مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام، لأن الإذن فيها - كما يأتي - مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً، لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه، لأنه المتوحد بالإلهية، لا شريك له، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره، فدل ذلك على إحاطة علمه، وسيأتي في سورة طه البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات، وذلك عين مقصود السورة، وقد ورد من عدة طرق - كما بينتُ ذلك في كتابي
«مصاعد النظر»
1
أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح، وفي رواية: إن نزولها كان ليلاً، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها. وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين، وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة، وأن تعلّمه واجب على الفور لنزولها جملة، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح، ولنزولها ليلاً دليلٌ على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات، أولو الألباب أهل الخلوات، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل.
﴿بسم الله﴾ الذي بين دلائل توحيده بأنه الجامع لصفات الكمال
﴿الرحمن﴾ الذي أفاض على سائر الموجودات من رحمته بالإيجاد والإعدام ما حيَّر لعمومه الأفهام، فضاقت به الأوهام
﴿الرحيم *﴾ الذي حبا أهل الإيمان بنور البصائر حتى كان الوجود ناطقاً لهم، بالإعلام بأنه الحي القيوم السلام.
﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال
﴿لله﴾.
لما ختم سبحانه تلك بتحميد عيسى عليه السلام لجلاله في ذلك
2
اليوم في ذلك الجمع، ثم تحميد نفسه المقدسة بشمول الملك والقدرة، إذ الحمد هو الوصف بالجميل؛ افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة بالإخبار بأن ذلك الحمد وغيره من المحامد مستحق له استحقاقاً ثابتاً دائماً قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده سواء شكره العباد أو كفروه، لما له سبحانه وتعالى من صفات الجلال والكمال - على ما تقدمت الإشارة إليه في الفاتحة - فأتى بهذه الجملة الاسمية المفتتحة باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أنواعه الدالة على الاستغراق، إما بأن اللام له عند الجمهور، أو بأنها للجنس - كما هو مذهب الزمخشري، ويؤول إلى مذهب الجمهور، فإن الجنس إذا كان مختصاً به لم يكن فردٌ منه لغيره، إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده، فمتى وجد فرد منه لغيره كان الجنس موجوداً فيه فلم يكن الجنس مختصاً به وقد قلنا: إنه مختص، وهذا التحميد صار بوصفه فرداً من أفراد تحميد الفاتحة تحقيقاً لكونها أمّاً، وعقبها سبحانه بالدليل الشهودي على ما ختم به تلك من الوصف بشمول القدرة بوصفه بقوله:
﴿الذي خلق﴾.
ولما كان تعدد السماوات ظاهراً بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطوء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك
3
مما هو محرر عند أهله: جمعها فقال:
﴿السماوات﴾ أي على علوها وإحكامها، قدمها لما تقدم قريباً
﴿والأرض﴾ أي على تحليها بالمنافع وانتظامها.
ولما كان في الجعل معنى التضمن فلا يقوم المجعول بنفسه قال:
﴿وجعل﴾ أي أحدث وأنشأ لمصالحكم
﴿الظلمات﴾ أي الأجرام المتكاثفة كما تقدم
﴿والنور *﴾ وجمع الأول تنبيهاً على أن طرق الشر والهلاك كثيرة تدور على الهوى، وقد تقرر بهذا ما افتتح به السورة، لأن من تفرد باختراع الأشياء كان هو المختص بجميع المحامد، ومن اختص بجميع المحامد لم يكن إله سواه ولم يكن له شريك، لا ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا غير ذلك، وما أحسن ختمها - بعد الإشارة إلى هذه المقاصد المبعدة لأن يكفر به أو يعدل به شيء - بقوله:
﴿ثم الذين كفروا﴾ أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من أدلة وحدانيته التي لا خفاء بها عن أحد جرّد نفسه من الهوى، وعالج أدواءه بأنفع دواء، لإحاطته بجميع صفات الكمال، وزاد الأمر تقبيحاً عليهم بإبدال ما كان الأصل في الكلام من الضمير بقوله:
﴿بربهم﴾ أي المحسن إليهم الذي لم يروا إحساناً إلا منه
﴿يعدلون *﴾ أي يجعلون غيره ممن لا يقدر على شيء معادلاً له مع معرفتهم به بأنه الذي أبدع الأشياء،
4
كفراً لنعمته وبُعداً من رحمته، فبعضهم عدل به بعض الجواهر من خلقه من السماء كالنجوم، أو من الأرض كالأصنام، أو بعض ما ينشأ عن بعض خلقه من الأعراض وهو خلقه كالنور والظلمة، والحال أن تقلباتهما تدل بأدنى النظر على أمرين: الأول بُعدهما عن الصلاحية للإلهية لتغيرهما
﴿قال لا أحب الآفلين﴾ [الأنعام: ٧٦]، والثاني قدرة خالقهما ومغيرهما على البعث لإيجاد كل منهما بعد إعدامه كما هو شأن البعث - إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، وتقديمُ الظلمة مناسب لسياق العادلين، والتعبير بثم للتنبيه على ما كان ينبغي لكل راوٍ لهذا الخلق من الإبعاد عن الكفر لبعده عن الصواب، فقد لاح أن مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله والاجتماع عليه والوفاء بعهوده بأنه سبحانه وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره، وما أنسب ذلك بختم المائدة بذكر يوم الجمع وأن لِمَلِكِه جميع الملك، وهو على كل شيء قدير، وهذه السورة أول السور الأربع المشيرة إلى جميع النعم المندرجة تحت النعم الأربع التي اشتملت عليها الفاتحة، وكل سورة منها مشيرة إلى نعمة من النعم الأربع، فقوله:
﴿خلق السماوات والأرض﴾ - الآية ثم
﴿خلقكم من طين﴾ ثم
{وما من
5
دابة في الأرض} [الأنعام: ٣٨]- الآية، متكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من آدمي وغيره المشار إليه في الفاتحة برب العالمين كما تقدم.
ولما تكفلت السور المتقدمة بالرد على مشركي العرب واليهود والنصارى مع الإشارة إلى إبطال جميع أنواع الشرك، سيق مقصود هذه السورة في أساليب متكفلة بالرد على بقية الفرق، وهم الثنوية من المجوس القائلون بإلهين اثنين وبأصلين: النور والظلمة، ويقرون بنبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقط، والصابئة القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب، وينكرون الرسالة في الصورة البشرية، وأصحاب الروحانيات، أعني مدبرات الكواكب والأفلاك، وينتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، ويدعون أنه منهم - وقد أعاذه الله من ذلك، والسُّمْنية القائلون بإلهية الشمس، مع تأكيد الرد على الفرق المتقدمة على أن جميع فرقهم يجتمعون في اعتبار النجوم، يتبين ذلك لمن نظر في كتب فتوح بلاد الفرس في أيام الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وقال تنكلوشا البابلي في أول كتابه
6
في أحكام الدرج الفلكية: إن القدماء من الكسدانيين استنبطوا غوامض أسرار الفلك، وكان عندهم أجل العلوم ولم يكونوا يظهرون علم الفلك لكل الناس، بل كانوا يخفون أكثره عن عامتهم، ويعطونهم منه بمقدار ما يصلح، ويتدارسون الباقي بينهم مطوياً بين علمائهم وحكمائهم، ثم ذكر تقسيمهم درج الفلك على ثلاثمائة وستين، ثم قال: وقسموا الدرج أقساماً كثيرة حتى قالوا: إن بعضها ذكور وبعضها إناث، وبعضها مسعدة وبعضها منحسة، ثم قال: كل ذلك يريدون فيه الدلالة منها على ما تدل عليه في عالمنا وعلى أحوالنا حتى جعلوا لكل درجة عالماً وخلقاً منفرداً بمدته، وأن ذلك العالم والخلق يندرسون وينشأ بعدهم غيرهم - إلى غير ذلك من الكلام الذي يرجع إلى اعتقاد تأثير النجوم بنفسها - تعالى الله عن أن يكون له شريك أو يكون له كفواً أحد.
ولما قرر سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض اللتين منهما وفيهما الأصنام والكواكب والأجرام التي عنها النور والظلمة، فثبت وجوده على ما هو عليه من الإحاطة بأوصاف الكمال التي أثبتها الحمد، فبطلت جميع مذاهبهم، فعجب منهم بكونهم يعدلون به غيره، أتبع ذلك اختصاصه بخلق هذا النوع البشري، وهو - مع ما فيه من الشواهد له
7
بالاختصاص بالحمد والرد على المُطرِين لعيسى عليه السلام المخلوق من الطين بخلق أبيهم آدم عليه السلام - مؤكدٌ لإبطال مذهب الثنوية، وذلك أنهم يقولون: إن النار خالق الخير، والظلمة خالقة الشر، فإذا ثبت أنه الخالق لنوع الآدميين الذين منهم الخير والشر من شيء واحد، وهو الطين الذي ولد منه المني الذي جعل منه الأعضاء المختلفة في اللون والصورة والشكل من القلب وغيره من الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف، والرباطات والأوتار، ثبت أن خالق أوصافهم من الخير والشر واحد قدير عليم، لأن توليد الصفات المختلفة من المادة المتشابهة لا يكون إلا ومبدعه واحد مختار، لا اثنان، وهو الذي خلق الأرض التي منها أصلهم، وهو الله الذي اختص بالحمد فقال:
﴿هو الذي خلقكم﴾ ولما كانوا يستبعدون البعث لصيرورة الأموات تراباً واختلاط تراب الكل بعضه ببعض وبتراب الأرض، فيتعذر التمييز، وكان تمييز الطين لشدة اختلاط أجزائه بالماء أعسر من تميز التراب قال:
﴿من طين﴾ أي فميز طينة كل منكم - مع أن منكم الأسود والأبيض وغير ذلك والشديد وغيره - من طينة الآخر بعد أن جعلها ماء ثخيناً له قوة الدفق ونماها إلى حيث شاء من الكبر.
8
ولما كان من المعلوم أن ما كانا من شيء واحد كانت مدة بقائهما واحدة، نبه بأداة التراخي على كمال قدرته واختياره من المفاوتة بين الآجال فقال:
﴿ثم قضى﴾ أي حكم حكماً تاماً وبتّ وأوجد
﴿أجلاً﴾ أي وقتاً مضروباً لانقضاء العمر وقطع التأخر لكل واحد منكم خيراً كان أو شريراً، قوياً كان أو ضعيفاً، من أجل يأجل أجولاً - إذا تأخر، وجعل تلك الآجال - مع كونها متفاوتة - متقاربة لا مزية لأحد منكم بصفة على آخر بصفة مغائرة لها، وفاعل ذلك لا يكون إلا واحداً فاعلاً باختيار.
ولما ذكر الأجل الأول الذي هو الإبداع من الطين إشارة إلى ما فرع منه من الآجال المتفاوتة، ذكر الأجل الآخر الجامع للكل، لأن ذكر البداية يستدعي ذكر النهاية، فقال مشيراً إلى تعظيمه بالاستئناف والتنكير:
﴿وأجل﴾ أي عظيم
﴿مسمى﴾ أي لكم أجمعين لانقضاء البرزخ للإعادة التي هي في مجاري عاداتكم أهون من الابتداء لمجازاتكم والحكم بينكم الذي هو محط حكمته ومظهر نعمته ونقمته في وقت واحد، يتساوى فيه الكل، وستر علمه عن الكل كما أشار إليه بالتنكير، وهذا لا يصح أن يكون إلا لواحد، لا متعدد، وإلا لتباينت المقادير والإرادات وانشق كل مقدور في صنف لا يتعداه، وإلا لعلا بعضهم على بعض وانهتكت أسرار البعض بالبعض - سبحان الله وتعالى عما يصفون، وغير السياق إلى الاسمية إشارة إلى اختصاصه بعلمه وأنه ثابت لا شك فيه! ويؤكده إثبات قوله:
﴿عنده﴾ في هذه الجملة وحذفها
9
من الأولى هنا وفي قوله
﴿ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى﴾ [الأنعام: ٦٠]، وقدم المبتدأ مع تنكيره - والأصل تأخيره - إفادة لتعظيمه.
ولما كان في هذا البيان لوحدانيته وتمام قدرته لا سيما على البعث الذي هو مقصود حكمته ما يبعد معه الشك في الإعادة، أشار إليه بأداة التراخي وصيغة الافتعال فقال:
﴿ثم أنتم تمترون *﴾ أي تكلفون أنفسكم الشك في كل من الوحدانية والإعادة التي هي أهون على مجاري عاداتكم من الابتداء بتقليد الآباء، والركون إلى مجرد الهوى والإعراض عن الأدلة التي هي أظهر من ساطع الضياء، وهذه الآية نظير آية الروم
﴿أولم يتفكروا في أنفسهم﴾ [الروم: ٨] أي كيف خلقهم الله من طين، وسلط بعضهم على بعض بالظلم والعدوان، وجعل لهم آجالاً فاوت بينها وساوى في ذلك بين الأصل والفرع، فأنتج هذا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بسبب إقامة العدل في جميع ما وقع بينكم من الاختلاف كما هو شأن كل مالك في عبيده
﴿وأجل مسمى﴾ - الآية. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بين سبحانه وتعالى حال المتقدمين وهو الصراط المستقيم، وأوضح ما يظهر الحذر من جانبي الأخذ والترك، وبين حال من تنكب عنه ممن كان قد يلمحه، وهم
10
اليهود والنصارى، وكونهم لم يلتزموا الوفاء به وحادوا عما أنهج لهم، وانقضى أمر الفريقين، ذماً لحالهم وبياناً لنقضهم وتحذيراً للمتقين أن يصيبهم ما أصابهم، وختم ذلك ببيان حال المؤقنين في القيامة يوم ينفع الصادقين صدقهم، وقد كان انجرّ مع ذلك ذكر مشركي العرب وصممهم عن الداعي وعماهم عن الآيات، فكانوا أشبه بالبهائم منهم بالأناسي، أعقب ذلك تعالى بالإشارة إلى طائفة مالت إلى النظر والاعتبار، فلم توفق لإصابة الحق وقصرت عن الاستضاءة بأنوار الهدى. وليسوا ممن يرجع إلى شريعة قد حرفت وغيرت، بل هم في صورة من هَمَّ، أن يهتدي بهدى الفطرة ويستدل بما بسط الله تعالى في المخلوقات فلم يمعن النظر ولم يوفق فضلَّ وهم المجوس وسائر الثنوية ممن كان قصارى أمره نسبة الفعل إلى النور والإظلام، ولم يكن تقدم لهؤلاء ذكر ولا إخبار بحال فقال تعالى:
﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ فبدأ تعالى بذكر خلق السماوات والأرض التي عنها وجد النور والظلمة، إذ الظلمة ظلال هذه الأجرام، والنور عن أجرام نيرة محمولة فيها وهي الشمس والقمر والنجوم، فكان الكلام: الحمد لله الذي أوضح الأمر لمن اعتبر واستبصر، فعلم أن وجود النور والظلمة متوقف بحكم السببية التي شاءها تعالى على وجود أجرام السماوات والأرض
11
وما أودع فيها، ومع بيان الأمر في ذلك حاد عنه من عمي عن الاستبصار
﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ [الأنعام: ١] وقوله تعالى:
﴿هو الذي خلقكم من طين﴾ [الأنعام: ٢] مما يزيد هذا المعنى وضوحاً، فإنه تعالى ذكر أصلنا والمادة التي عنها أوجدنا، كما ذكر للنور والظلمة ما هو كالمادة، وهو وجود السماوات والأرض، وأشعر لفظ
﴿جعل﴾ بتوقف الوجود بحسب المشيئة على ما ذكر، وكان قد قيل: أيّ فرق بين وجود النور والظلمة عن وجود السماوات والأرض وبين وجودكم عن الطين حتى يقع امتراء فيه عن نسبة الإيجاد إلى النور والظلمة، وهما لم يوجدا إلا بعد مادة أو سبب كما طرأ في إيجادكم؟ فالأمر في ذلك أوضح شيء
﴿ثم أنتم تمترون﴾ [الأنعام: ٢] ثم مرت السورة من أولها إلى آخرها منبهة على بسط الدلالات في الموجودات مع التنبيه على أن ذلك لا يصل إلى استثمار فائدته إلا من هيئ بحسب السابقة فقال تعالى:
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون﴾ [الأنعام: ٣٦] ثم قال تعالى:
﴿والموتى يبعثهم الله﴾ [الأنعام: ٣٦]، وهو - والله أعلم - من نمط
﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾، أجمل هنا ثم فسر بعد في السورة بعينها، والمراد أن من الخلق من جعله الله سامعاً مطيعاً متيقظاً معتبراً بأول وهلة، وقد أري المثال سبحانه وتعالى في ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله:
﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٥]، فكأنه يقول لعباده المتقين: تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم
12
إبراهيم كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ! فلم يعرج في أول نظره على ما سبب وجوده بيِّنٌ فيحتاج فيه إلى غرض في الكواكب والقمر والشمس، بل نظر فيما عنه صدر النور، لا في النور، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً، فتأمل كونه عليه السلام لم يطول النظر بالتفات النور، ثم كان يرجع إلى اعتبار الجرم الذي عنه النور، بل لما رأى النور عن أجرام سماوية تأمل تلك الأجرام وما قام بها من الصفات، فرأى الأفول والطلوع والانتقال والتقلب فقال: هذا لا يليق بالربوبية لأنها صفات حدوث، ثم رقى النظر إلى القمر والشمس فرأى ذلك الحكم جارياً فيهما فحكم بأن وراءها مدبراً لها يتنزه عن الانتقال والغيبة والأفول فقال:
﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ٧٩] وخص عليه السلام ذكر هذين لحملهما أجرام النور وسببيتهما في وجود الظلمة، ثم تأمل هذا النظر منه عليه السلام وكيف خص بالاعتبار أشرف الموجودين وأعلاهما، فكان في ذلك وجهان من الحكمة: أحدهما علو النظر ونفوذ البصيرة في اعتبار الأشرف الذي إذا بان منه الأمر فهو فيما سواه أبين، فجمع بين قرب التناول وعلو التهدي، والوجه الثاني التناسب بين حال الناظر والمنظور فيه والتناول والجري على الفطرة العلية «وهو من قبيل أخذ نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللبن حين عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، فقيل له: اخترت الفطرة!
13
فكان قد قيل: هذا النظر والاعتبار بالهام، لا نظر من أخلد إلى الأرض فعمد الضياء والظلام، وينبغي أن يعتمد في قصة إبراهيم عليه السلام في هذا الاعتبار أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
﴿هذا ربي﴾ إنما قصد قطع حجة من عبد شيئاً من ذلك إذ كان دين قومه، فبسط لهم الاعتبار والدلالة، وأخذ يعرض ما قد تنزه قدرُه عن الميل إليه، فهو كما يقول المناظر لمن يناظره: هب أن هذا على ما تقول.
يريد بذلك إذعان خصمه واستدعاءه للاعتبار حتى يكون غير مناظر له ما لا يعتقده، ليبني على ذلك مقصوده ليقلع خصمه وهو على يقين من أمره، فهذا ما ينبغي أن يعتمد هنا لقول يوسف عليه السلام
﴿ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء﴾ [يوسف: ٣٨]، فالعصمة قد اكتنفتهم عما يتوهمه المبطلون ويتقوله المفترون، ويشهد لما قلناه قوله تعالى:
﴿وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه﴾ [الأنعام: ٨٣] فهذه حال من علت درجته من الذين يسمعون، فمن الخلق من جعله الله سامعاً بأول وهلة وهذا مثال شاف في ذلك، ومنهم الميت، والموتى على ضربين: منهم من يزاح عن جهله وعمهه، ومنهم من يبقى في ظلماته ميتاً لا حراك به، يبين ذلك قوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له
14
نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: ١٢٢] ؛ ولما كانت السورة متضمنة جهات الاعتبار ومحركة إلى النظر ومعلنة من مجموع آيها أن المعتبر والمتأمل - وإن لم يكن متيقظاً بأول وهلة، ولا سامعاً أول محرك، ولا مستجيباً لأول سامع - قد ينتقل حاله عن جموده وغفلته إلى أن يسمع ويلحق بمن كان يتيقظ في أول وهلة؛ ناسب تحريكُ العباد وأمرهم بالنظر أن تقع الإشارة في صدر السورة إلى حالتين: حالة السامعين لأول وهلة، وحالة السامعين في ثاني حال، فقيل:
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله﴾ [الأنعام: ٣٦] ولم تقع هنا إشارة إلى القسم الثالث مع العلم به، وهو الباقي على هموده وموته ممن لم يحركه زاجر ولا واعظ ولا اعتبار، ولأن هذا الضرب لو ذكر هنا لكان فيه ما يكسل من ضعفت همته، رجعت حالةُ ابتدائه، فقيل:
﴿والموتى يبعثهم الله﴾ وأطلق ليعمل الكل على هذا البعث من الجهل والتيقظ من سِنة الغفلة كما دعا لكل إلى الله دعاء واحداً فقيل:
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ ثم اختلفوا في إجابة الداعي بحسب السوابق هكذا، وردّ هذا
﴿والموتى يبعثهم الله﴾ إسماعاً للكل، وفي صورة التساوي مناسبة للدعاء لتقوم الحجة على العباد، حتى إذا انبسطت الدلائل وانشرحت الصدور لتلقيها وتشبثت النفوس
15
وتعلقت بحسب ما قدر، وفاز بالخير أهله، قال تعالى بعد آي:
﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ [الأنعام: ١٢٢] وكان قد قيل لمن انتقل عن حالة الموت فرأى قدر نعمة الله عليه بإحيائه: هل يشبه الآن حالك النيرة - بما منحت حين اعتبرت - بحالك الجمادية؟ فاشكر ربك واضرع إليه في طلب الزيادة، واتعظ بحال من لزم حال موته فلم تغن عنه الآيات، وهو المشار إليه بقوله:
﴿كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ ﴿إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه﴾ ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله﴾
﴿سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ [البقرة: ٦] وكان القسم المتقدم الذي سمع لأول وهلة لم يكن ليقع ذكره هنا من جهة قصد أن أراه قدر هذه النعمة وإنقاذ المتصف بها من حيرة شك موقعها فيما تقدم من قوله
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون﴾ [الأنعام: ٣٦] فذكر هنا ما هو واقع في إراءة قدر نعمة الإنقاذ والتخليص من عمى الجهل، هذا حال من انتقل بتوفيق الله وحال من بقي على موته، أو يكون الضربان قد شملهما قوله
﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢] وأما الثاني وهو الذي ثبتت فيه صورة النقل فأمره صريح من الآية وأما الضرب الأول وهو السامع لأول
16
وهلة المكفي المؤنة لواقي العصمة من طوارق الجهل والشكوك، فدخوله تحت مقتضى هذا اللفظ من حيث إن وقايته تلك أو سماعه بأول وهلة ليس من جهته ولا بما سبق أو تكلف، بل بإسداء الرحمة وتقديم النعمة، ولو أبقاه لنفسه أو وكله إليها لم يكن كذلك
﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾ [النحل: ٥٣]، فبهذا النظر قد تكون الآية قد شملت الضروب الثلاثة وهو أولى، أما سقوط الضرب الثالث من قوله:
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون﴾ [الأنعام: ٣٦] فلِما تقدم - والله أعلم بما أراد؛ ولما تضمنت هذه السورة الكريمة من بسط الاعتبار وإبداء جهات النظر ما إذا تأمله المتأمل علم أن حجة الله قائمة على العباد، وأن إرسال الرسل رحمة ونعمة وفضل وإحسان، وإذا كانت الدلالات مبسوطة والموجودات مشاهدة مفصحة، ودلالة النظر من سمع وأبصار وأفئدة موجدة، فكيف يتوقف عاقل في عظيم رحمته تعالى بإرسال الرسل! فتأكدت الحجة وتعاضدت البراهين، فلما عرف الخلق لقيام الحجة عليهم بطريقي الإصغاء إلى الداعي والاعتبار بالصنعة؛ قال تعالى:
﴿قل فلله الحجة البالغة﴾ [الأنعام: ١٤٩]
﴿فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة﴾ [الأنعام: ١٥٧] فيما عذر المعتذر بعد هذا؟ أتريدون كشف الغطاء ورؤية الأمر عياناً! لو استبصرتم لحصل لكم ما منحتم،
﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك﴾ [الأنعام: ١٥٨]، ثم ختمت السورة من التسليم والتفويض
17
بما يجدي مع قوله:
﴿فلو شاء لهداكم أجمعين﴾ [الأنعام: ١٤٩] وحصل من السور الأربع بيان أهل الصراط المستقيم وطبقاتهم في سلوكهم وما ينبغي لهم التزامه أو تركه، وبيان حال المتنكبين عن سلوكه من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس - انتهى.
18
ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العلم بها هو خالقه، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته: عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهاً، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح: لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفاً
﴿هو الذي﴾ دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين: أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه - على تقدير تسليم الاختيار - غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على
18
كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات: الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات:
﴿هو الله﴾ أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً، وعلق بهذا المعنى قوله:
﴿في السماوات﴾ لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه.
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال:
﴿وفي الأرض﴾ أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، ومحجوج بحديث:
«أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل
﴿ليس كمثله شيء﴾ أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و
«قد كان الله ولا شيء معه»، وحديث
«ليس فوقك شيء» - رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه - والله الموفق.
19
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء:
﴿يعلم سركم﴾.
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال:
﴿وجهركم﴾ ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال:
﴿ويعلم ما تكسبون﴾ فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم، فلما تظاهرت الأدلة وتظافرت الحجج وهم عنها ناكبون، وصل بذلك في جملة حالية قولَه، معرضاً عنهم إيذاناً باستحقاقهم شديد الغضب:
﴿وما تأتيهم﴾ أي هؤلاء الذين هم أهل للإعراض عنهم، وأعرق في النفي بقوله:
﴿من آية﴾ أي علامة على صحة ما دعاهم إليه رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعض بقوله:
﴿من آيات ربهم﴾ أي المحسن إليهم بنصب الأدلة وإفاضة العقول وبعث الرسول
﴿إلاّ كانوا عنها معرضين﴾ أي هذه صفتهم دائماً قصداً للعناد لئلا يلزمهم الحجة، ويجوز أن يكون
20
ذلك معطوفاً على
«يعدلون».
ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم، وهو سبب لتعذيبهم قال:
﴿فقد كذبوا﴾ أي أوقعوا تكذيب الصادق
﴿بالحق﴾ أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله. لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها
﴿لما جآءهم﴾ أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره، وذلك أدل ما يكون على العناد.
ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى، وهي الاستهزاء، قال:
﴿فسوف يأتيهم﴾ أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه
﴿أنباء ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿به يستهزئون﴾ أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه، وهو أبعد شيء عن الهزء، والنبأ: الخبر العظيم، وهو الذي يكون معه الجزاء، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل - كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً.
ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، فعجب من تماديهم مع ما علموا
21
من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً:
﴿ألم يروا﴾ ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله:
﴿كم أهلكنا﴾.
ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح، أدخل الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ وبيَّنَ
﴿كم﴾ بقوله:
﴿من قرن﴾ أي جماعة مقترنين في زمان واحد، وهم أهل كل مائة سنة - كما صححه القاموس لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغلام:
«عش قرناً»، فعاش مائة. هذا نهاية القرن، والأقرب أنه لا يتقدر، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل: انقضى القرن، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله:
﴿مكناهم﴾ أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال
﴿في الأرض﴾ أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة
﴿ما لم نمكن﴾ أي تمكيناً لم نجعله
﴿لكم﴾ أي نخصكم به، فالآية من الاحتباك أو شبهه، والالتفات من
22
الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله
﴿وأرسلنا السماء﴾ أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب
﴿عليهم﴾. ولما كان المراد المطر، كان التقدير: حال كونه
﴿مدراراً﴾ أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر، قالوا: ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
ولما ذكر نفعهم بماء السماء، وكان غير دائم، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال:
﴿وجعلنا الأنهار تجري﴾ ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال:
﴿من تحتهم﴾ أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر.
ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي، فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم، فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك:
﴿فأهلكناهم﴾ أي بعظمتنا
﴿بذنوبهم﴾ أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ
23
ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم.
ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال:
﴿وأنشأنا﴾ ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال:
﴿من بعدهم﴾ أي فيما كانوا فيه
﴿قرناً﴾ ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله:
﴿آخرين﴾ ولم ينقص ملكُنا شيئاً، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم، وهذه الآية مثل آية الروم
﴿أو لم يسيروا في الأرض﴾ [الروم: ٩]- الآية، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله
﴿فما كان الله ليظلمهم﴾ [الروم: ٩] و [التوبة: ٧٠]- إلى آخر الآيتين.
24
ولما كانت ترجمة ما مضى: ثم هم يعدلون بربهم غيرَه ويكذبونك فيما جئت به من الحق مع ما أوضحت عليه من الحجج ونصبت من الدلائل، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الحرص على إيمانهم، كان المقام يقتضي أن يقول لسان الحال: أنزل عليهم يا رب ما ينتقلون به من النظر بالفكر إلى العيان كما اقترحوا عليّ، فأخبره أنهم لا يؤمنون بذلك، بقوله عطفاً على
﴿وما تأتيهم من آية﴾ تحقيقاً له وتصويراً في جريته:
﴿ولو نزلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿عليك كتاباً﴾ أي مكتوباً من السماء
24
﴿في قرطاس﴾ أي ورق، إجابة لما أشار عليهم اليهود باقتراحه، ثم حقق أنه واضح الأمر، ليس بخيال ولا فيه نوع لبس بقوله:
﴿فلمسوه﴾ أي زيادة على الرؤية. وزاد في التحقيق والتصوير ودفع التجوز بقوله:
﴿بأيديهم لقال﴾ وأظهر ولم يضمر تعليقاً للحكم بالوصف وتنبيهاً على أن من الموجودين من يسكت ويؤمن ولو بعد ذلك فقال:
﴿الذين كفروا﴾ أي حكماً بتأبد كفرهم ستراً للآيات عناداً ومكابرة، ولعله أسقطُ منهم إشارة إلى عموم دعوته، أي من العرب ومن غيرهم من أمة دعوتك ولا سيما اليهود المشار إلى تعنتهم وكذبهم بقوله
﴿يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء﴾ [النساء: ١٥٣]
﴿إن﴾ أي ما
﴿هذا إلاّ سحر﴾ أي تمويه وخيال لا حقيقة له، وزادوا في الوقاحة فقالوا:
﴿مبين﴾ أي واضح ظاهر، قال صاحب كتاب الزينة: معنى السحر في كلام العرب التعليل بالشيء والمدافعة به والتعزير بشيء لا محصول له، يقال: سحره - إذا علله وعزره وشبه عليه حتى لا يدري من أين يتوجه ويقلب عن وجهه، فكأن السحرة يعللون الناس بالباطل ويشبهون الباطل في صورة الحق ويقلبونه عن جهته.
ولما بين ما يترتب على الإجابة إلى ما أشار إلى أن اليهود اقترحوه من إنزال الكتاب، أخبر أنهم اقترحوا ظهور الملك لهم، وبين لوازمه، فإنهم قالوا: لو بعث الله رسولاً لوجب كونه ملكاً ليكون أكثر
25
علماً وأقوى قدرة وأظهر امتيازاً عن البشر، فتكون الشبهة في رسالته أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم كان الأولى تحصيله بما هو أسرع إيصالاً إليه، فقال:
﴿وقالوا لولا﴾ أي هلا ولِمَ لا
﴿أنزل عليه ملك﴾ أي من المساء ظاهراً لنا يكلمنا ونكلمه ولا يحتجب عنا.
ولما ذكر قولهم مشيراً إلى شبهتهم، نقضه بقوله:
﴿ولو﴾ أي والحال أنا لو
﴿أنزلنا﴾ وأسقط أداة الاستعلاء لعدم الاحتياج في رد كلامهم إلى ذكرها. ولئلا يكون فيه تسليهم لما لوحوا إليه من إنكارهم نزول الملك عليه بالوحي
﴿ملكاً﴾ أي كما اقترحوه، فلا يخلو إما أن يكون على صورته أولاً، فإن كان على صورته التي خلق عليها لم يثبتوا لرؤيته، ولو كان كذلك
﴿لقضي الأمر﴾ أي بهلاكهم، وبناه للمفعول إشارة على طريق كلام القادرين إلى غاية السرعة لسهولة الأمر وخفة مؤنته، فإنه لا ينظره أحد منهم إلاّ صعق، ولئن أعطيناهم قوة يثبتون بها لنظره ليكونن قضاءٌ للأمر وانفصال للنزاع من وجه آخر، وهو أن ذلك كشف للغطاء وفوات للإيمان بالغيب، وقد جرت عادتنا بالإهلاك عند ذلك، فإذا هم هالكون على كل من هذين التقديرين، وهو معنى قوله مهولاً لرتبته بحرف التراخي:
﴿ثم لا ينظرون﴾ أي على حالة من هاتين، وأما إن جعلناه على صورة يستطيعون نظرها فإنا نجعله
26
على صورة رجل، فإنها أكمل الصور؛ وحينئذٍ يقع لهم اللبس الذي وقع لهم بدعائك، وهو معنى
﴿ولو جعلناه﴾ أي مطلوبَهم
﴿ملكاً﴾ أي يمكن في مجاري العادات في هذه الدار رؤيتهم له وبقاؤهم بعد رؤيته
﴿لجعلناه رجلاً﴾ أي في صورة رجل، ولكنه عبر بذلك إشارة إلى تمام اللبس حتى أنه لا يشك أحد يراه في كونه رجلاً، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في بعض الأوقات على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة دحية الكلبي، فإذا رآه بعض الصحابة رضي الله عنهم لم يشك أنه دحية رضي الله عنه
﴿و﴾ لو جعلناه رجلاً
﴿للبسنا عليهم ما يلبسون﴾ أي لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطونه على أنفسهم وعلى غيرهم في قولهم: إن الرسالة لا تصح من البشر، فلو كان هذا الذي يقول: إنه رسول رسولاً لكان ملكاً، فوقع اللبس عليهم بأنه لما كان هذا الذي يقول: إنه رسول، ملكاً كان رجلاً، ويجوز أن يقرر ذلك على وجه آخر، وهو أن يكون
﴿ولو نزلنا﴾ في حيز
﴿كانوا عنها معرضين﴾، أي أعرضوا عنا لو نزلناها عليك في غير قرطاس، ولو نزلنا عليك من السماء كتاباً في قرطاس فجعلنا لهم في ذلك بين حس البصر واللمس لأعرضوا، وقال الذين أبَّدْنا كفرَهم عناداً
27
ومكابرة: ما هذا إلاّ سحر ظاهر، ويكون
﴿وقالوا﴾ معطوفاً على
﴿لقال الذين كفروا﴾ ويكون ذلك قبل اقتراحهم لذلك بما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء بقوله
﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠]- إلى آخرها، فيكون إخباراً بمغيب.
ولما قطع الرجاء لهداية من حكم بشقاوته، وكان طلبهم لإنزال الملك ونحوه إنما هو على سبيل التعنت والاستهزاء، وكان ذلك يشق على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين رضي الله عنهم غاية المشقة، التفتت النفس إلى الإراحة منهم وتوقعته لما تقدم من مظاهر العظمة، فأخبره أنه فاعل ذلك في سياق متكفل بتسليته، وأن ذلك لم يزل سنته فيمن فعل فعلهم، فقال - عاطفاً على قوله
﴿فسوف يأتيهم أنباؤا﴾ [الأنعام: ٥]-:
﴿ولقد﴾ أي هذا منهم إنما هو استهزاء بك
﴿ولقد استهزئ﴾ أي أوقع الهزء وأوجد من الأمم، وبني للمفعول لأن المنكي الاستهزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه كان يقع لهم ذلك من الأعلى والأدنى
﴿برسل﴾.
ولما كان القرب في الزمن في مثل هذا مما يسلي، وكان كل من الاستهزاء والإرسال لم يستغرق الزمن، أدخل الجار فاقل:
﴿من قبلك﴾ فأهلكنا من هزأ بهم، وهو معنى
﴿فحاق﴾ أي فأحاط
28
﴿بالذين سخروا منهم﴾ أي من أولئك الرسل
﴿ما كانوا به يستهزئون﴾ أي من العذاب الذي كانوا يتوعدون به، وكان سبباً لهزئهم.
29
ولما علم الله تعالى أنهم يقولون في جواب هذا: إن هذا إلا أساطير الأولين، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما مضى من التعجيب من كونهم لم ينظروا بقلوبهم أو أبصارهم مصارع الماضين في قوله:
﴿ألم يروا كم أهلكنا﴾ [الأنعام: ٦] أن يأمرهم بأن يشاهدوا مصارع من تمكن في قلوبهم علم أنهم أهلكوا بمثل تكذيبهم من قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ليغنيهم ذلك عن مشاهدة ما اقترحوا فقال تعالى:
﴿قل سيروا﴾ أي أوقعوا السير للاعتبار ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم
﴿في الأرض﴾ - الآية، وهي كالدليل على قوله تعالى:
﴿لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين﴾ [الأنعام: ٦].
ولما كان السياق للتهديد بالتحذير من مثل أخذ الأمم الماضية، وكان قد سلف أنه لا تقدمهم عن آجالهم، أمهلهم في النظر فإنه أقوى في التهديد، وأدل على القدرة، وأدعى إلى النصفة ولا سيما والسورة من أوائل القرآن نزولاً وأوائله ترتيباً فقال:
﴿ثم انظروا﴾ وأشار إلى أن هذا أهل لأن يسأل عنه بقوله:
﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر
29
﴿المكذبين *﴾ أي أنعموا النظر وبالغوا في التفكر وأطيلوا التدبر إذا رأيتم آثار المعذبين لأجل تكذيب الرسل، فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار وقوي الاستبصار، وذلك إشارة إلى أن الأمر في غاية الانكشاف، فكلما طال الفكر فيه ازداد ظهوراً.
ولما أمرهم سبحانه بالسير، سألهم هل يرون في سيرهم وتطوافهم وجولانهم واعتسافهم شيئاً لغير الله؟ تذكيراً لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولاً وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانياً، استعطافاً لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته، وتقبيحاً لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره. فقال مقرراً لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد، ومبكتاً بسفههم وشدة جهلهم وعمههم:
﴿قل لمن﴾ ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود
﴿ما في السماوات والأرض﴾.
ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة، أشار إلى ذلك بقوله معرضاً عن انتظار جوابهم توبيخاً لهم بعدم النصفة التي يدعونها:
﴿قل الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلماً ولا كفوء له، لا لغيره، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك، لا سيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسن
30
أن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان، فكان الإقرار بن ضروري، لا خلاف فيه.
ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسنة لذيذة طيبة شهية، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته، وكان ذلك أهلاً لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان، قال دالاً على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفاً:
﴿كتب﴾ أي وعد وعداً هو كالمكتوب الذي ختم، وأكد غاية التأكيد، أو كتب حيث أراد سبحانه.
ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال:
﴿على نفسه الرحمة﴾ أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات.
31
ولما كان ذلك مطمعاً للظالم البطر، ومعجباً محيراً مؤسفاً للمظلوم المنكسر، قال محذراً مرحباً مبشراً ملتفتاً إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالاً على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار، فيكون قادراً على الإعادة، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالماً بجميع المعلومات، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع:
﴿ليجمعنكم﴾ أي والله محشورين شيئاً فشيئاً
﴿إلى يوم القيامة﴾ للعدل بين جميع العباد كائناً
﴿لا ريب فيه﴾ أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية.
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم
32
لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق: الشقي والسعيد القريب والبعيد، كان كأنه قيل: فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به، فقال جواباً:
﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم
﴿فهم﴾ أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد
﴿لا يؤمنون *﴾ فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى: إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم.
ولما استنارت الأدلة استنارة الشمس وانتصبت البراهين حتى لم يبق أصلاً نوع لبس، عم بالخبر عما تقدم مما يشاهدونه وغيره، فقال ذاكراً الزمان بعد المكان، وقدمه لأنه أظهر، والمعلم الكامل هو الذي يبدأ بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، فتم بذلك الخبر عن الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات:
﴿وله﴾ أي وحده
﴿ما سكن﴾ أي حل وتحيز وحصل
﴿في الليل والنهار﴾ أي ما من شأنه أن يسكن فيهما وإن كان متحركاً، ولكنه عبر بذلك دون التحرك لأنها دار الموت، ودخل في ذلك النور والظلمة اللذان أشرك بهما من أشرك.
ولما دل ما مضى على القدرة التامة، وانقسم إلى متحرك وساكن،
33
وكانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، دل عليه بقوله:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿السميع﴾ أي البالغ السمع لكل متحرك
﴿العليم *﴾ أي العام العلم بالبصر والسمع وغيرهما بكل متحرك وبكل ساكن من أقوالكم وأفعالكم وغيرهما، فلا تطمعوا في أن يترك شيء من مجازاتكم، والعليم هنا أبلغ من البصير، وذلك مثل ما تقدم في قوله:
﴿قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم﴾ [المائدة: ٧٦] وهو ترجمة قوله:
﴿يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون﴾ [الأنعام: ٣].
34
ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز تعالى ذلك في قالب الأمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنكار على نفسه، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة، فكأنهم قالوا: فهل من سبيل إلى المواقة؟ فقيل: لا إلا باتخاذكم إلهي ولياً، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين، وبتطمعكم في اتخاذي أندادكم أولياء، وهذا ما لا يكون أبداً، وهو معنى قوله تعالى:
﴿قل﴾ أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل إلى أندادهم بوجه.
ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً، لا إلى اتخاذ الولي،
34
أولى
«غير» الهمزة فقال:
﴿أغير الله﴾ أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة
﴿أتخذ﴾ أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ
﴿ولياً﴾ أي أعبده لكونه يلي جميع أموري، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال:
﴿فاطر السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق
﴿وهو﴾ أي والحال أن الله
﴿يطعم﴾ أي يرزق كل من سواه مما فيه روح.
ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم، لا كون ذلك من مطعم معين، بني للمفعول قوله:
﴿ولا يطعم﴾ أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه، والمعنى أن المنافع من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه، وهو سبحانه الغني على الإطلاق، وهذا التفات إلى قوله تعالى:
﴿ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام﴾ [المائدة: ٧٥] وتعريض بكل ما عبد من دون الله ولا سيما الأصنام، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها الدواب والطيور، فمعلوم أنها لا تطعم ولا تطعم روى الدارمي في
35
أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال:
«حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: فمنعني أن آكل الزبد مخافتها، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم» ومولاه كان شريك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الإسلام، واختلف فيه فقيل: هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وقيل: قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم. وقيل: ابنه عبد الله بن السائب - والله أعلم؛ وله عن أبي رجاء - هو العطاردي وهو مخضرم - قال:
«كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجراً حسناً عبدناه، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة من رمل، ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها فنحلبها على الكثبة حتى نرويها، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان» وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها، وسيأتي التصريح بذلك في قوله:
{وهو الذي أنزل
36
من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء} [الأنعام: ٩٩] المستوفي في مضماره
﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ [الأنعام: ١١٨] وفي الآية كلها التفات إلى قوله أول السورة
﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ [الأنعام: ١] وقوله في التي قبلها
﴿ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء﴾ [المائدة: ٨١] في أمثالها مما فيه تولي الكفار لغير خالقهم سبحانه وتعالى، هذا لو لم يرد أمر من قبل الخالق كان النظر السديد كافياً في التنزه عنه، كما كنت قبل النبوة لا ألتفت إلى أصنامكم ولا أعتبر للعبادة شيئاً من أنصابكم، فكيف وقد أمرت بذلك! وهو معنى
﴿قل إني أمرت﴾ أي من جهة من له الأمر، ولا أمر إلا له وهو من تقدم أن له كل شيء، وهو الله وحده
﴿أن أكون﴾ أي بقلبي وقالبي
﴿أول من أسلم﴾ في الرتبة مطلقاً، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة.
ولما كان الأمر بالإسلام نهياً عن الشرك، لم يكتف به، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدعو إحسانه وكرمه إلى ولايته، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته، في قوله عطفاً على
﴿قل﴾ على وجه التأكيد:
﴿ولا تكونن﴾ أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً
﴿من المشركين *﴾ أي في
37
عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته منهم به، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة إليهم والكون في عدادهم
«من تشبه بقوم فهو منهم».
