سورة هود
مائة وثلاث عشرون آية مكية إلا قوله ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾الآية
ﰡ
﴿ آلر كتاب ﴾مبتدأ وخبر، أو كتاب خبر مبتدأ محذوف ﴿ أحكمت آياته ﴾ أي نظمت آياته نظما محكما لا يقع فيه نقص من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، أو منعت من النسخ عن كان المراد آيات السورة فغنه ليس شيء منها منسوخا، أو أحكمت بالحجج والدلائل، أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لاشتمالها على أمهات الحكم العلمية والعملية ﴿ ثم فصلت ﴾ أي بنيت بالفوائد أو فصلت بجعلها سورا أو بإنزالها نجما نجما، أو فصل أي بين فيها ولخص ما يحتاج إليه ﴿ من لدن حكيم خبير ﴾ صفة للكتاب أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت أو فصلت يعني من عنده أحكامها وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر من أمره وما خفي.
﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ أي لأن لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا أو في ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، وقيل إن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء كأنه قيل ألزموا ان لا تعبدوا إلا الله ﴿ إنني لكم منه ﴾ أي من الله تعالى ﴿ نذير ﴾بالعقاب على الشرك ﴿ وبشير ﴾ بالثواب على التوحيد
﴿ وأن استغفروا ﴾ عطف على أن لا تعبدوا يعني استغفروا ﴿ ربكم ﴾ على ما سلف منكم من المعاصي ﴿ ربكم توبوا ﴾ ثم ارجعوا بالطاعة ﴿ إليه ﴾ وقال الفراء ثم هاهنا بمعنى الواو والاستغفار هو التوبة بعني يلزم أحدهما الآخر ﴿ يمتعكم متاعا حسنا ﴾ أي يعيشكم عيشا حسنا في امن وسعة فإن المعاصي جالبة للمصائب و البليات قال : الله تعالى ﴿ وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديهم ويعفوا عن كثير ﴾ وقيل : العيش الحسن الرضاء بالمقسوم والصبر على المقدور ﴿ إلى اجل مسمى ﴾ أي حين موت كل واحد منكم فغنها مدة معلومة عند الله تعالى بحيث لا يتغير ﴿ و يؤت كل ذي فضل ﴾ في دينه وعمله ﴿ فضله ﴾ أي جزاء فضله في الدنيا بكثرة التوفيق وطمأنينة القلب والالتذاذ والراحة بذكر الله والبشرى وفي الآخرة بكثرة الثواب و مدارج القرب ﴿ وإن تولوا ﴾ حذفت إحدى التائين أي تتولوا وتعرضوا عن عبادة الله والتوحيد، ﴿ فإني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾يعني يوم القيامة فغن مقدراه خمسين ألف سنة بل مالا نهاية لها
﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ أي رجوع أموركم كلها في الدنيا والآخرة ﴿ وهو على كل شيء ﴾ من الإثابة والتعذيب في الدارين ﴿ قدير ﴾ فهو تقرير لما مر من الآيات.
﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا ﴾ أي من الله تعالى، روى البخاري عن ابن عباس قال :" كان ناس يعني من المسلمين يستحيون إن يتخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء وان يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم " وكذا اخرج بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس، واخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر من طريق ابن أبي ملكية قال : سمعت ابن عباس يقرأ ﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ﴾ قال : كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا ثيابهم كراهة ان يفضوا بفروجهم على السماء، وقال البغوي قال عبد الله بن شداد نزلت هذه الآية في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا اخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله ابن شداد بن الهاد، وفي لفظ المنافقين نظر فإن الآية مكية والنفاق حصل بالمدينة وضمير منه على هذا راجع على النبي صلى الله عليه وسلم وقال البغوي قال : ابن عباس نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقليه على ما يكره ومعنى قوله ﴿ يثنون صدورهم على الكفر والشحناء وعداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال قتادة كانوا يحنون صدورهم لكي لا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره، وقال السدي معنى يثنون يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه البخاري تثنوني صدورهم بالتاء والياء بالإسناد إلى الصدور من أثنوني يثنوني، وهو بناء للمبالغة، وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه وهو يقول هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت هذه الآية { ألا حين يستغشون ثيابهم ﴾ أي يغطون رؤوسهم بثيابهم ﴿ يعلم ﴾ الله ﴿ ما يسرون ﴾ في قلوبهم وفيها عداها ﴿ وما يعلنون ﴾ بأفواههم ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي بأسرار ذات الصدور أو القلوب وأحوالها وإذا لم يخف شيء من الله تعالى فسيظهر ما يشاء على رسوله وعلى المؤمنين.
﴿ وما من دابة ﴾ وهي كل حيوان يدب على الأرض﴿ في الأرض إلى على الله رزقها ﴾ لتكفله إياها تفضلا ورحمة، وغنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه، ومن هاهنا قيل إن على بمعنى من والإضافة في رزقها للعهد يعني ان الرزق المعهود المعلوم عند الله تعالى للعبد فالله تعالى متكفله إياه يأتي منه دون من غيره، قال : مجاهد هو ما جاء من رزق فمن الله وربما لم يرزقها حتى يموت جوعا ﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ قال : البغوي قال ابن مقسم وروي ذلك عن ابن عباس مستقرها المكان الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا ومستودعها الموضع الذي يدفن فيه إذا مات، وقال ابن مسعود المستقر أرحام الأمهات والمستودع أصلاب الآباء، ورواه سعيد بن جبير وعلي بن طلحة وعكرمة عن ابن عباس، وقيل : المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر لقوله تعالى في صفة الجنة والنار ﴿ حسنت مستقرا ﴾ ﴿ وساءت مستقرا ﴾ ﴿ كل ﴾أي كل واحد من الدواب وأحوالها وأرزاقها ﴿ في كتاب مبين ﴾ أي مثبت في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء " رواه مسلم، وعن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم تكون علقة مثل ذلك، ثم تكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اله فليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقي أو سعيد " الحديث متفق عليه، وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله فرغ إلى عبد من خلقه من خمس من أجله وعمله ومضجعه وأثره ورزقه " رواه احمد كأنه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها ببيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد
﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ﴾أي خلقهما وفيهما، أو المراد بالسماوات ما هو في جهة العلو، وبالأرض ما هو في جهة السفل، وجميع السماوات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات ﴿ وكان عرشه ﴾ قبل خلق السموات والأرض ﴿ على الماء ﴾ قال البغوي : وكان ذلك الماء على متن الريح، وقال كعب الأحبار خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء وقال ضمرة إن الله كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه وما هو خالق من خلقه ثم عن ذلك سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئا من خلقه، وروى البخاري عن عمران بن حصين بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان الله ولم يكن شيئا قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السمات والأرض وكتب في الذكر كل شيء " الحديث، وقد ذكرنا بعض ما ورد من الأخبار في العرش في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة. ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لأحوالكم وهو اعلم بكم حتى يظهر فيكم استحقاق الثواب والعقاب فغن السموات والأرض وما فيها أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما يحتاج غليه أعمالكم يستدعى أن تشكروا ربكم، ودلائل وأمارات تستدلون
بها على صانعكم وتستنبطون منها معرفة ربكم، فقوله ليبلوكم متعلق بخلق وفيه إشارة إلى ان السمات والأرض وما بينهما لم تخلق لأنفسها بل توطئة وتمهيدا لخلق المكلفين بل لخلق المؤمنين بل لخلق أحسنهم عملا وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن يشبه والمراد بالعمل ما يعم عمل الجوارح والقلب، واخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في التاريخ بسند واه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يعني في تفسير هذه الآية : أيكم أحسن عقلا وأورع من محارم الله وأسرع من طاعته " فإن أحسن الأعمال أعمال القلوب وأحسنها حب الله والاشتغال بذكره والاستغراق فيه فالمقصود من خلق السماوات والأرض وجود أهل وفيه تحضيض على الترقي دائما في مراتب العلم والعمل كما يدل عليه صيغة التفضيل
﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا ﴾ أي البعث او القول به أو القرآن المتضمن لذكره ﴿ إلا سحر مبين ﴾ أي كالسحر في الخديعة والبطلان، وقرا حمزة والكسائي إلا ساحر على أن الإشارة إلى القائل والساحر كاذب مبطل.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : لما نزلت ﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ قال : أناس إن الساعة قد اقتربت فتناهى القوم قليلا ثم عادوا على أعمالهم السوء فانزل الله ﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾ فقال : أناس هذا أمر الله قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا على مكرهم السوء فانزل الله ﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب ﴾ الآية، واخرج ابن جرير عن ابن جريح مثله يعني لئن أخرنا عنهم العذاب الموعود ﴿ إلى أمة ﴾ أي على حين ﴿ معدودة ﴾ ساعاته، ذكر في القاموس في معاني أمة الحين، وقال البغوي أي إلى أجل معدود، واصل الأمة الجماعة فكأنه قال : إلى انقراض امة ومجيء أخرى، وقال البيضاوي على جماعة من الأوقات معدودة أي قليلة ﴿ ليقلون ﴾ أي الكفار استهزاء ﴿ ما يحبسه ﴾ أي ما يمنعه من الوقوع ﴿ ألا يوم يأتيهم ﴾ العذاب في علم الله كيوم بدر ﴿ ليس ﴾ ذلك العذاب﴿ مصروفا عنهم ﴾أي مدفوعا عنهم ويوم منصوب بمصروفا يعني ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم ﴿ وحاق بهم ﴾ أي أحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد ﴿ ما كانوا يستهزؤون ﴾أي العذاب الذي كانوا يستعجلونه ويقولون استهزاء ما يحبسه فوضع يستهزؤون موضع يستعجلون.
﴿ ولئن أذقنا الإنسان ﴾يعني الجنس ﴿ منا رحمة ﴾ أي من نعمة صحة وامن وجدة واللام في لئن لتوطئة القسم ﴿ ثم نزعناها ﴾ أي سلبنا تلك النعمة ﴿ منه ﴾ وجواب القسم وجزاء الشرط ﴿ إنه ليؤوس ﴾ أي شديد اليأس من أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله لقلة صبره وعدم ثقته به وعدم تسليم لقضائه ﴿ كفور ﴾ عظيم الكفر عن لما سلف له من نعمة الله نشاء له ولما معه من نعمائه لأن الإنسان لا يخلو من نعماء الله تعالى من الوجود وتوتبعه
﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء ﴾ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم مسته صفة لضراء ﴿ ليقولن ﴾ جواب قسم وجزاء شرط ﴿ ذهب السيئات عني ﴾ أي المصائب التي ساءتني يعني لا ينسب ذهاب السيئات على الله تعالى ولا يشكره بل ينسيه إلى عادة الدهر ﴿ إنه لفرح ﴾ أشر بطر بالنعمة مغتربها والفرح لذة في القلب بنيل المشتهى ﴿ فخور ﴾على الناس يزعم نفسه مستحقا لذلك النعمة متعاليا على الناس يشغله الفرح والفخر عن الشكر
﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ﴾ استثناء من الإنسان يعني إلا المؤمنين فإنهم ليسوا بيؤوس ولا كفور عند سلب النعمة بل يرجون فضل الله ويشكرون نعماءه السابقة والباقية ولا فرحين بطرا وأشيرا غير مفتخرين على الناس عند إنعامه بل يشكرون الله تعالى، وضع سبحانه ﴿ الذين صبروا وعملوا الصالحات ﴾موضع المؤمنين إشعار بأنهم يصبرون في الضراء ويعملون شكرا في السراء، عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " وإن نالوا نعمة شكروا، وعلى قول الفراء اللام في الإنسان للعهد يعني إذا أذقنا الإنسان الكافر منا رحمة إلخ حتى ينقطع الاستثناء ﴿ أولئك ﴾ أي الصابرون الشاكرون ﴿ لهم مغفرة ﴾ لذنوبهم ﴿ وأجر كبير ﴾ يعني رضوان الله وجنته، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله أوحى إلي ان تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولايبغي أحد على احد رواه مسلم.
﴿ فلعلك ﴾ يا محمد ﴿ تارك بعض ما يوحى إليك ﴾ يعني ما فيه سب آلهتهم وذلك حين قالوا : أئت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا كذا قال البغوي، قال : البيضاوي ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسول عن الخيانة في الوحي والتقية في التبليغ هاهنا قلت : وبهذا يندفع ما قيل أن لعل من الله واجبة الوقوع ﴿ وضائق به صدرك ﴾ الضمير فيه به مبهم تفسيره ﴿ أن يقولوا لولا ﴾ هلا ﴿ أنزل عليه ﴾ على محمد ﴿ كنز ﴾ ينفقه في الاستتباع كالملوك ﴿ أو جاء معه ملك ﴾ يصدقه قاله عبد الله بن أمية المخزومي، يعني يضيق صدرك وتغنم بقولهم هذا، وجاز أن يكون المعنى فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي تترك تبليغه إياهم لتهاونهم به وضائق به أي يضيق بذلك الترك صدرك فإن ترك ما أمر الله به يوجب ضيق الصدر كما أن إتيان ما أمر الله به يوجب انشراح الصدر، أن يقولوا أي تترك التبليغ مخافة درهم واستهزائهم بأن يقولوا وضاق صدرك لأجل أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إن كان رسولا فقال : الله تعالى ﴿ إنما أنت نذير ﴾ يعني ليس عليك إلا إنذار بما يوحي إليك ولا عليك شيء أن ردوا أو اقترحوا وقالوا : لقاءنا بقرآن غير هذا فما بلك تترك بقولهم أو بمخافة ردهم أو يضيق صدرك بقولهم ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ يحفظ ما يقولون فيجازيهم عليه.
﴿ أم يقولون ﴾ أم منقطعة والاستفهام فيه للإنكار يعني بل أيقولون ﴿ افتراه ﴾ أي اختلقه من عند نفسه الضمير المنصوب عائد إلى ما يوحي ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ فاتوا بعشر سور مثله ﴾ فإن قيل : قال : في سورة يونس :﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ وقد عجزوا عنه فكيف قال : فأتوا بعشر سور } فهو كرجل يقول الآخر أعطني درهما فيعجز فيقول أعطني عشرة ؟ أجيب بان سورة هود نزلت أولا فلما عجزوا عن إتيان العشرة أنزل بعد ذلك فأتوا بسورة، وأنكر المبرد هذا الجواب وقال : بل نزلت سورة يونس أولا وأجاب بان معنى قوله في سورة يونس ﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد على طبق الكتب المنزلة المتقدمة فعجزوا عن ذلك فقال : لهم في سورة هود ﴿ فأتوا بعشر سور مثله ﴾ وتوحيد المثل باعتبار كل واحد ﴿ مفتريات ﴾ مختلفات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على ما أقدر عليه بل أنتم أقدر لتعلمكم وكثرة ممارستكم ﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله ﴾ ليعينكم على إتيان سورة مثله ﴿ إن كنتم ﴾ أيها الكافرون ﴿ صادقين ﴾ في قولكم إنه مفتري وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
﴿ فإن لم يستجيبوا لكم ﴾ بإتيان ما دعوتم إليه وجمع الضمير في لكم ما لتعظيم الرسول، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدونهم، وكان أمر الرسول متناولا لهم من حيث ان يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصه الدليل، أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب قوة يقينهم ورسوخ إيمانهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله ﴿ فاعلموا إنما أنزل بعلم الله ﴾ أي متلبسا بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه ﴿ وأن لا إله إلا هو ﴾لأن العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة بإعجازه عليه، وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقا ويجوز الكل خطابا للمشركين وللضمير المرفوع في لم يستجيبوا لمن استطعتم والمعنى، فإن لم يستجب لكم أيها الكفار من استطعتم دعوتهم إلى المعاونة على المعارضة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا انه لا يعلمه إلا الله وانه منزل من عنده وان ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل انتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.
﴿ من كان يريد ﴾ بعلمه وإحسانه ﴿ الحياة الدنيا ﴾ أي طول البقاء في الدار الدنيا والصحة ﴿ وزينتها ﴾ من الأموال والأولاد والأزواج والخدم والحشم﴿ نوف إليهم أعمالهم ﴾أي نوصل له جزاء أعمالهم الحسنة وافيا ﴿ فيها ﴾ أي في الدنيا ﴿ وهم فيها ﴾ في الدنيا ﴿ لا يبخسون ﴾ أي لا ينقصون شيئا من أجورهم
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة ﴾ شيء من الجزاء ﴿ إلا النار ﴾لأنهم استوفوا جزاء أعمالهم الحسنة في الدنيا وبقيت لهم أوزار الأعمال السيئة ﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ من الحسنات يعني لم يبق لهم ثواب في الآخرة أو لم يكن لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى حتى يكون أجره على الله، والظرف إما متعلق بحبط والضمير يعود على الآخرة، وإما بصنعوا والضمير يعود إلى الدنيا ﴿ وباطل ﴾ في نفسه ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ من الحسنات في الدنيا لأنه لم يعمل على ما ينبغي وكان كل واحد من الجملتين علة لما قبلها، والظاهر أن هذه الآية في حق الكفار روى البخاري عن عمر بن الخطاب في حديث طويل انه قال :" رفعت بصري في بيته صلى الله عليه وسلم فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة فقلت : يا رسول الله أدع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال :" أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحيات الدنيا " وأما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادة الآخرة غالبة فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطي عليها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا " رواه مسلم وأحمد، قلت : وقوله تعالى ﴿ ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ قرينة دلت على أن الآية في حق الكفار للإجماع على ان مال المؤمن إلى الجنة البتة، وقيل هذه الآية في حق أهل الرياء. عن أبي سعيد بن فضالة عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال :" إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من غير عند الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " رواه أحمد، وعن انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع الله شمله أتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له " رواه الترمذي واحمد والدرامي عن أبان بن زيد بن ثابت، وقوله تعالى ﴿ نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون ﴾ لا ينافي قوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يأتيه منها إلا ما كتب له " لأن إيفاء أعمالهم في الدنيا بحيث لا يبخسون مكتوب لهم ويأتيهم البتة ولا يأتيه ما يزيد عليه وغن كان طالب الدنيا يطلب ما لانهاية له فإنه لو كان لابن آدم وأديان من ذهب لابتغى ثالثا، قلت : وإن كانت هذه الآية في قول الرياء فمعنى قوله تعالى ﴿ ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ أنه ليس لهم جزاء ما يراءون فيه إلا النار.
