مكية إلا الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ فمدنية وآياتها ١٦٥ نزلت بعد الحجر.
قال كعب أول الأنعام هو أول التوراة.
ﰡ
مكية إلا الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ فمدنية وآياتها ١٦٥ نزلت بعد الحجر (سورة الأنعام) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال كعب «١» : أول الأنعام هو أول التوراة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ جعل هنا بمعنى خلق، والظلمات: الليل، والنور النهار، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما، وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يسوون ويمثلون من قولك:
عدلت فلانا بفلان، إذا جعلته نظيره وقرينه. ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض، والظلمات والنور وكذلك قوله: ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك. وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور، وبعبدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي خلق أباكم آدم من طين ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الأجل الأوّل الموت، والثاني يوم القيامة وجعله عنده: لأنه استأثر بعلمه، وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت، ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع، لأن القضاء متقدم على الخلق
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يتعلق في السموات بمعنى اسم الله، فالمعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤]، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب، ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر: فيتعلق باسم فاعل محذوف، والمعنى على هذا قريب من الأوّل، وقيل: المعنى أنه
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية: إخبار قصد به تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما كان يلقى من قومه فَحاقَ أي أحاط بهم، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ الآية: حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم ثُمَّ انْظُرُوا قال الزمخشري: إن قلت أي فرق بين قوله: فانظروا وبين قوله: ثم انظروا؟ قلت: جعل النظر سببا عن السير في قوله: فانظروا. كأنه قال: سيروا لأجل النظر، وأما قوله: فسيروا في الأرض ثم انظروا: فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا، لمن ما في السموات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض، وفيه «إن رحمتي سبقت غضبي» «١»، وفي رواية: تغلب غضبي لَيَجْمَعَنَّكُمْ مقطوع مما قبله، وهو جواب لقسم محذوف، وقيل: هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره: أن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قيل: هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن، وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر، وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف، وقيل: منادى وهو باطل وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ عطف على قوله قل:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إقامة حجة على الكفار، ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي من هذه الأمة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته إلى الإسلام وَلا تَكُونَنَّ في الكلام حذف تقديره وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله، وقرئ يصرف «١» بفتح الياء وفاعله الله وَذلِكَ إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ معنى يمسسك: يصبك، والضر: المرض وغيره على العموم في جميع المضرات، والخير: العافية وغيرها على العموم أيضا، والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود، وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله، بمعنى أن الله أكبر شهادة، ثم يبتدئ على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، والأول أرجح لعدم الإضمار، والثاني أرجح لمطابقته للسؤال، لأنّ السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب، فلان وتقديره فلان أكبر، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإظهار معجزته الدالة على نبوّته وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل ببلغ ضمير القرآن، والمفعول محذوف يعود على من تقديره: ومن بلغه والمعنى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين، وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة، قال سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الآية: تقرير
فتنتهم معذرتهم، وقيل: كلامهم، وقرئ فتنتهم بالنصب «١» على خبر كان واسمها أن قالوا، وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ جحود لشركهم، فإن قيل: كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن، فيكتم قوم ويقر آخرون، ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر، لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال: إنهم جحدوا طمعا في النجاة، فختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الضمير عائد على الكفار، وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أكنة جمع كنان، وهو الغطاء، وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه، ومعنى الآية: أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة، وهي استعارة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قصصهم وأخبارهم، وهو جمع أسطار وأسطورة قال