ولما كان فعل المنهي قد لا يعذب عليه، قال معلماً بأن المخالفة في هذا من أبلغ المخالفات، فصاحبها مستحق لأعظم الانتقام، وكل ذلك فطماً لهم عن الطمع فيه، وأكده لذلك ولإنكارهم مضمونه:
﴿قل إني﴾ ولما كان المقام للخوف، قدمه فقال:
﴿أخاف إن عصيت﴾ أي شيء مما تريدون مني أن أوافقكم فيه بما أمرت به أو نهيت عنه
﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ
﴿عذاب يوم﴾ ولما كان عظم الظرف بعظم مظروفه قال:
﴿عظيم *﴾.
ولما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم، فقال واصفاً لذلك العذاب مبيناً أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته، لا زائلة وكذا النعمة، هكذا شأن ذلك اليوم
﴿من يصرف عنه﴾ أي ذلك العذاب؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم، قال:
﴿يومئذ﴾ أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به
﴿فقد رحمه﴾ أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم
﴿وذلك﴾ أي لا غيره
﴿الفوز﴾ أي
38
الظفر بالمطلوب
﴿المبين *﴾ أي الظاهر جداً، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه، وذلك هو العذاب العظيم.
ولما كان التقدير: فإن يصرف عنك ذلك العذاب فقد قرت عينك، عطف عليه دليلاً آخر لأنه لا يجوز في العقل أن يتخذ غيره ولياً، فقال معمماً للحكم في ذلك العذاب وغيره مبيناً أنه لا مخلص لمن أوقع به:
﴿وإن يمسسك الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان المقام للترهيب، قدم قوله:
﴿بضر﴾ أي هنا أو هناك
﴿فلا كاشف له﴾ أصلاً بوجه من الوجوه
﴿إلا هو﴾ أي لأنه لا كفوء له، فهو قادر على إيقاعه، ولا يقدر غيره على دفاعه، لأنه على كل شيء قدير
﴿وإن يمسسك بخير﴾ أي في أي وقت أراد.
ولما كان القياس على الأول موجباً لأن يكون الجزاء: فلا مانع له، كان وصفه من صفة قوله
﴿فهو على كل شيء﴾ أي من ذلك وغيره
﴿قدير *﴾ ولا يقدر غيره على منعه، منبهاً على أن رحمته سبحانه سبقت غضبه.
39
ولما كانت الجملتان من الاحتباك، فأفادتا بما ذكر وما دل عليه المذكور مما حذف أنه تعالى غالب على أمره، قال مصرحاً بذلك:
﴿وهو القاهر﴾ أي الذي يعمل مراده كله ويمنع غيره مراده إن شاء، وصور قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله:
﴿فوق عباده﴾ وكل ما سواه عبد؛ ولما كان في القهر ما يكون مذموماً، نفاه بقوله:
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿الحكيم﴾ فلا يوصل أثر القهر بإيقاع المكروه
39
إلا لمستحق، وأتم المعنى بقوله:
﴿الخبير *﴾ أي بما يستحق كل شيء، فتمت الأدلة على عظيم سلطانه وأنه لا فاعل غيره.
ولما ختم بصفتي الحكمة والخبرة، كان كأنه قيل: فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك - على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم، ونهاك عن الشرك لنصدقك - من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما؟ فقال: قد فعل، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال - أو يقال: إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذاناً بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذاراً به لئلا يقولوا إذا حل بهم: إنه لم يأتنا نذير، فقال:
﴿قل﴾ أي يا أيها الرسول لهم
﴿أي شيء أكبر﴾ أي أعظم وأجل
﴿شهادة﴾ فإن أنصفوا وقالوا: الله! فقل: هو الذي يشهد لي، كما قال في النساء
«لكن الله يشهد بما أنزل إليك» ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل، فقال آمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿قل الله﴾ أي الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة أكبر شهادة.
40
ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا: إنه لَكذلك، ولكن هلم شهادته! قال:
﴿شهيد﴾ أي هو أبلغ شاهد يشهد
﴿بيني وبينكم﴾ أي بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها؛ ولما قرر أنه أعظم شهيد، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها، نبه على أعظمها، لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق، فقال ذاكراً لفائدته في سياق تهديد متكفل بغثبات الرسالة وإثبات الوحدانية، وقدم الأول لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته، عاطفاً على جملة
«شهيد» بانياً للمفعول، تنبيهاً على أن الفاعل معروف للإعجاز، وبني للفاعل في السواد:
﴿وأوحي إلي﴾ وحقق الموحى به وشخّصه بقوله:
﴿هذا القرآن﴾ ولما كان في سياق التهديد قال مقتصراً على ما يلائمه:
﴿لأنذركم﴾ أي أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك
﴿به ومن﴾ أي وأنذر به كل من
﴿بلغ﴾ أي بلغه، قال الفراء: والعرب تضمر الهاء في صلات
«الذي» و
«من» و
«ما».
وقال البخاري في آخر الصحيح:
﴿لأنذركم به﴾
41
يعني أهل مكة، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه. وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله. وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل بعث إلى الجن - ومن خطه نقلتُ: الكتاب والسنة ناطقان بذلك، والإجماع قائم عليه، لا خلاف بين المسلمين فيه؛ ثم أسند الإجماع إلى أبي طالب القضاعي وأبي عمر بن عبد البر في التمهيد وأبي محمد بن حزم في كتاب الفِصَل وغيرهم ثم قال: أما الكتاب فآيات إحداها
﴿لأنذركم به ومن بلغ﴾ قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عباس - فذكره، وقال
42
السدي: من بلغ القرآن فهو له نذير، وقال ابن زيد: من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره. وهذه كلها أقوال متفقة المعنى، وقد أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول هذا الكلام وأن ينذر بالقرآن كل من بلغه، ولم يخص إنساً ولا جناً من أهل التكليف، ولا خلاف أن الجن مكلفون - انتهى. وسيأتي مما ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة عليهم السلام، فالمعنى: فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح، ومن كذب فليأت بسورة من مثله، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب، وهو شهادة الله لي بالصدق، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل استمرت على مرّ الأيام وكرّ الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ ما نرى أحداً يصدقك بما تقول،
43
ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فأنزلها الله.
ولما لم يبق لمتعنت شبهة، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته - وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مُرَقَّى إليه، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى أنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان - مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيماً لشأنه وتفخيماً لمقامه وتنبيهاً لهم على أن يعدوا عن الشرك فقال: أئنكم لتشهدون أن مع الله} أي الذي حاز جميع العظمة
﴿آلهة﴾.
ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه سبحانه إله كما قالوا حين سمعوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«يا الله يا رحمن» كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحِجْر وآخر سبحان، صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع فقال:
﴿أخرى﴾ ولما كان كأنه قيل: إنهم ليقولون ذلك، فماذا يقال لهم؟ قال:
﴿قل لا أشهد﴾ أي معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل، ولو كان حقاً لشهدت به.
ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه، اجتثَّه من أصله وبرمته بقوله:
﴿قل إنما هو﴾ أي الإله
﴿إله واحد﴾ وهو الله الذي
44
لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء، لأنه واحد لا كفوء له، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس.
ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم، صرح به في قوله مؤكداً في جملة اسمية:
﴿وإنني بريء مما تشركون *﴾ أي الآن وفي مستقبل الزمان إبعاداً من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئاً منها ولياً، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد، ولقد امتثل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن، فلما استراح عن حرب قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية، وهو سنة ست من الهجرة، وأعلمه الله تعالى أن ذلك فتح مبين، أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده، وكان أكثر عند منصرفه من ذلك الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار، وينذرهم دار البوار، قال أهل السير: خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها - على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقال:
«أيها الناس! إن الله بعثني رحمة وكافة، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم» وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد
45
ثم قال:
«أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون»
وقال ابن عبد الحكم: بنو إسرائيل - على عيسى ابن مريم عليهما السلام، فقال المهاجرون: يا رسول الله! والله لا نختلف عليك في شيء أبداً، فمرنا وابعثنا، فسألوه: كيف اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام؟ قال: دعاهم إلى الذي وفي رواية لمثل الذي - دعوتكم إليه، وقال ابن عبد الحكم: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام أن ابعث إلى مقدس الأرض، فبعث الحواريون - فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل - قال ابن عبد الحكم: وقال: لا أحسن كلام من تبعثني إليه - فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى الله عز وجل، فأصبح كل رجل - وقال ابن عبد الحكم: فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم - يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها. فقال عيسى عليه السلام: هذا أمر قد عزم الله عليه فامضوا له. وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس: إن المكان الذي جمع فيه عيسى عليه السلام الحواريين وأنفذهم إلى النواحي قرية بناحية طبرية تسمى الكرسي. وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب
46
المصري أنه وجد كتاباً فيه ذكر من بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البلدان وملوك العرب والعجم وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال: فبعث به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه - فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: قال ابن إسحاق: وكان من بعث عيسى ابن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض بطرس الحواري ومعه بولس - وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين - إلى رومية، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس إلى قرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى أقسوس قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس، وابن ثلما إلى الأعرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا ولم يكن من الحواريين، جُعل مكان يودس - انتهى. كذا رأيت في
47
نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة لابن هشام، وكذا في مختصرها للامام جمال الدين محمد بن المكرم الأنصاري عدد رسله وأسمائهم، وفي أخرهم: قوله: مكان يودس، ولم يتقدم ليودس ذكر، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا، ولعله أصح، وقد جمعت ما تفرق من ألفاظها، قال في إنجيل متى ما نصه - ومعظم السياق له: ودعا يعني عيسى عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي أنجيل مرقس: وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين، وفي إنجيل لوقا: وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي، وكان ساهراً في صلاة الله، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر؛ وقال في موضع آخر: ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء المرضى، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون الأوجاع؛ وهذه أسماء الاثني عشر الرسل: سمعان المسمى بطرس - ونسبه في موضع من إنجيل متى: ابن يونا - وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه
48
قال في إنجيل مرقس: وسماهما باسمي بوانرجس اللذين ابنا الرعد - وفيلبس وبرثولوماوس، وتوما ومتى الشعار، ويعقوب بن حلفي، ولباوس الذي يدعى تداوس، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا: تدى، وفي إنجيل لوقا بدلهما: يهوذا بن يعقوب، ثم اتفقوا: وسمعان القاناني، وقال في إنجيل لوقا: المدعو الغيور، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - أي دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها - هؤلاء الاثنا عشر الرسل الذين أرسلهم يسوع - وفي إنجيل مرقس: ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة - قائلاً: لا تسلكوا طريق الأمم، ولا تدخلوا مدينة السامرة، وانطلقوا خاصة إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوأ: قد اقتربت ملكوت السماوات، اشفوا المرضى، أقيموا الموتى، طهروا البرص، أخرجوا الشياطين، مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا، لا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا همياناً في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى، والفاعل
49
مستحق طعامه، وفي إنجيل مرقس: وأمرهم أن لا يأخذوا في الطريق غير عصى فقط ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقهم إلا نعالاً في أرجلهم ولا يلبسوا قميصين؛ وفي إنجيل لوقا: وقال لهم: لا تحملوا في الطريق شيئاً، لا عصى ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة، ولا يكون لكم ثوبان، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا فيها عمن يستحقكم، وكونوا هناك حتى تخرجوا، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه، فإن كان البيت مستحقاً لسلامكم فهو يحل عليه، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم؛ وفي إنجيل مرقس: وقال لهم: أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا منه، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم، الحق أقول لكم! إن الأرض سدوم وعامورا راحة في يوم الدين أكثر من تلك
50
المدينة، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب، كونوا حكماء كالحية وودعاء كالحمام، احذروا من الناس، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل، وفي مجامعهم يضربونكم، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم - وفي إنجيل مرقس: شهادة عليهم وعلى كل الأمم، ينبغي أولاً أن يكرزوا بالإنجيل - فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون - وفي إنجيل مرقس: ولا ماذا تجيبون - فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم - وفي إنجيل مرقس: لكن روح القدس يتكلم فيم - وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم، وتكونون مبغوضين من الكل من أجل اسمي، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص، فإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى، الحق الحق أقول لكم! إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان، ليس تلميذ أفضل من معلمه، ولا عبد أفضل من سيده، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته! فلا تخافوهم، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم، الذي أقول لكم
51
في الظلمة قولوه أنتم في النور، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح، ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم، أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم، وأنتم فشعور رؤوسكم كلها محصاة، فلا تخافوا، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة، لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض سلامة، لكن سيفاً، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة من أمها، والعروس من حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أباً أو أماً أكثر مني فما يستحقني، ومن وجد نفسه فليهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها، ومن قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني، ومن يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يأخذ صديقاً باسم صديق فأجر صديق يأخذ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ - الحق أقول لكم - إن أجره لا يضيع، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر، انتقل من هناك ليعلم ويكرز
52
في مدنهم؛ وفي إنجيل مرقس: فلما خرجوا - يعني الرسل - كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة يدهنونهم بالزيت فيشفون؛ وفي إنجيل لوقا: ومن بعد هذا أيضاً ميز الرب سبعين آخرين ويرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمَعَ أن يأتيه، وقال لهم: إن الحصاد كثير والفعلة قليلون، أطلبوا من رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده؛ وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان للاثني عشر، فإنه قال قبل ذكر عددهم: فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر - إلى آخر ما ذكرته عنه أولاً، فيجمع بأنه قاله للفريقين - رجع إلى السياق الأول: اذهبوا، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب، لا تحملوا همياناً ولا حذاء ولا مزوداً ولا تقبلوا أحداً في الطريق، وأي بيت دخلتموه فقولوا أولاً: سلام لأهل هذا البيت، فإن كان هناك ابن سلامكم فإن سلامكم يحل
53
عليه، وإلا فسلامكم راجع إليكم، وكونوا في ذلك البيت، كلوا واشربوا من عندهم، فإن الفاعل مستحق أجرته، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم، واشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم: قد قربت ملكوت الله، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا من شوارعها وقولوا لهم: نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت، أقول لكم: إن سدوم في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة، الويل لك يا كورزين! والويل لك يا بيت صيدا! لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كنَّ فيكما جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم، وأنت يا كفرناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم، من سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني؛ فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب! الشياطين باسمك تخضع لنا يا رب فقال لهم: قد رأيت الشيطان سقط من السماء مثل البرق، وهو ذا قد أعطيتكم
54
سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال: طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم! أقول لكم: إن أنبياء كثيرين وملوكاً اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا؛ وفي إنجيل متى - بعد ما ادعى اليهود صلبه - أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر - وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع، وكلمهم قائلاً: أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم؛ وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكّتهم لقلة إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم: امضوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها، فمن آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدان، وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم.
ويشربون السم القاتل فلا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون، ومن بعد ما كلمهم
55
يسوع ارتفع إلى السماء، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان؛ وفي إنجيل لوقا: فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر وكلاماً كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه: وفيما هم يتكلمون وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: السلام لكم، أنا هو! لا تخافوا، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً فقال: ما بالكم تضطربون؟ ولِمَ تأتي الأفكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو! جسّوني وانظروا، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي؛ ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه، وإذا هم غير مصدقين من الفرح، قال لهم: أعندكم ههنا ما يؤكل؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل، فأخذ قدامهم وأكل، وأخذ الباقي وأعطاهم، وقال لهم: هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ كنت معكم، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا، وقال لهم: اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا لقوة من العلى، ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، فرفع يديه وباركهم، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء أمامهم، فرجعوا إلى يروشليم بفرح عظيم، وكانوا في كل حين يسبحون
56
ويباركون الله - انتهى ما نقلته من الأناجيل. وما كان فيه من لفظ يوهم نقصاً ما فقد تقدم في أول آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم، فهو مؤول وقد نسخ؛ وقال الإمام محيي السنة البغوي في تفسير آل عمران فيما نقله عن وهب: فلما كان بعد سبعة أيام - أي من ادعاء اليهود لصلبه - قال الله تعالى لعيسى عليه السلام: اهبط على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى، فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، فجمعت له الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة، ثم رفعه الله إليه، وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه السلام إليهم، فذلك قوله تعالى
﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾ [آل عمران: ٥٤] هذا ما ذكر من شأن رسل عيسى عليه السلام أنهم كانوا دعاة، وأما رسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم كانوا مبلغين لكتبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
57
فمن قبل ذلك كان حظه من الله، ومن أبى كان جوابه السيف الماحق لدولته - كما ذكرته مستوفى في شرحي لنظمي للسيرة وهو مذكور في فتوح البلاد؛ ولما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسله اتخذ لأجل مكاتبة الملوك الخاتم، أخرج أبو يعلى في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى كسرى وقيصر - وفي رواية: وأكيدر دومة وإلى كل جبار - يدعوهم إلى الله وأخرج الشيخان في صحيحهما - وهذا لفظ مسلم - عن أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه قال: لما أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتب إلى الروم - وفي رواية: إلى العجم - قالوا: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتماً من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقشه
«محمد رسول الله».
فبعث دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم وأمره أن يوصل الكتاب إلى عظيم بصرى ليوصله إليه، فعظم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبله وقرأه ووضعه على وسادة وعلم صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه سيغلب على ملكه، فجمع الروم وأمرهم بالإسلام فأبوا، فخافهم فقال: إنما أردت أن أجربكم، ثم لم يقدر الله له الإسلام، فأزال الله حكمه عن الشام وكثير من الروم على يدي أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ثم عن كثير من الروم أيضاً على يد من بعدهم، ومكن بها
58
الإسلام، لكن أثابه الله على تعظيم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أبقى ملكه في أطراف بلاده إلى الآن، وبلغني أن الكتاب محفوظ عندهم إلى هذا الزمان؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني - وقال القضاعي: المنذر بن أبي شمر عامل قيصر على تخوم الشام - ثم إلى جبلة بن الأيهم الغساني، فأما الحارث أو المنذر فغضب من الكتاب وهمّ بالمسير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقاتله، زعم فنهاه عن ذلك قيصر، فأكرم شجاعاً ورده وأسلم حاجبه مري الرومي بما عرف من صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«باد ملك الحارث، وفاز مري» فقلّ ما لبث الحارث حتى مات، وولي بعده في مكانه جبلة بن الأيهم الغساني، وهو آخر ملوك غسان على نواحي الشام، فرد إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شجاع بن وهب رضي الله عنه، فرد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رداً جميلاً ولم يسلم، واستمر يتربص حتى أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه لما رأى من ظهور نور الإسلام وخمود نار الشرك، ثم إنه
59
ارتد - ولحق ببلاد الروم - في لطمة أريد أن يقتص منه فيها، فسبحان الفاعل لما يشاء! وبعث عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى ملك الفرس، وأمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم البحرين ليوصله إليه، فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ باسمه الشريف مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، فرجع عبد الله، فلما سكن غضب الخبيث التمسه فلم يجده فأرسل في طلبه فسبق الطلب، فلما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تمزيق الكتاب، دعا على كسرى أن يمزق كل ممزق، فأجاب الله دعوته فشتت شملهم وقطع وصلهم على يد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قتل يزدجرد آخر ملوكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه، فأصبح ملك الأكاسرة كأمس الدابر، وعم بلادهم الإسلام وظهرت بها كلمة الإيمان، بل تجاوز الإسلام ملكهم إلى ما وراء النهر وإلى بلاد الخطا.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية، فعلم من صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما علمه قيصر من الإنجيل، فأكرم الرسول وأهدى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد رداً جميلاً ولم يسلم، فأباد الله ملكه على يد عمرو بن العاص أمير لعمر رضي الله عنهما. وبعث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي فآمن رضي الله عنه وقال: أشهد أنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل عليهم السلام.
60
وأن العيان ليس بأشفى من الخبر، وأهدى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدايا كثيرة، وأرسل ابنه بإسلامه في سبعين من الحبشة، وقال في كتابه: وإني لا أملك إلا نفسي ومن آمن بك من قومي، وإن أحببت أن آتيك يا رسول الله فعلتُ؛ فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي واستغفر له؛ وبعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وإلى أسيحت مرزبان هجر بكتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام أو الجزية، وأرض البحرين من بلاد العرب، لكن كان الفرس قد غلبوا عليها، وبها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم فأسلم المنذر وأسيحت وجميع من هناك من العرب وبعض العجم، فأقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عمله؛ وبعث سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكان عاملاً لقيصر على قومه، فقرأ كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد رداً دون رد، فصادف أن قدم عليه راهب من دمشق، فأخبره أنه لم يجب إلى الإسلام، فقال: لم؟ قال: ضننت بملكي، قال الراهب: لو تبعته لأقرك والخير لك في اتباعه، فإنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بشر به
61
عيسى عليه السلام، قال هوذة للراهب: فما لك لا تتبعه؟ فقال: أجدني أحسده وأحب الخمر، فكتب هوذة كتاباً وبعث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدية مكانه ذلك، وشعر به قومه فأتوه فهددوه، فرد الرسول واستمر على نصرانيته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع إليه سليط:
«باد هوذة وباد ما في يده» ! فلما انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فتح مكة جاءه جبرئيل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي»، فكان كذلك كما هو مشهور من أمر مسيلمة الكذاب، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن، فلما بلغه رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الحارث: قد كان هذا النبي عرض نفسه عليّ فخطئت عنه، وكان ذخراً لمن صار إليه، وسأنظر، وتباطأ به الحال إلى أن أسلم عند رجوع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك سنة الوفود، وكاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ وبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، فتوقفا واضطرب
62
رأيهما، ثم عزم الله لهما على الرشد فقال جيفر: إنه والله قد دلني على هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمي أنه لا يأمر بخير إلاّ كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يفجر، وأنه يوفى بالعهد وينجز الوعد، ولا يزال يطع على سر قوم يساوي فيه أهله، وإني أشهد أنه رسول الله، وأسلم أخوه أيضاً، وكتبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامهما، فقال خيراً وأثنى خيراً، وكان في سير هؤلاء الرسل لعمري غير ما ذكر أحاديث عجائب وأقاصيص غرائب من دلائل النبوة وأعلام الرسالة، خشيت من ذكرها الإطالة وأن تمل وإن لم يكن فيها ما يقتضي ملاله، وقد شفيت في شرحي لنظمي للسيرة باستيفائها القليل في ترتيب جميل ونظم أسلوبه لعمري جليل، هؤلاء رسل البشر، وأما الرسل من الجن فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
﴿وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن﴾ [الجن: ٢٩] قال: كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلاً إلى قومهم قال الهيثمي: وفي سنده النضر أبو عمر وهو متروك، ويؤيد عموم هذه الآية في تناولها الملائكة عليهم السلام قوله تعالى
﴿ليكون للعالمين نذيراً﴾ [الفرقان: ١] وإذا
63
تأملت سياق الآيات التي بعدها مع آخر السورة التي قبلها قطعت بذلك
﴿لينذر من كان حياً﴾ [يس: ٧٠]،
﴿إنما تنذر من اتبع الذكر﴾ [يس: ١١] إذ هم من جملة العالمين وممن بلغه القرآن وممن هو حي وممن اتبع الذكر، والخطاب بالإنذار وارد مورد التغليب، إذ الإنس والجن أهل له، فانتفى ما يقال: إن الملائكة في غاية الخوف من الله تعالى مع عصمتهم فليسوا ممن يخوف، ويزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى:
﴿ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين﴾ [الأنبياء: ٢٩] ولا إنذار أعظم من ذلك، وإن عيسى عليه السلام من هذه الأمة وممن شملته الآيات الدالة على عموم الرسالة بغير شك، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي» أخرجه الإمام أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب عن جابر رضي الله عنه، ومذهب أهل السنة أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، وقد ثبتت رسالته إلى الأفضل المعصوم بالفعل لعيسى، وبالتعليق بالحياة بموسى عليه السلام، وقد أخذ الله سبحانه ميثاق النبيين كلهم عليهم السلام إن أدركوه ليؤمنن به، وقد خوطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أشرف الخلق وأكملهم - بالإنذار في غير آية، فمهما أول به ذلك في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل مثله في حقهم عليهم السلام،
64
ومما يرفع النزاع ويدفع تعلل المتعلل بالإنذار قوله تعالى
﴿لتنذر به وذكرى للمؤمنين﴾ [الأعراف: ٢] فخذل مفعول
«تنذر» دال على عموم رسالته، وتعليق الذكرى بالمؤمنين مدخل لهم بلا ريب لأنهم من رؤوسهم - عليهم السلام، وقوله تعالى
﴿لتبشر به المتقين﴾ [مريم: ٩٧] إلى غيرها من الآيات، فيكون عموم رسالته لهم زيادة شرف له، وهو واضح، وزيادة شرف لهم بحمل أنفسهم على طاعته والتقيد بما حده لهم من أعمال ملته طاعة لله تعالى زيادة في أجورهم ورفعة درجاتهم، وذلك مثل ما قال أبو حيان في قوله تعالى
﴿فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين﴾ [الأعراف: ١٤٤] : إن في الأمر له بذلك مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال؛ وقال القاضي عياض في الفصل السابع من الباب الأول من القسم الأول من الشفا في قوله تعالى
﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة﴾ [آل عمران: ٨١] قال المفسرون: أخذ الله الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به، وبعضد ذلك ما قال في أول الباب الأول: وحكي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبرئيل عليه السلام: «
65
هل أصابك من هذه الرحمة المذكورة في قوله تعالى
﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ شيء؟ قال نعم! كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله
﴿ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين﴾ [التكوير: ٢٠، ٢١] » وروى مسلم في كتاب الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» وحمل من حمل الخلق على الناس - للرواية التي فيها
«إلى الناس» تحكم، بل العكس أولى لمطابقة الآيات، وقد خرج من هذا العموم من لا يعقل بالدليل العقلي، فبقي غيرهم داخلاً في اللفظ، لا يحل لأحد أن يخرج منه أحداً منهم إلا بنص صريح ودلالة قاطعة ترفع النزاع، وقال عياض في الباب الثالث من القسم الأول: وذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأذان - فذكر المعراج وسماع الأذان من وراء الحجاب ثم قال: ثم أخذ الملك بيد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدمه، فأمّ بأهل السماء فيهم آدم ونوح - انتهى. وروى عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان الرجل بأرض
66
قيّ فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد الماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه» قال المنذري: القيّ - بكسر القاف وتشديد الياء، وهي الأرض القفر. وروى مالك والستة إلا الترمذي وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إذا قال الإمام ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فقولوا آمين» -وفي رواية إذا أمن الإمام فأمنوا - فإنه من وافق تأمينه - تأمين الملائكة - وفي رواية: من وافق قوله قول الملائكة - غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي رواية في الصحيح:
«إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم له من ذنبه» وفي رواية لأبي يعلى: إذا قال الإمام
﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قال الذين خلفه: آمين، التقت من أهل السماء وأهل الأرض آمين، غفر للعبد ما تقدم من ذنبه. وللشيخين عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» ؛ وفي رواية: فإذا وافق قول أهل السماء قول أهل
67
الأرض غفر له ما تقدم من ذنبه؛ في أشكال ذلك مما يؤذن بائتمام الملائكة بأئمتنا، وذلك ظاهر في التقيد بشرعنا؛ وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم - وجزم ابن معين والذهلي بصحته - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة» وأدل من جميع ما مضى ما روى مالك والشيخان وأبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ؛ وفي رواية:
«فإذا قعد الإمام طويت الصحف» ؛ وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد: فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر. فإن تركهم لكتابة الناس وإقبالهم على الاستماع دليل واضح على الائتمام، بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا قلت لصاحبك
68
يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» قال الحليمي في الرابع من شعب الإيمان في الجواب عما أورد على قوله:
﴿لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله﴾ [الإسراء: ٨٧] من أن التخصيص بالإنس والجن لا يمنع قدرة الملائكة على المعارضة ما نصه: وأما الملائكة فلم يتحدوا على ذلك لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم، فسواء كانوا قادرين على مثله أو عاجزين، وهم عندنا عاجزون؛ وقال في الخامس عشر في أن من أنواع تعظيمه الصلاة عليه فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل ذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه، فأمر الله عباده لنبيهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم عن شريعته تتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والتسليم عليه، ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أول وأحق - هذا نصه في الموضعين، ولم يذكر لذلك دليلاً، ونسب الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع مثل ذلك إلى البيهقي في الشعب فإنه قال: وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، وفي الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه، قال: وفي تفسير الإمام الرازي والبرهان النسفي
69
حكاية الإجماع في تفسير الآية الثانية - أي
﴿ليكون للعالمين نذيراً﴾ [الفرقان: ١] أنه لم يكن رسولاً إليهم - انتهى. وهو شهادة نفي كما ترى، لا ينهض بما ذكرته من النصوص على أن الحليمي لم يقل بذلك إلا لقوله بأن لملائكة أفضل من الأنبياء - كما نقله عنه الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين والشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد وغيرهما، ولم يوافقه على ذلك أحد من أهل السنة إلا القاضي ابو بكر الباقلاني، فكما لم يوافق على الأصل لا يوافق على الفرع، وأما البيهقي فإنما نقله عن الحليمي وسكوته عليه لا يوجب القطع برضاه، قال الزركشي في شرح جمع الجوامع: وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم وقال لهم: الملائكة ما دخلت في دعوته، فقاموا عليه، وقد ذكر الإمام فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجاً بقوله تعالى
﴿ليكون للعالمين نذيراً﴾ : والملائكة داخلون في هذا العموم - انتهى.
وهذا يقدح فيما نقل عنه من نقل الإجماع، وعلى تقدير صحته ففيه أمور، أما أولاً فالإجماع لا يرجع إلا إلى أهل الاطلاع على المنقولات من حفاظ الآثار وأقاويل السلف فيه، وأما ثانياً فإنه نقل يحتمل التصحيح والتضعيف، لأنه بطرقه احتمال أن يكون نقل عمن لا يعتد به، أو يكون
70
أخذه عن أحد مذاكرة وأحسن الظن به، أو حصل له سهو، ونحو ذلك، فلا وثوق إلا بعد معرفة المنقول عنه وسند النقل والاعتضاد بما يوجب الثقة ليقاوم هذه الظواهر الكثيرة، وأما ثالثاً فإنه سيأتي عن الإمام تقي الدين السبكي أن بعض المفسرين قال بالإرسال إلى الملائكة، وق الإمام ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ زين الدين العراقي في شرحه لجمع الجوامع: وأما كونه مبعوثاً إلى الخلق أجمعين فالمراد المكلف منهم، وهذا يتناول الإنس والجن والملائكة، فأما الأولان فبالإجماع، وأما الملائكة فمحل خلاف فأين الإجماع! هذا على تقدير صحة هذا النقل وأنى لمدعي ذلك به فإني راجعت تفسير الإمام للآية المذكورة فلم أجد فيه نقل الإجماع، وإنما قال: ثم قالوا: هذه الآية تدل على أحكام: الأول أن العالم كل ما سوى الله، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا نبئنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة، فوجب أن ينفى كونه رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً، وبطل قول من قال: إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض، الثاني أن لفظ
﴿العالمين﴾ يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى المكلفين إلى يوم القيامة، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل - هذا لفظه في أكثر النسخ، وفي بعضها: لكنا أجمعنا - بدل: نبئنا - وهي غير صريحة في إجماع الأمة كما ترى، ولم يعين الموضع الذي أحال عليه في النسخ
71
الأخرى - فليطلب من مظانه ويتأمل، وأما النسفي فمختصر له - والله الموفق؛ ثم رأيت في خطبة كتاب الإصابة في أسماء الصحابة لشيخنا حافظ عصره أبي الفضل بن حجر في تعريف الصحابي: وقد نقل الإمام فخر الدين في أسرار التنزيل الإجماع على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن مرسلاً إلى الملائكة، ونوزع في هذا النقل، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم واحتج بأشياء يطول شرحها - انتهى.
والعجب من الرازي في نقل هذا الذي لا يوجد لغيره مع أنه قال في أسرار التنزيل في أواخر الفصل الثاني من الباب الثالث في الاستدلال بخلق الآدمي على وجود الخالق: الوجه الرابع - أي في تكريم بني آدم - أنه جعل أباهم رسولاً إلى الملائكة حيث قال
﴿أنبئهم باسمائهم﴾ [البقرة: ٣١] وقد تقرر أن كل كرامة كانت لنبي من الأنبياء فلنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها أو أعظم منها، وقال في تفسيره الكبير في
﴿وعلم آدم الأسماء﴾ [البقرة: ٣١] : ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من يوجه التحذير إليهم من الملائكة، لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول لبعثة إبراهيم إلى لوط عليهما السلام - انتهى. وأنت خبير بأمر عيسى عليه السلام بعد نزوله من السماء، والحاصل أن رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم صلوات الله عليهم - رتبة فاضلة ودرجة عالية
72
كاملة جائزة له، لائقة بمنصبه، مطابقة لما ورد من القواطع لعموم رسالته وشمول دعوته، وقد دلت على حيازته لها ظواهر الكتاب والسنة مع أنه لا يلزم من إثباتها له إشكال في الدين ولا محذور في الاعتقاد، فليس لنا التجريء على نفيها إلا بقاطع كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة في آية الأنعام
﴿قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً﴾ [الأنعام: ١٤٥] قال: فاحتملت معنيين: أحدهما أن لا يحرم على طاعم يطعمه أبداً إلا ما استثنى الله عز وجل، وهذا المعنى الذي إذا وُوجه رجل مخاطباً به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم عليه غير ما سمى الله عز وجل محرماً، وما كان هكذا فهو الذي يقال له أظهر المعاني وأعمها وأغلبها والذي لو احتملت الآية معاني سواه - كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي هو وأمي - تدل على معنى غيره مما تحتمله الآية، فنقول: هذا معنى ما أراد الله عزّ وجلّ، ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما، ولا يقال
73
بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن تكون أريد بها ذلك الخاص، فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية - انتهى. وشرحه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى فقال: ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر: هذا منسوخ أو مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر، برهانه:
﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ [النساء: ٦٤]
﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ [إبراهيم: ٤] وقال
﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة﴾ [النور: ٦٣]، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه
74
من سائر ما يقتضيه - انتهى. وقال أهل الأصول: إن الظاهر ما دل على المعنى دلالة ظنية أي راجحة، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصيح - أو لما نظن دليلاً وليس في الواقع بدليل - فاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل، قال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في الكلام على أن رؤية الله تعالى في الآخرة هل هي بالعين أو بالقلب: والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين، ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلاّ لضرورة - انتهى، وقال الإمام تقي الدين السبكي في جواب السؤال عن الرسالة إلى الجن الذي تقدم في أول الكلام على هذه الآية أني رأيته بخطه: الآية العاشرة:
﴿ليكون للعالمين نذيراً﴾ [الفرقان: ١] قال المفسرون كلهم في تفسيرها: للجن والإنس، وقال بعضهم: والملائكة. الثانية عشرة
﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس﴾ [سبأ: ٢٨] قال المفسرون: معناها: إلا إرسالاً عاماً شاملاً لجميع الناس، أي ليس بخاص ببعض الناس، فمقصود الآية نفي الخصوص وإثبات العموم، ولا مفهوم لها فيما وراء الناس، بل قوتها في العموم يقتضي عدم الخصوصية فيهم وحينئذ يشمل
75
الجن، ولو كان مقصود الآية حصر رسالته في الناس لقال: وما أرسلناك إلا إلى الناس، فإن كلمة
«إلا» تدخل على ما يقصد الحصر فيه، فلما أدخلها على
﴿كافة﴾ دل على أنه المقصود بالحصر، ويبقى قوله
﴿للناس﴾ لا مفهوم له، أما أولاً فلأنه مفهوم قلب وأما ثانياً فلأنه لا يقصد بالكلام، أما ثالثاً فلأنه قد قيل: إن
﴿الناس﴾ يشمل الإنس والجن، أي على القول بأنه مشتق من النوس، وهو التحرك، وهو على هذا شامل للملائكة أيضاً، وممن صرح من أهل اللغة بأن
﴿الناس﴾ يكون من الإنس ومن الجن الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب، قال السبكي: السابعة عشرة
﴿إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ [ص: ٨٧] الثامنة عشرة
﴿إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب﴾ [يس: ١١] ونحوهما كقوله
﴿لتنذر من كان حياً﴾ [يس: ٧٠] وكذا قوله
﴿هدى للمتقين﴾، وأما السنة فأحاديث: الأول حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
«وأرسلت إلى الخلق كافة»،
«إلى الخلق» عام يشمل الجن بلا شك، ولا يرد على هذا أنه ورد في روايات هذا الحديث من طرق أخرى في صحيح البخاري وغيره
«الناس» موضع
«الخلق» لأنا نقول: ذلك من رواية جابر، وهذا من رواية أبي هريرة؛ فلعلهما حديثان، وفي رواية الخلق زيادة معنى على الناس، فيجب
76
الأخذ به إذ لا تعارض بينهما، ثم جوز أن يكون من روى
«الناس» روى بالمعنى فلم يوف به، قال: وهذا الحديث يؤيد قول من قال: إنه مرسل إلى الملائكة ولا يستنكر هذا، فقد يكون ليلة الإسراء يسمع من الله كلاماً فبلغه لهم في السماء أو لبعضهم، وبذلك يصح أنه مرسل إليهم، ولا يلزم من كونه مرسلاً إليهم من حيث الجملة أن يلزمهم جميعُ الفروع التي تضمنتها شريعته، فقد يكون مرسلاً إليهم في بعض الأحكام أو في بعض الأشياء التي ليست بأحكام، أو يكون يحصل لهم بسماع القرآن زيادةُ إيمان، ولهذا جاء فيمن قرأ سورة الكهف: فنزلت عليه مثل الظلة، ثم قال في أثناء كلام: بخلاف الملائكة، لا يلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم، بل يحتمل ذلك ويحتمل في شيء خاص كما أشرنا إليه فيما قبل - انتهى. قلت: ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطّابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده - والله الموفق؛ ومن تجرأ على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه، كان ضعيف العقل مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم الدين، ولو كان حاكياً لما قيل
77
على وجه الرضى به، فما كل ما يُعلَم يقال، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، ولعمري! إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته الأمة بالقبول، وطرب عليه في المحافل والجموع:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم | واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم |
ولما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف:
﴿الذين آتيناهم﴾ أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى
﴿الكتاب﴾ أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة، وهو التوراة والإنجيل
﴿يعرفونه﴾ أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز، فهم يعرفون هذا الحق
﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها، وقد وضعتموهم موضع
78
الوثوق، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي، فما لكم لا تتابعونهم! لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء.
ولما كان أكثرهم يخفون ذلك ولا يشهدون به، قال جواباً لمن يسأل عنهم:
﴿الذين خسروا﴾ أي منهم، ولكنه حذفها للتعميم
﴿أنفسهم فهم﴾ أي بسبب ذلك
﴿لا يؤمنون﴾ أي لما سبق لهم من القضاء بالشقاء الذي خسروا به أنفسهم بالعدول عما دعت إليه الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة، ومن خسر نفسه فهو لا يؤمن فكيف يشهد! فقد بينت هذه الجملة أن من لا يشهد منهم فهو في الحقيقة ميت أو موات، لأن من ماتت نفسه كذلك، بل هم أشقى منه، فلقد أداهم ذلك الشقاء إلى أن حرفوا كتابهم وأخفوا كثيراً مما يشهد لي بالنبوة، فكانوا أظلم الخلق بالكذب في كتاب الله للتكذيب لرسل الله.
79
ولما كان التقدير: خسروا ففاتهم الإيمان، لأنهم ظلموا بكتمان الشهادة، فكان الظلم سبب خسرانهم، فمن أظلم منهم! عطف عليه ما يؤذن بأنهم بدلوا كتابهم، أو نسبوا إليه ما ليس فيه، فقال واضعاً للظاهر موضع ضميرهم لذلك:
﴿ومن أظلم ممن افترى﴾ أي تعمد
79
﴿على الله كذباً﴾ كهؤلاء الذين حرفوا كتابهم ونسبوا إلى الله ما لم يقله، زيادة كتبوها بأيديهم لا أصل ها، إضلالاً منهم لعباده
﴿أو كذب بآياته﴾ أي الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات كالمشركين، لا أحد أظلم منهم فهم لا يفلحون
﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ أي فكيف بالأظلمين!.
ولما كان معنى هذا أنهم أكذب الناس، دل عليه بكذبهم يوم الحشر بعد انكشاف الغطاء فقال:
﴿ويوم﴾ أي اذكر كذبهم على الله وتكذيبهم في هذه الدار، واذكر أعجب من ذلك، وهو كذبهم في عالم الشهادة عند كشف الغطاء وارتفاع الحجب يوم
﴿نحشرهم﴾ أي نجمعهم بما لنا من العظمة وهم كارهون صاغرون
﴿جميعاً﴾ أي أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم، وأشار إلى عظمة ذلك اليوم وطوله ومشقته وهوله بقوله بأداة التراخي:
﴿ثم نقول﴾ أى بما لنا من العظمة التي انكشفت لهم أستارها وتبدت لهم بحورها وأغوارها توبيخاً وتنديماً
﴿للذين أشركوا﴾ أي سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه بالفعل من الأصنام أو عزير أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك، أو بالرضى بالشرك، فإن الرضى بالشيء فعل له لا سيما إن انضم إليه تكذيب المحق والشهادة للمبطل بأن دينه خير
﴿أين شركاؤكم﴾ أضافهم إلى ضميرهم لتسميتهم لهم بذلك
﴿الذين كنتم تزعمون﴾ أي
80
أنهم شركاؤنا بالعبادة أو الشهادة بما يؤدي إليها، ادعوهم اليوم لينقصوكم مما نريد من ضركم، أو يرفعوكم مما نريد من وضعكم، وسؤالهم هذا يجوز أن يكون مع غيبة الشركاء عنهم وأن يكون عند إحضارهم لهم، فيكون الاستفهام عما كانوا يظنون من نفعهم، فكأن غيبته غيبتهم.
ولما كان إخبارهم بغير الواقع في ذلك اليوم مستبعداً بعد رفع الحجاب عن الأهوال وإظهار الزلازل والأوجال. أشار إليه بأداة البعد فقال:
﴿ثم لم تكن فتنتهم﴾ أي عاقبة مخالطتنا لهم بهذا السؤال وأمثاله من البلايا التي من شأنها أن يميل ما خالطته فتحيله - ولو أنه جبل - عن حاله بما ناله من قوارعه وزلزاله إلاّ كذبهم في ذلك الجمع، وهو معنى قوله:
﴿إلاّ أن قالوا﴾ ثباتاً منهم فيما هم عريقون فيه من وصف الكذب:
﴿والله﴾ فذكروا الاسم الأعظم الذي تندك لعظمته الجبال الشم، وتنطق بأمره الأحجار الصم، الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى التي ظهر لهم كثير منها في ذلك اليوم، وأكدوا ذلك بذكر الوصف المذكر بتربيتهم ودوام الإحسان إليهم فقالوا:
﴿ربنا﴾ فلم يقنعوا بمجرد الكذب حتى أقسموا، ولا بمجرد القسم حتى ذكروا الاسم الجامع والوصف المحسن
﴿ما كنا مشركين﴾ أي إن تكذيبهم لك أوصلهم إلى حد يكذبون فيه في ذلك اليوم بعد كشف الغطاء تطمعاً بما لا ينفعهم،
81
كما ترى الحائر المدهوش في الدنيا يفعل مثل ذلك فهو إيئاس من فلاح الجميع: المشركين وأهل الكتاب، أو يكون المعنى تنديماً لهم وتأسيفاً: أنه لم يكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به في لزومه والافتخار به والقتال عليه - لكونه دين الآباء - إلاّ جحوده والبراءة منه والحلف على الانتفاء من التدين به، والمعنى على قراءتي النصب والرفع في
«فتنة» على جعلها خبراً أو اسماً واحداً، فمعنى قراء النصب: لم يكن شيء إلاّ قولهم - أي غير قولهم الكذب - فتنتهم، أي لم يكن شيء فتنتهم إلاّ هذا القول، فهذا القول وحده فتنتهم، فنفى عن فتنتهم وسلب عنها كل شيء غير قولهم هذا، فالفتنة مقصورة على قولهم الكذب، والكذب قد يكون ثابتاً لغيرها، أي إنهم يكذبون من غير فتنة، بل في حال الرخاء، وهذا بعينه معنى قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص برفع فتنة، أي لم تكن فتنتهم شيئاً غير كذبهم، فقد نفيت فتنتهم عن كل شيء غير الكذب، فانحصرت فيه، ويجوز أن يكون ثابتاً في حال غيرها - على ما مر، وهذا التقدير نفيس عزيز الوجود دقيق المسلك - يأتي إن شاء الله تعالى عند
﴿وما كان صلاتهم عند البيت﴾ [الأنفال: ٣٥] في الأنفال ما ينفع هنا فراجعه.