﴿ أفمن كان على بينة ﴾برهان ﴿ من ربه ﴾ يدله على الحق والصواب فيختار عبادة الله على عبادة الأوثان والدار الآخرة الباقية ونعيمها على الدار الفانية ولذتها، الموصل مبتدأ حذف خبره والفاء للتعقيب والهمزة لإنكار الحكم بمشابهة في هذا شأنه بهؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا بعد العلم بان المقصرين ليس لهم في الآخرة إلا النار وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر، والتقدير أفمن كان على بينة من ربه كمن كان يريد الحياة الدنيا، والمراد بالموصول المؤمنون المخلصون ومن قال : المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عني به الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه للعموم وجمعية اسم الإشارة في قوله ﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ أخرج أبو الشيخ عن أبي العالية وإبراهيم النخعي في قوله ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ قال : ذلك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب، والمراد بالبينة القرآن ﴿ ويتلوه ﴾أي يقرأ ذلك البرهان ﴿ شاهد منه ﴾ أي من الله تعالى ﴿ ومن قبله ﴾ أي من قبل نزوله ﴿ كتاب موسى ﴾ يعني التوراة شاهد من الله يصدق القرآن ﴿ إماما ﴾ كتابا مؤمما به في الدين ﴿ ورحمة ﴾ على المنزل عليهم وهما حالان من كتاب موسى، والمراد بالشاهد جبريل عليه السلام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ﴾قال : جبرئيل، فهو شاهد من الله يتلو من كتاب الله الذي انزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قبله تلا التوراة على موسى كما تلا القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا ذكر البغوي قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر أهل التفسير أنه جبرئيل رض الله عنه، وقال الحسن وقتادة هو لسان محمد صلى الله عليه وسلم يعني يقرأ ذلك البرهان الذي عليه المؤمنون شاهد من الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبله كتاب موسى شاهد له، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن محمد بن علي بن أبي طالب قال : قلت لأبي عن الناس يزعمون في قول الله تعالى﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ أنك أنت الشاهد، فقال : وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم " وأخرجه أبو الشيخ من طريق أبي نجيح عن مجاهد، وقيل : يتلو من التلو بمعنى التبعية والشاهد ملك يحفظه والضمير في يتلوه أما لمن أو للبينة باعتبار المعنى، ومن قبله كتاب موسى جملة مبتدئة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم والشاهد منه قال : ملك يحفظه، وقيل هو علي بن أبي طالب. قال : هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشاهد منه قال : ملك يحفظه، وقيل الشاهد هو علي بن أبي طالب. قال : البغوي قال : علي ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من القرآن فقال : له رجل وأنت أي شيء نزل فيك ؟ قال :﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾فإن قيل : فما وجه تسمية علي بالشاهد ؟ قلت : لعل وجه ذلك انه أول من أسلم من الناس فهو أول من شهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والوجه عندي أن يقال أن عليا كان قطب كمالات الولاية وسائر الأولياء حتى الصحابة رضوان الله عليهم أتباع له في مقام الولاية، وأفضلية الخلفاء الثلاثة بوجه آخر كذا حقق المجدد في مكتوب من أواخر مكتوباته فكان معنى الآية أفمن كان على بينة من ربه يعني على حجة واضحة وبرهان قاطع وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان على حجة واضحة من ربه وبرهان قاطع يفيد بالقطع أنه رسول الله، وذلك معجزاته أفضلها القرآن وعلومه المستندة إلى الوحي، ويتلوه أي يتبعه شاهد من الله على صدقه وهو علي ومن شاكَلَهُ من الأولياء، فإن كرامات الأولياء معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم وعلومهم المستندة إلى الإلهام والكشف ظلال لعلوم النبي صلى الله عليه وسلم المستندة إلى الوحي فتلك الكرامات والعلو شاهدة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فوله صلى الله عليه وسلم :" أنا دار الحكمة وعلي بابها " رواه الترمذي بسند صحيح عن علي، " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب " رواه ابن عدي في الكامل والعقيلي في الضعفاء والطبراني والحاكم عن ابن عباس وابن عدي والحاكم عن جابر، إشارة إلى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء فإن أخذ علوم الفقهاء لم ينحصر على علي بل قال : فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصحابي كالنجوم بأيهما اقتديتم اهتديتم " وقيل شاهد منه وهو الإنجيل وقبله موسى التوراة شاهد له وقيل البينة البرهان العقلي والشاهد القرآن، قال : الحسين بن الفضل الشاهد في القرآن ونظمه وإعجازه، والمعنى أفمن كان قائما على وفق البرهان العقلي ويتبع ذلك البرهان شاهد من الله يعني القرآن يشهد بصحة البرهان ومن قبل القرآن كتاب موسى يعني التوراة أيضا يشهد للبرهان والمراد بالموصول المسلم المخلص ﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى من كان على بينة بناء على أن المراد به جماعة المسلمين وجاز أن يكون إشارة إلى شاهد من حيث المعنى إن كان المراد به علي فمن شاكله من الأولياء ﴿ يؤمنون به ﴾ حقيقة الإيمان ﴿ ومن يكفر به ﴾أي محمد صلى الله صله وسلم ﴿ من الأحزاب ﴾ من أهل الملل كلها ﴿ فالنار موعده ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " رواه مسلم ﴿ فلا تك في مرية ﴾ في شك ﴿ منه ﴾ أي من الموعد او من القرآن ﴿ إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ بقلة نظرهم واختلال فكرهم
﴿ ومن أظلم ﴾ يعني لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى على الله كذبا ﴾ بان زعم أن له ولدا أو شريكا، أو سند إليه ما لم ينزله ونفي عنه ما أنزله، وأسند إليه تحريم ما لم يحرم وتحليل ما حرم ﴿ أولئك ﴾ المفترون ﴿ يعرضون على ربهم ﴾ يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم ﴿ ويقول الأشهاد ﴾ يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم كذا أخرج أبو الشيخ عن مجاهد، وعن ابن عباس أنهم الأنبياء والرسل وهو قول الضحاك ويؤيده قوله تعالى :" ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا٤١ ﴾ وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال : ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته غدوة وعيشة فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم، وقال قتادة الخلائق كلهم، وروى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه انه هلك قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطي كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق " ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ فيه تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ بظلمهم على الله بكذبهم عليه، قلت وليست الأشهاد منحصرة في من ذكر بل من الأشهاد أعضاء المكلف وقال الله تعالى :﴿ اليوم يختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ﴾ الآية وقال تعالى ﴿ حم١ ﴾ وقال الله تعالى ﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ﴾ الآية وستذكر، وفي حديث أنس عند مسلم :" يقول الله كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهيدا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي " الحديث، وسنذكر أحاديث الباب في تفسير الآيات المذكورة إن شاء الله تعالى، ومن الأشهاد الأمكنة والأزمنة وغير ذلك وقد ذكرنا بعض ما ورد فيها في سورة العاديات في تفسير قوله تعالى ﴿ يومئذ تحدث أخبارها ٤ ﴾ قوله عليه السلام :" أخبارها أن تشهد يعني الأرض على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها " وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري انه قال :" لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة " ورواه ابن خزيمة بلفظ " لا يسمع صوته حجر ولا مدر ولا شجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له " وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند أبي داود وابن خزيمة " للمؤذن يغفر له مدى صوته وشهد له كل رطب ويابس " وأخرج ابن المبارك عن عمر من سجد عند موضع شجر أو حجر شهد له يوم القيامة، وعن عطاء الخراساني نحوه، واخرج أبو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك إذا شهيد، فاعمل في خيرا شهد لك به إذا، فإني لو قد مضيت لم تراني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك " وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب لمسلم وهو لمن أعطى منه الأسير واليتيم وابن السبيل شهيد، وغنه من يأخذ بغير حق كالذي يأكل ولا يشبع فيكون عليه شهيدا يوم القيامة " وأخرج أبو نعيم عن طاووس قال :" يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان " الحديث.
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ﴾ أي يمنعون الناس عن دينه ﴿ و يبغونها عوجا ﴾ أي يصفونها بالإنصراف عن الحق والصواب، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾يعني والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكرير كلمة هم لتأكيد كفرهم واختصاصهم
﴿ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ﴾ قال : ابن عباس سابقين، وقال قتادة هاربين، وقال مقاتل فائتين، والمعنى واحد يعني ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم ﴿ وما كان لهم من دون الله أولياء ﴾يعني أنصارا يحفظهم من عذاب الله ولكن الله أخر عذابهم إلى يوم القيامة ليكون أشدوا أدوم ﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ استئناف، قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعَّف بالتشديد من التفعيل والباقون من المُفاعلة، قيل تضعيف العذاب لإضلالهم الغير واقتداء الأتباع بهم ﴿ ما كانوا يستطيعون السمع ﴾ يعني استماع الحق فغن الله تعالى لم يخلق فيهم استعداد سماع للحق فهم صم لا يسمعونه ﴿ وما كانوا يبصرون ﴾ الهدى لتعاميهم عن آيات الله لعدم خلق الله تعالى البصيرة في قلوبهم
﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ حيث اشتروا عبادة الحجارة بعبادة الله تعالى واشتروا النار بالجنة ﴿ وضل ﴾ فات ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أن الأصنام يشفع لهم عند الله
﴿ لا جرم ﴾ فيه أقوال أحدها أن لا، لكلام سابق يعني ليس الأمر كما زعموا افتراء، وجرم كلام مبتدأ معناه كسب وفاعله مضمر وقوله تعالى ﴿ أنهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ في محل النصب على المفعولية يعني كسب الحكم بخسرانهم، وقيل : معنى جرم وجب وحق فعلى هذا أنهم في الآخرة في محل الرفع على الفاعلية، ثانيها أن لا جرم كلمتان ركبتا فصار معناهما حقا وأنهم في الآخرة في محل الرفع على أنه فاعل يعني حق حقا أنهم خاسرون، ثالثها أن معناه لا محالة، وفي القاموس لا جرم ولا ذا جرم ولا أن جرم ولا أن ذا جرم ولا جرم ككرم بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة، وهذا أصله ثم تحول إلى معنى القسم فذلك يجاب عنه باللام يقال لا جرم لأتينك، وكونهم من الأخسرين لأن خسران غيرهم بالكفر أو المعاصي وخسرانهم بالكفر وصد غيرهم عن الإيمان
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ﴾ قال : ابن عباس خافوا، وقال قتادة أنابوا، وقال مجاهد اطمأنوا، وفي القاموس أخبت خشع وتواضع والخبيث الشيء الحقير ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ دائمون
﴿ مثل الفريقين ﴾المؤمنين والكافرين ﴿ كالأعمى والأصم ﴾ فإنه مثل الكافر فإن الكفار لا يستطيعون السمع يعني سماع الحق سماع قبول وما كانوا يبصرون الهدى ﴿ والبصير السميع ﴾ وذلك مثل المؤمن :﴿ يسمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾ ويبصرون بنور الله في قلوبهم، فالكافر مشبه بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة ولذلك قال :﴿ هل يستويان ﴾ ولم يقل هل يستوون كذا قال : الفراء ﴿ مثلا ﴾ أي تمثيلا أو صفة أو حال ﴿ أفلا تذكرون١٥٥ ﴾ أي تتعظون بضرب الأمثال والتأمل فيها، فيه أدغمت التاء في الذال.
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة أي بأني والمعنى أرسلنا متلبسا بهذا الكلام وهو قوله إني ﴿ لكم نذير ﴾بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح كأني والمعنى على الكسر، والباقون بالكسر أي فقال : إني لأن في الإرسال معنى القول ﴿ مبين ﴾ أبين لكم موجبات العذاب والثواب
﴿ آن لا تعبدوا إلا الله ﴾ بدل من إني لكم أو مفعول مبين ويجوز أن يكون مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾أن تشركوا به شيئا، وأليم بمعنى مؤلم في الحقيقة صفة للمعذب يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جد جده ونهارك صائم للمبالغة
﴿ فقال الملأ ﴾ يعني الأشراف والرؤساء لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة ﴿ الذين كفروا من قومه ما نراك ﴾ يا نوح ﴿ إلا بشرا ﴾ آدمي ﴿ مثلنا ﴾ لا مزية لك علينا حتى تكون نبيا واجب الطاعة، كأنهم أرادوا أن يكون ملكا ﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ أي سفلتنا والرذل الدون من كل شيء وجمعه أرذل ثم جمع أرذال مثل كلب وأكلب وأكالب لأنه بالغلبة صار مثل الاسم قال : عكرمة يعني الحاكة والأساكفة ﴿ بادي الرأي ﴾ الرأي النظر بالعين والقلب وأيضا الاعتقاد كذا في القاموس، وبادي الرأي معناه ظاهر النظر من غير تعمق من البدو، أو أول الرأي من البدء، والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها، قرأ أبو حمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بالياء، وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أي وقت حدوث بادي الرأي، والعامل فيه اتبعك وإنما استرذلوه لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعملوا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان ذا حظ بها أشرف عندهم والمحروم فيها أرذل ﴿ وما نرى لكم ﴾ يا نوح مع من تبعك ﴿ علينا من فضل ﴾ في حال أو غير ذلك يوهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة ﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ أنت في دعوى النبوة واتباعك في دعوى العلم بصدقك فغلب المخاطبين على الغائبين
﴿ قال ﴾ نوح ﴿ يا قوم أرأيتم ﴾أخبروني ﴿ إن كنت على بينة من ربي ﴾ حجة واضحة شاهدة بصحة دعوى ﴿ وآتني رحمة ﴾ أي بينة أو هدى ونبوة ﴿ من عنده فعميت عليكم ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص بضم العين وتشديد الميم من التفعيل بمعنى أخفيت والباقون بفتح العين وتخفيف الميم من المجرد بمعنى خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها بالحجة، يقال بصيرة ومبصرة إذا يهتدي بها، ويقال عمياء إذا لا يهتدي بها، وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن حفاءها يوجب خفاء النبوة أو على تقدير فعميت به النبوة وحذفها للاختصار أو للاختصار أو لأنه لكل واحد منهما ﴿ أنلزمكموها ﴾ أي نلزمكم على الاهتداء بها أي بالبينة أو الرحمة ونجبركم على قبولها﴿ وانتم لها كارهون ﴾ لا تريدونها وقال : قتادة لو قدر الأنبياء أن يلزموا قومهم الإيمان لألزموا ولكن لم يقدروا.
﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه ﴾أي على التبليغ فهو وإن لم يذكر لكنه معلوم مما ذكر ﴿ مالا ﴾ أي جعلا يثقل عليكم إن أديتم أو علي إن لم تؤدوا ﴿ إن أجري ﴾ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر وحفص بفتح الباء والباقون بإسكانها يعني ليس ثوابي ﴿ إلا على الله ﴾بناء على وعده تفضلا ﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾ جواب لهم حين سألوا طردهم ليؤمنوا به أنفة من المجالسة معهم ﴿ إنهم ملاقوا ربهم ﴾ فيخاصمون طاردهم عنده، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطرد أولياء الله ومقربيه ﴿ ولكني ﴾ قرأ نافع والبزي وأبو عمر بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أراكم قوما تجهلون ﴾بلقائهم ربهم أو بمراتب قربهم من الله أو في التماس طردهم أو تتسفهون عليهم باز، تدعوهم أراذل أو تجهلون عاقبة أمركم
﴿ ويا قوم من ينصرني من الله ﴾يدفع انتقامه مني ﴿ إن طردتهم ﴾ وهم بتلك الصفة والمثابة ﴿ أفلا تذكرون ﴾ بإدغام التاء في الذال يعني أفلا تتعظون وتعقلون لتعرفوا أن التمسا طردهم ليس بصواب
﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ أي خزائن رزقه وأمواله يعني لست مدعيا فضلي عليكم بالمال حتى تنكرونه وتقولون وما نرى لكم علينا من فضل ﴿ ولا أعلم الغيب ﴾عطف على عندي خزائن الله ولا أقول أنا اعلم الغيب حتى تكذبوني استبعاد، أو حتى أعلم أن هؤلاء الذين اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب، وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول ﴿ ولا أقول ﴾لكم ﴿ إني ملك ﴾ حتى تنكرونه وتقولون ما أنت غلا بشر مثلنا ﴿ ولا أقول للذي تزدري أعينكم ﴾أي تحتقره وتستصغره أعينكم يعني الذين قتلهم فيهم أراذلنا لأجل فقرهم، افتعال من ذرا عليه إذا عابه قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر، وإسناده إلى العين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير رؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة مالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم وخصالهم لن يؤتيهم الله خيرا بل أعطاهم في الدنيا من الإيمان و الهداية، وفي الآخرة من الجنة والدرجات خير مما أعطاكم الله في الدنيا من المال ﴿ الله اعلم ﴾ مني ومنكم ﴿ بما في أنفسهم ﴾ من محبة الله ومحاسن الأخلاق والعقائد ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إذا ﴾ أي إذا طردتهم وقلت فيهم لن يؤتيهم الله خيرا ﴿ لمن الظالمين ﴾.
﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا ﴾ خاصمتنا ﴿ فأكثرت جدالنا ﴾ فأطلته إذا أتيت بأنواعه ﴿ فاتنا بما تعدنا ﴾ من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعوى النبوة والوعيد على ترك الإيمان فإن مناظرتك لا تؤثر فينا.
