ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ أي أُحكِمَتْ بالأمرِ والنهي، ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ ؛ بالثواب والعقاب، وقال قتادة :(أُحْكِمَتْ عَنِ الْبَاطِلِ بالْحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بأَنْ أنْزِلَتْ شَيْئاً فَشَيْئاً). وقال الكلبيُّ :(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ لَمْ يُنْسَخْ بكِتَابٍ، كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بهِ، ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ بُيِّنَتْ بالأَحْكَامِ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ). وقولهُ :﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ ؛ أي مِنْ عند حكيمٍ في خَلقهِ وتدبيرهِ، خبيرٍ بمَن يصدِّقُ ويكذِّبُ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ جُزِمَ على جواب الأمر ؛ أي إنْ فعلتُم ذلك أنعَمَ اللهُ عليكم نِعَماً سابغةً حِسَاناً تستبقون بها إلى آجَالِكم التي قدَّرَها اللهُ لكم، فلم يستَأْصِلكم كما استأصلَ الأُمَم المكذِّبَة به قبلَكم. قال القتيبيُّ :(أصْلُ الإمْتَاعِ الإطَالَةُ) يقالُ : جبلٌ مَاتِعٌ، وقد مَتَعَ النهارُ إذا طالَ، فمعنى يُمَتِّعْكُمْ يُعَمِّرْكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ ؛ أي مَن كان ذا فَضْلٍ في دينهِ فضَّلَهُ اللهُ في الآخرةِ بالثواب على عمله. وَقِيْلَ : يعطِي كلَّ ذِي عمَلٍ صالحٍ أجرَهُ وثوابه. وقال ابنُ عبَّاس :(يُعْطِي كُلَّ مَنْ فَضَلَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَضْلَهُ ؛ يَعْنِي الْجَنَّةَ وَهِيَ فَضْلُ اللهِ، يِعْنِي أنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ). وعن ابنِ مسعود قال في هذه الآيةِ :(مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَإنْ لَمْ يُعَاقَبْ بتِلْكَ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا أُخِذ مِنْ عَشْرِ حَسَنَاتِهِ وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعٌ) ثُمَّ قالَ :(هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أعْشَارَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ ؛ أي إنْ أعرَضُوا عنِ الإيمانِ والتوبة، ﴿ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ ؛ أي عظيمِ الشَّأنِ وهو يومُ القيامةِ، وإنما ذكرَ الخوفَ في هذا الموضعِ ؛ لأن الخطابَ من الرسول ﷺ، والخوفُ عليه جائزٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ على إعادَتِكم.
يقالُ : إنَّ طائفةً من المشركين بَلَغَ بهم الجهلُ إلى أنْ قالُوا : إنَّا اذا أغلَقنا أبوابَنا، وأرخَينا سُتُورَنا، واسْتَغْشَيْنَا ثِيابَنا، وثَنَيْنَا صُدورَنا على عداوةِ مُحَمَّدٍ ﷺ كيف يعلمُ بنا ؟ فَأَنْبَأَ اللهُ نَبيَّهُ عليه السلام عَمَّا كَتَمُوهُ. ومعنى الآيةِ : ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدورَهم على الكفرِِ وعداوةِ النبيِّ ﷺ ؛ لِيكتُموا منه ما في صدورهم من عداوتهِ بإظهار المحبَّة. ويقال : معنى (يَثْنُونَ) يعرضون بصدورهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ ؛ معناه : ألا حين يَتَغَطَّونَ بثيابهم يعلمُ الله ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وفيما بينهم وما يُظهرون من محبَّة أو غيرِها، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بالقلوب التي في الصُّدور، لأن الصدورَ مواضعُ القلوب.
وفي الآيةِ بيانُ أن اللهَ عالِمٌ بالقلوب كلِّها، وذلك أنه إذا كان ضَامِناً رزقَ كلَّ دابةٍ في الأرض، فليس يرزِقُها إلاّ وهو يعلمُ صغيرَها وكبيرها، من الذرِّ فما فوقَها وما دونَها، وإذا عَلِمَها فقد عَلِمَ مستقرَّها ومستودَعَها، المستقَرُّ موضعُ قَرَارِها وهو الموضعُ الذي تَأْوِي إليه، والمستودَعُ هو الموضعُ الذي تُوَدعُ فيه، قِيْلَ : إنه الرَّحِمُ، وَقِيْلَ : هو الموضعُ الذي تُدْفَنُ فيه.
وقال قتادةُ ومجاهد :(أمَّا مُسْتَقَرُّهَا فَفِي الرَّحِمِن وَأمَّا مُسْتَوْدَعُهَا فَفِي الصُّلْب) ﴿ كُلٌّ ﴾ ؛ ذلكَ عندَ اللهِ، ﴿ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ يعني اللوحَ المحفوظ، والمعنى : أن ذلك ثابتٌ في علمِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ قال المفسِّرون : فَصْلاً لا وجُوباً، والله تَكَفَّلَ بذلك بفضلهِ. قال أهلُ المعانِي (عَلَى) ههُنا بمعنى (من)، المعنى : إلاَّ مِنَ الله رزقُها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي رزقُ كلِّ دابَّةٍ وأجلُهأ مكتوبٌ في اللوحِ.
قال ابنُ عبَّاس :(إنَّ مِمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى لَوْحاً مَحْفُوظاً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كِتَابُهُ نُورٌ وَقَلْبُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللهُ تَعَالَى فِيْهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ بكُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، قال أبو رَوقٍ :(أعْلاَهُ مَعْقُودٌ بالْعَرْشِ، وَأسْفَلُهُ فِي حِجْرٍ مَلَكٍ كَرِيمٍ يُسَمَّى مَا طُوتُون).
قولهُ تعالى :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ ﴾ فيه بيانُ أنَّ السموات والأرضَ ليستاَ بأوَّلِ خَلْقِ، وأنه تَقدَّمَهما خلقُ شيءٍ آخر، وفيه زيادةِ القَدْرِ ؛ لأن العرشَ مع كونِه أعظمَ مِن السمواتِ والأرضِ كان على الماءِ، ولم يكن ذلك الماءُ على قَرَارٍ، ولكنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أمسكَهُ بقُدرتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ؛ أي ليَبلُوَكم فينظرَ أيُّكم أحسنُ عملاً، فيُثِيبُ المطيعَ المعتَبرَ بما يَرى من آياتِ السموات والأرضِ، ويعاقِبَ أهلَ العنادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ معناهُ : ولئن قُلتَ يا مُحَمَّدُ للكفار : إنَّكم مبعُوثون من بعدِ الموتِ، ليقولُنَّ الذين كفَرُوا : ما هذا إلا تَمويهٌ ليس له حقيقةٌ، وقد أقَرُّوا أنَّ الله خالقُ السمواتِ والأرض ويُمسِكُها بغيرِ عَمَدٍ، لا يعجزهُ شيءٌ فكيف يشكُّون في البعثِ بعدَ الموتِ.
فالمعنى : أنَّهم لَمَّا قالوا : ما يحبسُ العذابَ عنَّا على وجهِ الاستهزاء، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ يعني إذا أخذتْهم سيوفُ النبيِّ ﷺ وأصحابهِ لم تُغْمَدْ عنهم حتى تعلُو كلمةُ الإخلاصِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ؛ أي نَزَلَ بهم جزاءُ استهزائِهم وهو العذابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ ؛ أي بَطِرٌ مُفَاخِرٌ أوليائي بما وسَّعتُ عليه. وإنما نُصِبَ اللام في قولهِ ﴿ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ ﴾ لأنه في موضعِ الوِحْدَان، وقوله :﴿ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾[هود : ٨] بضَمِّ اللام في موضعِ لفظ الجماعةِ، وقولهُ تعالى :﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[هود : ٧] بنَصب اللام أيضاً ؛ لأن الفعلَ مقدَّمٌ على الاسمِ فذُكِرَ بلفظِ الوِحْدَانِ.
وَقِيْلَ : إن المشركين قالوا للنبيَّ ﷺ : لو أتَيتَنا بكتابٍ ليس فيه سبٌّ آلهتِنا حتى نؤمنَ بكَ ونتَّبعَكَ، وقال بعضُ المتكبرين : هَلاَّ ينْزِلُ عليك يا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يشهدُ لكَ بالصدقِ، أو تُعطَى كَنْزاً تستَغني أنتَ وأتباعُكَ ؟ فَهَمَّ رسولُ اللهِ ﷺ أن يدعَ سَبَّ آلهتِهم فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ولا يجوزُ أن تكون كلمة (لَعَلَّ) في أولِ هذه الآية على جهة الشَّكِّ، وإنما الغرضُ تثبيتُ النبيِّ ﷺ في ما أُمِرَ به ؛ كيلا يلتفتَ على قولِهم، وكي لا ييأَسُوا عن تركِ أداء الرسالة.