ولما كان هذا من أعجب العجب، أشار إليه بقوله:
﴿انظر﴾ وبالاستفهام في قوله:
﴿كيف كذبوا﴾ وبالإشارة إلى أنهم فعلوه
82
مع علمهم بما انكشف لهم من الغطاء أنه لا يجديهم بقوله:
﴿على أنفسهم﴾ وهو نحو قوله
﴿فيحلفون له كما يحلفون لكم﴾ [المجادلة: ١٨]- الآية.
ولما كان قولهم هذا مرشداً إلى أن شركاءهم غابوا عنهم، فلم ينفعوهم بنافعة، وكان الإعلام بفوات ما أنهم مقبل عليه فرح به، ساراً لخصمه جالباً لغمه، صرح به في قوله:
﴿وضل﴾ أي غاب
﴿عنهم﴾ إما حقيقة أو مجازاً، أو هما بالنظر إلى وقتين، ليكون إنكاراً
﴿ما كانوا يفترون﴾ أي يتعمدون الكذب في ادعاء شركته عناداً لما على ضده من الدلائل الواضحة.
ولما علم أن هذه الآيات قد ترابطت حتى كانت آية واحدة، وختم بأن مضمون قوله
﴿فقد كذبوا بالحق لما جاءهم﴾ [الأنعام: ٥]- الآية، قد صار وصفاً لهم ثابتاً حتى ظهر في يوم الجمع، قسم الموسومين بما كانت تلك الآية سبباً له، وهو الإعراض عن الآيات المذكور في قوله
﴿إلاّ كانوا عنها معرضين﴾ [الأنعام: ٤]، فكان كأنه قيل: فمنهم من أعرض بكليته، فعطف عليه قوله:
﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ أي يصغي بجهده كما في السيرة عن أبي جهل بن هشام وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق أن كلاًّ منهم جلس عند بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل يستمع القرآن.
لا يعلم أحد منهم بمجلس صاحبه، فلما طلع الفجر
83
انصرفوا فضمهم الطريق فتلاوموا وقالوا: لو رآكم ضعفاؤكم لسارعوا إليه، وتعاهدوا على أن لا يعودوا، ثم عادوا تمام ثلاث ليال، ثم سأل الأخنس أبا سفيان عما سمع فقال: سمعت أشياء عرفتها وعرفت المراد منها، وأشياء لم أعرفها ولم أعرف المراد منها، فقال: وأنا كذلك، ثم سأل أبا جهل فأجاب بما يعرف منه أنه علم صدقه وترك تصديقه حسداً وعناداً، وذلك هو المراد من قوله:
﴿وجعلنا﴾ أي والحال أنا قد جعلنا
﴿على قلوبهم أكنة﴾ أي أغطية، جمع كنان أي غطاء
﴿أن﴾ أي كراهة أن
﴿يفقهوه﴾ أي القرآن
﴿وفي آذانهم وقراً﴾ أي ثقلاً يمنع من سمعه حق السمع، لأنه يمنع من وعيه الذي هو غاية السماع، فهم لا يؤمنون بما يسمع منك لذلك.
ولما ذكر ما يتعلق بالسمع، ذكر ما يظهر للعين، معبراً بما يعم السمع وغيره من أسباب العلم فقال:
﴿وإن يروا﴾ أي بالبصر أو البصيرة
﴿كل آية﴾ أي من آياتنا سواه
﴿لا يؤمنوا بها﴾ لما عندهم من العناد والنخوة في تقليد الآباء والأجداد
﴿حتى﴾ كانت غايتهم في هذا الطبع على قلوبهم أنهم مع عدم فقههم
﴿إذا جاءوك يجادلونك﴾ أي بالفعل أو بالقوة، والغاية داخلة، وكأنه قيل تعجباً: ماذا يقولون في جدالهم؟ فقال مظهراً للوصف الذي أداهم إلى ذلك:
﴿يقول الذين كفروا﴾ أي غطوا لما هو ظاهر لعقولهم وهو معنى الطبع
﴿إن﴾ أي ما
84
﴿هذا﴾ أي الذي وصل إلينا
﴿إلا أساطير﴾ جمع سطور وأسطر جمع سطر وهي أيضاً جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور، وبالهاء في الكل
﴿الأولين﴾ وقد قال ذلك النضر بن الحارث، فصدق قوله إخبار هذه الآية
﴿وهم﴾ حال من فاعل
﴿يستمع﴾ أي يستمعون إليك والحال أنهم
﴿ينهون عنه﴾ أي عن الاستماع أو عن اتباع القرآن
﴿وينأون﴾ أي يبعدون
﴿عنه﴾ أي كما وقع لأبي جهل وصاحبيه في المعاهدة على ترك المعاودة للسماع وما يتبعه
﴿وإن﴾ أي وما
﴿يهلكون﴾ أي بعبادتهم ومكابدتهم
﴿إلاّ أنفسهم﴾ أي وما هم بضاريك ولا بضاري أحد من أتباعك فيما يقدح في المقصود من إرسالك من إظهار الدين ومحو الشرك وإذلال المفسدين
﴿وما يشعرون﴾ أي وما لهم نوع شعور بما يؤديهم إليه الحال، بل هم كالبهائم، بل هي أصلح حالاً منهم.
85
ولما جعل عدم إيمانهم في هذه بشيء من الآيات موصلاً لهم إلى غاية من الجهل عظيمة موئسة من ادعائهم في هذه الدار، وهي مجادلتهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وختم الآية بما رأيت من عظيم التهديد استشرفت النفس إلى معرفة حالهم عند ردهم إلى الله تعالى والكشف لهم عما هددوا به، فأعلم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حالهم إذ ذاك الإيمان،
85
حيث يسر غاية السرور تصديقهم له، وتمنيهم متابعته لما يركبهم من الذل ويحيط بهم من الصغار، ولا يزيدهم ذلك إلاّ ضرراً وعمى وندماً وحسرة، فكأنه قيل: فلو رأيت حالهم عند كشف الغطاء - وهو المطلع - لرأيتهم يؤمنون:
﴿ولو ترى إذ﴾ أي حين
﴿وقفوا﴾ في الحشر، وبني للمجهول لأن المنكىّ الإيقاف، لا كونه من معين
﴿على النار﴾ أي عندها ليدخلوها مشرفين على كل ما فيها من أنواع النكال، وذلك أعظم في النكاية أو على الجسر وهو على الصراط وهي تحتهم، أو عرفوا حقيقتها ومقدار عذابها من قولك: أوقفته على كذا - إذا عرفته إياه
﴿فقالوا﴾ تمنياً للمحال
﴿يا ليتنا نرد﴾ أي إلى الدنيا.
ولما كان التقدير بشهادة قراءة من نصب الفعلين - جواباً للتمني - أو أحدهما: فنطيع، عطف على الجملة قوله:
﴿ولا﴾ أي والحال أنا لا، أو ونحن لا
﴿نكذب﴾ إن رددنا
﴿بآيات ربنا﴾ أي المحسن إلينا
﴿ونكون من المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان، والتقدير عند ابن عامر في نصب الثالث: ليتنا نرد، وليتنا لا نكذب فنسعد وأن نكون، وعلى قراءة حمزة والكسائي وحفص بنصب الفعلين:
86
ليتنا نرد فنسعد، وأن لا نكذب وأن نكون، والمعنى: لو رأيت إيقافهم ووقوفهم في ذلك الذل والانكسار والخزي والعار وسؤالهم وجوابهم لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً ومنظراً كريهاً شنيعاً، ولكنه حذف تفخيماً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، وجاز حذفه للعلم به في الجملة.
ولما أخبرنا - في قراءة الرفع - عن أنفسهم بما تمنوا لأجله الرد، وتضمنت قراءة النصب الوعد، فإنه كما لو قال قائل: ليت الله يرزقني مالاً فأكافئك على صنيعك، فإنه ينجر إلى: إن رزقني الله مالاً كافأتك، فصار لذلك مما يقبل التكذيب، أضرب عنه سبحانه تكذيباً لهم بقوله:
﴿بل﴾ أي ليس الأمر كما قالوا، لأن هذا التمني ليس عن حقيقة ثابتة في أنفسهم من محبة مضمونه وثمرته، بل
﴿بدا﴾ أي ظهر
﴿لهم﴾ من العذاب الذي لا طاقة لهم به
﴿ما كانوا يخفون﴾ أي من أحوال الآخرة ومرائهم على باطل! ولما كان إخفاؤهم ذلك في بعض الزمان قال:
﴿من قبل﴾ أي يدعون أنه خفي، بل لا حقيقة له، ويسترون ما تبديه الرسل من دلائله عناداً منهم مع أنه أوضح من شمس النهار بما يلبسون من الهيبة فلذلك تمنوا ما ذكروا
﴿ولو ردوا﴾ أي إلى الدنيا
﴿لعادوا لما نهوا عنه﴾ أي من الكفر
87
والفضائح التي كانوا عليها وستر ما اتضح لعقولهم من الدلائل
﴿وإنهم لكاذبون﴾ أي فيما أخبروا به عن أنفسهم من مضمون تمنيهم أنهم يفعلونه لو ردوا، وأكد طبعهم على الكفر بقوله عطفاً على قوله
﴿لعادوا﴾ :
﴿وقالوا﴾ أي بعد الرد ما كانوا يقولونه قبل الموت في إنكار البعث
﴿إن هي أي ما هذه الحياة التي نحن ملابسوها {إلاّ حياتنا الدنيا﴾ أي التي كنا عليها قبل ذلك
﴿وما نحن﴾ وأغرقوا في النفي فقالوا:
﴿بمبعوثين﴾ أي بعد أن نموت، وما رؤيتنا لما رأينا قبل هذا من البعث إلاّ سحر لا حقيقة له، ولم ينفعهم مشاهدة البعث بل ضرتهم، هذا محتمل وظاهر، ولكن الأنسب لسياق الآيات قبل وبعد أن يكون هذا حكاية لقولهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الدار عطفاً على قوله
﴿وقالوا لولا أنزل عليه ملك﴾ [الأنعام: ٨] على الوجه الأول، وقوله:
﴿ولو ترى﴾ متصل بذلك، أي قالوا هذا القول لما أخبرتهم بالبعث، فساءك ذلك من قولهم والحال أنك لو رأيت اعترافهم به إذا سألهم خالقهم لسرك ذلك من ذلهم وما يؤول إليه أمرهم، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم ذلك، وقولُه:
﴿إذ وقفوا على ربهم﴾ مجازاً عن الحبس في مقام من مقامات الجلال بما اقتضاه إضافة الرب إليهم، أي الذي طال إحسانه إليهم وحلمه عنهم، فأظهر لهم ما أظهر في ذلك
88
المقام من تبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم، وأطلعهم بما يقتضيه أداة الاستعلاء - على ما له سبحانه من صفات العظمة من الكبرياء والانتقام من التربية إذ لم يشكروا إحسانه في تربيتهم، وسياق الآية يقتضي أن يكون الجواب: لرأيتهم قد منعتهم الهيبة وعدم الناصر وشدة الوجل من الكلام، فكأن سائلاً قال: المقام يرشد إلى ذلك حتى كأنه مشاهد فهل يكلمهم الله لما يشعر به التعبير بوصف الربوبية؛ قيل: نعم، لكن كلام إنكار وإخزاء وإذلال
﴿قال أليس هذا﴾ أي الذي أتاكم به رسولي من أمر البعث وغيره مما ترونه الآن من دلائل كبريائي
﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت الكامل في الحقية الذي لا خيال فيه ولا سحر
﴿قالوا﴾ أي حين إيقافهم عليه، فكان ما أراد:
﴿بلى﴾، وزادوا على ما أمروا به في الدنيا القسم فقالوا:
﴿وربنا﴾ أي الذي أحسن إلينا بأنواع الإحسان، وكأن كلامهم هذا منزل على حالات تنكشف لهم فيها أمور بعد أخرى، كل أمر أهول مما قبله، ويوم القيامة - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - ذو ألوان: تارة لا يكلمهم الله، وتارة يكلمهم فيكذبون، وتارة يسألهم عن شيء فينكرون، فتشهد
89
جوارحهم، وتارة يصدقون كهذا الموقف ويحلفون على الصدق.
ولما أقروا قهراً بعد كشف الغطاء وفوات الإيمان بالغيب بما كانوا به يكذبون، تسبب عنه إهانتهم، فلذا قال مستأنفاً:
﴿قال﴾ أي الله مسبباً عن اعترافهم حيث لا ينفع، وتركهم في الدنيا حيث كان ينفع
﴿فذوقوا العذاب﴾ أي الذي كنتم به توعدون
﴿بما كنتم تكفرون﴾ أي بسبب دوامكم على ستر ما دلتكم عليه عقولكم من صدق رسولكم، ولا شك أن الكلام - وإن كان على هذه الصورة - فيه نوع إحسان، لأنه أهون من التعذيب مع الإعراض في مقام
﴿اخسؤوا فيها ولا تكلمون﴾ [المؤمنون: ١٠٨] ولذلك كان ذلك آخر المقامات.
90
ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره، فقال تحقيقاً لذلك، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب:
﴿قد خسر﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال:
﴿الذين كذبوا بلقاء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم
﴿حتى إذا جاءتهم الساعة﴾ أي الحقيقة، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته، وحذرهم منها بقوله:
﴿بغتة﴾ أي باغتة، أو ذات بغتة، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي
90
تجيء فيه نوعاً من الشعور
﴿قالوا يا حسرتنا﴾ أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام! فإنه لا نديم لنا سواك، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه، لينتهي الإنسان عن أسبابها
﴿على ما فرطنا﴾ أي قصرنا
﴿فيها﴾ أي بسبب الساعة، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا، فأعرضوا عما دعوا إليه من تزكية النفس، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء، فلا رأس مال ولا ربح، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة، ولا خسران أعظم من هذا.
91
ولما كان هذا أمراً مفظعاً، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال:
﴿وهم﴾ أي وقالوا ذلك والحال أنهم
﴿يحملون أوزارهم﴾ أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل، وحقق الأمر وصوره بقوله:
﴿على ظهورهم﴾ لاعتقاد الحمل عليه، كما يقال: ثقل عليك كلام فلان، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً، فيكلفوا حملها؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام:
﴿ألا ساء ما يزرون *﴾.
فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد، ولم يبق فيه لذي لب وقفة، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال، عكس ما كانوا يقولون:
﴿وما الحياة الدنيا﴾.
ولما كان السياق للخسارة، وكانت أكثر ما تكون من اللعب - وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع، ويسرع انقضاؤه -
92
قدمه فقال:
﴿إلا لعب ولهو﴾ أي للأشقياء، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه، فيكون سبباً للغفلة عما ينفع، فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس أثاروا الشهوات بالملاهي، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا، فتحققت سرعته، لأن كل آتٍ قريب، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب، يندم الإنسان على ما فرط فيها، كما يندم اللاعب - إن كان له عقل - على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى: وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء، أتبعه قوله مؤكداً:
﴿وللدار الآخرة خير﴾ ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة، خصص فقال:
﴿للذين يتقون﴾ أي يوجدون التقوى، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه، فهو احتباك؛ ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره، تسبب عن
93
إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكراً:
﴿أفلا تعقلون *﴾.
ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم، وأطال في الحث على مجادلتهم، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما هو دأب المعاند المغلوب، وأن ذلك يحزنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة، كان الحال محتاجاً إلى التسلية فقال تعالى:
﴿قد نعلم﴾ والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال
﴿إنه ليحزنك﴾ أي يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها
﴿الذي يقولون﴾ أي من تكذيبك، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك، وعلمنا أنه يبلغ منك، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له
94
ويجزي عاصيه، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر، وهو كقوله تعالى في سورة يس
﴿فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون﴾ [يس: ٧٦] ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه، فالنهي عنه إنما هو نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين، ومن المعلوم أنهما ضدان، فلا تنال إحداهما إلاّ بضد ما للأخرى، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي
«أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي».
ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك، سبب عنه قوله:
﴿فإنهم﴾ أي فلا يحزنك ذلك فإنهم
﴿لا يكذبونك﴾ بل أنت عندهم الأمين، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم
95
ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك، والآية من الاحتباك: حذف من الجملة الأولى - إظهاراً لشرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدباً معه - سبب الحزن، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سمي
«الأخنس»، وكان اسمه
«أبي»، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس به فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن
96
إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش! وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى:
﴿ولكن﴾، وقال:
﴿الظالمين﴾ في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، اي الذين كانوا في مثل الظلام
﴿بآيات﴾ أي بسبب آيات
﴿الله﴾ أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله
﴿يجحدون *﴾ قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة: أي يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله
﴿وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها﴾ [الإسراء: ٥٩] ونحوها، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: جحد الشيء جحداً وجحوداً: أنكره وهو عالم به. هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب، أو ما يؤول إليه، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك.
ولما سلاه بوعده النصرة المسببة عن علم المرسل القادر، وبأن
97
تكذيبهم إنما هو له سبحانه، وهو مع ذلك يصبر عليهم ويحلم عنهم، بل ويحسن إليهم بالرزق والمنافع، زاده أن ذلك سنة في إخوانه من الرسل فقال:
﴿ولقد﴾ ولما كان المنكي هو التكذيب لا كونه من معين، بني للمفعول قوله:
﴿كذبت رسل﴾.
ولما كان تكذيبهم لم يستغرق الزمان، وكان الاشتراك في شيء يهوّنه، وكلما قرب الزمان كان أجدر بذلك أدخل الجار فقال:
﴿من قبلك﴾ بأن جحد قومهم ما يعرفون من صدقهم وأمانتهم كما فعل بك
﴿فصبروا﴾ أي فتسبب عن تكذيب قومهم لهم أنهم صبروا
﴿على ما كذبوا وأوذوا﴾ أي فصبروا أيضاً على ما أوذوا، ثم أشار إلى الوعد بالنصر بشرط الصبر فقال:
﴿حتى﴾ أي وامتد صبرهم حتى
﴿آتاهم نصرنا﴾ أي فليكن لك بهم أسوة، وفيهم مسلاة، فاصبر حتى يأتيك النصر كما أتاهم، فقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون في قولنا
﴿فإن حزب الله هم الغالبون﴾ [المائدة: ٥٦]
﴿ولا مبدل لكلمات الله﴾ أي لأن له جميع العظمة فلا كفوء له، ودل سبحانه على صعوبة مقام الصبر جداً بالتأكيد فقال:
﴿ولقد جاءك﴾ ودل على عظيم ما تحملوا بقوله:
﴿من نبإى المرسلين *﴾ أي خبرهم العظيم في صبرهم واحتمالهم وطاعتهم وامتثالهم ورفقهم بمن أرسلوا إليهم ونصرنا لهم على من بغى عليهم، ومجيء نبأهم تقدم إجمالاً وتفصيلاً، أما إجمالاً ففي مثل قوله
98
﴿وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير﴾ [آل عمران: ١٤٦]،
﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم﴾ [البقرة: ٨٧] وأما تفصيلاً ففي ذكر موسى وعيسى وغيرهما؛ وفي قوله
﴿فصبروا﴾ أدل دليل على ما تقدم من أن النهي عن الحزن نهي عن تابعه المؤدي إلى عدم الصبر، والتعبير بمن التبعيضية تهويل لما لقوا، فهو أبلغ في التعزية.
99
ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فتسلّ واصبر كما صبروا، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله:
﴿وإن كان كبر﴾ أي عظم جداً
﴿عليك إعراضهم﴾ أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا
﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين﴾ [الأنعام: ٤] وأردت أن تنتقل - في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات - من علم اليقين إلى عين اليقين
﴿فإن استطعت أن تبتغي﴾ أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك
﴿نفقاً﴾ أي منفذاً
﴿في الأرض﴾ تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه
﴿أو سلماً في السماء﴾ أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه
﴿فتأتيهم بآية﴾ أي ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك،
99
لأن الله قد شاء ضلال بعضهم، والمراد بهذا بيان شدة حرصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل.
ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته فقال:
﴿ولو شاء الله﴾ أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة
﴿لجمعهم على الهدى﴾ أي لأن قدرته شاملة، وإيمانهم في حد ذاته ممكن، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم؛ ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره - حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة - كما أفاده الحرالي - من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم، سبب عن ذلك قوله:
﴿فلا تكونن﴾ فأكد الكلام سبحانه ليعلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قد حتم بافتراقهم، فيسكن إلى ذلك
100
ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم
﴿من الجاهلين *﴾ أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً! فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه، فإن ما شاءه لا يكون غيره، فهذه الآية وأمثالها - مما في ظاهره غلظة - من الدلالة على عظيم رتبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن لطيف أمداح القرآن له - كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى
﴿عفا الله عنك﴾ [التوبة: ٤٣].
ولما أفهم هذا القضاء الحتم أنه قد صار حالهم حال من حتم بالموت، فلا يمكن إسماعه إلا الله، ولا يمكن أن يستجيب عادة، قال:
﴿إنما يستجيب﴾ أي في مجاري عاداتكم
﴿الذين يسمعون﴾ أي فيهم قابلية السمع لأنهم أحياء فيتدبرون حينئذ ما يلقى إليهم فينتفعون به، وهؤلاء قد ساووا الموتى في عدم قابلية السماع للختم على مشاعرهم
﴿والموتى﴾ أي كلهم حساً ومعنى
﴿يبعثهم الله﴾ أي
101
الملك المحيط علماً وقدرة، فهو قادر على بعثهم بإفاضة الإيمان على الكافر وإعادة الروح إلى الهالك فيسمعون حينئذ، فالآية من الاحتباك: حذف من الأول الحياة لدلالة
﴿الموتى﴾ عليها، ومن الثاني السماع لدلالة
﴿يسمعون﴾ عليه.
ولما قرر أن من لا يؤمن كالميت، حثاً على الإيمان وترغيباً فيه، وقدر قدرته على البعث، خوَّفَ من سطواته بقوله:
﴿ثم إليه﴾ أي وحده
﴿يرجعون *﴾ أي معنى في الدنيا فإنه قادر على كل ما يشاء منهم، لا يخرج شيء من أحوالهم عن مراده أصلاً وحساً بعد الموت، فيساقون قهراً إلى موقف يفصل فيه بين كل مظلوم وظالمه.
ولما سلاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبرته من أقوالهم بما شرح صدره وسر خاطره، وأعلمه تخفيفاً عليه أن أمرهم إنما هو بيده، ذكَّره بعضَ كلامهم الآئل إلى التكذيب عقب إخباره بالحشر الذي يجازي فيه كلاًّ بما يفعل، فقال عطفاً على قوله
﴿وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩] وقوله
﴿وقالوا لولا أنزل عليه الملك﴾ [الأنعام: ٨] يعجب منه تعجيباً آخر:
﴿وقالوا﴾ أي مغالطة أو عناداً أو مكابرة
﴿لولا﴾ أي هلا
﴿نزل﴾
102
أي بالتدريج
﴿عليه﴾ أي خاصة
﴿آية﴾ أي واحدة تكون ثابتة بالتدريج لا تنقطع، وهذا منهم إشارة إلى أنهم لا يعدون القرآن آية ولا شيئاً مما رأوه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير ذلك نحو انشقاق القمر
﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه على حس ما يدعيه لنستدل بها على ما يقول من التوحيد والبعث.
ولما كان في هذا - كما تقدم - إشارة منهم إلى أنه لم يأت بآية على هذه الصفة إما مكابرة وإما مغالطة، أمره بالجواب بقوله:
﴿قل إن الله﴾ أي الذي له جميع الأمر
﴿قادر على أن﴾ وأشار بتشديد الفعل إلى آية القرآن المتكررة عليهم كل حين تدعوهم إلى المبارزة وتتحداهم بالمبالغة والمعاجزة فقال:
﴿ينزل﴾ وقراءة ابن كثير بالتخفيف مشيرة إلى أنهم بلغوا في الوقاحة الغاية، وأنهم لو قالوا: لولا أنزل، أي مرة واحدة، لكان أخف في الوقاحة، أو إلى أنه أنزل عليهم أيّ آية، كانت تلجئهم وتضطرهم إليه في آن واحد كما قال تعالى
﴿إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾ [الشعراء: ٤] ولكنه لا يسأل ذلك إلا بالتدريج كما يشير إليه صيغة التفعيل في قراءة غيره المذكرة
103
بأن آية القرآن لا تنقضي، بل كلما سمعها أحد منهم أو من غيرهم طول الدهر كانت منزلة عليه لكونها واصلة إليه، فهو أبلغ من مطلوبهم آية ينزل عليه وحده، والحاصل أنهم طلبوا آية باقية محضة، فلوح لهم إلى آية هي - مع كونها خاصة به فيما حصل له من الشرف - عامة لكل من بلغته، باقية طول المدى
﴿آية﴾ أي مما اقترحوه ومن غيره، لا يعجزه شيء، وفي كل شيء له من الآيات ما يعجز الوصف، وكفى بالقرآن العظيم مثالاً لذلك
﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون *﴾ أي ليس فيهم قابلية العلم، فهم لا يتفكرون في شيء من ذلك الذي يحدثه من مصنوعاته ليدلهم على أنه على كل شيء قدير، فلا فائدة لهم في إنزال ما طلبوه، وأما غير الأكثر فهو سبحانه يردهم بآية القرآن أو غيرها مما لم يقترحوه.
104
ولما عجب منهم في قولهم هذا الذي يقتضي أنهم لم يروا له آية قط بعد ما جاءهم من الآيات الخاصة به ما ملأ الأقطار، ورد إلى الصم الأسماع، وأنار من العمى الأبصار؛ ذكرهم بآية غير آية القرآن تشتمل على آيات مستكثرة كافية لصلاحهم، رتبها سبحانه
104
قبل سؤالهم تفضلاً منه عليهم دالة على باهر قدرته على البعث وغيره من الآيات التي طلبوها وغيرها وعلى تفرده بجميع الأمر، إذا تأملوها حق تأملها كفتهم في جميع ما يراد منهم فقال تعالى:
﴿وما﴾ أي قالوا ذلك والحال أنه ما، وهي ناظرة أتم نظر إلى قوله
﴿هو الذي خلقكم من طين﴾ [الأنعام: ٢] أي فعل ذلك بكم وما
﴿من دابة في الأرض﴾ أي تدب أي تنتقل برجل وغير رجل
﴿ولا طائر يطير﴾ وقرر الحقيقة بقوله:
﴿بجناحيه﴾ وشمل ذلك جميع الحيوان حتى ما في البحر، لأن سيرها في الماء إما أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً.
ولما كان المراد بالدابة والطائر الاستغراق قال:
﴿إلا أمم﴾ أي يقصد منها في نفسه، ويقصد هو نوعه وينضم إلى شكله
﴿أمثالكم﴾ أي في ذلك وفي أنا خلقناكم ولم يكونوا شيئاً وحفظنا جميع أحوالهم، وقدرنا كل أرزاقهم وآجالهم، وجعلنا لكم فيهم أحكاماً جددناها لكم، وجعلنا لكل منهم أجلاً للموت لا يتعداه بعد أن فاوتنا بينهم في الحياة، وللكل أجل في علمنا في البرزخ مثبت قبل أن نخلقهم، لا ينقص ذرة ولا يزيد خردلة، وجعلنا في هذه الحيوانات ما هو أقوى منكم وما هو أضعف، وجعلناكم أقوى من الجميع بالعقل، ولو شئنا لجعلنا له بين قوة البدن والعقل، وربما سلطنا الأضعف عليكم كالجراد والفأر والدود بما تعجز عنه عقولكم، ولو شئنا لسلطنا عليكم من أضعفها خلقاً - البعوض -
105
ما أخذ بأنفاسكم ومنعكم القرار وأخرجكم عن حركات الاختيار إلى أن أهلككم جميعاً هلاك نفس واحدة - إلى غير ذلك من أمور تكل عنها العقول وتقف دونها نوافذ الفكر، وهذا كله معنى قوله:
﴿ما فرطنا﴾ أي تركنا وأغفلنا لما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل
﴿في الكتاب﴾ أي اللوح المحفوظ والقرآن، وأعرق في النفي بقوله:
﴿من شيء﴾ أي ليذهب ذكره كما يذهب العقد الذي ينقطع سلكه فيتفرط، بل ذكرنا جميع أحوال خلقنا من الجن والإنس والملائكة وغيرهم من كل ناطق وصامت، فصارت في غاية الضبط حتى أن الحفظة يعرضون ما يحدث من عمل المكلفين وغيره آخر النهار على ما كان مثبتاً في أم الكتاب فيجدونه كما هو، لا يزيد شيئاً ولا ينقص، فيزدادون إيماناً، وأثبتنا في هذا القرآن مجامع الأمور، فهو تبيان لكل شيء من الأحكام الأصلية والفرعية والدلالات على كل ذلك وأخبار الأولين والآخرين وكل علم يمكن أن يحتاجه المخلوق، فمن أراد الهداية هداه بدقيق أسراره، ومن أعرض أوقعه في الردى، وعمي حتى عن واضح أنواره، والآية كما قال تعالى
﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ إلى أن قال:
﴿وبث فيها من كل دابة - لآيات لقوم يعقلون﴾ [البقرة: ١٦٤].
106
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
أفلا يكون لكم في ذلك آيات تغنيكم عن إرسال الرسل فضلاً عن أن تتوقفوا بعد إرسالهم ولا ترضوا منهم من خوارق العادات إلا بما تقترحونه.
ولما أشار إلى ما شارك فيه سائر الحيوان للآدميين من أحوال الحياة وغيرها، نص على الحشر الذي هو محط الحكمة فقال:
﴿ثم﴾ أي بعد طول الحياة والإقامة في البرزخ
﴿إلى ربهم﴾ أي خاصة، وبني للمفعول على طريق كلام القادرين قوله:
﴿يحشرون *﴾ أي يجمعون كرهاً بعد أن يعيدهم كلهم كما بدأهم، وينصف كل مظلوم منهم من ظالمه، كل ذلك عليه هيّن
﴿ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة﴾ [لقمان: ٢٨] والكل محفوظون في كتاب مبين على اختلاف أنواعهم وتباين حقائقهم وأشخاصهم وزيادتهم في الجد على أن يوجه نحوهم العد - سبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير.
ولما كان التقدير بعد التذكير بهذه الآية التي تنوعت فيها الآيات
107
وتكررت وتكثرت فيها الدلالات: فالذين آمنوا أحياء سامعون لأقوالنا، ناطقون بمحامدنا راؤون لأفعالنا، عطف عليه قوله:
﴿والذين كذبوا﴾ أي أوقعوا التكذيب
﴿بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة المقتضية لإضافتها إلينا، مرئية كانت أو مسموعة، تكذيباً متكرراً على عدد الآيات بالفعل أو بالقوة ولو بالإعراض عنها
﴿صم﴾ أي أموات فهم لا يسمعون
﴿وبكم﴾ لا ينطقون
﴿في الظلمات﴾ أي عمي لا يبصرون، فلذلك لا يزالون خابطين خبط العشواء ساعين غاية السعي إلى الردى، لأن ذلك شأن من في الظلمة، فكيف بمن هو في جميع الظلمات! ولعله جمعها إشارة إلى أن المكذب لا ينتفع ببصر ولا ببصيرة، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بحياتهم ولا بأسماعهم ولا نطقهم ولا أبصارهم ولا عقولهم كان كل ذلك منهم عدماً.
ولما بين أن الأصم الأبكم الأعمى لا يتمكن هدايته، بين أن ذلك إنما هو بالنسبة لغيره سبحانه فطماً عن طلب إجابتهم إلى ما يقترحون من الآيات وأما هو سبحانه ففعال لما يريد، فقال في جواب من كأنه قال: إنما تمكن هدايتهم:
﴿من يشإ الله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه إضلاله
﴿يضلله ومن يشأ﴾ هدايته
108
﴿يجعله﴾ وأشار إلى تمكينه بأداة الاستعلاء فقال:
﴿على صراط مستقيم *﴾ بأن يخلق الهداية في قلبه - ومن يهد الله فما له من مضل ومن يضلل الله فما له من هاد، مع أن الكل عباده وخلقه، متقلبون في نعمه، غادون رائحون في بره وكرمه - إن في ذلك على وحدانيته وتمام قدرته لآيات بينات لقوم يعقلون.
ولما كانت هذه الآية - بما فيها من التصريح بالتكذيب - شديدة الاعتناق لقوله
﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً﴾ [الأنعام: ٢١و ٣٩] وقوله
﴿كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباؤا﴾ [الأنعام: ٥] الآيتين رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين، فقال دالاً على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتُهم بطلب الآية نفيها، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به، بياناً لأنهم في الظلمات مقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجباً منهم:
﴿قل أرءيتكم﴾ أي أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عناداً وشهد أن مع الله آلهة أخرى، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره.
ولما كانت حقيقة
﴿أرءيتكم﴾ : هل رأيتم أنفسكم، وكان هذا
109
لكونه سؤالاً عن معلوم لا يجهله أحد - مشيراً إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس، كان كأنه قيل: عن أيّ أحوال نفوسنا نُسأل؟ فقيل تنبيهاً لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء:
﴿إن أتاكم﴾ أي قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم
﴿عذاب الله﴾ أي المستجمع لمجامع العظمة، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به
﴿أو أتتكم الساعة﴾ أي القيامة بما فيها من الأهوال.
ولما عجب منهم بما مضى - كما مضى، قال مجيباً للشرط موبخاً لهم منكراً عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفاً تقديره: من تدعون؟ ثم زادهم توبيخاً وتبكيتاً بقوله:
﴿أغير الله﴾ أي الملك الذي له العظمة كلها
﴿تدعون﴾ أي لشدة من تلك الشدائد، ولا تدعون الله مع ذلك الغير
﴿إن كنتم صادقين *﴾ أي في أن غير الله يغني شيئاً حى يستحق الإلهية، وجواب الشرط محذوف تقديره: فادعوا ذلك الغير، وهذه حجة لا يسعهم معها غيرُ التسليم، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا: لا ندعو غيره، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له،
110
وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب، وهي مع ذلك - كما ترى - دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله، أي إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد، هذا ونقل أبو حيان عن الفراء أنه قال: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان: أحدهما أن تسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي بعينك، فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول: أرأيت، وأنت تريد: أخبرني، فهاهنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ ثم قال أبو حيان: وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العرب، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأن أخبرني يتعدى بعن، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني؛ وقال
111
في سورة يونس عليه السلام: تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر، يقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ المعنى: أخبرني عن زيد ما صنع! وقبل دخول أرأيت كان الكلام: زيد ما صنع - انتهى.
قلت: وحقيقة المعنى كما مر: هل رأيت زيداً؟ فلما استفهم عن رؤيته - والمراد الخبر لا البصر - عُلم أن السؤال عن بعض أحواله، فكأنه قيل: ما له؟ فقيل: ما صنع؟.
ولما كان استفهام الإنكار بمعنى النفي، كان كأنه قيل: لا تدعون غيره، فعطف عليه قوله:
﴿بل إياه﴾ أي خاصة
﴿تدعون﴾ أي حينئذ؛ ولما كان يتسبب عن دعائهم تارة الإجابة وأخرى غيرها قال:
﴿فيكشف﴾ أي الله في الدنيا أو في الآخرة، فإنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء
﴿ما تدعون إليه﴾ أي إلى كشفه
﴿إن شاء﴾ أي ذلك تفضلاً عليكم كما هي عادته معكم في وقت شدائدكم، ولكنه لا يشاء كشفه في الآخرة، لأنه لا يبدل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء، ولو كان يجيبكم دائماً وأنتم لا تدعون غيره، لكان ذلك كافياً في الدلالة على اعتقادكم أنه لا قادر إلا هو، فكيف وهو يجيبكم في الدنيا
112
إذا دعوتموه تارة ويجيبكم أخرى، ومع ذلك فلا يردكم عدم إجابته عن اعتقاد قدرته ودوام الإقبال عليه في مثل تلك الحال لما ركز في العقول السليمة والفطر الأولى من أنه الفاعل المختار، وعلى ذلك دل قوله عطفاً على
«تدعون» :
﴿وتنسون﴾ أي تتركون في تلك الأوقات دائماً
﴿ما تشركون *﴾ أي من معبوداتكم الباطلة لعلمكم أنها لا تغني شيئاً، كما هي عادتكم دائماً في أوقات الشدائد رجوعاً إلى حال الاستقامة. أفلا يكون لكم هذا زاجراً عن الشرك في وقت الرخاء خوفاً من إعادة الضراء!.
113
ولما قدم التنبيه بإتيان مطلق العذاب في مطلق الأحوال، وكان الإتيان بالكاف ثَمَّ مشيراً مع إفادة التأكيد إلى أن ثَمَّ نوع مهلة، وأتبعه أن أخذ الأمم كان بغتة، أعقبه التنبيه بعذاب خاص تصورُ شناعته يهذأ الأركان ويقطع الكبود ويملأ الجنان، فإنه لا أشنع حالاً من أصم أعمى مجنون، فقال مشيراً - بإسقاط كاف الخطاب مع التعبير بالأخذ الذي عهد أنه للبغث بالسطوة والقهر - إلى غاية التحذير من سرعة أيّ
117
الأخذ:
﴿قل أرءيتم﴾ فكانت حقيقة المقترن بالكاف: هل رأيتم أنفسكم، وهذا هل رأيتم مطلق رؤية، لما تقدمت الإشارة إليه من الإيماء إلى طلب الإسراع بالجواب خوف المفاجأة بالعذاب وإن كان المراد في الموضعين: أخبروني
﴿إن أخذ الله﴾ أي القادر على كل شيء العالم بكل شيء
﴿سمعكم﴾ وأفرده لقلة المفاوتة فيه، لأنه أعظم الطرق لإدراك القلب الذي لا أعظم من المفاوتة فيه حتى للإنسان الواحد بالنسبة إلى الأحوال المختلفة، ليكون ذلك أدل على الفعل بالاختيار
﴿وأبصاركم﴾ أي فأصمكم وأعماكم عمى وصمماً ظاهرين وباطنين بسلب المنفعة
﴿وختم على قلوبكم﴾ فجعلها لا تعي أصلاً أو لا ينتفع بالوعي
﴿من إله﴾ أي معبود بحق، لأن له إحاطة العلم والقدرة؛ ثم وصف هذا الخبر بقوله:
﴿غير الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿يأتيكم به﴾ أي بذلك الذي هو أشرف معاني أشرف أعضائكم، أو بشيء منه.
ولما بلغت هذه الآيات - من الإبلاغ في البيان في وحدانيته وبطلان كل معبود سواه - أعلى المقامات، نبه على أنه على ذلك، بالأمر بالنظر فيها وفي حالهم بعدها، دالاً على ما تقدم من أن المقترحات لا تنفع من أراد سبحانه شقاوته فقال:
﴿انظر كيف نصرف﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿الآيات﴾ أي نوحيها لهم ولغيرهم في كل وجه
118
من وجوه البيان بالغ من الإحسان ما يأخذ بالعقول ويدهش الألباب، ويكون كافياً في الإيصال إلى المطلوب؛ ولما كان الإعراض عن مثل هذا في غاية البعد عبر بأداة التراخي فقال:
﴿ثم هم﴾ أي بعد هذا البيان بصميم ضمائرهم
﴿يصدفون *﴾ أي يعرضون إعراضاً لازماً لهم لزوم الصفة.
ولما قرن الأخذ بالبغت تارة صريحاً وتارة بإسقاط الكاف؛ كان ربما وقع في وهم السؤالُ عن حالة الجهر، أتبع ذلك ذكره مفصلاً لما أجمل من الأحوال في الآيتين قبل فقال:
﴿قل أرءيتكم﴾ ولما كان المعنى: أخبروني، وكان كأنه قيل: عما ذا؟ قيل:
﴿إن أتاكم عذاب الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال فلا يعجزه شيء
﴿بغتة﴾ أي بحيث لا يرى إلا ملتبساً بكم من غير أن يشعر به ويظهر شيء من أماراته،
﴿أو جهرة﴾ أي بحيث ترونه مقبلاً إليكم مقدماً عليكم
﴿هل﴾.
ولما كان المخوف بالذات هو الهلاك من غير نظر إلى تعيين الفاعل، بني للمفعول قوله:
﴿يهلك﴾ أي في واحدة من الحالتين هلاكاً هو الهلاك، وهو هلاك السخط
﴿إلا القوم﴾ أي الذين لهم قوة المدافعة وشدة المقاتلة في زعمكم والمقاومة
﴿الظالمون *﴾ أي بوضع الأشياء في غير مواضعها من إعطاء الشيء لمن لا يستحقه ومنع المستحق ما له، وأما المصلح فإنه ناج إما في الدارين وإما في الآخرة التي من فاز فيها فلا توى
119
عليه؛ وذكر أبو حيان أنه لما كان مطلق العذاب صالحاً لكل ما يعلم من تفاصيل أهواله وما لا يعلم، كان التوعد به أهول، فلذلك أكد فيه في الآيتين الخطاب بالضمير بحرف الخطاب، والتوعد بأخذ السمع وما معه من جملة الأنواع التي اشتمل عليها ذلك المطلق فأعري من حرف الخطاب.
ولما كان ذلك كله في مناضلة من كذب الرسل، وأعرض عما أرسلهم به ربهم من الآيات التي ما منها إلا ما آمن على مثله البشر، وطلبه منهم ما لا يقدر عليه إلا مرسلهم من الإتيان بغير ما أتوا به من الآيات؛ بين لهم حقيقة الرسالة إشارة إلى ظلمهم في طلبهم من الرسل ما لا يطلب إلا من الإله، فقال عاطفاً على
﴿ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك﴾ [الأنعام: ٤٢]
﴿وما نرسل﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿المرسلين﴾ أي نوجد هذا الأمر في هذا الزمان وكل زمان من الماضي وغيره
﴿إلا مبشرين﴾ لمن أطاع
﴿ومنذرين﴾ لمن عصى، عريقين في كل من الوصفين، لا مجيبين إلى ما يقترح الأمم، ولا معذبين لمن يعاندهم؛ ثم سبب عن ذلك غاية الرسالة من النفع والضر فقال:
﴿فمن آمن وأصلح﴾ أي تصديقاً لإيمانه
﴿فلا خوف عليهم﴾ أي في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا
120
الفانية فلأن خوفهم فيها يزيد أمنهم في الآخرة الباقية، فهو إلى فناء ثم إلى سرور دائم، فهو عدم
﴿ولا هم يحزنون*﴾ أي حزناً يضر بحياتهم الأبدية.
ولما بين حال المصلحين، أتبعه حال المفسدين فقال:
﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ أي على ما لها بنسبتها إلينا من العظمة
﴿يمسهم العذاب﴾ أي الدائم المتجدد، وكني عن قربه بأن جعل له قوة المس، كأنه حي مريد فقال:
﴿بما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يفسقون *﴾ أي يديمون الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من الإيمان وما يقتضيه، وأما الفسق العارض فإن صاحبه يصدر التوبة منه فيعفى عنه.
ولما بين وظيفة الرسل، وقسم المرسل إليهم، أمره بنفي ما يتسبب عنه قولهم من أن البشر لا يكون رسولاً، واقتراحهم عليه الآيات من ظن قدرته على ما يريد، أو أن كل ما يقدر عليه يبديه لهم، أو إلزامه بذلك، منها لهم على وجه ظلمهم بغلظهم أو عنادهم فقال:
﴿قل﴾ أي في جواب قولهم
﴿لولا أنزل عليه آية﴾ [يونس: ٢٠] ونحوه.
ولما لم يكن لهم عهد بأن بشراً يكون عنده الخزائن، يتصرف فيها بما يريد، وكان يأتيهم من الآيات من انشقاق القمر
121
ومشي الشجر وكلام الضب والحجر ونبع الماء والحراسة بشواظ النار وفحل الجمال ونحو ذلك مما هو معلوم في دلائل النبوة بما ربما أوقع في ظنهم أن لازمه دعواه لأنه يملك الخزائن، فكانوا يقترحون عليه الآيات الدالة إلزاماً له بذلك لقصد التكذيب. نفى ما ظنوا أنه يلزمه دعواه فقال:
﴿لا أقول لكم﴾ أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، ولما كان تعالى قد أعطاه مفاتيح خزائن الأرض، فأباها تواضعاً لله سبحانه، قيد بقوله
«لكم» إفهاماً لما يخبر به المؤمنين من ذلك ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وأما الكفرة فإن إخبارهم بذلك مما يغريهم على الاقتراحات استهزاء فلا فائدة له
﴿عندي خزائن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق والعزة البالغة، فلا كفوء له أي فآتيكم ما تقترحون من الآيات وما تشتهونه من الكنوز وما تستهزئون به من العذاب، وإنما الخزائن بيده، يفعل فيها ما يشاء.