﴿ قال إنما يأتيكم به الله ﴾ليس ذلك في وسعي لا إتيانه ولا تعجيله ﴿ إن شاء ﴾عاجلا أو آجلا ﴿ وما انتم بمعجزين ﴾ اله بدفع العذاب أو الهرب منه إذا جاء عذابه
﴿ ولا ينفعكم نصحي ﴾ قرأ نافع بفتح الياء وكذا أبو عمرو والباقون بإسكانها ﴿ إن أردت أن أنصح لكم ﴾ شرط والجملة دليل جواب لقوله ﴿ إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم ﴾ وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم فأردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي فيه دليل على أن إرادة الله يصح تعلقها بالإغواء وإن خلاف مراده محال وقيل : معنى أن يغويكم أن يهلككم من غوى الفصل إذ هلك ﴿ هو ربكم ﴾ خالقكم وللتصرف فيكم ﴿ وإليه ترجعون ﴾ فيجازكم بأعمالكم
﴿ أم يقولون ﴾ يعني بل أيقولون ﴿ افتراه ﴾ قال : ابن عباس يعني يقولون افترى وقال مقاتل معناه تقولون افترى محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ يا نوح أو يا محمد ﴿ إن افتريته فعلي إجرامي ﴾ أي وبال إجرامي والإجرام كسب الذنب ﴿ وأنا بريء مما تجرمون ﴾من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي.
قال البغوي : روى الضحاك عن ابن عباس أن قوم نوح كانوا يضربون نوحا عليه السلام حتى يسقط فيلقونه في ويبقونه في بيت يزعمون انه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله، وروي أن شيخا منهم كان يتوكأ على عصا ومعه ابنه فقال : يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال : يا أبت أمكنني من العصا فأخذ العصا من أبيه حتى شج شجة منكرة فأوحى الله تعالى إليه ما ذكر في كتابه.
﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس ﴾ افتعال من البؤس وهو الحزن ومعناه لا تحزن ﴿ بما كانوا يفعلون ﴾ من التكذيب والإيذاء أقنطه الله من إيمانهم حتى لا يتعب نفسه في دعوتهم ونهاه أن يغتم حيث وعده باني مهلكهم ومنقذك منهم، فحينئذ دعا نوح عليهم بقوله ﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ و حكى محمد بن إسحاق عن عبيد ابن عمير الليثي انه بلغه أنهم كانوا يبطشون بنوح فيخنقونه حتى يغشى عليه وإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا عادوا في المعصية واشتد عليه البلاء منهم انتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا أخبث من الذي قبله حتى كان الآخر منهم ليقولون قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، فشكى إلى الله رضي الله عنه وقال :﴿ رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ﴾ حتى قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾
فأوحى الله إليه ﴿ واصنع الفلك بأعيننا ﴾، قال : ابن عباس بمراء منا، وقال مقاتل بعلمنا وقيل : بحفظنا، عبر عن المبالغة في الحفظ بالأعين لكونها أكثر آلات الحفظ والمراعاة عن الاختلال من سائر الحواس ﴿ ووحينا ﴾ إليك كيف تصنع أو بأمرنا بصنعه ﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا ﴾ يعني لا تدعني باستدفاع العذاب عنهم ﴿ إنهم مغرقون ﴾ بالطوفان حكمت عليهم في الأرذل والإغراق فلا سبيل إلى كفه.
قال البغوي في القصة أن جبرئيل عليه السلام أتى نوحا فقال : إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك قال : كيف أصنع ولست بنجار ؟ فقال : إن ربك يقول اصنع فإنك بعيني فأخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ، وقيل : أوحي إليه أن يصنعها مثل جوء الطائر
﴿ ويصنع ﴾ نوح ﴿ الفلك ﴾ حكاية حال ماضية، قال : البغوي أقبل نوح على عمل الفلك ولهي عن قومه، وأعقم الله أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد، وجعل نوح يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره، وجعل قومه يمرون عليه وهو في عمله ﴿ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ﴾ استهزءوا به بعمله السفينة، فإنه يعلمها في برية لم يكن بقربها ماء وكانوا يضحكون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجارا بعدما كنت نبيا، وروى أنهم كانوا يقلون له يا نوح ما ذا تصنع ؟ فيقول : أصنع بيتا يمشي على الماء فيضحكون منه ﴿ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ﴾ إذا عاينتم عذاب الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق، قيل : هذا على سبيل المشاكلة، والمعنى إن تستجهلوني فإني أستجهلكم إذا نزل العذاب، وقيل : معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم ﴿ كما تسخرون ﴾ يعني سخرية مثل سخريتكم منا عند رؤية الفلك
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه ﴾الموصول في محل النصب يتعلمون أي فسوف تعلمون الذي يأتيه ﴿ عذاب يخزيه ﴾ يهينه ﴿ ويحل عليه ﴾ أي ينزل عليه أو يحل حلول الدين الذي لا انفكاك عنه ﴿ عذاب مقيم ﴾ دائم فحل بهم عذاب الغرق حتى ماتوا وصاروا معذبين في البرزخ إلى يوم القيامة ثم مردهم إلى عذاب النار و بئس المصير.
قال البغوي : زعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وان يصنعه أعوج أزور وان يطليه القار من داخله وخارجه، وان يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وان يجعله ثلاث أطباق سفلا ووسطا وعلوا ويجعل فيه كوى، ففعله نوح كما أمره الله تعالى واخرج إسحاق ابن بشر وابن عساكر عن ابن عباس بلفظ : إن نوحا لما أمر أن يصنع الفلك، قال : يا رب أين الخشب ؟ قال : اغرس الشجر فغرس الساج عشرين سنة، وكف عن الدعاء وكفوا عن الاستهزاء، فلما أدرك الفجر أمره ربه فقطعها وجفها، وقال يا رب كيف أجعل هذا البيت قال : اجعله على ثلاث صور رأسه كرأس الديك وجوء جوءه كجوء جوء الطير وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، واجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر يعني مسامير الحديد وبعث الله جبرئيل فعلمه صنعة السفينة وكذا ابن عساكر عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب وقال البغوي قال : ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وطولها في السماء ثلاثين ذراعا وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والبهائم، وفي البطن الوسط الدواب والنعام وركب هو ومن معه البطن إلا على مع ما يحتاج إليه من الزاد، واخرج ابن مردويه عن سمرة بن جندب قال : طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وسمكها ثلاثين ذراعا، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس من غير ذكر العرض، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وزاد إن بابها في عرضها، واخرج ابن جرير عن ابن عباس بلفظ كانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الطير وفي شرح خاصة السير إن الطبقة السفلى للطيور والبهائم والوحوش وغيرهم من الحيوانات والوسطى للطعام والشراب والثياب والعليا للناس، وقال الشامي على طول السفينة ثمانين ذراعا وعرضها خمسين وسمكها إلى السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب، وعن ابن عباس أن طولها ستمائة ذراع، قال : البغوي وروي عن الحسن قال : كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والمعروف هو الأول أن طولها ثلاثمائة ذراع، وعن زيد بن أسلم قال : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يعمل الفلك، وقيل غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة ثلاثين سنة، وروى أنها كانت ثلاث طبقات الطبقة السفلى للدواب والوحوش والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن أغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر تخرب السفينة تقرضها وحبالها فأوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منحزه سنور و سنورة فأقبلا على الفأر.
﴿ حتى إذا جاء أمرنا ﴾ بالعذاب غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه، لو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام ﴿ وفار التنور ﴾ واختلفوا في التنور ؟ أخرج أبو الشيخ عن عكرمة والزهري هو وجه الأرض كذا البغوي عنه، وكذا أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس، وذلك انه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فارا على وجه الأرض فاركب السفينة، واخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى ﴿ وفار التنور ﴾قال : أعلى الأرض و أشرفها، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿ وفار التنور ﴾قال : العين التي بالجزيرة عين الوردة، وروى عن علي قال : وفار التنور يعني طلع الفجر ونور الصبح، وقال الحسن ومجاهد والشعبي إن التنور الذي تخبز فيه، وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية عن ابن عباس، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس بلفظ إذا رأيت تنور اهلك تخرج منه الماء فإنه هلاك قومك، قال : الحسن كان تنورا من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصارت إلى نوح فقيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضعه قال : مجاهد والشعبي كان في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء من علما لنوح أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : فار التنور من مسجد الكوفة من قبل باب كندة، واخرج عنه أيضا أبو الشيخ من طريق الشعبي بلفظ والذي فلق الحبة وبرئ النسمة إن مسجدكم هذا الرابع من أربعة مساجد المسلمين والركعتان فيه أحب إلي من عشر مما سواهما إلا المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغن من جانبه الأيمن مستقبل القبلة فار التنور، وقال مقاتل كان ذلك تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة، وروى عن ابن عباس غنه كان بالهند، اخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه، والفوران الغليان ﴿ قلنا احمل فيها ﴾ أي في السفينة ﴿ من كل زوجين اثنين ﴾ الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر فيقال لواحد من خف أو نعل زوج خف وزوج نعل والمراد بالزوجين هاهنا الذكر والأنثى، يعني من كل ذكر وأنثى ﴿ اثنين ﴾ منصوب على المفعولية لأحمل يعني احمل إثنين من كل ذكر وأنثى أي من مجموعهما من كل واحد منهما واحد، هذا على قراءة الجمهور بإضافة كل إلى زوجين، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين من كل بالتنوين بعني من كل نوع من الحيوان زوجين يعني ذكرا وأنثى، فهو منصوب على المفعولية واثنين على هذا تأكيد، قال : البغوي وفي القصة أن نوحا عليه السلام قال : يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين ؟ فحشر إليه السباع والطير فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيحملها في السفينة ﴿ وأهلك ﴾ عطف على المفعول به أعني اثنين أو زوجين والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم ﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾ من الله تعالى في الأزل بالهلاك يعني امرأته واعِلَةَ وابنه منها كنعان فغنهما كانا كافرين ﴿ ومن آمن ﴾ من الناس غيرهم ﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾واختلفوا في عددهم فقال : قتادة وابن جرير ومحمد بن كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر، نوح وامرأته وثلاثة بنين له سام وحام ويافث ونساؤهم، أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريح قال : حدثت أن نوحا حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه، وأصاب حام زوجته في السفينة فدعا أن يغير نطفته، فجاءت بالسودان وقال العمش كانوا سبعة نوح وثلاث بنين له وثلاث كنائن، وهذان القولان يأباهما القرآن فإن عطف قوله ومن آمن على أهلك يدل على المغايرة والسبعة المذكورون كانوا من أهله وقال ابن إسحاق كانوا عشرة نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة أناس ممن كان آمن به سواهم وأزواجهم جميعا يعني كانوا عشرة من الرجال وعشرا من النساء، وقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين نفرا رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فجميعهم ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء، وعن ابن عباس قال : كان في سفينة نوح ثمانين رجلا احدهم جرهم، واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانا وكان لسانه عربيا، قال : ابن عباس أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح عليه السلام يقول ويحك ادخل فنهض فلا يستطيع حتى قال : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، كلمة زلت على لسانه قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان فقال نوح : ما أدخلك علي يا عدو الله ؟ قال : ألم تقل أدخل إن كان الشيطان معك، قال : اخرج عني يا عدو الله ؟ قال : مالك بد من أن تحملني معك وكان فيمن يزعمون في ظهر الفلك، وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا احملنا، فقال : إنكما سبب الضر والبلاء فلا أحملكما قالتا : احملنا فنحن نضمن لك ان نضر أحدا ذكرك، فمن قال : حين خاف مضرتها ﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ ما ضرتاه، قال : الحسن لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض فأما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا.
﴿ وقالوا اركبوا فيها ﴾ أي صبروا فيها وجعل ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾حال من الضمير المرفوع في اركبوا، يعني اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسالها، أو مكانهما على أن المجرى والمرس للوقت أو المكان أو للمصدر والمضاف محذوف كقولهم آتيك خفوق النجم، وانتصابها بما قدرنا حالا ويجوز رفعها ببسم الله على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ أو خبر أي إجراؤها بسم الله فبسم الله خبره أو صلته والخبر محذوف وهي إما جملة لا تعلق لها بما قبلها كأن نوحا أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها ولفظ الاسم مقحم، وإما حال مقدرة من الضمير المرفوع في اركبوا أو من الضمير المجرور في فيها قرأ حمزة والكسائي وحفص مجراها بفتح الميم من جرى وقرأ محمد بن محيصن مجراها ومرساها بفتح الميمين من جرت ورست وكلا يحتمل الثلاثة الزمان والمكان والمصدر، والباقون بضم الميمين من أجريت وأرسيت و إمال حفص مجراها خاصة في القرآن لا غير ﴿ إن ربي لغفور رحيم ﴾ أي لولا مغفرته لسيئاتهم ورحمته إياكم لما نجيتم، قال : البغوي قال : الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة فقال : بسم الله جرت، وإذا أراد أن ترسوا قال : بسم الله رست.
﴿ وهي تجري بهم ﴾ متصل بمحذوف دل عليه اركبوا يعني فركبوا مسمين وهي تجري بهم وهم فيها ﴿ في موج ﴾ جمع موجة كتمر وتمرة وهي ما ارتفع من الماء عند اضطرابه إذا اشتد الريح ﴿ كالجبال ﴾ يعني كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها ﴿ و نادى نوح ابنه ﴾ كنعان وقال عبيد بن عمير وكان كافرا ﴿ وكان في معزل ﴾ عزل في نفسه عن أبيه أو دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا بعده ﴿ يا بني ﴾ قرأ عاصم بفتح الياء اقتصار عليه بالألف المبدلة من ياء الإضافة من قولك يا بنيا والباقون بكسرها اقتصارا عليه من ياء الإضافة ﴿ اركب معنا ﴾ في السفينة، قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر بن عاصم بإظهار الباء والآخرون يدغمونها في الميم وفي التيسير أظهر ورش وابن عامر وحمزة واخلف عن قالون وعن اليزيدي وعن خلاد، والتقدير يا بني أسلم واركب معنا، فإن الركوب يدل على الإسلام لتوقفه عليه ﴿ ولاتكن مع الكافرين ﴾ في الدين والانعزال فتهلك
﴿ قال ﴾ له ابنه كنعان لا أسلم و لا أركب معك ولكن ﴿ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ﴾ يمنعني من الغرق ﴿ قال ﴾ له نوح ﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله ﴾ أي من عذابه المأمور به ﴿ إلا من رحم ﴾ قيل : من في محل الرفع يعني لا مانع من عذاب الله إلا الله الراحم، أو الإمكان من رحمهم الله وهم المؤمنون، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة، وقيل : في محل النصب معناه لا معصوم إلا من رحمه الله كقوله تعالى :﴿ فهو في عيشة راضية ﴾ وقيل : الاستثناء منقطع يعني ولكن من رحمه الله يعصمه ﴿ وحال بينهما ﴾ أي بين نوح وابنه أو بنيه وبين الجبل ﴿ الموج فكان ﴾ أي فصار وكان في علم الله ﴿ من المغرقين ﴾ يروي أن الماء علا على رؤوس الجبال أربعين ذراعا، قال البغوي : ويروي أنه لما كثر في السكك وخشيت أم صبي عليه كانت تحبه حبا شديدا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها ذهبت بما الماء فلو رحم الله منهم أحد لرحم أم الصبي، قلت : لكن هذه القصة ينافي ما روى أن الله سبحانه أعقم لرحام نساء قوم نوح قبل غرقهم سنين حتى لم يكن فيهم صبي حين أغرقوا.
﴿ وقيل ﴾ يعني قال : الله تعالى بعدما تناهى أمر الطوفان ﴿ يا أرض ابلعي ﴾ إشربي ﴿ ماءك ﴾ أي الماء الذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار انهارا وبهارا ﴿ ويا سماء أقلعي ﴾ أمسكي عن المطر يعني لا تمطري فأمسكت ﴿ وغيض الماء ﴾ يعني غاضه الله أي أنقضه الله وهو لازم ومتعد ﴿ وقضي الأمر ﴾ أي أنجز ما وعد الله من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين ﴿ واستوت ﴾ أي استقرت السفينة ﴿ على الجودي ﴾ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل وقيل بالشام ﴿ وقيل ﴾يعني قال : الله تعالى ﴿ بعد للقوم الظالمين ﴾ أي بعد القوم الظالمين بعدا من رحمة الله وهلكوا هلاكا ثم حذف الفعل وجعل للقوم الظالمين وصفا للمصدر، قال البغوي : روى أن نوحا عليه السلام بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في مناقرها ولطخت رجلها بالطين فعلم نوح أن الماء قد نضب، فقيل أنه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم يألف بالبيوت، واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال : وذكر لنا أنها استقلت بهم في عشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين مائة يوما ثم استقرت بهم على الجودي وأهبطوا إلى الأرض في عشر ليل خلون من الحرم، واخرج ابن عساكر عن خالد الزيات بزيادة قال : في آخره فأرست السفينة يوم عاشوراء فقال : نوح لمن معه من الجن والإنس صوموا هذا اليوم، وكذا البغوي إنه روي ان نوحا ركب السفينة لعشر مضت من رحب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه، وهبطوا يوم عاشوراء فصام نوح وأمر من معه بالصوم شكرا لله رضي الله عنه وقيل : ما نجى من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان في الماء إلى حجرته. وكان سبب نجاته ان نوحا احتاج إلى خشب الساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج إليه من الشام فنجاه الله من الغرق لذلك قلت وقصة عوج ذلك يخالف ظاهر النصوص حيث قال : الله تعالى ﴿ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ وقال :﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾ وقال :﴿ لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ فتخصيص عموم من العمومات القاطعة لا يجوز إلا بقاطع ولم يوجد والقصة يأبى عنه العقل والنقل.
