وهي مكية إلا الآيات ٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٣، ١١٤، ١٤١، ١٥١، ١٥٢، ١٥٣، وقد روى كثير من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة.
مناسبة هذه السورة لما قبلها :
الناظر إلى ترتيب السورة كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل في الحفظ، فالناس يبدؤون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدؤون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعي التناسب في معاني السور مع التناسب في مقدار الطول والقصر.
ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة :
( ١ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام.
( ٢ ) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت في المائدة بالتفصيل وهي قد نزلت أخيرا.
( ٣ ) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال :﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾ [ الزمر : ٧٥ ].
ﰡ
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون١ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون٢ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ﴾ [ الأنعام : ١ ٣ ].
تفسير المفردات : الحمد : هو الثناء الحسن والذكر الجميل، والظلمة : الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه، والنور قسمان : حسي وهو ما يدرك بالبصر، ومعنوي عقلي يدرك بالبصيرة، والجعل : هو الإنشاء والإبداع كالخلق، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما في الآية، والتشريعي كما في قوله :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ] الآية، والخلق عام.
ولم يذكر النور في القرآن إلا مفردا والظلمة إلا جمعا، لأن النور واحد وإن تعددت مصادره، والظلمة تحدث مما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهي كثيرة، وكذلك النور المعنوي شيء واحد، والظلمات متعددة فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير، والهوى واحد والضلال المقابل له كثير، فالتوحيد يقابله التعطيل، والشرك في الألوهية بأنواعه، والشرك في الربوبية بضروبه المختلفة.
وقدمت الظلمات في الذكر على النور لأن جنسها مقدم في الوجود فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك، ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة، وإلى هذا يشير حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد والترمذي :" إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل ".
وكذلك الظلمات المعنوية أسبق وجودا، فإن نور العلم والهداية كسبي في البشر، وغير الكسبي منه كالوحي، فتلقيه كسبي، وفهمه والعمل به كسبيان أيضا، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾ [ النحل : ٧٨ ].
ويعدلون : أي يعدلون به غيره، أي يجعلون عديلا مساويا له في العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع، فهو بمعنى يشركون به ويتخذون له أندادا.
الإيضاح :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾ أي الحمد والشكر للذي خلقكم وخلق السماوات والأرض فهو المستوجب للحمد بنعمه عليكم، لا من تعبدون من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه.
والمراد ب ﴿ السماوات والأرض ﴾ : العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا وهذا العالم الذي نعيش فيه.
وكذلك الذي أوجد الظلمات والنور، واختلف العلماء في المراد منهما، فمن قائل إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار، وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وفي ذلك رد على المجوس ( الثنوية ) الذين زعموا أن للعالم ربين أحدهما النور وهو الخالق للخير، والثاني الظلمة وهو الخالق للشر، ومن قائل إن المراد منهما الكفر والإيمان وروي هذا عن ابن عباس.
﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ أي ثم إنهم مع ذلك يعدلون به سواه، ويسوونه به في العبادة التي هي أقصى غاية الشكر، ويدعونه لكشف الضر وجلب النفع، هو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
والأجل : هو المدة المضروبة للشيء أي المقدار المحدود من الزمان وقضاء الأجل : تارة يطلق على الحكم به، وضربه للشيء كما قضى شعيب عليه السلام أجلا لخدمة موسى له ثماني سنوات وأجلا اختيارا سنتين، ويطلق أخرى على القيام بالشيء وفعله كما قال :﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ﴾ [ القصص : ٢٩ ] الآية، وتمترون : أي تشكون في البعث.
وبعد أن وصل الخالق تعالى بما دل على توحيده واستحقاقه للحمد انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة مذكرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال :﴿ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا مسمى عنده ثم أنتم تمترون ﴾.
الإيضاح :﴿ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا مسمى عنده ثم أنتم تمترون ﴾ أي هو الذي خلقكم من الطين " التراب الذي يخالطه ماء " فقد خلق أباكم آدم من الطين كما خلق سائر الأحياء التي في هذه الأرض بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فإن بنية الإنسان مكونة من الغذاء ومن ذلك البويضات التي في الأنثى والحيوان المنوي الذي في الذكر، فكلها مكونة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات فالمرجع إلى النبات من الطين، والناظر في كل هذا يعلم جليا أن القادر على كل هذا لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه عند انقضاء آجاله التي قضاها له في أجل آخر يضر به لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته.
والآية ترشد إلى أنه تعالى قضى لعبادة أجلين : أجلا لحياة كل فرد منهم ينتهي بموته، وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا.
ومعنى كونه مسمى عنده : أنه لا يعلمه غيره، لأنه لم يطلع أحدا على يوم القيامة لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾ هذا تقرير وتوكيد لما قبله، لأن الذي يستوي في علمه السر والعلانية هو الله وحده.
﴿ ويعلم ما تكسبون ﴾ من الخير والشر فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك، وإلى دلائل البعث، وأنها على شدة وضوحها لم تمنع المشركين من الشك والريب، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما في السماوات والأرض فلا ينبغي أن يشرك به غيره فيهما، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوزوا أن يكون غير الرب إلها، بل عبدوا معه آلهة أخرى.
ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح :﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ﴾ أي وما تنزل عليهم آية من آيات القرآن من جملتها تلك الآيات الناطقة بتفصيل بدائع صنع الله المنبعثة بجريان أحكام ألوهيته على جميع الكائنات إلا أعرضوا عنها استهزاء وتكذيبا غير متدبرين معناها، ولا ناظرين في دلالتها.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك، وإلى دلائل البعث، وأنها على شدة وضوحها لم تمنع المشركين من الشك والريب، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما في السماوات والأرض فلا ينبغي أن يشرك به غيره فيهما، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوزوا أن يكون غير الرب إلها، بل عبدوا معه آلهة أخرى.
ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
ولما بين سبحانه أن شأنهم الإعراض عن الآيات رتب عليه قوله :﴿ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾.
الإيضاح :﴿ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ أي فبسبب ذلك الإعراض العام عن النظر في الآيات كذبوا بالحق الذي جاءهم حين جاءهم ولم يتريثوا ولم يتأملوا، لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم.
وهذا الحق الذي كذبوا به هو الدين الذي جاء به خاتم أنبيائه بما اشتمل عليه من آداب وأخلاق وعبادات ومعاملات، على نحو أولئك مما فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم. ثم هددهم وتوعدهم على تكذيبهم فقال :
﴿ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ﴾ النبأ : الخبر العظيم، أي فستكون عاقبة التكذيب أن تحل بهم العقوبات العاجلة التي نطقت بها الآيات وعيدا لهم من القتل والسبي والجلاء عن البلاد ووعدا لرسوله من النصر له وإظهار دينه على الدين كله.
وقد أتاهم ذلك فكان منه ما نزل بهم من القحط، ومن الخذلان يوم بدر، ثم تم ذلك يوم الفتح.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك، وإلى دلائل البعث، وأنها على شدة وضوحها لم تمنع المشركين من الشك والريب، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما في السماوات والأرض فلا ينبغي أن يشرك به غيره فيهما، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوزوا أن يكون غير الرب إلها، بل عبدوا معه آلهة أخرى.
ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحي، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
وبعد أن توعدهم سبحانه بنزول العذاب بهم بين أن هذا ما جرت به سنته في المكذبين قبلهم فقال :﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ﴾.
الإيضاح :﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ﴾ أي ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرا من الأقوام الذين كذبوا الرسل بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم.
وذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم وخصب تربتها فقال :
﴿ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ﴾ الإرسال : تارة يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل، وتارة بالتسخير كإرسال الريح والمطر، وتارة بترك المنع نحو :﴿ أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ﴾ [ مريم : ٨٣ ] أي وسخرنا لهم الأمطار الغزيرة التي تكون الأنهار المترعة بالمياه، وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجري دائما تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها، أو في الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها فيتمتعون بالنظر إلى جمالها واستنبات الأشجار والثمار التي يأكلونها، ويولدون النعم والماشية التي تتغذى من مراعيها.
والخلاصة : إنهم أوتوا من البسطة في الأجسام، والامتداد في الأعمال، والسعة في الأموال، والاستمتاع بلذات الدنيا ما لم يؤته أهل مكة، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا فكفروا بأنعم الله ولم يؤمنوا بما جاءهم به أنبياؤهم، بل كذبوهم فاستحقوا العقاب وإلى ذلك أشار بقوله :
﴿ فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ أي فكان عاقبة أمرهم أن أهلكنا كل قرن منه بسبب ذنوبهم التي كانوا يجترحونها، وأوجدنا من كل منهم قرنا آخر يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكران النعمة.
والذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان :
( ١ ) معاندة الرسل والاستكبار والعتو والتكذيب
( ٢ ) كفران النعم بالبطر وغمط الحق وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف في الفسق والفجور والغرور بالغنى والثروة، كما جاء في قوله :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين٥٨ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾ [ القصص : ٥٨ ٥٩ ].
وفي هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفقرهم كما حكى الله عنهم في قوله :﴿ وقالوا نحن أكثر منه أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ].
وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم في صفاتهم وإن كانوا من أبناء جنسهم، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير كبير في النفوس تخفف من غلواء الناس وتقلل من بطشهم وعتوهم، وفي المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك.
انظر إلى ما فعلته الحرب العظمى الثانية في نفوس الشعوب في الشرق والغرب، فإنه قد نشأ بعدها جيل أقل بطرا وانغماسا في الشهوة والترف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور من سابقه، وكذلك في حسن معاملة الناس بعضهم لبعض وحفظ الحقوق والمساواة فيها.
ولا يعلم إلا الله ما ستنتهي إليه تلك الحروب الضروس الدائرة رحاها الآن ولا ما ستتمخض عنه من الحوادث الجسام في مستقبل الأمم والشعوب، ولا ما سيكون لها من التأثير في النظم الاجتماعية والاقتصادية والصلات والروابط بين بعض الأمم وبعض.
تفسير المفردات : الكتاب : الصحيفة المكتوبة ومجموعة الصحف في غرض واحد والقرطاس : مثلث القاف، الورق الذي يكتب فيه، واللمس كالمس : إدراك الشيء بظاهر البشر وقد يستعمل بمعنى طلب شيء والبحث عنه، ويقال لمسه والتمسه وتلمسه، ومنه ﴿ وأنا لمسنا السماء ﴾ [ الجن : ٨ ] وسحر : أي خداع وتمويه يرى ما لا حقيقة له في صورة الحقائق.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في مكة وهي أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.
ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول، وبها ثم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ـ فأنزل الله في ذلك :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾.
ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح في هذه الآية، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور في سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هو رد على شبهة سبقت وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكورة في سورة الفرقان.
الإيضاح : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه من وضوح برهانه وإظهار إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال في سورة هود :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ [ هود : ١٢ ].
فبين الله أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة فإنها لا تجدي إلا عند من كان مستعدا لها وزالت عنه موانع الكبر والعناد، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي إن علة تكذيبهم بالحق هي إعراضهم عن الآيات وإقفال باب النظر والاستدلال لإخفاء الآيات في أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها، فلو أننا نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس فرأوه نازلا فيها بأعينهم ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم لقال الذين كفروا منهم : ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن في نفسه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه، وما ثم كتاب نزل ولا قرطاس رئي ولا لمس، وتلك مقالة أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا...
وإنما قال لمسوه بأيديهم، ليبين أن المراد باللمس المعنى الأول لا الثاني الذي بيناه فيما سلف، ومن ثم قال قتادة : فعاينوه ومسوه بأيديهم. وقال مجاهد : فمسوه ونظروا إليه، واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع، لأن البصر يخدع بالتخيل، وجاء في سورة الحجر :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون١٤ لقالوا إنما سكرت حبست ومنعت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ [ الحجر : ١٤ ١٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في مكة وهي أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.
ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول، وبها ثم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ـ فأنزل الله في ذلك :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾.
ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح في هذه الآية، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور في سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هو رد على شبهة سبقت وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكورة في سورة الفرقان.
الإيضاح :﴿ وقالوا لولا أنزل عليك ملك ﴾ كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة :
( ١ ) أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا يرونه ويسمعون كلامه، وإلى هذا تشير الآية.
( ٢ ) ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم.
والاقتراح الأول مبني على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم السلام ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده، لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء في سورة المؤمنون :﴿ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون٣٣ ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ﴾ [ المؤمنون : ٣٣ ٣٤ ].
وقد رد الله تعالى الاقتراحين من وجهين :
( ١ ) ﴿ ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ﴾ أي ولو أنزلنا ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم، قال ابن عباس : لو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون.
( ٢ ) ﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾.
اللبس : الستر والتغطية. يقال لبس الثوب يلبسه ( بكسر الباء في الأول وفتحها في الثاني ) ولبس الحق بالباطل يلبسه ( بفتح الباء في الأول وكسرها في الثاني ) بمعنى ستره به، أي جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه.
المعنى الجملي : بعد أن أرشد سبحانه في الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في مكة وهي أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.
ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول، وبها ثم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ـ فأنزل الله في ذلك :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾.
ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح في هذه الآية، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور في سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هو رد على شبهة سبقت وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكورة في سورة الفرقان.
الإيضاح :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾ أي ولو جعل الرسول ملكا لجعل متمثلا في سورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن ربه، ولو جعله ملكا في صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا وهم قد كانوا في غنى عن ذلك، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم في المشكلات بسوء صنيعهم ثم يحارون في المخلص منها.
وذكر البخاري في تفسير قضاء الأمر عدة وجوه :
( ١ ) أن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم الله عذاب الاستئصال، والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
( ٢ ) أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
( ٣ ) أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف.
( ٤ ) أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعا دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعي الإهلاك وهدم النظرة.
تفسير المفردات : الهزؤ :( بضمتين أو ضم فسكون ) والاستهزاء : السخرية. والاستهزاء بالشخص : احتقاره وعدم الاهتمام بأمره، وحاق به المكروه يحيق حيقا : أحاط به فلم يكن له منه مخلص.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف مقترحاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء، وكان قلب الرسول يضيق بها ذرعا عند سماعه إياها.
ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزؤ والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسل، فإن كثيرا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة وجرأتهم من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا في الأرض ليروا كيف كانت عاقبة المكذبين لأنبيائه.
الإيضاح :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ أخبر الله رسوله بأن الكفار قد استهزؤوا برسل كرام قبلك كما جاء في قوله :﴿ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الحجر : ١١ ] فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم، وفي الآية وجوه من العبرة :
( ١ ) تعليم النبي صلى الله عليه وسلم سنن الله في الأمم مع رسلهم.
( ٢ ) تسلية له عن إيذاء قومه له.
( ٣ ) بشارة له بحسن العاقبة وما سيكون من الغلبة والسلطان، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال، وقد أهلكهم الله وامتن على نبيه بذلك في سورة الحجر ﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾ [ الحجر : ٩٥ ] والمشهور : أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا في يوم واحد.
وخلاصة المعنى : هون عليك ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فيّ وفي طاعتي، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم ونعجل لهم وتحل بهم المثلات.
ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزؤ والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسل، فإن كثيرا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة وجرأتهم من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا في الأرض ليروا كيف كانت عاقبة المكذبين لأنبيائه.
ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة الله المطردة فيهم، قد يكون موضعا للريبة والشك لديهم، إذ هم يجهلون التاريخ ولا يأخذون خبره بالتسليم أمر الله نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
الإيضاح :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ أي قل لأولئك المكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به : سيروا في الأرض كما هو دأبكم وعادتكم وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم ثم انظروا في أثناء رحلاتكم آثار ما حل لهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج الله عليكم، واحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
الإيضاح :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرضين عن دعوتك : لمن هذه المخلوقات علويها وسفليها ؟
وقد كانت العرب تؤمن بأن الله خالق السماوات والأرض وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له، كما قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
والمقصود من السؤال : التبكيت والتوبيخ.
﴿ قل لله ﴾ هذا تقرير للجواب نيابة عنهم، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه ولا خلاف بيني وبينكم في ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا آخر إليه.
وإتيان السائل بالجواب، يحسن إذا كان ما يأتي به هو عين ما يعتقدون المسؤول وما يجيب به إن أجاب، وإنما يسبقه إليه ليبني عليه شيئا من لوازمه مما يجهله المسؤول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده.
ثم ذكر من صفاته ما يرغب في طاعته فقال :
﴿ كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾ أي إن الله الذي تقرون معي بأنه مالك السماوات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه، إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا شك في مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه، للحساب والجزاء على الأعمال، إذ أنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفوس إلا به فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق إيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، خوفا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها.
ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنه، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزال فيه، وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان :﴿ من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ].
وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا، فما إلى مثل الحكومة العادلة تبين للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة وما تكافئ به من يصدق في خدمتها ويرقى إلى سماء العزة والكرامة. روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " والمراد بالسبق هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال : غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه.
والخلاصة : إنه لما قال كتب على نفسه الرحمة، فكأنه قيل وما تلك الرحمة ؟ فقيل : ليجمعنكم إلى يوم القيامة، ذلك أنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد في الأرض واختلت نظم الاجتماع وأكل القوي الضعيف ولا وازع ولا زاجر، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة.
﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ﴾ خسارة الأنفس : إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله من أنواع الهدايات، فالمقلدون خسروا أنفسهم لأنهم حرموها استعمال نعمتي العقل والعلم.
أي أخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ بين من يجمعون إلى يوم القيامة، إذ هم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة، فهم قلما ينظرون ويستدلون، وإن هم فعلوا قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين.
والخلاصة : إن الفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين فقد خسر نفسه، فردا كان أو أمة، فما بال من خسرهما معا.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
الإيضاح :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ﴾ أي لله ما في السماوات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، خص هذا بالذكر وإن كان داخلا في عموم ما في السماوات والأرض، تنبيها إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا ولاسيما إذا جن الليل وهدأ الخلق.
وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه في الخلق دقيقة وجليلة كما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة، ذكر أنه هو السميع العليم : أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره، فهو يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء، والمحيط علمه بكل شيء ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ].
والخلاصة : إنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داع، أو تعزب عن علمه حاجة محتاج، حتى يخبره بها الأولياء، أو يقنعه بها الشفعاء.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
وبعد هذا القول الذي أمر رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شيء، والمدبر لكل شيء إذ هو سميع لكل شيء ولا يعزب عن علمه شيء أمره هنا بقول آخر لازم لا سبق، وهو وجوب ولايته تعالى وجده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم فقال :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾.
الإيضاح :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾ أي قل لهم : لا أطلب من غيره نفعا ولا ضرا، لا فعلا ولا منعا، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، أما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم بعضا فيما هو من كسبهم العادي، فلا يدخل في عموم الإنكار الذي يفهم من الآية، فقد أثنى الله على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض.
وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله، يتوجهون إليهم بالدعاء يستغيثون بهم ويستشفعون بهم عند الله في قضاء حاجاتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة في رزق إلى نحو أولئك.
وهذا بلا شك عبادة وشرك بالله لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد يكون بمجموع إرادة هؤلاء وإرادة الله.
ويلزم هذا : أن إرادة الله ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعا لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليا وشفيعا.
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ أي إنه تعالى أوجدهما على غير مثال سابق، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ما عرفت ما فاطر السماوات والأرض ؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها.
وقد كانت المادة التي خلقت منها السماوات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السماوات والأرض، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق، قال تعالى ﴿ أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ].
وفي ذلك تعريض بأن من فطر السماوات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغي ألا يتوجه إلى غيره بالدعاء ولا يستعان بسواه في كل ما وراء الأسباب.
وقد أكد هذا المعنى وزاده تثبيتا بقوله :
﴿ وهو يطعِم ولا يطعَم ﴾ أي إنه يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه، لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه، أيا كان نوعها.
وفي هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام ولا حياة بدونه، وأن الله هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن خلقه، وعاجزون عن البقاء بدونه فأحرى بهم ألا يتخذوا أولياء مع الغني الرازق الفعال لما يريد.
وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان لأنها أضعف من البشر إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد والإنسان على جميع أنواع الحيوان.
﴿ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ﴾ أي قل لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا : إني أمرت من ربي الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لديه من تلك الأمة التي بعثت فيها، فلا أدعو إلى شيء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه.
﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ أي وقيل لي بعد إسلام الوجه له : لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى.
وخلاصة ذلك : إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
وبعد أن أمره بهذا القول المبين لأساس الدين، وبين أنه مأمور به كغيره أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهي السالفين فقال :﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾.
الإيضاح :﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾ أي قل لهم إن فرض وقوع العصيان مني فإنني أخاف أن يصيبني عذاب ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون. وفي الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيما، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، بل الأمر يومئذ لله، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه، ظنا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه، وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لوجود العصمة، فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له في جميع الأحوال.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
الإيضاح :﴿ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ﴾ أي من يحول عنه هذا العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه الله، إذ أنجاه من الهول الأكبر، ومن نجا منه فقد دخل الجنة، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم في دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه.
وقد سبق أن قلنا : إن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين، أحدهما : سلبي وهو النجاة من العذاب، والثاني : إيجابي وهو الظفر بالنعيم المقيم في الجنة.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم من رحمته في الآخرة بين أن الأمر كذلك في الدنيا وأن التصرف فيها له وحده.
الإيضاح :﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ﴾ أي وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة الله فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو، دون الأولياء الذين يتخذون من دونه، ويتوجه إليهم المشرك بكشفه وهو إنا أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله، وإما أن يكشفه بغير عمل منك، بل بلطفه وكرمه، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حد لها وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائه إياك، وهو القدير على كل شيء، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسك بخير ولا ضر.
فعلى المؤمن الصادق في إيمانه ألا يطلب شيئا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب إلا من الله تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
وهذا الطلب : إما طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته في الخلق ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل، وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ [ غافر : ٦٠ ].
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
وبعد أن أثبت عز اسمه لنفسه كمال القدرة أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور، ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء فقد ضل ضلالا بعيدا فقال :﴿ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ﴾.
الإيضاح :﴿ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ﴾ أي إن الرب من شأنه العزة والسلطان والعلو والكبرياء وهو الحكيم الخبير، فلا ينبغي للمؤمن أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته، المذللين لسنته التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر في خلقه.
وهو جلت قدرته لم يجعل من خلقه شريكا له في التصرف ولا في كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع كما قال تعالى :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] وقال :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ].
وخلاصة المعنى : إنه تعالى هو الغالب لعباده، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه، وهو الحكيم في تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه خوافي الأمور ولا بواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا في حكمته دخل.
المعنى الجملي : ذكر سبحانه في الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى في أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه سلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضي في تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفننا في الحجاج في المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد لها في النفس قبول أيما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول عمي عليه أسلوبه رأى في الدليل الثاني ما ينير طريق المطلوب أو رأى في الأسلوب الثاني ما يكفيه مؤونة البحث في الدليل الأول فهو في غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرزين ينوعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك ادعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبنية لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله وشهادة رسوله له فقال :﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾.
الإيضاح :﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش : أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها، وأجدر أن تكون أصحها وأصدقها ؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ وذلك هو الله تعالى، وهو الشهيد بيني وبينكم وقد أوحي إليّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه، وأنذر من بلغه هذا القرآن، إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى إتباعه حتى تقوم القيامة.
وشهادة الله بين الرسول وقومه ضربان : شهادته برسالة الرسول، وشهادته بصدق ما جاء به، والأول أنواع ثلاثة :
( ١ ) إخباره بها في كتابه بنحو قوله :﴿ محمد رسول الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] وقوله :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ﴾ [ فاطر : ٢٤ ].
( ٢ ) تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم.
( ٣ ) شهادة كتبه السابقة له، وبشارة الرسل السابقين به، ولا تزال هذه الشهادة في كتب اليهود والنصارى.
والثاني ثلاثة أنواع أيضا :
( ١ ) شهادة كتبه بذلك كقوله :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم١٨ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : ١٨ ١٩ ].
( ٢ ) ما أقامه من الآيات في الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال.
( ٣ ) ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس.
والخلاصة : إن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان، اللذين أودعهما في نفس الإنسان.
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال :" من بلغه القرآن فكأنما شافهته به " ثم قرأ :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم :" هل دعيتم إلى الإسلام ؟ " قالوا : لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ﴾ ثم قال :" خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا ".
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية وبالبراءة من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال :
﴿ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ﴾ بدأ الجملة بالاستفهام الدال على الإنكار والاستبعاد لما تضمنته، ثم أمر نبيه أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون، ثم أمره بأمر آخر : بأن يشهد بنقيض ما يزعمون ويتبرأ مما يزعمون، فيصرح بأن الإله لا يكون إلا واحد، ويتبرأ مما يشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما.
المعنى الجملي : بين سبحانه في الآية السابقة : أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله كافية في تحققها، وذكر هنا كذبهم في ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبناءهم.
روي أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله.
الإيضاح :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ أي إن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا النبي الأمي خاتم الرسل كما يعرفون أبناءهم، لأن نعته في كتبهم واضح ظاهر فلا يشكون فيه على حال.
ثم بين السبب في إنكار هؤلاء المنكرين فقال :
﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ﴾ أي إن علة إنكار من أنكروا نبوة محمد صلى لله عليه وسلم من علماء اليهود كعلة من أنكروا ذلك من المشركين بعد ظهور آياتها، بل أنكروا ما هو أظهر منها وهي وحدانية الله تعالى أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون مالهم من الجاه والمكانة والرياسة في قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم، علما منهم بأنهم إذا آمنوا سلبوا الرياسة، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين في سائر الأحكام والمعاملات.
وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعز عليه أن يؤمن فيكون تابعا ومرؤوسا ويكون مثله مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهما من فقراء المسلمين.
فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم لا لفقدان العلم والمعرفة، لأن الله أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة.
وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خسران للنفس ذكر أن الافتراء على الله ظلم لها. وقد خاب من افترى.
روي أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله.
الإيضاح :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ﴾ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، كمن زعم أن له ولدا أو شريكا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتخذ وليا له يقربه إليه زلفى ويشفع للناس عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه، أو من كذب بآياته المنزلة كالقرآن، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله.
وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح وصاحبه يعد مفتريا ظالما، فما حال من جمع بينهما، فكذب على الله وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة ؟
ثم بين سبحانه عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم فقال :
﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ أي إن الظالمين عامة لا يفوزون في عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله ولا بنعيم الجنة، فكيف تكون عاقبة من افترى على الله الكذب وكذب بآياته فكان أظلم الظالمين.
روي أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله.
ثم بين أن المفترين على الله الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا فقال :﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ﴾.
الإيضاح :﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم في ظلم أنفسهم وظلم غيرها، ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم من دون الله تستعينون بهم كما يستعان به ويدعون كما يدعى، وأنهم يقربونكم إليه زلفى ويشفعون لكم عنده، فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم ؟ كما جاء في الآية :﴿ وما نرى معكم من شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ].
روي أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله.
ثم أخبر بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك فقال :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾.
الإيضاح :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ الفتنة : هنا الشرك أي ثم لم تكن عاقبة هذا الشرك إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة ما كانوا مشركين.
وظاهر الآيات : يدل على أنهم كانوا ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء في هذه الآية، ويعترفون به في بعض آخر كما جاء في قوله :﴿ هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ﴾ [ النحل : ٨٦ ] وفي قوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ [ النساء : ٤٢ ].
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ فقال : أما قوله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا تعالوا لنجحد ﴿ قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾.
وقال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به، ومثاله : أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته اه.
وعلى هذا : فالفتنة هي شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس، ويكون في الكلام تقدير مضاف هو كلمة " عاقبة " كما قدمنا ذلك.
روي أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن في التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله.
الإيضاح :﴿ انظر كيف كذبوا على أنفسهم ﴾ هذا تعجب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا.
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر عنهم ؟ وكيف ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بتاتا وتبرؤوا منه غاية البراءة ؟
تفسير المفردات : الأكنة : واحدها كنان كأسنة وسنان : وهو الغطاء، والوقر : بالفتح : الثقل في السمع، والآية : العلامة الدالة على صدق الرسول، يجادلونك : يخاصمونك وينازعونك، والأساطير : واحدها إسطارة وأسطورة : وهي الخرافات والترهات.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أحوال الكفار في الآخرة وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله وأخرى يعترفون به، وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.
ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدي معهم شيئا، إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها في حكم المستحيل.
قال ابن عباس : حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليدة بن المغيرة والنضر بن الحارث والحارث بن عامر وأبو جهل في جمع كثير واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ فقال : والذي جعلها ( الكعبة ) بيته ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى يحدث قريشا بما يستملحونه، قال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل : كلا فأنزل الله الآية.
الإيضاح :﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ أي ومن أولئك الكافرين فريق يستمع إليك إذا أنت تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله مبشرا منذرا.
﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ أي والحال أنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه وفهمه، وفي آذانهم ثقلا أو صمما يحول دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد.
وفي هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شيء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصم، فسمعها وعدمه سواء.
بيان هذا : أن الله جلت قدرته جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم ليميز الحق من الباطل، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره ولا يراه جديرا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدة أو رأي ليختار أقربهما إلى الصحة وأجدرهما بالصدق وأكثرهما هداية ورشادا، وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها ﴾ أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك لا يؤمنوا بها، إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ فحظهم كحظ الصم من سماع أصوات البشر.
﴿ حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ أي حتى إذا جاؤوك مجادلين لك في دعوتك قالوا : ما هذا إلا أساطير الأولين وخرافاتهم.
ذاك أنهم لم يعقلوا مما في القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات، فلا علم فيها ولا فائدة منها، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جملية لا يستنبط منها علما، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيا، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة ( السينما ) مفسرة بلغة هو لا يعرفها، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت.
فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر ومواعظ ونذر تبين سنن الله في خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أحوال الكفار في الآخرة وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله وأخرى يعترفون به، وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.
ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدي معهم شيئا، إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها في حكم المستحيل.
قال ابن عباس : حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليدة بن المغيرة والنضر بن الحارث والحارث بن عامر وأبو جهل في جمع كثير واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ فقال : والذي جعلها ( الكعبة ) بيته ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى يحدث قريشا بما يستملحونه، قال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل : كلا فأنزل الله الآية.
ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال، بل تعدوه إلى الإضلال وساروا فيه قدما فقال :﴿ وهم ينهون عنه وينأون عنه ﴾.
الإيضاح :﴿ وهم ينهون عنه وينأون عنه ﴾ أي وأولئك المشركون المعاندون للنبي الجاحدون لنبوته، لا يقنعون بتكذيبهم له وعدّه حديث خرافة، بل ينهون الناس عن استماعه، لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به، ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لاشمئزازهم ونفورهم منه فيكونون ناهين منتهين.
ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم فقال :
﴿ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ أي وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال، وما يشعرون بذلك بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب، فقد هلك جميع الذين أصروا على عداوته صلى الله عليه وسلم، بعضهم في نقم خاصة، وبعضهم في وقعة بدر وغيرها من الغزوات.
ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة، واللفظ يشملهما معا.
تفسير المفردات : يقال وقف الرجل على الأرض وقوفا، ووقف على الشيء : عرفه وتبينه، ووقف نفسه على كذا وقفا : حسبها كوقف العقار على الفقراء.
المعنى الجملي : بين الله في الآية السابقة حال طائفة من المشركين تلقي السمع مصغية للقرآن لكن لا يدخل القلب شيء مما تسمع، لما عليه من أكنة التقليد، والاستنكار لكل شيء جديد، فهم يستمعون ولا يسمعون، وبين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل ويكونوا من المؤمنين حقا ثم كذبهم فيما يقولون وأنهم لو ردوا لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية الفزع والأهوال.
الإيضاح :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾ أي ولو ترى أيها السامع ما يحل بأولئك المكذبين من الفزع والهول حين تقفهم ملائكة العذاب على النار مشرفين عليها من أرض الموقف، وندمهم على كفرهم وحسرتهم على ما فرط منهم في جنب الله وتمنيهم ما لا سبيل للحصول عليه لرأيت ما لا يحيط به الوصف ولا يقدر على التعبير عنه اللسان، ولا يبلغ تصويره البيان، ولو أوتي المتكلم بلاغة سحبان.
ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ فقال :
﴿ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾ أي يقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار : ليتنا نرد إلى الدنيا حتى نتوب ونعمل صالحا ولا نكذب بآيات الله وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته وصدق رسله، بل نكون من المصدقين به وبرسله ومن المتبعين لأمره ونهيه.
والخلاصة : إنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم تمنوا الرد إلى الدنيا ليسعوا في إزالة ذلك التقصير ويتركوا التكذيب بالآيات ويعملوا صالح العمل.
وتمني هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم بأنه محال، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون.
ثم بين أن هذا التمني لم يكن لتغير حالهم، بل لأنه بدا لهم ما كان خفيا عنهم فقال :﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ﴾.
الإيضاح :﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ﴾ أي بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنوا الخلاص منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب في نفسه ولا مرجو لذاته.
بيان هذا : أنه إذا جاء ذلك الذي تبلى فيه السرائر وتنكشف جميع الحقائق، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدينة في كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها كما تتمثل الوقائع مصورة في آلة الصور المتحركة :" فلم السينما ".
فكل أحد يظهر له في الآخر ما كان خافيا عليه من خير في نفسه وشر ﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ [ الحاقة : ١٨ ] أي فهي لا تخفى على أنفسكم فضلا عن خفائها على ربكم.
والخلاصة : إنه تعالى بين لنا أن تمني أولئك الكفار لما تمنوا لا يدل على تبدل حقيقتهم، بل بدا لهم ما كان خافيا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم ﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون٤٧ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الزمر : ٤٧ ٤٨ ] فتمنوا الخروج مما حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغير، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال.
ثم بين أنهم كاذبون في هذا الندم فقال :
﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا.
﴿ وإنهم لكاذبون ﴾ فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المستكبر منهم مشتملا بكبره وعناده، والمنافق مرتدا بمكره ونفاقه، والشهواني ملوثا بشهواته القابضة على زمامه.
وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم في الدنيا من الآيات والعبر، فهم يكابرون فيها أنفسهم، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم.
ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء فيظهران الندم على ما فرط منهما ويتوبان ويعزمان على ألا يعودا إلى مثل ما عملا، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعا لما اعتادا وألفا، وترجيحا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة.
ومن هذا يستبين لك أن الطريقة المثلى لتعويد الناس الفضيلة، هي حملهم عليها بالعمل والمران وحسن التلقين والتعليم كما يمرّن الأطفال الصغر والرجال على أعمال الجندية، ولا ينبغي أن يسمح للأحداث بإطاعة شهواتهم واتباع أهوائهم، ظنا أن هذا يعوّدهم الحرية والاستقلال فيهديهم ذلك إلى الحق والفضيلة، إذ قلما يوجد من يتبع شهواته في الصغر ثم يعدل عن ذلك في الكبر بعد أن يصير طبيعة وعادة.
فما مثل تربية الأطفال على الآداب والفضائل إلا مثل تربيتهم على النظافة ومراعاة القوانين الصحية فإنا نعودهم ذلك في الصغر ثم هم يعرفون فوائد ذلك في الكبر.
الإيضاح :﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾ أي لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر وسيئ الأعمال، ولأنكروا البعث والحساب والجزاء، وقالوا لا ثواب ولا عقاب في الدار الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء ـ بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينهما وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين.
الإيضاح :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ﴾ أي ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة في الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، ويمسكونهم إلى أن يحكم الله فيهم بما يشاء لهالك أمره واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا يحيط به وصف.
وجعلهم موقوفين على ربهم لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب امتثالا لأمر الله فيهم :﴿ وقفوهم إنهم مسؤولون ﴾ [ الصافات : ٢٤ ] يكون أمرهم مقصورا عليه لا يتصرف فيهم غيره :﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ].
﴿ قال أليس هذا بالحق ﴾ أي حينئذ يقول لهم ربهم : أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب ؟ لا باطل كما كنتم تزعمون.
﴿ قالوا بلى وربنا ﴾ أي قالوا بلى هو حق لا يحوم حوله الباطل، وقد أكدوا اعترافهم باليمين فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ عبر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة على أنهم يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به، أي إذا كان الأمر كما اعترفتم فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون بسبب كفركم الذي دأبتم عليه واتخذتموه شعارا لكم لا تتركونه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء ـ بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينهما وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين.
الإيضاح :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ أي قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بما وعد الله به كل ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان في الدنيا كرضا الله وشكره حين النعمة، والصبر والعزاء وقت المصيبة، ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير والثواب العظيم، والرضوان الأكبر والنعيم المقيم، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية ويفضي إلى الشرور والآثام، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة يجعل همّ الكافرين محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا، وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل، ومن كانوا كذلك كانوا شرا من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا لا يصدهم عن الشر إلا العجز ولا تحكم بينهم إلا القوة.
وشاهدنا على ذلك : أن أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوّضون صروح المدينة بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم وبكل ما أوتوا من فن واختراع، ويهلكون الحرث والنسل ويخربون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم عاطفة رحمة ولا رأفة، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن.
﴿ حتى إذ جاءتهم الساعة بغتة ﴾ أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة ﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ﴾ [ المطففين : ٦ ] وقد ورد في الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة.
﴿ قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ﴾ أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصروا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيتهم وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة ومقدمات القيامة، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها ولا يعدون العدة لمجيئها، قالوا يا حسرتنا على تفريطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها.
﴿ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾ أي وهم يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي ذلك إيمان إلى أن عذابهم ليس مقصورا على الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمل الأوزار الثقال، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدون من صنوف العقوبات.
روى بن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة والصالحة بصورة رجل حسن يحمله صاحبها يوم القيامة.
والخلاصة : إنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهروهم.
وقد بين الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون بذلك المقال فقال :
﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ أي ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها يوم القيامة على ظهورهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء ـ بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينهما وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين.
الإيضاح :﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ﴾ أي وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها إلا لهو ولعب، فهي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة كلعب الأطفال، وعمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ومن ثم قال بعض الحكماء : إن لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة للآلام، فلذة الطعام في إزالة ألم الجوع، وبقدر هذا تعظم اللذة في إزالته، ولذة شرب الماء هي إزالة العطش وهكذا.
وفي الآية وجه آخر، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل، قصير الأجل لا ينبغي أن يغتر به العاقل، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدم إليه من أصناف اللعب، أو أن زمن الطفولة قصير كله غفلة، أو كلهو المهموم في قصر مدته، على كون غير مقصود لذاته.
﴿ وللدار الآخرة خير للذين يتقون ﴾ الكفر والمعاصي، لخلود لذاتها من المضار والآلام وسلامتها من التقضي والانصرام، من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو في كونه دفعا لألم الهم والكدر.
والخلاصة : إن نعيم الآخرة خير الآخرة خير من نعيم الدنيا، فالبدني منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته وفي دوامه وثباته وفي كونه إيجابيا لا سلبيا، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، والروحاني منه كلقاء الله ورضوانه وكمال معرفته يجل عنه الوصف والتحديد ولا شبيه له في نعيم الدنيا.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي أتغفلون عن هذا فلا تعقلون أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنتم ترون من يموت، ومن تنوبه النوائب، وتفجعه الفواجع ؟ ففي ذلك مزدجر عن الركون إليها، واستبعاد النفوس لها، ودليل على أن لها مدبرا يلزم عبادته وعدم إشراك غيره معه في ذلك التدبير والنظام وإخلاص العبادة والطاعة له.
تفسير المفردات : الحزن : ألم يحل بالنفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسي كما قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخي ولكن | أسلي النفس عنه بالتأسي |
المعنى الجملي : نزلت هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ ( وقالوا ـ وقالوا ) نحو :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ [ الأنعام : ٨ ]، ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] إلى نحو ذلك ـ وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ ( قل ـ قل ) نحو :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٢ ]، ﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٤ ].
بعد هذا الحجاج كله : ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفسي النبي صلى الله عليه سلم وحزنه مما يقولون في نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين.
روى ابن جرير عن السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل : والله إن محمد لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله هذه الآية.
الإيضاح :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ القول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفي دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب منه.
قال ابن كثير : يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قد أحطنا علما بتكذيبهم لك، وحزنك وأسفك عليهم كما جاء في قوله :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ [ فاطر : ٨ ] وفي قوله :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : ٦ ].
ثم بين أن هذا التكذيب منشؤة العناد والجحود لإخفاء الدليل فقال :
﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم.
روى سفيان الثوري عن علي قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه، فقال ل رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ فقال والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو زيد :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾.
والخلاصة : إنهم لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم على افتراء الكذب، ولا يجدونه كاذبا في خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع وإنما يدعون أن ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذب غير مطابق للواقع، ولا يقتضي ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له.
وذكر الرازي في نفي التكذيب مع إثبات أربعة أوجه :
( ١ ) إنهم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة.
( ٢ ) إنهم لا يقولون له إنك كذاب، لأنهم جربوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيل أنه نبي وصدق ما تخيله فدعا إليه.
( ٣ ) إنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهروه المعجزات القاهر وفق دعواه كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه فكأنه الله قال له : إن القوم ما كذبوك ولكن كذبوني، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده على حد :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ].
( ٤ ) إن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون في كل معجزة إنها سحر، فكأن الخلاصة إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
المعنى الجملي : نزلت هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ ( وقالوا ـ وقالوا ) نحو :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ [ الأنعام : ٨ ]، ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] إلى نحو ذلك ـ وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ ( قل ـ قل ) نحو :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٢ ]، ﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٤ ].
بعد هذا الحجاج كله : ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفسي النبي صلى الله عليه سلم وحزنه مما يقولون في نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين.
روى ابن جرير عن السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل : والله إن محمد لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله هذه الآية.
ثم لفت نظر رسوله لأن يقتدي بالرسل قبله على التكذيب فقال :﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ﴾.
الإيضاح :﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ﴾ أي إن الرسل الذين أرسلوا قبلك، قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصر الله الرسل بالانتقام من أعدائهم المكذبين لهم.
ونظير هذه الآية قوله :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ﴾ ؛ [ فاطر : ٤ ] وقوله :{ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح... [ الحج ٤٢ ] الآية.
وفي الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد إلى سننه تعالى في الرسل والأمم، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء في قوله :﴿ فاصبروا كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ] وقوله :﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾ [ المزمل : ١٠ ]. وقد دلت التجارب على أن التأسي يهون المصاب ويفيد شيئا من السلوى، ومن هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه سلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره.
وفي الآية بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى من يكذبه من أمة الدعوة، كما أن فيها إيماء إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان حقيقا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر.
ثم أكد هذا النصر بقوله :
﴿ ولا مبدل لكلمات الله ﴾ أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله، في مثل قوله :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين١٧١ إنهم لهم المنصورون ١٧٢وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١ ١٧٣ ] وكلمات الله لا يمكن أن يبذلها مبدل، فنصر الرسل حتم لا بد منه، والتبديل : جعل شيء بدلا من شيء آخر.
وتبديل الكلمات والأقوال نوعان :
( ١ ) تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان أخرى، ومن هذا قوله تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ [ البقرة : ٥٩ ].
( ٢ ) تبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفاذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق.
ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله :
﴿ ولقد جاءك من نبإ المرسلين ﴾ أي ولقد جاءك ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل، فقد روي أن سورة الأنعام نزلت بين سور الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل.
وكما وعد الله رسله بالنصر وعد المؤمنين به نحو قوله :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وفي قوله :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٧ ].
فما بالنا نرى كثيرا ممن يدعون الإيمان في هذا الزمان غير منصورين، فلا بد إذا من أن يكونوا في إيمانهم غير صادقين، ولأهوائهم متبعين، ولسنته في أسباب النصر جاهلين، فالله لا يخلف وعده، ولا يبطل سننه، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي من خلقه، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه كما جاء في قوله :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ [ الحج : ٤٠ ] وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٧ ].
المعنى الجملي : نزلت هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ ( وقالوا ـ وقالوا ) نحو :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ﴾ [ الأنعام : ٨ ]، ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] إلى نحو ذلك ـ وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ ( قل ـ قل ) نحو :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٢ ]، ﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٤ ].
بعد هذا الحجاج كله : ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفسي النبي صلى الله عليه سلم وحزنه مما يقولون في نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه عن ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين.
روى ابن جرير عن السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل : والله إن محمد لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل الله هذه الآية.
الإيضاح :﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ﴾ من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنوا فأتهم بها.
ذاك أنهم يقترحون الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم، لكن الله يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون.
والخلاصة : وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها، أو سلما في جو السماء ترقى فيها إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك، فأت بما يدخل طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض أو تنزيل كتاب تحمله من السماء وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ] وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ] أي وليس ذلك في قدرة البشر وإن كان رسولا فالرسل لا يقدرون على شيء مما يعجز عنه البشر ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.
وخلاصة ذلك : إنك لن تستطيع الإتيان بشيء من تلك الآيات ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك، لعلمه أنه لن يكون سببا لما تحبه من هدايتهم.
ثم أكد عدم إيمانهم فقال :
﴿ ولو شاء الله لجمعناهم على الهدى ﴾ أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه، إما بأن يجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار.
﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ أي إذا عرفت سننه تعالى في خلق الإنسان وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن من الجاهلين لسننه في ذلك، فتتمنى ما تراه حسنا نافعا وإن كان حصوله ممتنعا لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
وخلاصة ذلك : لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شؤونه تعالى في خلقه.
تفسير المفردات : أجاب الدعوة : إذا أتى ما دعى إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي واستجاب له واستجاب دعاءه : إذا لباه بما دعاه إليه.
والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة في المواضع التي تدل على حصول المسؤول كله بالفعل دفعة واحدة، واستعمل أفعال الاستجابة في المواضع المفيدة لحصول المسؤول بالتهيؤ والاستعداد كقوله :﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعده ما أصابهم القرح ﴾ [ آل عمران : ١٧٢ ] ؛ إذ الآية نزلت في وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد، فالمراد : أنهم تهيؤوا للقتال، أو المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين ثم بباقي أعمال التدريج.
والاستجابة من الله يعبر بها في الأمور التي تقع في المستقبل ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج، كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة وتكفير السيئات وإيتاء ما وعد به المؤمنين في الآخرة كما قال ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ] الآية.
والسمع والسماع : يطلق على إدراك الصوت، وعلى فهم ما يسمع من الكلام وهو ثمرة السمع، وعلى قبول ما يفهم والعمل به وهذا ثمرة الثمرة، والمراد بالموتى هنا : الكفار الراسخون في الكفر المطبوع على قلوبهم الميئوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعي. والبعث : لغة إثارة الشيء وتوجيهه يقال : بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيرته إلى المرعى ونحوه، ولولا : كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، والآية : المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إلجاء بالآيات التي تقسرهم على ذلك، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين في الاستعداد مختارين في تصرفاتهم وأعمالهم، ومنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستحب العمى على الهدى.
ذكر هنا أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء.
الإيضاح :﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ أي إنما يستجيب لله ولرسوله الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر، فيعقلون الآيات ويذعنون لما عرفوا بها من الحق، لسلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم، دون الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ؛ كالمقلدين الذين لا يفكرون في الأشياء بعقولهم، ودون الذين قالوا سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين، فهؤلاء وهؤلاء من موتى القلوب وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون.
﴿ والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ﴾ أي والذين لا ترجى استجابتهم لأنهم كالموتى لا يسمعون السماع النافع، يترك أمرهم إلى الله فهو الذي يبعثهم بعد موتهم، يرسلهم إلى موقف الحساب فينالون ما يستحقون على كفرهم وسيئ أعمالهم، فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد.
ذكر هنا أن الأولين هم الذين ينظرون في الآيات ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء.
ثم ذكر شيئا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم فقال :﴿ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ﴾.
الإيضاح :﴿ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ﴾ أي وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم ويعاندون رسوله إليهم : هلا أنزل عليه آية من ربه من الآيات التي اقترحناها عليه وجعلناها شرطا لإيماننا به.
﴿ قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي قل لهم أيها الرسول إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها، فقد مضت سنة الله بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببا للهداية في أمة من الأمم، بل كانت سببا في عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال، وتنزيل الآية لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم الله تعالى في أفعاله ولا من سننه في خلقه.
والخلاصة : إن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول لا إنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه.
يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ [ الأنعام : ٧ ] وقوله :﴿ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ﴾ [ القمر : ٢ ].
تفسير المفردات : الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوان، والدب والدبيب : المشي الخفيف والطائر : كل ذي جناح يسبح في الهواء وجمعه طير كراكب وركب، والأمم واحدها أمة : وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد أو صفات وأفعال واحدة، والتفريط في الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت، يقال فرّطه وفرّط فيه، والكتاب هنا : هو اللوح المحفوظ. وقيل القرآن، والحشر : الجمع والسوق.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه قادر أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها، ولا ينزلها للتشهي والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الضالين المكذبين ـ ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير في الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته، فلو كان في إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين لفعلها، ولامتنع أن يبخل بها، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شيء من الحيوان بمنافعها ومصالحها.
الإيضاح :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ أي لا يوجد نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس ؛ وقد أثبت الأخصائيون الباحثون في طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها أن النمل مثلا يغزو بعضه بعضا وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخّره في حمل قوته وبناء قراه، إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه، وقد حرصت الأمم المتدينة على تحريم اصطياد بعض أنواع الحيوان، فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قلّ في بلادها وخشي انقراضه منها حرمت صيده.
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة، دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا الله بوجودها في قوله :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ﴾ [ الشورى : ٢٩ ] وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها، فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمريخ فيه ماء ونبات فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان منها ما يرى على سطحه بالمرقب ( التلسكوب ) من جداول منظمة وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك.
وهذه الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث في طباع الأحياء لنزداد علما بسنن الله وأسراره في خلقه ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وكمالا وعلما ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.
﴿ ما فرطنا في الكتب من شيء ﴾ فسر ابن عباس الكتاب هنا بأم الكتاب : وهو اللوح المحفوظ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان منها وما يكون بحسب السنن الإلهية، وقيل الكتاب هنا علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى، وقيل هو القرآن أي ما تركنا في القرآن شيئا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للإنسان.
قال الحافظ ابن كثير ما فرطنا في الكتاب من شيء أي الجميع علمهم عند الله لا ينسى واحدا من جميعها من رزقه سواء كان بريا أو بحريا كقوله :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ﴾ [ هود : ٦ ] أي مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها وحاصر لحركاتها وسكناتها.
﴿ ثم إلى ربهم يحشرون ﴾ أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين.
وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن المراد بحشر البهائم موتها كما ورد في الحديث " من مات فقد قامت قيامته ".
الإيضاح :﴿ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ﴾ أي والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحود واستكبار أو تكذيب جمود على تقليد الآباء صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول، بكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في تلك الظلمات الحالكة، ظلمة الوثنية، وظلمة تقليد الجاهلية، ظلمة الجهل والأمية.
﴿ من يشأ الله يضلله ﴾ أي من تعلقت مشيئته بإضلاله يضله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى.
وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه في البشر، أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه وإن ظهر له أنه الحق، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلانها وإثبات خلافها ما دام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء عليها.
﴿ ومن يشإ يجعله على صراط مستقيم ﴾ أي ومن يشأ هدايته يجعله على طريق مستقيم هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله، استعمالا يعرف به الحق ويعرف به الخير، ويعمل به بحسب سننه تعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية.
تفسير المفردات : أرأيتكم : أي أخبروني، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى ما يذكر بعده غريب عجيب تقوم به الحجة على المخالف.
المعنى الجملي : بعد أن ببن سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان متشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
الإيضاح :﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين العادلين بالله الأوثان والأصنام، أخبروني إن أتاكم عذاب الله كالذي نزل بمن قبلكم من الأمم الذين كذبوا بالرسل، فقد هلك بعضهم بريح صرصر عاتية، وبعض آخر بالصاعقة، أو بمياه الطوفان المغرقة، أو جاءتكم الساعة بأهوالها وخزيها ونكالها، وبعثتم لموقف الحساب أغير الله في هذه الأحوال تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء، أم إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء، إن كنتم صادقين في دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء وزعمتم أنهم فيكم شفعاء ؟ فأخبروني أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين ؟
المعنى الجملي : بعد أن ببن سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان متشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
ثم أجاب عن ذلك بقوله :﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ﴾.
الإيضاح :﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ﴾ أي ما أنتم المشركون بالله الآلهة والأنداد إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيء غير الله من وثن أو صنم إذا اشتد بكم الهول، بل تدعونه وحده، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره فيفرج عنكم ويزيل البلاء عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه إن شاء ذلك، لأنه وحده القادر على كل شيء، المالك لكل شيء دون ما تدعونه إلها من صنم أو وثن، لأن الفزع إليه سبحانه عند الشدائد مما ركز في فطرة البشر تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى الماء عند العطش، فلا يذهب به ما يتلقى بالتعليم الباطل من مسائل الدين، فهم به يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذونه من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم كما يتوجهون إلى الله ويحبونهم كحب الله.
وما منشأ ذلك التقديس إلا اعتقاد القدرة على النفع والضر من غير طريق الأسباب المعروفة، لكنهم عند الشدائد وتراكم الأهوال والكروب ينسونهم ويدعون الله وحده.
ولهذا الحب والتعظيم ثلاث درجات :
أعرقها في الجهل أن يعتقد المرء في شيء من المخلوقات أنه إله ينفع ويضر بذاته فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه.
المرتبة الوسطى أن يعتقد أن الإله قد حل في بعض المخلوقات واتحد بها كما تحل الروح في البدن وتدبره. فيكونان شيئا واحدا.
أضعف درجاته أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، المتصرف في كل شيء، ولكن له وسطاء بينه وبين عباده يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطي ويمنع ويضر وينفع، وهذه هي الدرجة التي كان عليها مشركو قريش، فقد حكى الله عنهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ].
والتوحيد الخالص هو الإيمان بأن الله يفعل ما يشاء ويختار، وأن جميع الخلق مسخرون لإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئا إلا في دائرة الأسباب التي شرعها لعباده، وأن الوساطة بينه وبين عباده محصورة في تبليغ الرسول رسالته إليهم دون تصرفه فيهم وأن شفاعة الآخرة لله وحده يأذن بها إن شاء لمن شاء ممن ارتضى، يرشد إلى ذلك قوله تعالى لخاتم رسله :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ [ آل عمران : ١٢٨ ] وقوله :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] وقوله :﴿ قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا٢٢ إلا بلاغا من الله ورسالته ﴾ [ الجن : ٢٢ : ٢٣ ].
وقد بين سبحانه : أن تلك الوساطة الشركية تنسى عند اشتداد الكروب والأهوال فقال :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] قال :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ﴾ [ لقمان : ٣٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ببن سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان متشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
ثم بين سبحانه أن من سننه أخذ عباده بالشدائد لعلهم يرعوون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم فقال :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾.
الإيضاح :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾ أي ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك مفيدا لهم، لأن سنتنا قد جرت بأنهم في مثل هذه الحال يتضرعون ويجأرون بالدعاء إلى ربهم، فالشدائد تربي النفوس وتهذب الأخلاق، فترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم فأخلق بها أن ترجع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر بل من دونهم من الأصنام والأوثان.
المعنى الجملي : بعد أن ببن سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان متشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
ولكن كثيرا من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيرها بأس ولا يحولها بؤس، فلا تجدي معهم العبر والمواعظ، ولا تؤثر فيهم صروف الدهر وغيره، ومنهم أولئك الأمم الذين أرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، ومن ثم قال تعالى :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾.
الإيضاح :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ أي فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءتهم مقدمات العذاب وبوادره، وحذروا عواقبه وأواخره. لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم.
ولكن قلوبهم كانت كالحجارة أو أشد قسوة فلم تؤثر فيهم النذر، وزين لهم الشيطان ما هم عليه من الشرك والفجور، ووسوس إليهم بأن يثبتوا على ما كان عليه آباؤهم، ولا ينقادوا إلى رجال منهم ضعاف الأحلام سفهاء العقل، لا ميزة لهم عليهم بعقل راجح، ولا فكر ثاقب.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
ثم ذكر ما حل بهم من البال والنكال بعد أن ابتلاهم بالحسنات فقال :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾.
الإيضاح :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ أي فلما أعرضوا عما أنذرهم به رسلهم وتركوا الاهتداء به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم وأصروا على كفرهم وعنادهم وجمدوا على تقليد في قلبهم بلوناهم بالحسنات، وفتحنا عليهم أبواب الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأرواح، فلم تربهم تلك النعم، ولا شكروا الله على ما أنعم، بل أفادتهم النعمة بطرا وكبرا كما أفادتهم الشدائد عتوا وقسوة.
والخلاصة : إنه تعالى سلط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا، فلما لم تجد معهم شيئا نقلهم إلى حال هي ضدها ففتح عليهم أبواب الخيرات وسهل لهم سبل الرزق والرخاء فلم ينتفعوا أيضا، وما مثل هذا إلا مثل الأب المشفق على ولده يخاشنه تارة، ويلاينه أخرى طلبا لصلاحه واستقامة حاله وإرجاعا له عن غيه وطغيانه.
﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ أي حتى إذا ظنوا أن الذي أتوا إنما هو باستحقاقهم ولم يزدهم ذلك إلا بطر وغرورا، أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كونهم مبغوتين، إذ فاجأهم على غرة من غير من غير سبق أمارات ولا إمهال للاستعداد أو للهرب، فإذا هم مبلسون أي يائسون من النجاة.
وفي الآية إيماء إلى أن البأساء والضراء وما يقابلهما من السراء والنعماء مما يتهذب به من وفقهم الله للهداية وألهمهم الرشاد، والاختبار أكبر شاهد على صدق هذه القضية فالشدائد مصلحة للفساد، مهذبة للنفوس، والمؤمن أجدر الناس بالاستفادة من الحوادث.
روى مسلم عن صهيب مرفوعا ﴿ عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ﴾.
وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به ﴾ الآية.
وروى مالك عن الزهري أنه قال :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ أي رخاء الدنيا وسترها. وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأى له، ومن قتّر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأى له، ثم قرأ :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ الآية ثم قال : مكر بالقوم ورب الكعبة. أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
المعنى الجملي : بعد أن ببن سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما في الأرض والسماء، وأن عنايته تعم كل ما درج على الأرض أو طار في الهواء، وأن أمم الحيوان متشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها.
أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكرا لهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جد الجد ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضل عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
الإيضاح :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ أي فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك وأعماله واستؤصلوا فلم يبق منهم أحد.
﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ أي والثناء الكامل والشكر التام رب العالمين على إنعامه على رسله وأهله طاعته، بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر وتحقيق ما وعدهم به من إهلاك المشركين، وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم.
وهذه الجملة إرشاد من الله لعباده المؤمنين بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وإيماء إلى وجوب ذكره في عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل كما قال تعالى في وصف عباده المتقين :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ].
والخلاصة : إن في الضراء والسراء للمتقين عبرة، ونعمة ظاهرة أو باطنة.
تفسير المفردات : نصرف الآيات : أي نكررها على وجود مختلفة، ومنه تصريف الرياح، ويصدفون : يعرضون عن ذلك.
المعنى الجملي : هذا ضرب آخر من ضروب الدعوة إلى وجود الصانع القادر وتوحيده، وإثبات الرسالة بوجه آخر غير ما تقدم من وجوه الاحتجاج.
الإيضاح :﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت به من التوحيد والهدى : أرأيتم ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم وترجون شفاعتهم إن أصممكم الله تعالى فذهب بسمعكم، وأعمالكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم وطبع عليها، فأصبحتم لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرا، ولا تدركون حقا ولا باطلا من إله غير الله يأتيكم بما ذكر مما أخذه الله منكم ؟ أي لا إله غيره يقدر على إتيانكم بما سلب، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك ؟ وإن كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون فلماذا تدعونهم، وما الدعاء إلا عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله القدير ؟
﴿ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ﴾ أي انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ونجعلها على وجوه شتى ويتذكروا فينيبوا ويرجعوا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها ويتجنبون التأمل فيها ويلقونها وراء ظهورهم.
ثم هددهم وتوعدهم على كفرهم بربهم فقال :﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾.
الإيضاح :﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾ أي قل لهم أيها الرسول : أخبروني عن شأنكم إن أتاكم عذاب الله الذي مضت سنة الله في الأولين بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين مباغتا ومفاجئا لك فأخذكم على غرة لم تتقدمه أمارات تشعركم بقرب نزوله بكم، أو أتاكم وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه بحيث ترون مبادئه ومقدماته بأبصاركم هل يهلك الله به إلا القوم الظالمين منكم الذين أصروا على الشرك والعناد والجحود، إذ قد مضت سنته تعالى في مثل هذا العذاب أن ينجي منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين.
الخلاصة : إنه لا يهلك بهذا العذاب غيركم، لظلمكم أنفسكم وجنايتكم عليها بما اخترتم لها من الشرك والفجور وعبادة من لا يستحق العبادة، وترك عبادة من هو بها حقيق وجدير.
ثم بين وظيفة الرسل فقال :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾.
الإيضاح :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾ أي وما نرسل المرسلين إلا ببشارة أهل الطاعة بالفوز بالجنة جزاء وفاقا على طاعتهم، وبإنذار من أضر على الشرك والإفساد في الأرض، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي فمن صدق من أرسلناه إليه من رسلنا وعمل صالحا فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالمكذبين الجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده للكافرين ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم، لأن الله يحفظهم من كل فزع وهول كما قال سبحانه :﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] وكذلك هم لا يحزنون في الدنيا كحزن المشركين في شدته وطول مدته، فإذا عرض لهم الحزن بسبب صحيح كموت ولد أو قريب أو فقد مال أو قلة نصير يكون حزنهم مقرونا بالصبر وحسن الأسوة فلا يضرهم في أنفسهم ولا في أبدانهم، ولا يغير شيئا من أخلاقهم وعاداتهم، فالإيمان يعصمهم من عنت البأساء وبطر النعماء، مسترشدين بنحو قوله تعالى :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير٢٢ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ﴾ [ الحديد : ٢٢ ٢٣ ].
المعنى الجملي : هذا ضرب آخر من ضروب الدعوة إلى وجود الصانع القادر وتوحيده، وإثبات الرسالة بوجه آخر غير ما تقدم من وجوه الاحتجاج.
الإيضاح :﴿ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ﴾ أي والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب في الدنيا أحيانا عند الجحود والعناد، وفي الآخرة على سبيل الدوام والاطراد، جزاء كفرهم وإفسادهم، وخروجهم عن أمر الله وطاعته، وارتكابهم مناهيه ومحارمه.
تفسير المفردات : الخزائن : واحدها خزينة أو خزانة : وهي ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف فيه :﴿ ولله خزائن السماوات والأرض ﴾ [ المنافقون : ٧ ] والغيب : ما غيب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، وهو قسمان :
غيب حقيقي : وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة وهم المعنِيّ بقوله عز اسمه :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾ [ النمل : ٦٥ ].
غيب إضافي : وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر.
أما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها فليس بداخل في عموم الغيب الوارد في كتاب الله.
وهذه الأسباب ضروب :
ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فعلماء الرياضة يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بألوف الأعوام.
ما هو عملي كالبرق الأثيري ( التلغراف اللاسلكي ) الذي يعلم به المرء ما يقع في أقاصي البلاد من وراء البحار وبينه وبينها ألوف الأميال.
ما هو إدراكات نفسية خفية تصل إلى مرتبة العلم كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع هواجس تلوح للنفس ولا يجزم بها الإنسان إلا بعد وقوعها. والأعمى والبصير : هنا الضال والمهتدي.
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين وأصول العقائد، وهي : توحيد الله عز وجل، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.
وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا و تأكيدا، وبيانا وتفصيلا.
الإيضاح :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لك إني ملك ﴾ أي قل أيها الرسول الذي بعث كما بعث غيره من الرسل مبشرا من أجاب دعوته بحسب الثواب، ومنذرا من لم يقبلها بسوء العقاب، لهؤلاء المكذبين لك بغير علم يميزون به بين شؤون الألوهية وحقيقة النبوة، فيقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أنه ليس في مقدور البشر. فهم إما أن يقولوه تعجيزا، وإما أن يظنوا أن الإنسان لا يكون رسولا إلا إذا خرج من حقيقة البشرية وصار قادرا على ما لا يقدر عليه البشر وعالما بكل ما يعجز عن علمه البشر : لا أقول لكم عندي خزائن الله، أتصرف بما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشؤون المخلوقات. فكل هذا لله وحده يتصرف فيه بما يشاء، فيعطي لعباده من خزائنه بحسب ما أوتي كل منهم من الاستعداد في دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك إلى ما لم يؤته ولم يصل إليه استعداده.
فالتصرف المطلق إنما هو لله القادر على كل شيء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول المبلغ عنه أمر الدين قادرا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف في المخلوقات بالأسباب فضلا عن التصرف بغير سبب مما طلبه المشركون منه وجعلوه شرطا للإيمان به كتفجير الينابيع والأنهار في أرض مكة، وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفا، والإتيان بالله والملائكة قبيلا.
فإن قال قائل : إن الله أثبت علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام كقوله في سورة الجن :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا٢٦ إلا من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٦ ٢٧ ] فكيف أمره هنا أن يتنصل من ادعاء علم الغيب ؟
وجوابه : أن إظهار شيء خاص من عالم الغيب على يدي الرسل لا يجعل ذلك داخلا في علومهم الكسبية. فإن الوحي ضرب من العلم الضروري يجده النبي في نفسه حينما يظهره الله عليه، فإذا حبس عنه لم يكن له قدرة ولا وسيلة كسبية للوصول إليه، يؤيد ذلك ما جاء في فترات الوحي في السيرة النبوية، وقد يكون توجه قلب الرسول إلى الله تعالى في بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحي في الحكم الذي طلب من ربه بيانه يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ].
والخلاصة : إن الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم المكتسبة، كذلك لم يعطوا التصرف في خزائن ملك الله، فلم يمكنهم ما لم يمكن البشر من أسبابه حتى يكون من كسبهم وعملهم، ولا هو أعطاهم ذلك على سبيل الخصوصية.
ونفي ادعاء الرسول من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية أو ادعاء شيء من صفات الإله القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، ويتضمن جهل المشركين حقيقة الألوهية وحقيقة الرسالة، فقد اقترحوا عليه من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، وطلبوا منه الإخبار بما يكون في الزمان المستقبل ولا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفة له كسائر الصفات. فقد سألوه عن وقت الساعة، وعن وقت نزول العذاب بهم، وعن وقت نصر الله تعالى له عليهم.
وإذا علمت أن الأنبياء لم يؤتوا ذلك فأحر بمن دونهم منزلة عند الله من القديسين والأولياء المقربين ألا يكون لهم ذلك، فادعاؤه لهم جهل عظيم وإثم كبير، ولا ينبغي التحدث به لا بين العامة ولا بين الخاصة. كما يجب محوه من الأذهان لدى الجاهلين بسنن الله في الأكوان.
ثم أمره أن يبين وظيفة الرسول فقال :
﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ أي قل لهم : ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه إلا وحي الله الذي يوحيه إلي وتنزيله الذي ينزله علي، فأمضي لوحيه وأعمل بأمره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة على صحة ما أقول وليس ذلك بالمنكر في عقولكم، ولا بالمستحيل وجوده، فما وجه إنكاركم لذلك ؟
ثم وبخهم على ضلالهم فأمر رسوله أن يبين لهم أن الضال والمهتدي ليسا سواء فقال :
﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين المكذبين : هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه، فلم يميز بين التوحيد والشرك، ولا بين صفات الله وصفات البشر، وذو البصيرة المهتدي إليه، المستقيم في سيره عليه بالحجة والبرهان حتى صار ذلك في مرآة قلبه أوضح مما ترى العينان، وتسمع الأذنان.
والخلاصة : إنهما لا يستويان. كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان.
﴿ أفلا تتفكرون ﴾ فيما أذكر لكم من الحجج فتعلموا صحة ما أقول لكم وأدعوكم إليه، وتميزوا بين ضلال الشرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما في القرآن من ضروب الهداية والعرفان بذلك الأسلوب الرائع الذي لم تعهدوه من قبل ؟ فهل يكون ذلك في مقدوري وقد لبثت فيكم عمرا من قبل عاطلا من هذه المعرفة، وتلك البلاغة الساحرة، وذلك البيان الخلاب ؟
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين وأصول العقائد، وهي : توحيد الله عز وجل، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.
وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا و تأكيدا، وبيانا وتفصيلا.
وبعد أن أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته، أمره بإنذار من يخشون الحساب والجزاء فقال :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾.
الإيضاح :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾.
أي وأنذر بما يوحى إليك المؤمنين بالله الذين يخافون أهوال الحشر وشدة الحساب وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على الله في ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة :﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] يوم لا ولي ينصر، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة الله.
فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتقوا الله اهتداء بهديك وخوفا من إنذارك وتحروا ما يؤدي إلى مرضاته، لا يصدهم عن ذلك اتكال على الأولياء ولا اعتماد على الشفعاء، علما منهم أن الشفاعة لله جميعا :﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ [ يونس : ٣ ].
كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم لأنفسهم لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم أو شفاعة الشافعين لهم، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة في الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها.
والآية بمعنى قوله تعالى :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ﴾ [ فاطر : ١٨ ] وقوله :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب ﴾ [ يس : ١١ ].
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين وأصول العقائد، وهي : توحيد الله عز وجل، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.
وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا و تأكيدا، وبيانا وتفصيلا.
ثم نهى رسوله أن يطيع المترفين من كفار قريش في شأن المؤمنين المستضعفين فقال :﴿ ولا تطرد الذين يدعوا ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾.
الإيضاح :﴿ ولا تطرد الذين يدعوا ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾ أي ولا تطرد أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموحدين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي : أي أول النهار وآخره، أو المراد عامة الأوقات إذ يقال هو يفعل كذا صباحا ومساء : إذا كان مداوما عليه.
والدعاء إما الصلاة، وقد كان في أول الإسلام صلاتان إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وإما الأعم الشامل للدعاء الحقيقي، والصلاة والقرآن المشتملين عليه.
وقوله : يريدون وجهه : أي يدعون ربهم في هذين الوقتين مريدين بهذا الدعاء ابتغاء مرضاته تعالى : أي يتوجهون إليه وحده مخلصين له الدين، فلا يشركون معه أحدا ولا يرجون من غيره على الدعاء ثوابا. وهو كقوله :﴿ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ﴾ [ الإنسان : ٩ ].
روى أحمد وابن جرير والطبراني في جماعة آخرين عن عبد الله بن مسعود قال :( مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وخباب ونحوهم من ضعفاء ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك : فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن ﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عمرو والحارث بن عامر في أشراف الكفار من بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا له : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا : واحدهم عسيف، وهو الأجير، كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت يا رسول الله حتى تنظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم. فأنزل الله :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ إلى قوله :﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾.
قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة. وصبيحا مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا ﴾ الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر فأنزل الله :﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ الآية.
والعبرة من هذا : أن أول أتباعه كانوا كأتباع من تقدمه من الرسل صلوات الله عليهم من الضعفاء والفقراء، وأن أعداءه هم المترفون من الرؤساء والسادة كأعدائهم وأنهم كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان ويذمونهم ويعدون أنفسهم معذورين بعدم رضاهم بمساواتهم، بل قد اقترحوا على الرسل طردهم وإبعادهم كما في هذه الآية وكما في قوله في سورة هود حاكيا قول الأشراف من قوم نوح عليه السلام :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ [ هود : ٢٧ ] وقوله لهم :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾ [ هود : ٢٩ ].
﴿ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ﴾ أي ما عليك شيء من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، كما أنه ليس عليهم شيء من أمر حسابك على أعمالك، حتى يكون هذا أو ذاك سببا في طردك إياهم بإساءتهم في عملهم أو في محاسبتك على عملك، فإن الطرد جزاء والجزاء إنما يكون على سيئ الأعمال ولا يثبت ذلك إلا بالحساب. والمؤمنون ليسوا بعبيد للرسل ولا أعمالهم الدينية لهم، بل هي لله يريدون بها وجهه لا أوجه الرسل، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم، والرسل هداة مرشدون، لا أرباب مسيطرون :﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١ ٢٢ ] وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية، فأجدر بالناس ألا يكون لهم هذا الحق على أنبيائهم.
﴿ فتكون من الظالمين ﴾ أي لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي فتكون بطردك إياهم في زمرة الظالمين معدودا من جنسهم، لأن الطرد لا يكون حقا إلا على الإساءة في الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم وجزائهم عليها، ولست أنت بصاحب هذا الحق حتى تجري فيه على صراط العدل، فإن عملهم هو عبادة الله وحده، فحسابهم وجزاؤهم عليه كما قال نوح عليه السلام :﴿ إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ﴾ [ الشعراء : ١١٣ ].
والخلاصة : إن هذه الآية الكريمة أفادت :
( ١ ) أن الرسول لا يملك التصرف في الكون.
( ٢ ) أنه لا يعلم الغيب.
( ٣ ) أنه ليس بملك.
( ٤ ) أنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في بيان أركان الدين وأصول العقائد، وهي : توحيد الله عز وجل، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.
وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء في الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا و تأكيدا، وبيانا وتفصيلا.
ثم بين أن مقال المشركين في شأن المستضعفين ابتلاء من الله وفتنة فقال :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ﴾.
الإيضاح :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ﴾ أي ومثل ذلك الفتن أي الابتلاء والاختبار، فتنا بعضهم ببعض : أي جعلنا بحسب سنتنا في غرائز البشر وأخلاقهم بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة بفتنتهما بالنار.
﴿ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ أي لتكون العاقبة أن يقول المفتونون من الأقوياء في شأن الضعفاء من المؤمنين : أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم الله بهذه النعمة العظيمة من جملتنا أو من مجموعنا ؟
والخلاصة : إن ذلك لن يكون، لأنهم هم المفضلون عند الله بما آتاهم من غني وثروة وجاه وقوة، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء كما أعطاهم من قبل الجاه والثروة، وقد حكى الله عنهم مثل هذا بقوله :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : ١١ ].
ثم رد عليهم مقالتهم الدالة على العتو والاستكبار بقوله :
﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ أي إن المستحق لمنّ الله وزيادة نعمه إنما هو من يقدرها قدّرها، ويعرف حق المنعم بها فيشكره عليها، لا من سبق الإنعام عليه فكفر وبطر وعتا واستكبر.
وبهذا مضت سنة الله في عباده، ولولا هذا لكانت النعم خالدة لا تنزع ممن أوتيها وإن كفر بها، وهل فتن أولئك الكبراء إلا بما حصل لهم من الغنى والقوة ؟ فظنوا جهلا منهم بسنة الله في أمثالهم أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم، وتفضيلا لهم على غيرهم.
وفي الآية إيماء إلى أن ما اغتروا به من النعم لن يدوم، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد أن تنعكس الحال فيسلب الأقوياء ما أعطوا من قوة ومال، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين فيكونوا هم الأئمة الوارثين ﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
كذلك فيها إشارة إلى أن تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلو في الأرض لا عن حجة ولا عن شبهة، وإلى أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم.
تفسير المفردات : السلام والسلامة : البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام : من أسمائه تعالى يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من نقص وعجز وفناء، واستعمل السلام في التحية بمعنى السلامة من كل ما يسوء، وبمعنى تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله من المسلم فهو دليل المودة والصفاء، وهو تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جل وعلا وملائكته الكرام، ويحيى بها بعضهم بعضا، وكتب : أوجب، والجهالة : السفه والخفة التي تقابل الحكمة والروية.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته، استمالة لكبراء المتكبرين من قومه، وطمعا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته، كما اقترحه بعض المشركين.
أمره بأن يلقى الذين يدخلون في الإسلام آنا بعد آن عن بينة وبرهان ـ بالتحية والسلام، والتبشير برحمة الله ومغفرته، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم.
الإيضاح :﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ﴾ أي وإذا جاءك القوم الذين يصدقون بكتابنا وحججنا، ويقرون بذلك قولا وعملا، سائلين عن ذنوبهم التي فرطت منهم، هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها، وقل لهم : سلام عليكم أي أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها.
ثم ذكر العلة في هذا فقال :
﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ أي قل لهم : أوجب على ذاته المقدسة تفضلا منه وإحسانا، الرحمة بخلقه، فإن فيما سخر للبشر من أسباب المعيشة المادية وفيما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية، وتربية عباده بها في حياتهم الجسدية والروحية.
ثم بين أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة للمؤمنين فقال :
﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ﴾ أي إن من عمل منكم عملا تسوء عاقبته، للضرر الذي حرّمه الله لأجله، حال كونه ملتبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد حمله على السب والضرب، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك العرض، ثم تاب ورجع عن ذلك السوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه، نادما عليه، خائفا من عاقبته، وأصلح عمله بأن اتبع ذلك العمل السيئ بعمل يضاده، ويذهب أثره من قلبه، حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها، وتصير أهلا للقرب من ربها فشأنه تعالى في معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة، فيغفر له ما تاب عنه، ويتغمده برحمته وإحسانه.
وقد بين سبحانه في هذه الآية من أنواع الرحمة المكتوبة لعباده ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحي وهو حكم من يعمل السوء بجهالة من عباده المؤمنين، وبقية أنواعها يمكن أن يستدل عليها بالنظر في الأنفس والآفاق، وأمر نبيه بتبليغها لمن يدخلون في الدين ليهتدوا بها حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته فيحملهم الغرور على التفريط في جنب الله والغفلة عن تزكية أنفسهم، وحتى يبادروا إلى تطهيرها من إفساد الذنوب خوف أن تحيط بها خطيئتها :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ [ النساء : ١٧ ].
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته، استمالة لكبراء المتكبرين من قومه، وطمعا في إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته، كما اقترحه بعض المشركين.
أمره بأن يلقى الذين يدخلون في الإسلام آنا بعد آن عن بينة وبرهان ـ بالتحية والسلام، والتبشير برحمة الله ومغفرته، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل في الإسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم.
ثم بين سبحانه أنه فصل الحقائق للمؤمنين ليبتعدوا عن سلوك سبيل المجرمين :﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ﴾.
الإيضاح :﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ أي ومثل ذلك التفصيل البديع الواضح نفصل لك أدلتنا في بيان الحقائق التي يهتدي بها أهل النظر والفكر لما فيها من العلم والحكمة، والموعظة والعبرة، ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين، إذ يعلم من هذا التفصيل أن ما خالفه هو سبيل المجرمين والأشياء تعرف بأضدادها كما قيل : وبضدها تتميز الأشياء.
تفسير المفردات : النهي : الزجر عن الشيء بالقول نحو : اجتنب قول الزور، والكف عنه بالفعل كما قال تعالى :﴿ ونهى النفس عن الهوى ﴾ [ النازعات : ٤٠ ] والدعاء : النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضر، ولا يكون عبادة إلا إذا كان فيما وراء الأسباب العادية التي سخرها الله للعباد وينالونها بكسبهم واجتهادهم وتعاونهم عليها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم هو عبادة غير الله، وأن هذه العبادة إنما هي بمحض الهوى والتقليد، لا سبيل الحجة والبرهان، فهي جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم ويركبونها ثم يعبدونها.
الإيضاح :﴿ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الداعين لك إلى الإشراك : إني نهيت أن أعبد الذين تدعونهم وتستغيثون بهم من دون الله أي غير الله من الملائكة والصالحين من عباده، دع ما دونهم من الأصنام والأوثان التي لا علم لها ولا عمل.
وهذا النهي شامل لنهي الله عنه في كتابه الكريم في كثير من الآيات، ولأمره بضده وهو دعاؤه وحده، ولنهي العقل والفطرة السليمة قبل إرسال الأنبياء.
ثم أمر أن يبين لهم أن هذه العبادة مبينة على الرأي والهوى وهي ضلال وغي.
﴿ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ﴾ أي قل لهم : لا أتبعكم على ما تدعونني إليه في هذه العبادة ولا في غيرها من الأعمال، لأنها مؤسسة على الهوى، وليست على شيء من الحق والهدى، فإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسرت على غير هدى، فصرت ضالا مثلهم وخرجت من عداد المهتدين، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم هو عبادة غير الله، وأن هذه العبادة إنما هي بمحض الهوى والتقليد، لا سبيل الحجة والبرهان، فهي جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم ويركبونها ثم يعبدونها.
ثم أمره أن يقول لهم : إني على هدى من ربي فيما أتبعه. ﴿ قل إني على بينة من ربي ﴾. الإيضاح :﴿ قل إني على بينة من ربي ﴾ أي قل لهم أيها الرسول إني فيما أخالفكم فيه على بينة من ربي أي على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي من ربي بالوحي والعقل، إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها.
﴿ وكذبتم به ﴾ أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتي من ربي، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد، والتقليد براءة من الاستدلال، ورضا بجهل الآباء والأجداد.
وفي هذا حجة دامغة، وبينة ناصعة على ما قبله، من نفي عبادته صلى الله عليه وسلم للذين يدعونهم من دون الله.
وبعد أن بين تكذيبهم به قفى عليه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال، وهي أن الله أنذرهم عذابا يحل بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم وقد استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن، إذ هم يجهلون سنة الله في شؤون الإنسان، فأمر الله نبيه أن يقول لهم :
﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ أي ما الذي تستعجلون به من نقم الله وعذابه بيدي ولا أنا على ذلك بقادر، ولم أقل لكم إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به، وتعدون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه.
ثم أكد ما سبق بقوله :
﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ أي ما الحكم في هذا وفي غيره من التصرف في شؤون الأمم إلا لله وحده، وله في ذلك سنن حكيمة تجري عليها أفعاله وأحكامه، فلا يتقدم شيء منها عن ميقاته ولا يتأخر :﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ [ الرعد : ٨ ].
ثم بين سبحانه أن كل ما قصه على رسوله فهو حق لا شبهة فيه فقال :
﴿ يقص الحق وهو خير الفاصلين ﴾ أي يقص على رسوله القصص الحق في وعده ووعيده وجميع أخباره، وهو خير الحاكمين في كل أمر، فهو لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد ولا جور وهو النافذ حكمه في كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء.
الإيضاح :﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون أن العذاب بقولهم :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عبدك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ].
لو أن عندي ما تستعجلون به بأن مكنني الله من التصرف فيه وجعله من قدرتي الكسبية، لقضى الأمر بيني وبينكم فأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، واقتصاصا من تكذيبكم، ولتخلصت منك سريعا لصدكم عن تبليغ دعوة ربي، وصدكم الناس عني، وقد وعدني ربي بنصر المؤمنين المصلحين، وخذلان الكافرين المفسدين.
﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾ الذين لا رجاء في رجوعهم عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل، ومن ثم لم يجعل أمر عقابهم إلي، بل جعله عنده ووقت له ميقاتا هو أعلم به، ترونه بعيدا ويراه قريبا، ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف : ٣٤ ].
تفسير المفردات : المفاتح واحدها مفتح : بفتح الميم، وهو المخزن : وبكسرها : هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، والبحر : كل مكان واسع حاو للكثير من الماء، والبر : ما يقابله.
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه عذاب الله تعجيزا أو تهكما ليس عنده، وإنما هو عند الله، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شيء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله ـ ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف في الخلق بيده، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم في ذلك.
الإيضاح :﴿ وعنده مفتاح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ أي إن خزائن الغيب عند الله وهو المتصرف فيها وحده، وكذلك المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هي عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو، فهو الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يعلم منها شيئا إلا بإعلامه عز وعلا، فعلينا أن نفوض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، وأن نجزم بأنه لا يخلف وعده رسله وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمه.
روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مفاتيح الغيب خمس :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
وما حكاه الله عن عيسى عليه السلام من قوله :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ] وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبي السجن :﴿ لا يأتيكما ﴾ [ يوسف : ٣٧ ] داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب كما قال في سورة الجن :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا٢٦ إلا من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٦ ٢٧ ].
وجاء في معنى الآية قوله تعالى :﴿ وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون٧٤ وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ﴾ [ النمل : ٧٤ ٧٥ ] وقوله :{ إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [ يس : ١٢ ].
وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا :( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض ).
لهذا الحديث والآثار المروية اتفق علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر في نحو ما تقدم من الآيات باللوح المحفوظ، وهو شيء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود وأن الله قد حفظ فيه كتابه، وأما دعوى أنه جرم مخصوص في سماء معينة فمما لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتواتر، فلا ينبغي أن يدخل في باب العقائد لدى المؤمنين.
وروي عن الحسن أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب، وزاد بعضهم حكمتين أخريين :
( ١ ) اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية.
( ٢ ) عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة :" جف القلم بما أنت لاق ".
﴿ ويعلم ما في البر والبحر ﴾ أي وعنده علم ما لم يغب عنكم، لأن ما فيهما ظاهر للعين يعلمه العباد وعلمه تعالى بما فيهما علم شهادة مقابل لعلم الغيب.
والخلاصة : إن عنده علم ما غاب عنكم لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه وعنده علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شيء منه، فعنده ما كان وما يكون هو كائن إلى يوم القيامة.
﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾ أي وما تسقط ورقة من نجم أو شجر في الصحارى والبراري، أو في الأمصار والقرى إلا والله عليم بها.
﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ أي وما تسقط من حبة بفعل الإنسان باختياره كالحب الذي يلقيه الزارع في بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحتجب عن نور النهار، أو تذهب به النمل في قراها وجحورها، أو بغير فعل الإنسان كالذي يسقط من النبات في الشقوق والأخاديد، وما يسقط من الثمار رطبا ويابسا إلا وهو في كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه وكتب عدده والوقت الذي يوجد فيه والذي يفنى فيه، وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله في الآية الأخرى :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ﴾ [ الحديد : ٢٢ ].
واختار الرازي أن الكتاب المبين علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره.
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه عذاب الله تعجيزا أو تهكما ليس عنده، وإنما هو عند الله، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شيء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله ـ ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف في الخلق بيده، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم في ذلك.
الإيضاح :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ﴾ أي يتوفى أنفسكم حال نومكم بالليل أي يزيل إحساسها ويمنعها من التصرف في الأبدان، واقتصر على الليل وإن كان ذلك يقع في النهار لأن الغالب أن يكون النوم فيها.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الزمر : ٤٢ ]
﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ أي ويعلم جميع عملكم وكسبكم حين اليقظة ويكون معظم ذلك في النهار سواء أكان خيرا أم شرا.
﴿ ثم يبعثكم فيه ﴾ أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه في النهار.
﴿ ليقضي أجل مسمى ﴾ أي يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم، ومناجاة إلهكم وخالقكم، لأجل أن يقضي وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل فرد منكم، فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها.
﴿ ثم إليه مرجعكم ﴾ أي ثم إليه رجوعكم إذا انقضت آجالكم ومتم.
﴿ ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ أي ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا ويجازيكم بذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والقادر على البعث من توفى النوم قادر على البعث من توفى الموت.
وفي ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من وعيد الله لهم ووعده لرسله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا، فمن لم يدركه العذاب الأول لم يفلت من الثاني.
تفسير المفردات : الحفظة : هم الكرام الكاتبون من الملائكة ﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين ﴾ [ الانفطار : ١٠ ١١ ].
المعنى الجملي : بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه عذاب الله تعجيزا أو تهكما ليس عنده، وإنما هو عند الله، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شيء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله ـ ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف في الخلق بيده، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم في ذلك.
وبعد أن أبان سبحانه أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال :﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ﴾. الإيضاح :﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ﴾ أي إنه تعالى هو الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته وسلطانه، لا المقهورون من الأوثان والأصنام، المغلوبون على أمرهم، ﴿ ويرسل عليكم حفظة ﴾ من الملائكة يتعاقبونكم ليلا ونهارا يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرّطون في حفظها وإحصائها، ولا يضيعون شيئا منها.
وإرسال الحفظة عليهم : مراقبهم لهم وإحصاء أعمالهم وكتابتها وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهي المرادة بقوله تعالى :﴿ وإذا الصحف نشرت ﴾ [ التكوير : ١٠ ].
وهؤلاء الحفظة الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ﴾ [ الانفطار : ١٠ ١٢ ] ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها ولا نتحكم فيها بآرائنا.
وما مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل مراقبة رجال البوليس السري في حكومات العصر الحديث.
روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم، يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول :﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ﴾ [ الرعد : ١١ ] لم يغن الحرس عنهم شيئا.
وفي معنى الآية قوله :﴿ سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن مستخف بالليل وسارب بالنهار١٠ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ﴾ [ الرعد : ١٠ ١١ ].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا :﴿ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ﴾.
والحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين : أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات وأبعث له على عمل الصالحات، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في المغفرة والرحمة فلا يكون لديه من الخشية والحياء، ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم، كما قال تعالى :﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ﴾ أي يرسل عليكم حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله، توفته وقبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولون ذلك بأمره كما قال تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ﴾ [ السجدة : ١١ ].
روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح ؟ قال : هو الذي يلي أمر الأرواح وله أعوان على ذلك، وقرأ الآية، ثم قال : غير أن ملك الموت هو الرئيس.
وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة، أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب : أي وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم الله بأمره، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته.
وجاء إسناد التوفي إلى الله في قوله :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] إما لأنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك وإما لأنه هو الفاعل الحقيقي والمسخر لملك الموت وأعوانه، فهم لا يعلمون إلا بأمره ولا يتصرفون إلا بتسخيره.
الإيضاح :﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ أي ثم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم ومالك أمورهم، وهو الحق الذي لا يقضي إلا بالعدل، ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم.
وفي الآية إيماء إلى أن ردهم إليه حتم، لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق.
وأما تولي بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة أو ملك التصرف والسياسة، فمنه ما هو باطل من كل وجه، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لإثبات له ولا بقاء.
وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارصة مدة حياتهم الدنيا، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده.
ثم بين أن ردهم إليه ليحكم بينهم بقضائه العدل فقال :
﴿ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ﴾ أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شيء في ذلك اليوم كما قال :﴿ إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ﴾ [ النمل : ٧٨ ] وقال :﴿ وما أخلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ [ الشورى : ١٠ ] وقال :﴿ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ﴾ [ الزمر : ٤٦ ].
وسرعة حسابه : أنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، ولا يشغله شأن عن شأن.
الخلاصة : إنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها.
تفسير المفردات : ظلمات البر والبحر : ضربان، ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالمسالك والطرق، وظلمة فقد الأعلام والمنار، وظلمة الشدائد والأخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس وتدهش العقول، قال الزجاج : العرب تقول لليوم الذي فيه شدة : يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي إنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وفي المثل : رأى الكواكب ظهرا، أي أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارا، والتضرع : المبالغة في الضراعة، وهي الذل والخضوع، والمراد : وله هنا ما كان صادرا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري الطوي في أنفس البشر، والخفية : بالضم والكسر الخفاء والاستتار، والدعاء : قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء، وقد يكون بالإسرار هربا من الرياء، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا، ويتحرى ألا تسمعه أذن ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل المسؤول.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم ـ ذكرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ونهاية الرحمة والفضل والإحسان.
الإيضاح :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع في الآفاق من آيات التوحيد من ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم المحجة، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأظلم عليكم فيه السبيل فلم تهتدوا غير الله الذي إليه مفزعكم بالدعاء تضرعا منكم إليه، معلنين الدعاء تارة ومخفين له أخرى.
﴿ لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ أي مقسمين : لئن أنجيتنا من هذه الظلمات التي نحن فيها لنكونن من المتصفين بالشكر، المخلصين لك بالعبادة دون من نشركه معك في عبادتك.
وفي معنى الآية قوله :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم ـ ذكرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ونهاية الرحمة والفضل والإحسان.
ثم بين أنهم يحنثون في أيمانهم بعد النجاة، ويشركون بربهم سواه، فقال :﴿ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ﴾. الإيضاح :﴿ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ] أي إن الله هو الذي ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح، الشرك، حال كونكم مخلفي وعدكم له بالشكر حانثين بما وكدتموه من الأيمان.
وأظهر أنواع الشرك : أنكم تدعون أولياء من دون الله وتنسبون إليهم الشفاعة عنده، حتى هذه النجاة التي نجاكموها.
والخلاصة : إنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ في هذه الحالة إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص في جميع الأحوال والأوقات، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب ويعود إلى الشرك في العبادة ولا يوفي بالعهد.
وفي الآية تنبيه إلى أن من أشرك في عبادته تعالى غيره فكأنه لم يعبده رأسا، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة.
تفسير المفردات : الشيع : واحدهم شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر، قال تعالى :﴿ كما فعل بأشياعهم من ﴾ [ سبأ : ٥٤ ] ويلبسكم : أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقا مختلفة لا فرقة واحدة، ونصرف الآيات : نحولها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم، والفقه : فهم الشيء بدليله وعلته المفضي إلى الاعتبار والعمل به.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه المشركين ببعض آياته في أنفسهم وبمننه عليهم، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام.
ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أن عاقبة كفران النعم، أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ أي قل أيها الرسول لقومك الذين يشركون مع الله سواه، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم : إن الله هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا تجهلون حقيقته، فيصب عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا على أهواء شتى، كل فرقة تشايع إماما في الدين أو تتعصب لملك أو رئيس، أو يذيق بعضكم بأس بعض فيقتل بعضكم بيد بعض.
وقد ورد في التفسير بالمأثور، أن المراد بالعذاب من فوق : الرجم من السماء والطوفان كما وقع لبعض الأمم القديمة، وبالعذاب من تحت : الخسف والزلازل المعهودة قديما وحديثا، وروي عن ابن عباس أن المراد بمن فوقكم : أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم : أي عبيدكم وسفلتكم.
ولا شك أن لفظ العذاب مبهم قصد به هذا الإبهام لأجل الشمول، فيطلق على ما يدل عليه اللفظ مما يحدث في المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم، فالقرآن لا تفنى عجائبه، وفيه نبأ من قبل ونبأ من كان في زمن التنزيل ونبأ من سيجيء بعدهم.
فهذه الآية ظهر تفسيرها بأجلى برهان في هذه الحروب في العصر الحديث مما لم يسبق له نظير ولم يكن البشر على علم منه، فقد أرسل الله فيها على الأمم المحاربة عذابا من فوقها بما تقذفه الطائرات والمطاود وقاذفات القنابل التي تحمل كل منها الآلاف المؤلفة من المواد المتفجرة من الحديد والمعادن الأخرى المهلكة، ومن المواد المحرقة، وصارت تمشي آلاف الميال لتصل إلى أهدافها المقصودة فتخرب المدن والقرى، وتجعل عاليها سافلها، بما تصب فيها من عل، من الحمم المتقدة والنيران المشتعلة، حتى ليراها الرائي كأنها بركان ثائر يريد أن يبتلع من حوله ويلتهم جميع ما فوق سطح الأرض.
وكذلك مقذوفات المدافع البعيدة المدى التي تطلق قناطير من أفواهها وترسله من فوق من مواد قاتلة مما لم يعرف الناس له نظيرا من قبل. وكذلك يأتيها العذاب من تحتها بما تحدث السفن الغواصة في البحار بما ترسله من الطوربيد الحامل للقناطير المقنطرة من مختلف المعادن وتتحين به الفرص لمقابلة سفن العدو فتصبه عليها صبا. وتهلك به مختلف السفن ولا تقوى على النجاة منها مهما عظم حجمها ودق صنعها بل لا بد أن تهوي في قاع البحار إذا قدر لها أن تصاب به، فكم من سفينة غرقت، وكم من روح زهق به وأصبح طعاما للسمك وحيوان البحر.