ولما كانوا يعهدون أن بعض البشر من الكهان يخبرون بشيء من المغيبات، وكان الكهان يخلطون الصدق بالكذب، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرهم بمغيبات كثيرة فيكون كما قال دائماً لا خلف في شيء منها ولا زيادة ولا نقص، فصاروا يظنون أنه يعلم الغيب، ولكنهم
122
يظنونه من آيات الكهان حتى أطلقوا عليه أنه كاهن، فكانوا يسألونه عن وقت العذاب الذي يتوعدهم به وعن غيره، لعلهم يظفرون عليه بشيء مما يقوله الكهان ولا يكون، فيعدونه عليه؛ نفى ما ظنوه غيره على هذا المقام أن ينسب إلى غير مالكه الذي لا يجوز أن يكون لغيره، فقال نافياً له من أصله، لا للقول فقط كما في سابقه ولاحقه، عاطفاً على
﴿لا أقول﴾ لا على
﴿عندي﴾ ﴿ولا أعلم الغيب﴾ أي فأخبركم بوقت الفصل بيني وبينكم من مطلق العذاب أو قيام الساعة، فإن هاتين الحالتين - ملك الخزائن وعلم الغيب - ليستا إلا لمرتبة الألوهية، وإنما لم أدّع الأول كما ألزمتموني به، ولا اتصفت بالثاني بما ظننتم.
ولما كانوا يظنون أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، فكانوا يلزمونه بدعواه الرسالة دعوى الملائكة ليلزموه بذلك ادعاء ما هو ظاهر البطلان، قال:
﴿ولا أقول﴾ أي بدعوى الرسالة؛ ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى الأنبياء صفاء وأنورهم قلباً وأشدهم في كل هدى إضاءة وأنقاهم من نقائص البشر، وكان هذا أمراً من الله له. قيد بقوله:
﴿لكم﴾ إفهاماً لأنه لا يمتنع عليه أن يقول ذلك، بل لو قاله كان صادقاً،
123
ومثله كثير في مجازاتهم ومجاري عاداتهم في محاوراتهم، وأما إسقاط
«لكم» في قصة نوح من سورة هود عليهما السلام فتواضعاً منه لكونه من قوله، من غير تصريح بإسناد الأمر فيه إلى الله تعالى
﴿إني ملك﴾ فأقوى على الأفعال التي تقوى عليها الملائكة من التحرز عن المأكل والمشرب وغيرهما من أفعال الملائكة.
فلما انتفى عنه ما ألزموه به وما ظنوه فيه من كونه إلهاً أو ملكاً، انحصر الأمر في أنه رسول واقف عندما حده له مرسله، فقال على وجه النتيجة:
﴿إن﴾ أي ما
﴿أتبع﴾ أي بغاية جهدي
﴿إلا ما يوحى إلي﴾ أي ما رتبتي إلا امتثال ما يأمرني به ربي في هذا القرآن الذي هو - بعجزكم عن معارضته - أعظم شاهد لي، ولم يوح إلي فيه أن أقول شيئاً مما تقدم نفيه، وأوحى إلي لأنذركم به خصوصاً، وأنذر به كل من بلغه عموماً، وذلك غير منكر في العقل ولا مستبعد بل قد وقع الإرسال لكثير من البشر، وقد قام على ثبوته لي واضح الدلائل وثابت الحجج وقاطع البراهين، فإن كان فيه الإذن لي بإبراز خارق أبرزته، وإن كان فيه الإعلام بمغيب أبديته، وإلا اقتصرت على الإبلاغ
124
مع التحدي، وهو مخبر بأن الله - الذي ثبت بعجزكم عن معارضته أنه قوله - شاهد لي بصحة الرسالة وصدق المقالة.
ولما ثبت بهذا أنهم عمي الأبصار والبصائر، لا يهتدون إلى ما ينفعهم، ولا يقدرون على إفحام خصم ولا التفصي عن وهم ولا وصم، بل هم كالسالك بين المهالك، يتبين بادئ بدئه في دعواه الحكمة زوره وكذبه وفجوره لأتباع الهوى الذي هو أدوأ أدواء، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبصر البصراء وأحكم الحكماء لأتباعه علام الغيوب، وكان موضع أن يقال: ما يوحى إليك في هذا المقام؟ قال على وجه التبكيت لهم:
﴿قل﴾ أي لكل من يسمع قولك بعد هذا البيان الفائت لقوى الإنسان
﴿هل يستوي﴾ أي يكون سواء من غير مرية
﴿الأعمى والبصير﴾ فإن قالوا: نعم، كابروا الحس، وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير، ومن أعرض عنها فهو العمى، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمى؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله:
﴿أفلا تتفكرون *﴾ أي فيردكم فكركم عن هذه الضلالات.
125
ولما أمره بتوبيخهم، أمره - عاطفاً على قوله
«قل» - بالإنذار على وجه مخز لهم أيضاً فقال:
﴿وأنذر به﴾ أي بما يوحى إليك، وليس المراد تخصيص الإنذار بالخائف، بل الإشارة إلى جلافتهم وعظيم بلادتهم
125
وكثافتهم في عدم تجويز الجائز الذي هو أهل لأن يخافه كل واحد بقوله:
﴿الذين يخافون﴾ أي تجويزاً للجائز عقلاً وعادة.
ولما كان المرهوب الحشر نفسه، لا بقيد كونه من معين؛ بني للمفعول قوله
﴿أن يحشروا﴾ أي يجمعوا وهم كارهون
﴿إلى ربهم﴾ أي المحسن إليهم بالإيجاد والتربية مع التقصير في الشكر، حال كونهم
﴿ليس لهم﴾ وأشار إلى تحقير ما سواه وسفوله بالجار فقال:
﴿من دونه﴾ أي من المنزلة التي هي تحت منزلته، ومن المعلوم أن كل شيء تحت قهر عظمته ومتضائل عن رتبته، ليس لهم ذلك، أي على وجه الانفراد أو التوسل
﴿ولي﴾ يتولى أمورهم فينقذهم قهراً مما يخافون
﴿ولا شفيع﴾ ينقذهم بحسن سفارته وعظيم رتبته وترتيبه
﴿لعلهم يتقون *﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية.
ولما أمره بدعاء من أعرض عنه ومجاهرته، أمره بحفظ من تبعه وملاطفته، فقال:
﴿ولا تطرد الذين يدعون﴾ وهم الفقراء من المسلمين
﴿ربهم﴾ أي المحسن إليه عكس ما عليه الكفار في دعاء من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً؛ ثم بين من حالهم من الملازمة ما يقتضي الإخلاص فقال:
﴿بالغداة والعشي﴾ أي في طرفي النهار مطلقاً
126
أو بصلاتيهما أو يكون كناية عن الدوام؛ ثم أتبع ذلك نتيجته فقال معبراً عن الذات بالوجه، لأنه أشرف - على ما نتعارفه - وتذكّره يوجب التعظيم ويورث الخجل من التقصير:
﴿يريدون وجهه﴾ أي لأنه لو كان رياء لاضمحل على طول الزمان وتناوب الحدثان باختلاف الشأن.
ولما كان أكابر المشركين وأغنياؤهم قد وعدوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاتباع إن طرد من تبعه ممن يأنفون من مجالستهم، وزهدوه فيهم بفقرهم وبأنهم غير مخلصين في اتباعه، إنما دعاهم إلى ذلك الحاجة؛ بين له تعالى أنه لا حظ له في طردهم ولا في اتباع أولئك بهذا الطريق إلا من جهة الدنيا التي هو مبعوث للتنفير عنها، فقال معللاً لما مضى أو مستأنفاً:
﴿ما عليك﴾ قدم الأهم عنده وهو تحمله
﴿من حسابهم﴾ وأغرق في النفي فقال:
﴿من شيء﴾ أي ليس لك إلا ظاهرهم، وليس عليك شيء من حسابهم، حتى تعاملهم بما يستحقون في الباطن من الطرد إن كانوا غير مخلصين
﴿وما من حسابك﴾ قدم أهم ما إليه أيضاً
﴿عليهم من شيء﴾ أي وليس عليهم شيء من حسابك فتخشى أن يحيفوا عليك فيه على تقدير غشهم، أو ليس عليك من رزقهم
127
شيء فيثقلوا به عليك، وما من رزقك عليهم من شيء فيضعفوا عنه لفقرهم، بل الرازق لك ولهم الله؛ ثم أجاب النفي مسبباً عنه فقال:
﴿فتطردهم﴾ أي فتسبب عن أحد الشيئين طردك لهم ليقبل عليك الأغنياء فلا يكلفوك ما كان أولئك يكلفونك، وإن كلفتهم ما كان أولئك عاجزين عنه أطاقوه؛ والحاصل أنه يجوز أن يكون معنى جملتي
﴿ما عليك من حسابهم﴾ - إلى آخرهما راجعاً إلى آية الكهف
﴿ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا﴾ [الكهف: ٢٨] فيكون المعنى ناظراً إلى الرزق، يعني أن دعاءك إلى الله إنما مداره الأمر الأخروي، فليس شيء من رزق هؤلاء عليك حتى تستنفر بهم وترغب في الآغنياء، ولا شيء من رزقك عليهم فيعجزوا عنه، وفي اللفظ من كلام أهل اللغة ما يقبل هذا المعنى؛ قال صاحب القاموس وغيره: الحساب: الكافي ومنه
﴿عطاء حساباً﴾ [النبأ: ٣٦] وحسّب فلان فلاناً: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي. وقال أبو عبيد الهروي: يقال: أعطيته فأحسبته، أي أعطيته الكفاية حتى قال: حسبي، وقوله
﴿يرزق من يشاء بغير حساب﴾ [البقرة: ٢١٢] أي بغير تقتير وتضييق، وفي حديث سماك: ما حسبوا ضيفهم،
128
أي ما أكرموه، وقال ابن فارس في المجمل: وأحسبته: أعطيته ما يرضيه، وحسّبته أيضاً، وأحسبني الشيء: كفاني.
ولما نهاه عن طردهم مبيناً أنه ضرر لغير فائدة، سبب عن هذا النهي قوله
﴿فتكون من الظالمين *﴾ أي بوضعك الشيء في غير محله، فإن طردك هؤلاء ليس سبباً لإيمان أولئك، وليس هدايتهم إلا إلينا، وقد طلبوا منا فيك لما فتناهم بتخصيصك بالرسالة ما لم يخف عليك من قولهم
﴿لولا أنزل عليه ملك﴾ [الأنعام: ٨] ونحوه مما أرادوا به الصرف عنك، فكما لم تقبلهم فيك فلا تقبلهم أنت في أوليائنا، فإنا فتناهم بك حتى سألوا فيك ما سألوا وتمنوا ما تمنوا
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما فتناهم بإرسالك
﴿فتنا﴾ أي فعلنا فعل المختبر قسراً بما لنا من العظمة
﴿بعضهم ببعض﴾ بالتخصيص بالإيمان والغنى والفقر ونحو ذلك
﴿ليقولوا﴾ أي إنكاراً لأن تفضل غيرهم عليهم احتقاراً لهم واستصغاراً
﴿أهؤلاء﴾ أي الذين لا يساووننا بل لا يقاربوننا في خصلة من خصال الدنيا
﴿منَّ الله﴾ أي على جلاله وعظمه
﴿عليهم﴾ أي وفقهم لإصابة الحق وما يسعدهم عنده وهم فيما نرى من الحقارة
﴿من بيننا﴾ فالآية ناظرة إلى ما يأتي في هذه السورة من قوله تعالى
﴿حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله﴾ [الأنعام: ١٢٤].
129
ولما كان الإنكار لا يسوغ إلاّ مع نهاية العلم بمراتب المفضلين، وأن المفضل لا يستحق التفضيل من الوجه المفضل به، أنكر إنكارهم بقوله:
﴿أليس الله﴾ أي الذي له جميع الأمر، فلا اعتراض عليه
﴿بأعلم بالشاكرين *﴾ أي الذين يستحقون أن يفضلوا لشكرهم على غيرهم لكفرهم.
130
ولما كان طلبهم للآيات - أي العلامات الدالة على الصدق تارة بالرحمة في إنزال الأنهار والكنوز وإراحة الحياة، وتارة بالعذاب من إيقاع السماء عليهم كسفاً ونحو ذلك - ليس في يده ولا عنده تعين وقت نزوله، وأمره هنا أن يصرح لهم بالمباينة ويؤيسهم من الملاينة ما داموا على المداهنة، أمره بأن يخبرهم بما هو متمكن فيه من النور وما هم فيه من العمى بقوله:
﴿قل إني﴾ وأشار إلى تمكنه في الأدلة الظاهرة والحجج القاهرة بحرف الاستعلاء فقال:
﴿على بينة﴾ أي إن العدو إنما يصانع عدوه إما لعدم الثقة بالنصرة عليه وتعذيبه بعداوته، وإما العدم وثوقه بأنه على الحق، وأما أنا فواثق بكلا الأمرين
﴿من ربي﴾ أي المحسن إليّ بإرسالي بعد الكشف التام لي عن سر الملك والملكوت
﴿و﴾ الحال أنكم
﴿كذبتم به﴾ أي ربي حيث رددتم رسالته فهو منتقم منكم لا محالة.
ولما قيل ذلك، فرض أن لسان حالهم قال: فائتنا بهذه البينة! فقال: إن ربي تام القدرة، فلا يخاف الفوت فلا يعجل، وأما أنا فعبد
﴿ما عندي﴾ أي في قدرتي وإمكاني
﴿ما تستعجلون به﴾ أي في قولكم
«امطر علنيا حجارة من السماء» ونحوه حتى أحكم فيكم بما يقتضيه
133
طبع البشر من العجلة
﴿إن﴾ أي ما
﴿الحكم﴾ في شيء من الأشياء هذا وغيره
﴿إلا الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له، ثم استأنف قوله مبيناً أنه سبحانه يأتي بالأمر في الوقت الذي حده له على ما هو الأليق به من غير قدرة لأحد غيره على تقديم ولا تأخير فقال:
﴿يقضُّ﴾ أي يفصل وينفذ بالتقديم والتأخير، وهو معنى قراءة الحرميين وعاصم
«يقص» أي يقطع القضاء أو القصص
﴿لحق﴾ ويظهره فيفصله من الباطل ويوضحه، ليتبعه من قضى بسعادته، ويتنكب عنه من حكم بشقاوته
﴿وهو خير الفاصلين *﴾ لأنه إذا أراد ذلك لم يدع لبساً لمن يريد هدايته، وجعل في ذلك الظاهر سبباً لمن يريد ضلالته؛ ثم أكد ذلك لمن زاد قلبه في الجلافة مبيناً ما في غيره من وخيم العاقبة فقال:
﴿قل لو أن عندي﴾ أي على سبيل الفرض
﴿ما تستعجلون به﴾ أي من العذاب
﴿لقضي﴾ وبناه للمفعول لأن المخوف إنما هو الإهلاك، لا كونه من معين
﴿الأمر بيني وبينكم﴾ أي فكنت أهلك من خالفني غضباً لربي بما ظهر لي منه من التكبر عليه، وقد يكون فيهم مَنْ كُتِبَ في ديوان السعداء، لكنه لم يكن الأمر
134
إليّ لأني لا أعلم الظالم عند الله من غيره، فليس الأمر إلا إلى الله، لأنه أعلم بالمنصفين فينجيهم
﴿والله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿أعلم بالظالمين *﴾ أي المكتوبين في ديوان الظلمة فيهلكهم.
ولما كانت هذه الآيات مثبتة لجزئيات من علمه تعالى وقدرته، وكان ختامها العلم بالظالم وغيره، أتبعها الاختصاص بما هو أعم من ذلك، وهو علم مفاتح الغيب الذي لا يصل إليه إلا من حازها، إذ لا يطلع على الخزائن إلا من فتحها، ولا يفتحها إلا من حاز مفاتيحها وعلم كيف يفتح بها، فإثبات ذلك في هذا الأسلوب من باب الترقية في مراقي الاعتقاد من درجة كاملة إلى أكمل منها، فقال عاطفاً على معنى ما سبق، وهو: فعنده خاصة جميع ذلك:
﴿وعنده﴾ أي وحده
﴿مفاتح الغيب﴾ أي التي لا يدرك الغيب إلا من علمها.
ولما كان معنى ذلك الاختصاص، صرح به في قوله:
﴿لا يعلمها إلا هو﴾ وتخصيصها بالنفي دون الخزائن دال على ما فهمته من أن التقييد فيها ب
«لكم» يفهم أنه يجوز أن نقول ذلك للمؤمنين.
ولما ذكر علم الغيب، أتبعه علم الشهادة، لأن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام إلا للكُمَّل من الأنام
135
الذين تجردوا فتعودوا استحضار المعقولات المجردة، والقرآن إنما أنزل لنفع جميع الخلق: الذكي منهم والغبي، فكان ذكر المحسوسات الداخلة تحت القضية العقلية الكلية معيناً على تصور ذلك المعقول ورسوخه في القلب، فقال مؤكداً لهذا المعقول الكلي المجرد بمثال داخل تحته يجري مجرى المحسوس، وعطفُه بالواو عطفَ الخاص على العام إشارة إلى تعظيمه فقال:
﴿ويعلم ما في البر﴾ وقدمه لأن الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما بها من الحيوان والنبات النجم وذي الساق والمعادن
﴿والبحر﴾ وأخره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل وإن كان الحس يدل على أن عجائبها أكثر، وطولها وعرضها أعظم، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب، فكان هذا الأمر المحسوس مقوياً لعظمة ذلك الأمر المعقول.
ولما ذكر ما يعم الثابت والمنتقل: خص المنتقل تنصيصاً على الجزئيات وتعظيماً للعلم بتعظيم المعلومات فقال:
﴿وما تسقط﴾ وأغرق في النفي بقوله:
﴿من ورقة﴾ ونكرها إتماماً للتعميم
﴿إلا يعلمها﴾ ولما كان هذا مع عظمه ظاهراً، ذكر ما هو أدق منه فقال:
﴿ولا﴾ أي
136
وما من
﴿حبة﴾ ودل على أن الأرض ليس لها من نفسها نور تنبيهاً على ما أودع هذا الآدمي المكوّن منها من الغرائب بقوله:
﴿في ظلمات الأرض﴾ أي ولو كان في أقصى بطنها، فكيف بماهو في النور وهو أكبر من الحبة.
ولما خص، رجع إلى التعميم رداً للآخر على الأول فقال:
﴿ولا رطب ولا يابس﴾ أي وجد أو لم يوجد أو سيوجد
﴿إلا في كتاب مبين *﴾ أي موضح لأحواله وأعيانه وكل أموره وأحيانه، فثبت أنه فاعل لجميع العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان، لأنه وحده عالم بجميع المعلومات، ومن اختص بعلم جميع المعلومات كان مختصاً بصنع جميع المصنوعات قادراً على جميع المقدورات.
137
ولما كان من مفاتح الغيب الموت والبعث الذي ينكرونه، وكان من أدلته العظمة النوم والإيقاظ منه مع ما فيه من الإحسان المتكرر، وكان فيه مع ذلك تقرير لكمال القدرة بعد تقريره لكمال العلم، أتبع ذلك قوله:
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿الذي يتوفاكم﴾ أي يقبض أرواحكم كاملة بحيث لا يبقى عندكم شعور أصلاً، فيمنعكم التصرف بالنوم كما يمنعكم بالموت، وذكر الأصل في ذلك فقال:
﴿بالّيل ويعلم﴾ أي والحال أنه يعلم
﴿ما جرحتم﴾ أي كسبتم
﴿بالنهار﴾ أي الذي
137
تعقبه النوم، من الذنوب الموجبة للإهلاك، ويعاملكم فيها بالحلم بعد العلم ولا يعجل عليكم، وهو معنى
﴿ثم يبعثكم﴾ أي يوقظكم بعد ذلك النوم المستغرق، فيصرفكم فيما يشاء
﴿فيه﴾ أي في النهار الذي تعقب ذلك النوم بعد استحقاقكم للانتقام
﴿ليقضى﴾ أي يتم
﴿أجل مسمى﴾ كتبه للموتة الكبرى.
ولما تمهد بهذا النشر بعد ذاك الطي في الموتة الصغرى القدرة على مثل ذلك في الموتة الكبرى، وكان فيه تقريب عظيم له قال:
﴿ثم﴾ يبعثكم من تلك الموتة كما بعثكم من هذه، ويكون
﴿إليه﴾ أي وحده
﴿مرجعكم﴾ أي حساً بالحشر إلى دار الجزاء، ومعنى بانقطاع الأسباب على ما عهد في الدنيا
﴿ثم﴾ بعد تلك المواقف الطوال والزلازل والأهوال، ويمكن أن تشير أداة التراخي إلى عظمة العلم بذلك، وإليه يرشد أكثر ما قبله من السياق
﴿ينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستقصى
﴿بما كنتم تعملون *﴾ أي فيجازيكم عليه، ولعلمه عبر بالعمل لأن الحساب يكون على المكلفين الذين لهم أهلية العلم، فتقرر - مع كمال قدرته سبحانه على اختراع هذه الأشياء والعلم بها - استقلالُه بحفظها في كل حال وتدبيرها على
138
أحسن وجه.
ولما أخبر بتمام العلم والقدرة، أخبر بغالب سلطنته وعظيم جبروته وأن أفعاله هذه على سبيل القهر لا يستطاع مخالفتها، فلو بالغ أحد في الاجتهاد في أن ينام في غير وقته ما قدر، أو أن يقوم وقت النوم لعجز، أو أن يحيي وقت الموت لم يستطع إلى غير ذلك فقال:
﴿وهو﴾ أي يفعل ذلك والحال أنه وحده بما له من غيب الغيب وحجب الكبرياء
﴿القاهر﴾ وصور ذلك بقوله:
﴿فوق عباده﴾ أي في الإحاطة بالعلم والفعل، أما قهره للعدم فبالتكوين والإيجاد، وأما قهره للوجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى، فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار - إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصروف الممكنات
﴿ويرسل﴾ ورجع إلى الخطاب لأنه أصرح فقال:
﴿عليكم﴾ من ملائكته
﴿حفظة﴾ أي يحفظون عليكم كل حركة وسكون لتستحيوا منهم وتخافوا عاقبة كتابتهم. ويقوم عليكم بشهادتهم الحجة على مجاري عاداتكم، وإلا فهو سبحانه غني عنهم، لأنه العالم القادر فيحفظونكم على حسب مراده فيكم
﴿حتى إذا جاء﴾.
139
ولما كان تقديم المفعول أخوف قال:
﴿أحدكم الموت﴾ أي الذي لا محيد له عنه ولا محيص
﴿توفته﴾ أي أخذت روحه كاملة
﴿رسلنا﴾ من ملك الموت وأعوانه على ما لهم من العظمة بالإضافة إلينا
﴿وهم لا يفرطون *﴾ في نفس واحد ولا ما دونه ولا ما فوقه بالتواني عنه ليتقدم ذلك عن وقته أو يتأخر؛ ولما أشار سبحانه إلى قوته بالجنود التي تفوت الحصر - وإن كان عنهم غنياً بصفة القهر - نبه بصيغة المجهول إلى استحضار عظمته وشامل جبروته وقدرته فقال:
﴿ثم﴾ أي بعد حبسهم في قيد البرزخ
﴿ردوا﴾ أي ردهم راد منه لا يستطيعون دفاعه أصلاً
﴿إلى الله﴾ أي الذي لا تحد عظمته ولا تعد جنوده وخدمته
﴿مولاهم﴾ أي مبدعهم ومدبر أمورهم كلها
﴿الحق﴾ أي الثابت الولاية، وكل ولاية غير ولايته من الحفظة وغيرهم عدم، لأن الحفظة لا يعلمون إلا ما ظهر لهم، وهو سبحانه يعلم السر وأخفى.
ولما استحضر المخاطب عزته وقهره، وتصور جبروته وكبره، فتأهل قلبه وسمعه لما يلقى إليه ويتلى عليه، قال:
﴿ألا له﴾ أي وحده حقاً
﴿الحكم﴾ ولما كان الانفراد بالحكم بين جميع الخلق أمراً يحير الفكر، ولا يكاد يدخل تحت الوهم، قال محقراً في جنب قدرته:
140
﴿وهو﴾ أيوحده
﴿أسرع الحاسبين *﴾ يفصل بين الخلائق كلهم في أسرع من اللمح كما أنه يقسم أرزاقهم في الدنيا في مثل ذلك، لا يقدر أحد أن ينفك عن عقابه بمطاولة في الحساب ولا مغالطة في ثواب ولا عقاب، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى فكر وروية ولا عقد ولا كتابة، فلا يشغله حساب عن حساب ولا شيء عن شيء.
141
ولما تعرف بأفعاله وشؤونه حتى اتضحت وحدانيته وثبتت فردانيته، ذكرهم أحوالهم في إقرار توحيده وقت الشدائد والرجوع عن ذلك عند الإنجاء منها، فكانوا كمن طلب من شخص شيئاً وأكد له الميثاق على الشكر، فلما أحسن إليه بإعطائه سؤله نقض عهده وبالغ في الكفر، وذلك عندهم في غاية من القبائح لا توصف فقال:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين يدعون محاسن الأعمال
﴿من ينجيكم﴾ أي كثيراً وعظيماً
﴿من ظلمات البر والبحر﴾ أي حيث لا هداية لكم بنجم ولا جبل ولا غيرهما، أإو عبر بالظلمات عن الكروب التي بلغت شدتها إلى أن صاحبها يكون كأنه في أشد ظلام، فهو بحيث إنه لا يهتدي فيها إلى وجه حيلة بنوع وسيلة
﴿تدعونه﴾ أي على وجه الإخلاص له والتوحيد والإعراض عن كل شرك وشريك لزوال الحظوظ عند إحاطة الرعب
141
واستيلائه على مجامع القلب، فلا يبقى إلا الفطرة السليمة؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي:
﴿تضرعاً﴾ أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر، وحقيقته الخشوع
﴿و﴾ قوله:
﴿خفية﴾ أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون؛ قال شمر: يقال: ضرع له وهو ضارع بيّن الضراعة، وهؤلاء قوم ضرع، أي أذلاء، وهم ضرعة أي متضرعون، والتضرع إلى الله: التخشع إليه والتذلل، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت: إنه لضارع الجسم بيّن الضروع، وفي الذل بين الضراعة - انتهى.
ولما بين وصفهم وقت الدعاء، بين قولهم إذ ذاك فقال:
﴿لئن أنجانا من هذه﴾ فأكدوا وخصوا وبينوا غاية البيان
﴿لنكونن من الشاكرين *﴾ أي العريقين في الشكر؛ ولما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله، ولكنهم يكفرون نعمته، عدوا منكرين فأمره بالجواب غير منتظر لجوابهم بقوله:
﴿قل الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿ينجيكم منها﴾ أي من تلك الشدة
﴿ومن كل كرب﴾
142
أي وقعتم فيه، وما أعظم موقع قولُه:
﴿ثم أنتم﴾ مع التزام الإخلاص في وقت الكرب ومع التزام الشكر
﴿تشركون *﴾ مشيراً إلى استبعاد نقضهم بأداة التراخي مع ما فيه من الجِناس لما كان ينبغي لهم من أنهم يشكرون.
ولما كانوا بإشراكهم كأنهم يظنون أن الشدة زالت عنهم زوالاً لا يعود، وكان اللائق بهم دوام التذلل إما وفاء وإما خوفاً، أخبرهم ترهيباً لهم من سطوته وتحذيراً من بالغ قدرته أن شدتهم تلك التي أذلتهم لم تزل في الحقيقة، فإن قدرة الملك عليها حالة الرخاء كقدرته عليها في وقتها سواء، فإنه خالق الحالتين وأسبابهما وما فيهما، ولكنهم عمي الأبصار أجلاف الطبائع فقال:
﴿قل هو﴾ أي وحده
﴿القادر﴾ ولم يصغه صيغة مبالغة لأنهم لم يكونوا ينكرون قدرته إنما كانوا يدعون المشاركة التي نفاها بالتخصيص، على أن التعريف يفيد به المبالغة
﴿على أن يبعث﴾ أي في أيّ وقت يريده
﴿عليكم﴾ أي في كل حالة
﴿عذاباً من فوقكم﴾ بإسقاط السماء قطعاً أو شيء منها كالحجارة التي حصب بها قوم لوط وأصحاب الفيل أو بتسليط أكابركم
143
﴿أو من تحت أرجلكم﴾ أي بالخسف أو إثارة الحيات أو غيرها من الأرض كما وقع لبعض من سلف، أو بتسليط سفلتكم وعبيدكم عليكم
﴿أو يلبسكم﴾ أي يخلط بينكم حال كونكم
﴿شيعاً﴾ أي متفرقين، كل شيعة على هوى، فيكون ذلك سبباً للسيف
﴿ويذيق بعضكم﴾ أي بعض تلك الشيع
﴿بأس بعض﴾ فيساوي في ذلك بين الحرم وغيره، ويصير التخطف بالنهب والغارات عاماً، وسوق هذا الكلام هكذا يفهم إيقاعه في وقت ما لناس ما، لأن كلام الملوك يصان عن أن لا يكون له صورة توجد وإن كان على سبيل الشرط ونحوه، فكيف بملك الملوك علام الغيوب! وللتدريب على مثل هذا الفهم في كلام الله تعالى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الترمذي في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
وقال: حسن غريب، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق في قوله تعالى في الفرقان
﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك﴾ [الفرقان: ١٠].
ولما كان هذا بياناً عظيماً، أشار إلى عظمه بقوله:
﴿انظر﴾ وعظمه تعظيماً آخر بالاستفهام فقال
﴿كيف نصرف الآيات﴾ أي أي نكررها موجهة في جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة
﴿لعلهم يفقهون *﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى فهمه وانتفاعه به، كان هذا
﴿و﴾ الحال أنه
﴿كذب به﴾ أي هذا العذاب
144
أو القرآن المشتمل على الوعد والوعيد والأسباب المبينة للخلق جميع ما ينفعهم ليلزموه وما يضرهم ليحذروه
﴿قومك﴾ أي الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسروا بسيادتك، فإن القبيلة إذا ساد أحدها عزت به، فإن عزه عزها وشرفه شرفها، ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة، وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبه مهما أمكنها فإن عاره لاحق بها، فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع، وزاد ذلك بقوله:
﴿وهو﴾ أي والحال أنه
﴿الحق﴾ أي الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله.
ولما كان الإنسان ربما حصل له اللوم بسبب قومه كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المقام بمعرض أن يخاف عاقبة ذلك ويقول: فماذا أصنع بهم؟ فقال تعالى معلماً أنه ليس عليه بأس من تكذيبهم:
﴿قل لست﴾ وقدم الجار والمجرور للاهتمام به معبراً بالأداة الدالة على القهر والغلبة فقال:
﴿عليكم بوكيل *﴾ أي حفيظ ورقيب لأقهركم على الرد عما أنتم فيه.
145
ولما كانوا بصدد أن يقولوا تهكماً: كن كذلك، فلا علينا منك! قال مهدداً:
﴿لكل﴾ وأشار إلى جلالة خبره بقوله:
﴿نبإٍ﴾ أي خبر أخبرتكم به من هذه الأخبار العظيمة، ومعنى
﴿مستقر﴾
145
موضع ووقت قرار من صدق أو كذب، أي لا بد أن يحط الخبر على واحد منهما، لا ينفك خبر من الأخبار عن ذلك
﴿وسوف تعلمون*﴾ أي محط خبره العظيم بوعد صادق لا خلف فيه وإن تأخر وقوعه.
ولما أمره بما يقول جواباً لتكذيبهم، تقدم إليه فيما يفعل وقت خوضهم في التكذيب فقال:
﴿وإذا رأيت﴾ خاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد غيره ليكون أردع
﴿الذين يخوضون﴾ أي يتكلمون
﴿في آياتنا﴾ أي بغير تأمل ولا بصيرة بل طوع الهوى، كما يفعل خائض الماء في وضعه لرجله على غير بصيرة لستر مواضع الخُطا وبغير تمام الاختيار لغلبة الماء
﴿فأعرض عنهم﴾ بترك المجالسة أو ما يقوم مقامها؛ ولما كان الخوض في الآيات دالاً على قلة العقل قال:
﴿حتى يخوضوا في حديث غيره﴾ فحكم على حديثهم فيما سوى ذلك أيضاً بالخوض، لأن فيه الغث والسمين، لأنه غير مقيد بنظام الشرع.
ولما كان الله تعالى - وله الحمد - قد رفع حكم النسيان عن هذه الأمة، قال مؤكداً:
﴿وإما ينسينك الشيطان﴾ أي إنساء عظيماً إشارة إلى أن مثل هذا الأمر جدير بأن لا ينسى
﴿فلا تقعد بعد الذكرى﴾ أي
146
التذكر لهذا النهي
﴿مع القوم الظالمين *﴾ أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض، وهو الكون في الظلام.
ولما كانت هذه الآية مكية، وكانوا إذ ذاك عاجزين عن الإنكار بغير القلب، قال:
﴿وما على الذين يتقون﴾ أي يخافون الله فلا يكذبون بآياته في مجالسة الكفرة
﴿من حسابهم﴾ أي الخائضين إذا كانوا أقوى منهم
﴿من شيء﴾ وما نهينا عن المجالسة لأن عليهم فيها - والحالة هذه - إثماً
﴿ولكن﴾ نهينا لتكون المفارقة إظهاراً للكراهة
﴿ذكرى﴾ للخائضين لاستحيائهم من أذى الجليس
﴿لعلهم يتقون *﴾ أي ليكون حالهم بذلك حال من يرجى منه التقوى، فيجتنب الخوض في الآيات إكراماً للجليس.
ولما أبرز هذا الأمر في صيغة النهي، أعاده بصيغة الأمر اهتماماً به وتأكيداً له، وأظهر لهم وصفاً آخر هو غاية الوصف الأول مع ما ضم إليه من الإرشاد إلى الإنقاذ من المعاطب فقال:
﴿وذر﴾ أي اترك أي ترك كان ولو كان على أدنى الوجوه
﴿الذين اتخذوا﴾ أي كلفوا أنفسهم في اتباع الهوى بمخالفة العقل المستقيم والطبع الفطري السليم بأن أخذوا
﴿دينهم﴾ على نمط الأسخف من دنياهم؛ ولما كان
147
الدين ملكة راسخة في النفس، ولا شيء من كيفيات النفس أرسخ منها ولا أثبت، وهو أشرف ما عند الإنسان، وكان اللعب ضده لا شيء أسرع من انقضائه ولا أوهى من بنائه، قال ذامّاً لهم بأنهم بدلوا مقصود هذه السورة - الذي هو من الاستدلال على التوحيد الذي لا أشرف منه مطلقاً ولا أعلى ولا أنفس بوجه ولا أحلى - بما لا أدنى منه ولا أوهى ولا أمحق للمروءة ولا أدهى:
﴿لعباً﴾ ولما كان ربما قيل: إنهم إذا انقضى اللعب عادوا إلى الاشتغال بالدين، أتبعه الباعث عليه إشارة إلى أنه كلما ملوا اللعب بعثوا النفوس إليه باللهو كما ترى الراقص كلما فتر في رقصة بعثوه عليه بتقوية اللهو أو الانتقال من فن إلى آخر من فنونه وشأن بديع من شؤونه فقال:
﴿ولهواً﴾ أي في الاستهزاء بالدين الحق بالمكاء والتصدية وبالبحائر والسوائب وغير ذلك، فلا تبال بهم ولا يشغل قلبك بهم
﴿وغرتهم﴾ أي خدعتهم
﴿الحياة الدنيا﴾ التي هم من أعرف الناس بزوالها، وأن كل من بها هالك، فمنَتْهم النعم التي منَّ عليهم سبحانه بها فيما لا ينالونه من السعادة إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ولما كان ربما أفهم ذلك تركهم في كل حالة، نفاه بقوله:
﴿وذكر به﴾ أي تحديث الآيات، وهي القرآن المتجدد إنزاله،
148
والضمير في الحقيقة للآيات، أي دعهم يفعلوا ما أرادوا، لا تبال بشيء من ذلك، ولا تترك وعظّهم بهذا القرآن، أي ما عليك إلا البلاغ، لم نكلفك في هذه الحالة أكثر منه
﴿أن تبسل﴾ قال في المجمل: البسل: النخل، وأبسلته: أسلمته للهلكة، فالمعنى: كراهة أن تخلي وتسلم
﴿نفس بما﴾ أي بسبب ما
﴿كسبت﴾ في دنياها كائنة
﴿ليس لها من دون الله﴾ أي المنفرد بالعظمة
﴿ولي﴾ أي يتولى نصرها
﴿ولا شفيع﴾ ينقذها بشفاعته.
ولما كان الفداء من اسباب الخلاص قال:
﴿وإن تعدل﴾ أي تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك
﴿كل عدل﴾ أي كل شيء يظن أنه يعدلها ولو كان أنفس شيء؛
«ولما» كان الضار عدم الأخذ، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله:
﴿لا يؤخذ منها﴾ ولما أنتج ذلك قطعاً أن من هذا حاله هالك، قال:
﴿أولئك﴾ أي الذين عملوا هذه الأعمال البعيدة عن الخير
﴿الذين أبسلوا﴾ أي أسلموا
﴿بما كسبوا﴾ ثم استأنف قوله:
﴿لهم شراب من حميم﴾ أي هو غاية الحر يصهر به
149
ما في بطونهم بما اعتقدوا في الآيات ما ظهر على ألسنتهم
﴿وعذاب أليم﴾ أي يعم دائماً ظواهرهم وبواطنهم بما ظهر عليهم من ذلك بعد ما بطن
﴿بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا يكفرون *﴾ أي يجددون من تغطية الآيات.
150
ولما كانوا بعبادة غيره تعالى - مع إقرارهم بأنه هو خالق السماوات والأرض - في حال من يعتقد أن ذلك الذي يعبدونه من دونه هو الذي خلقهما، أو شاركاً فيهما. فلا قدرة لغيره على حشر من في مملكته، قال تعالى منبهاً لهم من غفلتهم وموقظاً من رقدتهم معيداً الدليل الذي ذكره أول السورة على وجه آخر:
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿الذي خلق﴾ أي أوجد واخترع وقدر
﴿السماوات والأرض﴾ أي على عظمهما وفوت ما فيهما من الحكم والمنافع الحصر
﴿بالحق﴾ أي بسبب إقامة الحق، وأنتم ترون أنه غير قائم في هذه الدار ولا هو قريب من القيام، فوجب على كل من يعلم أن الله حكيم
153
خبير أن يعتقد أنه لا بد من بعثة العباد بعد موتهم - كما وعد بذلك - ليظهر العدل بينهم، فيبطل كل باطل ويحق كل حق، ويظهر الحكم لجميع الخلق.
ولما قرر أن إقامة الحق هي المراد، قرر قدرته عليها بقوله:
﴿ويوم يقول﴾ أي للخلق ولكل شيء يريده في هذه الدار وتلك الدار
﴿كن فيكون *﴾ أي فهو يكون لا يتخلف أصلاً.
ولما قرر أنه لا يتخلف شيء عن أمره، علله فقال:
﴿قوله الحق﴾ أي لا قول غيره، لأن أكثر قول غيره باطل، لأنه يقول شيئاً فلا يكون ما أراد؛ ولما كان في مقام الترهيب من سطوته، قال مكرراً لقوله
«وهو الذي إليه تحشرون» :
﴿وله﴾ أي وحده بحسب الظاهر والباطن
﴿الملك يوم﴾ ولما كان المقصود تعظيم النفخة، بني للمفعول قوله:
﴿ينفخ في الصور﴾ لانقطاع العلائق بين الخلائق، لا كما ترون في هذه الدار من تواصل الأسباب، وقولُه-:
﴿عالم الغيب﴾ وهو ما غاب عن كل ما سواه سبحانه
﴿والشهادة﴾ وهو ما صار بحيث يطلع عليه الخلق - مع كونه علة لما قبله من تمام القدرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه من تمام الترهيب، أي أنه لا يخفى عليه شيء
154
من أحوالكم، فاحذروا جزاءه يوم تنقطع الأسباب، ويذهب التعاضد والتعاون، وهو على عادته سبحانه في أنه ما ذكر أحوال البعث إلاّ قرر فيه أصلين: القدرة على جميع الممكنات، والعلم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، لأنه لا يقدر على البعث إلا من جمع الوصفين
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿الحكيم﴾ أي التام الحكمة، فلا يضع شيئاً في غير محله ولا على غير أحكام، فلا معقب لأمره، فلا بد من البعث
﴿الخبير *﴾ بجميع الموارد والمصادر، فلا خفاء لشيء من أفعال أحد من الخلق عليه في ظاهر ولا باطن ليهملهم عن الحساب.
ولما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية، وهم أهل فارس قوم إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام يعرف بفضله جميع الطوائف، لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه سبحانه، تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال:
﴿وإذ﴾ أي اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة، ما أعظمه وما أجله وأضخمه! وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله، واذكر إذ
﴿قال إبراهيم﴾ أي اذكر قوله، وحكمة
155
التذكير بوقته التنبيهُ على أن هذا لم يزل ثابتاً مقرراً على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب، وانعطف هذا على ذاك أيّ انعطاف! وصار كأنه قيل: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض، فإن تنبهوا فهو حظهم، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم عليه السلام إذ قال
﴿لأبيه﴾ ثم بينه في قراءة الجر بقوله:
﴿آزر﴾ وناداه في قراءة يعقوب بالضم؛ قال البخاري في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة: تارح - انتهى.
وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة، فلعل أحدها لقب، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون، ويقال لهم أيضاً الكسدانيون - بالمهملة موضع اللام - يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنماً، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم - كما زعموا - إلى النجم، فقال عليه السلام لأبيه منكراً عليه منبهاً له على ظهور فساد ما هو مرتكبه:
﴿أتتخذ﴾ أي أتكلف نفسك
156
إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل
﴿أصناماً آلهة﴾ أي تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل، بل هو أمر بديهي أو قريب منه، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى
﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه، عم بقية أقاربه فقال:
﴿إني أراك وقومك﴾ أي في اتفاقكم على هذا
﴿في ضلال﴾ أي بُعد عن الطريق المستقيم
﴿مبين *﴾ أي ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافياً لمن يعبده، وإلا كان فقيراً إلى تأله من يكفيه.
ولما كان كأنه قيل: بصرنا إبراهيم عليه السلام هذا التبصير في هذا الأمر الجريء من بطلان الأصنام، قال عاطفاً عليه:
﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا التبصير العظيم الشأن، وحكى الحال الماضية بقوله:
﴿نري﴾ أي بالبصر والبصيرة على مر الزمان وكر الشهور والأعوام إلى ما لا
157
آخر له بنفسه والصلحاء من أولاده
﴿إبراهيم ملكوت﴾ أي باكن ملك التوحيد فيعلم أن كل من عبد غير الله صنم وغيره من قومه وغيرهم في ضلال، كما علم ذلك في قومه في الأصنام
﴿وليكون من الموقنين *﴾ أي الراسخين في وصف الإيقان في أمر التوحيد كله بالنسبة إلى جميع الجزئيات لما أريناه ببصره وبصيرته، فتأمل فيه حتى وقع فيه بعد علم اليقين على عين اليقين بل حق اليقين.
ولما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق: دانيهم وقاصيهم، وهي أشرف من الأرضية، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى؛ نصب لهم الحجاج في أمرها، فقال مسبباً عن الإراءة المذكورة:
﴿فلما جن﴾ أي ستر وأظلم، وقصره - وإن كان متعدياً - دلالة على شدة ظلام تلك الليلة، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال:
﴿عليه الّيل﴾ أي وقع الستر عليه، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء
﴿رأى كوكباً﴾ أي قد بزغ، فكأنه قيل: فماذا
158
فعل؟ فقيل:
﴿قال هذا ربي﴾ فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبراً واستفهاماً، ليوهمهم أنه مخبر، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب، فيكون أشد استجلاباً لهم إلى إنعام النظر وتنبيهاً على موضع الغلط وقبول الحجة، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله:
﴿فلما أفل﴾ أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان
﴿قال لا أحب الآفلين *﴾ لأن الأفول حركة، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولاً عن اعتقاد ربوبية الكواكب، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقناً، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهاً لهم، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم، ولم يستدل بالطلوع لأنه - وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان - شرف في الجملة وسلطان، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، والممكن لا بد له من موجد واجب الوجود، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال
﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ [النجم: ٤٢] والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة، فلا بد من الأستناد إلى قديم،
159
والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية، وخص الأفول أيضاً لأن قومه الفرس كانوا منجمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعداً من المشرق إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير، فإذا كان نازلاً إلى المغرب كان ضعيف الأثر، والإله هو من لا يتغير، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد.