فلما قالوا للنبيِّ ﷺ :﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾. يقولُ الله للنبيِّ ﷺ :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي عليكَ أن تُنذِرَهم وتُخوِّفَهم وتأتِيَهم بما يُوحَى إليكَ من الآياتِ، وليس عليك أن تأتِيَ بشهوَاتِهم وما يفرَحُون من الآياتِ، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ من مقالَتِهم وغيرِ ذلك، ﴿ وَكِيلٌ ﴾ ؛ أي حفيظٌ.
والفرقُ بين ضَائِقٍ وَضَيِّقٍ، أن الضائقَ يكونُ بضِيقِ عَارِضٍ، والضِّيقُ قصورُ الشيءِ عن مقدارِ غيرهِ أنْ يكونَ فيه، وموضعُ ﴿ أَن يَقُولُواْ ﴾ حذف الباء تقديرهُ : ضَائِقٌ به صدرُكَ بأَنْ يقُولوا.
وذهبَ بعض المفسِّرين : إلى أن المرادَ بالسُّوَر العشرِ : من سُورةِ البقرة إلى هذه السُّورة، والأَوْلى أن يُقال : إن المرادَ فاتوا بعَشرِ سُور مثلِ سُوَر القرآنِ أيَّ سُورةٍ كانت، لأن سُورةَ هُودٍ مكِّية، وسورة البقرةِ وما بعدها مدَنِيَّاتٌ.
ويجوز أن يكون معناه : فإنْ لم يستجِيبوا لكُم ؛ أي فإن لم يُجِبْكُمُ الذين دعوتُموهم إلى المعاونةِ إلى الإتيان بمثل هذا القرآنِ، فقد قامت عليكم الحجَّةُ، فاعلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بعلمِ الله، واعلما أنَّما أنزلَهُ إلاَّ هو، ولا يُنْزِلُ الوحيَ أحدٌ غيرهُ، فهل أنتم تخلِصُون للهِ في التوحيد والعبادةِ.
أحدُهما : أنَّ المرادَ بالآيةِ إذا أتَى بالأعمالِ التي تكون حَسَنَةً في العقلِ مثل صِلَةِ الرَّحمِ والتصدُّقِ وإعانةِ المظلوم، فإن اللهَ يجازيهِ على هذه الأعمالِ في الدُّنيا بأن يُمَكِّنَهُ مما حولَهُ ويعطيهِ ما يسعَى لطلبهِ وافراً عليه ويُقِرَّ عَيْنَهُ بذلك.
والثاني : أنَّ المراد بها المنافقُ إذا خرجَ للغزوِ مع المسلمين وهو يريدُ الغنيمةَ دون الثواب ونصرةِ الدِّين، يجزيهِ الله على غَزوهِ بأن أمرَ بأعطائهِ سَهْمَهُ من الغنميةِ لا يُبْخَسُ عنه شيءٌ من سهمهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾ ؛ أي ومِن قبلِ القرآنِ كان جبريلُ يقرأ على موسَى التوراةَ إمَاماً يُقتَدى به، ونعمةً من اللهِ لِمَن آمَنَ به، و ﴿ إِمَاماً ﴾ بالنصب على الحالِ، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي ذا رحمةٍ، وَقِيْلَ : أرادَ بقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ ﴾ جميعَ المؤمنين، وأرادَ بالشَّاهدِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ ؛ يعني أصحابَ النبيِّ ﷺ ومَن صَدَّقَهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ ؛ أي مَن يكفُرْ بالنبيِّ ﷺ من أصنافِ الكفَّار واليهودِ والنصارى وغيرهم، فالنارُ مصيرهُ التي وعد َاللهُ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾ ؛ أي لا تكن في شَكٍّ من القرآنِ، وظاهرٌ أنَّ الخطابَ للنبيِّ ﷺ إلاَّ أن المرادَ به جميعُ الناسِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ؛ يعني القرآن، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي لا يصدِّقون في أنَّ القرآنَ من عندِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس ومجاهد :(الأَشْهَادُ هُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَالأَنْبيَاءُ)، وقال قتادةُ :(يَعْنِي الْخَلاَئِقَ)، وقال مقاتلُ :(هُمُ النَّاسُ).
والأَشْهَادُ جمعُ شَاهِدٍ مثل نَاصِرٍ وأنْصَارِ وصَاحِبٍ وأصحابٍ، ويجوزُ أن يكون جمعُ شَهِيدٍ مثل شريفٍ وأشرَافٍ. والمعنى : يقولُ الأشهادُ يومَ القيامة من الملائكةِ والنبِّيين والعلماءِ وعامَّة المؤمنين، ويُشيرون إلى الكفارِ فيقولون :﴿ هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ فيُفضَحُ الكفارُ على رُؤوسِ الأشهادِ.
وقولهُ تعالى :﴿ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون من قولِ الأشهادِ، ويجوز أنْ يكون من قولِ الله، وأرادَ بالظَّالمين المشركين، واللَّعْنَةُ : الإبعادُ من الخيرِ.
وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بذُنُوبهِ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : رَب أعْرِفُ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : رَب أعْرِفُ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ مَا شَاءَ أنْ يَسْأَلَهُ، قَالَ : فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بيَمِينِهِ. وَأمَّا الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَيْهِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذبُوا عَلَى رَبهِمْ، ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ أي لا يقتصرُ لهم على عقاب الكُفر، بل يُعاقبون على الكفرِ، وعلى الصدِّ عن سبيل اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : كلَّما مضَى ضِعْفٌ من العذاب جاءهم ضِعْفٌ من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾ ؛ أي كان يَثْقُلُ عليهم سماعُ الحقِّ من شدَّة عداوتِهم للنبيِّ ﷺ، ﴿ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ ؛ لأنهَّهم صُمٌّ عن الحقُّ عُمْيٌ لا يُبصرون ولا يهتدون.
ثم ضربَ اللهُ مثَلاً في الفريقين فقال :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ ﴾ ؛ يعني الكفارَ، ﴿ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ ؛ يعني المؤمنينَ ؛ لأنَّهم سَمِعوا الحقَّ وأبصروهُ واتَّبعوه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ ؛ أي هل يستوِي الأعمَى والأصمُّ والبصير والسميع عند عاقلِ، كما لا يَستويان عندَ أحدٍ من العُقلاء، فكذلك لا يتسوِي حالُ المؤمن والكافرِ عندَ الله في الدُّنيا والآخرة، ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي أفلا تتَّعظون بأمثالِ القرآن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ ؛ ما نراكَ آمَنَ بكَ إلاّ الذين هم أسَافِلُنا وأخَسُّنا، قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيدُونَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لا عُقُولَ لَهُمْ وَلاَ شَرَفَ وَلاَ مَالَ) والرَّاذِلُ الدُّونُ من كلِّ شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ ؛ أي مَن قرأ (بَادِئَ) بالهمزِ فمعناهُ : أنَّهم اتَّبعوكَ بأوَّلِ الرأيِ من دون تفكُّر ونظرٍ، مِن قولهم : بَدَأتُ الأَمْرَ ؛ أي ابتدأتهُ، ويجوزُ أن يكون المعنى : بَادِيَ الرؤيةُ ؛ أي بأوَّل ما تقعُ الرؤية عليهم يعلمُ أنَّهم أراذِلُنا، وقد يكون الرأيُ بمعنى الرُّؤيةِ. قَالَ : الله تَعَالَى :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾[آل عمران : ١٣] أي رُؤيةَ العينِ : ومن قرأ (بَادِيَ) بغير همزٍ فمعناه : ظاهرَ الرأيِ وهم يعرِفون الظاهرَ ولا تمييزَ لَهم.
ويجوزُ أن يكون معناه : اتَّبعوكَ في الظاهرِ، وباطنُهم على خلافِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ ؛ أي ما نرَى لكَ ولقومِكَ علينا من فَضْلٍ، فإنّ الفضلَ يكون بكثرةِ المال، وشرفِ النَّسب والمَنْزِلة في الدُّنيا، ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ ؛ فيما تقولونَهُ على اللهِ، وفيما تدْعُون إليه.