﴿ و نادى نوح ربه فقال ﴾ الفاء لتفسير النداء﴿ رب إن ابني ﴾ يعني كنعان ﴿ من أهلي وإن وعدك الحق ﴾ لأنك أعلمهم وأعدلهم ولا يجوز أن يكون هذا النداء قبل الغرق ﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ لأنك أعلمهم وأعدلهم ولا يجوز خلف في حكمك وقد حكمت بهلاك قوم ونجاة أهلي، أو المعنى إنك أكثر حكمة من ذوي الحكم والحكمة
﴿ قال ﴾الله تعالى ﴿ يا نوح إنه ليس من أهلك ﴾ لقطع الولاية بين المؤمنين والكفار ﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ تعليل لنفي كونه من أهله، قرأ الكسائي ويعقوب عمل بكسر الميم على الفعل الماضي وغير بالنصب على المفعولية أي عمل الشرك والتكذيب، والباقون بفتح الميم والتنوين على انه مصدر مرفوع وهو خبر أن على حذف المضاف ونقل إعرابه إلى المضاف غليه، تقديره انه ذو عمل غير صالح وفيه مبالغة حيث جعل ذات العمل، أو المعنى أن سؤالك إياي بإنجائه عمل غير صالح ﴿ فلا تسألن ﴾ يا نوح، قرأ نافع وابن عامر بفتح اللام وكسر النون المشددة على أن أصله تسألنني بالنون المشددة ونون الوقاية فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت المشددة للياء ثم حذفت الياء احتفاء بالكسرة، وقرا ابن كثير كذلك إلا انه يفتح النون المشددة وليس في هذه القراءة نون الوقاية ولا ياء المتكلم للضمير المنصوب، وقرأ الباقون بإسكان اللام وكسر نون الوقاية وتخفيفها وحذف الياء واثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش ويعقوب الياء في الوصل فقط ﴿ ما ليس لك به علم ﴾ أصواب هم أم خطأ سمى نداءه سؤالا لتضمنه ذكر الموعد بنجاة أهله المشعر باستنجازه في شان ابنه أو استفسارا لمانع للانجاز في حقه وسماه جهلا وزجر عنه بقوله ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دل على الحال وأغناه عن السؤال، قال البغوي : اختلفوا في هذا الابن ؟ قال : مجاهد والحسن وكان له خبث من غير نوح ولم يعلم بذلك قال :﴿ ما ليس لك به علم ﴾ وقرأ الحسن ﴿ فخانتاهما ﴾ وقال جعفر الباقر عليه السلام كان ابن امرأته ولذلك قال : من أهلي ولم يقل مني، وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون أنه كان ابن نوح من صلبه، قال : ابن عباس ما بغت امرأة بني قط وقوله ﴿ إنه ليس من اهلك ﴾ أي من أهل دينك لأنه كان كافرا وقوله ﴿ فخانتاهما ﴾ أي في الدين والعمل لا في الفراش، وقوله ﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ يعني أن تدعو بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر، وقال الشيخ أبو منصور لكان ابن نوح منافقا لا يعلم نوح بكفره وإلا لا يحتمل أن يقول نوح ﴿ إن ابني من أهلي ﴾ ويسأل نجاته وقد سبق من الله النهي عن سؤال مثله، بقوله ﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا غنهم مغرقون ﴾ فأعلمه الله تعالى ﴿ إنه ليس من اهلك ﴾، وفي قول أبي منصور هذا نظر فإن قوله تعالى :﴿ يا بني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين ٤٢ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ٤٣ ﴾ صريح في كونه مجاهرا بالكفر والله اعلم
﴿ قال رب إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعوذ بك أن أسألك ﴾ فيما يستقبل ﴿ ما ليس لي به علم ﴾ أي ما لا علم لي بصحته ﴿ وإلا تغفر لي ﴾ سؤال بنجاة الكافر بعد النهي عنه بخطأ في الاجتهاد ﴿ وترحمني ﴾ بالتوبة والعصمة والتفضل علي ﴿ أكن من الخاسرين ﴾ أعمالا.
﴿ قيل يا نوح اهبط ﴾ أي إنزال من السفينة ﴿ بسلام منا ﴾ أي مسلًّما من المكاره من جهتنا، أو مسلما عليك ﴿ وبركات عليك ﴾ البركة الخير النامي، والمراد بالبركات مراتب قرب الله تعالى ورحمته وفضله وكثرة ذريته وبقاؤهم على يوم القيامة وكون الأنبياء منهم والصالحين ﴿ وعلى أمم ممن معك ﴾ من للبيان والمراد بالأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات أو لتشعب الأمم منهم، أو لابتداء الغاية أي على أمم ناشية ﴿ ممن معك ﴾ قال : محمد بن كعب دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة فإن قيل : قوله تعالى ﴿ وجعلنا ذريتهم هم الباقون ٧٧ ﴾ يدل على حصر البقاء في ذرية نوح دون من معه في الفلك ؟ قلنا كان معه في الفلك بنوه الثلاثة فالمعنى على أمم تنشأ ممن معك من أبنائك﴿ وأمم ﴾ مبتدأ حذف خبره يعني وممن معك أمم لا بركة عليهم بل ﴿ سنمتعهم ﴾ في الدنيا بما كتبنا لهم ﴿ ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾ في الآخرة لأجل كفرهم وقيل : المراد بهم قوم هود وصالح ولوط وشعيب والعذاب عذاب الدنيا
﴿ تلك ﴾ يعني قصة نوح مرفوع على الابتداء خبره ﴿ من أنباء ﴾ أي ما غاب يعني بعضها ﴿ نوحيها ﴾ الضمير للأنباء خبر ثان أو جال من الأنباء أو هو الخبر ومن أنباء متعلق به أو حال من الضمير المنصوب فيه ﴿ إليك ﴾ يا محمد ﴿ وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ هذا خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائها إليك أو حال من الضمير المنصوب في نوحيها، أو من ضمير المجرور في إليك أي جاهلا أنت وقومك بها تنبيه على كونه معجزة فإن يتعلمه إلا ممن الله تعالى : فإنه لم يخالط غير قومه مع كثرتهم لما لم يسمعوا فكيف بواحد فمطابقة هذا النبأ بالكتب المنزلة المتقدمة دليل واضح على نبوته صلى الله عليه وسلم ﴿ فاصبر ﴾بعد ظهور أمرك على تبليغ الرسالة وما يلقاك أذى من الكفار كما صبر نوح ﴿ إن العاقبة ﴾ في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز ﴿ للمتقين ﴾ عن الشرك والمعاصي الجملة تعليل للصبر وعدم الجزع والاستعجال.
﴿ وإلى عاد ﴾ عطف على قوله إلى نوح يعني وأرسلنا إلى عاد ﴿ أخاهم ﴾ في النسب ﴿ هودا ﴾ عطف بيان ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ﴿ مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ﴾ على الله باتخاذ الأوثان شركاء له في العبادة وجعلها شفعاء
﴿ يا قوم لا أسألكم عليه ﴾ أي لا تبليغ الرسالة ﴿ أجرا ﴾ يمنعكم ثقل أدائه عن قبول الرسالة، أو يبعثني طعمه على الكذب ﴿ إن اجري ﴾ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها، يعني ما ثوابي ﴿ إلا على الذي فطرني ﴾ أي خلقني قرأ نافع والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا أن من هذا شأنه يجب تصديقه
﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ﴾ يعني اطلبوا منه تعالى مغفرة ما سلف منكم من الشرك والمعاصي، وذلك بالإسلام " فإن الإسلام يهدم ما كان قبله " رواه مسلم عن عمرو بن العاص في حديث مرفوع ﴿ ربكم توبوا ﴾ أي ارجوا ﴿ إليه ﴾ أي إلى ربكم بطاعته وترك عبادة غيره ﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ كثير الدر أي السيلان ﴿ ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ أي يضاعف قوتكم وذلك ان الله حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم كما ذكرنا القصة في سورة الأعراف، فقال : لهم هود إن تستغفروا ربكم وتوبوا إليه يرسل عليكم المطر فتزداد دون مالا، يعبد أرحام النساء فيلدن أولادا فتزداد دون قوة بالأموال والأولاد، وقيل تزدادون قوة إلى قوة بدنكم ﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ عطف على استغفروا، يعني لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مصرين على جرائمكم.
﴿ قالوا ﴾ يعني قومه ﴿ يا هود ما جئتنا ببينة ﴾ أي تدل على صحة دعواك، وذلك لفرط عنادهم بعد ما جاءهم به من المعجزات ﴿ وما نحن بتاركي ﴾ عبادة ﴿ ألهتنا عن قولك ﴾ أي بقولك فهو صلة، أو صادرين عن قولك فهو حال الضمير في تاركي ﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي بمصدقين إقناط من الإجابة والتصديق.
﴿ إن نقول ﴾ أي ما نقول قولا ﴿ إلا ﴾قولنا هذا ﴿ اعتراك ﴾ من عراه يعروه إذا أصابك ﴿ بعض آلهتنا بسوء ﴾ أي بجنون وخيل حتى تتكلم بالخرافات، وذلك إنك تسب آلهتنا وتمنع عن عبادتهم فانتقم بعضهم منك بالتخبيل، وجاز أن يكون معناه ما نقول في حقك قولا إلا قولنا اعتراك يعني سيعتريك بعض آلهتنا لأجل سبك إياهم بسوء أي بإضرار وإهلاك، عبر عن المستقبل بالماضي مبالغة في التحقيق والتهديد يعني انه واقع لا محالة كأنه وقع، وهذا التأويل يناسب قول هود في الجواب حيث ﴿ قال إني ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها﴿ اشهد الله ﴾ على ﴿ واشهدوا ﴾ أنتم يا قوم ﴿ أني برئ مما تشركون ﴾ به
﴿ من دونه ﴾ يعني من الأوثان لا أعبدهم ولا أخاف منهم أصلا ﴿ فكيدوني ﴾ فاحتالوا في إضراري وإهلاكي أنتم وشركاؤكم ﴿ جميعا ﴾ مجتمعين يعين بعضكم بعضا ﴿ ثم لا تنظرون ﴾أي تمهلوني، فيه استهانة لهم وثقة بالله تعالى وإظهار لعجز آلهتهم، فإنها حجارة لا تضر ولا تنفع وفيه معجزة فإنهم بعد هذه المقالة عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء الجبابرة العطّاش إلى إراقة دمه من أن يضروه.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾ أي اعتمدت عليه ﴿ ما من دابة إلا هو ﴾ يعني سبحانه ﴿ أخذ بناصيتها ﴾ الأخذ بالناصية تمثيل لقهر القاهر على المقهور وذل المقهور بين يديه يتصرف فيه كيف يشاء، قال : البغوي خص الناصية بالذكر لأن العرب يستعمل ذلك إذا وصف إنسانا بالذلة فيقول ناصية فلان بيد فلان، قال : الضحاك يعني يميتها ويحيها، وقال الفراء مالكها والقادر عليها، وقال القتيبي يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ يعني أنه على الحق والعدل فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على عصيانه ولا يضع عنده معتصم به ولا يفوته
﴿ فإن تولوا ﴾ حذفت إحدى التائين يعني أن تعرضوا عما دعوتكم غليه ﴿ فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ﴾ يعني إن أعرضتم يهلككم الله، ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه، حيث لم يبق لكم عذر بعدما ﴿ أبلغتكم ما أرسلت به ﴾ ولا بأس به علي فإني قد أدَّيْت ما علي من البلاغ ﴿ ولا تضرونه ﴾تعالى بإعراضكم ﴿ شيئا ﴾ من الضرر إنما تضرون أنفسكم، وقيل معناه لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء ﴿ إن ربي على كل شيء حفيظ ﴾ رقيب لا يخفى عليه ما تصنعون ولا يغفل عن مجازاتكم أو حافظ مستول على كل شيء فلا يمكن أن يضره شيء.
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ بالعذاب أو عذابنا ﴿ نجينا هودا والذين آمنوا ﴾ وكانوا أربعة آلاف ﴿ برحمة ﴾ بنعمة ﴿ منا ﴾ أي بفضل منا لا يعلمهم أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم ﴿ و نجيناهم ﴾نجينا للتأكيد والتعظيم والتهويل ﴿ من عذاب غليظ ﴾ وهو الريح الذي أهلك بها عادا، وقد مرقصتها في سورة الأعراف
﴿ وتلك عاد ﴾ أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة، وقيل إشارة إلى آثار عاد يعني فسيحوا في الأرض وانظروا غليها ثم وصف إليها أحوالهم في الأرض وانظروا غليها ثم وصف إليها أحوالهم فقال :﴿ جحدوا بآيات ربهم ﴾ كفروا بها ﴿ وعصوا رسله ﴾ يعني هودا وغيره من المرسلين فغن كلهم يدعون إلى التوحيد ويصدق بعضهم بعضا فعصيان واحد منهم عصيان بجميعهم ﴿ واتبعوا أمر كل جبار ﴾ متكبر ﴿ عنيد ﴾ لا يقبل الحق يقال عند الرجل يعند عنودا إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه، وقال أبو عبيدة العنيد والعنود والمعاند المعارض لك بالخلاف، يعني اتبعوا كبراءهم الطاغين يعني عصوا من دعائهم إلى الإيمان وتركوا ما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وأتوا بما يهلكهم
﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ﴾ أي دعاء باللعنة من الناس والملائكة ﴿ ويوم القيامة ﴾ أيضا يتبعون باللعن من الله أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين واللعنة هي الإبعاد والطرد عن الرحمة ﴿ ألا إن عاد كفروا ربهم ﴾ أي جحدوا أو كفروا نعمة فحذف الجار ﴿ إلا بعدا لعاد ﴾ قيل : بعدا من رحمة الله وقيل هلاكا، قال البغوي للبعد معنيان احدهما ضد القرب والأخر بمعنى الهلاك، وكذا في القاموس والجملة دعاء عليهم باللعن والهلاك والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعا لأمرهم وحثا على الاعتبار بحالهم ﴿ قوم هود ﴾ عطف بيان وفائدته الإيمان على أن استحقاقهم البعد بما جرى بينهم وبين هود عليه السلام.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ﴿ مالكم من إله غيره هو أنشأكم ﴾ أي بدأ خلقكم ﴿ من الأرض ﴾ يعني خلقكم من آدم وآدم من التراب ﴿ واستعمركم ﴾ يعني عمركم واستبقاكم من العمر وقال الضحاك أطال عمرك حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك قوم عاد ﴿ فيها ﴾ أي في الأرض وقيل معناه قدركم على عمارتها وجعلكم عمارها وسكانها وقال مجاهد استعمركم من العمري أي جعلها لكم ما عشتم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم } تسكنوها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم ﴿ فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب ﴾ قريب من عباده قربا لا كيف له حتى أفاض عليهم الوجود، أو قريب بالذات بلا كيف أو الرحمة لا وليائه ﴿ مجيب ﴾لدعائهم.
﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا ﴾ أي كنا نرجوا أن تكون سيدا فينا، وقيل : أي كنا نرجو أن توافقنا في الدين وتعود إلى ديننا ﴿ قبل هذا ﴾ القول يعني دعائك إيانا إلى ترك عبادة الأوثان، فلما سمعنا منك هذا القول انقطع رجاءنا عنك ﴿ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ﴾ على حكاية الحال الماضية ﴿ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه ﴾ من التوحيد والتبري عن الأوثان ﴿ مريب ﴾أي ريبة على الإسناد المجازي من آراب في الأمور، أو موقع من الريبة إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة ﴾ أي بيان وبصيرة ﴿ من ربي ﴾ أدخل حرف الشك باعتبار المخاطبين، وجاز أن يكون إن مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشأن أو ضمير المتكلم محذوفا يعني إني كنت أو إنه أي الشأن كنت على بينة من ربي ﴿ وآتاني منه رحمة ﴾ أي نبوة وحكمة ﴿ فمن ينصرني ﴾ يمنعني ﴿ من ﴾ عذاب ﴿ الله إن عصيته ﴾ في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به ﴿ فما تزيدونني غير تخسير ﴾أي تخسرونني بإبطال ما منحني الله به والتعريض لعذابه، وقال الحسين بن الفضل لم يكمن صالح في خسارة حتى قال : فما تزيدونني غير تخسير وغنما المعنى ما تزيدوني بما تقولون إلا نسبتني إياكم على الخسارة فإن التفسيق والتفجير في اللغة النسبة إلى الفسق والفجور فكذلك التخسير النسبة على الخسران، وقال ابن عباس معناه ما تزيدونني غير بصارة في خسارتكم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ﴾ انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإشارة ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها، وذلك أن قومه طلبوا منه أن يخرج من صخرة معينة ناقة عشراء آية لنبوته، فدعا لنبوته، فدعا صالح فخرجت منها ناقة وولدت في الحال مثلها وقد مرت القصة في سورة العراف ﴿ فذروها تأكل في ارض الله ﴾ ترع نباتها وتشرب ماءها ليس عليكم مؤنتها ﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم ﴾إن مسستموها بسوء ﴿ عذاب قريب ﴾ في ثلاثة أيام
﴿ فعقروها ﴾ يعني عقر بأمرهم قدار بن سالف ﴿ فقال ﴾ لهم صالح ﴿ تمتعوا ﴾ عيشوا ﴿ في داركم ﴾أي في الدنيا أو في بلدكم ﴿ ثلاثة أيام ﴾ الأربعاء والخميس والجمعة تصبحون اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي الثالث مسودة ثم تهلكون ﴿ ذلك وعد غير مكذوب ﴾ أي غير مكذوب فيه، أجرى الظرف مجرى المفعول به مجازا، أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول أو غير مكذوب على المجاز على أن الوعد كأنه قال : له أفي بك فإن وفي به صدقه وإلا كذبه، فكان كما وعده، وأتاهم العذاب في اليوم الرابع
﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ﴾ يعني و نجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة بغضب اله، قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي هاهنا وفي المعارج ﴿ من عذاب يومئذ ﴾ بفتح يوم على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه والباقون بالكسر جرا﴿ إن ربك هو القوي العزيز ﴾ القادر على كل شيء والقاهر عليه
﴿ وأخذ الذين ظلموا ﴾ أي كفروا ﴿ الصيحة ﴾ وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ صرعى هلكى
﴿ كان لم يغنوا ﴾ أي لم يقيموا ﴿ فيها ﴾ أي في ديارهم ﴿ ألا إن ثمود ﴾ قرأ حفص ويعقوب وحمزة هنا والفرقان والنجم بفتح الدال من غير تنوين ووقفوا بغير ألف الباقون بالتنوين ووقفوا باللف عوضا عنه ﴿ كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ﴾قرأ الكسائي ثمود بكسر الدال مع التنوين والباقون بفتح الدال من غير تنوين.