160
ولما بصرهم قصور صغير الكواكب، رقي النظر إلى أكبر منه، فسبب عن الإعراض عن الكواكب لقصوره قولَه:
﴿فلما رأى القمر بازغاً﴾ أي طالعاً أول طلوعه؛ قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البزغ الذي هو الشق، كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً
﴿قال هذا ربي﴾ دأبَه في الأولى.
ولما كان تأمل أن الكوكب محل الحوادث بالأفول قد طرق أسماعهم فخالج صدورهم، قال:
﴿فلما أفل قال﴾ مؤكداً غاية التأكيد
﴿لئن لم يهدني ربي﴾ أي الذي قدر على الإحسان إليّ بالإيجاد والتربية لكونه لا يتغير ولا شريك له بخلق الهداية في قلبي، فدل ذلك على أن الهداية ليست إلى غيره، ولا تحمل على نصب الأدلة، لأنها منصوبة قبل ذلك، ولا على معرفة الاستدلال فإنه عارف به
160
﴿لأكونن﴾ أي بعبادة غيره
﴿من القوم الضالين *﴾ فكانت هذه أشد من الأولى وأقرب إلى التصريح بنفي الربوبية عن الكواكب وإثبات أن الرب غيرها، مع الملاطفة وإبعاد الخصم عما يوجب عناده.
ولما كان قد نفي عن الأجرام السماوية ما ربما يضل به الخصم قال:
﴿فلما رأى﴾ أي بعينه
﴿الشمس بازغة﴾ أي عند طلوع النهار وإشراق النور الذي ادعوا فيه ما ادعوا
﴿قال﴾ مبيناً لقصور ما هو أكبر من النور وهو ما عنه النور
﴿هذا﴾ مذكراً إشارتَه لوجود المسوغ، وهو تذكير الخبر إظهاراً لتعظيمها إبعاداً عن التهمة، وتنبيهاً من أول الأمر على أن المؤنث لا يصلح للربوبية
﴿ربي﴾ كما قال فيما مضى؛ ثم علل ذلك بياناً للوجه الذي فارق فيه ما مضى فأورث شبهة، فقال:
﴿هذا أكبر﴾ أي مما تقدم
﴿فلما أفلت﴾ أي غربت فخفي ظهورها وغلب نورها وهزمه جيش الظلام بقدرة الملك العلام
﴿قال يا قوم﴾ فصرح بأن الكلام لهم أجمعين، ونادى على رؤوس الأشهاد.
ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة، وتهيأت لقبول الحق، ختم الآية بقوله:
﴿إني بريء مما تشركون *﴾ أي من هذا وغيره من باب الأولى، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور، فلما أبطل
161
بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر، والمراد هم، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت:
﴿إني وجهت وجهي﴾ أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز، فقال:
﴿للذي فطر﴾ أي لأجل عبودية من شق وأخرج
﴿السماوات والأرض﴾ فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله
«الذي خلق السماوات والأرض» وأدل دليل على ما تقدم - أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها - قولُه بعد نصب هذا الدليل:
﴿حنيفاً﴾ أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد، وأكد البراءة منهم بقوله:
﴿وما أنا من المشركين﴾ أي منكم، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به.
162
ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه، فقال:
﴿وحاجه قومه﴾ بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ولما كان من المعلوم أن محاجتهم - بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط - سفلت عن الحضيض، نزه المقام عن ذكرها، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله:
﴿قال﴾ أي بقول منكراً عليهم موبخاً لهم:
﴿أتحاجوني﴾ وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله:
﴿في الله﴾ أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد
﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد
﴿هدان﴾ أي أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه، أي لأنه قادر، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان، ويخافه من عواقب العصيان، لأن من رُجي خيره خيف ضيره، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه
163
المحاجة، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأنا أرجوه وأخافه لأنه قادر:
﴿ولا أخاف ما تشركون به﴾ ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز، فأثبت لله القدرة بالهداية لأنها أشرف، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر. وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه. كل ذلك تلويحاً لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلاّ من يأمن ضره، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر، لا يرتكبها عاقل، والآية من الاحتباك.
ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه، وقصرها عليه؛ قال مستثنياً من سبب النفي، وهو أنها لا تقدر على شيء:
﴿إلا أن يشاء ربي﴾ المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع
﴿شيئاً﴾ أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها، لأنه قادر على ما يريد، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره.
164
ولما كان هذا في صورة التعليق، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد، فيكون موضع إطماع للخصم فيه، علله بما أزال هذا الخيال فقال:
﴿وسع ربي كل شيء علماً﴾ أي فأحاط بكل شيء قدرة، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة، وأثبت له كل مقتض لها، وذلك ثمرة شمول العلم - كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك:
﴿أفلا تتذكرون﴾ أي يقع منكم تذكر، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر، وأنها مصنوعكم، وتعجب منهم في ظنهم خوفه من معبوداتهم بقوله منكراً:
﴿وكيف أخاف ما أشركتم﴾ أي من دون الله من الأصنام وغيرها مع أنها لا تقدر على شيء
165
﴿ولا﴾ أي والحال أنكم أنتم لا
﴿تخافون أنكم أشركتم بالله﴾ أي المستجمع لصفات العظمة والقدرة على العذاب والنقمة.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء قال:
﴿ما لم ينزل به﴾ أي بإشراكه؛ ولما كان المقام صعباً لأنه أصل الدين، أثبت الجار والمجرور وقدمه فقال:
﴿عليكم سلطاناً﴾ أي حجة تكون مانعة من إنزاله الغضبَ بكم، والحاصل أنه عليه السلام أوقع الأمن في موضعه وهم أوقعوه في موضع الخوف، فعجب منهم لذلك فبان أن هذا وقول شعيب عليه السلام في الأعراف
﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا﴾ [الأعراف: ٨٩]- الآية، وقوله تعالى في الكهف
﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله﴾ [الكهف: ٢٤] من مشكاة واحدة؛ ولما كان المحذور المنفي هنا إنما هو خوف الضرر من آلهتهم، وكان حصول الضرر لمخالفها بواسطة أتباعها أو غيرهم من سنن الله الجارية في عباده، اقتصر الخليل عليه السلام على صفة الربوبية المقتضية للرأفة والرحمة والكفاية والحماية، وقد وقع في قصته الأمران: إمكانهم من أسباب ضرره بإيقاد النار وإلقائهم له فيها، ورحمته بجعلها عليه برداً وسلاماً؛ ولما كان المحذور في قصة شعيب عليه السلام العود في ملتهم، زاد الإتيان بالاسم الأعظم الجامع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص المقتضي لاستحضار الجلال والعظمة والتفرد والكبر المانع من دنو ساحات الكفر -
166
والله الموفق.
ولما بان كالشمس بما أقام من الدليل أنه أحق بالأمن منهم، قال مسبباً عما مضى تقريراً لهم:
﴿فأيّ الفريقين﴾ أي حزب الله وحزب ما أشركتم به، ولم يقل: فأيّنا، تعميماً للمعنى
﴿أحق بالأمن﴾ وألزمهم بالجواب حتماً بقوله:
﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه؛ ثم وصل بذلك دلالة على أنه لا علم لهم أصلاً ليخبروا عما سئلوا عنه قولَه مستأنفاً:
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الفعل
﴿ولم﴾ أي وصدقوا دعواهم بأنهم لم
﴿يلبسوا إيمانهم﴾ أي يخالطوه ويشوبوه
﴿بظلم﴾.
ولما كان المعنى: أحق بالأمن، عدل عنه إلى قوله مشيراً إليهم بأداة البعد تنبيهاً على علو رتبتهم:
﴿أولئك لهم﴾ أي خاصة
﴿الأمن﴾ أي لما تقدم من وصفهم
﴿وهم مهتدون﴾ أي وأنتم ضالون، فأنتم هالكون لإشرافكم على المهالك
«وتفسيرُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لهذا الظلم المطلق في قوله تعالى ﴿بظلم﴾ بالشرك» الذي هو ظلم موصوف بالعظم في قوله تعالى
﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ [لقمان: ١٣] تنبيه للصحابة رضوان الله عليهم على أن هذا التنوين للتعظيم، ولأنهم أهل اللسان المطبوعون فيه صفوا بذلك واطمأنوا إليه، ولا شك أن السياق كله في التنفير عن الشرك، وأنه دال على الحث على التبريء
167
عن قليل الشرك وكثيره، فآل الأمر إلى أن المراد: ولم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، فالتنوين حينئذٍ للتحقير كما هو للتعظيم، فهو من استعمال الشيء في حقيقته ومجازه أو في معنيه المشترك فيهما لفظه معاً - والله أعلم.
168
ولما كان إبراهيم عليه السلام قد انتصب لإظهار حجة الله في التوحيد والذب عنها، وكان التقدير تنبيهاً للسامع على حسن ما مضى ندباً لتدبره: هذه مقاولة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، عطف عليه قوله معدداً وجوه نعمه عليه وإحسانه إليه، دالاً على إثبات النبوة بعد إثبات الوحدانية:
﴿وتلك﴾ أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه، وعظمه بتعظيمها فقال:
﴿حجتنا﴾ أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا
﴿آتيناها﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿إبراهيم﴾ وأوقفناه على حقيقتها وبصرناه بها، ونبه على ارتفاع شأنها بأداة الاستعلاء مضمناً لآتينا وأقمنا، فقال:
﴿على قومه﴾ أي مستعلياً عليهم غالباً لهم قائمة عليهم الحجة التي نصبها، ثم زاد في الإعلام بفضله بقوله مستأنفاً:
﴿نرفع﴾ أي بعظمتنا
﴿درجات من نشاء﴾ بما لنا من القدرة على ذلك كما رفعنا
168
درجة إبراهيم عليه السلام على جميع أهل ذلك العصر.
ولما كانت محاجته لهم على قانون الحكمة بالعالم العلوي الذي نسبوا الخلق والتدبير بالنور والظلمة إليه، وكان في ختام محاجته لهم أن الجاري على قانون الحكمة أن الملك الحق لا يهين جنده فلا خوف عليهم، وكان قبل ذلك في الاستدلال على البعث الذي هو محط الحكمة؛ كان الأنسب أن يقدم في ختم الآية وصف الحكمة فقال:
﴿إن ربك﴾ أي خاصاً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمخاطبة باسم الإحسان تنبيهاً على أن حَجبَه الدليل عمن يشاء لِحِكَم أرادها سبحانه، ففيه تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿حكيم﴾ أي فلا يفعل بحزبه إلاّ ما ظنه به خليله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يقر أعينهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما
﴿عليم﴾ فلا يلتبس عليه أحد من غيرهم، فيفعل به ما يحل بالحكمة.
ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن
169
أشرف الناس الأنبياء والرسل، وهم من نسله وذريته، ورفع ذكره أبداً لأجل قيامه بالذب عن توحيده:
﴿ووهبنا له﴾ أي لخليلنا عليه السلام بما لنا من العظمة
﴿إسحاق﴾ ولداً له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته
﴿ويعقوب﴾ أي ولد ولد، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سروراً بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته.
ولما كانت النعمة لا تتم إلاّ بالهداية، قال مستأنفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما:
﴿كلاًّ﴾ أي منهما ومن أبيهما
﴿هدينا﴾ ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده، فكأنه يقول: إن كنتم تلزمون دينكم لأنه
170
عندكم حق، فقد تبين لكم بطلانه، وأن الحق إنما هو التوحيد، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين - الذي - دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته - هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى عيسى، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى - على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا به - والله الموفق.
ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك، ولأن السياق لإنكار الأوثان، وهو أول من نهى عن عبادتها، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال:
﴿ونوحاً هدينا﴾ أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج.
ولما كانت لم تتجاوز منه، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال:
171
﴿من قبل﴾ أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده، ولمثل ذلك فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة، وأنه ما حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله؛ ثم ابتدأ المذكورين بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال:
﴿ومن ذريته﴾.
ولما كان السياق كله لمدح الخليل، وكان المذكورون - إلا لوطاً - من نسله، وكان التغليب مستعملاً شائعاً في لسان العرب، لا سيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام، وقولُ من قال: إن يونس عليه السلام ليس من نسله، غير صحيح، بل هو من بني إسرائيل، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة
﴿والصافات﴾ إن شاء الله تعالى، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل، كما اقتضى ذلك
172
كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام، وأما أيوب فروى؛ من نسل عيص بن إسحاق عليهم السلام
﴿داود﴾ أي هديناه
﴿وسليمان﴾ أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله: داود بخطه وتأسيسه، وسليمان بإكماله وتشييده.
وما كان مع ذلك ملكين، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال:
﴿وأيوب﴾ وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان في أن كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ الله إليه
﴿ويوسف﴾ وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر، واغتنى فشكر، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري - فيما أظن - أنه صرح بأنه ملك، وأيضاً فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه: أيوب بعد أن ماتوا، ويوسف قبل الموت،
173
وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها، وقال له منجموه: يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك على يده، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به في تلك السنة، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه، ثم سدت فم الغار ورجعت، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت وزوَّجَه طالوتُ ابنته، وناصفه ملكه - على ما كان شرط لمن قتل جالوت - مال إليه الناس وأحبوه، فحسده فأراد قتله، فطلبه فهرب منه، فدخل غاراً فنسجت عليه العنكبوت، فقال طالوت: لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت، فأنجاه الله منه؛ وتلاه بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة بلقيس رضي الله عنها؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى
﴿يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩].
174
ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما، فكأن بعض قصصهم وفاق، وبعضها تقابل وطباق، فقال:
﴿وموسى وهارون﴾ ولما كان التقدير: هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى، لم يشغل أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة الضراء، عطف عليه قوله:
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما جزيناهم
﴿نجزي المحسنين *﴾ أي كلهم، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا.
ولما كان المذكوران قبله ممن سلطهما على الملوك، أتبعهما من سلط الملوك عليهما بالقتل فقال:
﴿وزكريا ويحيى﴾ ثم أتبعهما من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وأدام الله سبحانه حياتهما إلى أن يريد سبحانه فقال:
﴿وعيسى وإلياس﴾ ولما كان هؤلاء الأربعة من الصابرين، قال مادحاً لهم على وجه يعم من قبلهم:
﴿كل﴾ أي من المذكورين
﴿من الصالحين *﴾ ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك
175
أمر، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه فقال:
﴿وإسماعيل واليسع﴾ هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب ابن العجوز خليفة إلياس، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل إلى إلياس - وهو من سبط لاوي من نسل هارون عليه السلام - فرساً من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله على آجب - يعني الملك الذي سلط على إلياس - عدواً فقتله ونَبأ الله اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون - كما قال زيد بن أسلم - فالمناسبة بينه وبين إسماعيل عليهما السلام أن كلاًّ منهما كان صادق الوعد، لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى عليه السلام حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى
﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً﴾ [المائدة: ١٢] وقوله
﴿وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما﴾ [المائدة: ٢٣] وأيضاً فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة - كما سيأتي
176
في سورة يونس إن شاء الله تعالى.
ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، أتبعهما مَن هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال:
﴿ويونس﴾ أي هديناه؛ ولما انقضت ذرية إبراهيم عليه السلام، ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة، ووفاق من حيث إن كلاًّ منهما أرسل إلى غير قومه فقال:
﴿ولوطاً﴾ ثم وصفهم بما يعم من قبلهم فقال:
﴿وكلاًّ﴾ أي ممن ذكرنا
﴿فضلنا﴾ أي بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة
﴿على العالمين *﴾ فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده، وبدأهم تعالى بإبراهيم عليه السلام وختمهم بابن أخيه لوط عليه السلام على هذه المناسبة الحسنة؛ وقيل: إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم - نمرود وجنوده - بعد هجرته، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس عليه السلام طباق.
ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضاً أن إسماعيل عليه السلام يوازي نوحاً عليه السلام، فإنه رابع في العدّ لهذا العقد إذا عددته من آخره، كما أن نوحاً عليه السلام رابعه إذا عددته من أوله، والمناسبة بينهما أن
177
نوحاً عليه السلام نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أباً للأنبياء والمرسلين، وإسماعيل عليه السلام نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم عليه السلام وبعدها - وهما نوح ولوط عليهما السلام - أهلك الله قوم كل منهما عامة، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء، وأشقى بكل منهما زوجته، بياناً لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم عليهم السلام في أن كلاًّ من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفاً ممن يغير دينه ويسلبه ملكه، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوطاً عليه السلام من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون عليهما السلام من ملك زمانهما المدعي للآلهة، وأنجى ذرية إبراهيم بهما، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطاً - لكونه تابعاً له - واحداً، وموسى وأخاه هارون واحداً لمثل ذلك، ونظمت أسماء جميع هذه
178
الأنبياء في سلك النقي: لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون، وكان الأربعة واسطة عقدة، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله
﴿فبهداهم اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠] كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم، ويكون من بين يديه تسعة، ومن خلفه تسعة، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة، ومن لوط إلى هارون كذلك، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسط العقد ومكمل العقد، فإنه العاشر من كل جانب، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى، وذلك طبق قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه:
«مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وللبخاري نحوه عن جابر، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسباً صاحب القصة إبراهيم عليه السلام، وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر، فإن عددت من جهة إبراهيم عليه السلام كان بينه وبينهما ثمانية، وإن عددت
179
من جهة لوط عليه السلام كان كذلك.
180
ولما نص سبحانه على هؤلاء، وختم بتفضيل كل على العالمين، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهدياً، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم، فقال ترغيباً في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثاً على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه:
﴿ومن﴾ أي وهدينا أو وفضلنا من
﴿آبائهم﴾ أي أصولهم
﴿وذرياتهم﴾ أي من فروعهم من الرجال والنساء
﴿وإخوانهم﴾ أي فروع أصولهم، وعطف على العامل المقدر قوله:
﴿واجتبيناهم﴾ أي واخترناهم، ثم عطف عليه بيان ما هدوا إليه حثاً لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال:
﴿وهديناهم﴾ أي بما تقدم من الهداية
﴿إلى صراط مستقيم *﴾ وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم.
ولما كان ربما أوهم تنكيرُه نقصاً فيه، قال مستأنفاً بياناً لكماله وتعظيماً لفضله وإفضاله:
﴿ذلك﴾ أي الهدى العظيم الرتبة
﴿هدى الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال
﴿يهدي﴾ أي يخلق الهداية
﴿به﴾ أي بواسطة الإقامة عليه
﴿من يشاء من عباده﴾ أي سواء كان له أب
180
يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا؛ ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله، تهدد من تركه كائناً من كان، فقال مظهراً لعز الإلهية بالغنى المطلق منزهاً نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ:
﴿ولو أشركوا﴾ أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعتَ وبينّا من اختصاصنا لهم ما علمت - شيئاً من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك، وأقام بهم معوج المسالك، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها والعرض
﴿لحبط عنهم﴾ أي فسد وسقط
﴿ما كانوا يعملون *﴾ أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم، وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله:
﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوا سقطت أعمالهم
﴿الذين آتيناهم﴾ أي بعظمتنا
﴿الكتاب﴾ أي الجامع لكل خير، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم
﴿والحكم﴾ أي العمل المتقن بالعلم، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن
﴿والنبوة﴾ أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتين، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم
181
من العلم، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات؛ ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمَها بأنها لا تبور، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة اكثر المدعوين:
﴿فإن يكفر بها﴾ أي هذه الأشياء العظيمة
﴿هؤلاء﴾ أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم، وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وهم عنه معرضون، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم
﴿فقد وكلنا﴾ أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال
﴿بها قوماً﴾ أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها
﴿ليسوا﴾ وقدم الجار اهتماماً فقال:
﴿بها بكافرين *﴾ أي بساترين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها، وهم الأنبياء ومن تبعهم، وقد صدق الله - ومن أصدق من الله حديثاً! فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخيار والراسخين الأحبار من لا يحصيهم إلا الله.
ولما كان المراد بسوقهم هكذا - والله أعلم - أن كلاًّ منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك، لم يُشْغِل
182
أحداً منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى الدعاء إليه على كل حال؛ قال مستأنفاً لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم، مؤكداً لإثبات الرسالة:
﴿أولئك﴾ أي العالو المراتب
﴿الذين هدى الله﴾ أي الملك الحائز لرتب الكمال، الهدى الكامل، ولذلك سبب عن مدحهم قوله:
﴿فبهداهم﴾ أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها
﴿اقتده﴾ وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف - وهي ثابتة في جميع المصاحف - إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال:
﴿قل﴾ أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقى
﴿لا أسئلكم﴾ أي أيها المدعوون
﴿عليه﴾ أي على الدعاء
﴿أجراً﴾ فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد؛ ثم استأنف قوله:
﴿إن﴾ أي ما
﴿هو﴾ أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به
﴿إلا ذكرى﴾ أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد
﴿للعالمين *﴾ أي الجن والإنس والملائكة دائماً، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم، وتركوا من يجب الاقتداء به. ولما حصر الدعاء في الذكرى، وكان ذلك نفعاً لهم ورفقاً بهم، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئاً ولا ينقص
183
إعراضُهم من عظمته شيئاً، لأن كل ذلك بإرادته؛ بني حالاً منهم، فقال تأكيداً لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاماً لهم بما هم معترفون به، أما أهل الكتاب فعلماً قطعياً، وأما العرب فتقليداً لهم ولأنهم سلموا لهم العلمَ وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وما﴾ أي فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما
﴿قدروا﴾ أي عظموا
﴿الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال
﴿حق قدره﴾ أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له؛ قال الواحدي: يقال قدر الشيء - إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره - يقدره - بالضم - قدراً، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فإن غم عليكم فاقدروا له»، أي فاطلبوا أن تعرفوه - هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن عرف شيئاً: هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته: إنه لا يقدر قدره
﴿إذ﴾ أي حين
﴿قالوا﴾ أي اليهود، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم، ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه
﴿ما أنزل الله﴾ أي ناسين ما له من صفات الكمال
﴿على بشر من شيء﴾ لأن
184
من نسب مَلِكاً تام الملك إلى أنه لم يُثبِت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً! وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين، أسند إلى الكل، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعاً للشأن وتهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئاً عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها، من فرّط فيه هلك وأهلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى - يعني هذه الآية، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلو ذلك، وملزماً بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم ناعياً عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخاً لهم وتوقيفاً على
185
موضع جهلهم
﴿من أنزل الكتاب﴾ أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة
﴿الذي جاء به موسى﴾ أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه، حال كون ذلك الكتاب
﴿نوراً﴾ أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاقّ موضعه
﴿وهدى للناس﴾ أي ذا هدى لهم كلهم، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه، وكذا عند إنزال القرآن، فقد بان أنه هدى في كل زمان تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره؛ ثم بين أنهم اخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعاً منهم للهوى ولزوماً للعمى فقال:
﴿تجعلونه﴾ أي أيها اليهود
﴿قراطيس﴾ اي أوراقاً مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم
﴿تبدونها﴾ أي تظهرونها للناس
﴿وتخفون كثيراً﴾ أي منها ما تريدون به تبديل الدين - هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله! ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاماً بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاماً، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم، ولا زادوا عليهم في علم، فقال:
﴿وعلمتم﴾ أي أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى
﴿ما لم تعلموا أنتم﴾ أي
186
أيها اليهود من أهل هذا الزمان
﴿ولا آباؤكم﴾ أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم.
ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم، قال مشيراً إلى عنادهم:
﴿قل﴾ أي أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم
﴿الله﴾ أي الذي أنزل ذلك الكتاب
﴿ثم﴾ بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئاً بل
﴿ذرهم في خوضهم﴾ أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون
﴿يلعبون *﴾ أي يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً مع تضييع الزمان.
187
ولما أثبت سبحانه أنه الذي أنزل التوراة والإنجيل تكميلاً لإثبات الرسالة بدليل علم اليهود دون من لا كتاب لهم، عطف على ذلك قوله تأكيداً لإثباتها وتقريراً:
﴿وهذا﴾ أي القرآن الذي هو حاضر الآن في جميع الأذهان
﴿كتاب﴾ أي جامع لخيري الدارين، وكان السياق لأن يقال: أنزل الله، ولكنه أتى بنون العظمة، لأنها أدل على تعظيمه فقال:
﴿أنزلناه﴾ أي وليس من عند محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
187
من نفسه، وإنما هو بإنزالنا إياه إليه وإرسالنا له به
﴿مبارك﴾ أي كثير الخير ثابت الأمر، لا يقدر أحد من الخلق على إنكاره لإعجازه، لتعلم أهل الكتاب خصوصاً حقيقته بتصديقه لكتابهم لأنه
﴿مصدق الذي بين يديه﴾ أي كله من كتبهم وغيرها، فيكون أجدر لإيمانهم به، وتعلم جميع أهل الأرض عموماً ذلك بذلك وبإعجازه
﴿ولتنذر﴾ أي به
﴿أم القرى﴾ أي مكة لأنها أعظم المدن بما لها من الفضائل
﴿ومن حولها﴾ ممن لا يؤمن بالآخرة فهو لا يؤمن به من أهل الأرض كلها من جميع البلدان والقرى، لأنها أم الكل، وهم في ضلالتهم مفرطون
﴿والذين يؤمنون بالآخرة﴾ أي فيهم قابلية الإيمان بها على ما هي عليه، من أهل أم القرى ومن حولها بكل خير ينشرون
﴿يؤمنون به﴾ أي بالكتاب بالفعل لأن الإيمان بها داع إلى كل خير بالخوف والرجاء، والكفر بها حامل على كل بشر.
ولما تكرر وصف المنافقين بالتكاسل عن الصلاة جعل المحافظة عليها علماً على الإيمان فقال:
﴿وهم على صلاتهم يحافظون *﴾ أي يحفظونها غاية الحفظ، فالآية من عجيب فن الاحتباك: ذكر الإندار والأم أولاً دالاً على حذفهما ثانياً، وإثبات الإيمان والصلاة ثانياً دليل على نفيهما أولاً.
188
ولما كان في قولهم
«ما أنزل الله على بشر من شيء» صريح الكذب وتضمن تكذيبه - وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أما من اليهود فبالفعل، وأما من قريش فبالرضى، وكان بعض الكفرة قد ادعى الإيحاء إلى نفسه إرادة للطعن في القرآن؛ قال تعالى مهولاً لأمر الكذب لا سيما عليه لا سيما في أمر الوحي، عاطفاً على مقول
«قل من أنزل» مبطلاً للتنبؤ بعد تصحيح أمر الرسالة وإثباتها إثباتاً لا مرية فيه، فكانت براهين إثباتها أدلة على إبطال التنبؤ وكذب مدعيه:
﴿ومن أظلم ممن افترى﴾ أي بالفعل كاليهود والرضى كقريش
﴿على الله كذباً﴾ أي أيّ كذب كان، فضلاً عن إنكار الإنزال على البشر
﴿أو قال أوحي إليّ ولم﴾ أي والحال أنه لم
﴿يوح إليه شيء﴾ فهذا تهديد على سبيل الإجمال كعادة القرآن المجيد، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما، ثم رأيت في كتاب غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود للسموأل بن يحيى المغربي الذي كان من أجل علمائهم في حدود سنة ستين وخمسمائة، ثم هداه الله للإسلام، وكانت له يد طولى في الحساب والهندسة والطب وغير ذلك من العلوم، فأظهر
189
بعد إسلامه فضائحَهم أن الربانيين منهم زعموا أن الله كان يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات، ثم قال بعد أن قسمهم إلى قرّائين وربانيين: إن الربانيين أكثرهم عدداً، وقال: وهم الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسالة بالصواب، قال: وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم
﴿ومن قال سأنزل﴾ أي بوعد لا خلف فيه
﴿مثل ما أنزل الله﴾ كالنضر بن الحارث ونحوه.
ولما كان الجواب قطعاُ في كل منصف: لا أحد أظلم منه، بل هم أظلم الظالمين، كان كأنه قيل: فلو رأيتهم وقد حاق بهم جزاء هذا الظلم كرد وجوههم مسودة وهم يسحبون في السلاسل على وجوههم، وجهنم تكاد تتميز عليهم غيظاً، وهم قد هدّهم الندم والحسرة، وقطع بهم الأسف والحيرة لرأيت أمراً يهول منظره، فكيف يكون مذاقه ومخبره! فعطف عليه ما هو أقرب منه، فقال كالمفصل لإجمال ذلك التهديد مبرزاً بدل ضميرهم الوصف الذي أداهم إلى ذلك:
﴿ولو ترى﴾ أي يكون منك رؤية فيما هو دون ذلك
﴿إذ الظالمون﴾ أي لأجل مطلق الظلم فكيف بما ذكر منه! واللام للجنس الداخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً
﴿في غمرات الموت﴾ أي شدائده التي قد غمرتهم كما يغمر البحر الخضم من يغرق فيه، فهو يرفعه ويخفضه ويبتلعه ويلفظه، لا بد له
190
منه
﴿والملائكة﴾ أي الذين طلبوا جهلاً منهم إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لفصل الأمور وإنجاز المقدور
﴿باسطوا أيديهم﴾ أي إليهم بالمكروه لنزع أرواحهم وسلّها وافية من أشباحهم كما يسل السفود المشعب من الحديد من الصوف المشتبك المبلول، لا يعسر عليهم تمييزها من الجسد، ولا يخفى عليهم شيء منها في شيء منه، قائلين ترويعاً لهم وتصويراً للعنف والشدة في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط الملازم
﴿أخرجوا أنفسكم﴾ فكأنهم قالوا: لماذا يا رسل ربنا؟ فقالوا:
﴿اليوم﴾ أي هذه الساعة، وكأنهم عبروا به لتصوير طول العذاب
﴿تجزون عذاب الهون﴾ أي العذاب الجامع بين الإيلام العظيم والهوان الشديد والخزي المديد بالنزع وسكرات الموت وما بعده في البرزخ - إلى ما لا نهاية له
﴿بما كنتم تقولون﴾ أي تجددون القول دائماً
﴿على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿غير الحق﴾ أي غير القول المتمكن غاية التمكن في درجات الثبات، ولو قال بدله: باطلاً، لم يؤد هذا المعنى، ولو قال: الباطل، لقصر عن المعنى أكثر، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا، وإذا نظرت إلى أن السياق لأصول الدين ازداد المراد وضوحاً
﴿وكنتم﴾ أي وبما كنتم
﴿عن آياته تستكبرون *﴾
191
أي تطلبون الكبر للمجاوزة عنها، ومن استكبر عن آية واحدة كان مستكبراً عن الكل، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً فظيعاً وحالاً هائلاً شنيعاً، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم.
192
ولما كانوا ينكرون أن يحس الميت شيئاً بعد الموت أو يفهم كلاماً، وكان التقدير كما دل عليه السياق: فتتوفاهم الملائكة، لا يقدر أحد على منعهم، فيقول لهم: قد رأيتم ملائكتنا الذين أخبرناكم أول السورة أنهم إذا أبصروا كان القضاء الفصل والأمر البت الحتم الذي ليس فيه مهل، عطف عليه قوله مشيراً إلى ما كان سبب استكبارهم من الاجتماع على الضلال والتقوى بالأموال:
﴿ولقد جئتمونا﴾ أي لما لنا من العظمة بالموت الذي هو دال على شمول علمنا وتمام قدرتنا قطعاً، ودل على تمام العظمة وأن المراد مجيئهم بالموت قوله:
﴿فرادى﴾ أي متفرقين، ليس أحد منكم مع أحد، ومنفردين على كل شيء صدكم عن اتباع رسلنا
﴿كما خلقناكم﴾ أي بتلك العَظمة التي أمتناكم بها بعينها
﴿أول مرة﴾ في الانفراد والضعف والفقر، فأين جمعكم الذي كنتم به تستكبرون!
﴿وتركتم ما خولناكم﴾ أي ملكناكم من المال ومكناكم من إصلاحه نعمة عليكم لتتوصلوا به إلى رضانا، فظننتم أنه لكم بالأصالة، وأعرضتم عنا وبدلتم ما دل
192
عليه من عظمتنا بضد ذلك من الاستهانة بأوامرنا
﴿وراء ظهوركم﴾ فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكبرون.
ولما كانوا يعدون الأصنام آلهة، ويرجون شفاعتها، إما استهزاء، وإما في الدنيا، وإما في الآخرة - على تقدير التسليم لصحة البعث، قال تهكماً بهم واستهزاء بشأنهم:
﴿وما نرى معكم شفعاءكم﴾ أي التي كنتم تقولون فيها ما تقولون
﴿الذين زعمتم﴾ أي كذباً وجراءة وفجوراً
﴿أنهم فيكم شركاء﴾ أي أن لهم فيكم نصيباً مع الله حتى كنتم تعبدونهم في وقت الرخاء وتدعونه في وقت الشدة، أروناهم لعلهم سترهم عنا ساتر أو حجبنا عنهم حاجب؛ ثم دل على بهتهم في جواب هذا الكلام الهائل المرعب حيرة وعجزاً ودهشاً وذلاً بقوله:
﴿لقد تقطع﴾ أي تقطعاً كثيراً.
ولما كان ذكر البين في شيء يدل على قربه في الجملة وحضوره ولو في الذهن، لأنه يقال: بيني وبين كذا كذا، وكان فلان بيننا، ونحو ذلك مما يدل على الحضور؛ قال منبهاً على زوال ذلك حتى بالمرور بالبال والخطور في الذهن لشدة الاشتغال
﴿بينكم﴾ فأسند القطع المبالغ فيه إلى البين، وإذا انقطع البين تقطّع ما كان فيه من الأسباب التي كانت تسبب الاتصال، فلم يبق لأحد منهم اتصال
193
بالآخر، لأن ما بينهما صار كالخندق بانقطاع نفس البين، فلا يتأتى معه الوصول، هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وهذا المثال معنى قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على الظرفية؛ ولما رجع المعنى إلى تقطع الوصل، بين سبب ذلك، وهو زوال المستند الذي كانوا يستندون إليه فقال:
﴿وضل عنكم﴾ أي ذهب وبطل
﴿ما كنتم تزعمون *﴾ أي من تلك الأباطيل كلها.
ولما ثبتت الوحدانية والنبوة والرسالة وتقاريع من تقاريعها، وانتهى الكلام هنا إلى ما تجلى به مقام العظمة، وانكشف له قناع الحكمة وتمثل نفوذ الكلمة، فتهيأ السامع لتأمله، وتفرع فهمه لتدبره؛ قال دالاً عليه مشيراً إليه، معلماً أن ما مضى أنتجه وأظهره لا بد وأبرزه، مذكراً بآياته
﴿والذين يؤمنون بالآخرة﴾ وبمحاجة إبراهيم عليه السلام، مصرفاً ما مضى أول السورة من دلائل الوحدانية على أوجه أخرى، إعلاماً بأن دلائل الجلال تفوق عدد الرمال، وتنبيهاً على أن القصد بالذات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته:
﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، فهو قادر على كل ما يريد
﴿فالق الحب﴾ أي فاطره وشاقه عن الزروع والنبات، وعبر بذلك لأن الشيء قبل وجوده كان معدوماً، والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة،
194
فإذا خرج من العدم المحض والفناء الصرف فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم
﴿والنوى﴾ أي وهو ما يكون داخل الثمار المأكولة كالتمر، ولا يكون مقصوداً لذاته بفلقها عن الأشجار، وفي ذلك حكم وأسرار تدق عن الأفكار، وتدل على كمال الواحد المختار؛ قال الإمام الرازي ما حاصله: إن النواة والحبة تكون في الأرض الرطبة مدة، فيظهر الله فيها شقاً في أعلاها وآخر في أسفلها، وتخرج الشجرة من الأعلى فتعلو وتهبط من الأسفل شجرة أخرى في أعماق الأرض، هي العروق، وتلك الحبة أو النواة سبب واصل بين الشجرتين: الصاعدة والهابطة، فيشهد الحس والعقل بأن طبع الصاعدة والهابطة متعاكس، وليس ذلك قطعاً بمقتضى الطبع والخاصية، بل بالإيجاد والاختراع والتكوين والإبداع، ولا شك أن العروق الهابطة في غاية اللطافة والرقة بحيث لو دلكت باليد بأدنى قوة صارت كالماء، وهي مع ذلك تقوى على النفوذ في الأرض الصلبة التي لا ينفذ فيها المسلّة والسكين الحادة إلا بإكراه عظيم، فحصول هذا النفوذ لهذه الأجرام اللطيفة لا يكون قطعاً إلا لقوة الفاعل المختار، لا سيما إذا تأملت ظهور شجرة من نواة صغيرة، ثم تجمع الشجرة طبائع مختلفة في قشرها ثم فيما تحته من جرم الخشبة، وفي وسط تدوير الخشبة جرم ضعيف كالعهن المنفوش، ثم يتولد من ساقها أغصانها، ومن الأغصان أوراقها
195
أولاً ثم أنوارها وأزهارها ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشور، مثل الجوز واللوز قشره الأعلى ذلك الجرم الأخضر، وتحته القشر الذي كالخشب، وتحته القشر الذي كالغطاء الرقيق المحيط باللبة، وتحته اللب المشتمل على جرم كثيف هو أيضاً كالقشرة، وعلى جرم لطيف هو الزهر، وهو المقصود بالذات، فتولدُ هذه الأجسام المختلفة طبعاً وصفة ولوناً وشكلاً وطعماً مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والعناصر والفصول الأربعة دال على القادر المختار بتلوه في الفرحة، وقد تجتمع الطبائع الأربعة في الفاكهة الواحدة كالأترج قشره حار يابس ونوره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه يابس حار رطب مع أنك تجد أحوالها مختلفة، بعضها لبه في داخله وقشره في خارجه كالجوز واللوز، وبعضها يكون المطلوب منه في الخارج وخشبه في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضه لا لب لنواه كالتمر، وبعضه يكون كله مطلوباً كالتين، واختلاف هذه الطبائع والأحوال المتضادة والخواص المتنافرة حتى في الحبة الواحدة لا يكون عن طبيعة، بل عن الواحد المختار، والحبوب مختلفة الألوان والأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف مخروط، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل الحمص على وجه آخر، وأودع سبحانه في كل نوع منها خاصية ومنفعة غير ما في الآخر، وقد تكون الثمرة غذاء لحيوان
196
وسمّاً لحيوان آخر، فهذا الاختلاف مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب دالّ على أنها إنما حصلت بالفاعل المختار، ثم إنك تجد في ورقة الشجرة خطاً في وسطها مستقيماً نسبته لتلك الورقة نسبة النخاع إلى بدن الإنسان، ينفصل عنه خيوط مختلفة، وعن كل واحد منها خيوط أخرى أدق من الأولى، ولا يزال على هذا النهج حتى تخرج الخيوط عن الحس والبصر، كما أن النخاع يتفصل منه أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في البدن، ثم لا يزال يتفصل عن كل شعبة أخرى، ولا يزال يستدق حتى تلطف عن الحس، فعل سبحانه ذلك في الورقة لتقوى القوى المذكورة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، فهذا يعلمك أن عنايته سبحانه في اتخاذ جملة تلك الشجرة أكمل، فعنايته في تكوين جملة النبات أكمل، وهو إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان فعنايته في تخليق الحيوان أكمل، والمقصود من تخليق جملة الحيوان هو الإنسان فعنايته في تخليقه أكمل، وهو سبحانه إنما خلق الحيوان والنبات في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده، والمقصود من جسده حفظ تركيبه لأجل المعرفة والمحبة والعبودية، فسبيلك أن تنظر في ورقة الشجرة وتتأمل في تلك الأوتار ثم تترقى منها إلى أوج تخليق الشجرة ثم إلى ما فوقها رتبة رتبة لتعلم أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، وحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن نعم الله في خلقك غير متناهية
﴿وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها﴾ [إبراهيم: ٣٤]- والله الهادي.
197
ولما كان فلقهما عن النبات من جنس الإحياء لما فيه من النمو فسر معنى الفلق وبينه إشارة إلى الاعتناء به وقتاً بعد وقت بقوله:
﴿يخرج﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار تثبيتاً لأمر البعث
﴿الحي﴾ أي كالنجم والشجر والطير والدواب
﴿من الميت﴾ من الحب والنوى والبيض والنطف فكيف تنكرون قدرته على البعث؛ ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها لئلا يتوهم - لو كان لا يخرج عن شيء إلا مثله - أن الفاعل الطبيعة والخاصية، عطف على
﴿فالق﴾ زيادة في البيان قوله معبراً باسم الفاعل الدال على الثبات لأنه لا منازعة لهم فيه، فلم تدع حاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد:
﴿ومخرج الميت﴾ أي من الحب وما معه
﴿من الحي﴾ أي من النجم وما معه.
ولما تقررت له سبحانه هذه الأوصاف التي لا قدرة أصلاً لأحد غيره على شيء منها، قال منبهاً لهم على غلطهم في إشراكهم، إعلاماً بأن كل شريك ينبغي أن يساوي شريكه في شيء ما من الأمر المشرك فيه، ولا مكافئ له سبحانه وتعالى في شيء من الأشياء فلا شريك له بوجه:
﴿ذلكم﴾ أي العالي المراتب المنيع المراقي هو
﴿الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال وحده فلا يحق الإلهية إلا له؛ ولما كان هذا
198
معنى الكلام، سبب عنه قوله:
﴿فأنَّى﴾ أي فكيف ومن أيّ وجه
﴿تؤفكون *﴾ أي تصرفون وتقلبون عما ينبغي اعتقاده.
ولما وصف سبحانه وتعالى نفسه المقدسة من فلق الجواهر بما اقتضى حتماً اتصافه بصفات الكمال، وقدمه لكونه من أظهر أدلة القدرة على البعث الذي هذا أسلوبه، مع الإلف له بقربه ومعالجته، أتبعه ما هو مثله في الدلالة على الإحياء لكنه في المعاني وهو سماوي، شارحاً لما أشار إليه الخليل عليه السلام في محاجة قومه من إبطال إلهية كل من النور والظلمة والكواكب التي هي منشأ ذلك، فقال ترقية من العالم السفلي إلى العالم العلوي:
﴿فالق الإصباح﴾ أي موجده، وحقيقته: فالق ظلمة الليل عن الصباح، لكنه لما كثر استعماله وأمن اللبس فيه أسند الفعل إلى الصبح، كما يقال: انفجر الصبح، وانفجر عنه الليل، ويمكن أن يراد بالفلق الكشف، لأنه يكشف من المفلوق ما كان خفياً، فعبر عن المسبب الذي هو الإظهار بالسبب الذي هو الفلق، وعبر عن الصباح بهذه الصيغة التي يقال المدخول في الصبح لتصلح لإرادة فلق السكون بالنور أو غيره عن التصرف بالحركة المرتبة على الدخول في الصبح، فدلنا ذلك على وجاعل الإصباح حركة وسادل الليل
﴿وجاعل الَّيل﴾ بما يكون من إظلامه
﴿سكناً﴾ يسكن الناس فيه وإليه ويستريحون فيه، فالآية من الاحتباك: حذف من الأول الحركة ودل
199
عليها بالسكن، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق، وهذا الفلق من أعظم الدلائل على قدرته سبحانه، وفيه دلالتان لأن الإصباح يشمل الفجر الكاذب والصادق، والأول أقوى دلالة لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع - الذي تكون تلك الدائرة أفقاً له - تطلع الشمس من مشرقه، فيضيء في ذلك الموضع نصف كرة الأرض، فيحصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتك، ويكون ذلك الضوء منتشراً مستطيراً في جميع الجو، ويجب أن يقوى لحظة فلحظة، فلو كان الأول من قرص الشمس لامتنع أن يكون خطاً مستطيلاً، بل كان يجب أن يكون مستطيراً في الأفق منتشراً متزايداً لحظة فلحظة، لكن ليس هو كذلك، فإنه يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى شبهته العرب بذنب السِرحان ثم يحصل عقبه ظلمة خالصة، ثم يكون الثاني الصادق المستطير فكان الأول أدل على القدرة، لأنه بتخليق الله ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بإبداعه، والظلمات ليس لها ثبات إلا بتقديره.