فإن قِيْلَ : فهَلاَّ قال فَعَمِيتُمْ عَنْهَا وهم الذين كانوا عموا ؟ قُلْنَا : قد بيَّنا إنه وَضع ذلك موضع : فخَفِيت عليكم، ثم لا فرقَ بين اللفظين كما لا فرقَ بين قولهم : أدخلتُ الخاتمَ في الإصبع، وأدخلتُ الإصبعَ في الخاتَم. ومن قرأ (فَعُمِّيَتْ) بضمِّ العين وتشديد الميم، فالمعنى : ألَيْسَتْ عليكم نُبُوَّتِي؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ قال ابنُ جريج :(إنَّهُمْ سَأَلُوهُ طَرْدَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيُؤْمِنُوا بهِ أنفَةً مِنْ أنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَقَالَ : لاَ يَجُوزُ لِي طَرْدُهُمْ بقَوْلِكُمْ وَازْدِرَائِكُمْ)، ﴿ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ ﴾ ؛ ما وعدَهم، ﴿ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ فيجزيهم بأعمالهم، ويقال : فيُخاصِمُونِي عندَهُ إنْ طردتُّهم، ﴿ وَلَـاكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ ؛ أوامرَ اللهِ وما فيه إصلاحُكم.
ويقال : إنَّهم لما قالوا لنوح عليه السلام : إن هؤلاءِ إنما آمَنوا بكَ، واتَّبعوكَ في ظاهرِ ما ترى منهم، أجابَهم نوحُ بهذا، فقال : لا أقولُ لكم عندِي خزائنُ اللهِ، يعني غُيُوبَ اللهِ التي يعلمُ منها ما تُضمِرهُ الناس، فلا أعلمُ الغيبَ، ولا أعلمُ ما يُسِرُّونَهُ في أنفسهم، فسَبيلي قَبُولُ إيمانِهم الذي ظهرَ لي، ومضمراتُهم لا يعلمها إلاّ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ ؛ هذا جوابٌ لقولهم : ما نراكَ إلا بَشَراً مثلنا ؛ أي لا أدَّعي أنِّي مَلَكٌ نزلتُ إليكم من السَّماء. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً ﴾ ؛ أي لا أقولُ للذين تحتقِرُ أعيُنكم وتستصغرُ : لن يؤتيكم اللهُ صَلاحاً في الدُّنيا وفَلاحاً في الآخرةِ، يعني المؤمنين الذين قالوا : هم أراذِلُنا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي إن طردتُّهم تَكذِيباً، الظاهرُ إيمانُهم.
فإن قِيْلَ : كيف يجوزُ أن تكون إرادةُ إبليس موافقةً لإرادةِ الله، وأرادةُ نوحٍ مخالفةً لإرادة الله ؟ فالجواب : إنَّ اللهَ تعالى شاءَ لأُؤلئك القومِ الكفرَ، وشاءَ لنوحٍ أن يسألَهم الإيمانَ، وشاءَ لإبليس أن يسألَهم الكفرَ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ : معنى قولهِ :﴿ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ إن كان اللهُ يريد أن يُهلِكَكم، وينحِّيَكم من رحمتهِ بكُفرِكم، كما قال :﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾[مريم : ٥٩] أي هَلاكاً وعذاباً، والغَيُّ قد يكون بمعنى الْخَيْبَةِ، كما قال الشاعرُ : فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أمْرَهُ وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَاأي ومَن يَخِبْ، يقالُ : غوَى الرجلُ يَغْوِي غَيّاً ؛ إذا فسدَ عليه أمرهُ، أو فسدَ هو في نفسهِ، ومنه﴿ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾[طه : ١٢١] أي فَسَدَ عليه عيشهُ في الجنَّة، وهذا يُؤَوَّلُ أيضاً إلى معنى الْخَيْبَةِ فيها فسادُ العيشِ.
وذكرَ الحسنُ في معنى الآية :(لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إذا نَزَلَ بكُمُ الْعَذابُ، فَاسْتَدْركُوا أمْرَكُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذاب لِتَنْتَفِعُوا بنُصحِي). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾ أي مَالِكُكُم يقدرُ على إنزال العذاب بكم، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي إليه مصيرُكم بعد الموتِ فيجزِيَكُم بأعمالكم.
وهذه الآيةُ مما يحتجُّ بها أنَّ الشرطَ إذا اعترضَ على الشرطِ مِن غير أن يتخلَّلهُما الجوابُ، كان الشرطُ الثاني مُقدَّماً على الأوَّلِ في المعنى، حتى لو قالَ قائلٌ : إنْ دخلتَ الدارَ، إنْ كلَّمْتَ زيداً فعبدِي حرٌّ، لا يحنَثُ حتى يكلِّمَ ثم يدخلَ. فيكون تقديرُ الآية : ولا ينفعُكم نُصحِي إنْ كان اللهُ يريد أن يُغوِيَكُمْ إن أردتُ أن أنصَحَ لكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ أي وبأمرِنا إيَّاك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ ؛ أي لاَ تُراجِعْني الكلامَ في نجاةِ الذين ظلَمُوا أنفسهم بالكفرِ، ﴿ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ ؛ بالطُّوفَانِ.
و ﴿ قَالَ ﴾ ؛ لَهم نوحٌ :﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا ﴾ ؛ الآنَ، ﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ ؛ عندَ نزولِ العذاب، ﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ ؛ أنتمُ الساعةَ ؛ أي إن كُنتم تسخَرون منَّا لِمَا تَرَوْنَ من صَنْعَةِ الفُلْكِ، فإنَّا نعجبُ من غفلَتِكم عما أضَلَّكم، ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ من أحقُّ بالسِّخريِّ مِنَّا ومنكم، وتعلمون، ﴿ مَن ﴾ ؛ الذي، ﴿ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾ ؛ في الدُّنيا، ﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ ﴾ ؛ وينْزِلُ عليه، ﴿ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ ؛ دائمٌ في الآخرة.
ثمَّ قَالَ لَهُ : إذا رَأَيْتَ الْمَاءَ قَدْ فَاضَ مِنْهُ فَاحْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مَا أُمِرْتَ بهِ مِنْ أجْنَاسِ الْحَيْوَانِ، ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ ؛ واحمِلْ ؛ ﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ ؛ بالعذاب وهي امرأتهُ الكافرة وابنهُ كنعان استثنَاهما اللهُ من جُملة أهلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾ ؛ أي احمِلْ مَن آمَنَ معكَ أيضاً في السَّفينة، قال ابنُ عبَّاس وعكرمة الزهريُّ :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ أيِ انْبَجَسَ الْمَاءُ عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ). وقال عليٌّ رضي الله عنه :(وَفَارَ التَنُورُ ؛ أيْ طَلَعَ الْفَجْرُ).
وقولهُ تعالى :﴿ جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ أي عذابُنا، وقولهُ تعالى :﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ أي احمِلْ في السفينةِ من كلِّ زوجين اثنين، الذكَرُ زوجٌ والأُنثى زوجٌ، وهو قولُ الحسنِ ومجاهد وقتادة ؛ قالوا :(ذكَراً وَأُنْثَى).
فلما فارَ الماءُ من التَّنورِ أرسلَ الله السماءَ بمطرٍ شديد، فأقبلتِ الوحوشُ حين أصابَها مطرُ السماءِ إلى نوح وسُخِّرت، فحَمل في السفينةِ من كلِّ طير زَوجين، ومن كلِّ وحشٍ زوجين، وكلِّ دابَّة وبَهيمة زَوجين، ومن كلِّ سَبُعٍ زوجين، وحمَلَ من البقرِ والغنم خمسةَ أزواجٍ.
وبعثُ اللهُ جبريلَ فقطعَ فِقَارَ العقرب، وضربَ فمَ الحيَّة فحمَلَها في السَّفينة، وكانت السماءُ تُمْطِرُ، وكان هو عندَ قومهِ يحذِّرُهم حتى ابتلَّت أقدامُهم، وصارَ الماءُ إلى الكعَبين، ثم حذرَهم حتى صارَ الماءُ إلى نصفِ الساق، ثم حذرَهم حتى صارَ إلى الرُّكَب وإلى الْحِقْوَيْنِ، كلُّ ذلك يحذِّرُهم ويُنذِرهم، وكان يَنُوحُ ويَبكِي عليهم، وقال ابنُ عبَّاس :(سُمِّيَ نُوحاً، لأنَّهُ كَانَ يَنُوحُ عَلَى الإسْلاَمِ حَيْثُ لَمْ يُقِرَّ به قَوْمُهُ).