وكذلك جعل أمم أوروبا شيعا متعادية. وأذاق بعضها بأس بعض فحل بها من التقتيل والتخريب ما لو لم نره بأعيننا ونسمع عنه الأحاديث المستفيضة التي لا تقبل شكا ولا ريبا لكنا في موضع الشك فيه، لغرابته وشدة هوله وذهول الناس حين رؤيته، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من الذعر وشدة الخطب حيارى، لا يدرون ماذا هم فاعلون، ولا أي مكان يسلكون ؛ ليتقوا ذلك الهلاك المحقق، والعذاب الذي لا بد واقع بهم إلا من رحم الله.
روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قل هو القادر الخ فقال : أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ".
وروى البخاري والنسائي من حديث جابر قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أعوذ بوجهك ) قال :﴿ أو من تحت أرجلكم ﴾ قال :" أعوذ بوجهك " ﴿ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هاتان أهون أو أيسر ).
وإنما كانت هاتان أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلهما هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد.
وروي عن ابن عباس من طريق أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( دعوت اله أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وألا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع الآخرين ).
وروى مسلم من حديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله زوى ( جمع ) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة. كالمجاعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح الصرصر وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. ( عزتهم ومستقر ملكهم ) وإن ربي قال : يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ).
وقد ظهر صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها وفي وقوع بأسهم بينهم، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وكم تألبت عليهم الأمم فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا، وما بقي لهم الآن إلا القليل الذي يطمع فيه الطامعون.
ومن هذا نعلم : أن الله لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بها.
يرشد إلى ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها "، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ ؟ قال :" بل أنتم يومئذ كثير، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن "، قال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال :" حب الدنيا وكراهية الموت " رواه أبو داود والبيهقي.
ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات فقال :
﴿ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ﴾ أي تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتى : منها ما طريقه الحسن، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما سبيله علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضي إلى الاعتبار والعمل بها.
وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك تصريف الآيات واختلاف الحجج والبينات، وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه المشركين ببعض آياته في أنفسهم وبمننه عليهم، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام.
ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أن عاقبة كفران النعم، أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته فقال :﴿ وكذب به قومك وهو الحق ﴾. الإيضاح :﴿ وكذب به قومك وهو الحق ﴾ أي وكذب قومك بالقرآن على ما صرفنا فيه من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان، إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان، والحال أنه حق ثابت لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل في جبرهم على الإيمان به فقال :
﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ أي قل لهم أيها الرسول إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، أبشركم وأنذركم ولو أعط القدرة على التصرف في عبادة حتى أجبركم على الإيمان جبرا وأكرهكم عليه إكراها ﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١ ٢٢ ] ﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : ٤٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه المشركين ببعض آياته في أنفسهم وبمننه عليهم، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام.
ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أن عاقبة كفران النعم، أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح :﴿ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ﴾ أي لكل شيء ينبأ عنه ويخبر، مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابي من وعد ووعيد، ومن ذلك ما وعد به الرسول من نصره عليهم، وما أوعد به أعداءه من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد٥٢ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾ [ فصلت : ٥٢ ٥٣ ].
تفسير المفردات : أصل الخوض : الدخول في الماء والمرور فيه سيرا أو سباحة، ثم استعمل في الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه، والدخول في الباطل مع أهله، وقد استعمله القرآن بهذين المعنيين، وأعرض عنهم : انصرف عنهم بدلا من القعود معهم والإقبال عليهم بوجهك، والذكرى الأولى بمعنى التذكر، والثانية بمعنى التذكير.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وأحالهم في ظهور صدق أنبائه وأخباره على الزمان.
بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
روي عن سعيد بن جبير وابن جريح وقتادة ومقاتل والسدي : أن هذه الآية نزلت في المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.
الإيضاح :﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزؤوا فنزلت :﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾ الآية. قال : فجعل إذا استهزؤوا قام فحذِروا وقالوا لا تستهزؤوا فيقوم.
والمخاطب بالآية الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنون في كل زمان. أي وإذا رأيت أيها المؤمن الذين يخوضون في آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، فصد عنهم بوجهك وقم ولا تجلس معهم، حتى يخوضوا في حديث غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من جانب الكفار أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء، تأييدا لما استحدثوا من مذاهب وآراء، وتفنيدا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء، وإذا خاضوا في غير ذلك فلا ضير في القعود معهم.
وسر هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم في التمادي فيما هم فيه، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه، والمشاركة في ذلك كفر ظاهر، لا يرتكبه إلا كافر مجاهر، أو منافق مراء.
كما أن في التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنة في الدين لا تنقص عن الأولى ضررا، فإن أربابها تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ومن ثم حذر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد ما حذروا من مجالسة الكفار، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع.
ومن الناس من يحرفون آيات الله عن مواضعها بهواهم ليكفروا بها مسلما أو يضللوا بها مهتديا، بغيا عليه وحسدا له.
﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ أي وإن أنساك الشيطان النهي مرة، وقعدت معهم وهم على تلك الحال ثم ذكرت ذلك فقم عنهم، ولا تقعد مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلا من الإيمان بها والاهتداء بهديها.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره على حد المثل : إياك أعني واسمعي يا جارة. وهو كثير في كلام العرب، أو للرسول صلى الله عليه وسلم بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن في أحكام التشريع غير الخاصة به صلى الله عليه وسلم.
ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف في جوازه قال تعالى لخاتم أنبيائه ﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ [ الكهف : ٢٤ ] وثبت وقوعه من موسى عليه السلام :﴿ قال لا تؤاخذني بما نسيت ﴾ [ الكهف : ٧٣ ] ولكن الله عصمهم من نسيان شيء مما أمرهم بتبليغه أو بإخلال الدين كإضاعة فريضة أو تحريم حلال أو تحليل حرام.
وثبت في الصحيحين والسنن " أن النبي صلى الله عليه وسلم سها في الصلاة وقال :( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني ).
وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل في مفهوم قوله :﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون٩٩ إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ﴾ [ النحل : ٩٩ ١٠٠ ].
ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوتا لبعض المنافع أو لكونه حصل بوسوسته ولو بشغل القلب ببعض المباحات لا يعد من سلطان الشيطان على الناس واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن عباده المخلصين.
بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
روي عن سعيد بن جبير وابن جريح وقتادة ومقاتل والسدي : أن هذه الآية نزلت في المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.
ثم أبان أنهم إذا فعلوا ذلك فلن يشاركوهم في الإثم فقال :﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ﴾. الإيضاح :﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ﴾ أي وما على الذين يتقون من حساب الخائضين في آياته شيء فلا يحاسبون على خوضهم فيها ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا.
﴿ ولكن ذكرى لعلهم يتقون ﴾ أي ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله، لعلهم يتقون فيتجنبوا الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وأحالهم في ظهور صدق أنبائه وأخباره على الزمان.
بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
روي عن سعيد بن جبير وابن جريح وقتادة ومقاتل والسدي : أن هذه الآية نزلت في المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.
وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات الله هزوا أمره بترك المستهزئين بدينهم الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال :﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾. الإيضاح :﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ أي ودع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا الفاتنة فآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج والآيات، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ﴾ [ الحجر : ٣ ].
واتخاذهم دينهم هزوا ولعبا، أنهما لما عملوا ما لا يزكي نفوسهم، ولا يطهر قلوبهم ولا يهذب أخلاقهم ولا يقع على وجه يرضي الله سبحانه، ولا يعِدّ للقائه في دار الكرامة، أضاعوا الوقت فيما لا يفيد وهذا هو اللعب، أو شغلوا عن شؤونهم وهمومهم الأخرى وهذا هو اللهو.
وخلاصة المعنى : أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا تقم لعلمهم في نظرك وزنا.
وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير بالقرآن وتبليغ الرسالة فقال :
﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ الضمير في قوله " به " يعود إلى القرآن المعلوم بقرينة الحال، لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر : أي وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس في الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها في العذاب، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة في هذه الدار كما قال :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة٣٨ إلا أصحاب اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨ ٣٩ ].
ثم وصف النفس المسلمة وعلل إبسالها فقال :
﴿ ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾ أي والحال أنه ليس لها من غير الله ولي ولا ناصر ينصرها ولا شفيع يشفع لها عند الله كما قال ﴿ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ﴾ [ غافر : ١٨ ] وقال :﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ [ الزمر : ٤٤ ] وقال :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
ثم أرشد إلى أنه لا ينفع في الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء فقال :
﴿ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ﴾ أي وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها ولا يقبل، والمراد : أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل.
وهذا كقوله في سورة البقرة :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ].
والخلاصة : إن النفس المبسلة تمنع في ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة، فلا ولي ولا حميم، ولا شفيع، ولا فداء، إلى نحو أولئك مما ربما نفع في مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع.
وفي هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية وهو رجاء النجاة في الآخرة كما هو الحال في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى، وتقرير لأصل ديني وهو أن لا نجاة في الآخرة ولا رضوان من الله ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به وعمل صالح يزكي النفس ويطهرها، أما من دسّى نفسه وأبسله كسبه للسيئات والخطايا واتخذ دين الله هزوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا فلا تنفعه شفاعة ولا تقبل منه فدية.
ثم بين أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم فقال :
﴿ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ﴾ أي أولئك المتخذون دينهم هزوا ولعبا المغترون بالحياة الدنيا، هم الذين حرموا الثواب، وأسلموا للعذاب، وحبسوا عن دار السعادة، بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة، ويصدهم عن العقائد الزائفة.
ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أبسلوا فقال :
﴿ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ﴾ أي لهم شراب من ماء حميم : أي بالغ الغاية في الشدة يتردد في بطونهم وتنقطع به أمعاؤهم، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه.
والخلاصة : إن رسوخهم في الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير.
وفي ذلك عبرة لمن يفقه القرآن ولا يغتر بلقب الإسلام، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه وسنة الرسول طريقه، لا من اغتر بالأماني والأوهام، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين، والأولياء والناصرين.
تفسير المفردات : الأعقاب : واحدها عقب وهو مؤخر الرجل، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة أو سفل بعد رفعه أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه وارتد على عقبيه ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم، واستهوته الشياطين. ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، ومنه قولهم : جن فلان، أي مسته الجن فذهبت بعقله، وكانوا يقولون : إن الجن تظهر لهم في المهامه وتتلون لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلب من يراها فيهم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى، وقوله حيران : أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع.
الإيضاح :﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ﴾ أي قل أيها الرسول للآمرين لك بإتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم، أندعو من دون الله حجرا أو شجرا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا ؟ فنخصه بالعبادة دون الله وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع الحياة والموت إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ولا شك أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره أحق وأولى من خدمة من لا يرجى منه شيء منهما، ونرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.
والخلاصة : إن ذلك لا ينبغي ولا يكون للأسباب الآتية :
( ١ ) إن هذا تحول وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء ويمنح الخير إن شاء إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
( ٢ ) إنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء.
( ٣ ) إن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله ﴿ ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾ [ الزمر : ٣٧ ].
ثم ضرب مثلا يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتخيلها العرب فقال :
﴿ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ﴾ أي أنرد على أعقابنا فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى في الأرض حيران تائها ؟ له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه ويقولون له ائتنا.
وخلاصة المثل : إن من يرتد مشركا بعد الإيمان كمن جعله العشق أو الجنون هائما على وجهه، ضالا في الفلوات حيران لا يهتدي، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه : عد إلينا فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة، قال صاحب الكشاف : وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله :﴿ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ].
ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعونه إليه فقال :
﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم إتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم.
﴿ وأمرنا لنسلم لرب العالمين ﴾ أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين فأسلمنا.
وهي مكية إلا الآيات ٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٣، ١١٤، ١٤١، ١٥١، ١٥٢، ١٥٣، وقد روى كثير من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة.
مناسبة هذه السورة لما قبلها :
الناظر إلى ترتيب السورة كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل في الحفظ، فالناس يبدؤون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدؤون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعي التناسب في معاني السور مع التناسب في مقدار الطول والقصر.
ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة :
( ١ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام.
( ٢ ) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت في المائدة بالتفصيل وهي قد نزلت أخيرا.
( ٣ ) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال :﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾ [ الزمر : ٧٥ ].
الإيضاح :﴿ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ﴾ أي وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى، وإقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهي أن تزكي النفس بمناجاة الله وذكره وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والتقوى : اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكب سننه في خلقه من ضرر وفساد.
﴿ وهو الذي إليه تحشرون ﴾ أي وهو الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، فليس من العقل ولا من الحكمة أن يعبد غيره أو يخاف ويرجى.
آيها خمس وستون ومائة، نزلت بعد الحجر
وهي مكية إلا الآيات ٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٣، ١١٤، ١٤١، ١٥١، ١٥٢، ١٥٣، وقد روى كثير من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة.
مناسبة هذه السورة لما قبلها :
الناظر إلى ترتيب السورة كلها في المصحف يرى أنه قد روعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل في الحفظ، فالناس يبدؤون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدؤون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعي التناسب في معاني السور مع التناسب في مقدار الطول والقصر.
ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة :
( ١ ) إن معظم سورة المائدة في محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام.
( ٢ ) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت في المائدة بالتفصيل وهي قد نزلت أخيرا.
( ٣ ) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال :﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾ [ الزمر : ٧٥ ].
الإيضاح :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ أي وهو الذي خلقهما خلقا متلبسا بالحق، وهو أنه وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته البالغة، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا فهو لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما كسبت.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] وقوله :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين٣٨ ما خلقناهما إلا بالحق ﴾ [ الدخان : ٣٨ ٣٩ ].
﴿ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ﴾ أي وقوله هو الحق الذي لا شك فيه يوم يقول للشيء كن فيكون وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه، فلا مرد لأمره ولا تخلف لقضائه وحكمه، ومن كان أمره التكويني مطاعا يكن أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج في النفس ولا ضيق منه، فالخلق حق والأمر حق ﴿ ألا له الخلق والأمر ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ أي وله الملك يوم الحشر يوم يبعث من في القبور وينفخ في الصور، والأمر حينئذ له وحده، ولا تملك نفس لنفس شيئا من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق أن يدعو سواه، ويتخذ له إلها غير الله، ويرد على عقبيه، ويرجع إلى أسوإ حاليه.
روي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال :( هو قرن ينفخ فيه ) وروي عن ابن مسعود أنه قال :( الصور كهيئة القرن ينفخ فيه ).
﴿ عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ﴾ قال الحسن : الشهادة : ما قد رأيتم خلقه، والغيب : ما غاب عنكم مما لم تروه، وقال ابن عباس : الغيب والشهادة : السر والعلانية.
والمعنى : إن الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، والذي قوله الحق تكوينا وتكليفا، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها، ولا يشذ عن علمه شيء منها، فلا ينبغي لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] وقال :﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ [ الأنعام : ٤١ ].
تفسير المفردات : إبراهيم : اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح، وهو العشر من أولاد سام كما في سفر التكوين، ولد في بلدة ( أور ) أي النور من بلاد الكلدان، وهي المعروفة الآن باسم ( أورفا ) في ولاية حلب كما يرجح ذلك بعض المؤرخين.
وفي سفر التكوين : إن الله تعالى ظهر له في سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان ( فلسطين ) ملكا له وسماه لذريته اه.
ومعنى إبراهيم : أبو الجمهور العظيم : أي أبو الأمة وهو تبشير من الله بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام.
وقد أثبت علماء الآثار أن عرب الجزيرة استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما.
ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابي الذي كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام عربي، وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية في الوادي الذي بنيت فيه مكة وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك.
وأبو إبراهيم سماه الله آزر، وفي سفر التكوين اسمه تارح، ومعناه متكاسل، وقال البخاري في تاريخه : إبراهيم بن آزر وهو في التوراة والله سماه آزر اه.
وجزم الضحاك وابن جرير أن اسمه آزر، والضلال : العدول عن الطريق الموصل على الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي والمعنوي.
الإيضاح :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ﴾ أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم قصص جدهم إبراهيم الذي يبجلونه ويدعون إتباع ملته حين جادل قومه وراجعهم في باطل ما كانوا يعملون، إذ قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم وعائبا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه، يا آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها ؟ فهو المستحق للعبادة دونها.
﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ أي إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك، في ضلال عن الصراط المستقيم، مبين لا شبهة فيه للهدى، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقطعونها من الخشب، أو تصنعونها من المعادن، فأنتم أرفع منها قدرا وأعز جانبا، ولم تكن آلهة بذاتها بل باتخاذكم إياها ولا يليق بالعاقل أن يعبد ما هو مساو له في الخلق، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه، ومحتاج إلى الغنى القادر، ولا يقدر على نفع ولا ضر، ولا إعطاء ولا منع.
والتعبير بالضلال البين بيان لما حدث منهم بما تدل عليه اللغة كقوله تعالى لخاتم أنبيائه :﴿ ووجد ضالا فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] وقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الذي يسلكه : إن الطريق من هنا حائد أو ضال عنه.
وقد دلت آثار الكشف الحديث في العراق على صدق ما عرف في التاريخ من عبادة أولئك القوم للأصنام الكثيرة حتى كان لكل منهم صنم للعبادة خاص به، سواء في ذلك الملوك والسوقة، وكانوا يعبدون الفلك والنيرات من الكواكب عامة والدراري السبع خاصة.
الإيضاح :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه، وهو أنهم كانوا في ضلال مبين في عبادتهم للأصنام والأوثان.
كذلك أريناه مرة بعد مرة ملكوت السماوات والأرض. أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع. فأريناه تلك الكواكب التي تدور في أفلاكها على وضع لا تعدوه، وأريناه الأرض وما في طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان في معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه، وجلينا له بواطن أمورها وظواهرها، وهذه إلى وجوه الحجة فيها مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شيء.
﴿ وليكون من الموقنين ﴾ أي نريه ذلك ليعرف سننا في خلقنا، وحكمنا في تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين عين اليقين.
ثم فصل سبحانه ما أجمل من رؤية ملكوت السماوات والأرض فقال :﴿ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ﴾. الإيضاح :﴿ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ﴾ أي إنه تعالى لما بدأ يريه ملكوت السماوات والأرض، كان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من عالم الأرض نظر في ملكوت السماوات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه، وهو : كوكب المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والرومان، وكان قوم إبراهيم أئمتهم في هذه العبادة وهم لهم مقتدون فلما رآه. ﴿ قال ربي ﴾ أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أولا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كر عليه بالنقض بانيا دليله على الحسن والعقل.
﴿ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ﴾ أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغي أن يكون إلا للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
والباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] وقد جاء في الحديث في وصف الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ".
والخلاصة : إن في هذا تعريضا بجهل قومه في عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنه ولا يدري شيئا من عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه :﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾ [ مريم : ٤٢ ].
وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافي الربوبية.
الإيضاح :﴿ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ﴾ أي فلما رأى القمر طالعا من رواء الأفق أول طلوعه قال هذا ربي على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما علمت فيما سلف.
والمتبادر من سياق الكلام : أن إبراهيم رأى الكوكب في ليلة ورأى القمر في الليلة التالية.
﴿ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ أي فلما أفل القمر كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرا وأسطع نورا وأقوى منه ضياء قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي ويوفقني لإصابة الحق في توحيده لأكونن من القوم الضالين الذين أخطؤوا الحق في ذلك فلم يصيبوا الهدى وعبدوا غير الله واتبعوا أهوائهم ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه.
وفي هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي، وقد ترقى في هذا التعريض، لأن الخصوم قامت عليهم الحجة بالاستدلال الأول فأنسوا بالقدح في معتقدهم،
﴿ هذا أكبر ﴾ أي من الكواكب والقمر، وفي هذا مبالغة في المجاراة لهم وتمهيد لإقامة الحجة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي إلى الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه.
والخلاصة : أن هذا الطالع أكبر من الكواكب والقمر قدرا وأعظم ضياء ونورا فهو أجدر منهما بالربوبية.
﴿ فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون ﴾ أي فلما أفلت كما أفل غيرها واحتجب ضوء المشرق وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر صرّح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم متبرئا من شرك قومه وتنحى عنه لقبحه بعد أن جاراهم عليه أولا استمالة لهم وإصغاء إلى ما يقول.
والخلاصة : إنه حاور وداور، وتلطف في القول، وأرخى لخصمه العنان، حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه وأحسن طريق، متبرئا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابا وآلهة مع الله.
وبعد أن تبرأ من شركهم قفى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص فقال :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾. الإيضاح :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ أي إني جعلت توجهي في عبادتي لمن خلق السماوات والأرض وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أيام، فهو خالق هذه الكواكب النيرات وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات.
وفي معنى الآية قوله :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ [ النساء : ١٢٥ ] وقوله ﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ [ لقمان : ٢٢ ].
وإسلام الوجه له تعالى : توجه القلب إليه، وعبر عنه به لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال أو الإعراض، والسرور أو الكآبة، إلى نحو أولئك. وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده، في طلب حاجته وإخلاص عبوديته، إذ هو المستحق للعبادة، والقادر على الأجر والثواب.
والخلاصة : إن إبراهيم تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم. ونحو الآية قوله تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ﴾ [ الممتحنة : ٤ ].
روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض : ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجه إليه، فرد عليهم بأنه حنيف : أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون اه.
يريد أنه مائل عن معبداتهم الباطلة وعن غيرها، فتوجهه وإسلامه خالص، لا يشوبه شرك ولا رياء، وما هو من المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو الصالحين أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
وظاهر ما حكاه الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : أن قومه كانوا يتخذوا الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، والإله هو المعبود وكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب : هو السيد المالك المربي المدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شيء وفي كل زمن وعلى كل حال، وملك غيره ناقص موقوت فهو المعبود بحق، والعبادة : هي التوجه بالدعاء والتعظيم القولي أو العملي إلى ذي السلطان الأعلى خالق الخلق والموجد له و المتصرف فيه.
والأصل في اختراع عبادة غير الله من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أمران :
( ١ ) إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات.
( ٢ ) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو بالفعل لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤله.
وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات : التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكر بها، وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة، ومن ثم كانوا يقولون في طوافهم بالبيت الحرام : لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وكان قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ولا تقدر على نفعهم وضرهم، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتي في حججهم في سورة الشعراء، ومن ثم اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابا مدبرين، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي في الأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس، والقمر يدبر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم، ويعتقدون أن ( مرداخ ) وهو المشتري شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن ( رنكال ) وهو المريخ رب الصيد وسلطان الحرب، وأن ( عشتار ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسرور والسعادة وتمثل بصورة امرأة عارية، وأن ( نيو ) وهو عطارد رب العلم والحكمة.
وجاء إبراهيم بحجته البالغة، فحصر العبادة في فاطر السماوات والأرض وحده دون غيره من الوسائل فقال في تماثيلهم :﴿ بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ﴾ [ الأنبياء : ٥٦ ].
تفسير المفردات : المحاجة : المجادلة والمبالغة في إقامة الحجة، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد، وتارة على ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى حجة دامغة يثبت بها الحق، وإلى حجة داحضة يموه بها الباطل، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهة.
الإيضاح :﴿ وحاجه قومه ﴾ أي وجادله قومه في أمر التوحيد، فهو حين أبان لهم بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب، وأثبت لهم وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده، حاجوه ببيان أوهامهم في شركهم، إذ قالوا إن اتخاذ الآلهة لا ينافي الإيمان بالله الفطر للسماوات والأرض، لأنهم شفعاء عنده، ولما لم يجد ذلك معه خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا : إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم، وليس للمقلد أن يحتج ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، وكثير ما يضطرب المقلد لسماع الحجة، إذ يومض في قلبه نورها ثم يعود إلى سابق وهمه خائفا مما لا يخيف، راجيا ما لا يرجى، كما يشاهد لدى زائري قبور الصالحين والأولياء الذين يتوهمون أن هذه القبور تدفع عن زائريها الضر وتكشف عنه السوء وتدرّ عليه الرزق وتكبت العدو، إما بتصرفهم في الخلق وإما لأنهم قربان عند الرب ولا يرون شيئا من هذا ناقضا للإيمان الصحيح، وفي مثلهم يقول الله عز وجل اسمه :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ].
﴿ قال أتحاجوني في الله وقد هداني ﴾ أي أتجادلونني في شأن الله وما يجب في الإيمان به، قد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص وبما بصرني به من الحجة التي أقمتها عليكم، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم ؟
﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ أي ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون الله سوءا ينالني في نفسي، ذلك أني أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع.
﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها. فإنه يقع لا محالة كما شاء ربي، فإن شاء أن يسقط علي صنم يشجني، أو كسف من شهب الكواكب يقتلني، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته لا بمشيئة الصنم أو الكواكب ولا بقدرته ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الله الجارية إلا بما يثبت في علمه الأزلي.
ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله فقال :
﴿ وسع ربي كل شيء علما ﴾ أي أحاط بكل شيء علما، فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب.
﴿ أفلا تتذكرون ﴾ أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضري ولا على إيصال النفع إليكم، فالسلطة العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئا من النفع أو الضر فلا يكون ذلك داعيا لرفعها عن رتبة المخلوقات، وجعلها أربابا ومعبودات.
وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، ويهدي إليه الوجدان.
ومما يجب أن يتنبه له كثير من الذين ينتمون إلى ملة التوحيد : أن هذا الضرب من الشرك الذي نعاه إبراهيم على قومه لا يزال فاشيا بينهم فهم يعتقدون في بعض المخلوقات من أحياء وأموات أن لهم تصرفا غيبيا، فما يقع عقب زيارتهم لهم من زوال مكروه أو نفع يصل إلى محبوب إنما كان بدعائهم، والواقع : أن ذلك بتقدير السميع العليم، وليس لغيره في ذلك تأثير لا جلي ولا خفي.
وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده. تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخيف، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه قال :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾. الإيضاح :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندا له ينفع ويضر ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به حجة بينة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى.
والخلاصة : إن ما يدعى لصحة هذا الخوف باطل، وأنه عليه السلام لم يجد هذا الخوف وجها، فلا يخاف الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمون في وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدعى لهم.
وقوله :﴿ ما لم ينزل به عليكم سلطانا ﴾ مذكور على طريق التهكم، مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا الحجة والبرهان، والتقليد ليس بعذر ولاسيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة والله لم ينزل بما ادعيتموه سلطانا لأنه باطل فلا سلطان عليه ولا دليل.
﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن ﴾ الفريقان : فريق الموحدين الذين يعبدون الله وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر كالشمس والقمر الملائكة أي فأي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته.
ونكتة التعبير : ب﴿ أي الفريقين ﴾ دون أن يقول فأينا أحق بالأمن الإشارة إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك لا خاصة به وبهم، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد، والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله.
﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر فأخبروني بذاك وبينوه بالأدلة وفي هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحمق والجهل.
ثم بين سبحانه الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل فقال :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾. الإيضاح :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ المراد بالظلم : الذي يلبس به المرء إيمانه بالله ويخلطه به فينقص منه أو ينقصه هو الشرك في العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، فيعظم كتعظيمه ويحب كحبه، للاعتقاد أن له نفعا أو ضرا بذاته أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل المضار أو ترك المنافع عن جهل أو إهمال، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام، يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ﴿ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ] إنما هو الشرك. والمراد بالأمن : الأمن من عذاب الله الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته.
أي إن الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه وتعالى، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من الخلود في دار العذاب، وهم فيما وراء ذلك بين الخوف والرجاء.
وهذا جواب من الله به فصل بين إبراهيم ومن حاجه من قومه كما اختاره ابن جرير ونقله ابن إسحاق وابن زيد من المفسرين.
﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ أي أننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها، فالعلم درجة كمال، والحكمة درجة كمال، وقوة العارضة في الحجاج درجة كمال، والسيادة والحكم بالحق كذلك، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات، لأنها تشتمل عليها وتزيد.
والله يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقي درجته، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه، ويؤتي ذا الدرجة الوهبية ( النبوة ) ما لم يؤت غيره من أهل المناقب والآيات ﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ].
﴿ إن ربك حكيم عليم ﴾ أي إن ربك الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه، حكيم في قوله، عليهم بشؤونهم، وسيريك ذلك عيانا وفي سيرتك مع قومك كما أراكه بيانا فيما حدّث عن إبراهيم مع قومه وتأس في نفسك وقومك المكذبين بأبيك واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر.
واعلم أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعليم الحي، وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون من الحجج العقلية والدلائل النقلية إلى نحو ذلك مما هداهم إليه.
المعنى الجملي : اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه أظهر حجة الله في التوحيد، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه، ذكر هنا أنه جعله عزيزا في الدنيا، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة.
الإيضاح :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة
وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون إن معنى إسحاق : الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة.
﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي وهديناه جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد.
والمراد بذلك : أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب، إذ قد رزقه الله أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء.
﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾. الضمير في ذريته يعود إلى إبراهيم، لأن الكلام في شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من فضل، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا كما جاء في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.
وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال : إن الله تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك :
( ١ ) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وأولئك قد آتاهم الله الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا، وموسى وهارون كانا حاكمين ولم يكونا ملكين، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي في هدى الدين ؛ فأضلهم موسى وهارون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان، وقوله ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق
( ٢ ) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا.
( ٣ ) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الزهد ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعل الله لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان منهم منفردا في قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر في قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين في أنفسهم، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات الله عليهم أجمعين اه.
المعنى الجملي : اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه أظهر حجة الله في التوحيد، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه، ذكر هنا أنه جعله عزيزا في الدنيا، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة.
الإيضاح :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة
وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون إن معنى إسحاق : الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة.
﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي وهديناه جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد.
والمراد بذلك : أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب، إذ قد رزقه الله أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء.
﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾. الضمير في ذريته يعود إلى إبراهيم، لأن الكلام في شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من فضل، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا كما جاء في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.
وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال : إن الله تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك :
( ١ ) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وأولئك قد آتاهم الله الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا، وموسى وهارون كانا حاكمين ولم يكونا ملكين، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي في هدى الدين ؛ فأضلهم موسى وهارون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان، وقوله ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق
( ٢ ) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا.
( ٣ ) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الزهد ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعل الله لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان منهم منفردا في قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر في قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين في أنفسهم، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات الله عليهم أجمعين اه.
المعنى الجملي : اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه أظهر حجة الله في التوحيد، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه، ذكر هنا أنه جعله عزيزا في الدنيا، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة.
الإيضاح :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ﴾ أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة
وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون إن معنى إسحاق : الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة.
﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي وهديناه جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد.
والمراد بذلك : أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب، إذ قد رزقه الله أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء.
﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾. الضمير في ذريته يعود إلى إبراهيم، لأن الكلام في شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من فضل، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا كما جاء في سورة الحديد :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.
وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال : إن الله تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك :
( ١ ) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وأولئك قد آتاهم الله الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا، وموسى وهارون كانا حاكمين ولم يكونا ملكين، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي في هدى الدين ؛ فأضلهم موسى وهارون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان، وقوله ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق
( ٢ ) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا.
( ٣ ) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة في الزهد ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعل الله لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان منهم منفردا في قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر في قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين في أنفسهم، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات الله عليهم أجمعين اه.
الإيضاح :﴿ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ﴾ أي وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم لا كلهم، إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدى ابنه أو أبيه أو أخيه، ألا ترى إلى أبي إبراهيم وابن نوح قال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتها النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ٢٦ ].
﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ يقال اجتبى فلان فلانا لنفسه : إذا اختاره واصطفاه، واجتباء الله العبد : تخصيصه إياه بفيض إلهي يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء : أي فضلنا كلا على العالمين واخترناهم وهديناهم إلى الصراط المستقيم.