ولما ذكر الضياء والظلمة، ذكر منشأهما وضم إليه قرينه فقال عاطفاً على محل
﴿والليل﴾ لأن جاعلاً ليس بمعنى المضيء فقط لتكون الإضافة حقيقية، بل المراد استمراره في الأزمنة كلها:
﴿والشمس﴾ أي التي ينشأ عنها كل منهما، هذا عن غروبها وهذا عن شروقها
200
﴿والقمر﴾ أي الذي هو آية الليل
﴿حسباناً﴾ أي ذويّ حسبان وعَلَمَين عليه، لأن الحساب يعلم بدورهما وسيرهما، وبسبب ذلك نظم سبحانه مصالح العالم في الفصول الأربعة، فيكون عن ذلك ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات، وعبر عنهما بالمصدر المبني على هذه الصيغة البليغة إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم كبير النفع كثير الدخول، مع ما له من الدنيا في أبواب الدين فهو جل نفعهما الذي وقع التكليف به، فكأنه لما كان الأمر كذلك، كان حقيقتهما التي يعبر عنهما بها، وأما غير ذلك من منافعهما فلا مدخل للعباد فيه.
ولما كان هذا أمراً باهراً ووصفاً قاهراً، أشار إليه بأداة البعد فقال:
﴿ذلك﴾ أي التقدير العظيم الذي تقدم من الفلق وما بعده
﴿تقدير العزيز﴾ أي الذي لا يغالب فهو الذي قهرهما على ما سيّرهما فيه، وغلب العباد على ما دبر من أمرهم بهما، فلو أراد أحد أن يجعل ما جعله من النوم يقظة واليقظة نوماً، أو يجعل محل السكن للحركة أو بالعكس أو غير ذلك مما أشارت إليه الآية لأعياه ذلك
﴿العليم *﴾ أي الذي جعل ذلك بعلمه على منهاج لا يتغير وميزان قويم لا يزيغ.
201
ولما ذكر ذلك، أتبعه منفعة أخرى تعمهما مع غيرهما مبيناً ما أذن
201
فيه من علم النجوم ومنافعها فقال:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي جعل﴾ ولما كانت العناية بنا أعظم، قدم قوله:
﴿لكم النجوم﴾ أي كلها سائرها وثابتها وإن كان علمكم يقصر عنها كلها كما يقصر عن الرسوخ والبلوغ في علم السير للسيارة منه
﴿لتهتدوا﴾ أي لتكلفوا أنفسكم علم الهداية
﴿بها﴾ لتعلموا القبلة وأوقات الصلوات والصيام وغير ذلك من منافعكم دنيا وديناً.
ولما كانت الأرض والماء ليس لهما من نفسهما إلا الظلمة، وانضمت إلى ذلك ظلمة الليل، قال:
﴿في ظلمات البر﴾ أي الذي لا عَلَم فيه، وإن كانت له أعلام فإنها قد تخفى
﴿والبحر﴾ فإنه لا عَلَم به، والإضافة إليهما للملابسة أو تشبيه الملبَّس من الطرق وغيرها بالظلمة؛ روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جزء جمعه في النجوم من طريق أحمد بن سهل الأشناني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون في البر والبحر ثم انتهوا، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وتعرفون ما يحل لكم ويحرم عليكم من النساء ثم انتهوا. وفيه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على المسند عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا علي! أسبغ الوضوء وإن شق عليك، ولا تأكل الصدقة ولا تنز الحمير على
202
الخيل، ولا تجالس أصحاب النجوم» وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«لا تسألوا عن النجوم، ولا تفسروا القرآن برأيكم، ولا تسبوا أصحابي، فإن ذلك الإيمان المحض» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن النظر في النجوم - رواه من طرق كثيرة؛ وعن عائشة رضي الله عنها مثله سواء، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا» - رواه من طرق وأسند عن قتادة قوله تعالى
﴿وأنهاراً وسبلاً﴾ [النحل: ١٥] قال: طرقاً
﴿وعلامات﴾ [النحل: ١٦] قال: هي النجوم، قال: إن الله عز وجل إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها شيئاً غير ذلك فقد أخطأ حظه وقال رأيه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به - في كلام طويل حسن، وهذا الأثر الذي عن قتادة أخرجه عنه البخاري في صحيحه، وقال صاحب كنز اليواقيت في استيعاب المواقيت في مقدمة الكتاب: واعلم أن العلم منه محمود، ومنه مذموم لا يذم لعينه، إنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثة: أولها أن يكون مؤدياً إلى ضرر كعلم السحر
203
والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن به وأنه سبب للتفرقة بين الزوجين، وسحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومرض بسببه، حتى أخبره جبرئيل عليه السلام وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر - كما ورد في الحديث الصحيح؛ ومعرفة ذلك من حيث إنه معرفة ليس مذموماً، أو من حيث إنه لا يصلح إلا لإضرار بالخلق يكون مذموماً.
والوسيلة إلى الشر شر؛ الثاني أن يكون مضراً بصاحبه في غالب الأمر كالقسم الثاني من علم النجوم الاحكامي المستدل به على الحوادث بالأسباب كاستدلال الطبيب بالنبض على ما يحدث من المرض، وهو معرفة مجاري سنة الله وعادته في خلقه، ولكنه ذمه الشرع وزجر عنه لثلاثة أوجه: أحدها أنه يضر بأكثر الناس فإنه إذا قيل: هذا الأمر لسبب سير الكواكب، وقر في نفس الضعيف العقل أنه مؤثر، فينمحي ذكر الله عن قلبه، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط بخلاف العالم الراسخ، فإنه يطلع على الشمس والقمر والنجوم مسخرات، وفرق كبير بين من يقف مع الأسباب وبين من يترقى إلى مسبب الأسباب، ثم ذكر ما حاصله أن السبب الثاني في النهي عنه أنه تخمين لا يصل إلى القطع؛ والثالث أنه لا فائدة فيه، فهو خوض في
204
فضول، وأن السبب الثالث مما يذم به ما يذم من العلوم أنه مما لا تبلغه عقول أكثر الناس ولا يستقل به، ولا ينكر كون العلم ضاراً لبعض الأشخاص كما يضر لحم الطير بالرضيع - انتهى. وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وقال صاحب كتاب الزينة في آخر كتابه بعد أن ذكر العيافة والزجر ونحوهما، ويأتي أكثره عنه في سورة الصافات: وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
«إياكم والنجوم! فإنها تدعو إلى الكهانة»، قال: هذه الأشياء كلها لها أصل صحيح، فمنها ما كانت من علوم الأنبياء مثل النجوم والخط وغير ذلك، ولولا الأنبياء الذين أدركوا علم النجوم وعرفوا مجاري الكواكب في البروج وما لها من السير في استقامتها ورجوعها، وما قد ثبت وصح من الحساب في ذلك بما لا ارتياب فيه، لما قدر الناس على إدراكه، وذلك كله بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام، وقد روي أن إدريس عليه السلام أول من علم النجوم، وروي في الخط أنه كان علم نبي من الأنبياء، ولولا ذلك لما أدرك الناس هذه اللطائف ولا عرفوها.
ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حداً علا عن
205
طوق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن، فكانت فخراً يتوقع فيه التنبيه عليه فقال:
﴿قد فصلنا﴾ أي بينا بياناً شافياً على ما لنا من العظمة
﴿الآيات﴾ واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع والمثال الرفيع؛ ولما كانت من الوضوح في حد لا يحتاج إلى كثير تأمل قال:
﴿لقوم يعلمون *﴾ أي لهم قيام فيما إليهم، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب.
ولما ذكر سبحانه بعض هذا الملكوت الأرضي والسماوي، أتبعه - كما مضى في أول السورة - الخلق المفرد الجامع لجميع الملكوت، وهو الإنسان، دالاً على كمال القدرة على كل ما يريد، مبطلاً بمفاوتة أول الإبداع وآخر الآجال ما اعتقدوا في النور والظلمة والشمس والقمر وغيرهما، لأن واحداً منها لا اختيار له في شيء يصدر عنه، بل هو مسخر ومقهور كما هو محسوس ومشهور، فقال:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي أنشأكم﴾ أي وأنتم في غاية التفاوت في الطول والقد واللون والشكل وغير ذلك من الأعراض التي دبرها سبحانه على ما اقتضته حكمته
﴿من نفس واحدة﴾ ثم اقتطع منها زوجها ثم فرّعكم منهما.
ولما كان أغلب الناس في الحياة الدنيا يعمل عمل من لا يحول ولا يزول، لا يكون على شرف الزوال ما دامت فيه بقية
206
من حياة، قال:
﴿فمستقر *﴾ أي فسبب عن ذلك أنه منكم مستقر على الأرض - هذا على قراءة ابن كثير وابن عمر وبكسر القاف اسم فاعل، والمعنى في قراءة الباقين بفتحه اسم مكان
﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ [البقرة: ٢٦].
ولما كان من في البرزخ قد كشف عنهم الغطاء فهم موقنون بالساعة غير عاملين على ضد ذلك، وكذا من في الصلب والرحم، عبر بما يدل على عدم الاستقرار فقال:
﴿ومستودع﴾ أي في الأصلاب أو الأرحام أو في بطن الأرض، فدلت المفاوتة من كل منهما - مع أن الكل من نفس واحدة - على القادر المختار، لا يقدر غيره أن يعكس شيئاً من ذلك، وكل ذلك مضمون الآيتين في أول السورة، وقدم الإصباح والليل ومتعلقهما لتقدمهما في الخلق، ثم تلاه بخلق الإنسان على حسب ما مرّ أول السورة، وذكر هنا أنه جعل ذلك الطين نفساً واحدة فرّع الإنس كلهم منها مع تفاوتهم فيما هناك وفي غيره.
ولما ذكر هذا المفرد الجامع، وفصّله على هذه الوجوه المعجبة، كان محلاً لتوقع التنبيه عليه فقال:
﴿قد فصلنا﴾ أي بعظمتنا
﴿الآيات﴾ أي أكثرنا بيانها في هذا المفرد الجامع في أطوار الخلقة وأدوار الصنعة، تارة بأن يكون من التراب بشر، وأخرى بأن يخرج الأنثى من الذكر،
207
وتارة بأن يفرّع من الذكر والأنثى ما لا يحيط به العد ولا يجمعه الخبر من النطفة إلى الولادة إلى الكبر.
ولما كان إنشاء الناس من نفس واحدة وتصريفهم على تلك الوجوه المختلفة جداً ألطف وأدق صنعة، فكان ذلك محتاجاً إلى تدبر واستعمال فطنة وتدقيق نظر، قال:
﴿لقوم يفقهون *﴾ أي لهم أهلية الفقه والفطنة.
208
ولما ذكر وجوه الإبداع التفريعي من هذين الكونين وأسباب البقاء له بما ينشأ عنه الفصول وغيرها، أتبعه سببه القريب، وهو الماء الذي جعل منه كل شيء حي، فقال مفصلاً ما أجمله في الحب والنوى، سائقاً له مساق الإحسان لما قبله من الدلائل، فإن الدليل إذا كان على وجه الإحسان ومذكراً بالإنعام كان تأثيره في القلب عظيماً، فينبغي للمشتغل بدعوة الخلق أن يسلك هذا المسلك ليكون للقلوب أملك:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي أنزل﴾ أي بقدرته وعلمه وحكمته
﴿من السماء﴾ أي الحقيقية التي تعرفونها كما دل عليه صريح العبارة وما أشبهها من ذكور الحيوان المنبه عليه بطريق الإشارة
﴿ماء﴾ أي منهمراً ودافقاً.
ولما كان تفريع الخلق من الماء بمكان من العظمة لا يوصل إليه، نبه عليه بالانتقال إلى التكلم في مظهر العظمة فقال:
﴿فأخرجنا﴾ أي على
208
ما لنا من العظمة التي لا يدانيها أحد
﴿به﴾ أي الماء
﴿نبات كل شيء﴾ مختلفة طعومه وألوانه وروائحه وطبائعه ومنافعه وهو بماء واحد، فالسبب واحد والمسببات كثيرة منفتة، سواء كان ذلك النبات حقيقياً من النجم والشجر، أو مجازياً من الأنثى والذكر؛ ثم سبب عن الحقيقي لظهوره قوله دالاً على العظمة:
﴿فأخرجنا منه﴾ أي النبات
﴿خضراً﴾ أي شيئاً أخضر غضاً طرياً، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة؛ ثم زاد في بيان عظمته بقوله:
﴿نخرج﴾ أي حال كوننا مقدرين أن نخرج
﴿منه﴾ أي من ذلك الخضر
﴿حباً متراكباً﴾ أي في السنبل يركب بعضه بعضاً ويحرسه من أن يلتقطه الطير بعد ستره بالقشر بحسك طويل لطيف جداً كالإبر خشن، بعد أن كان أصله حبة واحدة على صورتها، أو منفتة في التراب بعد أن طوّره سبحانه في عدة أطوار، إن فاعل ذلك لقادر مختار.
ولما كان نسبة الإخراج والإبداع إليه سبحانه وحده في مظهر العظمة خصوصاً وعموماً، فعلم أن الكل منه، وصار الحال في حد من الوضوح جدير بأن يؤمن من نسبة شيء إلى غيره لا سيما الذي هم له معالجون، وبالعجز عن إبداعه عالمون، وبدأ بما بدأ به أولاً في آية الفلق من الحب؛ ثنى بما من النوى، فقال معبراً لذلك الأسلوب:
﴿ومن النخل﴾ وتقديم الحب عليه هنا وفيما قبل يدل على أن الزرع أفضل منه، فإنه قوت في أكثر البلاد ولأغلب الحيوانات والغذاء
209
مقدم على الفاكهة؛ فإنها خلقت من طينة آدم؛ ثم أبدل مما أجمل من ذلك قوله مبيناً:
﴿من طلعها﴾ أي النخل، وهو أول ما يخرج منها في أكمامه
﴿قنوان﴾ جمع قنو، وهو العذق بالكسر للشمراخ وهو الكباسة، والعرجون عوده الذي يكون فيه البسر
﴿دانية﴾ أي قريبة التناول وإن طال أصلها بما علمكم وسهل لكم من صنعة الوصول إليها.
ولما لم يكن لهم من معالجة الأعناب وغيرها ما لهم من معالجة النخيل، عطف على
«نبات» منبهاً لهم على أنها - كالنخيل - هو سبحانه المتفرد بإبداعها كما تقدم - فقال:
﴿وجنات﴾ أي بساتين
﴿من أعناب﴾ وجمعها لكثرة أنواعها، وبدأ بهاتين الشجرتين لفضلهما كما تقدم على غيرهما، لأن ثمرهما فاكهة وقوت، وقدم الأول لأنهم له أكثر ملابسة، وإن كان العنب أشرف أنواع الفواكه، فإنه ينتفع به من أول ظهوره لأنه أولاً يكون له خيوط خضر دقيقة حامضة لذيذة، ثم تكون الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ منه رُبّ الحصرم وأشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، ويطبخ منه ألذ الأطعمة الحامضة، وهو عنباً ألذ الفواكه وأشهاها، ويدخر عنباً قريباً من سنة، ويكون زبيبه غذاء، ويكون منه الدِبس والخل وغير ذلك، وأحسن ما فيه عجمه، وهو يتخذ منه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة
210
وقدم النخيل لأنها قوت للعرب، وبينها وبين الإنسان مشابهة في خواص كثيرة لا توجد في النبات، ولذا جاء في الحديث
«أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من طينة آدم عليه السلام، وليس من الشجر يلقح غيرها» - رواه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه؛ وأتبعهما ما يليهما في الفضيلة فقال:
﴿والزيتون﴾ وقدمه لكثرة نفعه، وينفصل منه دهن عظيم النفع في الأكل والضياء وسائر وجوه الاستعمال
﴿والرمان﴾ ختم به لحسنه وعظيم نفعه، وهو مركب من أربعة أشياء: قشره وشحمه وعجمه ومائه، فالثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة عفصية فائضة جداً، والماء بضدها وهو ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطبع المعتدل، وفي ذلك تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه.
ولما ذكر الأقوات من الثمار والحبوب والأدهان وأشرف الفواكه وأعمها، وكانت أشبه شيء بالآدمي في نشئه وبعثه واتفاقه واختلافه، وكان اشتباه بعضها واختلاف بعضها - مع كونها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة - دالاً على القدرة والاختيار، وكان السياق لإثبات الوحدانية ونفي الشريك بإثبات كمال القدرة التي هي منفية عن غيره، فلا يصح أن يكون له شريك، لأنه لا يكون إلا مشابهاً
211
لشريكه كمال المشابهة فيما وقعت الشركة فيه، وللبعث فكان المراد التفكر في ظواهرها وتقلباتها من العدم إلى الوجود وبعد الوجود، ولمحاجة أهل الكتاب الموسومين بالعلم المنسوبين إلى حدة الأذهان وغيرهم من الفرق، وكان افتعل يأتي للتعريف، وهو المبالغة في إثبات أصل الفعل والاجتهاد في تحصيله والاعتمال، فكان حصوله إذا حصل أكمل، قال بانياً حالاً من كل ما تقدم:
﴿مشتبهاً﴾ أي في غاية الشبه بعضه لبعض حتى لا يكاد يتميز، فلو قطع ثمرتا شجرتين منه لم يتميز ثمرة هذه من ثمرة هذه، فلا يقابله حينئذ نفي التفاعل، فإنه لمجرد مشاركة أمرين أو أكثر في أصل الفعل، فعلم أن التقدير: وغير مشتبه ومتشابهاً، ثم لما كان ربما تمسك القائل بالطبائع بهذه العبارة، نفى ما ربما ظن من أن لهذه الأشياء عملاً في اشتباه بعضها ببعض فقال:
﴿وغير متشابه﴾ أي غير طالب للاشتباه مع أنه لا بد من شبه ما، فالآية من الاحتباك: أثبت الاشتباه دلالة على نفي ضده، وهو عدم التشابه، ولأجل أن الاشتباه أبلغ من التشابه، علق الأمر بالنظر الذي هو أثبت الحواس، ودلالة على أن
212
المراد إنما هو ظاهر ذلك، لأنه كان في الدلالة على البعث والتوحيد الذي هذا سياقه فقال:
﴿انظروا إلى ثمره﴾ وهذا بخلاف الحرف الثاني، فإنه في سياق الرد على العرب فيما يجعلون من خلقه لأصنامهم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً، ولذلك ختم الآية بالإذن لهم في الأكل منه للانتهاء عما كانوا يحرمونه منه على أنفسهم، وبالأمر بالتصدق على من أمر بالصدقة عليه، وأما الباطن الذي هو الأكل فسيأتي؛ ثم نبه على تعميم النظر في جميع حالاته بقوله:
﴿إذا أثمر﴾ أي حين يبدو من كمامه ضعيفاً قليل النفع أو عديمه
﴿وينعه﴾ أي وانظروا إلى إدراكه إذ أدرك وحان قطافه، ويعلم من ذلك النظر فيما بين ذلك، لأنه يلزم من مراقبة الأول والآخر، فيعلم استحالة ألوانه ومقاديره وطعومه وأشكاله وغير ذلك من شؤونه وأحواله، ويلزم من ذلك أيضاً النظر إلى أشجاره ليعلم تفاوت بعضها واشتباه البعض الآخر في الطول والقصر والصغر والكبر وغير ذلك من سائر الأحوال، كما أن ذلك موجود في التمر، فاستناد هذه التبدلات والتغيرات ليس إلا إلى الفاعل المختار، لأن نسبته إلى الطبائع والفصول على حد سواء، فلو استندت إليها لم تتغير.
ولما كان اتخاذ هذه المذكورات أولاً والمخالفة بين أشكالها ومقاديرها وألوانها ثانياً دالاً على كمال القدرة المستلزم للوحدانية، دل على عظمته بقوله مستأنفاً مشيراً بأداة البعد وميم الجمع:
﴿إن في ذلكم﴾
213
أي الأمر العظيم الشأن العالي الرتبة
﴿لآيات﴾ أي علامات على قدرة الصانع واختياره.
ولما كانت الآيات لا تغني عمن أريدت شقاوته قال:
﴿لقوم يؤمنون *﴾ أي حكم بأنهم - بحذقهم ونشاطهم وقوتهم على ما يحاولونه - يجددون الإيمان كلما تأملوا في مصنوعات الله سبحانه وتعالى الدالة عليه المشيرة بكل لسان إليه.
ولما كان المشركون على أصناف: منهم عدة أصنام، شركوا في العبودية لا في الخلق، ومنهم آزر الذي حاجه إبراهيم عليه السلام ومنهم عبدة الكواكب وهم فريقان: منهم من قال: هي واجبة الوجود، ومنهم من قال: ممكنة، خلقها الله وفوض إليها تدبير هذا العالم الأسفل، وهم الذين حاجهم الخليل عليه السلام بالأفول، ومنهم من قال: لهذا العالم كله إلهان: فاعل خير، وفاعل شر، وقالوا: إن الله وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور، ويلقبون الزنادقة وهم المجوس، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من عند الله سمي بالزند، فالمنسوب إليه زندي، ثم عرب فقيل: زنديق، وكان هذا كله في قوله
214
﴿فالق الإصباح﴾ شرحاً لآية
﴿إن الله فالق الحب والنوى﴾ دلالة على تمام القدرة الدالة على الوحدانية للدلالة على البعث؛ حسن كل الحسن العود إلى تقبيح حال المشركين بالتعجيب منهم في جملة حالية من الضمير في
﴿فالق﴾ أو غيره مما تقدم، فقال تعالى شارحاً أمر هذا الصنف، لأن أمر غيرهم تقدم؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية نزلت في الزنادقة:
﴿وجعلوا﴾ أي هو سبحانه فعل هذا الذي لا يدع لبساً في تمام علمه وقدرته وكمال حكمته ووحدانيته والحال أن الذي فعل ذلك لأجلهم قد جعلوا وعبر بالاسم الأعظم وقدمه استعظاماً لأن يعدل به شيئاً
﴿لله﴾ أي الذي له جميع الأمر.
ولما كان الشرك في غاية الفظاعة والشناعة، قدمه فقال:
﴿شركاء﴾ يعني وما كان ينبغي أن يكون له شريك مطلقاً، لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان ما يتعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن يكون له الصفة، وحكم الإنكار حكم النفي. ولما اهتز السامع من هذا التقديم لزيادة المعنى من غير زيادة اللفظ، تشوف إلى معرفة النوع الذي كان منه الشركاء فبينهم بقوله:
﴿الجن﴾ أي الذين هم أجرأ
215
الموجودات عليهم وأعداهم لهم، فأطاعوهم كما يطاع الإله فكان عبادة لهم وتشريكاً، وقد رأيت ما للبيان بعد الانتهاء مما يحسن للناظرين
﴿وخلقهم﴾ أي والحال أنهم قد علموا أن الله خلقهم أي قدرهم بعلم وتدبير، فلذلك كان خلقه لهم محكماً
﴿وخرقوا﴾ أي العابدون
﴿له بنين﴾ أي كعزير والمسيح
﴿وبنات﴾ أي من الملائكة، فجمعوا لذلك جهالات هي غاية في الضلالات: وصف الملائكة بالأنوثة والاجتراء على مقام الربوبية بالحاجة، تخصيصه بعد ذلك بما لا يرضونه لأنفسهم بوجه؛ ومادة خرق تدور على النفوذ والاتساع والإطلاق والتقدير بغير علم ولا معرفة ليحدث عنه الفساد، ولذلك قيل لمن لا يحسن العمل: خرق؛ وللمرأة: خرقاء، يعني أنهم كذبوا واختلفوا واتسعوا في هذا القول الكذب، وأبعدوا به في هذه المجاوزة عن حقيقته، اتساع من سار في خرق أي برية واسعة بهماء وسوفة جوفاء متباعدة الأرجاء إلى حيث لم يسبقه إليه بشر، فضل عن الجادة ضلالاً لا ترجى معه هدايته إلا على بعد شديد، فصار جديراً بالهلاك، وإلى ذلك يرجع معنى ما قرئ في الشاذ: وحرفوا - بالمهملة والفاء.
ولما لم يكن لقولهم أصلاً حقيقة ولا شبهة، وكان الخرق التقدير
216
بغير علم، دل على ذلك مصرحاً بما أفهمه محققاً له تنبيهاً على الدليل القطعي في اجتياح قولهم من أصله، وذلك أنه قول لا حجة له، ومسائل أصول الدين لا يصار إلى شيء منها إلا بقاطع، وذلك بنكرة في سياق النفي فقال:
﴿بغير علم﴾ ثم نزه نفسه المقدسة تنبيهاً على ما يجب قوله على كل من سمع ذلك، فقال:
﴿سبحانه﴾ أي أسبحه سبحاناً يليق بجلاله أن يضاف إليه؛ ولما كان معنى التسبيح الإبعاد عن النقص، وكان المقام يقتضي كونه في العلو، صرح به فقال:
﴿وتعالى﴾ أي تباعد أمر علوه إلى حد لا حد له ولا انتهاء
﴿عما يصفون *﴾.
217
ولما ختم بالتنزيه عما قالوا من الشريك والولد، استدل على ذلك التنزيه بأن الكل خلقه، محيط بهم علمه، ولن يكون المصنوع كالصانع، فقال:
﴿بديع السماوات والأرض﴾ أي مبدعهما، وله صفة الإبداع، أي القدرة على الاختراع ثابتة، ومن كان كذلك فهو غني عن التوليد، فلذا حسن التعجب في قوله:
﴿أنَّى﴾ أي كيف ومن أيّ وجه
﴿يكون له ولد﴾ وزاد في التعجيب بقوله:
﴿ولم﴾ أي الحال أنه لم
﴿يكن له صاحبة و﴾ الحال أنه
﴿خلق كل شيء﴾ أي مقدور ممكن من كل صاحبة تفرض، وكل ولد يتوهم، وكل شريك يدعي فكيف يكون المبدع محتاجاً إلى شيء من ذلك على وجه التوليد أو غيره.
217
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بشمول العلم قال:
﴿وهو﴾ ولم يضمر تنبيهاً على أن عموم العلم لا تخصيص فيه كالخلق فقال:
﴿بكل شيء عليم*﴾ أي فهو على كل شيء قدير، لأن شمول العلم يلزمه تمام القدرة - كما يأتي برهانه إن شاء الله في طه، ومن كان له ولد لم يكن محيط العلم ولا القدرة، بل يكون محتاجاً إلى التوليد.
ولما ثبت أنه لا كفوء له بما ذكر من صفاته وأفعاله، وبين فساد أقوال المشركين، وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه، وبين فساد كل واحد منها بأمتن الحجج، فثبت بذلك ما افتتح السورة به من إحاطته بصفات الكمال، قال مشيراً إلى ذلك كله بمبتدأ خبر بعده أخبار:
﴿ذلكم﴾ أي العالي الأوصاف جداً الذي لا حاجة له إلى شيء، وكل شيء محتاج إليه
﴿الله﴾ أي الذي له كل كمال
﴿ربكم﴾ أي الموجد لكم والمحسن بجميع أنواع الإحسان، فهي فذلكة ما قبلها وثمرته، لأن من اتصف بذلك كان هو رب الكل وحده والخالق للجميع واستحق العبادة وحده فلذا أتبع ذلك قوله:
﴿لا إله إلا هو﴾ لأن المقام للتوحيد اللازم للإحاطة بأوصاف الكمال التي هي معنى الحمد المفتتح به السورة، وساق قوله:
﴿خالق كل شيء﴾ الذي هو مطلع ما بعده مساق التعليل دليلاً على ذلك،
218
فلما أقام الدليل سبب عنه الأمر بالعبادة فقال:
﴿فاعبدوه﴾ أي وحده، لأن من أشرك به لم يعبده، لأنه الغنى المطلق، ومن كان له الغنى المطلق لا يحسن أن يقبل مشركاً، وختم الآية بقوله:
﴿وهو﴾ ولما كان المقام لنفي احتياجه إلى شيء، قدم قوله:
﴿على كل شيء وكيل*﴾ إشارة إلى أن الولد أو الشريك إنما يحتاجه العاجز المفتقر، وأما هو فهو القادر، ومن سواه عاجز، وهو الغني ومن سواه فقير، فكيف يحتاج القدير الغني إلى العاجز الفقير، هذا ما لا يكون، ولا ينبغي أن يتخيله الظنون، وفيه إشارة إلى أن العابد ينبغي أن يتفرغ لعبادته ويقطع أموره عن غير وكالته، فإنه يكفيه بفضله عمن سواه.
ولما كان كل والد وكل شريك لا بد أن يكون مجانساً لولده وشريكه بوجه، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه، فقال:
﴿لا تدركه﴾ أي حق الإدراك بالإحاطة
﴿الأبصار﴾ أي أن من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم كعيسى وعزير عليهما السلام والأوثان والنجوم والظلمة والنور، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم، وإن كان
219
عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم، وأنه منزه عن شريك وولد، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك، ووراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة، ليس إدراكهم مستحيلاً، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكاً تاماً، فيتأمله ناظره فيزنه وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم، لأنه سبحانه متعال عن أن يحاط به، هذا على أنه من عموم السلب، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب
﴿وهو﴾ مع ذلك يدرككم، بل و
﴿يدرك﴾ ما لا تدركونه من أنفسكم
﴿الأبصار﴾ وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات
﴿وهو اللطيف﴾ عن أن يحيط به الأبصار، لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ عنها مسبباتها، ويوجد أدق الأسباب وأغربها، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها
﴿ألا يعلم من خلق﴾ [الملك: ١٤] وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء
﴿الخبير*﴾ أي المحيط بالأبصار فإحاطته بأصحابها أجدر، ويتحقق معنى الاسمين لتحقق المعنى؛ قال الحرالي في شرح الأسماء: اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده، ولا يتم إلا بخبرة، ولذلك نظم باسمه
﴿الخبير﴾
220
لأنه أخفى حكمته في ظاهر يضادها، فاللطف مخبرة في حكمة، وباسمه تعالى اللطيف أقام أمر حكمته ما بين الدنيا والآخرة، وبذلك أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها، فيبدو عزهم من وراء ذل، ويتراءى ذلهم ومن دونه عز، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس، ويؤول محسوسهم إلى عز في عقبى الدنيا، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم،
﴿إن ربي لطيف لما يشاء﴾ [يوسف: ١٠٠] لما أراد أن يملكه مصر وجعل وسيلة ذلك استبعاده بها، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة - وتلك إبداء الشيء في ضده - يتضح اختصاصه بالحق، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً، فهو تعالى اللطيف الذي لا لطيف إلا هو، ثم قال: الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر إلا كان إدراك الخبير سابقاً لبدوها، وذلك لا يتم إلا لمبديها الذي هو يخرج خبأها، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ومخبرة الخلق لا بد فيها من إظهار باد ينبئ عن الخبء بمقتضى التجرية، وإلاّ لم يصح لهم الخبرة، كما قيل: مخبرة المرء فيما يبدو
221
من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد يرى الظاهر خبيثة أمره، فهو بالحقيقة الذي لا خبير إلاّ هو - انتهى.
ولما أكثر لهم من إقامة الأدلة على وحدانيته، وختمها بهذا الدليل المحسوس الذي معناه أن كل شريك وكل ابن يدرك شريكه وأباه، وهو متناه عن أن يدركه، أي يحيط به أحد، ناسب أن يعظهم ويمدح الأدلة حثاً على تدبرها، وجعل ذلك على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى أنه - لنور قلبه وكمال عقله وصفاء لبه وغزارة علمه وشريف أخلاقه واستقامة غرائزه وبُعد مدى همته عن أن ينسب إلى جور أو يرمى بعناد - حقيق بأن يقول بعد إقامتها من غير تلعثم تقريراً لأمر دعوته بعد تقرير المطالب العالية الإلهية:
﴿قد جاءكم﴾.
ولما كانت الآيات - لقوتها وجلالتها التي أشار إليها تذكير الفعل - توجب المعرفة فتكون سبباً لانكشاف الحقائق الذي هو كالنور في جلاء المحسوسات، قال:
﴿بصائر﴾ أي أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم
﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بكل إحسان، فلا إحسان أصلاً لغيره عندكم، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار
222
بالبصائر، ولا تهبطوا في حضيض التقليد إلى أن تصلوا إلى حد لا تفهمون معه إلا ما يحس بالأبصار بل ترقوا في أوج المعرفة إلى سماوات الاجتهاد وجرّدوا لقطاع الطريق صوارم البصائر، فإنكم إن رضيتم بالدون لم تضروا إلا أنفسكم، وإن نافستم في المعالي فإياها نفعتم. ولذلك سبب عن هذا النور الباهر والسر الظاهر قوله:
﴿فمن أبصر﴾ أي عمل بالأدلة
﴿فلنفسه﴾ أي خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال المؤدي إلى الهلاك
﴿ومن عمي﴾ أي لم يهتد بالأدلة
﴿فعليها﴾ أي خاصة عماه لأنه يضل فيعطب.
ولما كان المعنى أنه ليس لي ولا لغيري من إبصاره شيء ينقصه شيئاً، ولا علي ولا غيري شيء من عماه، كان التقدير: فإنما أنا بشير ونذير، عطف عليه قوله
﴿وما أنا﴾ وأشار إلى أن حق الآدمي التواضع وإسلام الجبروت والقهر لله بأداة الاستعلاء فقال:
﴿عليكم﴾ وأغرق في النفي بقوله:
﴿بحفيظ*﴾ أي أقودكم قسراً إلى ما ينجيكم، وأمنعكم قهراً مما يرديكم.
223
ولما كان التقدير التفاتاً إلى مقام العظمة إعلاماً بأن القضاء كله بيده لئلا يظن نقص في نفوذ الكلمة: فانظروا ما صرفنا لكم في هذه السورة من الآيات وأوضحنا بها من شريف الدلالات، لقد أتينا فيها بعجائب التصاريف وكشفنا عن غرائب التعاريف، عطف عليه قوله:
223
﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا التصريف العظيم
﴿نصرف﴾ أي ننقل جميع
﴿الآيات﴾ من حال إلى حال في المعاني المتنوعة سالكين من وجوه البراهين ما يفوت القوى ويعجز القُدَر لتحير ألباب المارقين وتنطلس أفكار المانعين، علماً منهم بأنهم عجزة عن الإتيان بما يدانيها فتلزمهم الحجة
﴿وليقولوا﴾ اعتداء لا عن ظهور عجزهم
«دارست» أي غيرك من أهل الكتاب أو غيرهم في هذا حتى انتظم لك هذا الانتظام وتم لك هذا التمام، فيأتوا ببهتان بيّن عواره ظاهرة أسراره، مهتوكة أستاره، فيكونوا كأنهم قالوا: إنك أتيت به عن علم ونحن جاهلون لا نعلم شيئاً، فيعلم كل موفق أنهم ما رضوه لأنفسهم مع ادعاء الصدق والمنافسة في البعد عن أوصاف الكذب إلا لفرط الحيرة وتناهي الدهشة وإعواز القادح، والحاصل أنه أتى به على هذا المنهاج الغريب والأسلوب العجيب ليعمى ناس عن بينة ويبصر آخرون، وهم المرادون بقوله:
﴿ولنبينه﴾ أي القرآن لأنه المراد بالآيات المسموعة
﴿لقوم يعلمون *﴾ أي أن المراد من الإبلاغ في البيان أن يزداد الجهلة به جهلاً، ويهتدي من كان للعلم أهلاً، فلا يقولون:
«دارست» بل يقولون: إنه من عند الله، فالآية من الاحتباك: إثبات ادعاء المدارسة أولاً يدل على نفيها
224
ثانياً، وإثبات العلم ثانياً يدل على عدمه أولاً، وهي من معنى
﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦].
ولما انكشف بهذا في أثناء الأدلة وتضاعيف البراهين أن القرآن كنز لا يلقى مثله كنز، وعز لا يدانيه عز، وأنه في الذروة التي تضاءلت دونها سوابح الأفكار، وكلّت عن التماعها نوافذ الأبصار، وختم بأن المراد بالبيان العلماء، ناسب له أن ينبه على ذلك لئلا يفتر عنه طعنهم بقولهم
«دارست» ونحوه، فقال مخصصاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب إعلاماً بأنه العالم على الحقيقة:
﴿اتبع﴾ أي أنت ومن تبعك
﴿وما أوحي إليك﴾ أي فالزم العمل به؛ ثم أكد مدحه بقوله:
﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بهذا البيان؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿لا إله إلا هو﴾ أي فلا يستحق غيره أن يتبع له أمر، ولا يلتفت إليه في نفع ولا ضر
﴿وأعرض عن المشركين *﴾ أي بغير التبليغ، فإنه ما عليك غيره، ومزيد حرصك على إيمانهم لا يزيد من أريدت شقوته إلا تمادياً في إشراكه وارتباكاً في قيود أشراكه.
ولما كان الحبيب أسر شيء بما يزيده حبيبه، قال مسلياً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن استهزائهم به وردهم لقوله، عاطفاً على
225
ما تقديره: فلو شاء الله ما خالفوك ولا تكلموا فيك ببنت شفة:
﴿ولو شاء الله ما أشركوا﴾ أي ما وقع منهم إشراك أصلاً، فقد أراد لك من الوقوع فيك ما أراده لنفسه، فليكن لك في ذلك مسلاة.
ولما كان التقدير: فإنه سبحانه حفيظ عليهم، عطف عليه قوله:
﴿وما جعلناك﴾ أي بعظمتنا، وأشار إلى أن العلو ليس بغير الله سبحانه فقال:
﴿عليهم حفيظاً﴾ أي تحفظ أعمالهم لئلا يكون منها ما لا يرضينا فتردهم عنه قسراً
﴿وما أنت﴾ وقدم ما هو أعم من نفي التحقق بالعلو المحيط القاهر الذي هو خاص بالإله فقال:
﴿عليهم بوكيل *﴾ أي فتأخذ الحق منهم قهراً، وتعاملهم بما يستحقونه خيراً أو شراً، إنما أنت مبلغ عنا، ثم الأمر في هدايتهم وإضلالهم إلينا.
ولما طال التنفير عما اتخذ من دونه من الأنداد والبنات، لأنها أقل من ذلك وأحقر، كان ذلك ربما كان داعية إلى سبها، فنهى عنه لمفسدة يجرها السب كبيرة جداً، فقال عاطفاً على قوله
﴿وأعرض عن المشركين﴾ غير مواجه له وحده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إكراماً له:
﴿ولا تسبوا﴾ ولما كانت الأصنام لا تعقل، وكان المشركون
226
يزعمون بها العقل والعلم، ويسندون إليها الأفعال، أجري الكلام على زعمهم لأنه في الكف عنها فقال:
﴿الذين يدعون﴾ أي دعاء عبادة من الأصنام أو غيرهم بذكر ما فيهم من النقص، ثم بين دفعاً لتوهم إكرامهم أنهم في سفول بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له عدلاً، بعلم منكم بما لهم من المعايب، بل أعرضوا عن غير دعائهم إلى الله حتى عن سب آلهتهم بما تستحقه، فإنا زينا لهم أعمالهم فغرقوا مع غزارة عقولهم فيما لا يرتضيه عاقل، وكذبوا بجميع الآيات الموجبة للإيمان، فربما جرهم سبُّكم لها - لما عندهم من حمية الجاهلية - إلى ما لا يليق
﴿فيسبوا﴾ أي فيتسبب عن ذلك أن يسبوا
﴿الله﴾ أي الذي تدعونه وله الإحاطة بصفات الكمال، وأظهر تصريحاً بالمقصود وإعظاماً لهذا وتهويلاً له وتنفيراً منه.
ولما كان الخنو يوجب الإسراع، أشار إليه سبحانه بقوله:
﴿عدواً﴾ أي جرياً إلى السب؛ ولما كان العدو قد يكون مع علم، قال مبيناً لأنه يراد به مع الإسراع أنه مجاوز للحد:
﴿بغير علم﴾ لأنا زينا لهم عملهم، فالطاعة إذا استلزمت وجود منكر عظيم احترز منه ولو أدى الحال إلى تركها وقتاً ما، لتحصل القوة على دفع ذلك المنكر، فحكم الآية باق وليس بمنسوخ.
227
ولما كان ذلك شديداً على النفس ضائقاً به الصدر، اقتضى الحال أن يقال: هل هذا التزيين مختص بهؤلاء المجرمين أم كان لغيرهم من الأمم مثله؟ فقيل:
﴿كذلك﴾ أي بل كان لغيرهم، فإنا مثل ذلك التزيين الذي زينا لهؤلاء
﴿زينا لكل أمة﴾ أي طائفة عظيمة مقصودة
﴿عملهم﴾ أي القبيح الذي أقدموا عليه بغير علم بما خلقه في قلوبهم من المحبة له، رداً منا لهم بعد العقل الرصين أسفل سافلين، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن لتبين قدرتنا؛ فكان في ذلك أعظم تسلية وتأسية وتعزية، والآية من الاحتباك: إثبات
﴿بغير علم﴾ أولا دال على حذفه ثانياً، وإثبات التزيين ثانياً دليل على حذفه أولاً.
ولما كان سبحانه طويل الأناة عظيم الحلم، وكان الإمهال ربما كان من جهل بعمل العاصي، نفى ذلك بقوله
﴿ثم﴾ أي بعد طول الإمهال
﴿إلى ربهم﴾ أي المحسن إليهم بالحلم عنهم وهم يتقوون بنعمه على معاصيه، لا إلى غيره
﴿مرجعهم﴾ أي بالحشر الأعظم
﴿فينبئهم﴾ أي يخبرهم إخباراً عظيماً بليغاً
﴿بما﴾ أي بجميع ما
﴿كانوا يعملون *﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار بما في جبلاتهم من الداعية إليه وإن ادعوا أنهم عاملون على مقتضى العلم.
228
ولما كان فيما تقدم الإخبار عن مغيب، وهو أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات المقترحة، وكانت عادة العرب دعاء الأعداء والمخالفين إلى حاكم يفصل بينهم، وكانوا إنما يفزعون في الأمور المغيبة إلى الكهان لما كانوا يكشفون لهم بما يقذف إليهم إخوانهم من الجان مما يسترقونه من السمع، فيزيدونه كذباً كثيراً، ثم لا يضرهم ذلك عندهم لذلك القليل الذي يصدقون فيه - كما ابتلينا به في هذا الزمان من الافتتان بمن يفعل مثل ذلك من المجانين والمتشبهين بهم، وكانت الآيات التي فرغ منها
234
قد أثبتت أن اتخاذهم غرور، سبب عن ذلك وجوب نفي اتخاذهم غير الله لما اتصف به من إيحاء ما خالف إيحاءهم، ففات القوى في إخباره عن حقائق الأمور مفصلة أحسن تفصيل في أساليب قصرت دونها سوابق الأفكار، وكعّت عنها نوافذ الأفهام، فثبتت به نبوته ووضحت رسالته، فكان اقتراحهم ظاهراً في كونه تعنتاً لأنهم كذبوا بأعظم الآيات: القرآن، ولم يؤمنوا به، وطعنوا فيه بما زادهم فضائح، فثبت أنه لا فائدة في إجابتهم إلى مقترحاتهم، فكان الجواب - عما اقتضاه لسان حالهم من طلب التحاكم إلى أوليائهم ببليغ الإنكار عليهم بقوله:
﴿أفغير الله﴾ أي الملك الأعظم - على غاية من البلاغة لا تدرك، والفاء فيه للسبب، وإنما تقدمت عليها همزة الإنكار لاقتضائها الصدر
﴿أبتغي﴾ أي أطلب حال كون ذلك الغير
﴿حكماً﴾ أي يحكم بيني وبينكم ويفصل نزاعنا؛ ثم استدل على هذا الإنكار بتفصيل الكتاب هذا التفصيل المعجز فقال:
﴿وهو﴾ أي والحال أنه لا غيره
﴿الذي أنزل إليكم﴾ أي خاصة نعمة علي بالقصد الأول وعليكم بالقصد الثاني
﴿الكتاب﴾ أي الأكمل المعجز، وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء
235
﴿مفصلاً﴾ أي مميزاً فيه الحلال والحرام، وغير ذلك من جميع الأحكام، مع ما تفيده فواصل الآيات من اللطائف والمعارف الكاشفة لحقائق البدايات والنهايات، ولقد اشتد الاعتناء في هذه السورة بالتنبيه على التفصيل لوقوع العلم من أرباب البصائر في الصنائع بأن من لا يحسن التفصيل لا يتقن التركيب.
