن منبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، ومكث يوسف في السجن سبع سنين، ويقال: إِنَّهُ أَوَّابٌ لما هلك ماله. قال: كان ذلك من عطاء الله، ولما هلك أولاده قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦]
ولما ابتلي بالنفس قال: إني له. ويقال: واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب، إذ ضاق صدرك من أذى الكفار، وأمر أمتك ليذكروا صبره، ويعتبروا، ويصبروا.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٦٤]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
ثم قال عز وجل: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ فجعل العبد نعت إبراهيم خاصة، كأنه قال:
واذكر عبدنا قرأ ابن كثير واذكر عَبْدَنَا بغير ألف وقرأ الباقون: عِبادَنا بالألف. فمن قرأ عبدنا فمعناه: واذكر عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ فجعل العبد نعتاً لإبراهيم خاصة، فكأنه قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَاذكر إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ومن قرأ عِبادَنا يعني: ما بعده مع إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، ويَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ يعني: أولي القوة في العبادة، والأبصار. يعني:
ذوي البصر في أمر الله تعالى.
قوله عز وجل: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ يعني: اختصصناهم بذكر الله تعالى، وبذكر الجنة، وليس لهم همّ إلا همّ الآخرة. ويقال: معناه واذكر صبر إبراهيم، وصبر إسحاق، وصبر يعقوب، ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتلَ بشيء. قرأ نافع بِخالِصَةٍ بغير تنوين على معنى الإضافة. وقرأ الباقون مع التنوين. وروي عن مالك بن دينار أنه قال:
نزع الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ من حب الدنيا، وذكرها، وقد أخلصهم بحب الآخرة، وذكرها. ومن قرأ
170
بِخالِصَةٍ بالتنوين، جعل قوله: ذِكْرَى الدَّارِ بدلاً من خالصة. والمعنى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بذكر الدار، والدار هاهنا دار الآخرة. يعني: جعلناهم لنا خالصين، بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار، والرجوع إلى الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ يعني: المختارين للرسالة، الأخيار في الجنة.
ثم قال: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ قال مقاتل: واذكر صبر إسماعيل، وهو أشمويل بن هلفانا.
وقال غيره: هو إسماعيل بن إبراهيم. يعني: اذكر لقومك صبر إسماعيل، وصدق وعده وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ واليسع كان خليفة إلياس، وذا الكفل كفل مائة نبي أطعمهم، وكساهم، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا ذِكْرٌ يعني: هذا الذي ذكرنا من الأنبياء- عليهم السلام- في هذه السورة ذِكْرٌ يعني: بيان لعظمته وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ من هذه الأمة لَحُسْنَ مَآبٍ يعني: حسن المرجع.
ثم وصف الجنة فقال عز وجل: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ يعني: تفتح لهم الأبواب فيدخلونها. يعني: الجنة كما قال تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] فإذا دخلوها، وجلسوا على السرر، وكانوا مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ يعني: ألوان الفاكهة، والشراب وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ يعني: غاضات أعينهن عن غير أزواجهن أَتْرابٌ يعني: ذات أقران. أي: مستويات على سن واحد هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ يقول: إِنَّ هَذَا يعني: إنّ هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، بالياء على معنى الإخبار عنهم. وقرأ الباقون:
بالتاء على معنى المخاطبة. يقول الله تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا يعني: إن هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ يعني: لا يكون له فناء، ولا انقطاع عنهم، وهذا كما قال تعالى: لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: ٣٣] ثم قال: هذا يعني: هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله: هذا.
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ يعني: للكافرين، لبئس المرجع لهم في الآخرة.
ثم بيّن مرجعهم فقال عز وجل: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يعني: يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ يعني: فبئس موضع القرار هذا فَلْيَذُوقُوهُ يعني: هذا العذاب لهم فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهو ماء حار قد انتهى حرّه. قرأ حمزة والكسائي، وحفص غَسَّاقٌ بتشديد السين وقرأ الباقون: بالتخفيف. وعن عاصم روايتان. رواية حفص بالتشديد، ورواية أبي بكر بالتخفيف.
فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال، وهو ما يسيل من جلود أهل النار. ومن قرأ بالتخفيف
171
جعله مصدر غسق يغسق غساقاً. أي: سال. وروي عن ابن عباس، وابن مسعود، أنهما قرءا غَسَّاقٌ بالتشديد، وفسراه بالزمهرير. وقال مقاتل: الغساق البارد الذي انتهى برده. وقال الكلبي: الحميم هو ماء حار قد انتهى حره. وأما غساق فهو الزمهرير يعني: برد يحرق كما تحرق النار وقال بعضهم: الغساق: المنتن بلفظ الطحاوية ثم قال عز وجل: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ يعني: وعذاب آخر من نحوه يعني: من نحو الحميم والزمهرير. قرأ أبو عمر، وابن كثير، في إحدى الروايتين وأخر مِن شَكْلِهِ بضم الألف. وقرأ الباقون: وَآخَرُ بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة، ومعناه: وأنواع أخر ومن قرأ: وَأَخَّرَ بنصب الألف بلفظ الواحد، يعني: وعذاب آخر من شكله أي: مثل عذابه الأول أَزْواجٌ يعني: ألوان هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ يعني: جماعة داخلة معكم النار. يقال: اقتحم إذا دخل في المهالك، وأضلوا الدخول. تقول الخزنة للقادة: وهذه جماعة داخلة معكم النار، وهم الأتباع لاَ مَرْحَباً بِهِمْ يعني: لا وسع الله لهم إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ يعني: داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ يعني: لا وسع الله عليكم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني: أسلفتموه لنا، وبدأتم بالكفر قبلنا، فاتبعناكم فَبِئْسَ الْقَرارُ يعني: بئس موضع القرار في النار.