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ هم عائد على الكفار، والضمير في عنه عائد على القرآن، والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان، وينأون هم عنه أي يبعدون، والنأي هو البعد، وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن أذاه، وهم مع ذلك يبعدون عنه، والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه: يحمي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسلم وفي قوله: ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جواب لو محذوف هنا، وفي قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع: أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا، ومعنى وقفوا حبسوا، قاله ابن عطية، ويحتمل أن يريد بذلك إذا ادخلوا النار، وإذا عاينوها وأشرفوا عليها، ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى كأنه ماض يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ قرئ «١» برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني، ومثّله سيبويه بقولك: دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود، ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد، وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم، وقيل: هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر، وهذان القولان بعيدان، فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب، وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، ولا يصح أن يرجع إلى قولهم: يا ليتنا نردّ، لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ تقرير لهم وتوبيخ قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى
على ظهورهم، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن، إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون: قولهم إنه ساحر، شاعر، كاهن فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ من قرأ بالتشديد فالمعنى: لا يكذبونك معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف «١»، فقيل: معناه لا يجدونك كاذبا، يقال: أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا، كما يقال: أحمدته إذا وجدته محمودا، وقيل: هو بمعنى التشديد، يقال:
كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد، وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به، وأنه قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدا لصادق، ولكني أحسده على الشرف وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ أي: ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الآية: تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحضّ له على الصبر، ووعد له بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده لرسله كقوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات:
١٧٢]، وفي هذا تقوية للوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم، وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر، وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف، وقيل هو المجرور
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الآية:
مقصودها حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصبر، والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر، فإنه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم كان شديد الحرص على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها، فافعل وأنت لا تقدر
أحدهما لا يعلمون أن الله قادر، والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد، فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب بِجَناحَيْهِ تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال: طائر للسعد والنحس أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق، والحياة والموت، وغير ذلك، ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين: أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى، فكأنه يقول: تفكروا في مخلوقاته، ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات، والآخر: تنبيه على البعث، كأنه يقول: جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم، وهو أظهر لقوله بعده: ثم إلى ربهم يحشرون
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما غفلنا، والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، والكلام
وعيد وتهديد، والبغتة ما لم يتقدم لهم شعور به، والجهرة ما بدت لهم مخايله، وقيل بغتة بالليل، وجهرة بالنهار
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الآية: أي لا ادعى شيئا منكرا
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية: نزلت في ضعفاء المؤمنين. كبلال، وعمار ابن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وخباب وصهيب، وأمثالهم، وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك، فنزلت هذه الآية بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قيل: هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس وكانت غدوة وعشية، وقيل: هي عبارة عن دوام الفعل، ويدعون هنا من الدعاء وذكر الله أو بمعنى العبادة يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إخبار عن إخلاصهم لله وفيه تزكية لهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الآية قيل: الضمير في حسابهم للذين يدعون، وقيل: للمشركين، والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم، ولا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، والأوّل أرجح، لقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: ٢٩] وقوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: ١١٣]، والمعنى على هذا أنّ الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم فَتَطْرُدَهُمْ هذا جواب النفي في قوله ما عليك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ هذا جواب النهي في قوله ولا تطرد أو عطف على فتطردهم وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين، وذلك أن الكفار كانوا يقولون أهؤلاء العبيد والفقراء منّ الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشراف أغنياء، وكان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد بذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ردّ على الكفار في قولهم المتقدّم
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هم الذين نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم بل أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم وأن يؤنسهم بما بعد هذا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي حتّمها وفي الصحيح: إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي «١»
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي إذا نمتم، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي
(٢). يقص: هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم. والآخرون: يقضي.
إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، والمعنى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تقعد بعد أن تذكر النهي
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الذين يتقون هم المؤمنون والضمير في حسابهم للكفار والمستهزئين، والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإضلالهم، وقيل: إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين، لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب
تهلك وهو في موضع مفعول من أجله أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي: وإن تعط كل فدية لا يؤخذ منها قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة وتوبيخ للكفار وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي، ثم استعير في المعاني، وهذه جملة معطوفة على أندعو، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد: أي كيف نرجع مشبهين من استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي، ومعنى استهوته الشياطين: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق فهو: استفعال من هوى يهوى في الأرض إذا ذهب فيها، وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى ومثل استذل بمعنى أذل حَيْرانَ أي ضال عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي لهذا المستهوي
وَأَنْ أَقِيمُوا عطف على لنسلم، أو على مفعول أمرنا قَوْلُهُ الْحَقُّ مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول، وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر، وهو فاعل كن أي حين يقول لشيء كن:
فيكون ذلك الشيء يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ظرف لقوله: لَهُ الْمُلْكُ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ٦٦] وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ خبر ابتداء مضمر لِأَبِيهِ آزَرَ هو اسم أبي إبراهيم، فإعرابه عطف بيان أو بدل، ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح، وقرئ «١» بالرفع على النداء، وقيل: إنه اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ، فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له، أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وذلك بعيد، ولا يبعد أن يكون له اثنان نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قيل: إنه فرج الله السموات، والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه وَلِيَكُونَ متعلق بمحذوف تقديره: وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي ستره يقال: جنّ عليه الليل وأجنه رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف. وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفا من نمروذ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي، ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجة وردّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحدا منها إلها، لقيام الدليل على حدوثها. وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده، وقوله: هذا ربي قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم، ثم أقام عليهم الحجة بقوله. لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ: أي لا أحب عبادة المتغيرين لأن التغير دليل على الحدوث، والحدوث ليس من صفة الإله، ثم استمرّ على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس، فلما أوضح البرهان، وأقام عليهم الحجة، جاهرهم بالبراءة من باطلهم، فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، ثم أعلن لعبادته لله وتوحيده له فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ووصف الله تعالى بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك، فإن قيل: لم احتج بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ فالجواب أنه أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي في الإيمان بالله وفي توحيده، والأصل أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام أحدهما في الآخر، وبالتخفيف «١» على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ما هنا الذي ويريد بها الأصنام، وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر، فقال: لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء منقطع بمعنى لكن: أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء؟ وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف، وهو إشراككم بالله وأنتم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ثم أوقفهم على ذلك بقوله فأيّ الفريقين أحق بالأمن؟ يعني فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، ثم أجاب عن السؤال بقوله
الَّذِينَ آمَنُوا الآية وقيل: إن الذين آمنوا: استئناف وليس من
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، في اللطف بعباده والرحمة لهم إذ أنكروا بعثه للرسل وإنزاله للكتب، والقائلون هم: اليهود بدليل ما بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الضيف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى، وقيل: القائلون قريش،
من تقدّم ذكره من اليهود والكذابين والمستهزئين، فتكون اللام للعهد، وأعم من ذلك فتكون للجنس باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم:
أخرجوا أنفسكم، وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدّة في قبض الأرواح الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه أو الوقت الممتد من حينئذ إلى الأبد الْهُونِ الذلة فُرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم أو عن شركائكم، والأول يترجح لقوله:
تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم من الأموال والأولاد، ويترجح الثاني بقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تفرق شملكم ومن قرأه بالرفع «١» أسند الفعل إلى الظرف واستعمله استعمال الأسماء، ويكون البين بمعنى الفرقة، أو بمعنى الوصل، ومن قرأه بالنصب: فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف تقديره تقطع الاتصال بينكم
فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي: يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها وقيل: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة، والأول أرجح لعمومه في أصناف
