مكية إلا من آية ١٦٣ إلى غاية آية ١٧٠
فمدنية وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص
ﰡ
مكية إلا من آية ١٦٣ إلى غاية آية ١٧٠ فمدنية وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص (سورة الأعراف) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك، وقيل: الحرج هنا الشك، فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين [آل عمران/ ٦٠] لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل وَذِكْرى منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى، لأن الذكر بمعنى التذكير، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا، وما زائدة للتوكيد أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا قيل: إنه من المقلوب تقديره: جاءها بأسنا فأهلكناها، وقيل: المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء، ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلف، والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى: بائتين أي بالليل، وقائلون: من القائلة: أي بالنهار، وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار، وأو هنا للتنويع دَعْواهُمْ أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون، وقيل: المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أسند الفعل إلى الجار والمجرور، ومعنى الآية: أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، ويسأل الرسل عما أجيبوا به فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والأمم وَالْوَزْنُ يعني وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي يكذبون بها ظلما خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قيل: المعنى أردنا خلقكم وتصويركم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل: خلقنا أباكم آدم ثم صورناه، وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة للتوكيد إِذْ أَمَرْتُكَ استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود، وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود فَاهْبِطْ مِنْها أي من السماء قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعليل، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره:
أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، وما مصدرية، وقيل: استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر صِراطَكَ يريد: طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية: أي من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه، وقال ابن عباس: من بين أيديهم الدنيا، ومن خلفهم الآخرة، وعن أيمانهم الحسنات، وعن شمائلهم السيّئات مَذْؤُماً من ذأمه بالهمز إذا ذمه مَدْحُوراً أي مطرودا حيث وقع فَوَسْوَسَ إذا تكلم كلاما خفيا يكرره، فمعنى وسوس لهما: ألقى لهما هذا الكلام لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس، أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه الشَّجَرَةِ ذكرت في [البقرة: ٣٥] إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي كراهة أن تكونا ملكين، واستدل به من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقرئ ملكين بكسر اللام «١»، ويقوي هذه القراءة قوله: وملك لا يبلى وَقاسَمَهُما أي حلف لهما: إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه
فَدَلَّاهُما أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ أي غرّهما بحلفه لهما لأنهما ظنّا أنه لا يحلف كاذبا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي زال عنهما اللباس، وظهرت عوراتهما، وكان لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر، وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به وَناداهُما رَبُّهُما يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك، أو بغير واسطة رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة، وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها اهْبِطُوا وما بعده مذكور في البقرة فِيها تَحْيَوْنَ أي في الأرض لِباساً أي الثياب التي تستر، ومعنى أنزلنا خلقنا، وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة رِيشاً أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر وَلِباسُ التَّقْوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه، وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع وشبهها، وقرئ بالرفع «١» على الابتداء أو خبره الجملة، وهي: ذلك خير ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى ما أنزل من اللباس، وهذه الآية واردة على وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني في غالب الأمر، وقد استدل به من قال: إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة، فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قيل: هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء، ويحتمل العموم في الفواحش قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما: تقليد آبائهم، والآخر: افتراؤهم على الله
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ قيل: المراد إحضار النية، والإخلاص لله،
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ
(٢). خالصة بالضم هي قراءة نافع وبالنصب قرأ الباقون.
نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع، وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله: نادى أصحاب الجنة، ونادى أصحاب الأعراف، ونادى أصحاب النار، وغير ذلك هَدانا لِهذا إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأن قد وجدنا، وأن لعنة، وأن سلام: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير لمعنى القول
ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب
قال ابن عباس: هو تل بين الجنة والنار، وقيل: سور الجنة رِجالٌ هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث: أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة ولا النار، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم، فاستشهدوا، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم، ونجوا من النار للشهادة «١» يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم، أو غير ذلك من العلامات وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني من الكفار الذين في النار، قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ جَمْعُكُمْ يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق، فما ها هنا مصدرية وما في قوله «ما أغنى» استفهامية أو نافية أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا، وقيل: هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ دليل على أنّ الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأطعمة والأشربة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم كَما نَسُوا الكاف للتعليل وَما كانُوا عطف على كما نسوا: أي لنسيانهم وجحودهم
جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره، وتأوّله قوم بمعنى: قصد كقوله: ثم استوى إلى السماء، ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش، وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى استولى بالملك والقدرة، و [القول] الحق:
الإيمان به من غير تكييف، فإنّ السلامة في التسليم، ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة، وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة، وجعفر الصادق، والحسن البصري، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلحق الليل بالنهار، ويحتمل الوجهين، هكذا قال الزمخشري، وأصل اللفظة من الغشاء، أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي سريعا، والجملة في موضع الحال من الليل أي طلب الليل النهار فيدركه أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قيل: الخلق المخلوقات، والأمر مصدر أمر يأمر، وقيل: الخلق مصدر خلق، والأمر واحد الأمور: كقوله: إلى الله تصير الأمور، والكل صحيح تَبارَكَ من البركة، وهو فعل غير منصرف لم تنطق له العرب بمضارع تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطمعا، وخفية من الإخفاء، وقرئ خيفة من الخوف الْمُعْتَدِينَ المجاوزين للحد، وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط فيه وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا، كما قال الله تعالى:
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: ٥٧] فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدّة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: ٤٩- ٥٠] «١» ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث، لو وزن خوف المؤمن
واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث درجات: الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور، والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة: بالرحم أو الترحم أو العفو، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب، أو على تقدير النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها
الرِّياحَ بُشْراً قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر، وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة، وإفرادها إذا كانت للعذاب، ومنه ورد في الحديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» «٢» وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو على هذا مصدر في موضع الحال، وقرئ بضمها وهو جمع نشر، وقيل: جمع منشور، وقرئ بضم النون وإسكان الشين نشر وهو تخفيف من الضم: كرسل ورسل، وقرئ بالباء «٣» في موضع النون وهو من البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قبل المطر أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا لأنها تحمل الماء فتثقل به سُقْناهُ الضمير للسحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: لا نبات فيه من شدّة القحط، وكذلك معناه حيث وقع فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ الضمير للسحاب أو البلد، على أن تكون الباء ظرفية كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تمثيل لإخراج الموتى من القبور، وبإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في
(٢). عزاه الإمام النووي في الأذكار للإمام الشافعي في كتابه الأم بسنده إلى ابن عباس.
(٣). وهي قراءة عاصم وقرأ نافع وغيره نشرا وقرأ غيرهم: نشرا.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ هو الكريم من الأرض الجيد التراب وَالَّذِي خَبُثَ بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها بِإِذْنِ رَبِّهِ عبارة عن السهولة والطيب، والنكد بخلاف ذلك، فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، أو تكون تمثيلا للقلوب، فقيل: على هذا الطيب:
قلب المؤمن، والخبيث: قلب الكافر. وقيل: هما للفهيم والبليد مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي غيره بالخفض حيث وقع على اللفظ، وقرأ غيره بالرفع على الموضع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم الْمَلَأُ أشراف الناس لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال، لأن الضلالة أخص من الضلال، كما إذا قيل لك عندك تمر، فتقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي أُبَلِّغُكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف «١»، والمعنى واحد، وهو في وضع رفع صفة لرسول أو استئناف أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من صفاته ورحمته وعذابه أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قال: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم: أي على لسان رجل منكم فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه والتقدير: استقروا معه في الفلك، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه عَمِينَ جمع أعمى وهو من عمى القلب أَخاهُمْ أي واحد من قبيلتهم، وهو عطف على نوحا، وهودا بدل منه أو عطف بيان، وكذلك أخاهم صالحا وما بعده، وما هو مثله حيث وقع الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيّد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد، بخلاف قوم نوح، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن، فأطلق لفظ الملأ أَمِينٌ يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق
خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كانوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قيل هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردّون الناس عن اتباع شعيب
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ من قرأ عليّ بالتشديد «٢» على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر، وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق، وموضع أن لا أقول على هذا رفع، على أنه خبر حقيق، وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ على
(٢). هي قراءة نافع وقرأ الباقون: على بالتخفيف.