﴿ ولقد جاءت رسلنا ﴾ من الملائكة قال : ابن عباس وعطاء كانوا ثلاثة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وقال محمد بن كعب كان جبرئيل ومعه سبعة، وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا إثني عشر ملكا، وقال السدي كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم ﴿ إبراهيم بالبشرى ﴾ أي بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بإهلاك قوم لوط ﴿ قالوا سلاما ﴾ أي نسلم عليك سلاما، ويجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلاما ﴿ قال سلام ﴾ أي أمركم أو جوابي سلام، أو عليكم سلام رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم، فإنه جملة اسمية يدل على الدوام والاستمرار بخلاف الفعلية، قرأ حمزة والكسائي هاهنا وفي الذاريات سلم بكسر السين بلا ألف وهما لغتان نحو حل وحلال وحرم وحرام، وقيل المراد به الصلح أي نحن صلح لكم غير حرب ﴿ فما لبث ﴾أي فما أبطأ إبراهيم ﴿ أن جاء ﴾ أي في أن، أو ما تأخر عن المجيء والجار مقدر أو محذوف وجاز أن يكون إن جاء في محل الرفع على الفاعلية يعني فما أبطأ مجيء إبراهيم ﴿ بعجل حنيذ ﴾أي مشوي على الحجارة في القاموس الشاة يحنذها حنذا أو تحناذا شواها وجعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ، وقيل الحنيذ ما تقطر ودكا من حنذت الفرس إذ عرفته بالجلال، وفي القاموس الفرس إذا ركضه واعداه شوطا أو شوطين ثم ظاهر عليه الجلال في الغمس ليعرق فهو حنيذ، فعلى هذا معناه السمين مجازا فيوافق قوله ﴿ فجاء بعجل سمين ﴾ قال : قتادة كان عامة مال إبراهيم البقر
﴿ فلما رأى ﴾ إبراهيم ﴿ أيديهم ﴾ أي الرسل ﴿ لا تصل إليه ﴾ يعني لا يمدون إليه أيديهم ولا يأكلون ﴿ نكرهم ﴾ يعني أنكرهم قال : البيضاوي نكروا نكر واستنكر بمعنى، وفي القاموس التنكر التغير عن حال تسرك على حال تكرهها ﴿ وأوجس يعني أحس وأضمر كذا في القاموس، وقال مقاتل وقع في قلبه وقال البغوي أصل الوجوس الدخول كأن الخوف دخل قلبه { منهم ﴾ أي من الأضياف حين لم يأكلوا ﴿ خيفة ﴾ خوفا، قال : قتادة وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا انه لم يأت بخير وإنما جاء بشر، قيل وذلك لأنه كان عادتهم انه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه وغلا خافوه، فخاف أن يريدوا به مكروها وظنهم لصوصا، والظاهر انه أحس بأنهم ملائكة وخاف أن يكون نزولهم لمر أنكروه الله عليه، أو لتعذيب قومه ﴿ قالوا ﴾ يا إبراهيم ﴿ لا تخف إنا ﴾ ملائكة الله ﴿ أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ بالعذاب
﴿ وامرأته ﴾ سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عم إبراهيم عليه السلام ﴿ قائمة ﴾ من وراء الستر تسمع كلامهم وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم جالس معهم ﴿ فضحكت ﴾ قال : مجاهد وعكرمة أي حاضت في الوقت، تقول العرب ضحكت الأرنب أي حاضت وكذا في القاموس، ويقال ضحكت السمرة إذا سال صمغها، والأكثرون على أن المراد منه الضحك المعروف. واختلفوا في سبب ضحكها ؟ قيل : ضحكت سرورا بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم حين قالوا : لا تخف، وقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا فخاف إبراهيم وظنهم لصوصا ﴿ فقال ألا تأكلوا ﴾ قالوا : إنا لا نأكل الطعام إلا بثمن، قال : إبراهيم فإن له ثمنا، قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبرئيل على ميكائيل عليه السلام وقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة، وقالت : يا عجبا لأضيافنا إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا، وقال قتادة ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقيل ضحكت لإصابة رأيها فإنها تقول لإبراهيم أضمم إليك لوطا فإني أعلم أن العذاب ينزل بهذا القوم وقال مقاتل والكلبي ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقيل ضحكت سرورا بالبشارة بالولد وولد أو بهلاك أهل الفساد وقال عباس ووهب ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها، وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير وامرأته قائمة فبشرنها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت، قرأ ابن عامر وحمزة وحفص يعقوب بالنصب بفعل مضمر يفسره ما دل عليه الكلام، وتقديره ووهبناها ومن وراء إسحاق يعقوب وقيل : إنه معطوف على موضع بإسحاق أو على لفظ إسحاق وفتحه للجر فإنه غير منصوف ورد للفصل بين ما عطف عليه بالظرف، والباقون بالرفع على أنه مبتدأ خبره الظرف أي ويعقوب مولود من بعد إسحاق وقيل : تقديره ومن بعد إسحاق يولد يعقوب، وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد، وعلى هذا إضافته إلى إسحاق ليس من حيث أن يعقوب وراءه إبراهيم من جهته، قال : البيضاوي فيه والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به، وتوجيه البشارة إليها وتخصيصها بها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها، ولن النساء تكون أعظم سرورا بالولد من الرجال، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد فبشرت بالولد وولد الولد وعلى أنها يعيش ولدها حتى يولد وتعيش هي حتى ترى ولد ولدها.
فلما بشرت بالولد صكت وجهها أي ضربت تعجبا ﴿ قالت يا ويلتاي ﴾ يا عجبا أصله كلمة ندبة يقال في الشر، فأطلق في أمر فظيع وعند رؤية ما يتعجب منه والألف مبدلة من ياء الإضافة عليه قراءة الحسن يا ويلتاي بالياء على الأصل وقيل : الألف ألف الندبة أصله يا ويلتاه ﴿ أألد وأنا عجوز ﴾ كانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد ﴿ وهذا بعلي ﴾ زوجي واصله القائم بالأمر ﴿ شيخا ﴾ ابن مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق ومائة سنة في قول مجاهد وكان بين البشارة والولادة سنة ونصبه على الحال والعامل فيها معنى الإشارة ﴿ إن هذا ﴾ يعني الولد من الهرمين ﴿ لشيء عجيب ﴾ يعني خلاف العادة
﴿ قالوا ﴾ يعني الملائكة منكرين عليها في الاستيعاب ﴿ أتعجبين من أمر الله ﴾ أي من قضائه وقدرته، فإن الله إذا أراد شيئا كان فإن قيل العجب حالة يعتري للإنسان عند رؤية أمر بديع مخالف للعادة والأمر كذلك، وكونه مقدورا لله تعالى لا ينافي الاستيعاب، إذ كل شيء مقدور لله تعالى وإن كان بديعا مخالفا للعادة فما وجه إنكارهم عليها في الاستيعاب ؟ قلنا : خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات وتخصيصهم لمزيد النعم والكرامات ليس ببديع، ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلا عن نشأة وشابت في ملاحظة الآيات ﴿ رحمة الله وبركاته عليكم ﴾قيل : هذا على معنى الدعاء من الملائكة، وقيل على معنى الخبر، والرحمة النعمة أو المحبة من الله رضي الله عنه، والبركة النماء والزيادة في كل خير، وقيل الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن أنبياء بني إسرائيل منهم وكلهم من أولاد سارة، وجملة رحمة الله وبركاته مستأنفة في مقام التعلل للإنكار على التعجب، كأنه قيل إياك والتعجب فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله تعالى عليكم، هذا على تقدير كونه خبرا ﴿ أهل البيت ﴾ منصوب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقوله الله اغفر لنا أيتها العصابة، وفي الآية رد على الروافض حيث لا يزعمون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البيت مع أن أهل البيت من حيث اللغة هي الأزواج وغيرهن أتباع لهن ﴿ إنه حميد ﴾ فاعل ما يستوجب به الحمد ﴿ مجيد ﴾ في الصحاح المجد السعة في الكرم والجلالة، والكرم يوصف به الله تعالى لإحسانه وإنعامه للتظاهر، ويوصف به الإنسان للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال البغوي وأصل المجد الرفعة، وقال البيضاوي كثير الخير والإحسان وفي القاموس المجيد الرفيع والكريم والشريف الفعال.
﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع ﴾ أي الخوف والفزع ﴿ وجاءته البشرى ﴾ بإسحاق ويعقوب بدل الروع ﴿ يجادلنا ﴾ جواب للما جيء به مضارع على حكاية الحال، أو لأنه في سياق الجواب بمعنى كجواب لو أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترى على خطابنا أو شرع في جدالنا، أو متعلق بجواب محذوف أأقيم مقامه مثل أخذ أو ظل أو اقبل يجادلنا، قيل معناه يكلمنا لأن إبراهيم لا يجادل ربه وإنما يسأله ويطلب، وقال عامة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا ﴿ في قوم لوط ﴾ وكان مجادلته انه قال : للملائكة أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم قالوا : لا قال : أو أربعون قالوا : لا قال : أو ثلاثون قالوا : لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا قال : أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا : لا قال : إبراهيم عليه السلام عند ذلك :﴿ إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾
﴿ إن إبراهيم لحليم ﴾ غير عجول على الانتقام من المسيء ﴿ أواه ﴾ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس، وفي القاموس الموقن أو الدعاء أو الرحيم الرقيق أو الفقيه أو المؤمن بالحبشة ﴿ منيب ﴾ راجع إلى الله والمقصود من بيان صفاته ذلك بيان الحامل على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه وعدم إرادة الانتقام من المسيء فقالت الرسل عند ذلك المجادلة
﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾ الجدال ﴿ إنه قد جاء أمر ربك ﴾ أي حكمه بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم ﴿ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾ غير مصروف بجدال ولا بدعاء ولا غير ذلك.
﴿ ولما جاءت رسلنا ﴾ يعني تلك الملائكة ﴿ لوطا ﴾على صورة غلمان مرد حسان الوجوه ﴿ سيء بهم ﴾ أي ساء مجيهم لوطا، وحزن لوط بظنه إياهم أناسا، فخاف عليهم أن يقصدوهم قومه فيعجز عن مدافعتهم، قرأ نافع وابن عامر والكسائي ﴿ سيء بهم ﴾ و﴿ و سيئت وجوه ﴾ بإشمام السين الضم هنا وفي العنكبوت والملك، والباقون بإخلاص كسرة السين ﴿ وضاق ﴾ لوط ﴿ بهم ﴾ أي بسببهم﴿ ذرعا ﴾ تمييز من النسبة يعني ضاق ذرعه قال : البغوي قلبه، وقال البيضاوي ضاق بمكانهم صدره، قلت والذرع في الأصل اليد إلى المرفق أو الساعد ويطلق على القوة كاليد، والمعنى هاهنا ضاقت أي ضعفت بهم طاقته ولم يجد من المكروه مخلصا كذا في القاموس، قال : البيضاوي هو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه ﴿ وقال هذا يوم عصيب ﴾ شديد، قال : قتادة و السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوا لوطا نصف النهار وهو ارض له يعمل فيها، وقيل : إنه يحتطب، وقد قال : الله رضي الله عنه لهم لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق بهم، فلما مشى ساعة قال : لهم ما بلغكم أمر هذه القرية قالوا : وما أمرهم ؟ قال أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله، وروى انه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمر على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم، فقال : لوط غن قومي شر خلق الله، ثم مر على بقوم آخرين ففعل مثله، فكان كلما قال لوط هذا قول قال : جبرئيل عليه السلام للملائكة اشهدوا حتى أتى قومه وروى أن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط عليه السلام ولقوه في داره ولم يعلم بذلك احد إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.
﴿ وجاءه قومه يهرعون إليه ﴾ قال ابن عباس وقتادة يسرعون، وقال مجاهد يهرولون وقال الحسن مشي بين مشيين، وقال شمر بن عطية بين الهرولة والجفر، وفي القاموس مشيء في اضطراب وسرعة، وبناء الفعل للمفعول للدلالة على كمال الإسراع وذلك لكمال طلبهم للفاحشة ﴿ ومن قبل ﴾ ذلك الوقت ﴿ كانوا يعملون السيئات ﴾ كانوا يأتون الرجال في أدبارهم ويعملون الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاءوا يهرعون لها مجاهرين ﴿ قال ﴾ لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان ﴿ يا قوم هؤلاء بناتي ﴾ يعني فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طار، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا، كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال الحسين بن الفضل عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير قوله ﴿ هؤلاء بناتي ﴾ أراد به نساءهم أضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته، وفي قراءة أبي بن كعب النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " وهو أب لهم " وهذا القول يرجع من حيث المعنى بان ابنتيه لا تصلحان لنكاح جماعة من الرجال، وقيل في جواب الترجيح إنه كان لقوم لوط سيدان مطاعان، فأراد لوط أن يزوجهما ابنتيه وقيل إنما قال : لوط هؤلاء بناتي على سبيل الدفع مبالغة في تناهي خبث ما يقصدونه، يعني أن ذلك أهون عليه منه لا على التحقيق ﴿ هن أطهر لكم ﴾يعني أنظف لكم فعلا أو أقل فاحشة كقولك الميتة أطيب من المغضوب وأحل منه وقوله هؤلاء مبتدأ أو بناتي عطف بيان وهن فصل وأطهر خبر المبتدأ أو بناتي خبر هؤلاء وهن أطهر مبتدأ أو خبر ﴿ فاتقوا الله ﴾ بترك الفواحش﴿ ولا تخزون ﴾ قرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا فقط أي لا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء ﴿ في ضيفي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان يعني لا تخزوني في شأن أضيافي فإن إخزاء الرجل أخزاؤه ﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ يهتدي إلى الحق ويجتنب عن القبيح وقال ابن إسحاق رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
﴿ قالوا لقد علمت ﴾ يا لوط ﴿ ما لنا في بناتك من حق وإنك ﴾يعني لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح، وقيل معناه ما لنا من حاجة ﴿ وإنك لتعلم ما نريد ﴾ وهو إتيان الذكران
﴿ قال لو أن لي بكم قوة ﴾ في البدن على دفعكم لوقيت بنفسي ﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ أي أنضم إلى عشيرة مانعة قوية أمتنع بها عنكم لا امتنعت به عنكم حذف جواب لو، شبه العشيرة بركن الجبل في شدته أي جانبه القوي قال : في القاموس الركن بالضم الجانب الأقوى وما تقوى به من ملك أو جند وغيره والعز والمنعة، وروى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد " وفي لفظ " يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد " .
أخرج إسحاق وابن عساكر عن طريق جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس وكذا أذكر البغوي عنه أنه قال : أغلق لوط بابه و أضيافه يعني الملائكة في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسور الجدار فلما رأت الملائكة ما يلقي لوط منهم ﴿ قالوا يا لوط ﴾ إن ركنك لشديد ﴿ إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا فاستأذن جبرئيل عليه السلام في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك حبك مثل المرجان كان الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يعرفوا الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فانصروا وهم يقولون النجاء النجاء، فغن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا، وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبح ونصبح وسترى ما تلقى منا غدا، يوعدونه فقال : لهم لوط متى موعد هلاكهم، قالوا : الصبح، قال أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن فقالوا أليس الصبح بقريب ثم قالوا ﴿ فاسر ﴾ يا لوط ﴿ بأهلك ﴾ قرأ الحرميان فأسر وان بوصل الألف حيث وقع من المجرد والباء حينئذ للتعدية، والباقون بقطعها من الأفعال والباء زائدة ومعناه السير في الليل ﴿ بقطع من الليل ﴾ قال : ابن عباس بطائفة من الليل، وقال الضحاك ببقيته، وقال قتادة بعد ما مضى أوله، وقيل انه السحر الأول ﴿ لا يلتفت منكم أحدا ﴾ أي لا ينصرف منكم أحد من السير فيختلف عنك، في القاموس لفتة لواه وصرفه عن رأيه ومنه الالتفات والتلفت، قلت فالمجرد منه متعد والالتفات لازم بمعنى الانصراف، وقيل معنى لا يلتفت لا ينظر من ورائه، فالأمر بالإسراء متوجه إلى لوط والنهي عن الانصراف أو النظر غلى اللواء متوجه إلى من تبعه ﴿ إلا امرأتك ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع على إنه يدل من احد، فهي مستثناة من النهي عن الانصراف والتخلف أو النظر إلى الوراء، قال : البغوي معنى الآية على هذه القراءة لا يلتفت أحد غلا امرأتك فإنها تلتفت فتهلك، وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هذه العذاب التفت وقالت يا قوماه فأدركها حجر وقتلها، وقرأ أكثر القراء بالنصب على الاستثناء فاختلفوا فقال : البغوي وغيره استثناء من الإسراء أي فأسر بأهلك غلا امرأتك فلا تسر بها وخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم وتصدقه قراءة ابن مسعود فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم احد ومقتضى هذا الكلام أن في إخراجها مع أهله روايتان، إحداهما انه أخرجها معهم وأمروا أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فالتفتت وقالت يا قوماه، وثانيهما أنه أمر بإسراء غيرها من أهله، فإن هواها إليهم فلم يسر بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين، وكذا قال : صاحب المدارك وهذا القول غير سديد فإن الروايتين متناقضتان لا يمكن جمعها فإن خروجها وعدم خروجها نقيضان، فإحداهما باطل بيقين والقراءتان قطعيتان ولا يصح حمل القواطع على المعاني المتناقضة، ولهذا قال : البيضاوي الأولى جعل الاستثناء في القراءتين عن قوله ولا يلتفت منكم أحد ومثله قوله تعالى ﴿ ما فعلوه إلا قليل ﴾ وإلا قليلا على القراءتين، ويريد عليه أن مختار النحويين في كلام غير موجب البدل وإن كان الجنائز النصب أيضا فحمل قراءة أكثر القراء على غير الأفصح غير ملائم، وأجاب عنه البيضاوي بأن لا بعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح لكونه فصيحا أيضا، ولا يلزم من ذلك الاستثناء من النهي الالتفات أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا، ولذلك علله على طريقة الاستئناف بقوله ﴿ إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ قلت وعلى ما ذكر البيضاوي محمل قراءة ابن مسعود انه من كلام ابن مسعود قاله تفسير للقرآن على رأيه، يعني جعل الاستثناء من الأهل كما هو رأي أكثر المفسرين والله، أعلم، قلت وجاز أن يكون الاستثناء على قراءة النصب منقطعا، فإن امرأة لوط لم تكن من أهله لأنها كانت كافرة على غير صالح، وقد قال : الله تعالى لنوح في ابنه الكافر ﴿ إنه ليس من أهلك ﴾ فلم تكن من أهله في المخاطبين بقوله ﴿ ولا يلتفت منكم احد ﴾ وأما على قراءة الرفع فاعتبرت من أهله من زمرة المخاطبين نظرا على وصلة النكاح، ولا منافاة بين الاعتبارين، قلت : ويمكن أن يقال قراءة النصب الاستثناء من احد ولا منافاة بينهما، ، وليس بناء على القراءتين على روايتي خروج امرأة لوط وعدم خروجها بل يصح معنى القراءتين على كل من الروايتين فإنه على تقدير الاستثناء من الأهل معنى الآية أسر بأهلك إلا بإمرتك ومقتضاه كون لوطا فأمورا بحملهم جميعا على السير غير امرأته وذالا يستلزم خروجهم ولا عدم خروجهم، فكيف يقتضي خروجها وهي لم تكن مؤتمرة بلوط، ولم يكن لوط مأمورا بإخراجها، ولا يقتضي أيضا عدم خروجها وغن كان لوط لم يأمرها بالخروج، وعلى تقدير الاستثناء من الالتفات النهي من الالتفات متوجه على لوط ومن معه غير امرأته وذا أيضا لا يستدعي خرجها ولا عدم خروجها، فإن المستثنى في حكم المسكوت عنه فلعلها خرجت والتفتت كما روي ولعلها لم تخرج أصلا، وغن كان لوط أمرها بالخروج فإنها لم تكن مؤتمرة له، ولعل البيضاوي نظر إلى ما قلت حتى قال : والأولى جعل الاستثناء في القراءتين عن قوله لا يلتفت ولم يقل فالواجب ذلك والله اعلم ﴿ إن موعدهم الصبح ﴾ وكان علة للمر بالإسراء أي موعد هلاكهم وقت الصبح فقال : لوط أريد أسرع من ذلك فقال :﴿ أليس الصبح بقريب ﴾.
﴿ فلما جاء أمرنا ﴾ أي عذابنا أو أمرنا به ويؤيده جعل التعذيب مسببا عنه بقوله ﴿ جعلنا عاليها سافلها ﴾ كان حقه جعلوا عاليها أي الملائكة المأمورون به، فأسند إلى نفسه من حيث انه المسبب تعظيما للأمر قال البغوي : وذلك أن جبرئيل عليه السلام ادخل جناحه تحت قرى قوم لوى لمؤتفكات وهي خمس مدن وفيها أربعة مائة ألف وقيل أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ولم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وكذا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ﴿ وأمطرنا عليها ﴾ أي على المدن يعني على شواذها و مسافريها وقيل بعد قلبها أمطر عليهم ﴿ حجارة من سجيل ﴾قال : ابن عباس وسعيد بن جبير معربة سند كل، وقال قتادة وعكرمة السجيل الطين دليله قوله رضي الله عنه :﴿ لنرسل عليهم حجارة من طين ٣٣ ﴾ وقال مجاهد أولها حجارة وآخرها طين، وقال الحسن كان أصل الحجارة طينا فشدت، وقال الضحاك يعني الأجر، وقيل : غنه من أسجله إذا أرسله وإذا أعطيته، والمعنى من مثل شيء المرسل أو من مثل العطية الإدراد، أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به، وقيل : أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما، وقيل : السجل اسم للسماء الدنيا وقيل : هو جبال في السماء، قال : الله تعالى :﴿ وينزل من السماء فيها من برد ﴾ ﴿ منضود ﴾ قال ابن عباس متتابع مفعول من نضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
﴿ مسومة عند ربك ﴾ منصوب على الحال من حجارة ومعناه معلمة، قال : ابن جرير عليها سيما لا يشاكل حجارة الأرض، وقال قتادة وعكرمة عليها خطوط حمر على هيئة الجُرُع، وقال الحسن و السدي كانت مختومة عليها الخواتيم ومكتوب على كل حجر اسم من رمى به ﴿ وما هي ﴾أي الحجارة ﴿ من الظالمين ﴾ أي من مشركي مكة، وقال البغوي قال : قتادة وعكرمة بعني من ظالمي هذه الأمة، وكذا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة ﴿ ببعيد ﴾ فإنهم بظلمهم حقيق بان يمطروا حجارة، قال : قتادة وعكرمة واله ما أجار الله منها ظالما بعد، قال : البغوي وفي بعض الآثار ما من ظالم غلا وهو بعرض حجر بسقط عليه من ساعة على ساعة، وفي البيضاوي انه صلى الله عليه وسلم سأل جبرئيل فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم غلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة " قال السيوطي ذكره الثعلبي بغير إسناد ولم أقف على إسناد، وفي الدار المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع في الآية قال : كل ظالم فيما سمعنا قد جعل بحذائه حجر ينتظر متى يؤمر أن يقع به، وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام فليعتبروا بها، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.
﴿ وإلى مدين ﴾أراد أولاد مدين إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمى باسمه﴿ أخاهم ﴾ في النسب ﴿ شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقضوا المكيال والميزان ﴾أمرهم أولا بالتوحيد فغن ملاك المر، ثم نهارهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة المعارضة ﴿ إني ﴾قرأ نافع والبزي وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أراكم بخير ﴾قال : ابن عباس يعني مؤسرين في نعمة وسعة ليست بكم حاجة في أن تبخسوا حقوق الناس، أو المعنى، أو المعنى انتم في نعمة حقها أن تشكروا الله وتتفضلوا على الناس لا أن تنقصوا حقوقهم، وقال مجاهد حذرهم زوال النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يتوبوا ﴿ وإني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم محيط ﴾ يحيط بكم ويمهلكم جميعا لا يشذ منه احد منكم، وقيل : عذاب مهلك من قوله ﴿ وأحيط بثمره ﴾ والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال وصف اليوم بالإحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه
﴿ ويا قوم أوفوا المكيال الميزان ﴾صرحا لأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على انه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف بل يلزمهم السعي بالإيفاء ولو بزيادة لا تأتى دونها، ولذلك قال : أبو حنيفة من اشترى مكيلا مكائلة أو موزونا موازنة لم يجز للمشتري منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن " لما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري في الصاعان صاع البائع وصاع المشتري " رواه ابن ماجة وإسحاق بن أبي شيبة من حديث جابر وأعل بعبد الرحمان بن أبي ليلى، ورواه البزاز من حديث أبي هريرة ومن حديث انس وابن عباس من طريقتين ضعيفتين، فقال : ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة تعدد طرقه وقبول إياه، فغنه قد قال : بقولنا هذا مالك والشافعي واحمد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان من حديث سويد بن قيس ﴿ قائما ﴾ أي بالعدل ﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره وكذا قوله ﴿ ولا تعثوا في الأرض ﴾ فإن العتو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، وقيل : المراد بالبخس المكس كأخذ العشور من المعاملات ومن العثو السرقة وقطع الطريق والغارة ﴿ مفسدين ﴾ قيل فائدته إخراج ما يقصد به الصلاح كما فعله الخضر عليه السلام وقيل : معناه ولا تعتوا في الأرض مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم والظاهر إنه حال مؤكدة لمعنى عاملها لأن عثى بمعنى أفسد
﴿ بقية الله خير لكم ﴾ قال : ابن عباس يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف وقال مجاهد بقية الله طاعة الله خير لكم، نظيره قوله تعالى ﴿ والباقيات الصالحات خير ﴾ ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾يعني خيريتها مشروطة بالإيمان، إذ لا اجر على الخيرات غلا للمؤمنين ويحبط الله أعمال الكافرين، وقيل : معناه إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم فافعلوا ما أمرتكم من إيفاء الكيل والوزن ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾أحفظكم عن القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها إنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت، أو ليست بحافظ عليكم نعمة لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والباقون
صلواتك على الجميع، قال : ابن عباس كان شعيبا عليه السلام كثير الصلاة لذلك قالوا : هذا القول وقال العمش يعني أقراءتك﴿ تأمرك أن تترك ﴾ عبادة ﴿ ما يعبد آباؤنا ﴾ من الأوثان والمعنى أصلاتك تأمرك تكليفات إيانا أن نترك فحذف المضاف، ووجه هذا التقدير أن الرجل لا يؤمر بفعل غيره أجابوا أمرهم بالتوحيد بالاستهزاء والتهكم بصلاته والإشعار بان مثله لا يدعو داع عقلي وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس تواظب عليه وكان كثير الصلاة كذا قال : ابن عباس ولذلك جمعوا لفظ الصلاة وخصوها بالذكر ﴿ أو أن نفعل في أموالنا ما تشاءوا ﴾ عطف على الموصول يعني أو نترك أن نفعل ما نشاء وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء ﴿ علمتنا ﴾ يا شعيب ﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾ قال : ابن عباس : أرادوا السفيه الغاوي كما أن العرب يصف الشيء بضده فيقول للديغ سليم وللفلاة مفازة، وقيل : قالوه على وجه الاستهزاء وقصدوا وصفه بضده والفرق بين التأويلين أن اللفظ على التأويل الأول مجاز وعلى الثاني حقيقة كناية عن الذم، وقيل معناه لأنت الحليم الرشيد بزعمك وقيل : وهو على الحقيقة من غير كناية والمعنى انك أنت الحليم الرشيد في زعمنا ما كنا نزعم بك أن تقول مثل ما قلت كما قال : قوم صالح ﴿ قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ﴾.
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة ﴾بصيرة وبيان واضح ﴿ من ربي ﴾ بالوحي والنبوة ﴿ ورزقني منه ﴾ أي من اله بلا كد مني في تحصيله حال من رزقا قدم عليه لكون نكرة ﴿ رزقا حسنا ﴾ حلالا قيل كان شعيب عليه السلام كثير المال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يجوز لي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وهو اعتذار عما أنكروا عليه من مخالفة دين القوم ﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ يعني ما أريد أن ارتكب ما أنهاكم عنه فلو كان ثوابا ما تركته ولكني أحب لكم ما أحب لنفسي وأكره لكم ما تركت ما هو فاعله ﴿ إن أريد ﴾ بالنهي عن الإشراك والتطفيف والمر بالتوحيد والإيفاء ﴿ إلا الإصلاح ﴾ يعني إصلاحكم وإخلاء العالم من الفساد﴿ ما استطعت ﴾ما مصدرية واقعية موضع الظرف أي مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلوا جهدا أو موصولة بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف ﴿ وما توفيقي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها والتوفيق جعل الأسباب موافقا للمطلوب الخير، يعني ما يتيسر لي إصابة الحق والصواب ﴿ إلا بالله ﴾ أي بهدايته ومعونته ﴿ عليه توكلت ﴾ فإنه القادر المتمكن على كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محضر التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبتدأ، والتوكل من مقامات الصوفية العلية رحمهم الله ﴿ وإليه أنيب ﴾ أي ارجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل : في المعاد وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل، والإنابة طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة في مجامع الأمور و الإقبال عليه بشر أشره، وفيه قطع لإطماع الكفار وإظهار لعدم المبالاة بهم وتهديد لهم بالرجوع إلى الله للجزاء
﴿ ويا قوم لا يجرمنكم ﴾ أي يكسبنكم ﴿ شقاقي ﴾ قرأ وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها يعني خلافي وعدواتي﴿ أن يصيبكم ﴾ من العذاب ﴿ مثل ما أصاب قوم نوح ﴾من الغرق ﴿ أو قوم هود ﴾ من الريح ﴿ أو قوم صالح ﴾ من الرجفة والصيحة، وان يصيبكم ثاني مفعولي يجرم فإنه يتعدى على واحد وغلى اثنين ككسب ﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾بالزمان فغنهم اقرب الهالكين منكم زمانا حتى تعلمون ما حاق بهم، أو المعنى ما ديار قوم لوط منكم ببعيد بالمكان فغنهم كانوا جيرانهم، أو المعنى ما قوم لوط منكم ببعيد فيما تستحقون به العذاب من الكفر والمعاصي، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو ما هم بشيء بعيد أو ما مكانهم ببعيد، وقيل القريب والبعيد والقليل والكثير يستوي فيها المذكر والمؤنث لورودها على زنقة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما
﴿ واستغفروا ربكم ﴾ لما صدر منكم في الماضي بالإيمان والندامة على المعاصي وطلب المغفرة ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ أي ارجعوا إليه وإلى امتثال أوامره و الانتهاء عن مناهيه في المستقبل ﴿ إن ربي رحيم ﴾ عظيم الرحمة للمؤمنين التائبين ﴿ ودود ﴾ فعول من الود يجيء بمعنى الفاعل والمفعول يعني محب للمؤمنين ومحبوبهم وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه ﴾ أي لا نفهم﴿ كثيرا مما تقول ﴾ كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما، وذلك لقصور عقلهم وعدم تفكرهم، وقيل قالوا : ذلك استهانة لكلامه أو لنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم، قلت : بل لما طبع الله على قلوبهم فغن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمان يطلعها على ما يشاء ويصرفها عما يشاء ﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ﴾ لا قوة لك منا إن أردنا بك سوءا أو مهينا لا عزلك فينا قال : البغوي وذلك انه كان ضرير البصر فأرادوا ضعف البصر، وقيل : الضعيف بلغة حمير هو العمى والتقييد بالظرف يأبى عن هذا المعنى فائدة : منع بعض المعتزلة كون العمى نبيا قياسا على القضاء والشهادة، والفرق بين، وذهاب بصر يعقوب عليه السلام ثابت بالنص قال : الله تعالى :﴿ وابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم ﴾ وقال ﴿ فارتد بصيرا ﴾ ﴿ ولولا رهطك لرجمناك ﴾ يعني لولا قومك لقتلناك برمي الحجارة، قال : البغوي كان شعيب في منعة من قومه، وقال البيضاوي معناه لولا عزة قومك عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم فإن الرهط من الثلاثة على العشرة، وقيل : إلى السبعة قلت ويؤيد الأول قوله تعالى :﴿ تسعة رهط ﴾ وفي الصحاح الرهط العصابة دون العشرة وقيل : بل إلى الأربعين وقال الجزري في النهاية الرهط من الرجال مادون العشرة وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة وفي القاموس الرهط قوم الرجل وقبيلته ومن ثلاثة إلى سبعة وإلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة ولا واحد من لفظه، قلت : وكلام البغوي يشعر انه قوم الرجل مطلقا كما فسره صاحب القاموس أولا والله اعلم ﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ فيمنعك عزتك عن الرجم وهذا دأب السفيه المحجوج يقابل الحجج و البينات بالسب والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وان المانع لهم عن إيذائه عزة قومه
﴿ قال ﴾ شعيب ﴿ يا قوم أرهطي ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ﴾ يعني تركتم قتلي لأجل رهطي وما باليتيم بنسبتي من الله بالرسالة وجعلتم الله كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به وإهانة رسوله، والاستفهام يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب والظهري المنسوب إلى الظهر والكسر تغيرات النسب ﴿ إن ربي بما تعملون محيط ﴾ لا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ على تمكنكم من عداوتي مطيعين لها ﴿ إني عامل ﴾ على تمكني ﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ من استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها كأنه سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه أنا وإياكم أي يفضحه وأينا هو كاذب، أو موصولة قد عمل فيها كأنه قيل سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه العذاب، وقد سبق مثل هذه الآية في الأنعام لكن أورد الفاء هناك للتصريح بان الإصرار والتمكن فيها هم عليه سبب لذلك وحذفها هاهنا فقال :﴿ سوف تعلمون ﴾ لأنه جواب سأل كأنه قال : فماذا يكون بعد ذلك وهذا أبلغ في التهويل ﴿ و من هو كاذب ﴾ عطف على من يأتيه لا لأنه قسم له بل لأنهم أوعدوه وكذبوه فقال : سوف تعلمون من المعذب والكاذب أنا أو انتم وقيل : كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول غليهم والثاني غليه، لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب على زعمهم، وقيل محل من الرفع تقديره ومن هو كاذب يعلم سوء عاقبته ﴿ وارتقبوا ﴾ وانتظروا والعاقبة وما أقول لكم ﴿ إني معكم رقيب ﴾ منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ ذكر ههنا بالواو كما في قصة عاد، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فغنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله ﴿ وعد غير مكذوب ﴾ وقوله :﴿ إن موعدهم الصبح ﴾ ولذلك جاء بفاء السببية ﴿ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة ﴾ قيل : عن جبرئيل عليه السلام صاح صيحة فخرجت أرواحهم وقيل أتاهم من السماء فأهلكهم ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ميتين وأصل الجثوم اللزوم في المكان
﴿ كأن لم يغنوا ﴾ كان لم يقيموا فيها أحياء متصرفين مترددين ﴿ ألا بعدا ﴾ هلاكا﴿ كان لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة غير أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، أصله بعدت بضم العين والكسر لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، والبعد بضم الباء مصدر لهما وبفتح الباء والعين مصدر المكسور.