قوله عز وجل: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا الأمر هذا الذي كنا فيه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعني: فقراء المسلمين.
قوله عز وجل: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، سِخْرِيّاً أتخذناهم بالوصل. وقرأ الباقون: بالقطع فمن قرأ بالقطع، فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ لأن أَمْ تدل على الاستفهام. ومن قرأ: بالوصل، فمعناه:
أنا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وجعل أَمْ بمعنى بل. وقرأ حمزة والكسائي ونافع سِخْرِيًّا بضم السين. وقرأ الباقون بالكسر. قال القتبي: فمن قرأ بالضم، جعله من السخرة. يعني:
تستذلهم. ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم.
ثم قال: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ يعني: مالت، وحادت أبصارنا عنهم، فلا نراهم.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ يعني: يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
قُلْ يا محمد إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ يعني: رسول أخوفكم عذاب الله تعالى، وأبيّن لكم، أن الله تعالى واحد وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني: قاهر لخلقه رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ بالنقمة الْغَفَّارُ للمؤمنين.
قوله عز وجل: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني: القرآن حديث عظيم، لأنه كلام رب العالمين أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ يعني: تاركون، فلا تؤمنون به. وقال الزجاج: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني: قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل: نَبَأٌ عَظِيمٌ فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم- عليه السلام-، فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي، أو بقراءة كتب، ولم يكن قرأ الكتب.
ثم قال: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني: الملائكة- عليهم السلام- إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني: يتكلمون حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وإنما عرفت ذلك بالوحي.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٠ الى ٨٨]
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
قالَ يَا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ يعني: ما يوحي إليَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِلاَّ أَنا رسول بيّن.
ثم قال عز وجل: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني: آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ يعني: جمعت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي يعني: وجعلت الروح فيه فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يعني: اسجدوا له فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ يعني: سجدوا كلهم دفعة
173
واحدة إِلَّا إِبْلِيسَ أبى عن السجود اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ يعني: وصار من الكافرين قالَ يَا إِبْلِيسُ ما منعك يعني: يا خبيث مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يعني: الذي خلقته بيدي قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها، ولا نعرف تفسيرها. يعني:
قوله: بِيَدَيَّ يعني: الذي خلقت بيدي. وقال بعضهم: تفسيرها كما قال الله تعالى:
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. ولا نفسر اليد. ونقول: يد لا كالأيدي. وهذا قول أهل السنة والجماعة.
وقال بعضهم: نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى. يعني: خلقه بقدرته، وقوته، وإرادته.
فإن قيل: قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته، وقدرته، وإرادته. فما الفائدة في التخصيص هنا؟ قيل له: قد ذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضاً، وهو قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] ويقال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: بقوتي. قوة العلم، وقوة القدرة. ويقال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: بماء السماء، وتراب الأرض، كقوله:
آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: ٥٩] وكما قال- عليه السلام-: «خَلَقَ الله تَعَالَى الخَلْقَ مِنْ مَاءٍ» وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن. وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضاً ما له ظهر وبطن. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ تَقُولُوا فَلاَنٌ قَبِيح فَإِن الله عز وجل خلق آدم على صورته». ومن قال: إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر، ولكن المعنى في الخبر، كما روي عن بعض المتقدمين أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة، وخلق آدم- عليه السلام- بتلك الصورة، فمن ذلك قال: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوَرتِهِ»، أي: على تلك الصورة التي اختارها الله. روى شبل عن ابن كثير أنه قرأ: بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ موصولة الألف، وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام، بدليل قوله عز وجل: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ومن قرأ موصولة، فهو على معنى الوجوب. وتكون أَمْ بمعنى بل، أَسْتَكْبَرْتَ يعني: تعظمت عن السجود أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ يعني: بل كنت من العالين، من المخالفين لأمري.
قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
قوله عز وجل: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقد ذكرناه من قبل قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ يقال:
معناه قولي الحق. وأقول: الحق. قرأ حمزة وعاصم فَالْحَقُّ بالضم القاف. وقرأ الباقون، واتفقوا في الثاني أنه بالنصب. فمن قرأ بالضم فمعناه: أنا الحق، والحق أقول. ويقال:
فمعناه: فالحق مني، والحق أقول. ويقال: معناه فقولنا الحق، وأقول الحق لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء. يعني: الزموا الحق، واتبعوا الحق.
174
ثم قال: وَالْحَقَّ أَقُولُ يعني: وأقول الحق كقوله عز وجل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ١٢٢].
ثم قال عز وجل: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: من ذريتك، وممن تبعك في دينك. قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ يعني: على الذي أتيتكم به من القرآن من أجر، ولكن أعلمكم بغير أجر وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ يعني: ما أتيتكم به من قبل نفسي، وما تكلفته مِن تِلْقَآءِ نفسي، إِنْ هُوَ يعني: ما هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني: إلا عظة للجن، والإنس، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ يعني: خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين. يعني: بعد الموت. ويقال: بعد الإسلام. ويقال: بعد ظهور الإسلام، والله أعلم بالصواب.
175
Icon