ﰡ
حم عسق: تقرأ هكذا: حاميم عَين سِين قاف، وقد تقدم الكلام على مثلها اكثر من مرة.
يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة الى توحيدِ الله، والإيمان باليوم الآخر، وأمرِ النبوة، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع. وهذا كله إنما يُوحى اليك ايها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم.
ثم بين الله تعالى ان ما في السموات والأرض تحتَ قبضته وفي ملكه، له التصرف فيه وحده ايجاداً وعدماً، وان السمواتِ والأرض على عِظَمِها تكاد تتشقّق فَرَقاً من هيبته وجلاله، وان الملائكة يسبّحون بحمد ربهم وينزهونه عما لا يليق به، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين. وبين بوضوح ﴿إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ ثم أتبع ذلك بتسلية الرسول الكريم بأنه ليس رقيباً ولا وكيلاً على المشركين حتى يستطيع ردَّهم الى سواء السبيل، وما هو الا نذيرٌ يبلّغهم، وحسابُهم على الله.
ثم بيّن بوضوح انه تعالى أنزل على رسوله قرآناً عربياً بلغة قومه ليفهموه، لينذر أهلَ مكة ومن حولهم من العرب ابتداءً ثم ينشرونه في العالم. وهذه سُنة الله كما قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤].
وكذلك لتنذرَهم يا محمد أن يوم القيامة آتٍ لا شك فيه، وان الناس في ذلك اليوم فريقان: ﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾ الأول يدخل الجنة بايمانه وما قدّم من صالح الاعمال، والثاني يدخل النار بكفره وما قدّم من سيء الاعمال.
ثم ذكر الله تعالى ان حكمته اقتضت ان يكون الإيمان اختياراً، ولم يشأ أن يكون قسراً وجبرا ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فمن آمن وأناب الى الله وعمل صالحاً افلح وفاز بالسعادة الأبدية ﴿والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحده: كذلك يوحى اليك بفتح الحاء. والباقون: يوحي بكسر الحاء.
ان هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دونا الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ثم بيّن الله تعالى ان مردّ الحكم والفصل اليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم. ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم ان يقول لهم:
﴿ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾
وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في انه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه الى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل. كما قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ [النساء: ٥٩].
﴿فَاطِرُ السماوات والأرض﴾
الله ربي وربكم خالقُ السموات والارض على احسن مثال.
﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾
خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا اليها.... وعبّر بقوله «من انفسكم» لأن أقربَ انسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه. وخلق لكم من الانعام أزواجا ذكورا وإناثا.
﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾
لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم.
ثم بين بعد ذلك انه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ﴿وَهُوَ السميع البصير﴾، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم، وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض.
﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾
يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء.
﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.
ثم بين الله تعالى بعد ذلك انه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الاعمال، والكف عن المحارم وإيذاء الخلق.. لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم الى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وان لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم الى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للايمان وإقامة الدين من يرجع اليه.
والمشركون ما خالفوا الحقّ الا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا.
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾
لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين الى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا.
وان اهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وانما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ فهم في حَيرة من امرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق.
بع ان امر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة الى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها.. فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد الى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين. وقل: آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، واليه المرجع والمآل.
ثم بين ان الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر اليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة. إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما انزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل.. وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب.
الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا الا من قبيل الاستهزاء، اما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون ان ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه.
وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق.
يبين الله تعالى أنه لطيف بعباده، ومن لُطفه انه يرزق من يشاء كما يشاء، وانه القويّ الذي لا يُقهر ولا يغلب، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم بين ان من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة - يضاعَف له اجره اضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس لخ في الآخرة نصيب من نعيمها. ومثلُ ذلك في سورة آل عمران ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين﴾ [آل عمران: ١٤٥].
ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وانكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم الى يوم معلوم.
﴿وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم. وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم.
﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾
ذلك هو الجزاء العظيم الذي اعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا.
بعد ان ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات - بين هنا ان ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين. فقل لهم أيها الرسول: انا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما اطلبه منكم ان توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم. ويدخل في ذلك مودّة النبي ﷺ ومودّة قرابته من أهل بيته. ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، ان الله واسع المغفرة للمذنبين.
ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن: لقد قالوا ان ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو الا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وارادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾
فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر.
ثم يمتنّ الله على عباده فيكرّر أنه يقبل التوبة عن عباده ويتجاوز عما فَرَطَ منهم تفضُّلاً منه ورحمة بعباده.
﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله.
ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، ويزيدهم خيراً على مطلوبهم من فضله
﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر: ويعلم ما يفعلون بالياء، والباقون: تفعلون بالتاء.
إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء. ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا. ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه ﴿وَهُوَ الولي الحميد﴾.