ولما كان التقدير: فأنتم وجميع أرباب البلاغة تعلمون حقيقته بتفصيله والعجز عن مثيله، عطف عليه قوله:
﴿والذين﴾ ويجوز أن يكون جملة حالية
﴿آتيناهم﴾ أي بعظمتنا التي تعرفونها ويعرفون بها الحق من الباطل
﴿الكتاب﴾ أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور
﴿يعلمون﴾ أي لما لهم من سوابق الأنس بالكتب الإلهية
﴿أنه منزل﴾.
ولما تقدم ذكر الجلالة الشريفة في حاق موضعه في سياق الحكم الذي لا يكون إلا مع التفرد بالكمال، وكان هذا المقام بسياق الإنزال يقتضي الإحسان، لم يضمر بل قال:
﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بما خصك به في هذا الكتاب من أنواع الفضائل
﴿بالحق﴾ أي الأكمل لما عندهم به من البشائر في كتبهم ولما له من موافقتها في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب
236
وتفيض الدموع وتصدع الصدور، مع ما يزيد به على كتبهم من التفصيل بما يفهم معارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية والإعجاز بكل آية.
ولما كان أهل الكتاب يخفون ما عندهم من العلم، ويقولون للمشركين: إنهم أهدى سبيلاً، بما قد يوهم أنهم يعتقدون بطلانه، أو أن الأمر ملبس عليهم، سبب عن إخباره سبحانه قوله على طريق التهييج والإلهاب:
﴿فلا تكونن﴾ أي انف نفياً مؤكداً جداً أن تكون في وقت ما
﴿من الممترين *﴾ أي العاملين عمل الشاك فيما أخبرناك به وإن زاد إخفاؤهم له وإظهارهم لما يوهم خلافه؛ وإذا حاربتهم في ذلك وأنت أفطن الناس وأعرفهم بما يظهره المجاوزات من خفايا الأسرار - تحققت ما قلناه وإن اجتهدوا في الكتمان، كما كشفت عنه قصة المناشدة في أمر الزانيين وغيرها؛ وقال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت.
ولما دل على كونه حقاً من عند الله بعلم أهل الكتاب صريحاً وأهل اللسان تلويحاً، دل عليه بوجه آخر شهودي، وهو أنه ما قال شيئاً إلا كان على وفق ما قال، وأنه لم يستطع - ولا يستطيع أحد - منع شيء مما أخبر به ولا تعويقه ساعة من نهار ولا أقل ولا أكثر
237
بقوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار، لتذكيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما له سبحانه من الإحسان، والتنبيه على ما يريد به من التشريف والإكرام:
﴿وتمت﴾ أي نفذت وتحققت
﴿كلمة ربك﴾ أي المحسن إليك المدبر لأمرك حال كونها
﴿صدقاً﴾ أي لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها حديثاً بتخلف ما عن مطابقة الواقع.
ولما كان الصدق غير مناف للجور، قال:
﴿وعدلاً﴾ ولما كان الصدق العدل قد لا يتم معه مراد القائل، ولا ينفذ فيه كلام الآمر لمنع من هو أقوى منه، أخبر أنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، تصريحاً بما أفهم مطلع الآية من التمام، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتبركاً وتلذيذاً فقال:
﴿لا مبدل لكلماته﴾ أي من حيث إنها كلماته مطلقاً من غير تخصيص بنوع ما، بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة، رضي من رضي وسخط من سخط.
ولما كان المغير لشيء إنما يتم له ما يريد من التغيير بكون المغير عليه لا يعلم الأسباب المنجحة لما أراد ليحكمها، والموانع العائقة ليبطلها، قال عاطفاً على ما تقديره: فهو العزيز الحكيم:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿السميع﴾ أي البالغ السمع لجميع ما يمكن سمعه من الأقوال والأفعال
﴿العليم *﴾ أي البالغ العلم لجميع ذلك، فهو إذن الكامل القدرة النافذ الأمر في جميع الأسباب والموانع، فلا يدع أحداً يغير شيئاً منها وإن
238
دلس أو شبه.
ولما أجاب عن شبهات الكفار، وبين صحة نبوته عليه السلام، شرع في الحث على الإعراض عن جهل الجهال، والإقبال على ذي الجلال، فكان التقدير: فإن أطعته فيما أمرك به اهتديت إلى صراط الله الذي يتم لك بسلوكه جميع ما وعدك به، عطف عليه قوله:
﴿وإن تطع﴾ ولما كانت أكثر الأنفس متقيدة بالأكثر، أشار إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل مخلد إلى التقليد فقال:
﴿أكثر من في الأرض﴾ أي توجد طاعتك لهم في شيء من الأوقات بعد أن علمت أن أكثرهم إنما يتبع الهوى، وأن أكثرهم فاسقون لا يعلمون لا يشكرون
﴿يضلوك عن سبيل الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن﴾ أي لأنهم ما
﴿يتبعون﴾ في أمورهم
﴿إلا الظن﴾ أي كما يظن هؤلاء جهلاً أن آباءهم كانوا على الحق.
ولما كان أكثر من يجزم بالأمور بما دعاه إليه ظنه كذباً، وكان الخارص يقال على الكاذب والمخمن الحازر، قال:
﴿وإن هم﴾ أي بصميم ضمائرهم
﴿إلا يخرصون *﴾ أي يجزمون بالأمور بحسب ما يقدرون، فيكشف الأمر عن أنها كذب، فيعرف الفرق بينك وبينهم في تمام الكلام ونفوذه نفوذ السهام، أو تخلفه عن التمام ونكوصه
239
كالسيف الكهام، فلا يبقى شبهة في أمر المحق والمبطل.
240
> ولما كان مما يقبل في نفسه في الجملة أن يذكر اسم الله عليه ما يحرم لكونه ملكاً للغير أو فيه شبهة، نهى عنه على وجه يعم غيره، فقال عطفاً على
«فكلوا» ﴿وذروا﴾ أي اتركوا على أيّ حالة اتفقت وإن كنتم تظنونها غير صالحة
﴿ظاهر الإثم﴾ أي المعلوم الحرمة من هذا وغيره
﴿وباطنه﴾ من كل ما فيه شبهة من الأقوال والأفعال والعقائد، فإن الله جعل له في القلب علامة، وهو أن يضطرب عنده
244
ولا يسكن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر» - أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن الذين يكسبون الإثم﴾ أي ولو بأخفى أنواع الكسب، بما دل عليه تجريد الفعل، وهو الاعتقاد للاسم الشريف.
ولما كان العاقل من خاف من مطلق الجزاء بني للمفعول قوله
﴿سيجزون﴾ أي بوعد لا خلف فيه
﴿بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا﴾ بفاسد جبلاتهم
﴿يقترفون *﴾ أي يكتسبون اكتساباً يوجب الفرق وهو أشد الخوف ويزيل الرفق، وصيغة الافتعال للدلالة على أن أفعال الشر إنما تكون بمعالجة من النفس للفطرة الأولى السليمة.
ولما أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذراً من أكل ما يعيش مرأى بصائرهم، أتبعه نهيهم نهياً جازماً خاصاً عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم، وهو ما ضاد الأول في خلوه عن الاسم الشريف فقال
﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر﴾ أي مما لا يقبل أن يذكر
﴿اسم الله﴾ أي الذي لا يؤخذ شيء إلا منه، لأن له الكمال كله فله الإحاطة الكاملة، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك فقال:
﴿عليه﴾ أي لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى، فصار مخبثاً للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه سبحانه
245
بما دل عليه من تسميته فسقاً، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله وكذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراماً بغير ذلك، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال، فإن ذكر عليه كان ملاعباً فلم يطهره، وأما ما كان حلالاً ولم يذكر عليه اسم الله ولا غيره فهو حلال - كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالوا: يا رسول الله! إن هنا أقواماً حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا! قال:
«اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» قال البغوي: ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح - انتهى.
ولما كان التقدير: فإنه خبيث في نفسه مخبث، عطف عليه قوله:
﴿وإنه﴾ أي الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب
﴿لفسق﴾ فجعله نفس الفسق - وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي - لأنه عريق جداً في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره وانتشر من شره، وهذا دليل على ما أولت به لأن النسيان ليس بسبب الفسق، والذي تركت التسمية عليه نسياناً ليس بفسق، والناسي ليس بفاسق - كما قاله البخاري، وإلى ذلك الإشارة بما رواه عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا
246
للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قوماً يأتونّا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا! فقال:
«سموا عليه أنتم وكلوه»، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر - انتهى. فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل.
ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد، قال محذراً منها:
﴿وإن الشياطين﴾ أي أخابث المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين للنشر المحترقين باللعنة من مردة الجن والإنس
﴿ليوحون﴾ أي يوسوسون وسوسة بالغة سريعة
﴿إلى أوليائهم﴾ أي المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم
﴿ليجادلوكم﴾ أي ليفتلوكم عما أمركم به بأن يقولوا لكم: ما قتله الله أحق بالأكل مما قتلتموه أنتم وجوارحكم - ونحو ذلك، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالاً أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها.
247
ولما كان التقدير: فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك، عطف على هذا قوله:
﴿وإن أطعتموهم﴾ أي المشركين تديناً بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، أو في شيء مما جادلوكم فيه
﴿إنكم لمشركون *﴾ أي فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على ذبائحكم على وجه العبادة، لأن من اتبع أمر غير الله فقد اشركه بالله كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في قوله تعالى
﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ [التوبة: ٣١] من أن عبادتهم لهم تحليلهم ما أحلوا وتحريمهم ما حرموا، فنبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك على أن الأسماء تتبع المعاني؛ قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي الشافعي في باب الضحايا من كتاب الروضة: حكي في الشامل وغيره عن نص الشافعي أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله كالمسيح لم تحل؛ وفي كتاب القاضي ابن كنج أن اليهودي لو ذبح لموسى والنصراني لعيسى عليهما السلام أو للصليب حرمت ذبيحته، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينبغي أن يقال: تحرم، لأنه ذبح لغير الله تعالى، قال:
248
وخرّج أبو الحسن وجهاً آخر أنها تحل لأن المسلم يذبح لله ولا يعتقد في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يعتقده النصراني في عيسى عليه السلام.
قال: وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً، وفي تعليقه للشيخ إبراهيم المروزي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله، واعلم أن الذبح للمعبود باسمه نازل منزلة السجود له. وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم، العبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفراً كمن سجد لغيره سجدة عبادة، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه - بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيماً لها لأنها بيت الله تعالى أو لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل: أهديت للحرم أو للكعبة، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان، فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود لغير الله تذللاً وخضوعاً، فعلى هذا إذا قال الذابح: بسم الله واسم محمد، وأراد: أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد، فينبغي أن لا يحرم، وقول من قال: لا يجوز ذلك، يمكن أن يحمل على أن اللفظ مكروه، لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه، وحكى الرافعي أنه وقعت في هذا منازعة بين أهل قزوين أفضت إلى فتنة في أنه تحل ذبيحته وهل يكفر
249
بذلك! قال: والصواب ما بينا؛ قال الشيخ محيي الدين: ومما يؤيد ما قاله - أي الرافعي - ما ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه: قال: حكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله أن النصراني إذا سمى غير الله كالمسيح لم تحل ذبيحته، قال صاحب التقريب: معناه أن يذبحها له. فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجائز، قال: وقال الحليمي: تحل مطلقاً وإن سمى المسيح - والله أعلم، ثم قال في المسائل المنثورة: الثالثة: قال ابن كج: من ذبح شاة وقال: أذبح لرضى فلان، حلت الذبيحة، لأنه لا ينصرف إليه بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم؛ وقال الروياني: إن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال، وإن قصد الذبح لهم فحرام؛ ومما يوضح لك سر هذا الانتظام ويزيده حسناً أن هذه الآيات كلها من قوله تعالى
﴿إن الله فالق الحب والنوى﴾ [الأنعام: ١٠٠] إلى آخر السورة تفصيل لقوله تعالى في أول السورة
﴿قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ١٤]، فلما ذكر إبداعه السماوات والأرض بقوله
﴿إن الله فالق الحب والنوى﴾ [الأنعام: ٩٥] ونحوه، وأنكر اتخاذ من دونه بقوله
﴿وجعلوا لله شركاء الجن﴾ [الأنعام: ١٠٠] وما نحا نحوه، قال
﴿فكلوا﴾ [الأنعام: ١١٨] إشارة إلى
﴿وهو يطعم ولا يطعم﴾ [الأنعام: ١٤] وقوله
﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢] وقوله
﴿فمن يرد الله أن يهديه﴾ [الأنعام: ١٢٥] ونحوهما إشارة إلى قوله
﴿قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم﴾ [الأنعام: ١٤]، وقوله
﴿ويوم نحشرهم جميعاً﴾ [الأنعام: ٢٢] ونحوه مشير إلى
﴿إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم﴾ [الأنعام: ١٥].
250
ولما انقضى التفصيل عند قوله
﴿فسوف يعلمون﴾ شرع في تفصيلها ثانياً بقوله:
﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً﴾ [الأنعام: ١٣٦] إلى آخرها، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه ونفي ما نفي، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر، كان أثبت في النفس وألصق بالقلب، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولاً، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب القرآن في أساليب الافتنان؛ قال الغزالي في أوائل كتاب الجواهر في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام: وقوله ثانياً
﴿الرحمن الرحيم﴾ إشارة إلى الصفة مرة أخرى، ولا تظن أنه مكرر، فلا مكرر في القرآن، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة، وذكر الرحمة بعد ذكر
﴿العالمين﴾، وقبل ذكر
﴿العالمين﴾، وقبل ذكر
﴿مالك يوم الدين﴾ ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق كل عالم من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه، والثانية ملتفت إلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد، قال: وشرح ذلك يطول والمقصود
251
أنه لا مكرر في القرآن، وإن رأيت شيئاً مكرراً من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته - انتهى. وفي ذلك نكتة أخرى، وهي أن الرحمن مشير إلى ما قال من جهة الربوبية في الإيجادين: الأول والثاني، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة.
ولما كان معنى التحذير من طاعة المشركين أنكم إن فعلتم كنتم قد رددتم أنفسكم إلى ظلام الضلال بعد أن منحتم نور الهداية، فكان التقدير: أفمن كان هكذا كان كمن نصح لنفسه باتباع الأدلة وتوقي الشبه، عطف عليه قوله:
﴿أو من كان ميتاً﴾ أي بالغرق في أمواج ظلام الكفر، ليس لهم من ذواتهم إلا الجمادية بل العدمية
﴿فأحييناه﴾ أي بما لنا من العظمة بإشراق أنوار الإيمان على قبله الذي إن صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله
﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا على وجه الخصوص
﴿له نوراً﴾ أي بالهداية إلى كل خير
﴿يمشي﴾ مستضيئاً
﴿به في الناس﴾ فيعرفون أفعاله وأخلاقه وأقواله
﴿كمن مثله﴾ أي الذي يمثل به، وهو ما ينكشف بوجه الشبه روح لبه وخلاصة حال قلبه،
252
حال قلبه، أو يكون المعنى: صفته أنه
﴿في الظلمات﴾ أي ما له من نفسه من ظلمة الجهل وظلمة ما ينشأ عنه من الهوى وظلمة ما نشأ عن الهوى من الكفر، وإذا كان المثل الذي هو الأعلى من الممثول في شيء كان الممثول عريقاً فيه بطريق الأولى، فلذلك قال:
﴿ليس بخارج﴾ أي ذلك المثل
﴿منها﴾ أي الظلمات بما زين له من سوء أعماله حتى صارت أحب إليه من نفسه وماله، وإذا لم يخرج المثل من شيء لم يخرج الممثول منه وإلا لم تكن بينهما مماثلة، وذلك لأنه زين له عمله، وهي ناظرة إلى قوله أول السورة
﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله﴾ [الأنعام: ٣٦] وقوله:
﴿والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات﴾ [الأنعام: ٣٩].
ولما كان إيحاء الشياطين إلى أوليائهم مما يوجب لزوم العمى ليس إلاّ تزييناً للقبائح، فكان حالهم مما يشتد العجب منه، كان كأنه قيل: لولا رؤيتنا لحالهم ما صدقنا أن عاقلاً يرضى ما فعلوه بأنفسهم، فهل وقع لأحد قط مثل حالهم؟ فقيل: نعم
﴿كذلك﴾ أي مثل ما زين لهم سوء أعمالهم
﴿زين للكافرين﴾ أي كلهم
﴿ما كانوا﴾ بما جبلناهم عليه
﴿يعملون *﴾ فهم أبداً في الظلمات، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً كونه في الظلمات دليلاً على تقديره
253
ثانياً، وثانياً التزيين دليلاً على تقديره أولاً.
254
ولما كان معلوماً أن عداوتهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشار إليها بقوله
﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً﴾ الآية، لا يقوم بها إلا أكابر الناس، لما كان عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جلالة المنصب وشرف العشيرة وكثرة الأقارب وأنه لا يتمادى عليها إلا جاهل مطموس البصيرة مزين له قبيح أعماله، عطف تعالى على التزيين للكافرين قوله:
﴿وكذلك﴾ أي مثل ما زينا للكافرين سوء أعمالهم، فكان أكابر أهل مكة يمكرون فيتبع غيرهم مكرهم
﴿جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة في إقامة الأسباب لما يعلي كلمة الإنسان أو يجعله حقير الشأن
﴿في كل قرية﴾ أي بلد جامع، ولما كان الكبر مختلف الأنواع باختلاف أشخاص المجرمين، طابق بأفعال التفضيل المقصودين لها في الجمع على إحدى اللغتين، وعبر بصيغة منتهى الجمع دلالة على تناهيهم في الكثرة فقال:
﴿أكبر مجرميها﴾ أي القاطعين لما ينبغي أن يوصل.
ولما كان من شأن الإنسان استجلاب أسباب الرفعة لنفسه، وكان لا يصل إلى ذلك في دار ربط المسببات بحكمة الأسباب إلا بالمكر، وكان الأكابر أقدر على إنفاذ المكر وترويج الأباطيل بما لأغلب الناس من السعي في رضاهم طمعاً فيما عندهم، وكان الإنسان كلما تمكن من ذلك أمعن فيه، وكان الكبير إنما يصل إلى ما قدر له من ذلك بتقدير الله
254
له؛ كان بما قدر له من ذلك كأنه خلقه له، فقال معبراً بالجعل لما فيه من التصيير والتسبيب:
﴿ليمكروا فيها﴾ أي يخدعوا أصاغرهم ويغروهم بما يلبسون عليهم من الأمور حتى يتبعوهم فيعادوا لهم حزب الله.
ولما كان ذلك موجعاً وغائظاً محزناً، قال تصغيراً لشأنهم وتحقيراً لأمرهم:
﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما
﴿يمكرون إلا بأنفسهم﴾ لأن عملهم بالمكر وبال عليهم موبق لهم، ولأن مكرهم بأولياء الله إنما هو مكر بالله، وذلك غير متأت ولا كائن بوجه من الوجوه، وكيف يتأتى مكر من لا يعلم شيئاً من الغيب بمن يعلم جميع الغيب!
﴿وما يشعرون *﴾ أي وما لهم نوع شعور بأن مكرهم عائد على نفوسهم، لأن الله تعالى الذي يعلم سرهم وجهرهم يجعل بما يزين لهم تدميرهم في تدبيرهم، وإنما أجرى سنته الإلهية بذلك لما يشتمل عليه من أعلام النبوة، فإن غلبة شخص واحد - بمفرده أو باتباع كثير منهم ممن لا يؤبه لهم مع قلة العدد وضعف المدد لرؤساء الناس وأقويائهم مع طول مكثه بينهم منابذاً لهم منادياً عليهم بأن دينكم يمحى وديني يظهر وإن كرهتم - من خوارق العادات وبواهر الآيات تصديقاً لقوله تعالى:
﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١]
﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣]- في أمثال ذلك.
255
ولما قرر هذا، أتبعه بمقالة لهم تدل على تعظيمهم وتكبرهم فقال عاطفاً على
﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ [الأنعام: ١٠٩] تعجيباً من حالهم فيما زين لهم من ضلالهم، وتصديقاً لما تقدم من الإخبار بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية إلاّ أن يشاء الله؛ وتحقيقاً لما في الآية السالفة من مكرهم لغيرهم وعوده على أنفسهم:
﴿وإذا جاءتهم﴾ أي الكافرين من أكابر المجرمين وأتباعهم
﴿آية قالوا﴾ حسداً لمن خصه الله بالنبوة لكونهم أكابر مؤكدين للنفي لما لمعجزات الأنبياء عليهم السلام من العبر الموجب لظن الإذعان لأعتى أهل الكفران
﴿لن نؤمن﴾ أي أبداً
﴿حتى نؤتى﴾ لما لنا من العلو والعظمة المقتضية لأن لا يختص أحد عنا بشيء
﴿مثل ما﴾.
ولما كان نظرهم مقصوراً على عالم الحس من غير نظر إلى جانب الله لكونه غيباً بنوا للمفعول قولهم:
﴿أوتي رسل الله﴾ يجوز أن يكون المراد: حتى يوحي إلينا لئلا يكونوا أعظم منا كما قال تعالى
﴿بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتي صحفاً منشرة﴾ [المدثر: ٥٢] وكما تقدم في أول السورة عن أبي جهل أنه قال: تنازعنا نحن وبنو عد مناف الشرف حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء،
256
ويحك! متى ندرك هذا والله لا نؤمن به أبداً. وأن يكون المراد إتيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل آيات الأولين من شق البحر واليد والعصا وإحياء الموتى ونحوها، وسموهم تنزلاً واستهزاء، وعبروا بالجلالة إشارة إلى القدرة التامة فلا عذر.
ولما ذكر اسم الجلالة إيذاناً بعظيم ما اجترؤوا عليه لعماهم - بما طمس على أنوار قلوبهم من ظلمات الهوى - عما للرسل من الجلال الذي يخضع له شوامخ الأنوف، أعادها أيضاً تهويلاً للأمر وتنبيهاً على ما هناك من عظيم القدر، فقال رداً عليهم فيما تضمن قولهم من دعوى التعلم بالحكمة والاعتراض على الله عز وجل:
﴿الله﴾ أي بما له من صفات الكمال
﴿أعلم﴾ أي من كل من يمكن منه علم
﴿حيث يجعل﴾ أي يصير بما يسبب من الأمور
﴿رسالته﴾ أي كلها بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الخلق فهو لا يضع شيئاً منها بالتشهي.
ولما كشف هذا النظم عن أنهم اجترؤوا عليه، وأنهم أصروا على أقبح المعاصي الكفر، لا لطلب الدليل بل لداء الحسد؛ تاقت النفس إلى معرفة ما يحل بهم فقال جواباً:
﴿سيصيب﴾ أي بوعد لا خلف فيه،
257
وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:
﴿الذين أجرموا﴾ أي قطعوا ما ينبغي أن يوصل
﴿صغار﴾ أي رضى بالذل لعدم الناصر؛ ولما كان الشيء تعظم بعظمة محله ومن كان منه ذلك الشيء قال:
﴿عند الله﴾ أي الجامع لصفات العظمة
﴿وعذاب﴾ أي مع الصغار
﴿شديد﴾ أي في الدنيا بالقتل والخزي وفي الآخرة بالنار
﴿بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا يمكرون﴾.
258
ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته، علم أن الأمر أمره، والقلوب بيده، فتسبب عن ذلك قوله:
﴿فمن يرد الله﴾ أي الذي له جميع الجلال والإكرام
﴿أن يهديه﴾ أي يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم
﴿يشرح صدره﴾ أي يوسعه بأن يجعله مهيئاً قابلاً بالنور
﴿للإسلام﴾ قال الإمام أبو جعفر النحاس: روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «يا رسول الله! وهل ينشرح الصدر؟ فقال: نعم، يدخل القلب نور، فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد
258
للموت قبل الموت»، وفي رواية: الفوت
﴿ومن يرد﴾ أي الله، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع
﴿أن يضله﴾ أي يخلق الضلال ويديمه في قلبه
﴿يجعل صدره﴾ أي الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار
﴿ضيقاً حرجاً﴾ أي شديد الضيق فيكون مرتجساً أي مضطرباً، روي أن عمر رضي الله عنه أحضر أعرابياً من كنانة من بني مدلج فقال له: ما الحرجة؟ فقال: شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية، وساق البغوي القصة ولفظه: وقال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء - ثم اتفقا - فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان والخير؛ وزاد البغوي: يقال سيبويه: الحرج - بالفتح المصدر، ومعناه: ذا حرج، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق، وقال المهدوي: هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه، وقال في النساء في قوله تعالى
﴿ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت﴾ [النساء: ٦٥] أي ضيقاً، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد: إنه الشك، وقول الضحاك: إنه الإثم، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم؛ وقال
259
النحاس:
﴿حرجاً مما قضيت﴾ أي شكاً وضيقاً، وأصل الحرج الضيق - انتهى. وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها - بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل - تأكيد أخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه، فمعنى الفتح: ضيقاً - بكسر الضاد وإسكان الياء ومعناه - إن كسرتَ حرجاً - ضيقاً بإعادة اسم الفاعل، ومادة حرج بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد، وهي - بأي ترتيب كان وهي خمسة: حرج جحر رجح حجر جرح - تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق، فيرجع إلى الصلابة الحرجُ بمعنى الضيق، والحرجة للغيضة، ولحرج للقلادة من الودع، والحرجوج للريح الشديدة الباردة، والناقة الحرجوج للوقادة القلب، ويجوز رجوعها إلى الحدة، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره، ولضيقه
260
عن أسرّة الأحياء، ومنه أيضاً جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض، ويرجع إلى الثقل الحرجُ بمعنى الإثم، وينشأ عن ذلك البعث المفضي إلى الحيرة، ومنه حرجت عينه، أي حارت فلا تطرف، ويلزم الثقل أيضاً الجرحُ بمعنى الطعن النافذ في البدن، ومن ذلك اجترح - إذا اكتسب مالاً، لأنه من آثاره، ومنه الرجحان بمعنى الثقل، والحكم الراجح الذي يوجب رزانة صاحبه، ومنه الأرجوحة لأن كلاًّ من طرفيها يرجح بالآخر، ويرجع إلى المنع الحجرُ بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد، والحجر في المال، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك - ولو قدر باع - امتنع منك، وكان التأنيث فيه لقربه، ويرجع إلى الشخوص الحرجُ للناقة الطويلة؛ وقال الإمام أبو الفتح بن جني رحمه الله في كتابه
«المحتسب في توجيه القراءات الشواذ» عند قوله تعالى في هذه السورة
«وحرث حرج» فيمن قرأ بتقديم الراء: إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال -
261
والله أعلم - نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته، وكله إلى التماسك والضيق، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله، ومنه الحجر وبابه لضيقه، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه، ومنه رجح الميزان - لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعاً بينه وبينها، فإن قلت: فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر؟ قيل: كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض، فأما الآخر فلا يقال له: راجح، وإذا ثبت ذلك - وقد ثبت - فكذلك قوله تعالى
﴿وحرث حرج﴾ في معنى حجر، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلاّ من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم - انتهى.
ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبداً؛ كانت ترجمته قوله:
﴿كأنما يصعد﴾ أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود
﴿في السماء﴾ في خفاء حياء من مزاولة ما لا يمكن، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته
262
حركته الطبيعية القسرية، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئاً ثقيلاً ويصعد به في جدار أملس، فيصير يتكلف ذلك فيقع، ثم يتكلف الصعود ايضاً فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط، وربما سقط دونه، فهو مما يمتنع عادة، فلا يزال مرتجساً أي مضطرباً ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده كما يأتي.
ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر، والمستقذر ينفر منه، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالاً، وهو أن يقال: هل هذا - وهو جعل الضال على هذه الصفة - خاص بأهل هذا الزمان، أجيب بما حاصله: لا،
﴿كذلك﴾ أي مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان
﴿يجعل الله﴾ أي بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة
﴿الرجس﴾ أي الاضطراب والقذر
﴿على الذين لا يؤمنون﴾ من أهل كل زمان لإرادته سبحانه دوام ضلالهم، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الضلال دليلاً على حذفه ثانياً، وذكر الرجس ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر.
ولما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي
263
له - مع استجماع الكمالات كلها - صفة العطف والإحسان واللطف، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة
«رجس» تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج، وكان التقدير: فهذا حال أهل الضلال، فعطف عليه قوله:
﴿وهذا﴾ أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية
﴿صراط﴾ أي طريق
﴿ربك﴾ أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط
﴿مستقيماً﴾ أي لا عوج فيه أصلاً، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر عندنا وعند المعتزلة، فلتكن الجزئيات كذلك لأن الخلق لا يتصور بغير علم، وليس غير الله محيط العلم؛ قال الإمام: فالآية التي قبلها من المحكمات، فيجب إجراؤها على ظاهرها، ويحرم التصرف فيها بالتأويل.
264
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل، بل لا بد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل:
﴿قد فصلنا﴾ أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة
﴿الآيات﴾ أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر
﴿لقوم يذكرون﴾ أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره - ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام - ليذكروا أنه قال: ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه.
ولما كان التذكر - عند الآيات لا يكون إلاّ من أهل العنايات في طرق الهدايات، قال مرغباً في التذكر فإنه سبب الفيض الإلهي على القلوب المهيأة له:
﴿لهم﴾ أي المتذكرين
﴿دار السلام﴾ أي الجنة، أضافها سبحانه إليه زيادة في الترغيب فيها، وخص هذا الاسم الشريف لأنه لا يلم بها شيء من عطب ولا خوف ولا نصب؛ ثم زاد الترغيب فيها بقوله:
﴿عند ربهم﴾ أي في ضمان المحسن إليهم وحضرته بما هيأهم له ويسره لهم
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿وليهم﴾ أي المتكفل بتولي أمورهم، لا يكلهم إلى أحد سواه، وهذا يدل على قربه منهم،
265
والعندية تدل على قربهم منه لما شرح من صدورهم بالتوحيد؛ ولما كان ذلك ربما قصر على التذكر، بين أن المراد منه التأدية إلى الأعمال فإنها معيار الصدق وميزانه فقال:
﴿بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا﴾ أي كما جبلهم عليه، فما كان ذلك إلاّ بفضله
﴿يعملون﴾.
266
ولما فصل سبحانه أحوال الفريقين، وحض على التذكر تنبيهاً على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب، لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلاّ عاتبه أو عاقبه، هذا مركوز في كل عقل؛ ذكر سبحانه ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة، وأبهمه في أولها، وبيّن في أثنائها بعض أحواله مراراً في وجوه من أفانين البيان، وهو يوم الحشر، فذكر هنا سبحانه بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب، لطفاً بهم واستعطافاً إلى المتاب، فقال جامعاً الفريقين
﴿ويوم﴾ أي اذكر في
266
تذكرك يوم
﴿يحشرهم﴾ أي أهل ولايتنا وأهل عداوتنا
﴿جميعاً﴾ لا نذر منهم أحداً
﴿يا﴾ أي فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتاً وتوبيخاً حين لا يكون لهم مدافعة أصلاً:
﴿معشر الجن﴾ أي المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم
﴿قد استكثرتم﴾ أي طلبتم وأوجدتم الكثرة
﴿من الإنس﴾ أي من إغواء المؤنسين الظاهرين حتى صار أكثرهم أتباعكم، فالآية من الاحتباك: عبر بما يدل على الستر أولاً دلالة على ضده - وهو الظهور - ثانياً، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانياً دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة - أولاً.
﴿وقال﴾ هو عطف على جواب الجن المستتر عن العامل في
«يا معشر» الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات التي تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة: فقالوا: ربنا هم ضلوا، لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا، فاستوجبوا العذاب بمفردهم، وستر جواب الجن لأنه - مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه- مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم، وذكره بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه، لأنه خبر من لا يخلف الميعاد، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما يأتي تفصيله بقوله
﴿قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا﴾ [الأعراف: ٣٨]-
267
الآية، وقوله
﴿فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً﴾ - الآية
﴿أولياؤهم﴾ أي الجن
﴿من الإنس﴾ أي الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال، معترفين مستعطفين
﴿ربنا﴾ أيها المربي لنا المحسن إلينا
﴿استمتع﴾ أي طلب المتاع وأوجده
﴿بعضنا ببعض﴾ نحن بهم فيما قالوا، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم
﴿وبلغنا﴾ أي نحن وهم
﴿أجلنا﴾ وأحالوا الأمر على القدر فقالوا:
﴿الذي أجلت لنا﴾ وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به، فاستوجبنا العذاب كلنا.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فما قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له؟ فقيل:
﴿قال﴾ أي المخاطب لهم عن الله
﴿النار مثواكم﴾ أي منزلكم جميعاً من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر
﴿خالدين فيها﴾ أي إلى ما لا آخر له، لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو إلى ما لا آخر له، فالجزاء من جنس العمل.
268
ولما كان من المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه، بين سبحانه أن ملكه ليس كذلك، بل هو على غاية الكمال، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل، وجميع ما يبدو منه حسن، فعلق دوام عذابهم على المشيئة فقال:
﴿إلا ما شاء﴾ ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية، عبر بالاسم الأعظم فقال:
﴿الله﴾ أي الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك، هيهات هيهات! انقطعت دون ذلك الآمال، فظلت ناكسة أعناق الرجال، وبيده إزار العز، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل، وأنزله في مهاوي الخزي، وقد تقرر أنه سبحانه لا يشاء انقطاع شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال، وفي سوقه معلقاً هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه.
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال، أتبعه اللطف بالمخاطب به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك.
ولما كان السياق - في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم - للحكمة والعلم، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم، قدم
269
وصفها فقال:
﴿حكيم﴾ أي فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضاً
﴿عليم *﴾ أي بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك.
ولما استبان بهذا أنه ولّى الكفرة من ظالمي الجن ظالمي الإنس وسلطهم عليهم، أخبر تعالى أن هذا عمله مع كل ظالم من أي قبيل كان سواء كان كافراً أو لا فقال:
﴿وكذلك﴾ أي ومثل تلك التولية التي سلطنا بها الجن على الإنس بما زاد عذاب الفريقين
﴿نولي﴾ أي نتبع في جميع الأزمان من جميع الخلق
﴿بعض الظالمين﴾ أي الغريقين في الظلم
﴿بعضاً﴾ أي بأن نجمع بين الأشكال، في الأوصاف الباطنة والخصال، ونسلط بعضهم على بعض في الضلال والإضلال، والأوجاع والأنكال
﴿بما كانوا﴾ بجبلاتهم
﴿يكسبون *﴾ أي بسبب اجتماعهم في الطباع التي طبعناهم عليها يجتمعون وينقاد بعضهم لبعض، بحسب ما سببنا من الأسباب الملائمة لذلك الظلم الذي يسرناه لهم، حتى صارت أعمالهم كلها في غير مواضعها، فيظلم بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً، وهم لا يزدادون إلا الالتئام حتى يستحق الكل ما كتبنا لهم من عذاب؛ روى الطبراني في الأوسط ن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن الله عزّ وجلّ يقول: أنتقم ممن
270
أبغض بمن أبغض ثم أصيّر كلاًّ إلى النار» وعن مالك بن دينار قال: رأيت في بعض كتب الله المنزلة أن الله تعالى يقول: افني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي. أو يقال: فقد أخبرنا أن الله عزّ وجلّ ولى المؤمنين بسبب محاسن أعمالهم، ومثل ما ولاهم ليعزهم يولي بعض الظلمة بعضاً ليهينهم بسبب ما كانوا يتعاطونه من مساوئ الأعمال ورديء الخلال وغث الخصال فيؤديهم إلى مهلك الأوجاع والأوجال، أو يقال: فقد بان أن كلاًّ من ظالمي الإنس والجن كان ولياً لكل، وكما جعلنا بعضهم أولياء بعض في الدنيا نفعل إذا حشرناهم في النار فنجعل بعضهم أولياء - أي أتباع بعض، ليستمتع بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً إن قدروا، وهيهات منهم ذلك هيهات! شغلهم البكاء والعويل والندم والنحيب.
ولما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته، فقال مبدلاً من الأولى إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع:
﴿يا معشر الجن﴾ قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم
﴿والإنس﴾ وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم
271
إلى التوبة:
﴿ألم يأتكم رسل﴾ ولما صار القبيلان بتوجيه الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال:
﴿منكم﴾ وإن كان الرسل من الإنس خاصة.
ولما كان النظر في هذه السورة إلى العلم غالباً لإثبات تمام القدرة الذي هو من لوازمه بدليل
﴿يعلم سركم وجهركم﴾ [الأنعام: ٣]،
﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ [الأنعام: ٥٣]
﴿وعنده مفاتح الغيب﴾ [الأنعام: ٥٩] وغيرها، ولذلك أكثر فيها من ذكر التفصيل الذي لا يكون إلاّ للعالم، كان القص - الذي هو تتبع الأثر - أنسب لذلك فقال
﴿يقصون﴾ بالتلاوة والبيان لمواضع الدلائل
﴿عليكم آياتي﴾ أي يتبعون بالعلامات التي يحق لها بما لها من الجلال والعظمة أن تنسب إلى مواضع شبهكم، فيحلونها حلاً مقطوعاً به
﴿وينذرونكم﴾ أي يخوفونكم
﴿لقاء يومكم هذا﴾ أي بما قالوا لكم أنه يطلبكم طلباً حثيثاً وأنتم صائرون إليه في سفن الأيام ومراكب الآثام وأنتم لا تشعرون سيراً سريعاً
﴿قالوا﴾ معذرين من أنفسهم بالذل والخضوع
﴿شهدنا﴾ بما فعلت بنا أنت سبحانك من المحاسن وما فعلنا نحن من القبائح
﴿على أنفسنا﴾ أي بإتيان الرسل إلينا ونصيحتهم لنا بدليل الآية الأخرى
﴿قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين﴾ [الزمر: ٧١] وبين أن ضلالهم كان بأردإ الوجوه وأسخفها الدنيا، بحيث إنهم اغتروا بها مع دناءتها لحصورها عن الآخرة مع شرفها لغيابها فقال:
﴿وغرتهم﴾
272
أي شهدوا هذه الشهادة والحال أنهم قد غرتهم
﴿الحياة الدنيا﴾ أي الحاضرة عندهم إذ ذاك الدنية في نفسها لفنائها، عن اتباع الرسل دأب الجاهل في الرضى بالدون والدابة في القناعة بالحاضر، فشهادتهم ضارة بهم، ولكن لم يستطيعوا كتمانها، بل
﴿وشهدوا﴾ أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال
﴿على أنفسهم﴾ أيضاً بما هو أصرح في الضرر عليهم من هذا، وهو
﴿أنهم كانوا﴾ جبلة وطبعاً
﴿كافرين *﴾ أي غريقين في الكفر، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً.
273
ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل
﴿أن﴾ أي لأجل أنه
﴿لم يكن ربك﴾ أي المحسن إليك بتشريف قومك
﴿مهلك﴾ أي ثابتاً إهلاكه
﴿القرى بظلم﴾
273
أي بسبب ظلم ارتكبوه
﴿وأهلها غافلون *﴾ أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقظوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب، ويجوز أن يكون المعنى: مهلكهم ظالماً، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى
﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ [فاطر: ٤٦] وعلى الأول المنفي ظلمهم.
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام، والآخر دار الملام، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله
﴿لهم دار السلام عند ربهم﴾ [الأنعام: ١٢٧] :
﴿ولكل﴾ أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين
﴿درجات﴾ أي يعليهم الله بها
﴿مما﴾ أي من أجل ما
﴿عملوا﴾ ودركات يهويهم فيها كذلك.
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم، وتضمن ذلك إمهالهم، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال:
﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال:
274
﴿بغافل عما يعملون *﴾ أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن.
ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز، قال مرغباً مرهباً:
﴿وربك﴾ أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله:
﴿الغني﴾ أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها
﴿ذو الرحمة﴾ أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً، استأنف بيان ذلك، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده:
﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي جميعاً بالإهلاك، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء
275
غير مشيئته، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً:
﴿ويستخلف﴾.
ولما كان لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال:
﴿من بعدكم﴾ أي بعد هلاككم
﴿ما يشاء﴾ أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه
﴿كما أنشأكم من ذرية﴾ أي نسل
﴿قوم آخرين *﴾ أي بعد أن أهلكهم أجمعين، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم، لم يكن في واحدة منها حياة.
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء:
﴿إن ما توعدون﴾ أي من البعث وغيره
﴿لآت﴾ أي لا بد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه
﴿وما أنتم بمعجزين *﴾ أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون.
ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر، فأنتج
276
الاجتهاد للعاقل - ولا بد - في العمل، وكان أكثر الخلق أحق، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله:
﴿قل يا قوم﴾ أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات
﴿اعملوا﴾ وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال:
﴿على مكانتكم﴾ أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد.
ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه، قال مستانفاً أو معللاً:
﴿إني عامل﴾ أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد، فيكون المعنى: اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة، إني كذلك أعمل فيما جئت به.
ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم، حسن إثبات الفاء في قوله: دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال:
﴿فسوف تعلمون﴾ أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم، فكأنه قيل: أيّ علم؟ فقيل:
277
﴿من تكون له﴾ كوناً كأنه جبل عليه
﴿عاقبة الدار﴾ أي بيني وبينكم، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم: عاقبة الدار للعامل العدل، استأنف قوله:
﴿إنه لا يفلح الظالمون *﴾ أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا، فلا يكون لهم عاقبة الدار، فالآية من الاحتباك: ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً.
278
ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم، شرع في تفصيل قوله
﴿أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ١٤] على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهاً على سخافة عقولهم تنفيراً عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك، فقال عاطفاً على
﴿وجعلوا لله شركاء الجن﴾ [الأنعام: ١٠٠] :
﴿وجعلوا﴾ أي المشركون العادلون بربهم
278
الأوثان
﴿لله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له
﴿مما ذرأ﴾ أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد
﴿من الحرث والأنعام نصيباً﴾ أي وجعلوا لشركائهم نصيباً؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول، سبب عنه قوله:
﴿فقالوا﴾ أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم
﴿هذا لله﴾ أي الملك الأعلى
﴿بزعمهم﴾ أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله، ولذا أسقط الزعم من قوله:
﴿وهذا لشركائنا﴾ أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم.
ولما كان هذا سفهاً بتسويتهم من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء، بين من فعلهم ما هو أشد سفهاً منه بشرح ما لوح إليه التعبير بالزعم فقال مسبباً عن ذلك ومفرعاً:
﴿فما كان لشركائهم﴾ أي بزعمهم أنهم شركاء
﴿فلا يصل إلى الله﴾ أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال
﴿وما كان لله﴾ أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة
﴿فهو يصل إلى شركائهم﴾ فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا: لو شاء الله لأزكى الذل له، فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة.
ولما بلغ هذا غاية السفه قال:
﴿ساء ما يحكمون *﴾ أي حكمهم هذا أسوأ حكم؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في
279
وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس، وأنهم لما وفدوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءاً له وجزءاً لله بزعمهم، قالوا: كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعاً آخر حجرة لله عزّ وجلّ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك
﴿وجعلوا لله﴾ الآية، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تلك الشياطين تكلمكم»، قالوا: فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده. وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، قال: وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن قتادة قال: كانوا يعزلون من أموالهم شيئاً فيقولون: هذا لله وهذا لأصنامهم، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم
280
يخالط شيئاً مما جعلوه ردوه، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئاً مما جعلوه لشركائهم تركوه، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال عزّ وجلّ
﴿ساء ما يحكمون﴾ وقال البغوي: كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا: إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله.
ولما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن المتكلمين من أجواف الأصنام وغيرهم، فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم
﴿زين لكثير من المشركين﴾.
281
ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه، فكان امتثال قوله غريباً، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال:
﴿قتل أولادهم﴾ أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال:
﴿شركاؤهم﴾ أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام.
ولما كان هذا أمراً معجباً، كان الأمر في قراءة ابن عامرالمولود في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشمول ببركة ذلك العصر الآخذ عن جلة من الصحابة الموصوف بغزارة العلم ومتانة الدين وقوة الحفظ والضبط وحجة النقل في إسناد الفعل إلى الشركاء بإضافة المصدر إلى فاعله أعجب، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول - وهو الأولاد - لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب.
ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال:
﴿ليردوهم﴾ أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه
﴿وليلبسوا﴾ أي يخلطوا ويشبهوا
﴿عليهم دينهم﴾
282
أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين: في النفس والدين، فان القتل في نفسه عظيم جداً، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه.