شُرَكاءَ الْجِنَّ نصب الجنّ على أنه مفعول أول لجعلوا وشركاء مفعول ثان، وقدم لاستعظام الإشراك، أو شركاء مفعول أول، والله في موضع المفعول الثاني والجنّ بدل من شركاء والمراد بهم هنا: الملائكة، وذلك ردا على من عبدهم وقيل: المراد الجن، والإشراك بهم طاعتهم وَخَلَقَهُمْ الواو للحال، والمعنى الرد عليهم: أي جعلوا لله شركاء، وهو خلقهم، والضمير عائد على الجنّ، أو على الجاعلين، والحجة قائمة على الوجهين وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ أي اختلقوا وزوّروا، والبنين: قول النصارى في المسيح، واليهود في عزير، والبنات قول العرب في الملائكة بِغَيْرِ عِلْمٍ أي قالوا ذلك بغير دليل ولا حجة بل مجرد افتراء بَدِيعُ ذكر معناه في [البقرة: ١١٧] ورفعه على أنه خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره: أنى يكون، وفاعل تعالى، والقصد به الرد على من نسب لله البنين والبنات، وذلك من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده، والله تعالى متعال عن الأجناس، لأنه مبدعها، فلا يصح أن يكون له ولد والآخر: أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة أي من كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعني في الدنيا وأما في الآخرة، فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله: إلى ربها ناظرة، وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة، لا تحتمل التأويل، وقالت الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلا، لأن موسى سألها من الله، ولا يسأل موسى ما هو محال، وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم ربه ليلة الإسراء أم لا «١» وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قال بعضهم: الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى غايته، فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم، ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله: وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء، وهو يدرك الأبصار قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ جمع بصيرة، وهو نور القلب، والبصر نور العين، وهذا الكلام على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنا عليك بحفيظ
إن كان معناه: أعرض عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم، وإن كان عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ. وكذلك ما أنا عليكم بحفيظ وبوكيل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تسبوا آلهتهم فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله، واستدل المالكية بهذا على سدّ الذرائع قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هي بيد الله لا بيدي وَما يُشْعِرُكُمْ أي ما يدريكم، وهو من الشعور بالشيء، وما نافية أو استفهامية أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ من قرأ بفتح أنها فهو معمول يشعركم: أي ما يدريكم أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها، نحن نعلم ذلك وأنتم لا تعلمونه وقيل: لا زائدة، والمعنى ما يشعركم أنهم يؤمنون، وقيل:
أن هنا بمعنى لعل فمن قرأ بالكسر فهي استئناف إخبار وتم الكلام في قوله: وما يشعركم أي ما يشعركم ما يكون منهم فعلى القراءة بالكسر يوقف على ما يشعركم. وأما على القراءة بالفتح فإن كانت مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى لعل فأجاز بعض الناس الوقف. ومنعه شيخنا أبو جعفر بن الزبير، لما في لعل من معنى التعليل وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أي نطبع عليها ونصدها عن الفهم فلا يفهمون كَما لَمْ يُؤْمِنُوا الكاف للتعليل أي: نطبع على أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على أنهم لا يؤمنون به أول مرة، ويحتمل أن تكون للتشبيه، أن نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية: رد عليهم في قسمهم أنهم لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها أي: لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها، وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء «٢» أي معاينة فنصبه على الحال، وقرئ بضمتين «٣»، ومعناه مواجهة: كقوله قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: ٢٦]، وقيل: هو جمع قبيل بمعنى كفيل، أي
(٢). قراءة نافع وابن عامر.
(٣). وهي قراءة الباقين.
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير لمصدر ولا تأكلوا وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ سببها أن قوما من الكفار قالوا: إنا نأكل ما قتلناه، ولا نأكل ما قتل الله يعنون الميتة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الموت هنا عبارة عن الكفر، والإحياء عبارة عن الإيمان، والنور: نور الإيمان، والظلمات الكفر فهي استعارات وفي قوله: مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ مطابقة وهي من أدوات البيان، ونزلت الآية في عمار بن ياسر، وقيل في عمر بن الخطاب والذي في الظلمات أبو جهل، ولفظها أعم من ذلك كَمَنْ مَثَلُهُ مثل هنا بمعنى صفة، وقيل زائدة، والمعنى كمن هو وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ أي كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية، وإنما ذكر الأكابر، لأن غيرهم تبع لهم والمقصود تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم مُجْرِمِيها إعرابه مضاف إليه عند الفارسي وغيره وقال ابن عطية وغيره: إنه مفعول أول بجعلنا وأكابر مفعول ثان مقدم وهذا جيد في المعنى ضعيف في العربية، لأن أكابر جمع أكبر وهو من أفعل فلا يستعمل إلا بمن أو بالإضافة وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ الآية: قائل هذه المقالة أبو جهل، وقيل الوليد بن المغيرة، لأنه قال: أنا أولى بالنبوة من محمد اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رد عليهم فيما طلبوه، والمعنى أن الله علم أن محمدا صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها فحرمهم إياها، وفي الآية من أدوات البيان الترديد لكونه ختم كلامهم باسم الله ثم رده في أول كلامه صَغارٌ أي ذلة يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ شرح الصدر وضيقه وحرجه: ألفاظ مستعارة ومن قرأ حرجا «١» بفتح الراء فهو مصدر وصف به كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء، وذلك غير ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان وأصل يصعد المشدد يتصعد، وقرئ بالتخفيف «٢»
دارُ السَّلامِ الجنة، والسلام هنا يحتمل أن يكون اسم الله، فأضافها إليه:
(٢). قرأ ابن كثير بالتخفيف: يصعد. وقرأ أبو بكر: يصّاعد.
