تفسير سورة البلد

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة البلد من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة البلد
مكية وآياتها ٢٠ نزلت بعد ق

سورة البلد
مكية وآياتها ٢٠ نزلت بعد ق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البلد) لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أراد مكة باتفاق، وأقسم بها تشريفا لها ولا زائدة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى أنت حالّ بهذا البلد أي ساكن، لأن السورة نزلت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، والآخر أن معنى حلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: لا أقسم يعني لا أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أحل لي ساعة من نهار «١» يعني يوم فتح مكة، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فإن قيل: إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل: إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه أراد آدم وجميع ولده، الثاني نوح وولده، الثالث إبراهيم وولده، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وولده، الخامس جنس كل والد ومولود وإنما قال: وما ولد ولم يقل ومن ولد: إشارة إلى تعظيم المولود كقوله:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: ٣٦] قاله الزمخشري لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم: لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده وقيل: معنى في كبد واقفا منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على هذين القولين جنس، وقيل:
(١). رواه أحمد عن ابن عباس ج ١ ص ٣١٥.
﴿ وأنت حل بهذا البلد ﴾ هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى أنت حال بهذا البلد أي : ساكن لأن السورة نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
والآخر : أن معنى ﴿ حل ﴾ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر، وعلى هذا، قيل : لا أقسم يعني : لا أقسم بهذا البلد : وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث : أن معنى ﴿ حل ﴾ حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتلك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم :" إن هذا البلد حرام حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي وإنما أحل لي ساعة من نهار " يعني يوم فتح مكة، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فإن قيل : إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة. فالجواب : أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل : إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف.
﴿ ووالد وما ولد ﴾ فيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه أراد آدم وجميع ولده.
الثاني : نوح وولده.
الثالث : إبراهيم وولده.
الرابع : سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وولده.
الخامس : جنس كل والد ومولود وإنما قال وما ولد ولم يقل ومن ولد : إشارة إلى تعظيم المولود كقوله :﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ] قاله الزمخشري.
﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾ أي : يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم : لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده، وقيل : معنى ﴿ في كبد ﴾ واقفا منتصب القامة وهذا ضعيف والإنسان على هذين القولين جنس، وقيل : الإنسان : آدم عليه السلام ومعنى ﴿ في كبد ﴾ على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح.
الإنسان آدم عليه السلام، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فيه قولان: أحدهما أن معناه أيظن أن لن يقدر أحد على بعثه وجزائه، والآخر: أيظن أن لن يقدر أحد أن يغلبه، فعلى الأول: نزلت في جنس الإنسان الكافر، وعلى الثاني: نزلت في رجل معين وهو أبو الأشد رجل من قريش، كان شديد القوة، وقيل: عمرو بن عبد ودّ وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا، وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة بالضم والكسر بمعنى الكثرة: ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله ﷺ وقيل: في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفارات، فقال لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله: أهلكت مالا لبدا أو إشارة إلى أنه أنفقه رياء.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر فهو كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣]، ليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وقيل: يعني ثديي الأم فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بشدّة ومشقة، والعقبة عبارة عن الأعمال، الصالحة المذكورة بعد، وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس، وقيل: هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال ولا هنا تخصيص بمعنى هلا وقيل: هي دعاء، وقيل: هي نافية واعترض هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها، وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا وقال الزجاج قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها بالإطعام وقرئ فك رقبة بضم الكاف وخفض الرقبة، وهو على هذا تفسير للعقبة وبفتح الكاف ونصب الرقبة وهو تفسير لاقتحم وفك الرقبة: هو عتقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار «١» وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به فقال: فك الرقبة وأعتق النسمة فقال الأعرابي: أليس هذا واحدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إعتاق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها، وأما فك أسارى المسلمين من أيدي
(١). الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة عن التيسير للمناوي.
﴿ يقول أهلكت مالا لبدا ﴾ أي : كثيرا وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها وهو جمع لبدة بالضم والكسر بمعنى الكثرة ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة فإنه أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفارات، فقال : لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا.
﴿ أيحسب أن لم يره أحد ﴾ يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله :﴿ أهلكت مالا لبدا ﴾ أو إشارة إلى أنه أنفقه رياء.
﴿ وهديناه النجدين ﴾ أي : طريقي الخير والشر فهو كقوله :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : ٣ ]، وليس الهدي هنا بمعنى الإرشاد، وقيل : يعني ثديي الأم.
﴿ فلا اقتحم العقبة ﴾ الاقتحام الدخول بشدة ومشقة والعقبة عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة بعد. وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس، وقيل : هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال و " لا " هنا تخصيص بمعنى " هلا " وقيل : هي دعاء وقيل : هي نافية واعترض هذا القول بأن " لا " النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير : فلا اقتحم العقبة، ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، وقال الزجاج قوله :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
﴿ وما أدراك ما العقبة ﴾ تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها وبالإطعام.
الكافرين فإنه أعظم أجرا من العتق لأنه واجب، ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ولكنه لا يجري في الكفارات عن عتق رقبة
أَوْ إِطْعامٌ من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بالعطف مصدر على مصدر ومن قرأ فك بالفتح قرأ أطعم بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا حاجة، يقال ترب الرجل إذا افتقر، وهو مأخوذ من الصدقة بالتراب وروي عن النبي ﷺ أنه الذي مأواه المزابل.
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق. والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله، وكأن هذا إشارة إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم، وقيل: الرحمة كل ما يؤدي إلى رحمة الله الْمَيْمَنَةِ جهة اليمين والْمَشْأَمَةِ جهة الشمال، وروي أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان الهمزة وترك الهمزة [يعني: مؤصده وبها قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وقرأ الباقون: موصدة].
﴿ أو إطعام ﴾ من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بعطف مصدر على مصدر ومن قرأ فك بالفتح قرأ إطعام بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل.
﴿ في يوم ذي مسغبة ﴾ أي : مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع.
﴿ يتيما ذا مقربة ﴾ أي : ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم.
﴿ أو مسكينا ذا متربة ﴾ أي : ذا حاجة، يقال ترب الرجل إذا افتقر وهو مأخوذ من الصدقة بالتراب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه الذي مأواه المزابل ".
﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن.
﴿ وتواصوا بالصبر ﴾ أي : وصى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله وكأن هذا إشارة إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار.
﴿ وتواصوا بالمرحمة ﴾ أي : وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم، وقيل : الرحمة كل ما يؤدي إلى رحمة الله.
﴿ الميمنة ﴾ جهة اليمين.
و﴿ المشأمة ﴾ جهة الشمال، وروي : أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨:﴿ الميمنة ﴾ جهة اليمين.
و﴿ المشأمة ﴾ جهة الشمال، وروي : أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم.

﴿ نار مؤصدة ﴾ أي : مطبقة مغلقة يقال : أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان : الهمزة وترك الهمزة.
Icon