الإيضاح :﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ﴾ أي ذلك الهدى الذي هدى به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل فوفقوا به لإصابة الدين الحق به رضا ربهم وشرف الدنيا وكرامة الآخرة هو هدى الله الخاص وتوفيقه ولطفه الذي يوفق به من يشاء حتى ينيب إلى طاعته، ويخلص العمل له، ويقر بالتوحيد، ويرفض الأوثان والأصنام.
والهداية ضربان : ضرب ليس لصاحبه سعي فيه ولا هو مما ينال بالكسب وهو النبوة وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ووجدك ضالا فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ]. وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهي والتوفيق لنيل المراد.
ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد فقال :
﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ أي ولو أشرك أولئك المهديون بربهم فعبدوا معه غيره لبطل أجر أعمالهم التي يعملونها، إذ توحيد الله تعالى هو المزكي للأنفس، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسي لها والمفسد لفطرتها، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به.
الإيضاح :﴿ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ﴾ المراد بالكتاب : ما ذكر في القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود، وإنجيل عيسى، والحكم : العلم والفقه في الدين. وكل نبي آتاه الله العلم الصحيح والفقه في أمور الدين وشؤون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به سواء أنزله عليه أم أنزله على غيره واختص بعضهم بإيتائه الحكم صبيا كيحيى وعيسى أي بإعطائه ملكة الحكم الصحيح في الأمور.
وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات فلم يعطه إلا بعض الأنبياء.
أي إن أولئك الذين ذكرت أسماؤهم أوتوا الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات، وذلك مستلزم للعلم والفقه وتكون هذه العطايا الثلاث مرتبة بحسب درجات الخصوصية، فبعض النبيين أوتي الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم :﴿ رب هب لي حكما ﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه، وقال حكاية عن موسى :﴿ فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ﴾ [ الشعراء : ٢١ ] وقال عز اسمه :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ﴾ [ ص : ٢٦ ] وقال في داود وسليمان معا :﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ].
ومنهم من أوتي الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
والخلاصة : إن كل من أوتي الكتاب أوتي الحكم والنبوة، وكل من أوتي الحكم ممن ذكر كان نبيا، وما كل نبي منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل، وهذه هي مراتب الفضل بينهم صلوات الله عليهم.
﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾. أي فإن يكفر هؤلاء المشركون من أهل مكة بالكتاب والحكم والنبوة فقد وكلنا برعايتها، ووفقنا للإيمان بها وتولى نصر الداعي إليها قوما كراما ليسوا بكافرين بها، فمنهم من آمن بها ومنهم من سيؤمن عندما يدعى إليها.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :" فإن يكفر بها هؤلاء يعني أهل مكة، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعني أهل المدينة والأنصار " اه.
والذي عليه المعول أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها وكانوا بعد الهجرة في المقدمة في كل عمل وجهاد ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات، لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ومن ثم قال :﴿ ليسوا بها بكافرين ﴾ والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين.
الإيضاح :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ الهدى ضد الضلال. ويطلق شرعا على الطريق الموصل إلى الحق وهو الطريق المستقيم الذي نطلبه في صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة في السير عليه.
أي إن أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات السالفة، والذين وصفهم الله بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة هم الذين هداهم الله هداية كاملة، فبهداهم دون ما يخالفه من أعمال غيرهم، اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعة وإقامة الحجة والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد ومقلدي الآباء والأجداد وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل قال تعالى :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ [ هود : ١٢٠ ] وقال :﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ].
والخلاصة : إن الله تعالى أمره بالاقتداء بهم في الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم وقد كان مهتديا بهداهم كلهم فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم إلى ما أوتيه دونهم، ومن ثم شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم فقال :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [ القلم : ٤ ].
وكذلك فضائله الموهوبة هي فيه أظهر وأعظم، فبعثه عامة للناس أسودهم وأحمرهم وبه ختمت النبوة والرسالة، وكمال الأشياء في خواتيمها صلوات الله عليهم أجمعين.
تنبيه : ذكر بعض العلماء أن الأنبياء والمرسلين الذين ذكروا في القرآن ويجب الإيمان بهم تفصيلا خمسة وعشرون هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في هذه الآيات، والسبعة الآخرون هم آدم أبو البشر وإدريس ولوط وصالح وشعيب وخاتم الجميع محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وليس في القرآن نص قطعي صريح في رسالة آدم عليه السلام، بل مفهوم قوله :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ [ النساء : ١٦٣ ] أن نوحا أول نبي مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه، وكذلك حديث الشفاعة. عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا، فيقول لهم آدم لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي من ربه عز وجل ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى الأرض فيأتون نوحا.. " إلخ.
والخلاصة : إن الآية تدل على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام.
ويرى بعض العلماء : أن آدم كان على هدى من ربه ربي عليه أولاده وبشرهم بالثواب وأنذرهم بالعقاب، وهذه هداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلغوها أقواهم، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها، فإن طرق الهداية متعددة، وقد تكون هي هداية الفطرة.
ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم فأعرضوا عما دعوا إليه، وهذه هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها رسولا دون الأولى.
﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا ﴾ أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم : لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكركم به أجرا من مال ولا غيره من المنافع، كما أن جميع من قبلي من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى، وقد تكرر هذا الأمر له صلى الله عليه وسلم في سور متعددة كقوله :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ].
﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾ أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لكم خاصة، وفي هذا تصرح بعموم بعثته صلوات الله عليه للناس جميعا أسودهم وأحمرهم.
تفسير المفردات : قدر الشيء ومقداره : مقياسه الذي يعرف به، ويقال قدره يقدره : إذا قاسه، والقدر والقدرة والمقدار : القوة أيضا، القدر : الغنى واليسار والشرف، قراطيس : واحدها قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما.
الإيضاح :﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ أي ما عرفوه حق معرفته، فإن منكري الوحي الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع على من شاء من البشر بواسطة الملائكة أو بتكليمه إياهم بدون واسطة وهم قد أنكروا الوحي وجهلوا فضل البشر وقالوا ما أنزل الله على أحد منهم شيئا.
ومن عرف حكمة الله البالغة، ورحمته الواسعة، وعلمه المحيط بكل شيء، ونظر في آياته في الأنفس والآفاق، وعلم أنه أحسن كل شيء خلقه، وخلق الإنسان مستعدا للصعود إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله أثرا لعلومه وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية علم أن الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين، فإن إرسالهم وإنزال الوحي عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنساني في حياتيه الجسمانية والروحية فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب، ويزول الخلاف والشقاء بين الناس، ويعيشون في وفاق ووئام، علما منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم، وتحاسبهم على النقير والقطمير، في ذلك اليوم العبوس القمطرير، وتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.
ثم لقن الله رسوله الرد على منكري الوحي والرسالة من مشركي قريش، إثر بيان كون ذلك من شؤونه تعالى ومن مقتضى نظام حياة البشر وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى فقد أرسلوا إلى المدينة وفدا زعيماه النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمد وصفته، لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء، فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه فأنكروا معرفته، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجا ملزما لهم ودافعا لإنكارهم فقال :
﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ أي قل لقومك الذين لم يقدروا الله حق قدره ﴿ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ و ﴿ قالوا أبعث الله بشرا رسولا ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ] ﴿ من أنزل الكتاب الذي به موسى نورا ﴾ انقشعت به ظلمات الشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين، وهدى للناس الذين جاء لتبليغ رسالته إليهم فأخرجهم من الضلال إلى نور الحق وصاروا خلقا آخر اعتصم بالحق والعدل حتى اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به واتبعوا أهواءهم وجعلوه قراطيس يبدونها عند الحاجة، فإذا استفتي الحبر من أحبارهم في مسألة له هوى في إظهار حكم الله فيها كتب ذلك الحكم في قرطاس وأظهره للمستفتي ولخصومه ويخفون كثيرا من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى في إخفائها.
وسبب هذا : أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن في أيدي العامة نسخ منه، وهذا الإخفاء لنصوص الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس وإجلاء اليهود إلى العراق وهو ما أشار إليه تعالى بقوله :﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ [ المائدة : ١٤ ] وقد أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة وأخفوا ما هو أعظم من ذلك هو البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكتمان صفاته عن العامة وتحريفها إلى معان أخرى للخاصة، فلقن الله رسوله أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾.
﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ قال مجاهد : هذا خطاب للعرب، وفي رواية عنه للمسلمين ومآلهما واحد فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة لجميع من أظلهم الإسلام بظله.
وفي ذلك امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المسلمين بإتيانهم هذا الكتاب الكريم الذي بسط فيه أصول العقائد مؤيدة بالدلائل، وتمم به مكارم الأخلاق وأمهات الفضائل، وجعل فيه من العبادات ما يزكي النفوس ويطهرها، ومن المعاملات ما فيه المنافع للأفراد والجماعات، وأوجب فيه المساواة بين الأجناس والديانات، فلا يحابى مسلم لإسلامه، ولا يظلم كافر بكفر.
وبعد أن بين سبحانه إنكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم وترشد إلى البرهان لمكذب لدعواهم وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الذي أفحمهم وألقمهم حجرا لقنه الجواب الذي كان يجب أن يجيبوا به لو أنصفوا وذلك قوله :
﴿ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ أي قل لهم أيها الرسول : الله أنزله على موسى، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان، فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بآيات الله حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان.
وفي أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماء إلى أنهم لا ينكرونه، لما في ذلك من المكابرة وما في الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق.
وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾. الإيضاح :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾ أي وهذا القرآن كتاب عظيم القدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى، وقد باركنا فيه، فجعلناه كثير الخير، دائم البركة والمنفعة، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية، مصدقا لما تقدمه من كتب الأنبياء في الجملة، لا بكل ما يعزى إليها على وجه التفصيل. وقد ذكر فيه بعضها بأسمائها، والصحف مضافة إلى أصحابها، ونعى على بعض أهلها تحريفهم لها ونسيانهم حظا منها.
﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ أي ولتنذر به عذاب الله وبأسه أهل مكة ومن حولهم من بلاد العالم جميعا كما روي عن ابن عباس.
وجعلت حولها لأن الناس في جميع بقاع الأرض القريبة من مكة والبعيدة منها يصلون وهم متوجهون إلى البيت الحرام فيها.
قد ثبت عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى في هذه السورة : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : ١٩ ] أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته، وقوله في سورة الفرقان :﴿ تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله في سورة سبأ :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ سبأ : ٢٨ ].
﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ أي ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد إلى الله في الآخر ويصدق بالثواب والعقاب فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ويقربه سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم إذ بلغتهم دعوته، لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا في الفيافي والقفار وضلوا الطريق حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخريت العالم بخفاياها، والخبير بذرعها ومعرفة مسالكها، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته، وسلكوا سبيله، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين وأما الذين ينكرون البعث والجزاء فلا حاجة لهم إلى هدايته.
وفي هذا تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا في البعث والجزاء امتنعوا عن قبول هذا الدين، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ﴾ فيؤدونها في أوقاتها، ويقيمون أركانها وآدابها، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لأنها عماد الدين، وأسس العبادات والمقوية للإيمان، وكمال الإذعان، والمحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة، وترك جميع المحرمات، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهوتها.
تفسير المفردات : الافتراء : اختلاق الكذب، وافتراء الكذب على الله : الاختلاق عليه والحكاية عنه ما لم يقله، أو اتخاذ الأنداد والشركاء، والغمرات : واحدها غمرة، وهي الشدة، واليوم : الزمن المحدود والمراد به هنا يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء، والهون بالضم، والهوان : الذل، ومنه قوله :﴿ أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ﴾ [ النحل : ٥٩ ] والهون بالفتح : اللين والرفق، ومنه قوله :﴿ الذين يمشون على الأرض هونا ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، ورد على الذين أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر.
قفى على ذلك بوعيد من كذب على الله وادعى النبوة والرسالة، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيه من الجزاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعرّض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.
الإيضاح :﴿ ومن أظل ممن افترى على الله كذبا ﴾ أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله كالذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، أو جعل لله شريكا أو ولدا.
﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾ كمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة، والأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن، وطليحة الأسدي الذي ادعى النبوة بني أسد، ونحوهم من كل من ادعى ذلك أو يدعيه في أي زمن كان.
﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾ أي ومن ادعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله كمن قال من المشركين :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ [ الأنفال : ٣١ ] فقد أثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول : إن القرآن أساطير الأولين، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله.
ثم ذكر تعالى جده وعيده للظالمين لشدة جرمهم وعظيم ذنبه فقال :
﴿ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لكل من سمعه أو قرأه، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون سواء منهم من ذكروا في الآية أو غيرهم في غمرات الموت وفي سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه، ولا قدرة للبيان على تجلي كنهه وحقيقته.
﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال :﴿ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ [ محمد : ٢٧ ].
ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم.
﴿ أخرجوا أنفسكم ﴾ أي أخرجوا أنفسكم مما هي فيه إن استطعتم، أو أخرجوها من أبدانكم.
قال صاحب الكشاف : هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنفه عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالي عليك الساعة، ولا أريم لا أبرح مكاني حتى أنزعه من أحداقك.
ويرى بعضهم أنه لا داعي للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل، فربما تمثل الملائكة للبشر بمثل صورهم، وتخاطبهم بمثل كلامي، فهي إذا ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها.
﴿ اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾ أي تقول لهم الملائكة وقت الموت : اليوم تلقون عذاب الذل والهوان جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق كقول بعضهم ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر : إنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، وإنكار طائفة لما وصف الله به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات، واستكبار آخرين عن الاعتراف بما أنزل الله من الآيات، احتقارا لمن أكرمه الله بإظهارها على يده ولسانه.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، ورد على الذين أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر.
قفى على ذلك بوعيد من كذب على الله وادعى النبوة والرسالة، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيه من الجزاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعرّض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.
ثم ذكر سبحانه ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم الملائكة العذاب فقال :﴿ ولقد جئتمونا فردى كما خلقناكم أول مرة ﴾. الإيضاح :﴿ ولقد جئتمونا فردى كما خلقناكم أول مرة ﴾ أي ولقد جئتمونا وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان، مجردين من الخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا، ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله :﴿ ولا يكلمهم الله يوم القيامة ﴾ [ البقرة : ١٧٣ ] لأن المراد لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا.
﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾ أي إن ما كان شاغلا لكم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل، الاهتداء بما جاء ولم ينفعكم كما كنتم تتوهمون، فهم لم يغن عنكم شيئا ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة.
﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ﴾ أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة والصالحين من البشر، ولا تماثيلهم وقبورهم، وقد زعمتم في الدنيا أنهم شركاء لله تدعونهم ليشفعوا لكم عنده ويقربوكم إليه زلفى بتأثيرهم في إرادته وحملهم إياه على ما تتعلق به إرادته في الأزل.
وفي هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية وهما الفداء والشفاعة.
﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ أي لقد تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والصداقة.
﴿ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ أي وغابت عنكم شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء وأوهام الفداء، وقد علمتم بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم.
والخلاصة : إن آمالكم قد خابت في كل ما تزعمون وتتوهمون فلا فداء ولا شفاعة، ولا ما يغني عنكم من عذاب الله من شيء.
تفسير المفردات : الفلق والفرق والفتق : الشق، والحب : الحنطة وغيرها مما يكون في السنبل والأكمام، والنوى واحدها نواة : وهي ما يكون في داخل التمر والزبيب.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السماوات، وإبداعه في شؤون النبات.
الإيضاح :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ أي إن الله فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمر، وشاقه بقدرته وتقديره بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى في التراب وإرواء التراب بالماء.
وفي ذلك إيماء إلى كمال قدرته، ولطيف صنعه، وبديع حكمته.
﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو متغذ نام من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من التراب، والحب والنوى وغيرهما من البذور، ويخرج الحيوان من البيضة والنطفة.
وعلماء المواليد يزعمون أن في أصول الأحياء حياة، فكل ما ينبت من الحب والنوى فهو ذو حياة كامنة، إذ لو عقم بالصناعة لا ينبت، واصطلاحهم لا تسيغه اللغة، إذ أنها لا تجعل الحي إلا الجسم النامي المتغذي بالفعل، وهذه أقل مراتب الحياة عندهم، ويليها مراتب أخرى أعلاها مرتبة الإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وفوق كل هذه المراتب حياة الخالق التي هي مصدر كل حياة وحكمة ونظام في الكون.
﴿ ويخرج الميت من الحي ﴾ كالحب والنوى من النبات، والبيضة والنطفة من الحيوان، قال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي، وقال ابن عباس : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر. والكافر من المؤمن كما في ابن نوح.
قال الطبيب التقي عبد العزيز إسماعيل باشا طيب الله ثراه : قيل في تفسير ذلك كإنشاء الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، ولكن النطفة حيوانات حية وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حي من حي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير، والله أعلم.
والتفسير الحقيقي : هو إخراج الحي من الميت كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة ؛ فالصغير مثلا يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء ميت، ولا شك أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت وقد كتب علماء الحيوان فقالوا : إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى لحمها، وهذه أهم علامة تدل على أنها حية، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.
وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن : وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنباتات، فإن اللبن سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والله أعلم بمراده اه.
﴿ ذلكم الله فأنى تؤفكون ﴾ أي ذلكم المتصف بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شيء المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك كفلق نواة وإيجاد نخلة وسنبلة.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السماوات، وإبداعه في شؤون النبات.
الإيضاح :﴿ فالق الإصباح ﴾ فلق الصبح : هو فلق الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا، ولا يعتد به حتى تنقشع الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه حتى تزول.
﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ أي جعله يستريح فيه المتعب من العمل بالنهار ويسكن فيه، والسكون يعم سكون الجسم وسكون النفس بهدوء الخواطر والأفكار.
والليل وقت السكون، لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار، لما خص به الليل من الإظلام والنهار من الإبصار.
وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعي في الليل وتأوي إلى مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية، كما تسكن به الأعضاء سكونا نسبيا، فتقل نبضات القلب. ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين، ولاسيما أول النوم ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء.
﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾ أي والشمس والقمر يجريان بحساب وعدد، لبلوغ أمدها ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها، فطلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك يجري بحساب كما قال :﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ [ الرحمن : ٥ ] وقال :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] وقد جمع الله في هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع فيها قبلها ثلاث آيات أرضية :
فالآية الأولى : فلق الصبح والتذكير به للتأمل في صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود، ومضيّهم إلى ما يسروا له من الأعمال، وما لله في ذلك من حكم وأسرار.
والآية الثانية : جعل الليل سكنا، وذلك نعمة من الله ليستريح الجسم، وتسكن النفس، وتهدأ من تعب العمل بالنهار، قال تعالى ﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾ [ القصص : ٧٣ ].
والآية الثالثة : جعل الشمس والقمر حسبانا، وذلك فضل من الله عظيم، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم.
وعلماء الفلك متفقون على أن للأرض حركتين، حركة تتم في أربع وعشرين ساعة وعليها مدار حساب الأيام، وحركة تتم في سنة، وبها يكون اختلاف الفصول، وعليها مدار حساب السنة الشمسية.
﴿ ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ أي هذا الفعل العالي الشأن، البعيد المدى في الإبداع والإتقان هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه، بما اقتضاه واسع علمه، وعظيم قدرته وحكمته، ليس فيه جزاف ولا اختلاف :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ [ القمر : ٤٩ ].
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات التكوين العلوية وقرنها بذكر فائدتها فقال :﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾. الإيضاح :﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾ المراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيرات، لأنه الظاهر من سياق الكلام، ولأنه المعهود في الاهتداء به.
وكانت العرب أيام بدواتها تؤقت بطلوع النجوم فتحفظ أوقات السمة بالأنواء وهي نجوم منازل القمر في مطالعها ومغاربها.
وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين :
( ١ ) معرفة الوقت من الليل أو من السنة.
( ٢ ) معرفة المسالك والطرق والجهات.
والمراد بالظلمات : ظلمة الليل وظلمة الأرض أو الماء وظلمة الخطأ والضلال.
والمعنى : والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة في البر والبحر إذا ضللتم الطريق أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا، فبها تستدلون على الطرق فتسلكونها وتنجون من الخطأ والضلال في البر والبحر.
والخلاصة : إنه تعالى ذكرنا ببعض فضله في تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة بعد أن ذكرنا ببعض فضله في الشمس والقمر اللذين يريان كبيرين في أعين الناس.
وقد جدت في هذا العصر المراصد الفلكية، واستحدثت آلات لتقريب الأبعاد وتحليل النور، فعلم الشيء الكثير من سرعة الكواكب وأبعادها، ومعرفة مساحتها وكثافتها والمواد المؤلفة منها، إلى نحو ذلك مما كان مجهولا من قبل، فثبت لعلماء الفلك أن النجوم تعد بالملايين، لكنهم لم يتمكنوا إلى الآن إلا من معرفة أبعاد بعض مئات منها، لأن باقيها أبعد من أن يعرف اختلاف في مواقعه.
ولما في عالم السماوات من بديع الصنع، وبديع النظام ختم سبحانه الآية بقوله :
﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾ والآيات هنا إما آيات التنزيل، وإما آيات التكوين، فإن كانت الأولى فالمعنى : إن هذه الآية وما قبلها وكل ما في معناها من الآيات المنزلة في الحث على النظر في ملكوت السماوات تبين وتفصل حكم الله تعالى وعجائب صنعه، فيزداد الإنسان بهذا البيان بحثا وعلما.
وإن كانت الثانية فالمعنى : إن الآيات الدالة على علم الله تعالى وقدرته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر في النجوم إلا أهل العلم بالاعتبار ولا يكتفون بأن يقولوا بعد النظر والحساب : إن هذا لعجب عجاب.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السماوات، وإبداعه في شؤون النبات.
الإيضاح : وبعد أن ذكرنا سبحانه ببعض آياته في الأرض والسماء ذكرنا بآياته في أنفسنا فقال :
﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ﴾ الإنشاء : إيجاد الشيء وتربيته، أو إحداثه بالتدريج، والنفس تطلق على الروح وعلى الشخص المركب من روح وبدن.
والمعنى : إنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة هي الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد، وهو آدم عليه السلام.
وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وفي التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر، وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى التآلف، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس.
﴿ فمستقر ومستودع ﴾ أي ولكم موضع استقرار في الأصلاب، وموضع استيداع في الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها، لأن النطفة تتوالد في الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع كما قال.
وإنما أمهات الناس أوعية | مستودعات وللآباء أبناء |
وعبر هنا بالفقه وفيما قبلها بالعلم، لأن استخراج الحكم من خلق البشر بتوقف على غوص في أعماق الآيات وفطنه في استخراج دقائق الحكم، أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر والتأمل في العبرة منها، وكذلك جميع المظاهر الفلكية.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وبيان سننه في خلقه وحكمه في الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات في السماوات، وإبداعه في شؤون النبات.
ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين وهي إنزال الماء من السماء وجعله سببا للنبات فقال :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾. الإيضاح :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾ أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء كل صنف من أصناف النبات المختلف في شكله وخواصه وآثاره اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان كما قال :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾ [ الرعد : ٤ ].
فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب النبات آنا بعد آن حبا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل.
وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه.
ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر فقال :
﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ أي ونخرج من طلع النخل قنوانا دانية القطوف سهلة التناول.
﴿ وجنات من أعناب ﴾ أي ونخرج من ذلك الخضر جنات من أعناب.
﴿ والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ﴾ أي وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبها في بعض الصفات، وغير مشتبه في بعض آخر فإنها أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر، وتختلف في لون الثمر وطعمه، فمنها الحلو والحامض والمز، وكل ذلك دال على قدرة الصانع وحكمة المبدع جل شأنه.
﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ﴾ أي انظروا نظرة استبصار واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا أخرج ثمره، وكيف يخرج ضئيلا لا يكاد ينتفع به، وإلى ينعه ونضجه، وكيف إنه يصير ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة، ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين، يستبن لكم لطف الله وتدبيره، وحكمته في تقديره، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده.
﴿ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ﴾ أي إن في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته، لمن هو مؤمن بالفعل، ولمن هو مستعد للإيمان.
أما غيرهم فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهي النظام، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات، ولا يبحثون عن أن انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دال على كمال الحكمة، وعلى أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة.
تفسير المفردات : في اللسان : خلق الكلمة واختلقها، وخرقها واخترقها : إذا ابتدعها كذبا، وقال الراغب : الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد قال تعالى :﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ [ الكهف : ٧١ ] والخلق : فعل الشيء بتدبير ورفق، والبدع ( بالكسر ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عالم السماوات والأرض ـ ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.
الإيضاح :﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء من الجن، وفي المراد من الجن هنا أقوال، فقال قتادة : إنهم الملائكة فقد عبدوهم ؛ وقال الحسن : إنهم الشياطين فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي، وقيل إبليس فقد عبده أقوام وسموه ربا، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور، وروي عن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت في الزنادقة الذين يقولون إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر، ورجع الرازي هذا الرأي قال : إن المراد من الزنادقة المجوس الذين قالوا إن كل خير في العالم فهو من يزدان، وكل شر فهو من أهرمن أي إبليس.
﴿ وخلقهم ﴾ أي والحال أنه تعالى خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض في صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقا، ولا يصل به لأن يكون إلها وربا.
﴿ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ﴾ أي واختلفوا له بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم بذلك ؛ فقد سمى مشركو العرب الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقوله بغير علم : أي من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه عن خطأ وصواب، بل رميا بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء بمقام الألوهية.
﴿ سبحانه وتعالى عما يصفون ﴾ أي تنزه ربنا وتعالى عن كل نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عالم السماوات والأرض ـ ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.
الإيضاح :﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ أي خالقهما ومبدعهما، فهو الخالق المخترع لا على مثال سابق.
﴿ أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة ﴾ أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها، والولد لا يوجد إلا كذلك، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرض صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها الأولى، وصدور تسبب كالتوالد ونحوه بحسب سننه في الخلق.
﴿ وخلق كل شيء ﴾ أي خلقه خلقا ولم يلده ولادة كما زعمتم، فما افتريتم واخترعتم له من الولد، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه وجاءت هذه الجملة مقررة لإنكار نفي الولد، ودليلا بعد دليل على ذلك.
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي إن علمه بكل شيء ذاتي له، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء، ولو كان له ولد لكان هو أعلم به، ولهدى العقول إليه بآيات الوحي ودلائل العلم، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلي.
والخلاصة : إنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه :
( ١ ) إن من مبدعاته السماوات والأرضين، وهي مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها.
( ٢ ) إن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة لشيء.
( ٣ ) إن الولد كفء للوالد، والله لا كفء له، لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه، ولأن علمه ذاتي ولا كذلك غيره.
الإيضاح :﴿ ذلكم الله ربكم لا إله هو خالق كل شيء فاعبدوه ﴾ الخطاب موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة، والإشارة إلى الله المنزه عن كل ما يصفونه به، المتصف بما وصف به نفسه من الإبداع، أي ذلكم الذي شأنه ما ذكر هو الله ربكم لا من خرقوا له من الأولاد، وأشركوا به من الأنداد، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، لا إله إلا هو خالق كل شيء، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه فكيف يعبده من مثله ويتخذه إلها.
﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متول جميع الأمور، يدبر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرا وعلانية.
وقد يكون المعنى : إنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.
والخلاصة : إنه لا حافظ إلا الله، ولا قاضي للحاجات إلا هو، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه، ولا نلجأ في المهمات إلا إليه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عالم السماوات والأرض ـ ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.
الإيضاح :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ أي لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف كنهه عز وجل، ونحو الآية قوله :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] ونفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم وكذلك نفي إدراك البصر للشيء والإحاطة به لا يستلزم نفي رؤيته مطلقا.
وبهذا يعلم : أنه لا تنافي بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب ) فالمؤمنين يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه :﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾ [ المصطفين : ١٥ ].
﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ أي إنه تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة فلا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شيء.
وقد عرف العلماء التشريح تركيب العين وأجزاءها ووظيفة كل منها في ارتسام المرئيات فيها، كما عرفوا كثيرا من سنن الله في النور ووظيفته في رسم صور الأشياء في العينين، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى معرفة كنه الرؤية، ولا كنه الإبصار ولا حقيقة النور.
قال صاحب اللسان : قال أبو إسحاق في الآية : أعلم الله أنه يدرك الأبصار، وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فاعلم أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به وهو اللطيف الخبير ؟
فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغير مدفوع، وليس في الآية دليل على دفعها، لأن معنى هذه الآية إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته، وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث اه.
﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ أي وهو اللطيف بذاته بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته، الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها، فلا يعزب عن إدراكه شيء.
والخلاصة : إنه يلطف عن أن تدركه الأبصار، ولكنه خبير بكل لطيف وهو يدرك الأبصار. ولا تدركه الأبصار.
تفسير المفردات : البصائر : واحدها بصيرة، ولها عدة معان : منها عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة باليقين، والعبرة، والشاهد المثبت للأمر، والحجة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، والمراد بها هنا الآيات الواردة في هذه السورة أو القرآن بجملته.
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه ـ عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة، وتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم أوامر ربه، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد، وما يقوله المشركون في المبلغ لها، وأعلم سبحانه سنته فيهم في أمثالهم، وما يجب على الرسول معهم وما ينفى عنه.
الإيضاح :﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم ﴾ أي قد جاءكم في هذه الآيات البينات بصائر من الحجج الكونية البراهين العقلية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم، وأكمل مشاعركم وقواكم، كما ربى أرواحكم، وهذب نفوسكم، ومحّص بها عقولكم، حتى تصل على منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال.
﴿ فمن أبصر فلنفسه ﴾ أي فمن أبصر بها الحق وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فلنفسه قدم الخير وبلغ السعادة.
﴿ ومن عمي فعليها ﴾ أي ومن عمى عن الحق وأعرض عن سبيله، وأصر على ضلاله، تقليدا لآبائه وأجداده، فعلى نفسه جنى.
ونحو الآية قوله :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ [ الجاثية : ١٥ ] وقوله :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وقوله :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ [ الإسراء : ٧ ].
﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أي وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والله هو الحفيظ عليكم، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علي إلا البلاغ.
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه ـ عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة، وتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم أوامر ربه، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد، وما يقوله المشركون في المبلغ لها، وأعلم سبحانه سنته فيهم في أمثالهم، وما يجب على الرسول معهم وما ينفى عنه.
الإيضاح :﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ أي مثل ذلك التصريف البديع نصرّف في سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان وتهذيب النفوس والأخلاق، فنحولها من حال إلى حال، مراعين في ذلك تفاوت العقول والأفهام واختلاف استعداد الأفراد والجماعات.
﴿ وليقولوا درست ﴾ أي إن لتصريف الآيات فوائد شتى :( ١ ) أن يهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام. ( ٢ ) أن يقول الجاحدون المعاندون من المشركين : قد درست من قبل وتعلمت، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت، وقد قالوا هذا إفكا وزورا، فزعموا أنه تعلم من غلام رومي كان يصنع السيف بمكة وكان يختلف إليه كثيرا، وذلك ما عناه سبحانه بقوله :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ [ النحل : ١٠٣ ].
﴿ ولنبينه لقوم يعلمون ﴾ ( ٣ ) وأن نبين هذا القرآن المشتمل على تصريف الآيات الذي يقول فيه الجاحدون إنه أثر درس واجتهاد لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد.
والخلاصة : إن الذين يقولون للرسول إنك درست : هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله على ضروب مختلفة، ولم يفقهوا سرها، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا.
وأما الذين يعلمون مدلولاتها، وحسن عاقبة الاهتداء بها، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان.
وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان، فريق فسدت فطرتهم ولم يبق لديهم استعداد لهديه، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار، وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه بالبيان له والعمل به فقال :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ﴾. الإيضاح :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ﴾ أي اتبع ما أوحي إليك لتربي نفسك وتكون إماما لأبناء جنسك، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل، بما يعلمه، ويأتمر بما يأمر، ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحي هو المعبود الواحد الذي لا شريك له المجازي على الأعمال التي لا تقبل شفاعة ولا فداء.
ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بألا يبالي بإصرارهم على الشرك ولا بمثل قولهم : درست، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال ولا بالانكباب على خرافات الأعمال،
ثم هوّن عليه أمر الإعراض عنهم فقال :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾. الإيضاح :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ أي ولو شاء الله ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والطاعة والفسق، ومضت سنته بأن يكونوا مختارين في أعمالهم وفي كسبهم لعلومهم وأعمالهم، وجعل منها الخير والشر، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرا.
﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها.
والخلاصة : إنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي بل أنت بشير ونذير، والله هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم.
المعنى الجملي : بعد أن أمر الله رسوله سبحانه رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم، وبين أن من مقتضى سنته في البشر ألا يتفقوا على دين لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم في درجات الفهم والفكر، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فينبغي ألا يضيقوا ذرعا بما يرون وما يشاهدون من الازدراء بهم والطعن في دينهم، فإن الله هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان ـ نهى المؤمنين هنا عن سبب آلهة المشركين، لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا، وذكروا الله بما لا ينبغي من القول، ثم طلب بعضهم للآيات، لأن القرآن ليس من جنس المعجزات، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به، وحلفوا على ذلك وأكدوه بكل يمين محرجة.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ الآية، قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال :" لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخلن على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمروا بن العاص الأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما يريدون ؟ " قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي ؟ قال :" قولوا لا إله إلا الله " فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال :" يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بها فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾.
الإيضاح :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبودات المشركين التي يدعونها من دون الله لجلب نفع لهم أو دفع ضر عنهم بوساطتها وشفاعتها عند الله، إذ نتج عن ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوز منهم للحد في السباب والمشاتمة ليغيظوا المؤمنين. وقوله بغير علم : أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر به.
وفي ذلك إيماء إلى أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر، وإلى أنه لا يجوز أن يعمل مع الكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا منه، ألا ترى إلى قوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ]
﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون الله زينا لكل أمة عملهم من كفر وإيمان وشر وخير.
والخلاصة : إن سنننا في أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه، سواء كان مما عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم، وسواء أكان ذلك عن تقليد وجهل أم عن بينة وعلم.
ومن هذا يعلم : أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه، لا أن الله خلق في قلوب بعض الأمم للكفر والشر، وفي قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله، وكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملا لا فائدة فيه.
والخلاصة : إن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن الله جل شأنه سواء في ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة.
﴿ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ﴾ أي ثم إلى ربهم ومالك أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث، لا إلى غيره إذ لا رب سواه، فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر ويجزيهم عليه ما يستحقون وهو بهم عليم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ الآية، قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال :" لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخلن على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمروا بن العاص الأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما يريدون ؟ " قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي ؟ قال :" قولوا لا إله إلا الله " فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال :" يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بها فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾.
الإيضاح :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ﴾ أي وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الأيمان وأشدها مبالغة، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية ليؤمنن بأنها من عند الله وأنك رسول من لدنه.
وفي هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد، إذ هم لم يعدوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات ومن ثم اقترحوا غيرها، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم في طلب المعجزات، وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات.
﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾ أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله وحده، فهو القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته وقضائه كما قال :﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] فلا يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب.
روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ ) فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن جميعا، فسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعا في إيمانهم، فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت الآية.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد : تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ ) قالوا تحول لنا الصفا ذهبا، فقال :" فإن فعلت تصدقوني " قالوا نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال :( إن شئت أصبح الصفا ذهبا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم أي عذاب الاستئصال وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم )، فقال صلى الله عليه وسلم :( أتركهم حتى يتوب تائبهم )، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله :﴿ ولكن أكثرهم يجهلون ﴾.
﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ الخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته في ذلك.
والمعنى : إنه ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ الآية، قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال :" لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخلن على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمروا بن العاص الأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما يريدون ؟ " قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي ؟ قال :" قولوا لا إله إلا الله " فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال :" يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بها فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾.
الإيضاح :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ تقليب الأفئدة والأبصار : الطبع والختم عليها أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يدركونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكمال نبوها عنه وتمام إعراضهم عن درك حقيقته وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات.
ونظير الآية قوله :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون١٤ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ [ الحجر : ١٤ ١٥ ].
ومن لم يقنعه ما جاء به القرآن من الدلائل العقلية والبراهين العلمية لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية، فله أن يدعي أن عينيه قد خدعتا أو أصيبتا بآفة، فهما لا تريان إلا صورا خيالية أو سحرا مفترى، وهذه سنة الأولين في مكابرة آيات الرسل.
﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ لعمه : التردد في الأمر من الحيرة فيه، والطغيان : تجاوز الحد أي إنا ندعهم يتجاوزون الحد في الكفر والعصيان، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، محدثين أنفسهم أهذا هو الحق المبين أم السحر الذي يخدع عيون الناظرين، وهل الأرجح إتباع الحق بعدما تبين، أو المكابرة والجدل كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم.
وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكيمة في ربط المسببات بأسبابها، فرسوخهم في الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان هو سبب تقليب القلوب والأبصار أي الختم عليها، فلا تفقه ولا تبصر.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم ثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق، واحفظنا من العمه والطغيان في كل أمر، واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الغر الميامين وأصحابه المطهرين.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة في الليلة الثالثة من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.
تفسير المفردات : قبلا : مواجهة ومعاينة، وقيل إن واحده قبيل كرغف ورغيف : أي قبيلا قبيلا وصنفا صنفا أي كل صنف منه على حدة، قال ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأفاد أن سنته فيهم وفي أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين.
ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي في قوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأيأس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ولو جاءهم بكل آية وأتى بهم بكل دليل.
الإيضاح :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ﴾ فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة.
﴿ وكلمهم الموتى ﴾ بأن نحييهم لهم ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة.
﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ﴾ أي وجمعنا كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى وأرسلناه إليهم معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على صحة دعواك.
﴿ ما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي ما كان شأنهم، ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا ذلك لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر هداية واعتبار، وإنما ينظرون إليها نظر العدو إلى من يعاديه، ولا نظر الولي إلى من يعينه ويواليه، فيخيل إليهم الوهم أن ما جئتهم به لا يهديهم إلى سواء السبيل، وإنما تسحر به عقولهم وتسلب به ألبابهم.
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ أي لكن إن شاء الله إيمان أحد منهم آمن والمراد أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها من اقتراح الآيات فهم لا يؤمنون لكن إن شاء الله أن يزيلها فعل.
والخلاصة : إن فقد هؤلاء للاستعداد للإيمان، جار بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجري في الوجود، ولو شاء غير ذلك لكان، ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسنته وتبديل لطباع الإنسان.
﴿ ولكن أكثرهم يجهلون ﴾ أي ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات، لجهلهم سنة الله تعالى في عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات، لذلك يتمني بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوا، ظنا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم، مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان ولا تغير طباع البشر في اختيار ما يترجح لدى كل منهم بحسب ما يؤديه إليه فكره وعقله : ولو شاء الله لخلق الإيمان في قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل كما أنه لو شاء جعل الآيات مغيرة لطبائع البشر وملزمة لهم أن يؤمنوا فيكون الإيمان إلجاء وقسرا، لا اختيار وكسبا، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ].
قال ابن عباس : كان المستهزئون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي بن وائل السهمي، والأسود بن يغوت الزهري، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة وقالوا : أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم : أحق ما تقول أم باطل ؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا فنزلت الآية.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأفاد أن سنته فيهم وفي أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين.
ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي في قوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأيأس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ولو جاءهم بكل آية وأتى بهم بكل دليل.
ثم أراد بعدئذ تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن سنته في الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس فقال :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ﴾. الإيضاح :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ﴾ أي كما جعلنا هؤلاء ومن لف لفهم أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداء هم شياطين الإنس والجن قال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين وأيده ابن جرير بما رواه أبو ذر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له عقب صلاة :" يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟ " قال : قلت يا رسول الله وهل للإنس شياطين ؟ قال :" نعم " وجاء في سورة البقرة ﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ﴾ [ البقرة : ١٤ ] الآية.
ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء : أن سنة الله فد جرت بأن يكون الشرير الذي لا ينقاد للحق كبرا عنادا أو جمودا على ما تعود عدوا للداعي إليه من الأنبياء وورثتهم وناشري دعوتهم، وهكذا الحال في كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر، في الأمور الدينية أو الاجتماعية، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد وتكون العاقبة انتصار الحق، وبقاء الأمثل الأصلح كما قال تعالى :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ] فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدون، وليس العمل للآخرة إلا كذلك، ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ].
ثم بين بعدئذ أن من أثر عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها فقال :
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ أي يلقى بعضهم إلى بعض القول المموه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغروا غيرهم ويخدعوه ويميلوه إلى ما يريدون.
وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للإنسان الأول وزوجه الكريم آدم وحواء، فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها كما قال :﴿ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ].
وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية، ويمنونهم بعفو الله ورحمته، وشفاعة أنبيائه وأولياء حتى ليترنم أحدهم بقوله :
تكثر ما استطعت من الخطايا | فإنك واجد ربّا غفورا |
﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ من الكذب ويخترعون من الإفك، صرفا للناس عن سبيل الحق، وسعيا في إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد، وامض لشأنك كما أمرت فعليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء، وسترى سنتنا فيهم وفي أمثالهم، وقد أراه عاقبة أمرهم فأهلك المستهزئين بالقرآن ونصره على أعدائه المشركين ﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ [ الحج : ٤٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن مقترحي الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وبما تدل عليه من صدق الرسول في دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأفاد أن سنته فيهم وفي أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين.
ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي في قوله :" وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فأيأس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، ولو جاءهم بكل آية وأتى بهم بكل دليل.
الإيضاح :﴿ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي يوحى بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموه من القول به ليغروا المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم، ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، لأنه الموافق لأهوائهم، إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل، ومموهات الأباطيل.
أما الذي ينظرون إلى عواقب الأمور فيعلمون بطلانها، فلا تغرنهم تلك الزخارف ولا تعجبهم تلك الأباطيل.
﴿ وليرضوه وليقترفوا نما هم مقترفون ﴾ أي وليترتب على ذلك أيضا أن يرضوه لأنفسهم بلا بحث ولا تمحيص فيه، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون بغرورهم به ورضاهم عنه.
تفسير المفردات : الحكم : من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه مفصلا : مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام، إلى غير ذلك من الأحكام الممترين : المترددين الشاكين.
المعنى الجملي : بعد أن بين في سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم ـ كاذبون في أيمانهم وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأن دأبهم صرف الناس عن إتباع الحق وتزيين الباطل، فيغتر بهم من لا يؤمن بالآخرة ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.
ذكر هنا الآية الكبرى، وهي القرآن فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا، هو الذي يجب الرجوع إليه في أمر الرسالة وإتباع حكمه فيها، دون أولئك الضالين المبطلين، من شياطين الإنس والجن.
الإيضاح :﴿ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ﴾ أي ليس لي أن أتعدى حكم الله ولا أن أتجاوزه، لأنه لا حكم أعدل من حكمه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، فيه كل ما يصح به الحكم، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند الله، لا من عنده، كما جاء في قوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ﴾ [ يونس : ١٦ ] أي جاوزت الأربعين ولم يصدر عني مثله في علومه ولا في أخباره بالغيب ولا في فصاحته وبلاغته.
والخلاصة : إنكم تتحكمون في طلب المعجزات، لأن الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قد حصل بوجهين :
( ١ ) إنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة، بأسلوب عجز الخلق عن معارضته، فيكون هذا دليلا على أن الله قد حكم بنبوته.
( ٢ ) ما ذكر بعد، من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وأن القرآن كتاب حق من عند الله.
ثم ذكر ما يؤكد ما سبق فقال :
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ﴾ أي إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا وكذبوا به، فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.
ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحي الذي نزل على أنبيائهم وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله إلى أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم في عصر التنزيل كما قال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ].
وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب فآمنوا، وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا فباء بالخسران المبين.
﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ الخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره على طريق التعريض كقوله :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ [ يونس : ١٠٥ ] وتقدم الكلام على مثل هذا وإما له والمراد النهي عن الشك في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله :﴿ ولو ترى إذ المجرمون ﴾ [ السجدة : ١٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين في سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم ـ كاذبون في أيمانهم وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأن دأبهم صرف الناس عن إتباع الحق وتزيين الباطل، فيغتر بهم من لا يؤمن بالآخرة ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.
ذكر هنا الآية الكبرى، وهي القرآن فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا، هو الذي يجب الرجوع إليه في أمر الرسالة وإتباع حكمه فيها، دون أولئك الضالين المبطلين، من شياطين الإنس والجن.
الإيضاح :﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ﴾ قد تطلق الكلمة على الجملة والطائفة من القول في غرض واحد، فإذا كتب أحد أو خطب في موضوع ما قيل كتب أو قال كلمة، وكانوا يسمون القصيدة كلمة، وقالوا كلمة التوحيد يعنون : لا إله إلا الله، والمراد بها هنا ما أريد بها في قوله :﴿ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٩ ].
والمعنى : وتمت كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك، كما تمت في الرسل وأعدائهم من قبلك ما قال :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين١٧١ إنهم لهم المنصورون١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١ ١٧٣ ].
وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا، وقد يزدادون على ذلك فضلا من الله ورحمة، والمراد بالخبر هنا : لازمه وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه، وإيئاس للطامعين من المسلمين في إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.
وخلاصة المعنى : كما أن سنتي قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن، تمت كلمتي بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين.
﴿ لا مبدل لكلماته ﴾ أي إن كلمة الله في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها، لأن كلمات الله لا مبدل لها، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها وتمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما، أو يحول دون وقوعهما.
والخلاصة : إنه لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه، وكونه على ما أخبر جل ثناؤه.
﴿ وهو السميع العليم ﴾ أي إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة عنهم، عليم بما في قلوبهم من المقاصد والنيات، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات.
المعنى الجملي : بعد أن أجاب سبحانه عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ـ ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال، لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله، فلا ينبغي الركون إليهم والعمل بآرائهم.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
الإيضاح :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلونك عن سبيل الله ﴾ أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله، وأودعه كلماته المنزلة عليك، يضلونك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة.
ثم أكد ما سبق بقوله :
﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ﴾ الخرص : القول بالظن قول من لا يستيقن، أي إن هؤلاء لا يتبعون في عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم وما هم إلا يخرصون في ترجيح بعض منها على بعض، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل الميتة والبحائر ونحو ذلك.
وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي في الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، وإتباعهم للخرص والظن ؛ فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.
وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمي، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شؤون الأمم المجاورة لبلاد العرب.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
ثم أعقبه بتأكيد آخر زيادة في التحذير فقال :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾.
الإيضاح :﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ أي إن ربك الذي رباك وعلمك بما أنزل إليك، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق هو أعلم منك ومن سائر عباده، بمن يضل عن سبيله القويم، وبمن هو من المهتدين، السالكين صراطه المستقيم، ففوض أمرهم إلى خالقهم فهو العليم بالضال والمهتدي، ويجازي كلا بما يليق بعمله.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
وبعد أن أبان لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلون من أطاعهم، لأنهم ضالون خراصون، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين من قومهم ومن غيرهم في مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام، فقال :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾. الإيضاح :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾ أي إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين، وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.
وقد كان مشركو العرب وغيرهم من أرباب الملل والنحل يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم عند ذبحها، وهذا شرك بالله، لأنه عبادة يقصد بها غيره، سواء سموه إلها أو معبودا أو لم يسموه، وقد وقع كثير من المسلمين في مثل ما كان عليه أولئك الضالون المشركون من مشركي العرب وسواهم فذبحوا باسم بعض الأولياء والصالحين، وسيبوا لهم السوائب، فتراهم ينذرون العجول، والخراف للسيد البدوي وغيره من أرباب الأضرحة والقبور ممن يستشفعون بهم إلى ربهم في زعمهم، وهذا شرك صريح.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
الإيضاح :﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ العرب تقول : ما لك ألا تفعل كذا ؟ على معنى، وأي شيء يمنعك من ذلك ؟ والمراد هنا وأي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟
﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾ أي وقد فصل لكم ما حرمه عليكم وبينه بما سيأتي في قوله :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] ومعنى " أهل لغير الله به " : أي ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء والصالحين الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم.
﴿ إلا ما اضطررتم إليه ﴾ أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم فحينئذ يزول التحريم. والقاعدة الشرعية ( الضرورات تبيح المحظورات ) والقاعدة الأخرى ( الضرورة تقدر بقدرها ) فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتقى به الهلاك أكثر منه.
﴿ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ﴾ أي وإن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الفاسدة من غير علم منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان على ما فيه يجادلون، اعتداء لأمر الله ونهيه وطاعة للشياطين، كعمرو بن لحي وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك من نبي أو صنم.
وأصل عبادة الأوثان أنه كان في القوم الذين أرسل إليهم نوح رجال صالحون، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها لكنهم حفظوا تكريمها، والتبرك بها، تدينا وتوسلا إلى الله، فكان ذلك عبادة له وتسلسل في الأمم بعدهم، وقد روى البخاري عن ابن عباس : إن المضلين يبنون شبهاتهم على جميع أنواع العبادة التي عبدوا بها غير الله كالتوسل به ودعائه، وطلب الشفاعة منه، وذبح القرابين باسمه، والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما، وكل ذلك شرك في العبادة، شبهته تعظيم المقربين من الله تعالى للتقرب بهم إليه.
وقد انتشرت هذه الشبهات الوثنية في أرباب الكتب الإلهية، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأنكروا تسمية ذلك عبادة، أو أن هذه العبادة إذا كانت لغير الله لجعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به، وما الشرك في العبادة إلا هذا.
﴿ إن ربك هو أعلم بالمعتدين ﴾ أي إن ربك الذي أرشدك وهداك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله إلى ما حرمه عليهم، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها. وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى.
وفي الآية إيماء إلى تحريم القول في الدين بالتقليد لأن ذلك من إتباع الأهواء، بغير علم، إذ المقلد غير عالم بما قلد فيه.
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
الإيضاح :﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾ الإثم لغة ما قبح، وشرعا ما حرمه الله، والله لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد في أنفسهم أو في أموالهم أو في عقولهم أوفي أعراضهم أو في دينهم، أو ضارا بالجماعات في مصالحهم السياسية أو الاجتماعية.
والظاهر منه ما تعلق بأفعال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس، ومنه الاعتداء في أكل المحرم الذي يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله بقوله :﴿ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ﴾ [ المائدة : ٣ ] وهذه الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة في تحريم الآثام، ومن ثم قال ابن الأنباري : المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه.
﴿ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ﴾ أي إن الذين يكسبون نوعا من الآثام الظاهرة أو الباطنة سيلقون جزاء إثمهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودنست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة.
أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم في قلوبهم، بما يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود : ١١٤ ] وبذلك تعود نفوسهم زكية وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لماما.
واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة : أي إن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على ما فات تمحو آثار الذنب الماضي، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب كما قال :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ [ النساء : ٤٨ ].
وفي سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهي من أصول الشرك، تلك هي مسألة الذبائح لغير الله.
ثم صرح سبحانه بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق وهو قوله :﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ لشدة العناية به لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾. الإيضاح :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه، ولا ما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم فإن أكل ذلك فسق ومعصية كما جاء في الآية الأخرى ﴿ فسقا أهل لغير الله به ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ].
تنبيه : قال مالك : كل ما ذبح ولم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك لذكر عمدا أو سهوا، وقال أبو حنيفة : إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل، وقال الشافعي : متروك التسمية عمدا أو سهوا حلال إذا كان الذابح مسلما.
﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أولياؤهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلونكم به من الشبهات، وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم في هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم، فإن التعبد لغير الله شرك كدعاء غير الله وسائر ما يتوجه به من العبادات لغيره وإن كان لأجل التوسل بذلك الغير إليه ليقرب المتوسل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية.
وأولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله عليه ولا اسم غيره من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة، فمن يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا، وكذلك من يأكل الميتة، بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا.
قال عكرمة : وإن الشياطين يعني مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش زخرف القول ليصل إلي نبي الله وأصحابه ممن أكل الميتة، ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله هذه الآية ثم قال :﴿ وإن أطعتموهم ﴾ يعني في استحلال الميتة ﴿ إنكم لمشركون ﴾ قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك، لأنه أثبت مشرعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه.
وما يذبح عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله لأنه مما أهل به لغير الله. وقال بعض الشافعية : هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، وهذا هو الراجح الذي عليه المعول.
تفسير المفردات : المثل : الصفة والنعت.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن، والحدس، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين منهم العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملون على اقتراف الآثام، و يحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره والتوسل به إليه وهو عبادة له ـ ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم مع ذكر السبب في استحسان الكافرين لأعمالهم وهو تزيين الشيطان لهم ما يعملون، ومن ثم انغمسوا في ظلمات لا خلاص لهم منها، وأصبحوا في حيرة وتردد على الدوام.
الإيضاح :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ أي أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غروهم به ؟ أفمن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان، يمشي به في الناس على بصيرة من أمر دينه وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض " ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر " وهو ليس بخارج منها لأنه يبقى متحيرا لا يهتدي إلى وجه صلاحه، فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة. وكذلك الخابط في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها، لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفاش بالنظر إلى النور الحسي.
والخلاصة : إنه ينبغي للمسلم أن يكون للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته، وأن يكون القدوة والأسوة للناس في الفضائل والخيرات والحجة على فضل دينه على سائر الأديان.
﴿ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ﴾ أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله حياة عالية، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب، قد زين للكافرين ما كانوا يعملون من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله وتحريم ما لم يحرمه الله وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن، والحدس، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين منهم العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملون على اقتراف الآثام، و يحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره والتوسل به إليه وهو عبادة له ـ ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم مع ذكر السبب في استحسان الكافرين لأعمالهم وهو تزيين الشيطان لهم ما يعملون، ومن ثم انغمسوا في ظلمات لا خلاص لهم منها، وأصبحوا في حيرة وتردد على الدوام.
الإيضاح :﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها ﴾ أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فزين لهم بحسب سننا في البشر سوء أعمالهم في عدوان الرسل ومقاومة الإصلاح إتباعا للهوى، واستكبارا في الأرض.
ومجمل القول : إن سنة الله في الاجتماع البشري قد قضت أن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم، وهكذا كان الحال في أكثر أكابر الأمم والشعوب ولاسيما في العصور التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول.
والمراد بالأكابر المجرمين من يقامون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم، وكان أكثر أكابر مكة كذلك، وتخصيص الأكابر بذلك لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم.
﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾ أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم إلا بأنفسهم. وهكذا شأن من يعادون الحق والعدل ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد، لأن سنة الله قد جرت بأن عاقبة المكر السيئ تحيق بأهله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبما ثبت في القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين، ومن علو الحق على الباطل، ومن هلاك القرى الظلمة، وبما أيده الاختبار ودلت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضي ببقاء الأمثل والأصلح ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ].
وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة الله في الأولين فقال :﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون٥٠ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾ [ النمل : ٥٠ ٥١ ] أي فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم، لجعلهم بسنن الله في خلقه، وهم خليقون بهذا الجهل، وأما في الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك.
وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمي أهل مكة، وفيها وعد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
تفسير المفردات : الصغار والصغر بالتحريك : الذل والهوان جزاء الكفر والطغيان، وهو قلة في الأمور المعنوية. والصغر بزنه عنب : قلة في الأمور الحسية : والصاغر : الراضي بالمنزلة الدنية.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه.
وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا.
الإيضاح :﴿ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله ﴾ أي وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لا نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها، مثل ما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى.
وقال ابن كثير : أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل. وهذا بمعنى قوله :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] الآية.
وخلاصة ذلك : إنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم. وقد رد الله عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله :
﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه وهذا كقوله حكاية عنهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾ [ الزخرف : ٣١ ٣٣ ]. يريدون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجل في أعينهم من القريتين مكة والطائف، ذلك أنهم جازاهم الله بما يستحقون كانوا يزدرون الرسول صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى :﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ] وهم مع ذلك كانوا يعترفون شرفه ونسبه وطهارة بيته ومرباه ومنشئه وكانوا يسمونه بالأمين، فكان ينبغي أن يكون في ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة، وبكل ما فيه الكرامة، ولكنه الحسد والبغي والتقليد. كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال وعمل هاتيك الأفعال في عداوته ومعاندته.
والخلاصة : إن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه، لا يناله أحد بكسب، ولا يتصل إليه بسبب ولا نسب، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة، وطهارة القلب، وحب الخير والحق.
ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال :
﴿ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ﴾ أي سيصيب المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء في كل شعب دب فيه الفساد عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة.
ومعنى كونه ومن ﴿ عند الله ﴾ أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق، وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق يقال إنه من عند الله، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق في الدار الدنيا كما قال تعالى :﴿ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون٢٥ فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ [ الزمر : ٢٥ ٢٦ ].
وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد وعذاب الأفراد لا يطرد وإن كانوا من المجرمين الماكرين. وقد عذب الله في الدنيا أكابر مجرمي أهل مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له كالخمسة المستهزئين الذين سبق الكلام فيهم فقتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغار والهوان بالباقين.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه.
وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا.
ثم قفى على ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للإيمان فقال :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ﴾. الإيضاح :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ﴾ أي فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة، والهادي إلى طريق الحق والرشاد وجد لذلك في نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته ويذعن له قلبه، بما يرى من ساطع النور الذي يستضيء لبه، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال :( نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح )، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال :( الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ).
﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ﴾ أي إن من رفسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب يجد في صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد والنظر في الآفاق والأنفس، لما استحوذ على قلبه من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه ويشعر بالعجز عن احتمالها ويكون مثله مثل من صعد في الطبقات العليا في جو السماء، إذ يشعر بضيق شديد في التنفس، وكلما صعد في الجو أكثر شعر بضيق أشد حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء ولم يستطع سبيلا إلى البقاء فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا.
وخلاصة ذلك : إن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعي إلى الحق وقد ألف الباطل وركن إليه، بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشعر على الهلاك وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.
سبحانك ربي نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرها البشر، ولم يفقه معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، وتقدم فن الطيران الآن علّم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء في كتابك، ودل على صحة ما ثبت في علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوي في مختلف طبقات الهواء، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثقافة في الهواء من الطبقات التي هي أسفل منها، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق في التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه، حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس ليساعدهم على السير في تلك الطبقات.
وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا لأنهم لم يهتدوا لسرها، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم، الدين والعلم صنوان لا عدوان، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفي أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين.
﴿ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ﴾ أي كما جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام على هذا النحو في سنة الله وتقديره بما تقدم ذكره من الأسباب، يجعل الرجس على الذين يعرضون عن الأيمان، فيظهر أثر ذلك في تصرفاتهم وأعمالهم فيكون غالبا قبيحا سيئا في ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية، لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصد عنه ويطهر الأنفس منه.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه.
وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا.
الإيضاح :﴿ وهذا صراط ربك مستقيما ﴾ أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته، هو صراط ربك الذي بعثك به، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة، والبينات الظاهرة، حال كونه مستقيما في نظر العقول الراجحة، والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء، بل هو السبيل السوي وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد وخروج عن الجادة التي يؤيدها العقل وتستند إلى النقل كما قال علي كرم الله وجهه في نعت القرآن : هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم.
﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ﴾ أي قد وضحنا آياته وفسرناها لقوم يتذكرون ما بلغوه منها كلما عرضت الحاجة إليه فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا في الإيمان، كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن سنته في البشر قضت بأن يكون في كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمي أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله في المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق في نفسه.
وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا.
الإيضاح :﴿ لهم دار السلام عند ربهم ﴾ أي لهؤلاء السالكين صراط ربهم المستقيم دار السلام عنده بسلوكهم صراطه الموصل إليه بما أسلفوا من عمل، إذ هم قد اقتفوا آثار الأنبياء وطرائقه وسلموا من الاعوجاج فوصلوا إلى دار السلام.
﴿ وهو وليهم بما كانوا يعملون ﴾ أي إنه تعالى متولي أمورهم وكافيهم كل ما يعنيهم جزاء على صالح أعمالهم التي تزكي نفوسهم وتصلح حالهم في الدنيا والآخرة، فيتولى رعايتهم وتوفيقهم في الدنيا، ونيلهم الثواب ويدخلهم جنات النعيم بمنه وكرمه.
تفسير المفردات : المعشر والنفر والقوم والرهط : الجمع من الرجال فحسب، ولا واحد لها من لفظها، وقال الليث : المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر الكافرين، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية، واستكثر : أخذ الكثير، يقال استكثر من الطعام : أكل كثيرا، وأولياؤهم : هم الذين تولوهم أي أطاعوهم في وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام، والاستمتاع بالشيء : جعله متاعا، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا، وبلغنا أجلنا : أي وصلنا يوم البعث والجزاء، والمثوى : مكان الثواء، أي الإقامة والسكنى، والخلود : المكث الطويل غير المؤقت بوقت.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده من العذاب للمجرمين، وما أعده من الثواب والنعيم في دار السلام للمؤمنين، إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه.
قفى على ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون في يومه من الحساب، وإقامة الحجة على الكفار، وسنة الله في إهلاك الأمم.
الإيضاح :﴿ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ﴾ أي ويوم يحشر الله تعالى الإنس والجن جميعا يقول لمعشر الجن منهم : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال تعالى :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين٦٠ وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم٦١ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ﴾ [ يس : ٦٠ ٦٢ ].
والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم، لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم في الحق والخير، أو في الباطل والشر.
﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾ أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس في جواب الرب تعالى : ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة في إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهوتها، وبما كان لنا في طاعتهم ووسوستهم من اللذة في إتباع الهوى والانغماس في اللذات، قال الحسن البصري : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس اه.
وفي الآية إيماء إلى أن كل إنسي يوسوس له شيطان من الجن بما يزين له من الباطل وبما يغريه من الفسق والفجور.
فهذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح الشريرة يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية ( الميكروبات ) الأجساد الحيوانية فتفسد مزاجها وتصيبها بالأمراض والأدواء، فقد أثبت الطب الحديث دخول النسم ( النسم لغة : كل ما فيه روح ) الحية ( الميكروبات ) في الأجسام، وعرفت الطرق والمداخل الخفية لدخولها بما استحدث من المناظير ( الميكروسكوبات ) التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر من حقيقته بألوف الأضعاف، فأمكن أن نعرف أن في الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجسام من خراطيم البراغيث أو البعوض أو القمل، أو مع الماء والطعام، وتنمو فيها بسرعة مدهشة فتولد ألوف الألوف، ومتى تكاثرت ولدت الأمراض والأوبئة القاتلة، ولو كان قد قيل : مثل هذا لأكبر أطباء المصريين القدامى أو للهنود أو اليونان أو العرب لعدوه نوعا من الشعوذة والسحر أو ضربا من التخيل والجنون.
وإذا كان هذا الاتصال الخفي قد ثبت في الأجساد بعد آلاف السنين فلا عجب أن يثبت مثل ذلك في الأرواح، وأمرها أخفى من الأجساد، والكتابة والسنة مليئان بهذا، فقد جاء في الحديث ما يدل على وجود هذه الجراثيم ( الميكروبات ) التي لم يثبتها الطب إلا حديثا، وكفى بهذا معجزة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ودلالة على أن الله أوحى إليه بنظريات لم يثبتها العلم إلا بعد ذلك بأربعة عشر قرنا، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة ) وقال عمرو بن العاص : اتقوا غبار مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة، ولو أن هذا الأثر قيل لغير المتمدينين وفسر لهم هذا التفسير قبل اختراع المناظير لكان فتنة للناس وزادهم نفورا مما جاء به الرسول، ولكن في كل يوم يثبت العلم نظريات جديدة تكون نعم العون على صدق ما جاء به الرسول، وتلقي نورا على الناس ينظرون به تلك الدرر الغوالي المبثوثة في القرآن والحديث وآثار الصدر الأول من المسلمين.
﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ﴾ أي ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل.
ومقصدهم من هذا الإخبار : إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط في الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الشياطين وحكاه في آي أخرى فقال في الفريقين ﴿ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] وكما ذكر في سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم في بعض، وحكى في سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا.
﴿ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ﴾ أي قال الله تعالى ردا عليهم : النار منزلكم وموضع إقامتكم إقامة خلود إلا ما يشاء الله مما يخالفه ذلك، فكل شيء بمشيئته واختياره، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل، فله السلطان الكامل والنفوذ الأعلى، ولكن هل يشاء ذلك ؟ هذا مما يتعلق بعلمه وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه.
﴿ إن ربك حكيم عليم ﴾ أي إنه تعالى حكيم فيما يتعلق به مشيئته من الجزاء الذي نص عليه في كتابه، عليم بما يستحقه كل من الفريقين، والبشر لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
روى ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا.
المعنى الجملي : بعد أن حكى عز اسمه عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا ـ أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره تعالى وقضائه.
الإيضاح :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ﴾ تولية الله الناس بعضهم بعضا : جعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض، إما بمقتضى أمره في شرعه ومقتضى سنته وتقديره كما في ولاية المؤمنين بعضهم بعضا في الحق والخير والمعروف فقد أمرهم بذلك في شرعه ونهاهم عن ضده، وهو أيضا مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقديره الذي مضت به سننه في خلقه، وإما بمقتضى سننه وتقديره فحسب وهو ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضا، إذ هذا أثر مترتب على الاتفاق في الاعتقاد. والأخلاق واشتراك المنفعة بحسب تقديره تعالى وسنته في نظم الحياة البشرية، وهو لم يأمرهم بشيء مما يتناصرون به في الباطل والشر والمنكر، بل نهاهم عن ذلك، ولكن شأن الأفراد والجماعات أن يميل كل منهم إلى من كان على شاكلته ويتولاه بالتعاون والتناصر فيما هم فيه مشتركون ويناوئون من يخالفهم في ذلك.
أي ومثل ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا، لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولي بعض الظالمين بعضا لأنفسهم وللناس، بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم.
روي عن قتادة أنه قال في تفسير الآية : إنما يولي الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن من أين كان وحيث كان والكافر ولي الكافر من أين كان وحيثما كان وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولعمري لو عملت بطاعة الله ولم تعرف أهل طاعة الله ما ضرك ذلك، ولو عملت بمعصية الله وتوليت أهل طاعة الله ما نفعك ذلك شيئا اه.
وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ ما سمعتهم يقولون فيه ؟ قال : سمعتهم يقولون : إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم اه. ذاك أن الملوك يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة في الأنعام السائمة، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم فيقلدهم جمهور الأمة في سيئ أعمالهم، فيغلب الفساد على الصلاح، ويفسقون عن أمر الله فيهلكون، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم وتثل عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء كما قال سبحانه :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ].
أما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأي فيها، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاؤون، بل يكونون تحت مراقبة أولي الأمر فيها.
وقد وضع الإسلام هذا الدستور فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد، وأمر الرسول بالمشاورة، فسار على هذا النهج. وجعلت الولاية العامة الخلافة بالانتخاب.
واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته وجروا على سنته فقال الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له : أما بعد فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني.
وقال الخليفة الثاني على المنبر : من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقوّمه.. قال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة : أمري لأمركم تبع.
وقوله :﴿ الظالمين ﴾ يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم، إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشاكله في أخلاقه وأعماله وينصره على من يخالفه.
ثم أجاب سبحانه عن سؤال يخطر بالبال وهو : ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة ؟ فأجاب بأنهم يسألون فقال :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾. الإيضاح :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ أي إنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لهم، فتقوم الحجة عليهم فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها.
وقوله :﴿ رسل منكم ﴾ ظاهر في أن كلا من الفريقين الإنس والجن قد أرسل منهم رسل إلى أقوامهم، لكن جمهرة العلماء يقولون : إن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات الأخرى، وقالوا إن المراد بقوله : منكم أي من جملتكم لا من كل منكم، وهو يصدق على رسل الإنس الذين ثبتت رسالتهم إلى الإنس والجن.
والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص، وقد دل الكتاب وصحيح الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا :﴿ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾ [ الأحقاف : ٣٠ ] فهذا ظاهر في أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله.
ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله :
﴿ يقصون عليكم آياتي وينذركم لقاء يومكم هذا ﴾ أي إنهم يتلون عليهم الآيات المبينة لأصول الإيمان وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال، ينذرونهم لقاء يوم الحشر بالإعلام بما يكون فيه من الحساب والجزاء لمن كفر بالله وجحد بآياته.
ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد ؟ فقيل :
﴿ قالوا شهدنا على أنفسنا ﴾ أي شهدنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب. وفي هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم، وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعها منهم.
وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفي موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون وفي موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا.
ونحو الآية قوله :﴿ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ﴾ [ الملك : ٩ ].
﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ أي وغرتهم زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وقلدهم في ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.
وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوي المال والنسب منهم اجترحوا من الموبقات وأبسلوا من المكارم والخيرات.
﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ أي وبعد أن قامت عليهم الحجة شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا في الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب ولا تنفعهم المكابرة.
والكفر بالرسل ضربان : كفر بتكذيبهم بالقول، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن الله في ترتب الأعمال على الطباع والأخلاق.
الإيضاح :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ﴾ أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله لإصلاح حال الأفراد والجماعات في شؤونهم الدنيوية والأخروية، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء، بسبب أن الله لم يكن من سنته في تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبي الرسل بظلم منهم وهم غافلون عما يجب أن يقفوا به ذلك الهلاك، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده، إذ من حكمة الله في الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها.
والخلاصة : إن الله لا يظلم أحدا من خلقه، بل هم الذين يظلمون أنفسهم، وإن الإهانة والتعذيب تربية لهم وتأديب وزجر لغيرهم، وإن هذا العقاب للأمم، منه ما هو في الدنيا ومنه ما هو في الآخرة، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاؤوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل.
وهلاك الأمم يكون بما يغلب من الظلم أو الفسق والفجور الذين يفسد الأخلاق ويقطع روابط المجتمع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا.
وهذه الآية وما شاكلها من قواعد الاجتماع أن شرح جانبا منها بعض علماء الاجتماع من المسلمين كابن خلدون، لكن لم يستفد من ذلك من جاء بعده من علمائهم، واستفاد منها غيرهم، كما لم يستفيدوا من هدي القرآن ومثله العليا في إقامة ملكهم وحضارتهم بحسب ما أرشدهم إليه من سنن الاجتماع فيمن قبلهم، وإنهم لا يزالون غافلين عن هذا الرشاد مع حاجة العصر إلى بذل أقصى ما يكون من الجهد في هذا المضمار، لأن الأمم قد افتنّت في الوصول إلى أغراضها بكل الوسائل التي يمكن أن يفكر فيها البشر، كما هي سنة تنازع البقاء.
ولا نرى من المسلمين إلا معاذير لو تركوها لكان أحرى بهم وبما ينسبونه إلى دينهم كذبا وافتراء، إذ يعتذرون عن ضعف أممهم وتقصيرها بأن كل شيء بقضاء، وقدر، ولو سلم لهم هذا لكان الناس مجبورين في أعمالهم لا مختارين، وقواعد الدين تأبى هذا، والتكاليف الشرعية مؤسسة على غير ما يقولون.
وأين كان هذا أيام أن كان المسلمون في أوج عزهم يكافحون وينافحون ويتغلبون على من سواهم من الأمم ويفتحون الممالك والأمصار، وتخفق عليها بنودهم وأعلامهم، وتارة يسلون أنفسهم بأن هذا من علامات الساعة، وأنى لهم بها ؟ وهل هم أوتوا من العلم ما يرشدهم إلى ما يدعون، بل لقد بلغ الأمر أن وسوس لهم الشيطان وهم يناجون أنفسهم، أو إذا خلوا إلى شياطينهم أن قالوا إن تعاليم الإسلام أضعفهم وأضاعت عليهم ملكهم :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾ [ الكهف : ٥ ] أفليست تعاليمهم هذه هي التي شيدت صروح المجد في سالف العصور، وأقامت ملكا ضم أطراف المغرب والمشرق ؟
أليس أسلافهم بهذه التعاليم ثلوا عروش الأكاسرة والقياصرة، ودوّخوا الممالك، وأسسوا حضارات ووضعوا قوانين لا تزال أرقى الأمم مدنية تمنح من معينها، وتطفئ ظمأها من نميرها العذاب ؟
وقد التمس بعضهم هداية غير هداية القرآن ليؤسس عليها سعادة دنياه فكان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فلم يتم له ما أراد وخسر دنياه وأخراه، وذلك هو الضلال البعيد.
الإيضاح :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ أي ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ويثيبه بها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ أي فكل عملهم يعلمه ربهم وهو محصيه عليهم، ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
وفي الآية إيماء إلى أن مناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته، فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه، فجازاه الله أحسن الجزاء، وإن شاء تنكب عن جادة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهريا وسار في غلواء الضلال، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.
تفسير المفردات : يذهبكم : أي يهلككم، يستخلف : أي ينشئ الذرية والنسل.
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة الله في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.
وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غني عن العالمين، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل، المقرونين بالرحمة والفضل.
الإيضاح :﴿ وربك الغني ذو الرحمة ﴾ أي وربك هو الغني الكامل الغنى، وهو ذو الرحمة الشاملة التي وسعت كل شيء، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه في وجوده وبقائه، ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده.
ويقال في الخلق : هذا غني إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب التي هي من فيض مولاه وهو مع ذلك محتاج إلى غيره، انظر إلى الغني ذي المال الكثير تره محتاجا إلى كثير من الناس من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شيء كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : ١٥ ].
﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذريته قوم آخرين ﴾ أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين.
وقد صدق الله وعده فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم ولم يلبث أن زال بالتأمل في آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى في حروبهم وفتوحهم، وشهد لهم بذلك أعداؤهم حتى قال مؤرخو الإفرنج : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة الله في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.
وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غني عن العالمين، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل، المقرونين بالرحمة والفضل.
وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة فقال :﴿ إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ﴾. الإيضاح :﴿ إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ﴾ أي إن ما توعدونه من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مرد له، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا منع مما يريد، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم، وهذا دليل قد ذكره الله في كتابه مرات كثيرة.
وقد أنار العلم في هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء.
بل بلغ الأمر ببعض العلماء من الألمان أن حاولوا إيجاد البشر بطريقة صناعية علمية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة، وزعم أنه يمكن بوسائل أخرى تغذية المضغة في حرارة كحرارة الرحم إلى أن تتولد فيها الأعضاء حتى تصير إنسانا تاما، وقال إنه يمكن إيجاد معامل للتفريخ البشري كمعامل تفريخ الدجاج، ولكن الكثير من العلماء قالوا : إن هذه نظريات لا يمكن إخراجها من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل.
وإذا كان علماء المادة يحاولون الوصول إلى ذلك ولا يعدونه مستحيلا، فهل يعجز عنه خالق البشر وخالق كل شيء :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾ [ فصلت : ٥٣ ].
المعنى الجملي : كان الكلام في الآيات السالفة في تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة الله في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.
وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غني عن العالمين، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل، المقرونين بالرحمة والفضل.
ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾الإيضاح :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾ أي يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها، إني عامل على مكانتي وطريقتي التي رباني ربي عليها وهداني إليها وأقامني عليها، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار بتأثير أعماله.
وفي الآية إيماء إلى أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها، وأن أعمالها منبعثة من عقائدها وصفاتها النفسية، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال صاحب الكشاف : اعملوا على مكانتكم تحتمل وجهين اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حال : على مكانك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه، إني عامل على مكانتي التي أنا عليها.
والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة.
ثم قال : وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعد والوثوق بأن المنذر محق والمنذر مبطل اه.
يقصد بذلك رحمة الله : أن في هذا الإنذار إحالة على المستقبل ليتم وعده لرسوله بالنصر والتأييد وليظهر صدق وعيده لأعدائه بقهرهم في الدنيا بحيث يرونه بأعينهم، وإذا صدق في الدنيا صدق في الآخرة، وأن كلا منهما كان بإنباء الغيب، وأن السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه الحسنى في الدنيا والآخرة واحد، وكذلك عاقبة من ناوأه وكفر به، وقد أشار إليه بقوله :
﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ أي إن الظالمين لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له في ألوهيته والتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيم لا يطلب إلا منه وهو ما خفيت على المرء أسبابه، إذ مثل هذا لا يدعى فيه إلا الله وحده، ما عرف سبب يجب أن يطلب من طريق السبب، مع العلم بأن خالق الأسباب جميعها هو الله تعالى، وحال الظالمين للناس أشد من حال الظالمين لأنفسهم، وكلهم لا يفوزون بفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق الله وحقوق أنفسهم، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين.
انظر كيف نصر الله ورسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به ثم من سائر مشركي العرب، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب، فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز وانحصر الفوز في الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام.
ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم، لأن الله إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال :﴿ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين١٣ ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ١٤ ].
تفسير المفردات : ذرأ : أي خلق على وجه الاختراع والإبداع، لشركائنا : أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، لشركائهم : أي سدنة الآلهة وخدمها، أو الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء ـ ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام والتحليل والتحريم يباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
الإيضاح :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ﴾ أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام.
﴿ فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾ أي فقالوا في النصيب الأول هذا لله أي نتقرب به إليه، وفي النصيب الثاني هذا لشركائنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها، وقوله بزعمهم أي بتقولهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه، وأن يكون بإذنه، لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده، فهذا زعم مخترع، لا دين مشترع فيكون باطلا.
وقد روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان، والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها وما ينفق على معابدها.
﴿ فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ﴾ أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها.
﴿ وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ﴾ أي وما عينوه وجعلوه له فهو يحوّل أحيانا للتقرب به إليها.
﴿ ساء ما يحكمون ﴾ أي قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شيء على الخالق القادر على كل شيء وبعملهم شيئا لم يشرعه الله.
وللقبح وجوه متعددة منها :
( ١ ) إنه اعتداء على الله بالتشريع وهو لم يأذن لهم به.
( ٢ ) الشرك في عبادته تعالى، ولا ينبغي أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه.
( ٣ ) ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم.
( ٤ ) إن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع.
نقل علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : إن أعداء، الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصيد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقي ما سمي للوثن تركوه للوثن.
وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء ـ ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام والتحليل والتحريم يباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
ثم ذكر سبحانه من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال :﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾. الإيضاح :﴿ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾ أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة زين لكثير من المشركين شركاؤهم سدنة الآلهة وخدمها أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التزيين وجوها مختلفة منها :
( ١ ) اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] وأشار إلى الثاني بقوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ﴾ [ الإسراء : ٣١ ].
( ٢ ) اتقاء العار بوأد البنات أي بدفنهن على قيد الحياة خشية أن يكن سببا للعار أو السباء إذا كبرن، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن في الشرف.
( ٣ ) التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، فقد كان الرجل في الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب في قصص طويل أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( أنا ابن الذبيحين ).
وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس كالسدنة، أو شياطين الجن شركاء وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء، لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم ولا يكون ذلك إلا لله سماهم كذلك كما قال :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ].
وقد حذر كثير من المسلمين حذو هؤلاء فدعوا غير الله من الموتى تضرعا خضوعا عند قبورهم مع التقرب إليهم بالصدقات وذبائح النسك، ولكنهم لا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة، بل يسمونها توسلا ( والأسماء لا تغير الحقائق والأعمال ) فالدعاء والتضرع أدل على الحقائق من الأسماء والتأويلات.
ثم ذكر سبحانه علة تزيين المنكرات لهم فقال :
﴿ ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ﴾ أي إنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليهلكوهم بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية، فينحر الوالد ولده ويدفن بنته الضعيفة بيده وهي حية.
والدين الذي لبسوه وخلطوه هو ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه.
﴿ ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ﴾ أي ولو شاء الله أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة، فلا يؤثر فيهم إغواء ولا تجدي فيهم وسوسة ولفعل ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء، وما يشاهدون من المحسوسات، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله، ومن ثم يؤثر في نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة، والناس يتفاوتون في هذا جد التفاوت، فلا يمكن أن يكونوا على رأي واحد أو دين واحد.
فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع، وما يفترون من عقائد، وعليك بما أمرت به من التبليغ، والله هو الذي يتولى أمرهم، وله سنن في هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء ـ ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام والتحليل والتحريم يباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ﴾. الإيضاح :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ أي إنهم لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم، وزرعهم أقساما ثلاثة :
( ١ ) أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها، ويقولون هي حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم.
وقوله لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء، وقوله بزعمهم أي بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان عليه.
( ٢ ) أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، قال السدي : هي البحيرة والسائبة والحامي وقد تقدم ذكرها في قوله :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ].
( ٣ ) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها في الذبح، بل يهلون بها لآلهتهم وحدها، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهرها.
﴿ افتراء عليه ﴾ أي إنهم قسموا هذا التقسيم وجعلوه من أحكام الدين ونسبوه إلى الله افتراء عليه واختلاقا له والله منه بريء، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله، كما جاء في قوله :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾ [ يونس : ٥٩ ].
﴿ سيجزيهم بما كانوا يفترون ﴾ أي سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه وينكل بهم شر النكال بسبب هذا الافتراء القبيح.
ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم في التحريم والتحليل ينبئ عن سخفهم فقال :﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن حاج سبحانه المشركين وسائر العرب في كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء ـ ذكر هنا بعض عبادتهم في الحرث والأنعام والتحليل والتحريم يباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
الإيضاح :﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ المراد بالأنعام هنا البحائر أي المشقوقة الآذان، والسوائب التي تسيب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد، وكانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج.
﴿ سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ﴾ يقولون وصف كلامه بالكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي هي ساحرة، وقده يصف الرشاقة، على معنى أنه رشيق على سبيل المبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له، قال أبو العلاء المعري :
سرى برق المعرة بعد وهن | فبات برامة يصف الملالا |
والخلاصة : إن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل.
وقد يكون المعنى : سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ﴾ [ النحل : ١١٦ ] الآية.
الإيضاح :﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ﴾ أنكر سبحانه على مشركي العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم، وحكم فيهم حكما عدلا وهما :
( ١ ) قتل أولادهم ووأد بناتهم، وبذلك خسروا خسرانا مبينا، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة، والبر والصلة، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها، واستبدال القسوة والغلظة بها، إلى نحو أولئك من مساوئ الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا، وبها يحل العقاب في الآخرة.
( ٢ ) تحريم ما رزقهم الله من الطيبات وإيضاح هذا أن قد حكم سبحانه على من فعل هذين الجرمين بالخسران، والسفاهة، وعدم العلم، والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء.
أما الخسران فلأن الولد نعمة من الله على العبد، فإذا سعى العبد في زوالها فقد خسر خسرانا عظيما، إذ هو قد استحق الذم في الدنيا وقال الناس فيه إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه، والعقاب في الآخرة، لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس محبة إليه.
وأما السفاهة، وهي اضطراب النفس وحماقتها، فلأنه أقدم على ضرر محقق وهو القتل خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر.
وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح فذلك من أقبح القبائح والمنكرات.
وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرب به إليه وهو جرأة عليه، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
وأما الضلال المبين فلأنهم لم يرشدوا إلى مصالح الدين ولا منافع الدنيا.
وأما عدم الاهتداء إلى شيء من الحق والصواب، فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل ولا بهدي الشرع في منافع الدنيا وسعادة الآخرة.
وفائدة قوله :﴿ ما كانوا مهتدين ﴾ بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط، والإنسان أحيانا قد يضل ثم يهتدي، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ﴾ إلى قوله ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه.
تفسير المفردات : الإنشاء : إيجاد الأحياء وتربيتها وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر، والجنات : البساتين والكروم الملتفة الأشجار، لأنها تجن الأرض وتسترها، والمعروشات : المحمولات على العرائش، وهي الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب، وغير المعروشات : ما لم يعرش منها، والمراد أن الجنات نوعان : معروشات كالكروم، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره، والأكل بضم الهمزة والكاف : ما يؤكل، متشابها أي في النظر، وغير متشابه : أي في الطعم.
المعنى الجملي : علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عني الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة ـ هي التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر، وقد بالغ سبحانه في تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة في التحليل والتحريم، تنبيها إلى ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من إتباع آرائهم والسير على أهوائهم.
وهنا عاد إلى المقصود الأصلي وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.
الإيضاح :﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله ﴾ أي إن ربكم أيها الناس هو الذي ابتدع البساتين والكروم الملتفة الأشجار والتي تجن الأرض وتسترها، سواء المعروش منها وغير المعروش، وأنشأ النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل.
والنخل وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات، ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة ولاسيما للعرب، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، ومن أيسرها تناولا في السفر والحضر، ولا يحتاج إلى طبخ ولا إلى معالجة، ونواه علف لرواحلهم، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ في الماء زمنا قليلا- إلا ما في خوصه وليفه من الفوائد والمنافع.
وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا وأشبهه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه.
والزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس، يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير، وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي التي عليها المعول في الاقتيات.
﴿ والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ﴾ أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر، وغير متشابه في الطعم.
﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر ﴾ أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر إذا أثمر وإن لم يدرك ويينع.
وخلاصة ما سلف : أنه سبحانه بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق لله الخالق للعباد والأقوات جميعا، فمن ادعاه لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، كما أن من أذعن لتحريم غير الله فقد أشركه معه سبحانه وتعالى.
والتحريم الذي لا يكون إلا لله هو تحريم التشريع، أما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك فلا شرك فيه، فإذا منع الطبيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك، بل الله هو الذي حرم كل ضار والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره.
وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزرع، لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا بل تحريما مؤقتا ما دام السبب والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد، وليس له أن يحرم بمحض آداته، وإذا هو أخطأ في اجتهاده وجب على الأمة الإنكار عليه، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق.
وفائدة قوله ﴿ إذا أثمر ﴾ بيان أن أول وقت لإباحة الأكل هو وقت الإثمار، وليس بلازم أن يدرك ويينع، فالكرم ينتفع بثمره حِصْرَمًا فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يطحن ويؤكل خبزا أو يطبخ أو يعمل حلوى على أشكال شتى.
﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ أي وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده جملة، ويدخل في الحصاد جنى العنب وصرم النخل.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ قال :( ما سقط من السنبل ). وقال مجاهد فيه : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم، فإذا أذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته، وإذا بلغ النخل وحضرك المساكين فاطرح لهم من التفاريق والبسر، فإذا جددته :" قطعته " فحضرك المساكين فاطرح لهم منه، فإذا جمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته.
وعن ميمون بن مهران وزيد بن الأصم أن أهل المدينة كانوا إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه، فهو قوله :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعن سعيد بن جبير قال : كان هذا قبل أن تنزل الزكاة. الرجل يعطي من زرعه ويعلف الدابة ويعطي اليتامى والمساكين ويعطي الضغث، يريد أن هذا الأمر في الصدقة المطلقة غير المعينة، ومما يؤيد هذا أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة.
﴿ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف في الأكل كما قال في آية أخرى :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن لا يحب المعتدين ﴾ [ المائدة : ٨٧ ].
والاعتداء والإسراف : مجاوزة الحد، والحد الذي ينهى الله عن تجاوزه إما شرعي كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام، وإما فطري طبعي وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة.
المعنى الجملي : علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عني الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة ـ هي التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر، وقد بالغ سبحانه في تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة في التحليل والتحريم، تنبيها إلى ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من إتباع آرائهم والسير على أهوائهم.
وهنا عاد إلى المقصود الأصلي وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.
الإيضاح :﴿ ومن الأنعام حمولة وفرشا ﴾ أي وأنشأ من الأنعام كبارا منها تصلح للحمل، وصغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها.
﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾ أي كلوا من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا.
﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ فتحرموا ما لم يحرمه الله عليكم، فإن ذلك إغواء منه، والله المبدع قد أباحها لكم فليس لغيره أن يحرم أو يحلل، لا أن يتعبدكم به.
ويقال لمن اتبع آخر في أمر وبالغ في التأسي به اتبع خطواته، ولا شك أن تحريم ما أحل الله من أقبح المبالغات في إتباع إغواء الشيطان، لأنه إتباع له في حرمان النفس من الطيبات لا في الاستمتاع باللذات كما هو أكثر غوايته ؛ ثم علل النهي عن إتباعه بقوله :
﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ أي لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها، لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا أو استقبالا ويأمركم بالافتراء على الله بغير علم كما قال عز اسمه :﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ [ البقرة : ١٦٩ ].
وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام إما حمولة وإما فرش، فصلها وقسمها ثمانية أزواج، فإن الحمولة إما إبل وإما بقر، والفرش إما ضأن وإما معز، وكل من الأقسام الأربعة إما ذكر وإما أنثى، وكل هذا لإيضاح المحال التي تقولوها على الله تعالى بالتحريم والتحليل ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة فقال :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين* ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾.
وهنا عاد إلى المقصود الأصلي وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.
الإيضاح :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين* ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ أي أنشأ سبحانه من الضأن زوجين الكبش والنعجة، ومن المعز زوجين التيس والعنز، وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش، فقل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرم الله الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين أم حرم الأنثيين النعجة والعنز أم حرم ما حملت إناث النوعين أخبروني ببينة تدل على ذلك من كتاب الله أو خبر من أنبيائه إن كنتم صادقين في دعوى التحريم.
وكذلك أنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، فقل لهم تأنيبا وإنكارا وإلزاما للحجة. أحرم الذكرين منهما أم حرم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين ؟
وخلاصة ذلك : إن المشركين في الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.
وقصارى ذلك : إنه تعالى ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإنهم كاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة في الرد عليهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٣:المعنى الجملي : علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عني الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة ـ هي التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر، وقد بالغ سبحانه في تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة في التحليل والتحريم، تنبيها إلى ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من إتباع آرائهم والسير على أهوائهم.
وهنا عاد إلى المقصود الأصلي وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.
الإيضاح :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين* ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ أي أنشأ سبحانه من الضأن زوجين الكبش والنعجة، ومن المعز زوجين التيس والعنز، وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش، فقل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرم الله الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين أم حرم الأنثيين النعجة والعنز أم حرم ما حملت إناث النوعين أخبروني ببينة تدل على ذلك من كتاب الله أو خبر من أنبيائه إن كنتم صادقين في دعوى التحريم.
وكذلك أنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، فقل لهم تأنيبا وإنكارا وإلزاما للحجة. أحرم الذكرين منهما أم حرم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين ؟
وخلاصة ذلك : إن المشركين في الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.
وقصارى ذلك : إنه تعالى ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإنهم كاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة في الرد عليهم.
ثم زاد في الإنكار والتهكم بهم فقال :
﴿ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ﴾ أي أعندكم علم يؤثر عن أحد من رسوله فتنبئوني به، أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة ؟ كلا، ما حصل هذا ولا ذاك، فما هو إلا محض افتراء على الله يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله إن الله حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ].
والخلاصة : إنكم إذ لم يؤمنوا بنبي فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام.
وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان أثبت أنه افتراء على الله لإضلال عباده وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره ويجني سوء عاقبته، فقال :
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ﴾ أي لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل تام.
ونفي العلم شامل لم يؤثر أو يعقل ويستنبط كالنظر العقلي والتجارب العملية وطرق درء المفاسد والشرور وتقدير المصالح وعمل البر والخير.
والخلاصة : عن في ذلك تسجيل الغباوة عليهم وعمي البصيرة بإتباعهم، محض التقليد من غير عقل ولا هوى، فإن عملهم ليس له إثارة من علم ولا قصد إلى شيء من الهدى إلى حق أو خير.
وقد وجد في البشر ناس فكروا وبحثوا فيما يجب عليهم لله من الشكر العبادة وإتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه العقل، وفيما ينبغي لهم أن يجتنبوه من الطعام والشراب فأصابوا في بعض ما هدتهم إليه عقولهم وأخطؤوا في بعض، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل، كما فعل قصي، إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاج ورفادتهم وإطعامهم، وسن الشورى في مهام الأمور.
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي إن الله لا يوفق للرشاد من افترى عليه الكذب وقال عليه الزور والبهتان، ولا يهديه إلى الحق والعدل لا من طريق الوحي ولا من طريق العلم، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا.
تفسير المفردات : الطاعم : الآكل، والميتة : البهيمة ماتت حتف أنفها، المسفوح : المصبوب السائل كالدم الذي يجري من المذبوح، رجس : أي قذر قبيح، الإهلال : رفع الصوت، والمراد به الذبح باسم الأصنام، اضطر : أي أصابته الضرورة الداعية على تناول شيء منه، وباغ : أي طالب لذلك قاصد له، عاد : أي متجاوز قدر الضرورة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام والحرث.
قفى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.
أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم، وقل لغيرهم من الناس : لا أجد فيما أوحاه إلي ربي طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله إلا أن يكون ميتة لم تذك ذكاة شرعية، وذلك شامل لما مات حتف أنفه وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها أو دما مسفوحا أي سائلا كالدم الذي يجري من المذبوح، فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال، وفي الحديث ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال ) أو لحم خنزير، فإن كل ذلك خبيث تعافه الطباع السليمة، وهو ضار بالأبدان الصحيحة، أو فسقا أهل لغير الله به : وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسمه عليه عند ذبحه.
﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ﴾ أي فمن دفعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شيء من هذه المحرمات حال كونه غير مريد لذلك ولا قاصد له، ولا متجاوز حد الضرورة فإن ربك الذي لم يحرم ذلك إلا لضرره غفور رحيم، فلا يؤاخذه بأكل ما يسد به مخمصته ويدفع عنه ضرر الهلاك.
والخلاصة : قل : لا أجد فيما أوحي إليّ من أخبار الأنبياء وشرائعهم، ولا فيما شرع على لساني ذكر أهمه في الآية التالية، ودليل التوقيت قوله في سورة آل عمران :﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ [ آل عمران : ٥٠ ] وقوله مخاطبا من يتبع الني صلى الله عليه وسلم منهم :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] ودليل كونه عقوبة لا لذاته قوله :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ].
وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت لعارض وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحمر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال :( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ) ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخنشي :( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ).
ثم بين سبحانه ما حرمه على بني إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فقال :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام والحرث.
قفى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.
أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ أي وعلى الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا كل ذي ظفر أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والأنعام والإوز والبط كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد.
﴿ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ﴾ أي إنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهي الثروب واحدها ثرب : وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش وشحوم الكلى.
والخلاصة : ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، ولم نحرم عليهم ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، والسبب في تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب كما ذكر في الفصل الثالث من سفر اللاويين فقد جاء فيه بعد التفصيل في قرابين السلامة من البقر والغنم ( كل الشحم للرب فريضة في أجيالكم في جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا الدم ).
﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم ﴾ أي إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك، وليس ذلك بالخبيث لذاته.
ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، وكان مظنة تكذيب المشركين له، لأنهم لا يؤمنون بالوحي ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم، أكده فقال :
﴿ وإنا لصادقون ﴾ أي وإنا لصادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، ولأن الكذب محال علينا، لأنه نقص فلا يصدر عنا.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرمته العرب في جاهليتها من الأنعام والحرث.
قفى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.
أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ﴾ هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدي، وإما لمشركي مكة.
فعلى الأول يكون المعنى : فإن كذبك اليهود وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة بأن رحمة الله واسعة حقا ولكن ذلك لا يقتضي أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها، قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة في الأمم وإن لم يطرد في الأفراد.
وعلى الثاني يكون المعنى : فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم، فلا تغتروا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم.
وفي هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله بتحريم ما حرموا على أنفسهم، كما أن فيه إطماعا لهم في رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم وآمنوا بما جاء به الرسول، فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات.