الاستثناء من النار، وهو دخولهم الزمهرير، وقيل: ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج، وإنما هو على وجه الأدب مع الله، وإسناد الأمور إليه نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم وليا لبعض، وقيل: يتبع بعضهم بعضا في دخول النار، وقيل: نسلط بعضهم على بعض لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
تقرير للجن والإنس، فقيل: إن الجن بعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية، وقيل: إنما الرسل من الأنس خاصة، وإنما قال: رسل منكم لأنه جمع الثقلين في الخطاب شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
لا تنافي بينه وبين قولهم: ما كنا مشركين، لما تقدّم هناك فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ فالجواب أن قولهم: شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم، وقوله: شهدوا على أنفسهم ذل لهم وتقبيح لحالهم ذلِكَ خبر ابتداء مضمر تقديره الأمر ذلك أو مفعول لفعل مضمر تقديره فعلنا ذلك، والإشارة إلى بعث الرسل أَنْ لَمْ يَكُنْ تعليل لبعث الرسل، وهو في موضع مفعول من أجله، أو بدل من ذلك بِظُلْمٍ فيه وجهان: أحدهما أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلما إذ لم ينذرهم، فهو كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: ١٥]، والآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا، دون أن ينذرهم، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى وغفلتهم عدم إنذارهم، حكى الوجهين ابن عطية والزمخشري، والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة، ولا يصح على مذهب أهل السنة، لأن الله لو أهلك عباده
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ منازل في الجزاء على أعمالهم من الثواب والعقاب مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ أي من ذرية أهل سفينة نوح أو من كان قبلهم إلى آدم اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الأمر هنا للتهديد، والمكانة التمكن فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد مَنْ تَكُونُ لَهُ يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء عاقِبَةُ الدَّارِ أي الآخرة أو الدنيا، والأول أرجح لقوله: عُقْبَى الدَّارِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد: ٢٢] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الضمير في جعلوا لكفار العرب. قال السهيلي: هم حيّ من خولان، يقال لهم: الأديم «١» كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم. ومعنى ذرأ: خلق وأنشأ، ففي ذلك ردّ عليهم، لأن الله الذي خلقها وذرأها: هو مالكها لا رب غيره بِزَعْمِهِمْ أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع، وأكثر ما يقال الزعم: في الكذب، وقرئ بفتح الزاي والكسائي بالضم وهما لغتان فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ الآية كانوا إذا هبت الريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه، وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردّوه، وإذا أصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم، قربانا إلى الأصنام. وشركاؤهم هنا هم: الشياطين، أو القائمون على الأصنام. وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل، ونصب قتل على أنه مفعول وخفض أولادهم بالإضافة ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين، والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل، وقرأ ابن عباس «٢» بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل، وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، وفصل بين المضاف والمضاف
(٢). وابن عامر.
حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، والآخر أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد، وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار، وقيل: حقه ما يصدق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر، وقيل: هو ما يسقط من السنبل، والأمر على هذا للندب حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات، والحمولة الكبار، والفرش الصغار: كالعجاجيل جمع عجل والفصلان وقيل: الحمولة الإبل لأنها
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا، وسماها أزواجا، لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يريد الذكر والأنثى، وكذلك فيما بعده قُلْ آلذَّكَرَيْنِ يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز، ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن، والأنثى من المعز، وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ تعجيز وتوبيخ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني في تحريم ما لم يحرم الله، وذلك إشارة إلى العرب في تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها.