فلمَّا بلغَ الماءُ الشِّدْوَةَ قالَ : غَرِقَ قَومِي، ثم قال لابنهِ كنعانُ :(يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) فكَثُرَ الماءُ حتى صار فوقَ الجبالِ خمسةَ عشر ذِراعاً بالذراع الأول، وكان للسفينةِ ثلاثةُ أبوابٍ بعضُها أسفل من بعضٍ، حملَ في الباب الأسفل السِّباع والهوامَّ، وفي الباب الأوسط الوحْشَ والبهائِمَ، وفي الباب الأعلَى بني آدمَ، وكانوا ثمانين إنساناً، أربعين رجُلاً وأربعين امرأةً، سِوَى التي غَرِقَتْ، وثلاثةَ بنين : سَامٌ وحَامٌ وَيَافِثُ، ونساؤُهم وإثنان وسَبعُون إنساناً فيهم الْخَضِرُ وهو ابنُ بنتِ نوحٍ.
واختلَفُوا في مقدار السفينة، قال الحسنُ :(كَانَ طُولُهَا ألْفاً وَمِائَتَي ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ)، وقال ابنُ عبَّاس :(كَانَ طُولُهَا ثَلاَثمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَِاعاً، وَارْتِفَاعُهَا ثَلاَثِينَ) وهو قولُ قتادةَ قال :(وَكَانَ لَهَا بَابَانِ فِي عَرْضِهَا).
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ أي واحمِلْ أهلَكَ، يعني ولدَهُ وعياله، ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ يعني امرأتَهُ وأهله وابنهُ كنعان، و ﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾ يعني واحمِلْ مَنْ آمنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ ؛ أي إلا نفرٌ قليل، قِيْلَ : ثَمانون إنساناً، وَقِيْلَ : ثلاثةُ بنين وثلاثُ كَنَائِن، الكَنَائِنُ : زوجاتُ البَنِين، وقال ابنُ جريج :(كَانُوا ثَمَانِيَةَ أنْفُسٍ).
وقال الضحَّاك :(كَانُوا إذا أرَادُوا أنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ قَالُواْ : بسْمِ اللهِ، فَجَرَتْ، وإذا أرَادُوا أنْ يُرْسُوهَا قَالُواْ : بسْمِ اللهِ، فَرَسَتْ)، ومَن قرأها (مَجْرَاهَا* بنصب الميم فهو عبارةٌ عن الموضعِ الذي تَجْرِي فيه، ولَم يقرأ أحدٌ (مُرْسَاهَا) الا بضَمِّ الميم، ومَن قرأ (مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا) فهو نعتُ (اللهِ)، والمعنى بسمِ الله الْمُجْرِي لها حيث يشاءُ، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
واختلفَتِ القراءةُ في قوله ﴿ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا ﴾ : قرأ بعضُهم بكسرِ الياء على الإضافة وهو الأجودُ ؛ لأن الأصلَ يا بني ثلاثُ يَاءَاتٍ، ياءُ التصغيرِ وياءُ الفعلِ وياءُ الإضافة، فحُذفت ياءُ الإضافة، وتُركت الكسرةُ دليلاً على الإضافة، وأُدغِمَت أحدى اليائَين في الأُخرى. وقرأ بعضُهم (يَا بُنَيَّ) بفتحِ الياء على أن أصلَها : يا بُنَيَّا بالألف، كما تقولُ العرب : يا غُلاَما أقْبلْ، تريدُ يا غُلامِي أقْبلْ، فتُبدَلُ الألفُ من ياءِ الإضافة على وجهِ النُّدْبَةِ والتَّفْجِيعِ، وكان الأصلُ يا بُنَيَّا ثم حُذِفت الألف لسكونِها وسكونِ الراء من قولهِ ﴿ ارْكَبَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ﴾ ؛ أي بين كنعانَ ونوح، وَقِيْلَ : بين كنعان والجبلِ، ﴿ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾.
فلما استقرَّت السفينةُ على الْجُودِيِّ كشفَ نوح الطبقَ الذي فيه الطيرُ، فبعثَ الغرابَ ليأتيه بالخبرِ فأبصرَ جِيفَةً، فوقعَ عليها وأبطأَ على نوحٍ ولم يأتهِ، فأرسلَ الْحَدْأَةَ على إثرهِ فأبطأت عليه ولم تأته، فدعَا على الغراب أن يكون طويلَ العمر في مخافةٍ وشَقَاء. ثم أرسلَ الحمامة بعد الحدأة بسبعٍ فلم تجِدْ مَوقِعاً فرجعت، فبسطَ لها نوحُ عليه السلام كفَّهُ فوقعت عليهِ، ثم مكثَ نوح ما شاءَ الله، ثم أرسلَها مرَّة أخرى فجاءت بعدَ ذلك فوقعت على الأرضِ وغابَت رجلاَها في الطِّين، فعرفَ نوحٌ أن الأرضَ قد ظَهرت، فدعَا بها فقالَ : كونِي آنَسَ طيرٍ وأنعمَهُ وأكيَسَهُ.
وقوله تعالى :﴿ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ ﴾ أي انْشِفِي الماءَ الذي خرجَ منكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي ﴾ أي كُفِّي عن الصَّب، يقال : أقلعَتِ السماءُ إذا استمسكَ المطرُ حتى لم يبقَ له أثرٌ، وأقلعَتِ الْحُمَّى عن فلانٍ إذا تركتْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَغِيضَ الْمَآءُ ﴾ ؛ أي ونَشِفَ الأرض ماؤُها، ويقال غاضَ الماءُ يَغِيضُ إذا غَارَ في الأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ ؛ أي وقعَ هلاكُ الكفار على التَّمامِ، هَلَكَ مَن هلكَ، ونَجا مَن نَجَا. قال ابنُ عبَّاس :(نَشَّفَتِ الأَرْضُ مَاءَهَا الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا، وَذهَبَ مَاءُ السَّمَاءِ إلَى الْبُحُورِ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ ﴿ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ ﴾ ).
قولهُ :﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ ؛ أي استوَتِ السفينةُ على الجوديِّ شَهراً، وهو جبلُ بالجزيرةِ، ﴿ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون معناه : قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ بُعْداً ﴾ أي سخطٌ من رحمة الله للقوم الكافرين، ويجوز أن يكون هذا مِن قول أهلِ السفينة حين نَجَوا من الغرقِ، وخرَجُوا من السفينةِ، قالوا :﴿ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ في الآخرة أيضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ أي إنَّ سؤَالَكَ إيَّايَ أنْ أُنْجِي كافراً عمَلٌ غيرُ صالحٍ، قرأ الكسائيُّ ويعقوب (عَمِلَ) بكسرِ الميم وفتح اللام (غَيْرَ) منصوب، أي إنه عَمِلَ بالشِّركِ والتكذيب، وقرأ الباقون بالرَّفع والتنوينِ (غَيْرُ) بالرفع ؛ أي إنه ذُو عَمَلٍ غير صالح. وَقِيْلَ إنَّ سُؤالَكَ إيَّاي نجاةَ ولدِكَ الذي ليس من أهلِكَ سؤالٌ غيرُ مُرْضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثير بتشديد النُّون وفتحِها، وقرأ أهلُ المدينة والشام بتشديد النونِ وكسرِها، والمعنى واحدٌ ؛ أي لا تسألني ما ليسَ لك به علمٌ أنه صوابٌ وأنا أفصِلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ؛ إي إنِّي أعِظُكَ أن تسأَلَني سؤالَ الجاهلِ، ولكن سَلْنِي سؤالَ العالِم بي. والوَعْظُ في اللغة : هو الزَّجْرُ عن القبيحِ، وكان نداءُ نوح ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ نداءَ تعظيمٍ لله تعالى على ظنِّ أنَّ ابنَهُ من أهلِ دينه، وقولهُ تعالى ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ نداءُ تنبيهٍ على أنه ليسَ مِنْ أهلِ دينه، ولا من أهلِ أن يلطفَ به.
واختلَفُوا في هذا الابنِ، فقالوا : إنه لَمْ يكن ابنَ نوحٍ لقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي مِن ولدِكَ وهو قولُ مجاهد والحسنِ، والمعنى على قولِهما إنهُ وُلِدَ لغيرِ رُشدهِ.