تفسير المفردات : الخرص : الحزر والتخمين ويراد به لازمه وهو الكذب.
المعنى الجملي : كان الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفي دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفي بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.
وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها ورد عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
الإيضاح :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ﴾ أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله ألا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر، وألا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم، وألا يشرك آباؤنا من قبلنا لما أشركنا ولا أشركوا، ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها لما حرمنا، ولكنه شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء ليقربونا إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها.
ونحو الآية قوله :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾ [ النحل : ٣٥ ] وقوله :﴿ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ].
وقد رد عليهم شبهتهم فقال :
﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ﴾ أي ومثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركي مكة لرسوله صلى الله عليه سلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله في الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم كذب الذين من قبلهم لرسلهم تكذيبا غير مبني على أساس من العلم.
والرسل صلوات الله عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا، وأيدهم الله بباهر الآيات، ولكن المكذبين لم ينظروا فيها نظرة إنصاف، بل أعرضوا عنها وأصروا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وأهلكهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر.
ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها وأمره بها لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم، لما استحقوا العقاب عليها، ولما قال إنه أخذهم بذنوبهم، وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ونحو ذلك مما جاء في كثير من الآيات.
فقوله :﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ برهان دال على صدق الرسل في دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم.
وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون فقال :
﴿ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ﴾ أي هل عندكم بما تقولون علم تعتمدون عليه وتحتجون به، فتخرجوه لنا لنفهمه ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم نتبين منها الراجح من المرجوح ؟
وفي هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ ما لا يخفى.
ثم قفى على ذلك ببيان حقيقة حالهم فقال :
﴿ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ أي إنكم لستم على شيء من العلم، بل ما تتبعون في عقائدكم وآرائكم في الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم.
وبعد أن نفى عنهم درجات العلم أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة فقال :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾.
المعنى الجملي : كان الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفي دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفي بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.
وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها ورد عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
الإيضاح :﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم : إن لم يكن عندكم علم في أمر دينكم، فإن لله وحده أعلى درجات العلم وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة وسننه في الاجتماع البشري، ولكن لا يهتدي بهذه الآيات إلا المستعد للهداية، المحب للحق، الحريص على طلبه، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها وحسدا للمبلغ الذي جاء بها، وجمودا على تقليد الآباء وإتباع الرؤساء.
ولو شاء سبحانه أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال لهداكم أجمعين فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه كما قال سبحانه عنهم :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ [ التحريم : ٦ ] ويجعل الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كما يجري الدم في أبدانكم، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بخلقه مستعدا لعمل الخير الشر والحق والباطل، ويرجح أحدهما على الآخر بالاختيار، والاختيار لأحدهما بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها، فإنه هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره.
ونحو الآية قوله :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] وقوله :﴿ من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ [ الأنعام : ٣٩ ] وقوله :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾ [ النحل : ٩٣ ] وقوله :﴿ ولو شاء الله ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ [ يونس : ٩٩ ].
وبعد أن نفى عنهم العلم وسجل عليهم إتباع الخرص والكذب، ليظهر لهم أنهم ليسوا على شيء يعتد به من العلم أمر رسوله صلى الله عليه سلم أن يطالب مشركي قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء في إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادعوه من المحرمات فقال :﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾.
المعنى الجملي : كان الكلام في سالف الآيات في تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفي دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفي بيان أعمالهم التي هي دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.
وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله المحيط علمه بكل شيء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها ورد عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
الإيضاح :﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾ أي احضروا شهداءكم الذين يخبرون عن مشاهدة وعيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه.
والخلاصة : عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدعون.
﴿ فإن شهدوا فلا تشهد معهم ﴾ أي فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود فلا تصدقهم ولا تقبل لهم شهادة، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به.
﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي ولا تتبع أهواء هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا المنزلة، وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية في الأنفس والآفاق.
﴿ والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ﴾ أي والذين هم مع جهلهم وإتباعهم للأهواء لا يؤمنون بالآخرة حتى يحملهم الإيمان بها على سماع الدليل والحجة إذا ذكروا بها، ويشركون بربهم ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه في جلب الخير والنفع ودفع الضر، إما استقلالا وإما بحمله الرب على ذلك وتأثيره في عمله وإرادته.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه لعباده جميع ما حرم عليهم من الطعام، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربه وافترائهم عليه.
ذكر في هذه الآيات أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر.
الإيضاح :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس : أقبلوا إلي القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلي، وهو وحده الذي له حق التحريم والتشريع وأنا مبلغ عنه بإذنه وقد أرسلني بذلك.
وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم ؛ لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله، سواء أكان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته، أو بما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون في التشريع فيحللون ويحرمون، فقال :
( ١ ) ﴿ ألا تشركوا به شيئا ﴾ أي ومما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات ألا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وأن عظمت في الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو في القدر كالملائكة والنبيين والصالحين، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله، مسخرة له بقدرته وإرادته :﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ﴾ [ مريم : ٩٣ ].
ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم.
( ٢ ) ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تما كاملا لا تدخرون فيه وسعا ولا تألون فيه جهدا وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت فما بالك بالعقوق الذي هو أكبر الكبائر وأعظم الآثام وقد جاء في القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهي عن الشرك بالمر بالإحسان إلى الوالدين.
وكفى دلالة على عظيم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته وجعله ثانيها في الوصايا، وأكده بما أكده به في سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره في سورة لقمان في قوله :﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ [ لقمان : ١٤ ] وما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال :( الصلاة لوقتها ) قلت : ثم أي ؟ قال :( بر الوالدين ). قلت : ثم أي ؟ قال :( الجهاد في سبيل الله ).
والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة، لا احترام الخوف والرهبة، لأن في ذلك مفسدة كبيرة في تربية الأولاد في الصغر، وإلجاء لهم إلى العقوق في الكبر، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم، وليس لهما أن يتحكما في شؤونهم الخاصة بهم، لا سيما تزويجهم بمن يكرهون، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك.
( ٣ ) ﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ أي ومما وصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر يحل بكم، فإن الله يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبعا لكم، وجاء في سورة الإسراء :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ﴾ [ الإسراء : ٣١ ].
وسر اختلاف الأسلوبين وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم في كل منهما ضمان رزق الكاسب، للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق، لا كما يتوهم بعضهم فيزهد في العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم.
( ٤ ) ﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ أي ولا تقربوا ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال كالزنى وقذف المحصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا. وقيل : الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والتفكير في تدبير المكايد الضارة وأنواع الشرور والمآثم.
وقد روي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بأسا بالزنى في السر ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنى في السر والعلانية، أي في هذه الآية وما أشبهها.
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : ما ظهر منها ظلم الناس، وما بطن منها الزنى والسرقة، أي لأن الناس يأتونهما في الخفاء. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا أحد أغير من الله ) من أجل ذلك حرم الفواحش : ما ظهر منها وما بطن ) رواه البخاري ومسلم.
( ٥ ) ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾ أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان، وقد جاء في الحديث :( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم :( من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا ).
وقوله ﴿ إلا بالحق ﴾ إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها كما جاء في الحديث :( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة : كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق ).
والخلاصة : إن قتلها بالحق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاني المحصن.
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ الوصية أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره، أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليعدكم لأن تعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.
وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة مصلحة.
ذكر في هذه الآيات أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر.
الإيضاح :( ٦ ) ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ أي ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصية إلا بالفعلة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره. ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده.
والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عنه، فإن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنة التأويل، فيبتعد عنها المتقي ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال التي لا تضر به أو يرجح نفعها على ضررها، كأن يأكل شيئا من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح ولولاه ما ربح.
﴿ حتى يبلغ أشده ﴾ والأشد مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة، ولبلوغه طرفان : أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة التي يخرج بها عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا، ونهايته سن الأربعين، والمراد هنا الأول كما قال الشعبي ومالك وآخرون : ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشر والثامنة عشر.
أي احفظوا مال اليتيم ولا تسمحوا له بتبذير شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ فسلموه إليه، وهذا نظير قوله :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ [ النساء : ٦ ].
والخلاصة : إن المراد النهي عن كل تعد على مال اليتيم وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا، إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيفا الرأي قليل الخبرة بشؤون المعاش يخدع كثيرا في المعاملات.
وقد كان الناس في الجاهلية لا يحترمون إلا القوة، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع في الوصية بالضعيفين : المرأة واليتيم.
والقوة التي يحفظ بها المرء ماله في هذا العصر هي اتزان الفكر، والرشد العقلي والأخلاقي بكثرة المران والتجارب في المعاملات، لكثرة الفسق والحيل ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين ويزينون لهم الإسراف في اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف الحياة ويهتمون فيها بأمر النسل.
وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم وظهور الرشد في المعاملات المالية بالاختبار كما سلف في سورة النساء من قوله :﴿ وابتلوا اليتامى ﴾ [ النساء : ٦ ] الآية.
( ٧ ) ﴿ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ﴾ أي وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم الله بقوله :﴿ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون٢ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ﴾ [ المطففين : ٢ ٣ ].
والخلاصة : أن الإيفاء يكون من الجانبين : حين البيع، وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه. وقوله :﴿ بالقسط ﴾ يدل على تحري العدل في الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع.
﴿ لا تكلف نفسا إلا وسعها ﴾ أي إن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشتري الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا.
والقاعدة الشرعية : أن التكليف إنما يكون بما في وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفاه فسدت أمورهم وقلت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لإتباعهم هذه الوصية وأمثالها.
وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طففوا الكيل والميزان فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم، كقوم شعيب وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب :﴿ و يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعتوا في الأرض مفسدين ﴾ [ هود : ٨٥ ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان :( إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم ).
( ٨ ) ﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾ أي وعليكم أن تعدلوا في القول إذا قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم، إذ بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين في العمران، وأساس في الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون في الأفعال كالوزن والكيل يكون في الأقوال.
ونحو الآية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ [ المائدة : ٨ ].
( ٩ ) ﴿ وبعهد الله أوفوا ﴾ أي وأوفوا بعهد الله، وهذا شامل لما يأتي :
( أ ) ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة الرسل.
( ب ) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ [ يس : ٦٠ ] وقال :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ﴾ [ طه : ١١٥ ].
( ج ) ما عاهده الناس عليه كما قال :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾ [ النحل : ٩١ ] وقال :﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ﴾ [ البقرة : ١٠٠ ].
( د ) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال في وصف المؤمنين :﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ].
فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين٧٥ فلما آتاهم من فضله بخلوا به ﴾ [ التوبة : ٧٥ ٧٦ ] الآية، وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة في المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع، وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد خاصم فجر ).
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ﴾ التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء في القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى :﴿ وما يتذكر إلا من ينيب ﴾ [ غافر : ١٣ ] وقال :﴿ سيذكر من يخشى ﴾ [ الأعلى : ١٠ ].
والخلاصة : إن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به في مثل قوله :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ٣ ] لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.
ذكر في هذه الآيات أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر.
الإيضاح :( ١٠ ) ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ أي وإن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم، هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه إلى مرضاة الله ونيل سعادة الدنيا والآخرة، حال كونه مستقيما لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فاتبعوه وحده، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهي كثيرة، فتتفرق بكم عن سبيله، بحيث يذهب كل منهم في سبيل ضلالة ينتهي بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
والخلاصة : إن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه، فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج وترجحون الهدى على الضلال.
أخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال :( خط رسول الله خطأ بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ).
وروى أحمد والترمذي والنسائي مرفوعا :( ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ).
وجعل الصراط المستقيم واحدا، والسبل المخالفة متعددة لأن الحق واحد والباطل وهو ما خالفه كثير، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية محرفة أو منسوخة.
ونهى عن التفرق في صراط الحق وسبيله، لأن التفرق في الدين الواحد وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون من خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال سبب لإضاعته، إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد مذهبها ويظهرها على مخالفيها، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص، والحق لا يكون وقفا على عالم معين ولا أتباعه، بل كل باحث يخطئ ويصيب، وذلك ما دل عليه العقل وأثبته الكتاب والسنة والإجماع.
ولما كان إتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم.
روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله :( ولا تتبعوا السبل ) قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.
﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾ التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت في القرآن في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج، وتفسر في كل موضوع بما يناسبه.
أي ذلك الأمر بإتباع صراط الحق المستقيم، والنهي عن سبل الضلالات والأباطيل، وصاكم ربكم به ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردي في الدنيا والآخرة ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة.
وقال الرازي : ختمت الآية الأولى بقوله :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ والثانية بقوله :﴿ لعلكم تذكرون ﴾، لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنى وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان.
وقال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد أمر سبحانه بإتباعه ونهى عن إتباع غيره من الطرق، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هي اتقاء النار، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات ؛ فمن ذلك :
( ١ ) ما أخرجه الترمذي وحسنه وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى قوله ﴿ تتقون ﴾.
( ٢ ) ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ) ثم تلا :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾، إلى ثلاث آيات ثم قال :( فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه ).
( ٣ ) ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال : قال الربيع بن خيثم :( أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى الله عليه وسلم بخاتمه ؟ قلت نعم، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى آخر الآيات ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين ودحض شبهات المعاندين، وقفى على ذلك بذكر الوصايا العشر في الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات.
نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب إتباعه، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب وعرفوا بالسماع خبره.
الإيضاح :﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾ في الكلام تقدير لفظ ﴿ قل ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء الناس : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب.. إلى آخره.
وقد تكرر في الكتاب الكريم قرنه بالتوراة لما بينهما من التشابه، فكل منهما شريعة كاملة، والإنجيل والزبور ليسا كذلك، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة، ولهم رسول يسمى موسى، وأنهم أهل علم، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتي اليهود التوراة، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم، وأعظم انتفاعا به، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأي.
ولما أخبر سبحانه عن القرآن بقوله :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] قفى بمدح التوراة، كما جاء مثل هذا في قوله :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ﴾ [ الأحقاف : ١٢ ] وقوله :﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] ثم قال :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] الآية.
وهذه الوصايا العشر التي في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات في السور المدنية، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، لكن وصايا القرآن أجمع للمعاني فهي تبلغ العشرات إذا فصلت.
وهذه الوصايا وما أشبهها هي أصول الأديان على ألسنة الرسل، يرشد إلى ذلك قوله :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ [ الشورى : ١٣ ].
وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق والتباعد عن الفواحش والمنكرات.
﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ أي آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في إتباعه واهتدى به، كما جاء في قوله :﴿ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ﴾ ( السجدة ٢٤ ) وقوله :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك إماما ﴾ ( البقرة ١٢٤ ).
وقد يكون المعنى : آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله ﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء ﴾ ( الأعراف ١٤٥ ).
﴿ وتفصيلا لكل شيء ﴾ أي مفصلا لكل شيء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها، مدنية كانت أو حربية أو جنائية، وهذا كقوله في صفة القرآن :﴿ وتفصيل كل شيء ﴾ [ يوسف : ١١١ ].
﴿ وهدى ورحمة ﴾ أي ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به، فينجيه الله من الضلال، وعمى الحيرة.
﴿ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ﴾ أي آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله تعالى وموضع الفوز في دار الكرامة تلك الدار التي أعدها الله لمن اهتدى بوحيه.
وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم فقال :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ﴾.
نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب إتباعه، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب وعرفوا بالسماع خبره.
الإيضاح :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ﴾ أي وهذا القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه كتاب عظيم شأنه، أنزلناه بواسطة الروح الأمين، كما أنزلنا الكتاب على موسى، وهو مبارك أي كثير الخير دينا ودنيا، جامع لأسباب الهداية الدائمة، وقد جاء بأكثر مما في كتاب من تفصيل لهدى البشر في معاشهم ومعادهم.
﴿ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ﴾ أي فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا ما نهاكم عنه، وحذركموه، لتكون رحمته مرجوة لكم في الدنيا والآخرة.
نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب إتباعه، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب وعرفوا بالسماع خبره.
الإيضاح :﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ﴾ الدراسة : القراءة والعلم كما جاء في قوله :﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ [ الأعراف : ١٦٩ ] أي علموا ما فيه ولم يأتوه بجهالة.
أي أنزلنا إليك الكتاب المرشد إلى توحيد الله، وطريق طاعته، وتزكية النفوس من أدران الشرك، لئلا تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وهما اليهود والنصارى، وقد كنا عن تلاوتهم للكتاب الذي أنزل عليهم غافلين، لا ندري ما هي لعدم فهمنا ما يقولون لأنها بلسان غير لساننا، ولأنهم أهله دوننا، ولأنا لم نؤمر بما فيه، ولغلبة الأمية علينا.
نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب إتباعه، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن في التشريع ويسير على نهجه في الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركي العرب وعرفوا بالسماع خبره.
الإيضاح :﴿ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾ أي ولئلا تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على هاتين الطائفتين قبلنا، فأمرنا بما فيه ونهينا عما نهى عنه، وبين لنا خطأ ما نحن فيه لكنا أهدى منهم، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة، وقد حكى الله عنهم مثل هذا في قوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] أي من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.
فرد الله عليهم بجواب قاطع لكل تعلة دافع لكل اعتذار فقال :
﴿ فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ﴾ البينة في اللغة ما بين الحق، أي فقد جاءكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين في العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشؤون الاجتماع، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته، إذ يجذب ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتم تفصيل، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه، وهو رحمة عامة لمن يستضيئون بنوره، وتنفذ فيهم شريعته، إذ هم يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا في عقائدهم وعباداتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات.
وبعد أن بين عظيم قدر هذا الكتاب بين سوء عاقبة من كذب به فقال :
﴿ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ﴾ صدف، أعرض : أي وإذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة والرحمة الشاملة فلا أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها، أو لم يكتف بذلك بل صرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمي قريش بمكة، فقد كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان.
ونحو الآية قوله :﴿ وهم ينهون عنه وينؤون عنه ﴾ ( الأنعام ٢٦ ).
﴿ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾ أي سنجزي الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصدف عنها، إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين الهداية.
ونحو الآية قوله :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾ [ النحل : ٨٨ ] أي زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب.
قفي على ذلك ببيان أنه لا أمل في إيمانهم البتة، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه في مستقبل أمرهم، وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله عليه.
الإيضاح :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ ينظرون أي ينتظرون، والمراد بالملائكة ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم، والمراد بإتيان الله إتيان ما وعد به من النصر لأحبابه وأوعد به أعداءه من العذاب في الدنيا كما جاء في قوله :﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ [ الحشر : ٢ ] الآية. وإتيان أمره هو جزاؤهم على نحو ما جاء في قوله :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ النحل : ٣٣ ].
والخلاصة : إنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة : مجيء الملائكة أو مجيء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم :﴿ لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾ [ الفرقان : ٢١[ وقولهم :﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] وقولهم : أو مجيء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] ونحو ذلك من الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم.
وفي الآية إيماء إلى تماديهم في تكذيب آيات الله، وعدم اعتدادهم بها وأنه لا أمل في إيمانهم البتة.
﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيئها، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال، إذ التكليف يستدعي الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر، وبذا يكون الثواب والعقاب.
وبعض هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبل خروج الروح، وبعضها لا يطلعون عليه إلا قبيل يوم القيامة حين مجيء أشراط الساعة.
وقد وردت أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف الذي لا يصلح وحده أن يكون حجة، أن المراد ببعض الآيات، هو طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا وتبس الجبال بسا، ويبطل هذا النظام الشمسي بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا. أخرج البخاري في تاريخه وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن كعب الأحبار قال :( إذا أراد الله أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب يريد المحور فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها ).
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ؛ فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ).
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا ( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض ).
﴿ قل انتظروا إنا منتظرون ﴾ أي قل لهم : انتظروا أيها المعاندون وما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام. إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعيده لكم، ونحو ذلك الآية قوله :﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ [ يونس : ١٠٢ ].
وفي هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وهو كقوله :﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون١٢١ وانتظروا إنا منتظرون ﴾ [ هود : ١٢١ ١٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن وصى سبحانه هذه الأمة على لسان رسوله بإتباع صراطه المستقيم، ونهى عن إتباع غيره من السبل، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم.
قفي على ذلك بتذكير هذه الأمة بما هي عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام، فيضيع الحق وتنفصم عرى الوحدة وتصبح بعد أخوة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم.
وقد ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى، فجعلوه أديانا مختلفة، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة، يتعادون ويتقاتلون فيه، وذهب بعض آخر إلى أنها نزلت في أهل البدع والفرق الإسلامية والمذاهب التي استحدثت فمزقت وحدة الأمة.
ولا مانع من الجمع بين الرأيين، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ] ثم بين أن رسوله بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب، فهو يحذر من صنيعهم، وينهى عن سلوك طريقهم، فمن اتبع سنتهم في هذا التفريق فالرسول بريء منه، كما هو بريء من أولئك المفرقين من سالفي الأمم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد أنزل عليه ﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ الآية :
وأخرج رواة التفسير بالمأثور عن أبي هريرة في قوله :﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ الآية. قال هم في هذه الأمة. وأخرج الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيره عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :( يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني برآء ) وليس المراد بنفي التوبة عنهم أنهم لا تقبل لهم توبة إذا ظهر لهم خطؤهم وعرفوا بدعتهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم، بل المراد أنهم لا يتوبون لزعمهم أنهم على الصواب، وسواهم على الباطل.
والخلاصة : إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل الكتاب، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم، ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة فالرسول منه بريء، إذ ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم، بل إذا اتصف المسلمون بمثل ما اتصفوا به كان حكمهم كحكمهم، لأن الله لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات والتفرق في الدين لأنهم مسلمون، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين، وخروجا من سنن المهتدين.
ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق في هذه الأمة في دينها وتبعه ضعفها في دنياها ترجع إلى أمور :
( ١ ) التنازع على الملك، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا.
( ٢ ) العصبية الجنسية والنعرة القومية في كل شعب وقبيل، إذ شمخ كل شعب بأنفه وأبى أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة، وأرفعها محتدا، فأنى له أن ينقاد لسواه ؟
( ٣ ) عصبية المذاهب والآراء في أصول الدين وفروعه، فأرباب المذاهب من الشيعة ذموا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية، ورجال الحديث تكلموا في أهل القياس.
( ٤ ) القول في الدين بالرأي، فإن كثيرا ممن يركن إليهم في الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة والتفقه في فهم الكتاب، فإذا عرضت له حادثة ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أفتى فيها بالرأي، وقد يكون مصادما للدليل النقلي أو لفتاوي الصحابة والتابعين إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشؤون المعيشة وأحوال الاجتماع، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة في الأزمنة المتعاقبة.
( ٥ ) دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين واتخذوها مرجعا في استنباط بعض الأحكام، والدين منها براء.
﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ أي إن الذين فرقوا دينهم فأقروا ببعض وكفروا ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، إذ تفرقوا فرقا وكفّر بعضهم بعضا، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ [ البقرة : ٨٥ ].
وقوله :﴿ لست منهم في شيء ﴾، أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم، والله يتولى جزاءهم، كما قال :﴿ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ أي إنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم والتفريق له بما اقتضت به سنة الله من ضعف المتفرقين وفشل المتنازعين، وتسليط الأقوياء عليهم، وإذاقة بعضهم بأس بعض كما بين ذلك سبحانه بقوله :﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ [ المائدة : ١٤ ] أي إنه بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدي أعدائهم في الدنيا يبعثهم في الآخرة، ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون في الدنيا من الاختلاف والتفرق إتباعا للأهواء ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء في النار وبئس القرار.
المعنى الجملي : بعد أن بين في السورة أصول الإيمان، وأقام عليها البراهين، وفند ما يورده الكفار من الشبهات، ثم ذكر في الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها.
بين هنا الجزاء العام في الآخرة على الحسنات وهي الإيمان والأعمال الصالحة، وعلى السيئات وهي الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الإيضاح :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ أي من جاء ربه يوم القيامة بالخصلة الحسنة من خصال الطاعات التي فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان فله عنده عشر حسنات أمثالها من عطائه غير المحدود.
وهذه العشر لا يدخل فيها ما وعد به من المضاعفة لمن يشاء على بعض الأعمال كالنفقة في سبيله، إذ قد وعد بالمضاعفة عليها دون قيد في قوله :﴿ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ﴾ [ التغابن : ١٧ ] ووعد بمضاعفة كثيرة في قوله :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] ووعد بالمضاعفة سبعمائة ضعف في قوله :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ].
وفي هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين في الصفات النفسية كالإخلاص في النية والاحتساب عند الله والإخفاء سترا على المعطى وتباعدا من الشهرة، والإبداء لحسن القدوة، وتحري المنافع والمصالح، وما يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء وحب الشهرة الباطلة والمن والأذى.
والخلاصة : إن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده، لا تكون حاله كمن يبذله طيبة به نفسه، مسرورة بتوفيق الله على عمل الخير ونيل ثواب الآخرة.
﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾ أي ومن جاء بالخصلة السيئة وعليها طابع الكفر، تكنفها الفواحش والمنكرات، فلا يجزي إلا عقوبة سيئة مثلها بحسب سننه تعالى في تأثير الأعمال السيئة في إفساد النفس وتدسيتها.
﴿ وهم لا يظلمون ﴾ الظلم : النقص من الشيء كما جاء في قوله تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ [ الكهف : ٣٣ ] أي إن كلا الفريقين فاعلي الحسنات والسيئات لا يظلم يوم الجزاء، لا من الله، لأنه منزه عن الظلم عقلا ونقلا فقد روى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال :( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) الحديث، ولا من غيره إذ لا سلطان لأحد من خلقه ولا كسب في ذلك اليوم يمكنه من الظلم ما يفعل الأقوياء الأشرار في الدنيا بالضعفاء، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال :( إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ).
والمراد من كتابة الله لها أمره الملائكة بكتابتها كما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعا قال :( يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ) وفي هذا الحديث بيان للسبب في كتابة السيئة حسنة، وأن ذلك إنما كان لمخالفة النفس بكفها عن عمل السيئة من أجل ابتغاء رضوان الله واتقاء سخطه وعذابه.
تفسير المفردات : قيما : أي يقوم به أمر الناس في معاشهم ومعادهم، حنيفا : أي مائلا عن الأديان الباطلة.
المعنى الجملي : لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم ـ جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل فيها ـ وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.
ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغي الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس في غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هي عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح :﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ﴾ أي قل أيها الرسول لقومك ولسائر البشر : إن ربي أرشدني بما أوحاه إليّ بفضله، إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اشتباه، يهدي سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه فتقولون :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : ٦ ].
﴿ دينا قيما ﴾ أي إن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي به يقوم أمر الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون.
﴿ ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل.
﴿ وما كان من المشركين ﴾ أي إنه منزه عن الشرك وما عليه المبطلون، وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين إنهم على ملة إبراهيم وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولليهود الذي يقولون : عزير ابن الله، وللنصارى الذين يقولون : عيسى ابن الله، وهذا كقوله :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ [ النساء : ١٢٥ ].
هذا الدين هو دين الإخلاص لله وحده، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله وقرره في جميع كتبه، وجعله ملة إبراهيم لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركو العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكانت قريش ومن لف لفها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادعوا إتباعه وإتباع موسى وعيسى عليهما السلام كما قال :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ].
المعنى الجملي : لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم ـ جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل فيها ـ وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.
ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغي الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس في غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هي عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح :﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ﴾ المراد بالصلاة : ما يشمل المفروض منها والمستحب، والنسك، العبادة، والناسك : العابد، وكثر استعماله في عبادة الحج، والمراد من كون محياه ومماته لله أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته وبذلها في سبيله، فيموت على ذلك كما يعيش.
والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين.
فينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، فيتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله، ويطلب الكمال في ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضي ربه، ولا يحرص على الحياة لذاتها، فلا يرهب الموت : فيمتنع عن الجهاد في سبيل الله، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل فيأخذ على أيدي أهل الجور ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وأفرد الصلاة بالذكر مع دخولها في النسك، لأن روحها وهو الدعاء وتعظيم المعبود وتوجه القلب إليه والخوف منه، مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم وصورهم وتماثيلهم.
والخلاصة : إنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه كان مشركا، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغي الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس في غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هي عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح :﴿ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾ أي لا شريك له في ربوبيته فيستحق أن يشركه في العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير في عبادته، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به، وترك ما نهى عنه.
وفي هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد في العقيدة، ثم انتقل إلى برهانه الأعلى، وهو توحيد الربوبية بما أمره به فقال :﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾.
المعنى الجملي : لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم ـ جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل فيها ـ وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.
ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغي الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس في غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هي عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح :﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ﴾ أي أغير الله خلق الخلق ورباهم أطلب ربا آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إليه، لينفعني أو يمنع الضر عني أو ليقربني إليه زلفى، وهو تعالى رب كل شيء مما عبد ومما لم يعبد فهو الذي خلق الملائكة والمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام كما قال :﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ [ الصافات : ٩٦ ].
وإذا كان الله هو الخالق والمدبر فكيف أسفه وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخلق الخلق أجمعين.
﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي ولا تكسب كل نفس إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى، بل تحمل كل نفس حملها فحسب كما قال :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] أي دون ما كسب أو اكتسب غيرها.
والخلاصة : إن الدين أرشدنا أن نجري على ما أودعته الفطرة في النفوس من أنه سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، والعمل يؤثر في النفس التأثير الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير الذي يدسيها ويفسدها إن كان سيئا، والجزاء مبني على هذا التأثير، فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره.
ومن كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به، فإن عليه مثل إثم من فعله، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله :( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) رواه مسلم.
وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء في سورة النجم :﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى٣٦ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ [ النجم : ٣٦ ٣٩ ].
وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح في المجتمع البشري وهادمة لأسس الوثنية، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، وهي وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم، ليعطيهم ما يبطلون في الدنيا بلا كسب ولا سعي من طريق الأسباب التي جرت بها سنته في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة، وإنقاذهم من عذابها.
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره لأنه في الحقيقة كأنه عمله إذ كان سببا فيه دعاء أولاده، وحجهم وتصدقهم عنه، وقضاؤهم لصومه كما ورد في الحديث :( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة.
ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب، وصح في السنة أن ولد الرجل من كسبه.
ومن هذا تعلم أن ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدعة غير مشروعة، وكذا إسقاط الصلاة، إذا لو كان لذلك أصل في الدين لما جهله السلف، ولو علموه لما أهملوا العمل به.
﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ أي ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب عمله وإرادته القديمين، ويضل ما كنتم تزعمون من دونه.
ونحو الآية قوله :﴿ إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ].
المعنى الجملي : لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم ـ جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصل فيها ـ وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.
ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغي الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس في غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هي عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾ أي إن ربكم الذي هو رب كل شيء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم قد سبقت، وفي سيرها عبر وعظات لمن ادكر وتدبر، وكذلك هو قد رفع بعضكم فوق بعض درجات في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، ليختبركم فيما أعطاكم أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك، ويبني الجزاء على العمل، إذ قد جرت سنته في أن سعادة الناس أفرادا وجماعات في الدنيا والآخرة أو شقاءهم فيهما تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم.
وجاء في معنى الآية قوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] وقوله :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : ٧ ] وقوله :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ﴾ [ محمد : ٣١ ].
﴿ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكب عن سنته، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون في الدنيا من الضرر في النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشؤون الاجتماعية، وهذا مطرد في الدنيا في ذنوب الأمم، وأكثري في ذنوب الأفراد، ومطرد في الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها.
وهو سبحانه على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين، غفور للتوابين رحيم بالمؤمنين المحسنين، إذ سبقت رحمته غضبه، ووسعت كل شيء، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، وقد يغفرها لمن تاب منها كما قال :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ﴾ [ الشورى : ٣٠ ].
نسأله تعالى أن يغفر لنا خطيئاتنا ويستر زلاتنا بمنه وكرمه إنه نعم المولى ونعم النصير.