قُلْ لا أَجِدُ الآية تقتضي حصر المحرمات فيما ذكر، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا كلحوم الحمر الأهلية فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب فلا تقتضي الحصر، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر إنما نهى عنه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم أَوْ فِسْقاً معطوف على المنصوبات قبله، وهو ما أهلّ به لغير الله سماه فسقا لتوغله في الفسق، وقد تقدم الكلام على هذه المحرمات في [البقرة: ١٧٣] كُلَّ ذِي ظُفُرٍ هو ماله إصبع من دابة وطائر قاله الزمخشري وقال ابن عطية: يراد به الإبل والأوز والنعام ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، أو له ظفر وقال الماوردي مثله، وحكى النقاش عن ثعلب:
أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر، وما يصيد فهو ذو مخلب، وهذا غير مطرد، لأن الأسد ذو ظفر إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني ما في الظهور والجنوب من الشحم أَوِ الْحَوايا هي المباعر، وقيل: المصارين والحشوة ونحوهما مما يتحوّى في البطن، وواحد حوايا حوية على وزن فعيلة فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة وصحائف، وقيل: واحدها حاوية على وزن فاعلة فحوايا على هذا فواعل: كضاربة وضوارب، وهو معطوف على ما في قوله: إلا ما حملت ظهورهما، فهو من المستثنى من التحريم، وقيل: عطف على الظهور، فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وقيل: عطف على الشحوم، فهو من المحرم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد ما في جميع الجسد وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي فيما أخبرنا به
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم، وهذا كما تقول عند رؤية معصية: ما أحلم الله! تريد لإمهاله عن مثل ذلك ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بقوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا تغتروا بسعة رحمته، فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا أو في الآخرة سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الآية: معناها أنهم يقولون: إن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإرادة الله له، وتلك نزغة جبرية، ولا حجة لهم في ذلك، لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله، ولا يحللوا ما حرم الله ولا يحرموا ما حلل الله، والإرادة خلاف التكليف، ويحتمل عندي أن يكون قولهم: «لو شاء الله» قولا يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن، كقولك إذا ندمت على شيء: لو شاء الله ما كان هذا.
أي يتمنى أن ذلك لم يكن، ويؤيد هذا أنه حكى قولهم بأداة الاستقبال، وهي السين، فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل وهي الآخرة قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ توقيف لهم وتعجيز قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لما أبطل حجتهم أثبت حجة الله ليظهر الحق ويبطل الباطل هَلُمَّ قيل: هي بمعنى هات فهي متعدية، وقيل: بمعنى أقبل فهي غير متعدية، وهي عند بعض العرب فعل يتصل به ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث، وعند بعضهم:
اسم فعل فيخاطب بها الواحد والاثنان والجماعة والمؤنث على حد سواء، ومقصود الآية تعجيزهم عن إقامة الشهداء فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي إن كذبوا في شهادتهم وزوروا فلا تشهد بمثل شهادتهم..
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أمر الله نبيه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أنه يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم عليهم وذكر في هذه الآيات المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع ولم تنسخ قط في ملة، وقال ابن عباس: هي الكلمات [أو الوصايا العشر] التي أنزل الله على موسى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً قيل: أن «١» هنا حرف
قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه على وجه التفسير له والبيان، فقال: أن لا تشركوا به شيئا، أي وصاكم ألا تشركوا به شيئا ووصاكم بالإحسان بالوالدين، ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم، فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين وما بعد ذلك ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا: أن الآيات اشتملت على أوامر: كالإحسان بالوالدين وقول العدل والوفاء في الوزن، وعلى نواهي: كالإشراك وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظا يجمع الأوامر والنواهي، لأنها أجملت فيه، ثم فسرت بعد ذلك، ويصلح لذلك لفظ الوصية لأنه جامع للأمر والنهي، فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك، وإن لم يتأول على ما ذكرناه:
لزم في الآية إشكال، وهو عطف الأوامر على النواهي، وعطف النواهي على الأوامر، فإن الأوامر طلب فعلها، والنواهي طلب تركها، وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل والترك.