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قيل: هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة إِنَّ لَنا لَأَجْراً من قرأه بهمزتين أإن فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة، والأجر هنا: الأجرة، طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى، فأنعم [أقرّ] لهم فرعون بها
راجع الحجة لأبي زرعة ص ٢٩٠.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الآية: إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا: هذه لنا وبسعدنا، ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى: أي قالوا هذه بشؤمه، فإن قيل: لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟
فالجواب: أن وقوع الحسنة كثير، والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد، وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمي به ما يصيب الإنسان. ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما، ثم قلبت الألف هاء، وقيل: هي اسم بسيط غير مركب. والضمير في به يعود على مهما، وإنما قالوا: من آية على تسمية موسى لها آية، أو على وجه التهكم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون وَالْجَرادَ هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم وَالْقُمَّلَ قيل هي صغار الجراد، وقيل:
البراغيث، وقيل: السوس، وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف، فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم وَالضَّفادِعَ هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه وَالدَّمَ صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما، وما يلي الإسرائيلي ماء وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم، فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بدعائك إليه ووسائلك، والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عندك فِي الْيَمِّ البحر حيث وقع
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة مِيقاتُ رَبِّهِ أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور اخْلُفْنِي أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي
قالَ رَبِّ أَرِنِي لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها كما قال الشاعر:
وأفرح ما يكون الشوق يوما | إذا دنت الديار من الديار |
(٢). وهي قراءة حمزة والكسائي فقط.
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ الآيات: يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي:
ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى هم بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد غيبته في الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي، وقرئ «١» بكسر الحاء للإتباع، وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة جَسَداً أي جسما دون روح، وانتصابه على البدل لَهُ خُوارٌ الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته اتَّخَذُوهُ أي اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك حذف من قوله: واتخذ قوم موسى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا يقال: سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره
أَسِفاً شديد الحزن على ما فعلوه، وقيل:
شديد الغضب كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: ٥٥] بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف، والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل ابْنَ أُمَّ كان هارون شقيق
٤٣]، وقال المبرّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء، والأول أظهر لقوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي الأمور كلها بيدك
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو:
استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ قيل: الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال: إنها تصحيف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة، وعموما في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموما في الرحمة، وفي كل شيء فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضا مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ
أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ هذا الوصف خصص أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال بعضهم: لما قال الله: ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله، وبقيت اليهود والنصارى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة، ولذلك قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]، قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأمّ وقيل: إلى الأمة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأمّيين أنت عبدي ورسولي، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به
ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم: ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين: ١٧].
ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام، وساعد موضع عيسى وفاران هي: مكة موضع مولد نبينا محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ومبعثه، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكّة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل الأرض الظلام، وعلا على الأمم المصاب، والرب يشرق عليك إشراقا، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته.
ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين: ١٦] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وظهور دينه وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم..
ومن ذلك أيضا من التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلّى الله عليه واله وسلّم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم..
ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة..
ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه
ومن ذلك في التوراة: مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون، وبيان ذلك أن أمته يقرءون: الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان من عظمائهم وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيرا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.
فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون الذي يحمدون الله على كل شرف، وعلى كل حال، وتتذلل بالتكبير ألسنتهم، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي:
والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.
فو الله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: ٤٧] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم برحمته التي وسعت كل شيء.
ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل.
يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصيف
واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه، فقال: قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت: يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليّ صنيعة فلا تكررها، فقال إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء فكتب «١» له على ديره وما فيه، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتانا فقال لي:
أتراها فقلت: نعم، قال سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم.
فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين، قال:
نعم يا أمير المؤمنين، قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال:
نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه.