قال قتادةُ :(وسُئلَ الْحسَنُ عَنْهُ فَقَالَ :(وَاللهِ مَا كَانَ ابْنَهُ)، وَقَرَأ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾[التحريم : ١٠]! فَقُلْتُ : إنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أنَّهُ قالَ :﴿ إِنَّ ابْنِي ﴾ وَقَالَ :(وَنَادَى نُوحٌ ابْنُهُ) وَأنْتَ تَقُولُ : لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ! وَإنَّ أهْلَ الْكِتَابَيْنِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أنَّهُ كَانَ ابْنَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ :(وَمَنْ يَأْخُذُ دِينَهُ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب؟! إنَّهُمْ يَكْذِبُونَ). وقال ابنُ جريج :(وَنَادَاهُ وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ ابْنَهُ، وَكَانَ وُلِدَ علَى فِرَاشِهِ). وقال بعضُهم : إنما كان ابنَ امرأتهِ، واستدَلُّوا بقولهِ ﴿ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ ولَمْ يقُل إن ابني منِّي، وهو قولُ أبي جعفر الباقر.
وقال أكثرُ المفسِّرين : إنه كان ولدَهُ مِن صُلبهِ، وقولهُ تعالى :﴿ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي الذي وعدتُكَ أن أُنْجِيَهُمْ، قالُوا : ومَا بَغَتِ امرأةُ نَبيٍّ قط، وإنَّما خيانَتُهما في الدِّين لا في الفراشِ، ولأنَّ الله تعالى يعصِمُ أنبياءَهُ صلواتُ اللهُ عَلَيْهِمْ أن يقعَ مِن نسائهم ما يُلحِقُ بهم عَيْباً في الدُّنيا، وإنْ كان قد يقعُ منهنَّ ما يكون عَيْباً في أمرِ الآخرة، وفي الحديث :
فهبطَ نوحُ ومَن معه من الجوديِّ، ولم يكن لواحدٍ منهم نَسْلٌ إلا لنوحٍ وأولادهِ، كما قالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾[الصافات : ٧٧]، وعن محمَّد بن كعبٍ قال :(دَخَلَ فِي السَّلاَمِ وَالْبَرَكَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي الإمْتَاعِ وَالْعَذاب كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وفي الآيةِ دلالةٌ على ذلك ؛ لأن لفظَ الأُمَمِ يدلُّ على الجماعاتِ الكثيرة، ولم يكن مع نوحٍ في السفينة إلا قليلٌ.
وقولهُ تعَالَى :﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ ؛ أي قالَ : هودُ : إنِّي أُشهِدُ الله على نفسِي، واشهَدُوا أنتم أيضاً أنِّي بريءٌ مما تُشركون مع اللهِ في العبادة، ولم يكن إشهادهُ إيَّاهم للاحتجاجِ بقولهم، وإنما هو للاحتجاجِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ ؛ أي إنْ قدِرتُم على قَتلِي أنتم وآلهتُكم، أو على إنزالِ السُّوء، فافعَلُوا ولا تُمهلوني طَرَفَةَ عَينٍ، ولم يقُل هذا على جهةِ الأمرِ لهم، وإنما قال لبيانِ عَجزِهم.
وقولهُ تعالى :﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ ؛ أي ما مِن أحدٍ إلا وهو في قَهْرِ اللهِ وتحت قُدرَتهِ، وإنما جعلَ الأخذ بالناصيةِ كنايةً عن ذلك ؛ لأنَّكَ إذا أخذتَ بناصيةِ غيرِكَ فقد قَهَرْتَهُ وأدْلَلْتَهُ، والنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ شَعْرِ الرأسِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي هو في تدبيرِ عباده لا يفعلُ إلا الحقَّ، فإنه عادلٌ لا يَجُورُ، ويقالُ : إن معناهُ : أن طريقَ العبادةِ على الله كما قال تعالى﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾[الفجر : ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي ويومَ القيامةِ يُبعَدُونَ من رَحمةِ الله كما أُبعدوا في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ ؛ أي جَحَدوا، ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾، أي أبعدَهم الله من رحمتهِ إبعاداً. وفي هذا تَهْدِيدٌ للكفار، كأنَّهُ تعالى قالَ : انظُروا يا أهلَ مكَّة كيف فعلَتْ عادٌ وكيف فُعِلَ بهم، فاحذرُوا أنْ يُصيبَكم مثلَ ما أصابَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ﴾ ؛ أي استغفروهُ من الشِّرك والذنوب، ثم دُومُوا على التوبةِ، ﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ﴾ ؛ ممن تقرَّبَ إليه، ﴿ مُّجِيبٌ ﴾ ؛ لِمَن دعاهُ وأطاعَهُ. وأراد بالقُرب الإسراعَ بالرَّحمة والإجابَةِ ؛ لا قُرب المسافةِ.
وإنَّما قالَ في هذهِ الآية :(وَأخَذ)، وفي آيةٍ أُخرى :(وَأخَذتْ) ؛ لأنَّ الصيحةَ والصِّياحَ واحدٌ، فردَّ الكنايةَ مرَّة إلى الصيَّاحِ ومرَّة إلى الصَّيحَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ ؛ أي مَيِّتِينَ قد هَمَدُوا رَمَاداً جُثُوماً على الرُّكَب. ويقال : أصبَحُوا في بلادِهم جَاثِمين على وجُوهِهم على الطَّرفِ. وقولهُ تعالى :﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ ؛ أي كأَنْ لم يكونُوا في الأرضِ قَطُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ ؛ أي برَبهِم، ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾ ؛ أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ. وقرىء (لِثَمُودِ) بالكسرِ لقُربها من قولهِ ﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ ﴾، فمَنْ صرفَهُ جعله اسماً، ومَن لم يصرِفْهُ جعله اسماً للقبيلةِ.
فلما دخَلُوا عليه، ﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ ؛ أي سلَّمُوا عليه سَلاَماً، وَقِيْلَ : قالوا : نُسَلِّمُ سَلاماً، وهو نَصْبٌ على المصدرِ، وقولهُ :﴿ قَالَ سَلاَمٌ ﴾ ؛ أي أجابَهم إبراهيمُ بأن قالَ : عليكم سَلامٌ. وإنما لم يقل عليكُم سَلاماً بالنصب ؛ لأنه لو كان كذلكَ لكان يُتوَهَّمُ أن إبراهيمَ عليه السلام حكَى قولَ الملائكةِ أنَّكُم سلَّمْتُم سلاماً، فخالَفَ بينهما ليكون قولهُ جَواباً لَهم. ومَن قرأ بكسرِ السِّين، فالسِّلْمُ السَّلامُ بمعنى واحدٍ، كحَلَّ وحَرُمَ مثل حلالٍ وحرام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ ؛ أي ما لَبثَ إبراهيمُ أن جاءَ بعِجْلٍ مَحْنُوذٍ ؛ أي مَشْوِيٍّ، قال ابنُ عبَّاس :(الْحَنِيذُ : النَّضِيجُ) هو قولُ مجاهد وقتادة، والْحِنْذُ : إشْوَاءُ اللَّحمِ بالحجارةِ الْمُحَمَّاةِ في شَوْءٍ مِن الأرضِ، وهو مِن فِعْلِ الباديةِ، وقال مقاتلُ :(إنَّمَا جَاءَهُمْ بعِجْلٍ لأنَّهُ كَانَ أكْثَرُ مَالِهِ الْبَقَرَ).
وقال الحسنُ :(إنَّمَا جَاءَهُمْ بالطَّعَامِ لأنَّهُمْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الآدَمِيِّينَ، عَلَى هَيْأَةِ الأَضْيَافِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الضَّيفَانِ، وَلَوْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ إلَيْهِمْ ذلِكَ لِعِلْمِهِ باسْتِغْنَاءِ الْمَلاَئِكَةِ عَنِ الطَّعَامِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ أي ضَحِكَتْ من سُرورِها بالسَّلام، فزَادُوها بشَارةً بإسحقَ عليه السلام، وقال السديُّ :(إنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ : ألاَ تأْكُلُونَ؟! قَالُوا : إنَّا قَوْمٌ لاَ نَأْكُلُ إلاَّ بالثَّمَنِ، قَالَ : كُلُوا وَأدُّوا ثَمَنَهُ، قَالُواْ : وَمَا ثَمَنُهُ ؟ قَالَ : أنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ فِي آخِرِهِ. فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَقَالَ : حَقٌّ لِهَذا أنْ يَتََّخِذهُ اللهُ خَليلاً، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ : عَجَباً لأَضْيَافِنَا نَخْدِمُهُمْ بأْنفُسِنَا تَكْرِمَةً لَهُمْ وَهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا!).