وتحتمل الآية عندي تأويلا آخر، وهو: أن يكون لفظ التحريم على ظاهره، ويعم فعل المحرمات، وترك الواجبات لأن ترك الواجبات حرام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ الإملاق الفاقة، ومن هنا للتعليل تقديره: من أجل إملاق، وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة، لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قيل ما ظهر: الزنا، وما بطن: اتخاذ الأخدان والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فسره قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
النهي عن القرب يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة، لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال، فالنهي عن أكله أولى وأحرى. والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
هو البلوغ مع الرشد، وليس المقصود هنا السن وحده، وإنما المقصود معرفته بمصالحه لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
لما أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل.
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة، وأنّ بفتح الهمزة والتشديد «٢» عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله: أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما، وقرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح والتخفيف على العطف، وهي على هذا مخففة من الثقيلة وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة، ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة، وفي الحديث «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خط خطا، ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» «٣» فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده أبو الحسن أحمد بن محمد البزي
ثُمَّ آتَيْنا معطوف على وصاكم به، فإن قيل:
فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية، فكيف عطفه عليها بثم؟ فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب، وقيل: إنها هنا لترتيب الأخبار والقول، لا لترتيب الزمان تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فيه ثلاث تأويلات: أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى، ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي،
(٢). هي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأما بالكسر فقراءة حمزة والكسائي وبالتخفيف قراءة ابن عامر.
(٣). رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص ٥٤٤.
كراهة أن تقولوا عَلى طائِفَتَيْنِ أهل التوراة والإنجيل وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا، وأن هنا مخففة من الثقيلة فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ إقامة حجة عليهم صَدَفَ أي أعرض هَلْ يَنْظُرُونَ الآية:
تقدّمت نظيرتها في [البقرة: ٢١٠] بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها، فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص، فقوله: لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات، ثم تاب إذا ظهرت: لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ قُلِ انْتَظِرُوا وعيد إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ هم اليهود والنصارى، وقيل أهل الأهواء والبدع، وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله ومن تلك الواحدة؟ قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه «١»، وقرئ فارقوا أي تركوا وَكانُوا شِيَعاً جمع شيعة أي متفرّقين كل فرقة تتشيع لمذهبها لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي أنت بريء منهم عَشْرُ أَمْثالِها فضل عظيم على العموم في الحسنات، وفي العاملين، وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد دِيناً قِيَماً بدل من موضع إلى صراط مستقيم،
وَنُسُكِي أي عبادتي وقيل: ذبحي للبهائم، وقيل:
حجي، والأول أعم وأرجح وَمَحْيايَ وَمَماتِي «٢» أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي لِلَّهِ أي خالصا لوجهه وطلب رضاه، ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له: أي لا أريد بأعمالي غير الله، فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء، ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر وَبِذلِكَ أُمِرْتُ إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأنه صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا تقرير وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ردّ على الكفار لأنهم قالوا له: أعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت هذه الآية: أي ليس كما قلتم، وإنما كسب كل نفس عليها خاصة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ألا يحمل أحد ذنوب أحد، وأصل الوزر الثقل، ثم استعمل في الذنوب خَلائِفَ جمع خليفة: أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه، والخطاب على هذا لجميع الناس، وقيل: لأمة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ليختبر شكركم على ما أعطاكم، وأعمالكم فيما مكنكم فيه إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ جمع بين التخويف والترجية، وسرعة عقابه تعالى: إما في الدنيا بمن عجل أخذه، أو في الآخرة لأن، كل آت قريب، ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته.
(٢). محياي: قرأها نافع بتسكين الياء والباقون بفتحها.