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ﴾ أي بالمعجزات وليس المراد آيات التوراة لنزولها بعد هلاك فرعون ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي غلبة ظاهرة غلب بها مع كونه رجلا واحدا على فرعون وجنوده، ولم يقدر فرعون على إهلاكه مع حرصه على ذلك، قبل المراد به العصا وأفردها بالذكر لكونه أبهرها ويجوز أن يراد بهما واحد يعني ولقد أرسلنا بالجامع بين كونه آياتنا وسلطان له على نبوته واضحا في نفسه إياه، فإن أبان جاء لازما ومتعديا، والفرق بين الآية والسلطان أن الآية يعم الإمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص القاطع والمبين يخص بما فيه جلاء
﴿ إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ﴾ في الكفر والطغيان والانهماك في الضلال ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ أي ذي رشد وإنما هو غي وضلال والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، ضده الغي فغنه يستعمل في كل ما يذم، وفيه تجهيل لمتبعيه حيث اتبعوه على أمره مع كونه بديهي البطلان، حيث ادعى الألوهية مع كونه بشرا مثلهم، وجاهر بالظلم والكفر والشرك، وترك متابعة موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالعقل والنقل والمعجزات الظاهرة
﴿ يقدم قومه ﴾ أي يتقدمهم يقال قدم بمعنى تقدم ﴿ يوم القيامة ﴾ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال ﴿ فأوردهم النار ﴾ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء حتى سمي إتيانها ورودا ﴿ وبيس الورد المورود ﴾ أي بئس الورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الكبد وتسكين العطش، والنار بالضد والآية كالدليل على قوله تعالى ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ فإن من هذا عاقبته لا يكون في أمره رشده أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها
﴿ واتبعوا في هذه ﴾ الدنيا ﴿ لعنة ﴾ يعني لعنوا على ألسنة الأنبياء والمؤمنين ﴿ ويوم القيامة ﴾ يلعنون أيضا ﴿ بيس الرفد المرفود ﴾ اللعنة أي بئس العون المعان أو العطاء المعطي، واصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده وفي القاموس الإرفاد الإعانة والإعطاء.
﴿ ذلك ﴾ مبتدأ وما بعده خبره يعني هذا النبأ الذي أنبأناك ﴿ من أنباء القرى ﴾ أي بعض أخبار القرى المهلكة ﴿ نقصه عليك ﴾ مقصوص نبأه عليك خبر بعد خبر ﴿ منها ﴾ أي بعض ذلك ﴿ منها قائم ﴾ أي باق آثارها ﴿ و حصيد ﴾ ومنها عافي الآثار كالزرع المحصود، قال مقاتل قائم يرى له أثر و حصيد لا يرى له اثر، وقيل : منها قائم يعني عامر و حصيد يعني، والجملة مستأنفة وليس بحال من ضمير تقصه لعدم الواو والضمير
﴿ وما ظلمناهم ﴾ الضمير عائد إلى القرى والمراد بها أهلها يعني ما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ﴿ ولكن ظلموا أنفسهم ﴾ بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه من الكفر والمعاصي ﴿ فما أغنت عنهم ﴾ يعني ما نفعتهم ولا قدرت على أن يدفع العذاب ﴿ آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ﴾ من الإغناء ﴿ لما جاء أمرك ربك ﴾ أي عذابه ﴿ وما زادهم غير تتبيب ﴾ غير تدمير وتخسير
﴿ وكذلك ﴾ أي مثل هذا الأخذ الذي ذكرنا في القصص المذكورة ﴿ أخذ ربك ﴾ مبتدأ كذلك خبره مقدم ﴿ إذا أخذ القرى ﴾ أي أهلها ﴿ وهي ظالمة ﴾ حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامهم أجريت عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم إنما أخذوا بظلمهم ﴿ إن أخذه أليم شديد ﴾ وجيع لا يرجى الخلاص منه، عن أب موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال : ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة " الآية رواه الشيخان في الصحيحين والترمذي وابن ماجة
﴿ إن في ذلك ﴾ أي فيما نزل بالقرى الهالكة وما قصه الله عليك ﴿ لآية ﴾ لعبرة ﴿ لمن خاف عذاب الآخرة ﴾ فإنه يعتبر به عظمته ويعلم بان ما حاق بهم نموذج مما أعده الله للبحر مين أو المعنى ينزجر به عن المعاصي لعلمه بأنها من إله مختار ﴿ يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ﴾ وأما من أنكر الآخرة فهو كالأنعام لا بصر له ولا بصيرة فلا يعتبر بل يحيلها إلى الاتفاق ﴿ ذلك ﴾إشارة إلى يوم القيامة دل عليه عذاب الآخرة ﴿ يوم مجموع له الناس ﴾ أي يجمع له الناس أي لما فيه من المحاسبة والمجازة والتغير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وغنه من شأنه لا محالة وإن الناس لا ينفكون عنه ﴿ وذلك يوم مشهود ﴾أي مشهود فيه يشهد فيه الشهداء على الناس، أو مشهود فيه الخلائق الموقف لا يغيب منهم أحد، واتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول
﴿ وما نؤخره ﴾ أي ذلك اليوم قرأ يعقوب بالياء على الغيبة أي ما يؤخره الله ﴿ إلا لأجل معدود ﴾ أي إلا لانتهاء مدة معدودة معلومة عند الله على حذف المضاف وأراد مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه لا تعدد فيه
﴿ يوم يأت ﴾ أي الجزاء أو اليوم على اليوم بمعنى حين أو الله تعالى كقوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ﴾ ﴿ وجاء ربك ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة يأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ونافع وأبو عمرو والكسائي بالياء أصلا فقط وابن كثير في الحالين، والظرف متعلق بذكر أو بانتهاء المحذوف أو بقوله ﴿ لا تكلم ﴾ بحذف إحدى التائين أي لا تتكلم ﴿ نفس ﴾ ما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة ﴿ إلا بإذنه ﴾ أي إلا إذن الله نظيره ﴿ ولا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان ﴾ فمنهم } الضمير لأهل الموقف دل عليهم قوله ﴿ لا تكلم نفس ﴾ أو للناس في قوله تعالى ﴿ يوم مجموع له الناس ﴾ ﴿ شقي ﴾ كتب عليه الشقاوة ﴿ وسعيد ﴾ كتب له السعادة عن علي بن أبي طالب قال : خرجنا على جنازة فبينما نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرة، فجاء ثم جلس فنكت بها الأرض ساعة قم قال :" ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار وإلا قد كتب شي أو سعيد " قال : فقال : رجل ألا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل ؟ قال : لا ولكن اعملوا فكل ميسر فأما أهل الشقاء فيسروا لعمل أهل الشقاوة وأما أهل السعادة فيسروا لعمل أهل السعادة قال : ثم تلا ﴿ فأما من أعطى واتقى ٥ وصدق بالحسنى ٥ ﴾ الآية رواه البغوي في الصحيحين نحوه.
﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ١٠٦ ﴾ قال : ابن عباس الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، وقال الضحاك ومقاتل الزفير أو نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردده في جوفه، وكذا في القاموس، وقال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، وقال البيضاوي الزفير إخراج النفس والشهيق دره واستعمالهما في أول النهيق وآخره و، وفي القاموس أيضا زفر يزفر زفرا وزفيرا أخرج نفسه بعد مده إياه والجملة في موضع الحال والعامل فيها الظرف المستقر
﴿ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ﴾ قال : الضحاك أي ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك سماء وكل ما استقر عليه قدمك أرض، ولا شك أن اجتماع الناس المذكور فيما سبق يدل على أن لهم مظل ومقل، وقال أهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون لا يأتيك ما دامت السماوات والأرض يعنون أبدا ﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ ظاهر هذه الآية يقتضي انقطاع استقرارهم في النار، ويؤيده ما روي عن ابن مسعود قال :" ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا " وعن أبي هريرة مثله و به قال : من الصوفية الشيخ محي الدين ابن العربي، لكن هذا القول مردود بالإجماع والنصوص قال : الله تعالى :﴿ الصيد وانتم حرم إن ﴾ أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد " واخرج الطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فلما قدم عليهم قال : يا أيها الناس إني رسول اله صلى الله عليه وسلم إليكم يخبركم أن المرد إلى الله إلى جنة أو نار خلود بلا موت وإقامة بلا ظعن في أجساد لا تموت " وأخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه " واخرج البخاري عن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقال يأهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار لا موت } أخرجه الشيخان عن ابن عمرو أبي سعيد والحاكم وصححه عن أبي هريرة، قال : البغوي معنى قول ابن مسعود وأبي هريرة ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد عند أهل السنة إن ثبت أن لا يبقى فيها احد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدا وقد ذكرت في تفسير قول تعالى ﴿ لابثين فيها أحقابا ٢٣ ﴾ أنها في حق أهل الهواء من أهل القبلة وعند أكثر المفسرين المراد بالأحقاب أحقاب غير متناهية، ولما كان الإجماع على خلود الكفار في النار اختلفوا في تفسير هذه الآية وتأويل هذين الاستثنائين.
والمختار عندي أن الاستثناء في هذه الآية محمول على أنهم يخرجون من الجحيم إلى الحميم ﴿ يسحبون٧١ في الحميم ثم في النار يسجرون ﴾ وهكذا أبدا، قال : البغوي في تفسير قوله تعالى :﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن ٤٤ ﴾ إنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي صار كالمهل قال : الله تعالى :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ﴾ أو من النار إلى الزمهرير. روى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اشتكت النار إلى ربها فقالت : يارب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من حرها وأشد ما تجدون من الزمهرير من زمهريرها " وكذا أخرج البزار عن أبي سعيد واخرج أبو سعيد مثله من حديث أنس، وقال بعض المحققين الاستثناء في أهل الشقاء يرجع على قوم مؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها، عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون " رواه البخاري، وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون " رواه البخاري ونحوه عن المغيرة بن شعبة عند الطبراني وزاد " فيدعون الله ان يمحو عنهم الاسم فيمحو الله عنهم " وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا، ثم يعيرهم أهل الشرك ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ٢ ﴾ وقد روي معناه في حديث طويل عن أبي موسى الطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم، وعن أبي سعيد الطبراني، وفي دخول المؤمنين المذنبين النار وخروجهم منها أحادث بلغت حد التواتر، قال : قال : البيضاوي فساق المؤمنين يخرجون من النار وذلك كاف في صحة الاستثناء لن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم يفارقون عن الجنة أيام عذابهم فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى فمنهم شقي وسعيد تقسيما صحيحا لن من شرطه أن يكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط إنما يكون في الانفصال الحقيقي أو مانع الجمع والمراد ههنا منع الخلق، والمعنى أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ولا يخرج حالهم عن الشقاوة والسعادة وذلك لا يمنع اجتماع المرين في شخص باعتبارين انتهى، وقيل ما شاء ههنا بمعنى من شاء والمراد بهم أيضا عصاة المؤمنين في الاستثنائين، ومرجع هذا القول إلى القول الثاني وقيل المستثني في الفريقين زمان توقفهم في الموقف للحساب لن الظاهر يقتضي أن يكونوا في النار أو في الجنة حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ عن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت في كلام البيضاوي المذكور سابقا، وقيل : هو استثناء من قوله تعالى ﴿ لهم فيها زفير وشهيق ﴾، وقال السيوطي في البدور السافرة أشبه القوال بالصواب انه ليس باستثناء وإنما إلا بمعنى سوى كما تقول لط علي ألف درهم إلا الألفان القديمان أي سوى الألفين، والمعنى خالدين فيها مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها مما لا منتهى له، وذلك عبارة عن الخلود، والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولا، ثم أردافه بما لا إحاطة للذهن به، وقيل : إلا بمعنى الواو يعني ما دامت السمات والأرض في الدنيا وما شاء ربك ﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ﴾ يعني ولا للذين ظلموا، وقال الفراء : هذا استثناء استثناه ولا يفعله كقولك والله أضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، فالمعنى إلا ما شاء ربك يعني لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لم يشأ، وقال قتادة الله أعلم بثناياه ﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾.
﴿ وأما الذين سعدوا ﴾ قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم السين على البناء للمفعول من سعد الله بمعنى أسعده، والباقون بالفتح على البناء للفاعل فهو لازم ومتعد ﴿ ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ قد ذكرت الأقوال في فيما سبق، والمختار عند أن أهل الجنة ينعمون في بعض أحيانهم بما هو أعلى من الجنة، وذلك هو الاستغراق في رؤية الله تعالى، وكمال الاتصال بجناية بلا كيف قال : المفسرون في قوله تعالى ﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾ إن تقديم الجار والمجرور يقتضي الحصر ويفيد أنهم إذا رأوا ربهم يستغرقون في رؤيته تعالى لاينظرون حينئذ إلى غيره، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أهل الجنة في نعيمهم إذا سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يأهل الجنة، وذلك قوله تعالى ﴿ سلام قولا من رب رحيم ٥٨ قال : فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا و الدارقطني، وقال المجدد للألف الثاني في المكتوب المائة من المجلد الثالث في تحقيق سر اشتغال قلب يعقوب بمحبة يوسف عليهما السلام : ان جنة كل رجل عبارة عن ظهور اسم من أسماء الله تعالى الذي هو مبدأ لتعين ذلك الرجل : وان ذلك الاسم يتجلى بصورة الأشجار والأنهار والقصور والحور والغلمان : واستحكم هذا المكشوف بقوله صلى الله عليه وسلم ( ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وإنها قيعان وان غراسها هذه يعني سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله اكبر ثم قال : المجدد ان تلك الأشجار والأنهار قد تصير في حين من الأحيان على هيئة الإجرام الزجاجية : فتصير وسيلة إلى رؤية الله سبحانه غير متكيفة ثم تعود إلى حالها الذي كانت عليه، فيشغل المؤمن بنفسها وهكذا إلى ابد الآبدين، وقد ذكرنا زيادة الكلام في المقام في تفسير سورة القيامة في شرح آية الرؤية { عطاء ﴾منصوب على انه مصدر مؤكد يعني أعطوا عطاء، أو على الحال من الجنة، قلت ويمكن ان يكون منصوبا على انه مفعول به لقوله تعالى ﴿ إلا ما شاء ربك ﴾يعني هم في الجنة إلا وقت مشيئة ربك ﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾أي غير مقطوع يعني الوصال والرؤية بلا حجاب، ووجه تعبير ذلك بعطاء غير مجذوذ مع ان كل نعيم في الجنة عطاء غير مجذوذ، ان ذاته تعالى موجود متأصل بنفسه وغيره موجود بوجود ظل وجوده، فالموجود بنفسه هو الله وحده ﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾كالمستعير ثوب غيره عار بالنسبة إلى المالك، فعطاؤه تعالى اتصالا بذاته كأنه هو المتأصل الغير المنقطع وما عداه من النعيم مجذوذ وجوده في نفسه بالنسبة إليه والله اعلم، قال : ابن زيد : اخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ ولم يخبرنا بالذي يشأ لأهل النار بل قال : هناك ﴿ ان ربك فعال لما يريد ﴾.