وقال قتادةُ :(ضَحِكَتْ لِغَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقُرْب الْعَذاب مِنْهُمْ). وَقِيْلَ : ضَحِكَتْ سُروراً بالأمْنِ منهم لَمَّا قالوا : لاَ تَخَفْ، وقال عكرمةُ :(ضَحِكَتْ أيْ حَاضَتْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ ؛ قرأ ابنُ عامر وحمزة ويعقوب بالنصب على معنى : وَوَهَبْنَا لها من وراءِ اسحقَ يعقوبَ، وَقِيْلَ : بنَزعِ الخافض ؛ أي وبشَّرنَاها من وراءِ اسحقَ بيعقوب، فلما حُذفت الباء نُصِبَ.
وقال الزجَّاج :(لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ عَلَى ذلِكَ ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجَارِّ والْمَجْرُورِ وبَيْنَهُمَا وَاوُ الْعَطْفِ إلاَّ بإعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ : مَرَرْتُ بزَيْدٍ فِي الدَّار وَالْبَيْتِ وَعَمْرٍو، حَتَّى يَقُولَُ : وَبعَمرٍ).
وقولهُ ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾ قال المفسِّرون : كان إبراهيمُ قد وُلِدَ له من هاَجَرَ وكَبرَ وشَبَّ، فتمَنَّت سارةُ أن يكون لها ابنٌ وآيَسَتْ من ذلك لكبَرِ سِنَّها، فبُشِّرت على كِبَرِ السنِّ بولدٍ يكون نبيّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ قال الزجَّاج :(بَشَّرُوهَا أنَّهَا تَلِدُ اسْحَقَ، وَأنَّهَا تَعِيشُ إلَى أنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهِ، وَوَرَاءَ هَهُنَا بمَعْنَى بَعْدَ)
قال ابنُ عبَّاس :(كَانَتْ سَارَةُ بنْتَ ثَمَانٍ وَتِسعِينَ سَنَةً، وَكَانَ زَوْجُهَا ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَتَعَجَّبَتْ بأَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ كَبيرَيْنِ وَلَدٌ)، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ أي هذا الذي يعرفونَهُ بَعْلِي، ثم قالت (شَيْخاً) أي انتَبهوا له في حالِ شيخوخَتهِ فهو نُصِبَ على الحالِ، وذهبَ الكوفيُّون إلى أنه نُصِبَ على القطعِ عن المعرفة إلى النَّكرة كما يقالُ : خَرجَ زَيدٌ راكباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ ؛ معناهُ : نعمةُ اللهِ عليكم في الدِّين والدنيا وخيراتهِ التامَّة عليكم يا أهلَ البيتِ بيتِ إبراهيم عليه السلام، ﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ ﴾ ؛ لأعمَالِكم، ﴿ مَّجِيدٌ ﴾ ؛ أي كريمٌ يُكرِمُكم بالنِّعَمِ، الكريمُ هو الذي يَبْتَدِئُ بالنعمةِ قبل الاستحقاقِ، والْمَجِيدُ الْمَاجِدُ وهو ذو الشَّرَفِ والمجدِ والكرَمِ.
واختلَفُوا في هذهِ المجادلة، فقال بعضُهم : سألَ عن سبب تعذيب اللهِ لهم سؤالَ مُسَتقْصٍ حتى قالَ : إنَّ اللهَ أمرَ باستئصالِهم وبتخويفِهم بالعقاب، وحتى قال : إنَّ فيها لُوطاً. وقال بعضُهم : أراد بالمجادلةِ الدُّعاءَ والتضرُّعَ وشدةَ الحرصِ على نجاة القومِ رجاءَ إيمانِهم.
كما رُوي أنَّ إبراهيمَ عليه السلام قامَ من الليلِ يُصلِّي وهو يقولُ : يا رب أتُهِلكُ قومَ لوطٍ ؟ قِيْلَ : يا إبراهيمَ ليس فيهم مؤمنون، قال : يا رب فإن كان فيهم خمسونَ أهلُ بيتٍ مُؤمنون أتُهلِكُهم ؟ قِيْلَ : لا، قال : فأربعونَ ؟ قِيْلَ : لاَ، فَلَمْ يزل يُرَدِّدُ حتى قِيْلَ : إنْ كان يهم خمسةُ أبياتٍ مؤمنين رفَعنا عنهم البلاءَ. يقولُ الله تعالى :﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾[الذاريات : ٣٦].
قِيْلَ : لَمَّا جادَلَهم إبراهيمُ عليه السلام قالت له الرُّسُل : يا إبراهيم أعْرِضْ عن هذا الجدالِ، إنه قد جاءَ أمرُ ربكَ بعذابهم، وإنَّهم آتِيهم عذابٌ غير مردودٍ، قوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ﴾ ؛ أي وَقُورٌ بَطِيءُ الغضب، والحليمُ : الْمُحْتَمِلُ للأَذى مع قُدرتهِ على العقوبةِ والمكافأة، ﴿ أَوَّاهٌ ﴾ ؛ بالدعاء، ويقال : الرحيمُ، ويقال المتأَوِّهُ خَوفاً وأسَفاً على الذُّنوب، و ﴿ مُّنِيبٌ ﴾ ؛ هو الراجعُ إلى اللهِ.
قِيْلَ : معناهُ : ضَاقَ بهم وسْعاً. وكان لوطُ ضاقَ وسعَهُ بهم أنْ يحفَظَهم. وفي الخبرِ : أنه جعلَهم فيما بين مَواشِيهم، فلما كان في وقتِ غفلةِ الناس حَمَلَهُم إلى دارهِ، فذهبت امرأتهُ الخبيثة وأخبرَتْهم، وقالَتْ لَهم : إنه قد نزلَ عند لُوطٍ أضيافٌ لم يُرَ قط أحسَنَ وُجوهاً منهم، ولا أطيبَ ريحاً، ولا أنظفَ ثياباً.
﴿ قَالَ ﴾ : لَهم لوطُ عليه السلام :﴿ ياقَوْمِ هَـاؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ ؛ عَرَضَ عليهم بناتَهُ نِكَاحاً، وأظهرَ من نفسهِ في صونِهم ما لا شيءَ أبلغُ منه، أظهرَ الكرامةَ في باب الأضيافِ، فذكَرَ بناتَهُ ليدلُّ بذلك على التشديدِ في دَفعِهم عمَّا أرَادُوا. فكان يجوز في ذلك الوقتِ تزويجُ الْمُسْلِمَةِ من الكافرِ، كما كان يجوزُ في شَريعتنا في ابتداء الإسلام، فإنَّ النبيَّ ﷺ زَوَّجَ ابنتَهُ من ابنِ العاص بن الرَّبيع. ويقالُ : أرادَ بقوله ﴿ بَنَاتِي ﴾ بناتَ قومهِ ؛ لأن النبيَّ يكون للقومِ بمنْزِلة الوالدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ ؛ أي اتَّقُوا عقابَ الله، ولا تُلزِمُونِي عَيباً في ضَيفِي، ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ ؛ في نفسهِ فَيَنْزَجِِرُ عن هذا الأمرِ، ويزجرُكم عنه.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ قال :" رَحِمَ اللهُ أخِي لُوط لَقَدْ آوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ " أي التجأَ إلى اللهِ وملائكته، وقال ابنُ عبَّاس :(فَلَمَّا عَلِمَ جِبْرِيلُ وَالْمَلاَئِكَةُ خَوْفَ لُوطٍ مِنْ تَهدِيدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ كَانَ لُوطُ أغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلاَئَكَةِ وَهُوَ يُنَاشِدُ قَوْمَهُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : يَا لُوطُ إنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وَإنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).
فقالَ لوطُ عليه السلام متَى مَوعِدُ هَلاَكِهم ؟ قالوا : الصُّبْحَ، قالَ : أريدُ أسرعَ من ذلك، فقالوا : أليس الصُّبح بقريبٍ ؟ وذلك قولهُ تعالى :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ ﴾[القمر : ٣٧].
ثُم قالوا له :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾ ؛ وفيه قراءَتان (فَأَسْرِ) بالهمز والوصلِ، يقال سَرَى وأسْرَى بمعنى واحدٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ ﴾ ؛ أي في آخرِ الليل عند السَّحَرِ والهدوءِ، وقال الضحَّاك :(بقِطْعٍ أيْ ببَقِيَّةٍ)، وقال قتادةُ :(بَعْدَ مَا مَضَى صَدْرُهُ)، ﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾.
قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو (امْرَأَتُكَ) رفعاً على الاستثناءِ من الإلتفات ؛ أي ولا يلتَفِت أحدٌ إلا امرأتُكَ، فإنَّها تلتفِتُ فتهلَكُ. وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء من الإسراءِ ؛ أي فَاسْر بأهلِكَ إلا امرأتُكَ فلا تَسْرِ بها وخلِّفها مع قومِها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ﴾ ؛ أي قالت الملائكةُ : إن وقتَ هلاكِهم، ﴿ الصُّبْحُ ﴾ ؛ فقالَ لوط : الآنَ يا جبريلُ، وإنما ذلكَ لضيقِ صدرِه منهم وشدَّة غَيظِه، فقالَ جبريلُ :﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾، وفي هذا بيانُ أنَّ اللهَ لا يُهلِكُ أحداً قبلَ انقضاءِ مدَّتهِ، وإنْ ضَاقَتْ صدورُ أوليائهِ عنه.
وعن ابن عبَّاس :(أنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا قَالَ لِلُوطٍ : فَاسْرِ بأَهْلِكَ بقِطَْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ لُوطُ : يَا جِبْرِيلُ كَيْفَ أصْنَعُ وَأَبَوابُ الْمَدِينَةِ قَدْ أُغْلِقَتْ، فجَمَعَ لَهُ جِيْرِيلُ أهْلَهُ وَبَقَرَهُ وَغَنَمَهُ وَمَالَهُ، وَاحْتَمَلَهُمْ عَلَى جَنَاحِهِ حَتَّى أخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ بهِمْ مُتَوَجِّهاً إلَى صَغَرْ، وَهِيَ عَلَى أرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَدَائِنِ لُوطٍ، وَهِيَ إحْدَى الْقَرَى الْخَمْسِ : سَدُومُ وَدَادَ وَمَاو وَعَامُورا وَصَغَرْ، وَلَمْ يَكُنْ أهْلُ صَغَرْ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، وَكَانَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ ألْفُ مُقَاتِلٍ، فَمَا سَارَ لٌُوطُ فَرْسَخَيْنِ حَتَّى سَمِعَ الصَّيْحَةَ).
كما رُوي أنَّ جبريل عليه السلام جعلَ جناحه في أسفلِها فرَفَعها من الأرضِ السَّابعة إلى السَّماءِ حتى سَمِعَ أهلُ السَّماء نباحَ الكلاب وصياحَ الدِّيَكة، ثم قلَبَها وجعلَ أسفلها أعلاَها، وأعلاها أسفَلَها، وأقبَلَت تَهوِي من السَّماءِ إلى الأرضِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ ؛ قال وهبُ :(لَمَّا رُفِعَتْ إلَى السَّمَاءِ أمْطَرَ الله ُعَلَيْهَا حِجَارَةَ الْكِبْرِيتِ بالنَّارِ، ثُمَّ قُلِبَتْ عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ قِيْلَ : أمطرَ اللهُ الحجارةَ على شُذاذِهم ومُسافرِيهم. واختلَفُوا في السِّجِِّيلِ، فقيل : هو فارسيةٌ مُعرَّبَة، وفيه بيانُ أن تلك الحجارةَ كانت شديدةً صَلِبَةً، ونحو ما يُطبَخُ من الطِّين فيصيرُ كالآجُرِّ وأصلبَ منه، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ ؛ السفيه الجاهل، فذكروا الحليم الرشيد على جهةِ الاستهزاء، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس، وياقل : قالوا ذلك علَى جهةِ التحقيقِ إنكَ لأنتَ الحليمُ الرشيد في قومِكَ، فكيف تَنهَانَا عن عبادةِ ما يعبدُ آباؤنا وعن أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاءُ من البَخْسِ والتَّطفِيفِ، كأنَّهم استبعَدُوا أن يكون آباؤُهم قد أخطَأُوا في دِينهم ورباهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ ؛ أي ما أريدُ أن تترُكوا ما نَهيتُكم عنه لأعملَ أنا به فانتفعَ، والمعنى لستُ أنْهاكُم عن شيءٍ ثم أدخلُ فيه، ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ ؛ أي ما أريدُ إلا الإصلاحَ في أمرِ الدين والمعاشِ بقدر استطاعَتي، ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي ما توفيقي للصَّلاحِ إلا مِنَ اللهِ، والتوفيقُ من اللهِ، هو كلُّ فِعْلٍ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَبْدِ عِنْدَ اخْتِيَار الطَّاعةِ وَالصَّلاحِ، وَلَوْلاَهُ لَكَانَ يَخْتَارُ خِلاَفَ ذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ ؛ أي فوَّضتُ أمرِي إلى اللهِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ ؛ أي أرجِعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ﴾ ؛ قالَ ابنُ عبَّاس :(أرَادُوا بالضَّعْفِ أنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ)، وقال ابنُ جبير :(مَعْنَاهُ إنَّا لَنَرَاكَ أعْمَى)، وقد رُوي أنه كان قد ذهبَ بصرهُ من كثرةِ بُكائِهِ من خِشيَةِ اللهِ تعالى. وفي بعضِ الرِّوايات : أنه عَمِيَ ثلاثَ مرَّات، وكان اللهُ تعالى يرُدُّ عليه بَصَرَهُ حتى أوحَى إليه : يا شعيبُ ما هذا البكاءُ ؟ قال : شَوقاً إليك يا رب. " وسُئِلَ النَّبيُّ ﷺ عَنْ شُعَيْبٍ قَالَ :" ذاكَ خَطيبُ الأَنْبيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ ؛ أي ولو لا عَشِيرتُكَ لقَتلنَاكَ بالحجارةِ، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ ؛ أي إنا لا نَدَعُ قتلَكَ لعزَّتِكَ علينا، ولكن لأجلِ قومِكَ. والمعنى : لستَ تَمتَنِعُ علينا أنْ نقتُلَكَ لولا ما نُراعِي من حقِّ عَشيرِتَكَ.
يقال : إنَّ جبريل صاحَ بهم صيحةً، فخرجت أرواحُهم من أجسادِهم، ﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ ؛ أي ميِّتين سَاقِطِين صَرْعَى. وَقِيْلَ : بل وَاقِفِين على رُكَبهم، ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ ؛ أي كأنْ لم يكونوا في الأرضِ قطٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ ؛ معناهُ : ألاَّ سُحْقاً وهلاكاً لقومِ شُعيب كما هلَكت ثَمُودُ، وإنما شبَّهَهم بثَمُودَ ؛ لأن الصيحةَ كانت سَبباً في هلاكِ الفريقين جميعاً.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ مَدْيَنَ أصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ الرِّيحُ لَيْلاً وَلاَ نَهَاراً، فَكَانَ يُحْرِقُهُمْ باللَّيْلِ حَرُّ الْقَمَرِ، وَبالنَّهَار حَرُّ الشَّمْسِ، فَنَشَأَتْ لَهُمْ سَحَابَةٌ كَهَيْئَةِ الظُّلَّةِ فِيْهَا عَذابُهُمْ، فَأَتَوهَا يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا وَيَطْلُبُونَ الرُّوْحَ، فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجَفَتِ الأَرْضُ مِنَ الْعَذاب وَأحْرَقَتْهُمُ السَّحَابَةُ، وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[الشعراء : ١٨٩]).
قال :(وَلَمْ يُعَذبْ أُمَّتَانِ بعَذابٍ وَاحِدٍ إلاَّ قَوْمَ شُعَيْبَ وَصَالِح، فَأَمَّا قَوْمُ صَالِحٍ فَأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَأمَّا قَوْمُ شُعَيْبٍ فأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةَ مِنْ فَوْقِهِم).
وأما عطفُ الماضي الذي هو (فَأَوْرَدَهُمْ) على المستقبلِ فهو على معنى فهو إذا قَدِمَهُمْ أوردَهم النارَ. وإنما تقدَّمَهم ولم يقل يسبقُ ؛ لأن قولَهُ يسبقُ قومَهُ لا يدلُّ على أنه يَمشِي بين أيديهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ فيه إلى النارِ، والوِرْدُ في الحقيقة إنما يستعملُ في الماءِ كما قالَ تعالى﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ ﴾[القصص : ٢٣]، ولكنْ لَمَّا كان فرعونُ وقومه في الآخرةِ يكونون عَطَاشَى ويَرِدُونَ على ما بهم من العطشِ استعملَ فيهم هذه اللَّفظة.