ولما كان العرب يدعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به، وأناط الأمر هناك - لأن السياق للأعداء - بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة الجلال فقال:
﴿ولو شاء الله﴾ أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون
﴿ما فعلوه﴾ أي ذلك الذي زين لهم، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئه احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً، وتسلية
283
لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً، وأكد التسلية بقوله:
﴿فذرهم وما يفترون *﴾ أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه.
284
ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم، وأشار إلى معانيها، جمعها - وصرح بما أثمرته من الخيبة - في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال:
﴿قد خسر﴾ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:
﴿الذين قتلوا﴾ قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف
﴿أولادهم سفهاً﴾ أي خفة إلى
286
الفعل المذموم وطيشاً، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً.
ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، قال مصرحاً بما أفهمه:
﴿بغير علم﴾ أي وأما من قتل ولده بعلم - كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً - فليس حكمه كذلك؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال:
﴿وحرموا ما رزقهم الله﴾ أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم، من تلك الأنعام والغلات، بغير شرع ولا نفع بوجه
﴿افتراء﴾ أي تعمداً للكذب
﴿على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة.
ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات: النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين، كانت نتيجته قوله:
﴿قد ضلوا﴾ أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله:
﴿وما كانوا﴾ أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق
﴿مهتدين *﴾ أي لم يكن في كونهم وصف الهداية، بل زادوا بذلك ضلالاً؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه: حدثنا
287
أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام
﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً﴾ - إلى قوله:
﴿وما كانوا مهتدين﴾. وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب.
ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم
288
أنصف الناس، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس - إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم، قال في موضع الحال من
﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام﴾ [الأنعام: ١٣٦] مبيناً عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عوداً على بدء وعللاً بعد نهل، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي أنشأ﴾ أي من العدم
﴿جنات﴾ أي من العنب وغيره
﴿معروشات﴾ أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه، أي لا تصلح إلا معروشة، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها
﴿وغير معروشات﴾ أي غير مرفوعات على الخشب، أي لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها، ومتى ارتفعت
289
عن الأرض تلفت، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له، لا يكون إلا ما يريد.
ولما ذكر الجنات الجامعة، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات فقال:
﴿والنخل﴾ أي وأنشأ النخل
﴿والزرع﴾ حال كونه
﴿مختلفاً أكله﴾ أي أكل أحد النوعين، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جداً
﴿والزيتون والرمان﴾.
ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل:
﴿متشابهاً﴾ أي كذلك
﴿وغير متشابه﴾ أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء - إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه، ولعله جمع الأولين لأن كلاًّ منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم، والتفاوت العظيم في المقدار، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه، والثاني يسرع
290
فساده، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك.
ولما كان قوله
﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء﴾ [الأنعام: ٩٩] في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تديناً فقال تعالى هنا:
﴿كلوا﴾ وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية؛ وقال أبو حيان في النهر: لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب، قال
﴿انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه﴾ [الأنعام: ٩٩] إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال: كلوا، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله:
﴿من ثمره﴾، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال:
﴿إذا أثمر﴾ فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة
291
الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب. انتهى. وعبر ب
«إذا» دون
«إن» تحقيقاً لرجاء الناس في الخصب وتسكيناً لآمالهم رحمة لهم ورفقاً بهم إعلاماً أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة.
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئاً من أموالهم لأحد بأهوائهم، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقاً وجعل له مصارف بقوله:
﴿وآتوا حقه﴾ ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال:
﴿يوم حصاده﴾ أي قطعه جذاذاً كان أو حصاداً، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع، والحق أعم من الواجب والمندوب، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية: العنب المشار إليه بالعرش وما بعده، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطلق عليه الحصاد مجازاً.
ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال:
﴿ولا تسرفوا﴾ وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً،
292
ويؤيده
﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا﴾ [الأعراف: ٣١]،
﴿ولا تبسطها كل البسط﴾ [الإسراء: ٢٩]، ثم علله بقوله:
﴿إنه لا يحب المسرفين *﴾ أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم، وقيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: ولا سرف في الخير.
293
ولما كان السياق للمآكل من الحرث والأنعام من حلال وحرام، وفرغ من تقرير أمر الحرث الذي قدم في الجملة الأولى لأنه مادة الحيوان، قال:
﴿ومن﴾ أي وأنشأ من
﴿الأنعام حمولة﴾ أي ما يحمل الأثقال
﴿وفرشاً﴾ أي وما يفرش للذبح أو للتوليد، ويعمل من وبره وشعره فرش؛ ولما استوفى القسمين أمر بالأكل من ذلك كله على وجه يشمل غيره مخالفة للكفار فقال:
﴿كلوا مما رزقكم الله﴾ أي لأنه الملك الأعظم الذي لا يسوغ رد عطيته
﴿ولا تتبعوا﴾ ولعله شدد إشارة إلى العفو عن صغيرة إذا ذكّر الإنسان فيها رجع ولم يعتد في هواه
﴿خطوات الشيطان﴾ أي طريقه في التحليل والتحريم كما قال في البقرة
﴿كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ [البقرة: ١٦٨] وعبر بذلك لأنه - مع كونه من مادة الخطيئة دال على أن شرائعه شريعة الأندراس، لولا مزيد الاعتناء من الفسقة بالتتبع في كل خطوة حال تأثيرها لبادر إليها المحو لبطلانها في نفسها، فلا أمر من الله يحييها ولا كتاب يبقيها، وإنما أسقط هنا
﴿حلالاً طيباً﴾ لبيانه سابقاً في قوله {فكلوا
293
مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: ١١٨]،
﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ [الأنعام: ١٢١]، ولاحقاً في قوله
﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً﴾ [الأنعام: ١٢٥] ؛ ثم علل نهيه عن اتباعه فقال:
﴿إنه لكم عدو﴾ أي فهو لذلك لا يأمركم بخير
﴿مبين *﴾ أي ظاهر العداوة لأن أمره مع أبيكم شهير.
ولما رد دين المشركين وأثبت دينه، وكانوا قد فصلوا الحرمة بالنسبة إلى ذكور الآدمي وإناثه، ألزمهم تفصيلها بالنسبة إلى ذكور الأنعام وإناثه، ففصل أمرها في أسلوب أبان فيها أن فعلهم رث القوى هلهل النسيج بعيد من قانون الحكمة، فهو موضع للاستهزاء وأهل للتهكم، فقال بياناً ل
﴿حمولة وفرشاً﴾ ﴿ثمانية أزواج﴾ أي أصناف، لا يكمل صنف منها إلا بالآخر، أنشأها بزواج كل من الذكر والأنثى الآخر، ولحق بتسميتهم الفرد بالزوج - بشرط أن يكون آخر من جنسه - تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر.
ولما كان الزوج يطلق على الاثنين وعلى ما معه آخر من نوعه، قال مبيناً أن هذا هو المراد لا الاثنان مفصلاً لهذه الثمانية:
﴿من الضأن﴾ جمع ضائن وضائنة كصاحب وصحب
﴿اثنين﴾ أي ذكراً وأنثى كبشاً ونعجة
﴿ومن المعز﴾ جمع ماعز وماعزة كخادم وخدم في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وتاجر وتجر في
294
قراءة غيرهم
﴿اثنين﴾ أي زوجين ذكراً وأنثى تيساً وعنزاً.
ولما كان كأنه قيل: ما المراد بهذا التفصيل قبل سؤالهم عن دينهم، قال:
﴿قل﴾ أي لهم مستفهماً؛ ولما كان هذا الاستفهام بمعنى التوبيخ والتهكم والإنكار، أتى فيه ب
«ام» التي هي مع الهمزة قبلها بمعنى
«أيّ» ليتفهم بها عما يعلم ثبوت بعضه وإنما يطلب تعيينه، فقال معترضاً بين المعدودات تأكيداً للتوبيخ، لأن الاعتراضات لا تساق إلاّ للتأكيد:
﴿ءآلذكرين﴾.
ولما كان المستفهم عنه بنصبه ما بعده لا ما قبله، قال:
﴿حرم﴾ أي الله، فإن كان كذلك لزمكم تحريم جميع الذكور
﴿أم الأنثيين﴾ ليلزمكم تحريم جميع الإناث، واستوعب جميع ما يفرض من سائر الأقسام في قوله:
﴿أما﴾ أي أم حرم ما
﴿اشتملت﴾ أي انضمت
﴿عليه﴾ وحملته
﴿أرحام الأنثيين﴾ أي من الذكور والإناث، ومتى كان كذلك لزمكم تحريم الكل فلم تلزموا شيئاً مما أوجبه هذا التقسيم فلم تمشوا على نظام.
ولما علم أنه لا نظام لهم فعلم أنهم جديرون بالتوبيخ، زاد في توبيخهم فقال:
﴿نبئوني﴾ أي أخبروني عما حرم الله من هذا إخباراً جليلاً عظيماً؛ ولما كان هذا الإخبار الموصوف لا يكون بشيء فيه شك، قال:
﴿بعلم﴾ أي أمر معلوم من جهة الله لا مطعن فيه
﴿إن كنتم صادقين﴾ أي إن كان لكم هذا الوصف.
295
ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس، - ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر - نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال:
﴿ومن الإبل اثنين﴾ أي ذكراً وأنثى
﴿ومن البقر اثنين﴾ أي كذلك
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين اختلقوا جهلاً وسفهاً ما تقدم عنهم
﴿ءآلذكرين﴾ أي من هذين النوعين
﴿حرم﴾ أي حرمهما الله
﴿أم الأنثيين﴾ أي حرمهما
﴿أما﴾ أي الذي
﴿اشتملت عليه﴾ أي ذلك المحرم على زعمكم
﴿أرحام الأنثيين﴾ أي حرمهما الله.
ولما كان التقدير: أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي؟ عادله توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم بقوله:
﴿أم كنتم شهدآء﴾ أي حاضرين
﴿إذ وصاكم الله﴾ أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه
﴿بهذا﴾ أي كما جزمتم عليه به، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه، ولا محرم ولا محلل غير الله، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق: لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة، سبب عنه قوله
296
معمماً ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد:
﴿فمن أظلم﴾ ووضع موضع
«منكم» قوله معمماً ومعلقاً للحكم بالوصف:
﴿ممن افترى﴾ أي تعمد
﴿على الله﴾ أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك
﴿كذباً﴾ كعمرو بن لحي الذي غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وكل من فعل مثل فعله.
ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها، جعل غاية فعلهم مقصوداً لهم تهكماً بهم فقال:
﴿ليضل الناس﴾ ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ، قال:
﴿بغير علم﴾.
ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا، كشفه سبحانه بقوله استئنافاً:
﴿إن الله﴾ وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال:
﴿لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين! وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله
﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ [الأنعام: ٢١].
297
ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله
297
بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعاً للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك، ومن حكم عن غير أمره عذب؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئاً بالتشهي مضل وظالم قولُه مبيناً البيان الصحيح لما يحل ويحرم جواباً لمن يقول: فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله:
﴿قل﴾ معلماً بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله
﴿لآ أجد﴾ أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، فإن
«لا» كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال
﴿في مآ﴾.
ولما كان ما آتاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله، بني للمفعول قوله:
﴿أوحي إليّ﴾ أي من القرآن والسنة شيئاً مما تقدم مما حرمتموه مطلقاً أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاماً
﴿محرماً على طاعم﴾ أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى
﴿يطعمه﴾ أي يتناوله أكلاً وشرباً أو دواء أو غير ذلك
﴿إلا أن يكون﴾ أي ذلك الطعام
﴿ميتة﴾ أي شرعاً، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية
﴿أو دماً مسفوحاً﴾ أي مراقاً من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال.
ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير ديناً، نص عليه وإن كان داخلاً في قوله
«ميتة» على ما قررته في المراد بها، وقال:
298
﴿أو لحمِ خنزير﴾ ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا، ولو قيل: أو خنزيراً لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حياً فقط، وقال:
﴿فإنه﴾ أي الخنزير
﴿رجس﴾ ليفيد نجاسة عينه وهو حي، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجساً، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه، فلو عاد عليه كان تكراراً.
ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض، فقال مبالغاً في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله:
﴿أو فسقاً﴾ أي أو كان الطعام خروجاً مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل، وهلك وتوى؛ ثم قال مفسراً له مقدماً لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير:
﴿أهل لغير الله﴾ أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله
﴿به﴾ أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تديناً؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وستراً لتقصيرهم فقال:
﴿فمن اضطر﴾ أي حصل له جوع خشي منه التلف، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد
299
على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطراً
﴿غير باغ﴾ أي على غيره بمكيدة
﴿ولا عاد﴾ أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة
﴿فإن ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة
﴿غفور﴾ أي يمحو الذنب إذا أراد
﴿رحيم﴾ أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له - في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته - أجراً عظيماً، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير، وذلك هو سبب تحريمها؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف - أي حرف الحرام - طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريماً وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه، ورين على القلب أو صفاء، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به
300
بذكر غيره، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى
﴿قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً﴾ [الأنعام: ١٢٥] هذا لمضرته بالبدن
﴿أو لحم خنزير﴾ وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها كما قال تعالى
﴿فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به﴾ وهذا لرينه على القلب، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعاراً بأن التحريم كان مستحقاً في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة تأليفاً لقلوب المشركين وتيسيراً على ضعفاء الدين الذين آمنوا واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصاراً منهم حتى أن الصديق رضي الله عنه كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام! وألحق بها في سورة
﴿الذين آمنوا﴾ ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة ببركة التسمية أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة، وألحق بها أيضاً في هذه السورة
301
تحريم الخمر لرجسها كالخنزير كما ألحقت المقتولة بالميتة، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر حرم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان فيه حظ من ذلك، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد لأنه لا يصلح إلاّ لسيدهم، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق، وألحق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريمَ المسكر الذي سكره مصنوع، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا، والربا بضع وسبعون باباً والشرك مثل ذلك، وجامع منزله في قوله تعالى
﴿الذين يأكلون الربا﴾ إلى قوله:
﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ [البقرة: ٢٧٥] إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة﴾ [آل عمران: ١١٣]- الآية ما يلحق بذلك في قوله:
﴿وما آتيتم من ربا﴾ [الروم: ٣٩]- الآية، هكذا قال: إن هذه الآية مدنية، وهو - مع كوني لم أره لغيره - مشكل بقوله
﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم﴾ [الأنعام: ١١٩]- الآية.
302
ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى أنه حمي من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى، وجامع منزله في قوله تعالى:
﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام﴾ [البقرة: ١٨٨]- الآية إلى ما ينتظم به من قوله تعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾ [النساء: ٢٩] إلى ما ينتظم به من قوله تعالى:
﴿وآتوا اليتامى أموالهم﴾ [النسا: ٢]- الآيات في أموال اليتامى، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول: من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة؛ ولما كان له متسع، وقع فيما بين الحلال البين والحرام
303
البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه
«الطيب»، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها، وهو الورع الذي هو ملاك الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف الحرام تماماً في العلم والحال والعمل: اعلم أن الإنسان لما كان خلقاً جامعاً كانت فيه بزرتان: بزرة للخير وبزرة للشر، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده، فأول الحروف في الترتيب العمل، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق
304
وما يغضب الرب، فمن أصاب شيئاً من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها
«من لم يبال من أيّ باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أيّ باب أدخله النار».
ولما كان الورع كف اليد ظاهراً عن الشيء الضار، وكانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس، لم يصح الورع ظاهراً إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء؛ ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى أن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المستنطف من المستقذرات، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل.
ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق، قلت: وسيأتي قريباً تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلاً في النفس وتطبيعاً لها بخلق ما هو دمه من اللحم - والله الموفق؛ وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان، وذلك لأن
305
من اعتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما أظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس، ولذلك هي جماع الإثم، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان
306
﴿الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً﴾ [النساء: ١٠] وإن لم يحس بها، وليس تأويله الوعد بالنار لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى
﴿وسيصلون سعيراً﴾ [النساء: ١٠]، وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا، ولما فيه أيضاً من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس
﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ [البقرة: ٢٧٥] وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه، لأنه مأخوذ عن غير الله، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقاً وكفراً لأنه تناول الروح من يد من لا يملكها، ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده، الذين قال فيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«كثر هؤلاء من القراء، لا كثّرهم الله!» ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف
307
دعاؤه
«الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يقول: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك!» فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه - والله ولي التوفيق.
308
ولما كان قوله
﴿طاعم﴾ نكرة في سياق النفي، يعم كل طاعم من أهل شرعنا وغيرهم، وكان سبحانه قد حرم على اليهود أشياء غير ما تقدم، اقتضت إحاطة العلم أن قال مبيناً لإحاطة علمه وتكذيباً لليهود في قولهم: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنما حرمنا على أنفسنا ما حرم إسرائيل على نفسه:
﴿وعلى الذين هادوا﴾ أي اليهود
﴿حرمنا﴾ بما لنا من العظمة التي لا تدافع
﴿كل ذي ظفر﴾ أي على ما هو كالإصبع للآدمي من الإبل والسباع والطيور التي تتقوى بأظفارها
﴿ومن البقر والغنم﴾ أي التي هي ذوات الأظلاف
﴿حرمنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿عليهم شحومهما﴾ أي الصنفين؛ ثم استثنى فقال:
﴿إلا ما حملت ظهورهما﴾ أي من الشحوم مما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما
﴿أو الحوايا﴾ وهي الأمعاء التي هي متعاطفة متلوية، جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن، وقيل: جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء
﴿أو ما اختلط﴾ أي من الشحوم
308
﴿بعظم﴾ مثل شحم الألية فإن ذلك لا يحرم، وهذا السياق بتقدم الجار وبناء الكلام عليه يدل على أن ما عدا المذكور من الصنفين حلال لهم.
ولما كان كأنه قيل: لم حرم عليهم هذه الطيبات؟ قيل:
﴿ذلك﴾ أي التحريم العظيم والجزاء الكبير وهو تحريم الطيبات
﴿جزيناهم﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿ببغيهم﴾ أي في أمورهم التي تجاوزوا فيها الحدود، وفي إيلاء هذه الآية - التي فيها ما حرم على اليهود - لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان: أحدهما بيان اطلاعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله
﴿غير محلي الصيد وأنتم حرم﴾ [المائدة: ١] فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبقى لمتعنت كلام، فحسن جداً ختم ذلك بقوله
﴿وإنا لصادقون *﴾ أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة، وتعقيبه بقوله:
﴿فإن﴾ أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز
309
الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك:
﴿كذبوك فقل﴾ والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا
﴿ربكم﴾ أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان
﴿ذو رحمة واسعة﴾ أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه.
ولما أخبر عن رحمته، نوه بعظيم سطوته فقال:
﴿ولا يرد بأسه﴾ أي إذا أراد الانتقام
﴿عن القوم المجرمين *﴾ أي القاطعين لما ينبغي وصله، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة.
ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً، اقتضى الحال أن يقال: قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم، فهل بقي لهم مقال؟ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه:
﴿سيقول﴾ أي في المستقبل، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال:
﴿الذين أشركوا﴾
310
تكذيباً منهم
﴿لو شاء الله﴾ أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا
﴿ما أشركنا﴾ أي بصنم ولا غيره
﴿ولا أباؤنا﴾ أي ما وقع من إشراك
﴿ولا حرمنا من شيء﴾ أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه فهو حق.
ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات، كان كأنه قيل تعجباً منهم: هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا؟ فقيل: نعم
﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب
﴿كذب الذين﴾ ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام، فهو لا يسأل عما يفعل، وتمادى بهم غرور التكذيب
﴿حتى ذاقوا بأسنا﴾ أي عذابنا لما لنا من العظمة، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا،
311
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة.
ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم - كما أشير إليه في سورة الحج - تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج
﴿هل عندكم﴾ أيها الجهلة، وأغرق في السؤال فقال:
﴿من علم﴾ أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك
﴿فتخرجوه لنا﴾ أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً، فهو تهكم بهم.
ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم، قال دالاً على ذلك:
﴿إن﴾ أي ما
﴿تتبعون﴾ أي في قولكم هذا وغالب أموركم
﴿إلا الظن﴾ أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع
﴿وإن﴾ ي وما
﴿أنتم إلا تخرصون *﴾ أي تقولون تارة
312
بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين.
313
ولما كانت هذه الآيات الثلاث وافية بالآيات العشر التي كتبها الله
321
لموسى عليه السلام على لوحي الشهادة في أول ما أوحي إليه في طور سيناء المشار إليها بقوله
﴿وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ [الأنعام: ٩١] وبنى عليها التوراة وأمره أن يودعها في تابوت العهد لتكون شهادة عليهم وعلى أعقابهم كما هو مذكور في وسط السفر الثاني من التوراة وقد مضى بيانه في البقرة ويأتي في آخر هذه المقولة وزائدة عليها من الأحكام والمحاسن ما شاء الله؛ حسن أن تذكر بعدها التوراة، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى كل من الترتيب والتعظيم:
﴿ثم آتينا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تقتضي تعظيم ما كان من عندنا
﴿موسى الكتاب﴾ أي المشار إليه بقوله تعالى
﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ [الأنعام: ٩١]- وهي - والله أعلم - معطوفة على قوله
﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر﴾ [الأنعام: ١٤٦] لأنه تعالى بعد أن أعطى موسى العشر الآيات واعده إلى الجبل مواعدة ثانية، فشرع له بعض الأحكام وأمره بنصب قبة الزمان التي يوحي إليه فيها ويصلون إليها، وببعض ما يتخذ من آلاتها كما مضى في البقرة، ثم ذكر بعد ذلك بيسير تحريم الشحوم عليهم، فقال في أوائل السفر الثالث وهو سفر الكهنة، وفيه تلخيص أمر القرابين: ودعا الرب موسى وكلمه في قبة الأمد وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: كل إنسان منكم إذا قرب للرب قرباناً من البهائم فلتكن قرابينكم من البقر ومن الغنم - إلى
322
أن قال: ويقرب قرباناً للرب الحجاب المبسوط على الأحشاء وكل الثوب الذي على الأكشاح والكليتين والشحم الذي عليهما وعلى الجنب - إلى أن قال: وقال: الشحوم للرب عهد الأبد، ولا تأكلوا دماً ولا شحماً، ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: لا تأكلوا شحم البقر ولا شحم الغنم: الضأن والماعز جميعاً، لأن كل من أكل شحم بهيمة ويقرب قرباناً للرب، تهلك تلك النفس من شعبها، ولا تأكلوا دماً حيث ما سكنتم، لا دم البهائم ولا دم الطير، وأيّة نفس أكلت دماً تهلك تلك النفس من شعبها، وقال في السفر الخامس: فأما الدم فلا تأكلوا ولكن ادفقوه على الأرض مثل الماء، ثم قال بعده بقليل: وكلوا في قراكم من كل شهوات أنفسكم، ولكن إياكم أن تأكلوا دماً، لأن دم البهيمة هو في نفسها، فلا تأكلوا النفس مع اللحم ليحسن إليكم وإلى أولادكم من بعدكم إذا عملتم الحسنة أمام الله ربكم؛ رجع إلى السفر الثالث ثم قال: ودخل موسى وهارون إلى قبة الزمان وخرجا ودعوا الشعب، فظهر مجد الرب أمام جميع الشعب، ونزلت نار من قبل الرب فأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة له على المذبح، وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله، وخر
323
الشعب كله على وجهه؛ ثم ذكر عقب ذلك بيسير محرمات الحيوان، وكذا ذكر في السفر الخامس وقد جمعت بينهما ومعظم السياق للخامس: قال: لا تأكلوا شيئاً نجساً، هذا! كلوا من جميع البهائم: الثور: والحمل والنعجة والمعز والأيل والظبي والجوذر والرخ والرئم والوعل والثيثل كل بهيمة ذات ظلف مقسوم ظلفها تجتر كلوها، وحرموا من التي لا تجتر، ومن التي لها ظلوف مقسومة ولا تجتر الجمل والأرنب والوبر التي تجتر وليس لها أظلاف مقسومة هي نجسة لكم، وفي الثالث: وحرموا من البهائم التي ليست لها أظلاف التي تجتر: الجمل الذي يجتر وليس له أظلاف هو نجس محرم عليكم، والأرنب الذي يجتر وليس له أظلاف منجس محرم عليكم؛ رجع: والخنزير الذي له أظلاف ولا يجتر هو نجس، لا تأكلوا من لحوم هذه ولا تقربوا إلى أجسادها؛ وقال في الثالث: ولا تمسوا لحومها لأنها نجسة محرمة عليكم؛ وقال في الخامس من ترجمة الاثنين والسبعين: وإياكم أن تأكلوا كل نجس، ويكون الذي تأكلونه من الدواب العجل من البقر والخروف من الغنم والجدي من المعز أو الأيل والغزال والعين
324
والوعل وعنز الجبل واليحمور وناقة القمر والزرافة، وكل دابة مشقوقة الظلف وهي تنبت أظافير في كل ظلفها واجتر من الدواب.
فإياه فكلوا، والذي لا تأكلون منه من الذي يجتر ومن المشقوق الظلف الذي ينبت له أظافير الجمل والأرنب واليربوع، فإن ذلك يجتر ولكنه غير مشقوق الظلف، وهو لا يحل لكم، والخنزير أيضاً فإن ظلفه مشقوق وينبت في ظلفه أظافير غير أنه لا يجتر، وما لا يجتر فإنه لا يحل لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تقربوا أجسادها؛ وقال في الثالث منها: وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: كلما بني إسرائيل وقولا لهما: إن الذي تأكلونه من المواشي من جميع الأنعام التي على الأرض كل بهيمة قد شق ظلفها وهي تخرج أظفاراً في كلا ظلفيها وتجتر، فذلك الذي تأكلونه من الأنعام، والذي لا يحل مما يجتر ولم يشق ظلفه الجمل الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم، واليربوع - وفي نسخة: السنجاب - الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم لم يطهر لكم، والأرنب الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه لا يطهر لكم والخنزير فإنه مشقوق الظلف ويخرج أظفاراً في ظلفه وهو لا يجتر فإنه لا يطهر لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تمسوا ما مات منها، فإن
325
ذلك لا يطهر لكم؛ رجع إلى نسختي، ثم ذكر في الطير ودواب البر قريباً مما في شرعنا إلى أن قال: ولا تأكلوا أشياء نجسة بل ادفعوها إلى السكان الذين في قراكم يأكلونها أو يبيعونها من الغرباء، لأنك شعب طاهر لله ربك لا تطبخوا جدياً بلبن أمه؛ وقال في ترجمة الاثنين والسبعين: ولا تطبخ الخروف بلبن أمه؛ وقال في السفر الخامس: وكلوا من الطير ما كان زكياً وحرموا هذه التي أصف لكم، لا تأكلوا منها شيئاً: النسر والحداء - وذكر نحواً مما عندنا، وقال في نسختي في الثالث: فمن مس شيئاً من هذه - أي المحرمات - يكون نجساً إلى المساء، ومن حمل منها شيئاً فليغسل ثيابه ويكون نجساً إلى الليل - انتهى.
الظبي - بالمعجمة المشاركة - معروف، والجوذر - بفتح الجيم والذال المعجمة والراء: البقرة الوحشية، والرئم - بكسر المهملة: الظبي الخالص البياض، والثيثل - بمثلثتين مفتوحتين بينهما ياء تحتانية ساكنة: بقر الوحش، والأيل - بفتح الهمزة وكسر التحتانية المشددة، الوعل - بفتح الواو وكسر المهملة - وهو تيس الجبل، والحمل - بفتح المهملة: الرضيع من أولاد الضأن، وقوله: لا تطبخوا جدياً بلبن أمه، الظاهر أن معناه النهي عن أكله ما دام يرضع، وما بعد الذي في الثالث هو معظم التوراة، والذي في الخامس إنما هو إعادة لما في الثالث، فإن الخامس تلخيص لجميع ما تقدمه من القصص والأحكام مع زيادات، فصدق أن إيتاء الكتاب أتى معظمه بعد
326
تحريم ما حرم عليهم، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: ذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نسبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن، وذلك هي العشر الآيات التي هي أول ما كتبه الله لموسى عليه السلام، وهي أول التوراة في الحقيقة لأنها أول الأحكام، وما قبلها فهو قصص وحاصل هذه العشر آيات: الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكونن لك إله غيري، لا تقسم باسمي كذباً، احفظ يوم السبت، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس، فالمعنى: ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة، ويجوز أن يكون التقدير: لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أمة من الأمم ولا تنسخ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة
﴿ثم آتينا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿موسى الكتاب﴾ أي جميعه وهي فيه، حال كونه
﴿تماماً﴾ لم ينقص عما يصلحهم شيئاً
﴿على﴾ الوجه
﴿الذي أحسن﴾ أي أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بيّن
327
من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك بعامه، فإنه نقل أن الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عاماً بعد إنزال التوراة
﴿وتفصيلاً لكل شيء﴾ من جملة ذلك الفصل المحتوي على الكلمات الحاوية لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، كما أن القرآن تفصيل لكل شيء من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين، وفي هذين الاحتمالين المقتضيين لكون
«ثم» على حقيقتها من الترتيب والمهلة علم من أعلام النبوة، وهو الاطلاع على أن العشر الآيات وتحريم ما حرم عليهم بالبغي في أوائل ما أوحي إلى موسى عليه السلام بعد إغراق فبعون وأن معظم التوراة أنزل بعد ذلك، وهذا لا يعرفه إلا أحبارهم
﴿وهدى﴾ أي بياناً
﴿ورحمة﴾ أي إكراماً لمن يقبله ويعمل به
﴿لعلهم﴾ أي بني إسرائيل
﴿بلقاء ربهم﴾ أي الذي أخرجهم من مصر من العبودية والرق بقوته العظيمة وكلماته التامة
﴿يؤمنون *﴾ أي ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب - لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره - حال من يرجى أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه لقدرته على البعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء لأنه لا تستقل به العقول، وإنما يثبت بالسمع مع تجويز العقل له، فيعلموا أنه لا يشبهه شيء كما أن كلامه لا يشبهه كلام فلا يبغوا باتخاذ عجل غاية
328
أمره خوار لا يفهم ومجمجة لا تفيد.
فلما بين أن إنزال الكتب رحمة منه لأن غايتها الدلالة على منزلها فتمتثل أوامره وتتقى مناهيه وزواجره، بين أنه لم يخص تلك الأمم بذلك، بل أنزل على هذه الأمة كتاباً ولم يرض لها كونه مثل تلك الكتب، بل جعله أعظمها بركة وأبينها دلالة، فقال:
﴿وهذا﴾ أي القرآن
﴿كتاب﴾ أي عظيم
﴿أنزلناه﴾ أي بعظمتنا إليكم بلسانكم حجة عليكم
﴿مبارك﴾ أي ثابت كل ما فيه من وعد ووعيد وخير وغيره ثباتاً لا تمكن إزالته مع اليمن والخير.
ولما كان هذا معناه: وكان داعياً إليه محبباً فيه، سبب عنه قوله:
﴿فاتبعوه﴾ أي ليكون جميع أموركم ثابتة ميمونة، ولما أمر باتباعه وكان الإنسان ربما تبعه في الظاهر، أمر بإيقاع التقوى المصححة للباطن إيقاعاً عاماً، ولذلك حذف الضمير فقال:
﴿واتقوا﴾ أي ومع ذلك فأوقعوا التقوى، وهي إيجاد الوقاية من كل محذور، فإن الخطر الشديد والسلامة على غير القياس، فلا تزايلوا الخوف من منزله بجهدكم، فإن ذلك أجدر أن يحملكم على تمام الاتباع وإخلاصه
﴿لعلكم ترحمون *﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى له الإكرام بالعطايا الجسام، والآيتان ناظرتان إلى قوله تعالى
﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ - إلى قوله -:
﴿وهم على صلاتهم يحافظون﴾ [الأنعام: ٩٢]، ثم بين المراد من إنزاله
329
وهو إقامة الحجة البالغة فقال:
﴿أن﴾ أي لأن لا
﴿تقولوا﴾ أو كراهة أن تقولوا أيتها الأمة الأمية
﴿إنما أنزل الكتاب﴾ أي الرباني المشهور
﴿على طائفتين﴾ وقرب الزمن وبعّضه بإدخال الجار فقال:
﴿من قبلنا﴾ أي اليهود والنصارى
﴿وإن﴾ أي وأنا - أو وأن الشأن -
﴿كنا عن دراستهم﴾ أي قراءتهم لكتابهم قراءة مرددة.
ولما كانت هي المخففة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال:
﴿لغافلين*﴾ أي لا نعرف حقيقتها ولا ثبتت عندنا حقيتها ولا هي بلساننا
﴿أو تقولوا﴾ أي أيها العرب: لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها، ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه، و
﴿لو أنا﴾ أهلنا لما أهلوا له حتى
﴿أنزل علينا الكتاب﴾ أي جنسه أو الكتاب الذي أنزل إليهم من عند ربنا
﴿لكنا أهدى منهم﴾ أي لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق، ولذلك سبب عن هاتين العلتين قوله:
﴿فقد جاءكم﴾ وذكر الفعل مدحاً لهذا القرآن وتفضيلاً وتشريفاً له على كل ما تقدمه وتنبيهاً على أن بيان هذه السورة في النهاية لأنها سورة أصول الدين
﴿بينة﴾ أي حجة ظاهرة بلسانكم
﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك
﴿وهدى﴾ أي بيان لمن تدبره عظيم
﴿ورحمة﴾ أي إكرام لمن قبله،
330
فكذبتم بها.
ولما قامت عليهم الحجة، حسن وقوع تحذير التقرير بقوله:
﴿فمن﴾ أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يقال بياناً لأنكم أظلم الناس: من
﴿أظلم ممن كذب﴾ أي أوقع التكذيب
﴿بآيات الله﴾ أي الذي لا أعظم منه فلا أعظم من آياته، لأن الأثر على قدر المؤثر
﴿وصدف﴾ أي أعرض إعراضاً صار به كأنه في صفد أي سد عن سهولة الانقياد للدليل
﴿عنها﴾ بعد ما عرف صحتها.
ولما كان الجواب قطعاً: لا أحد أظلم منه، فكان الحال مقتضياً لتوقع ما يجازى به، قال:
﴿سنجزي﴾ أي بوعد صادق لا خلف فيه، وأظهر ما أصله الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:
﴿الذين يصدفون﴾ أي يجددون الإعراض ولا يتوبون
﴿عن آياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة
﴿سوء العذاب﴾ أي الذي يسوء نفسه
﴿بما كانوا يصدفون *﴾ أي بسبب إعراضهم الذي كان عادة لهم.
331
ولما كان أسوأ السوء حقوق العذاب، وكان حقوقه بعدم قبول التوبة، فسره بقوله مهوناً له ومسهلاً بتجريد الفعل:
﴿هل ينظرون﴾ أي ما ينتظرون هؤلاء المكذبون أدنى انتظار وأقربه وأيسره
﴿إلا أن تأتيهم﴾ أي حال تكذيبهم
﴿الملائكة﴾ أي بالأمر الفيصل من عذابهم
331
كما هي عادتها في إتيانها المكذبين
﴿أو يأتي ربك﴾ أي ظهور أمر المحسن إليك أتم ظهور بجميع الآيات التي تحملها العقول وذلك يوم الجزاء
﴿أو يأتي﴾ وأبهم تهويلاً للأمر وتعظيماً فقال:
﴿بعض آيات ربك﴾ أي أشراط الساعة التي يكون فيها ظهوره التام وإحسانه إليك الأعظم مثل دابة الأرض التي تميز الكافر من المؤمن وطلوع الشمس من مغربها المؤذن بإغلاق باب التوبة؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل»، ثم قرأ الآية.
ولما كان إتيان الملائكة - أي كلهم أمراً لا يحتمل العقول وصف عظمته، ولا بشرى للمجرمين عند رؤيته، فإنه لو وقع على صورتهم لتقطعت أوصالهم ولم يحتمله قواهم فقضي الأمر ثم لا ينظرون، وأما تجلي الرب سبحانه وعز اسمه وجلت عظمته.
فالأمر أعظم من مقالة قائل | إن رقق البلغاء أو إن فخموا |
ترك ما يترتب عليه وقال:
﴿يوم يأتي﴾ أي يكشف ويظهر
﴿بعض آيات ربك﴾ أي المحسن إليك بالإتيان بذلك تصديقاً لك وترويعاً وتدميراً لمخالفيك
﴿لا ينفع نفساً﴾ أي كافرة
﴿إيمانها﴾ أي إذ ذاك، ولا نفساً مؤمنة كسبها الخير إذ ذاك في إيمانها المتقدم على تلك الآية بالتوبة فما وراءها، ولذلك بينه وبقوله واصفاً نفساً:
﴿لم تكن﴾
332
أي الكافرة
﴿آمنت﴾ ويسر الأمر ببعض زمان القبل، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها.
ولما ذكر الكافرة، أتبعها المؤمنة فقال عاطفاً على
«آمنت» :
﴿أو﴾ لم تكن المؤمنة العاصية
﴿كسبت﴾ أي من قبل
﴿في إيمانها﴾ أي السابق على مجيء الآية
﴿خيراً﴾ أي توبة، وبعبارة أخرى: نفساً كافرة إيمانها المجدد بعد مجيء الآية، وهو معنى
﴿لم تكن آمنت من قبل﴾ أو نفساً مؤمنة كسبها الخير بعد مجيء الآية ما لم تكن كسبت في إيمانها السابق على الآية خيراً، والحاصل أنه لا يقبل عند ذلك إيمان كافر ولا توبة فاسق - كما قاله البغوي - لأن المقصود من التصديق والتوبة الإيمان بالغيب وقد فات بالآية الملجئة، فيكون فاعل الفعل المقدر في
«كسبت» محذوفاً، والتقدير: لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل، أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً إيمانها وكسبها، فالإيمان راجع إلى من لم يؤمن، والكسب راجع إلى من لم يكسب، وهو ظاهر، والتهديد بعدم نفع الإيمان عند مجيء الآية أعظم دليل على ما ذكرته من التقدير، والآية من الاحتباك: ذكر إيمانها أولاً دليل على حذف كسبها من الجملة الثانية، وذكر جملتي آمنت وكسبت ثانياً دال على حذف كافرة ومؤمنة أولاً.
ولما كان هذا تهديداً - كما ترى - هائلاً، أتبعه ما هو أشد منه للتنبيه
333
على أن أهل الإيمان سالمون من ذلك بقوله:
﴿قل انتظروا﴾ أي بغاية جهدكم أيها المكذبون
﴿إنا منتظرون *﴾ بجهدنا، وستعلمون لمن تكون العاقبة.
ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه، وأشرفت السورة على الانقضاء. وكان من المعلوم قطعاً أن الحق - من حيث هو حق - شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته؛ اشتد استشراف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عموماً وعليهم خصوصاً، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم، فلما ختم سبحانه بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره، فثبته سبحانه وسلاه بقوله:
﴿إن الذين فرقوا﴾ أي بعد إبلاغك إياهم
﴿دينهم﴾ أي بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه، لأن الكفر بعضه كفر بكله، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه
334
﴿وكانوا شيعاً﴾ كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزاباً بالاستكثار من الأصنام، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان: النور والظلمة، وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنماً يتوسل به في زعمهم إليه
﴿لست منهم﴾ أي من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم
﴿في شيء﴾ وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق.
ولما خفف عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبرئته منهم، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته، فقال جواباً لمن يقول: فإلى من يكون أمرهم؟ :
﴿إنما أمرهم﴾ أي في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد
﴿إلى الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه غيره، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة.
ولما كان الحشر متراخياً عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان، لا تبلغ كنه عظمته العقول، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه
335
بقوله:
﴿ثم﴾ بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال
﴿ينبئهم﴾ أي تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين
﴿بما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يفعلون *﴾ أي من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها، والآية - مع ما تقدم من مقتضياتها - تعليل لقوله
﴿ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ [الأنعام: ١٥٣].
336
ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه، أعلم أنه يستحقه وحده فقال:
﴿لا شريك له﴾ أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية، فأبان بهذا أن وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة.
ولما دل على ذلك ببرهان العقل، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره: إلى ذلك أرشدني دليل العقل:
﴿وبذلك﴾ أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص.
339
ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله، بني للمفعول قوله:
﴿أمرت﴾ أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان ينبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من الدلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية
﴿وأنا أول المسلمين *﴾ أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين، لا اختيار لي أصلاً، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول.
ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه، وكان آخر ذلك أن دعاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً، وأيأس الكفار من موافقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل، أمره
340
سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة، والتوبيخ الشديد فقال:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم
﴿أغير الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿أبغي﴾ أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً
﴿رباً﴾ أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم، والإسناد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف
﴿وهو﴾ أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع
﴿رب كل شيء﴾ أي موجده ومربيه، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه.
ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال:
﴿ولا﴾ أي والحال أنه لا
﴿تكسب كل نفس﴾ أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل - كما مضى في آية البقرة
﴿إلا عليها﴾ أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها، وإذا كان عليها
341
لا يمكن أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب! وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون عليها إلا ما بالغت فيه، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وآية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي لا يقع إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب، وأحسن من هذا أن يقال: ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم:
﴿ولا تكسب كل نفس﴾ بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها
﴿إلا عليها﴾ ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له، نفى ذلك بقوله:
﴿ولا تزر وازرة﴾ أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً
﴿وزر﴾ أي إثم
﴿أخرى﴾ ﴿وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى﴾ [فاطر: ١٨] فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع
342
وإن طال المدى.
ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال: إني لا أفعل شيئاً من ذلك، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً، وأما أنتم فافعلوا ما أنتم فاعلون فإن ربكم عالم به:
﴿ثم﴾ أي بعد طول الإمهال لكم لطفاً منه بكم
﴿إلى ربكم﴾ أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة، لا إلى غيره
﴿مرجعكم﴾ أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً
﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى.
ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم، قال:
﴿بما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال:
﴿فيه تختلفون *﴾ أي مع رسول وغيره، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته؛ قال أبو حيان: حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية - انتهى.
ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية، وختم بالتهديد بالحشر،
343
أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان، فقال عاطفاً على
﴿وهو رب كل شيء﴾ مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي جعلكم﴾ أي أيها الإنس
﴿خلائف الأرض﴾ أي تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه، ويجوز أن يراد بذلك العرب، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان
﴿ورفع بعضكم﴾ في مراقي العقل والعلم والدين المال والجاه والقوة الحسية والمعنوية
﴿فوق بعض درجات﴾ أي مع كونكم من نفس واحدة، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار، لا بعجز ولا جهل ولا بخل؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿ليبلوكم﴾ أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم
﴿في ما آتاكم﴾ فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير، ويشكر القوي ويصبر الضعيف!.
ولما ذكر علو بعضهم على بعض، وكان من طبع الآدمي التجبر، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير - بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة - إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من
344
تمهيد الأسباب، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب:
﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك
﴿سريع الحساب﴾ أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد
﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢]، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ.
ولما هدد وخوف، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال:
﴿وإنه لغفور رحيم *﴾ معلماً بأنه - على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك - بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة
﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة﴾ [النحل: ٦١]، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله
﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ [الأنعام: ١٢]،
«إن رحمتي سبقت غضبي» لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال: حينئذ
345
يسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام، فقد ختم السورة بما به ابتدأها، فإن قوله:
﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ هو المراد بقوله:
﴿هو الذي خلقكم من طين﴾ [الأنعام: ٢] وقوله:
﴿أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء﴾ [الأنعام: ١٦٤] هو معنى قوله:
﴿خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ [الأنعام: ١]، - والله الموفق.
346
سورة الأعراف
مقصودها إنذار من أعراض عما إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام، وتحذيره بقوارع الدرارين، وهذا أحسن مما كان ظهر لي وذكرته عند (والوزن يومئذ الحق) وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار والوقوف على حقيقة ما فيها وما أعد لأهلها الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق) بسم الله (المتردي برداء الكبر وإزار العظمة والجلال) الرحمن (الذي من رحمته انتقامه من أهل الكفر والضلال) الرحيم (الهادي لأهل الاصطفاء إلى لزوم طريق الوفاء)
(المص).
347