﴿ فلا تك في مرية ﴾ شك بعدما أخبرناك من مال الناس ﴿ مما يعبد هؤلاء ﴾ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصته عليك سوء عبادتهم أو من حال ما يعبدونه في أنه لا يضر ولا ينفع ﴿ ما يعبدون إلا كما ﴾ كان ﴿ يعبدوا آباؤهم من قبل ﴾ حذف كان لدلالة قبل عليه، والجملة مستأنفة معناه تعليل النهي عن المرية في أنهم وأباؤهم سواء في الشرك أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم، أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، وقد بلغك ما لحق أباءهم فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ﴿ وإنا لموفوهم نصيبهم ﴾ من العذاب كآبائهم أو من الرزق فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام موجبه﴿ غير منقوص ﴾من النصيب تأكيد للتوقية فإنك قد تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ التوراة ﴿ فاختلف فيه ﴾ فأمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ولولا كلمة ﴾ النظار إلى يوم القيامة ﴿ سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾ أي بين المحق والمبطل بإنزال العذاب على المبطل ليميز به عن المحق ﴿ أماني هم ﴾ يعني كفار مكة ﴿ وإنهم لفي شك منه ﴾ أي من القرآن أو من العذاب ﴿ مريب ﴾ موقع في الريب
﴿ وإن ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر مخففة في الثقيلة عاملة اعتبار للأصل والباقون مشددة ﴿ كلا ﴾ التنوين يدل من المضاف إليه يعني أن كل واحد من المختلفين المؤمنين منهم والكافرين ﴿ لما ﴾ قرأ عاصم وابن عامر وحمزة ههنا وفي يس ﴿ لما جمع لدينا ﴾ وفي الطارق ﴿ لما عليها حافظ ﴾ بتشديد الميم، والباقون بتخفيفها، بتشديد الميم، والباقون بتخفيفها، فمن قرأها بالتخفيف فلام الأولى موطية للقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس، وما مزيدة بينهما للفصل، وقيل ما معنى من كما في قوله تعالى ﴿ فانكحوا ما طاب لكم ﴾ أي من طاب لكم والمعنى والله ﴿ ليوفيهم ﴾ أو والله لمن ليوفيهم ﴿ ربك أعمالهم ﴾أي جزاء أعمالكم، ومن قرأها بالتشديد فاصله لمن ما، فقلبت النون مما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولا عن، والمعنى لمن ليوفيهم وما مزيدة، وقيل إنه من لممت لما أي جمعيه، ثم وقف على الألف عوض التنوين فصار لما، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وجاز ان يكون مثل الدعوى والبشرى وغيرها من المصادر التي فيها ألف التأنيث، وقرأ الزهري وإن كلا لما بالتنوين وهو يؤيد هذا القول، والمعنى وإن كلا جميعا، وقال صاحب الانجاز لما فيه معنى الظرف وفي الكلام اختصار تقديره وإن كلا لما بعثوا ليوفيهم ﴿ ومن إنه بما يعلمون خبير ﴾
﴿ فاستقم ﴾ استقامة ﴿ كما أمرت ﴾ أي مثل استقامة أمرت بها ﴿ ومن تاب معك ﴾ من الشرك وآمن عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه، لما بين الله سبحانه أمر المختلفين في التوحيد والنبوة وأطنب في شرح الوعد والوعيد،
أمر رسوله ومن تبعه بالاستقامة مثل ما أمر بها، وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالوسط بين التشبيه والتعطيل، والجبر والاختيار وغير ذلك، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها، عن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله " قلت لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ؟ وفي رواية غيرك، قال :" قل آمن بالله ثم استقم " رواه مسلم، فالاستقامة لفظ جامع قال : عمر بن الخطاب الاستقامة ان تستقيم على المر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب يعني لا تميل عن الطريق المستقيم ميلا أصلا، وهي في غاية العسر ولذلك قالت الصوفية الاستقامة فوق الكرامة قال : البغوي قال : ابن عباس رضي الله عنه ما نزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال : شيبتني سورة هود قلت : قول ابن عباس يدل على اشتداد هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شيبته، إنما لأجل هذه الآية الآمرة بالاستقامة، فإنه صلى الله عليه وسلم وإن كانت نفسه الشريفة مجبولة على الاستقامة مخلوقة على خلق عظيم، لكنها شاقة على من تبعه فلذلك شيبته
شفقة على أمته، والظاهر عندي إن قوله صلى الله عليه وسلم " شيبتني سورة هو " مبني على اشتمالها على قصص هلاك الأمم الشعر بالوعيد بالهلاك للظالمين من أمته وذكر يوم القيامة كما سنذكر في آخر السورة إن شاء الله تعالى ﴿ ولا تطغوا ﴾ يعني لا تجاوزوا عن حدود الشرع، وقيل معناه لا تغلوا فتزيد و على ما أمرت ونهيته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الدين يسد ولا يشاد أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " رواه البخاري والنسائي، قلت : وهذا الحديث أيضا يدل على أن تشييب السورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان لثقل الاستقامة والله أعلم ﴿ إنه بما تعلمون بصير ﴾
﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ قال : ابن عباس أي لا تميلوا والركون المحبة والميل بالقلب، وقال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم، وقال السدي لا تداهنوا الظلمة، وقال عكرمة لا تطيعوهم، وقيل لا تسكنوا إلى الذين ظلموا قال : البيضاوي لا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون كالتزين بزيهم وتعظيم ذكرهم ﴿ فتمسكم النار ﴾بركونكم إليهم قال : البيضاوي وإذا كان الركون إلى الظالمين كذلك فما ظنك بالميل كل الميل إليهم، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية ما يتصور في النهي عن الظلم، روي أن رجلا صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه فلما أفاق قيل له فقال : هذا فيمن ركن إلى الظلم فكيف بالظالم، وعن الحسن جعل الله الدين بين لائين لا تطغوا ولا تركنوا، وعن الأوزاعي " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور ظالما " وعن أوس أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام " وعن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال : أبو هريرة بلى والله حتى الحبارى لتموت في وكرها هزلا بظلم الظالم، وروى الحديثين في شعب الإيمان. قال البيضاوي خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه﴿ ومالكم من دون الله من أولياء ﴾ أي من أنصار يمنعون عنكم العذاب والواو للحال من مفعول فتمسكم النار ﴿ ثم لا تنصرون ﴾ أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمة أن يعذبكم فيه وثم لاستبعاد النصر من الله تعالى، أو لاستبعاد النصر مطلقا فإنه لما ذكر أنهم يعذبهم الله وكل من يعذبه الله لا يقدر على نصره أحد غيره أنتج أنهم لا ينصرون أحدا والله أعلم.
أخرج الترمذي والنسائي عن أبي اليسر قال : البغوي هو عمرو بن غزية الأنصاري، قال : أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت إن في البيت تمرا أطيب منه، فدخلت معي البيت فأهويت إليها فقبلتها ثم ندمت فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك فقال أستر على نفسك وتب، قال : فأتيت عمر فقال : أستر على نفسك وتب، فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :" أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا " حتى ظن انه من أهل النار فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحي إليه ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ الآية " فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامة، قال : صاحب لباب النقول : وورد نحو حديث أبي اليسر من حديث أبي أمامة وابن عباس وبريدة وغيرهم، وانتصاب طرفي على الظرف لأنه مضاف إليه ومعناه غدوة وعشية ﴿ وزلفا من الليل ﴾ أي طائفة من الليل أو ساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة، قرأ أبو جعفر بضم اللام، قال : ابن عباس طرفا النهار يعني صلاة الصبح والمغرب زلفا من الليل حينئذ العشاء، وقال الحسن طرفا النهار الصبح والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء، وقال مجاهد طرفا النهار الصبح والظهر والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء، وهذا القول يشعر أن وقت الظهر والعصر واحد ولو عند الضرورة وكذا وقت المغرب والعشاء، ومن هاهنا قال : مالك وأحمد والشافعي إذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي آخر وقت العصر وجبت عليه الظهر والعصر، وإذا أسلم أو طهرت أو بلغ آخر وقت العشاء وجبت عليه المغرب والعشاء، خلافا لأبي حنيفة فإنه لا يجب عنده إلا العصر والعشاء، لنا الأحاديث الواردة في أوقات الصلوات الذي ذكرتها في سورة النساء في تفسير قوله تعالى ﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ فإنها تدل على ان وقت كل صلاة مباين للأخرى، ولأجل ذلك لا يجوز عند أبي حنيفة جمع صلاة الظهر والعصر ولا المغرب بعلة سفر أو مرض أو مطر كما لا يجوز جمعهما بغير علة إجماعا، وقال الشافعي ومالك وأحمد : يجوز الجمع في السفر، وعند مالك وأحمد يجوز الجمع لأجل المطر في العشاءين خاصة، وعند الشافعي بين الظهرين أيضا، وجاز عند أحمد الجمع لأجل المرض احتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش حين استحاضت بالجمع وقال :" تؤخرين الظهر وتعجلين العصر ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين " رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وانه صلى الله عليه وسلم جمع في السفر بن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر المغرب والعشاء والظهر والعصر، وفيهما عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب " وروى مسلم من حديث معاذ بن جبل قال :" جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال : فقلت له ما حمله على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته " وأجاب أو حنيفة عن هذه الأحاديث أن المراد من هذه الأحاديث الجمع الصوري، يعني كان يصلي الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها وكذا العشاءين، فيجمع بينهما صورة وكان يصلي كلا صلاة في وقتها كما هو مصرح في حديث حمنة، ويدل عليه في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر وفي بعض ألفاظ مسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس ما أراد إلى ذلك ؟ قال : أراد ان لا يحرج أمته، وفي رواية للطبراني جمع بالمدينة من غير علة، قيل : ما أراد بذلك ؟ قال : التوسع على أمته، فإن هذا الحديث محمول على الجمع الصوري البتة للإجماع على عدم جواز الجمع من غير علة، وقد جاء صريحا في الصحيح عن عمرو بن دينار قال : قلت يا أبا الشعثا أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، قال : وأنا أظن ذلك فإن قيل : يمكن حمل ما يدل على جمع التأخير على الجمع الصوري ولكن من الروايات ما يدل على جميع التقديم ولا يمكن حملها على الجمع الصوري أما حديث ابن عباس فرواه احمد و البيهقي و الدارقطني من طريق من طريق حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن عكرمة وكريب عن ابن عباس قال : كان إذا زاغت الشمس في منزله جميع بين الظهر والعصر قبل ان يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار إذا جاء العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا جاءت في منزله جميع بينهما وبين العشاء، وإذا لم يجيء في منزله ركب حتى إذا جاءت العشاء نزل فجمع بينهما وأما حديث أنس فرواه الإسماعيلي و البيهقي من حديث إسحاق بن راهويه بلفظ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل قال : النووي : إسناد صحيح، وأما حديث معاذ فرواه أحمد وأبو داود و الترمذي وابن حبان والحاكم و الدارقطني و البيهقي من حديث قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل جمع بين الظهر والعصر فإن ارتحل قبل أن تزيغ أخر الظهر حتى ينزل للعصر " وفي المغرب مثل ذلك الحديث قلنا أماما ذكرتهم من حديث ابن عباس فحسين ضعيف كذا قال : ابن معين، وقال النسائي متروك وأما ما ذكرتم من حديث أنس فإن وإن قال : النووي إسناد صحيح، لكن قال : الذهبي إن أبا داود أنكر على إسحاق لكن له متابع رواه الحاكم في الأربعين وفيه إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب وهذه زيادة غريبة صحيحة الإسناد رواه الطبراني في الوسط ان النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا كان في سفر فزاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر جميعا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس جمع بينهما في أول العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء " وقال تفرد به يعقوب بن محمد الزهري وأما حديث معاذ قال : الترمذي تفرد به قتيبة والمعروف ما رواه مسلم وقال أبو داود هذا حديث منكر وليس في جميع التقديم حديث قائم، وقال أبو سعيد بن يونس لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال إنه غلط وعلله أبو حاتم وأطنب الحاكم في بيان علته وأعله البخاري وان حزم، وفي الجمع في السفر حديث علي رواه الدارقطني بسند له من حديث أهل البيت وفي إسناده من لا يعرف وفيه أيضا المنذر القابوسي وهو ضعيف. واحتج أبو حنيفة بحديث ابن مسعود في الصحيحين قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها يعني غلس بها فكأنه أراد قبل وقتها المعتاد، وكأنه ترك ذكر جمع عرفة لشهرته، وبما روى مسلم في حديث ليلة التعريس قول صلى الله عليه وسلم " ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى " ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ أي يكفرنها أخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لسيئة قديمة ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ " واخرج احمد عن أبي ذر قال :" قلت يا رسول الله أوصني " قال :" إذا علمت سيئة فأتبعها حسنة تمحها، قال : قلت : يا رسول الله من الحسنات لا إله إلا الله، قال :" هي أفضل الحسنات " عن ابن مسعود " أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله تعالى ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ الآية، فقال : الرجل ألي هذا ؟ قال :" لجميع أمتي كلهم " وفي آدابه " لمن عمل بها من أمتي " متفق عليه، وفي رواية لمسلم نحوه وفيه قال : له عمر لقد سترك الله لو سترت على نفسك الحديث، وأخرج الحاكم و البيهقي من حديث معاذ بن جبل نحوه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر " رواه مسلم، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " متفق عليه ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى قوله فاستقم فما بعده وقيل : إلى القرآن ﴿ ذكرى للذاكرين ﴾ موعظة للمتعظين
﴿ واصبر ﴾ يا محمد على الطاعات وعن المعاصي وعلى ما أصابك من الأذى، وقيل : على الصلاة نظيره :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ ﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ عدل من المضمر ليكون كالبرهان على المقصود وفيه دليل على ان الصلاة والصبر أختان، وإيماء بأنه لا يعتد بهما بدون الإخلاص.
﴿ فلولا ﴾ فهلا ﴿ كان من القرون ﴾ التي كانت ﴿ من قبلكم أولوا بقية ﴾ أي أولوا رأي وعقل وفضل، وإنما سمي بقية لن الرجل يسبقني أفضل ما عنده، يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير، ومنه ما يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا وقيل : معناه أولو طاعة كما ذكرنا في ﴿ بقيت الله خير لك ﴾ ﴿ والباقيات الصالحات خير ﴾ وقيل معناه أولوا بقية إذا كان على خصلة محمودة، ويجوز ان يكون مصدرا كالتقية، في القاموس بقي يبقى بقاء وبقاء وبقيا يعني ذو إبقاء على أنفسهم وصبيانه لهم من العذاب ﴿ ينهون ﴾ الناس ﴿ عن الفساد في الأرض ﴾ويأمرون بالمعروف ﴿ إلا قليلا ممن أنجينا منهم ﴾ لكن قليلا منهم أنجيناهم، وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا إذا جعل من النفي اللازم للتحضيض ومن في ﴿ ممن أنجيا ﴾ للبيان لا للتبعيض ﴿ واتبع الذين ظلموا ﴾ أي التاركون للنهي عن المنكر ﴿ ما أترفوا فيه ﴾ ما انعموا فيه من الشهوات، فاهتموا بتحصيل أسبابها واعرضوا عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال مقاتل بن حبان ما حولوا، وقال الفراء ما عودوا جملة واتبع معطوف على فعل مقدر أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم ﴿ وكانوا مجرمين ﴾ كافرين.
﴿ وما كان ربك ليهلك ﴾اللام لتأكيد النفي وان المصدرية مقدرة يعني ما كان صفة ربك إهلاك﴿ القرى ﴾ أو ما كان ربك مهلكها ﴿ بظلم ﴾ حال من ضمير الفاعل في يهلك اي ما كان الله مهلكهم ظالما لهم ﴿ وأهلها ﴾ قوم﴿ مصلحون ﴾مسلمون تنزيه لذاته تعالى عن الظلم، وقيل : الظلم الشرك والمعنى وما كان الله مهلك القرى بسبب شركهم في حال يكون أهلها مصلحون فيما بينهم يتعاطون الإنصاف ولا يظلم بعضهم بعضا، اخرج الطبراني وأبو الشيخ عن جرير بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وأهلها ينصف بعضهم بعضا )، وذلك لفرط رحمة ومسامحة في حقوقه ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد، ومن هاهنا قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم
﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس ﴾كلهم ﴿ أمة واحدة ﴾مسلمين صالحين وهو دليل ظاهر على ان الأمر غير الإرادة، وانه تعالى لم يرد الإيمان من كل واحد وان ما أراد يجب وقوعه ﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾عن الحق تاركيه إلى لباطل على أنحاء شتى، فمنهم يهودي ونصراني ومجوسي ووثني، ومنهم جبري وقدري وروا فض وخوارج وغير ذلك
﴿ إلا من رحم ربك ﴾هداهم الله من فضله إلى صراط مستقيم، فهم متفقون على أصول العقائد الصحيحة وامتثال أوامر الله والانتهاء عن المناهي، عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما، ثم قال :" هذا سبيل الله " ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأت ﴿ وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾ " رواه احمد والنسائي والدرامي ﴿ ولذلك خلقهم ﴾ قال : ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يعني للرحمة خلقهم، فالضمير راجع إلى رحمهم والإشارة إلى الرحمة، وقال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم، قال : أشهب سألت مالكا عن هذه الآية ؟ فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقال أبو عبيدة الذي أختاره قول من قال : خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه وقال الفراء خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف، فالضمير راجع إلى الناس والإشارة إلى الاختلاف والرحمة جميعا، واللام للعاقبة ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى ﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ أي حكم ربك القديم أو قوله للملائكة ﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس ﴾ أي عصاتهما ﴿ أجمعين ﴾ أو المعنى منهما جميعا لا من أحدهما.
﴿ وكلا ﴾ أي كل نبأ ﴿ نقص عليك من أنباء الرسل ﴾ أي أخبارهم ومن أخبار أممهم ﴿ ما نثبت به فؤادك ﴾ بيان لكلا أو بدل منه، وفائدته التنبيه عن المقصود من الاقتصاص، وهو زيادة يقينية وتقوية قلبه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، أو مفعول وكل منصوب على المصدر أو الظرف، أي كل نوع من أنواع الاقتصاص أو كل وقت من الأوقات نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل والأمم ﴿ وجاءك في هذه ﴾ قال : الحسن وقتادة في هذه الدنيا وقال غيرهما في هذه السورة والظاهر أن الإشارة إلى الأنباء، يعني جاءك في هذه الأنباء المقتصة عليك ﴿ الحق ﴾ أي ما هو حق ﴿ وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ إشارة إلى سائر فوائده التامة العامة
﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم ﴾ أي حالكم وجهتكم التي أنتم عليها وعلى قدرتكم في تهديد ووعيد ﴿ إنا عاملون ﴾ على حالنا وقوتنا
﴿ وانتظروا ﴾ بنا الدوائر ﴿ إنا منتظرون ﴾ أي ان ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم إن لم تؤمنوا
﴿ ولله غيب السموات والأرض ﴾ أي له تعالى خاصة ما غاب عن العباد فيهما، لا يخفى عليه خافية مما بينهما فلا يخفى عليه أعمالكم ﴿ وإليه يرجع ﴾ قرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل ﴿ الأمر كله ﴾ في العباد يعني يرجع إليه تعالى لا محالة أمرك وأمرهم فينتقم لك منهم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ﴿ فاعبده وتوكل عليه ﴾ وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على انه إنما ينفع التوكل مع العبادة ﴿ وما ربك بغافل عما تعملون ﴾قرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب هنا وفي آخر النمل بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالتاء التحتانية على الغيبة فيهما.