ثم اقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء.
ثم بين الله تعالى للناس ان هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو انه: كل ما يحلّ بكم ايها الناس من المصايب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم، وما اجترمتم من آثام.
ولو نظرنا الآن الى احوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك - لرأينا ان هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا. فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وانما ينقصُنا صدق الايمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء.
ولو ان زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية. ان العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، اما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فانه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا.... وهذا معنى ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾. والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله.
انكم ايها الناس لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم اذا هو عاقبكم.
ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها، فالله قادر ان يوقفَ الرياح فلا تجري.
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾
أو يهلك اصحابَ السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم.
ان الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر: بما كسبت ايديكم. والباقون: فبما كسبت أيديكم. وقرأ نافع وابن عامر: ويعلمُ الذين يجادلون، برفع يعلم. والباقون: ويعلمَ بالنصب.
يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم، ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر.
﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾
والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء اليهم.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين ايضا انهم يُجيبون ربّهم الى ما دعاهم اليه، ويقيمون الصلاة في اوقاتها على اكمل وجوهها.
﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾
وهذا دستور عظيم في الاسلام، فهو يوجب ان يكون الحكْم مبنياً على التشاور. وقد كان النبي ﷺ يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم. ومثلُ ذلك قوله تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ [آل عمران: ١٥٩]. قال الحسن البصري: «ما تشاور قوم الا هُدوا لأرشدِ أمرهم». وقال ابن العربي: «الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ الى الصواب، وما تشاور قوم قط الا هدوا». ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾. ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً:
﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾
الذين اذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم.
ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل:
﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾
فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض.
ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح فقال:
﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾. ومثل هذا قوله تعالى: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧]، ومثله ايضاً ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: ١٢٦]، الى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو. وهذا سبيل الاسلام.
ثم بين الله تعالى أن الانسان اذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال:
﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾.
هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس. وأفضلُ انواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وافضلُ انواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: والذين يجتنبون كبير الإثم. والباقون: كبائر الاثم.
ومن ضلّ طريق الهدى، وخَذَلَه اللهُ لسوءِ استعداده فليس له ناصرٌ من الله، وترى الظالمين يوم القيامة حين يشاهدون العذاب، يسألون ربهم ان يُرجعهم الى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، ولكن هيهات، لا سبيل الى العودة.
ثم بين الله حالهم السيئة حين يُعرضون على النار أذلاءَ يسارِقون النظر الى النار جوفاً منها.
عندئذ يقول المؤمنون: حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم الى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول: ﴿أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾.
وما كان لهم من ينصرهم من الذين عبدوهم من دون الله، ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ﴾، أي ليس له أيّ طريقٍ ينجيه من سوء المصير المحتوم، جزاء ضلاله.
ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم ان يسارعوا الى إجابة ما دعاهم اليه الرسول الكريم، من قبل ان تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي ﴿لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾ ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون انكار ما اجترموه من السيئات. فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون.
﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾
إن وظيفتك ان تبلّغ، فاذا انت بلّغت فقد أديتَ الأمانة. ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
ثم بين الله تعالى طبيعةَ الانسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال:
﴿وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾
هذه هي طبيعة الانسان: إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وان أصابته فاقةٌ او مرض ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من معاصٍ ومخالفات - يئس وقنط، إن الانسانَ يكفر النعمة ويجحدها.
ثم يبين الله انه خالقُ هذا الكون، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الاناث. ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والاناث، ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾ لا ولد له، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد.
بعد ان بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب، وتعمرُ الأنفس، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها، ولكن من رقَّ حجابُه، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة، فانه يستطيع ان يتصل بالملأ الأعلى، وان يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية:
١- ان يحسّ بمعان تُلقى في قلبه، او يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بانه يذبح ولده... ورؤيا الأنبياء وحي.
٢- ان يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير ان يبصر من يكلّمه، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
٣- ان يرسل الله مَلَكا فيوحي الى النبيّ ما كلّف به.
ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى الى الانبياء قبل محمد فقد اوحى اليه القرآن الكريم، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين. ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة، ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
ثم فسّر ذلك الصراطَ بقوله تعالى: ﴿صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ خلقاً وتدبيراً وتصرفا. وفي الختام كل شيء ينتهي اليه، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾.
وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالحديث الذي بدأت به عن الوحي، والذي كان محورها الرئيسي، وقد عالجت قصةَ الوحي منذ النبوّات الأولى، لتقرر وحدة الدين ووحدة الطريق، ولتعلن القيادةَ الجديدة للبشريّة ممثلة برسالة سيد الوجود سيدنا محمد ﷺ ومن يتبعه من المؤمنين الصادقين، ليقودوا الناس الى صراط الله المستقيم.