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد أرسله إلى عمان واليا عليها، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله قال عمرو: نعم، فقال اليهودي:
ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلموه، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر، وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرغب من يراه منه «١» فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه، أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات، وأن الخبائث هي المستقذرات: كالخنافس والعقارب وغيرها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك وَعَزَّرُوهُ أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ هو القرآن أو الشرع كله، ومعنى معه مع بعثه ورسالته
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً تفسيره قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة «٢» » فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ هي الكتب التي أنزلها الله عليه
(٢). رواه أحمد عن أبي ذر وأوله: أوتيت خمسا ج ٥ ص ١٩١ ورواه صاحب عيون الأثر ج ١ ص ٨١ بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
تنبيه: وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله: وإذ قلنا ادخلوا، وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله: وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء، فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض، وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها وَسْئَلْهُمْ أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ قيل: هي إيلياء، وقيل: هي طبرية، وقيل: مدين حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه أو على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت «وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها، وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت، وتغيب عنهم في سائر الأيام، وسبتهم مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظّم يوم السبت، ومعنى شرّعا: ظاهرة قريبة منهم يقال: شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون، أو بدل من إذ يعدون
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً للآية:
افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت يوم السبت بالصيد، وفرقة نهت عن ذلك
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد، وإعراب الذين عطف على الذين يتقون، أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين، وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير، لأن المصلحين هم
أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك والتزموه، روى هذا المعنى عن النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.
والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا، والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم، والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم: الآية، وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم في صورته، وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه قالُوا بَلى شَهِدْنا قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: نعم لكفروا، وأما قولهم: شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك، فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله، وقيل: إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ في موضع مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا، فهو من قول الله لا من قولهم، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم، وبالياء «٢» على الإخبار عنهم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه
(٢). هي قراءة أبو عمرو.
كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي لا يُبْصِرُونَ بِها ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة،
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر استدلال ما خَلَقَ اللَّهُ عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء: جميع المخلوقات إذ
وقوعها وحدوثها، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ معنى يجليها يظهرها، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء، واللام في لوقتها ظرفية: أي عند وقتها، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال: الأوّل ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها، والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض، والثالث معنى ثقلت: أي ثقل علمها أي خفي يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها الحفيّ بالشيء هو المهتم به المعتني به، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها وقيل: المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين القولين يتعلق بيسألونك، وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير والشر، وقيل: إن قوله وما مسني السوء: استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين وأنذرهم، وخص بهم البشارة والنذارة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين، والأوّل أحسن
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يميل إليها ويستأنس بها تَغَشَّاها كناية عن الجماع حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى والكرب، وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل معناه قامت وقعدت فَلَمَّا
أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا سالما في بدنه فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا:
جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما: أي فيما آتى أولادهما وذريتهما، وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها: إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما: أي في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح لثلاثة أوجه: أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع، والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة، وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي: سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم، والآخر أن قوله: وجعل منها زوجها، فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم، والمراد بقوله: ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، والمعنى: أنها مخلوقة غير خالقة، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم، ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة، فكيف يكونون آلهة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ «١» يعني: أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى أو إلى أن تهدي، لأنها جمادات سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ تأكيد وبيان لما قبلها، فإن قيل: لم قال: أم أنتم صامتون فوضع الجملة الاسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم؟ فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ رد على المشركين بأن آلهتهم عباد
خُذِ الْعَفْوَ فيه قولان: أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم، لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم، وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر:
خذي العفو منّي تستديمي مودتي
والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم، وذلك قبل فرض الزكاة، فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان وقرئ يمدّونهم بضم الياء «٤» وفتحها، والمعنى واحد، وفي الغيّ: يتعلق بيمدّونهم، وقيل: يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله، أو في الشيطان ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها الضمير في لم تأتهم للكفار، ولولا هنا عوض،
(٢). ذكره المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والنسائي وابن حبان عن مسعود الترمذي: حسن غريب.
(٣). هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو ومعنى: طيف: خاطرة من الشيطان.
(٤). هي قراءة نافع فقط.
هلا جئت بقرآن من قولك، والآخر معناه: طلبتها من الله، وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة، أي يقولون: اطلب المعجزة من الله قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي معناه:
لا أخترع القرآن على القول الأول، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني هذا بَصائِرُ أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة، والثاني أنه الإنصات للخطبة، والثالث: أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين: أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه، والثاني أن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان، أو الذكر باللسان سرا، فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل: المراد صلاة الصبح والعصر، وقيل: فرض الخمس والأظهر الإطلاق إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة عليهم السلام، وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار وَلَهُ يَسْجُدُونَ قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله، والله أعلم.