والرِّفْدُ في اللغة : هو العَوْنُ في الأمرِ إلا أن العطيةَ تُسمَّى رِفْداً لما فيها من العَوْنِ، كأنَّهُ قالَ : بئْسَ العطاءِ ما أعطَى. وقال بعضُهم : هذا من الْمَقْلُوب ؛ أي بئْسَ الرِّدْفُ الْمَرْدُوفُ، فالرِّدْفُ : لَعْنَةُ اللهِ إياهم، والمردوفُ لَعْنَةُ الأنبياءِ والمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ أي منها قائمٌ الأبنِية وقد بادَ أهلهُ كما قالَ تعالى :﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾[الحج : ٤٥]، والحصيدُ ما هَلَكَ بأهلهِ فلا يبقَى له مكان ولا أثرَ نحو مدائنِ قومِ لوط حُصدت من الأرضِ السُّفلَى. والمعنى منها قائمٌ بقيَت حيطانهُ ومنها حصيدٌ مخسوفٌ به قد أُمْحِيَ أثرهُ، قال ابنُ عبَّاس :(قَائِمٌ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ وإلَى مَا بَقِيَ مِنْ أثَرِهِ، وَحَصِيدٌ قَدْ خَرِبَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أثَرٌ شَبيهٌ بالزَّرْعِ إذا حُصِدَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾ ؛ الزفيرُ شدَّةُ الأَنِينِ في الصَّدرِ، والشيهقُ الأَنِينُ الشديدُ المرتفع نحوَ الزَّعْقَةِ التي تكون من شدَّةِ الكَرْب والحزنِ، وربَّما يتبعُها الغَشْيَةُ، ومن هذا قالوا : إن الزفيرَ أوَّلُ صوتِ نَهيق الحمارِ، والشهيقُ آخر صوت نَهيقهِ، وسُمي رأسُ الجبلِ شاهقاً لارتفاعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ ؛ أي سِوَى ما شاءَ ربُّكَ من الْخُلُودِ بعدَ مُضِيِّ مقدارِ سماء الدُّنيا وأرضها. وقال بعضُهم : معنى الآية : ما دامَت سماءُ الدُّنيا وأرضها، وسماءُ الجنَّة وأرضها، وسماءُ الجنَّة وأرضها، وقوله :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ مذكورٌ على وجه التأبيدِ أيضاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ ؛ أي يفعلُ ما شاءَ.
قرأ ابنُ كثير ونافع (وَإنْ كُلاًّ لَمَا) كلاهما بالتخفيفِ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَإنْ) مخفَّفة (لَمَّا) مشدَّدة، والباقون كلاهما بالتشديدِ، فحُجة أبو عمرِو والكسائي أن اللامَ في قوله :(لَمَّا) لامُ التأكيدِ دخلت في خبرِ إن، واللامُ التي في ﴿ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ﴾ لامُ القسمِ، تقديره : واللهِ ليُوَفِّينَّهُمْ، دخلت (مَا) للفصلِ بين اللاَّمَين.
وأما حُجة نافع وابن كثير في نصبهِ (كُلاً) ما قال سيبويه : إنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَب مَنْ يَقُولُ : إنْ عَمراً لَمُنْطَلِقٌ، فَيُخَفِّفُونَ إنْ وَيُعْمِلُونَهَا، وأنشدَهُ الشاعرُ : وَوَجْهٌ حَسَنُ النَّحْرِ كَأنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِوالمعنى على قراءةِ أبي عمرو (وَإنَّ كُلاً) من السعيدِ والشقيِّ ليُوفِّيَنَّهُمْ ربُّك أعمالَهم، و(مَا) زائدةٌ في قولهِ (لَمَّا)، ومَن خفَّف (إنْ) كان معناه من معنى المشدَّدة، تقول : إنْ زَيْداً لْقَائِمٌ، وَإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ، تريدُ إثباتَ قيامهِ، فإذا قُلتَ : إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فمعناهُ : مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق : ٤] بتخفيفِ (لَمَا)، تقدير لعلَّها حافظٌ، ومن خفَّف (إنْ) وشدَّدَ (لَمَّا) فتأويلهُ الجحدُ والتحقيق ؛ أي ما كلٌّ إلا ليُوَفينَّهم، ونُصبَ (كُلاًّ) على هذا التأويلِ بـ (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لا بـ (أنْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ أي فتُصِيبَكم كما تصيبُهم، ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ ؛ من أعوانٍ يدفعون عنكم عذابَ الله، ﴿ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ ؛ على أعدائِكم ؛ لأنَّ الله تعالى إنما ينصرُ المطيعِين.
ويقالُ : إن صلاةَ الظُّهر داخلةٌ في قوله ﴿ طَرَفَيِ النَّهَارِ ﴾ ؛ لأنَّها لا تقامُ إلا بعدَ الزوالِ، فإذا زالتِ الشمسُ فقد دخلَ الطرفُ الآخر خُصوصاً إذا اعتبرَ النهارُ من طلوعِ الفجر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ﴾ ؛ أي إن الصلواتِ الخمس يُذهِبْنَ الصغائرَ، كما رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال :" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ ". وَقِيْلَ : إنَّ التوبةَ تُكَفِّرُ عقابَ السيِّئات، وَقِيْلَ : أرادَ بالحسناتِ : سُبحان الله ؛ والحمدُ للهِ ؛ ولا إلهَ إلا اللهُ ؛ واللهُ أكبر. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي ذلك الخطابُ تذكيرٌ للذاكرِين الذين يذْكُرون أوامرَ اللهِ ويأخذون بها، ويذكرون نَواهِيَهُ فيجتبنونَ معاصيه.
وعن ابنِ عبَّاس قال :" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَرَفَةَ الأَنْصَاريّ، أتَتْهُ امْرَأةٌ تَبْتَاعُ تَمْراً فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ : إنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْراً أجْودَ مِنْهُ، فانْطَلِِقِي مَعِي حَتَّى أُعْطِيكِ مِنْهُ.
فَانْطَلَقَتْ مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَيْتَ وَثَبَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالْمَرْأةِ إلاَّ وَقَدْ فَعَلَهُ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا - يَعْنِي أنَّهُ ضَمَّهَا وَقَبَّلَهَا وَحَذفَ شَهْوَتَهُ - فَقَالَتْ لَهُ : اتَّقِ اللهَ، فَتَرَكَهَا وَنَدِمَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأتَى رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ رَاوَدَ امْرَأةً عَنْ نَفْسِهَا، وَلَمْ يُبْقِ شَيْئاً مِنْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالنِّسَاءِ غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا ؟
فَقَالَ عُمَرٌ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ! وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئاً، فَقَالَ :" مَا أدْرِي، مَا أدْرِي عَلَيْكَ حَتَّى يَأْتِي فِيكَ شَيْءٌ " فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الصَّلاَةِ، نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُنْبؤُهُ بهَذِهِ الآيَةِ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أخَاصٌّ لَهُ أمْ عَامٌّ ؟ فَقَالَ :" بَلْ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ ؛ كانوا ينهَون عن الفسادِ، وهم الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والصالحون، فأنْجَينَاهُم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾ ؛ أي أقبَلُوا على ما خُوِّلوا من دُنياهم، واستَغنوا بذلك عن طاعةِ الله، فلم يَنْهَوا عن الفسادِ، وعَتَوا عن أمرِ الله، وآثَرُوا الدُّنيا وبَطَرُوا، ﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي وكانوا مُذنِبين بتركِ الأمرِ بالمعروف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ ؛ أي في الدِّين على أدْيَانٍ شتَّى من يهودِيٍّ ونصرانِيٍّ ومجوسي وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ ؛ إلا مَن عَصَمَهُ اللهُ من الباطلِ والأديان والمخالفَةِ بأنْ لَطَفَ به، ووفَّقَهُ للإيمان المؤدِّي إلى الثواب، فهو نَاجٍ من الاختلاف بالباطلِ.
وخُصَّت هذه السورةُ بمجيءِ الحقِّ فيها تَشريفاً لها ورَفعاً لمْنزِلَتِها. وقِيْلَ : أرادَ بقولهِ ﴿ فِي هَـاذِهِ ﴾ الدُّنيا، والموعظةُ : تعريفُ القبيحِ للزَّجرِ عنه، وتعريفُ الحسَنِ للترغيب فيه، و ؛ هي ؛ ﴿ وَذِكْرَى ﴾ ؛ الذِّكرى :﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
عن رسولِ الله ﷺ قالَ :" مَنْ قَرَأَ سُورَةَ هُودٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ نُوحاً وَهُوداً وَشُعيباً وَلُوطاً وَصَالِحاً وَإبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَمَنْ كَذبَهُمْ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّعَدَاءِ ".